الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقمت بحمد الله بشرح رسالة العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله، في الأصول، والمسماة ب (رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة)، في عدة دورات في مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية والكويت.
وقد قام الأخ/ خليل بن علي المرشود وفقه الله، بالعناية بالشرح وترتيبه، وتخريج أحاديثه، ثم قمت بمراجعته، وإضافة بعض المسائل.
أسأل الله أن ينفع بها مؤلِّفها، وشارحها، والمستفيد من ذلك، آمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
أ. د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح
كلية الشريعة بالقصيم قسم الفقه
10 صفر 1437 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
ابتدأ المؤلف رحمه الله رسالته بالبسملة؛ اقتداءً بكتاب الله تعالى فإنه مبدوء بالبسملة، واتباعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث إنه عليه الصلاة والسلام كان يبدأ كتبه ومراسلاته بالبسملة.
قوله: (بسم الله):
الباء: حرف جر.
واسم: اسم مجرور، وحذفت منه الألف لفظًا وخطًا، تخفيفًا لكثرة الاستعمال والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف يقدر بما يناسب المقام، وعلى هذا يكون التقدير بسم الله أقرأ.
وقدرنا المتعلق فعلاً؛ لأن الأصل في العمل هو الأفعال، وقدرناه بما يناسب المقام؛ لأنه أدلُّ على المراد، وقدر الفعل مؤخراً؛ تبركاً بالبداءة بسم الله عز وجل، ولأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، كقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالمعنى: لا أقرأ إلا باسم الله، ولا أتوضأ إلا باسم الله، ولا أذبح إلا باسم الله، وهكذا.
قوله: (الله):
علم على الباري جل جلاله، وهو أعرف المعارف على الإطلاق، الجامع
الحمد لله، نحمده على ما له من الأسماء الحسنى،
لمعاني الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ولذا يضاف إليه جميع أسمائه سبحانه، فيقال مثلًا: الرحمن من أسماء الله، ولا يضاف هو إلى شيء من أسمائه سبحانه، فلا يقال: الله من أسماء الرحيم، وهو مشتق من أله يأله إذا عبد، فهو إله بمعنى مألوه أي معبود، فهو دال على صفة له وهي الإلهية.
أصله: الإله فحذفت الهمزة وأدغمت اللام باللام فقيل: الله، ومعناها: ذو الألوهية والربوبية على خلقه أجمعين، وهو من الأسماء التي اختص الله بها نفسه.
قوله: (الرحمن):
أي ذو الرحمة الواسعة، والرحمن من الأسماء التي اختص الله بها نفسه، فلا يسمى بها غيره.
قوله: (الحمد لله):
ابتدأ المؤلف رحمه الله خطبته بالحمد لله اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يبتدئ خطبه الراتبة أو العارضة إلا بالحمد لله كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله.
والحمد في اللغة: الثناء على الله بالصفات الحسنة، والأفعال الجميلة.
وفي الاصطلاح: وصف المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً
(1)
.
وقوله: (لله): اللام حرف جر، وهي تفيد معنى الاختصاص والاستحقاق،
(1)
انظر: «بدائع الفوائد» 3/ 132.
والصفات الكاملة العليا، وعلى أحكامه القدرية العامة لكل مكون وموجود، وأحكامه الشرعية الشاملة لكل مشروع، وأحكام الجزاء بالثواب للمحسنين
ولفظ الجلالة مجرور بها، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف هو خبر (الحمد) تقديره: مستحق، أو واجب أو ثابت لله.
ومعنى (الحمد لله): أي أن الحمد المطلق لله وحده، فهو المستحق له المختص به دون سواه، وحمده تعالى هو وصفه عز وجل بصفات الكمال اللازمة والمتعدية، كمال العظمة وكمال الإحسان والنعمة مع المحبة والتعظيم له والرضا عنه والخضوع له، لأنه المنعم بأكبر النعم وأعظمها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق»
(1)
.
وقوله: «لله» اللام للجنس المفيدة للاستغراق.
فالحمد كله له إما ملكا، وإما استحقاقا، فحمده لنفسه استحقاق، وحمد العباد له وحمد بعضهم لبعض ملك له.
وأيضا تفيد هذه اللام الاختصاص، فالمستحق للحمد المطلق الكامل هو سبحانه، أما غيره فيحمد على أشياء خاصة.
قوله: (وعلى أحكامه القدرية العامة لكل مكون موجود، وأحكامه الشرعية الشاملة لكل مشروع، وأحكام الجزاء بالثواب للمحسنين
(1)
جامع الرسائل والمسائل (5/ 49).
والعقاب للمجرمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
والعقاب للمجرمين).
ومعنى ذلك: أن الأحكام من الله تعالى تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
* القسم الأول: أحكام قدرية: وهي ما يجري في هذا الكون مما يتعلق بكل مكوّن وموجود من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والعز والذل والفقر والغنى ونحو ذلك.
* الثاني: أحكام شرعية: وهي ما يتعلق بالمكلفين من الأحكام العلمية والعملية.
* الثالث: أحكام أخروية: وهي ما يتعلق بالدار الآخرة من أحكام الجزاء على الأعمال بالثواب أو العقاب.
قوله: (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له).
قوله: (أشهد): بمعنى أقر موقناً بقلبي ناطقاً بلساني أن لا معبود حق إلا الله، و (أن): مخففة من الثقيلة، و (لا): نافية للجنس، و (إله) اسمها، والخبر محذوف تقديره حق، فيكون المعنى: لا معبود حقٌ إلا الله، ولفظ الجلالة بدل من الخبر المحذوف.
قوله: (وحده): تأكيدٌ للإثبات، إثبات الألوهية لله عز وجل.
قوله: (لا شريك له): تأكيدٌ لنفي ألوهية من سوى الله عز وجل.
قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله): بمعنى أقر موقناً بقلبي
في الأسماء والصفات والعبادة والأحكام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذى بين الحكم والأحكام، ووضح الحلال والحرام، وأصل الأصول وفصلها، حتى استتم هذا الدين واستقام، اللهم صل وسلم على محمد
ناطقاً بلساني أن محمد بن عبد الله بن هاشم بن عبد المطلب عبد لله ليس له شيء من خصائص الألوهية، ورسوله أي مرسل إلى الثقلين كافة، وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في معنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله:«طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع»
(1)
.
قوله: (الذي بيّن الحكم والأحكام، ووضح الحلال والحرام، وأصل الأصول وفصلها حتى استتم هذا الدين واستقام).
الحكم: جمع حكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به.
الأحكام: جمع حكم، ويأتي تعريفه إن شاء الله.
هذا الكلام من المؤلف رحمه الله يسميه العلماء ببراعة الاستهلال، وذلك أن يُضمّن المؤلف خطبة كتابه بما يدل على مراده بالتأليف، وهنا يفهم من خطبة المؤلف رحمه الله: أنه سيكتب في الأصول وقواعد الأحكام والحلال والحرام.
قوله: (اللهم صل وسلم على محمد).
اللهم: أصلها يا الله، حذفت يا النداء، والميم بدل عن الياء، وقال الفراء أصله: يا الله أُمَّنا بخير، فحذف حرف النداء.
(1)
انظر: «ثلاثة الأصول» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله: «صل» قال الأزهري رحمه الله في تعريفها: (معناها من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء والتضرع).
والراجح ما قاله أبو العالية رحمه الله كما في صحيح البخاري: (الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى)
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه جلاء الأفهام: (الصلاة المأمور بها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته وهي ثناء عليه، وإظهار شرفه، وإرادة تكريمه وتقريبه)
(2)
فإذا قلنا: اللهم صلِّ على محمد؛ فإننا ندعو الله عز وجل أن يفعل ذلك بنبيه صلى الله عليه وسلم وهو الثناء عليه، وأن يظهر شرفه، ويقربه ويكرمه.
قال ابن القيم رحمه الله: (وصلاتنا سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك به)
(3)
وهذا القول هو الصواب.
وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه جلاء الأفهام في هذه المسألة، وردَّ القول بأن المراد بالصلاة الرحمة، ومما ذكر قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]. فإن الواو تقتضي المغايرة، وعطف الرحمة على الصلاة يدل ذلك على أن الصلاة ليست بمعنى الرحمة، وأيضًا لا خلاف في جواز الترحم على المؤمنين، واختلف
(1)
أخرجه البخاري، باب قوله:(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
(2)
(1/ 62).
(3)
المرجع السابق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء.
قوله: (مع سلام): السلام: اسم مصدر من سلم، ومصدره تسليم، والسلام اسم من أسماء الله عز وجل كما قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
فهو سبحانه السالم من مماثلة أحد من خلقه، والسالم من النقص، ومن كل ما ينافي كماله.
والسلام أيضًا يطلق على التحية، وعلى الأمان، فإذا قلت:(السلام عليك أيها النبي) فأنت تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة من كل آفة، والدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة ينقسم قسمين:
القسم الأول: دعاء بالسلامة الحسية.
القسم الثاني: دعاء بالسلامة المعنوية.
أما الدعاء بالسلامة الحسية: ففي حياته: أن يحفظ بدن النبي صلى الله عليه وسلم من النقائص والآفات ونحو ذلك، وبعد مماته: بأن يسلمه الله عز وجل من أهوال يوم القيامة؛ فإن الرسل يجثون على ركبهم من شدة هول ذلك اليوم ويدعون «اللهم سلِّم سلِّم»
(1)
.
وأما الدعاء بالسلامة المعنوية: فهي أن تدعو لسنته وشرعه بالسلامة من تأويل المبطلين وانتحال الغالين.
(1)
أخرجه البخاري رقم (806) ومسلم رقم (182).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واجتماع الصلاة والسلام يعني الدعاء بالفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، فبالصلاة يحصل الفوز بالمطلوب، وبالسلامة تحصل النجاة من المرهوب.
و (محمد): اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144].
والنبي صلى الله عليه وسلم له أسماء:
1 محمد كما ذكره المؤلِّف رحمه الله.
2 أحمد كما قال تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
3 الحاشر. 4 العاقب. 5 المُقَفِّي.
6 الماحي. 7 نبي الرحمة. 8 نبي التوبة.
لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد»
(1)
متفق عليه.
وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»
(2)
.
ومحمد على وزن مُفَعَّل سمي بذلك؛ لكثرة محامده صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم له
(1)
أخرجه البخاري رقم (4396) ومسلم رقم (2354).
(2)
أخرجه مسلم رقم (2355).
وعلى آله وأصحابه وأتباعه، خصوصاً العلماء الأعلام.
أما بعد؛
محامد فاق بها بقية البشر فهو صلى الله عليه وسلم يحمد أكثر وأفضل مما يحمد غيره.
وقوله: (وعلى آله وأصحابه وأتباعه).
اختلف أهل العلم في تفسير آل النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب في ذلك أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم أتباعه على دينه، إلا إذا دلت القرائن على أن المراد به أقاربه المؤمنون، فإذا قيل: اللهم صل على محمد وآله وأصحابه وأتباعه فإن المراد أقاربه المؤمنون به، وأما إذا قيل: اللهم صل على محمد وآله فإن المراد أتباعه على دينه وهذا هو الصواب.
قوله: (وأصحابه).
الأصحاب: جمع صاحب، والصحابي هو كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، ولو لم تكن مدة الصحبة طويلة، وهذا من خصائص صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
أتباعه: جمع تابع، أي أتباعه على دينه.
قوله: (أما بعد).
(أما): حرف تفصيل مضمنٌ معنى الشرط، ومعناها: مهما يكن من شيء بعد.
(بعد): ظرف مبني على الضم.
والفائدة من هذه الكلمة هي الانتقال من المقدمة إلى صلب الموضوع.
وقيل: بأنه يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب.
فهذه رسالة لطيفة في أصول الفقه، سهلة الألفاظ، واضحة المعاني، معينة على تعلم الأحكام لكل متأمل معاني.
نسأل الله أن ينفع بها جامعها وقارئها، إنه جواد كريم.
قوله: (فهذه رسالة لطيفة في أصول الفقه).
المؤلف رحمه الله وصف الرسالة بأنها لطيفة، واللطيف من الكلام رقيقه، ثم ذكر رحمه الله أن رسالته تميزت بعدد من المميزات:
الأولى: (سهلة الألفاظ).
الثانية: (واضحة المعاني).
الثالثة: (معينة على تعلم الأحكام لكل متأملٍ معاني).
قوله: (نسأل الله أن ينفع بها جامعها، وقارئها إنه جواد كريم).
ختم الشيخ رحمه الله خطبة الرسالة بهذا الدعاء الجامع النافع، وهو أن ينفع الله تعالى بهذه الرسالة جامعها وقارئها، وأنا أقول: وشارحها وقارئ شرحها إنه قريبٌ مجيد جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
و (جواد): الجودُ: خلاف البخلِ، ويقال: جاد جوداً.
والجود: المطر الغزيرُ، فالجواد: كثير العطاء.
و (الكريم): الكثير الخير الجواد المنعم المفضل.
فصل
تعريف أصول الفقه
أصول الفقه: هي العلم بأدلة الفقه الكلية.
قوله: (أصول الفقه: هي العلم بأدلة الفقه الكلية).
عرف المؤلف رحمه الله أصول الفقه باعتباره علَماً على هذا الفن، والعلماء رحمهم الله يعرفون أصول الفقه باعتبارين:
* الأول: باعتباره مركباً:
الأصول في اللغة: جمع أصل، وهو الأساس والمعتمد، والأصل ما يبنى عليه غيره أو ما يتفرع منه غيره، وذلك مثل: أساسات الجدران فهي أصول يبنى عليها غيرها، وأصل الشجرة الثابت في الأرض يتفرع منه غيره، والأب وإن علا فهو أصل يتفرع منه غيره.
وأما في الاصطلاح فإن الأصل يطلق على عدَّة إطلاقات:
الأول: الدليل، فيقولون: الأصل في وجوب الصيام قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي الدليل على وجوب الصيام.
الثاني: القاعدة المستمرة، كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل، وكقولهم: الأصل في الأمر الوجوب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثالث: المقيس عليه، كقولهم: الخمر أصل النبيذ في التحريم.
الرابع: الراجح، كقولهم: الأصل في الحلي عدم الوجوب، أي الراجح فيها.
والفقه في اللغة: مطلق الفهم، وقيل: بأنه الفهم الدقيق.
وأما في الاصطلاح: فهو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
وقيل: بأنه معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية.
قولهم: (معرفة): يشمل اليقين والظن.
مثال اليقين: معرفة أن الصلوات الخمس واجبة، وهذا معلوم من الدين بالضرورة، ومثال الظن: معرفة أن الوتر سنة مؤكدة.
قولهم: (معرفة الأحكام الشرعية): الأحكام: جمع حكم.
والحكم في اللغة: المنع.
وأما في الاصطلاح: فهو إثبات أمرٍ لأمر، أو نفيه عنه.
* والأحكام يقسمها العلماء ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أحكام شرعية.
القسم الثاني: أحكام عقلية.
القسم الثالث: أحكام عادية.
والحكم الشرعي: هو خطاب الشارع المتعلِّق بأفعال المكلَّفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأحكام الشرعية يقسمها الأصوليون إلى قسمين:
القسم الأول: الأحكام التكليفية.
والحكم التكليفي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير.
القسم الثاني: الأحكام الوضعية.
والحكم الوضعي: هو خطاب الشارع المتعلّق بجعل الشيء سببًا لشيء، أو شرطًا له، أو مانعًا منه، أو كونه صحيحًا، أو فاسدًا، أو رخصة، أو عزيمة، أو أداء، أو إعادة، أو قضاء.
والفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية:
أن الحكم التكليفي أمر وطلب، كالأمر بالصلاة، أما الوضعي فهو إخبار.
والحكم التكليفي يشترط فيه: علم المكلف، وقدرته على الفعل، كالصلاة والصيام مثلًا، بخلاف الحكم الوضعي، كالصبي مثلًا فإنه وإن لم يكن مكلفًا فهو يغرم المتلفات.
والحكم العقلي: هو معرفة نسبة أمر لأمر، أو نفيه عنه عقلًا؛ مثال ذلك: الكل أكبر من الجزء.
والحكم العادي: هو معرفة نسبة أمر لأمر، أو نفيه عنه عادة، مثال ذلك: الماء مرو، والخبز مشبع، والنار حارة.
وقولهم: (الشرعية): قيد يخرج الأحكام العادية والعقلية، فهذه ليست داخلة في الفقه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قولهم: (بأدلتها التفصيلية): قيد يخرج أصول الفقه، فإن أصول الفقه يبحث في أدلة الفقه الإجمالية.
الثاني: باعتباره علماً على هذا الفن:
فإن المؤلف رحمه الله قال: (هو العلم بأدلة الفقه الكلية).
وقيل: أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد.
وقولهم: (أدلة الفقه الكليَّة): احتراز من الأدلة التفصيلية، فإنها شأن الفقيه، وأما في أصول الفقه فتبحث الأدلة على سبيل الإجمال أي كيف يستدل بهذه الأدلة على القواعد العامة، وهذا يشمل الأدلة المتفق عليها والأدلة المختلف فيها:
والأدلة المتفق عليها مثل: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
والأدلة المختلف فيها مثل: قول الصحابي، الاستحسان، الاستصحاب، المصالح المرسلة.
وقولهم: (وكيفية الاستفادة منها): أي كيفية استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة الإجمالية:
وذلك بمعرفة طرق الاستنباط ودلالات الألفاظ، كدراسة العام والخاص، ومتى يقدم الخاص على العام، والمطلق والمقيد، ومتى يحمل المطلق على المقيد، والمجمل والمبين، وقواعد الأمر والنهي
قولنا: (وحال المستفيد): والمستفيد هو المجتهد، ويدخل في ذلك، وغيرها من القواعد التي تدرس في أصول الفقه.
وذلك: أن الفقه:
إما مسائل يطلب الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة،
وإما دلائل يستدل بها على هذه المسائل.
دراسة مباحث التعارض والترجيح، ودراسة أحكام الفتوى والتقليد.
وقد بين هذا التعريف شيئًا من موضوعات أصول الفقه.
1 الأدلة الإجمالية: وهذا يشمل الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها.
2 دلالات الألفاظ: وهي المباحث اللفظية ذات الأثر ببناء الأحكام على الأدلة واستخراجها منها كالأمر والنهي والعام والخاص وغيرها.
3 الأحكام التكليفية كالواجب والمندوب، والأحكام الوضعية كالسبب والمانع والشرط.
4 الاجتهاد والتقليد.
5 والتعارض والترجيح.
قوله: (وذلك أن الفقه إما مسائل يطلب الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة).
المسائل: جمع مسألة: وهي ما يبرهن له في العلم.
والأحكام الخمسة يعنى بها الأحكام التكليفية، حيث إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:
* القسم الأول: أحكام تكليفية: وهي الوجوب، والتحريم، والاستحباب، والكراهة، والإباحة.
فالفقه: هو معرفة المسائل والدلائل.
وهذه الدلائل نوعان:
كلية، تشمل كل حكم من جنس واحد من أول الفقه إلى آخره، كقولنا: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، ونحوهما؛ وهذه هي أصول الفقه.
وأدلة جزئية تفصيلية،
* الثاني: أحكام وضعية: وهي ما يتعلق بالشرط والسبب والمانع ويأتي بيانها إن شاء الله.
قوله: (فالفقه: هو معرفة المسائل والدلائل).
عرف المؤلف رحمه الله الفقه في الاصطلاح بتعريف مختصر ومفيد فقال: «معرفة المسائل والدلائل» ويعني بذلك معرفة كل مسألة بدليلها، مثال ذلك: حكم صلاة الوتر سنة مؤكدة، ودليل ذلك قول عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر إحدى عشرة ركعة. رواه مسلم
(1)
.
قوله: (وهذه الدلائل نوعان: كلية تشمل كل حكم من جنس واحد من أول الفقه إلى آخره، كقولنا: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم ونحوهما، وهذه هي أصول الفقه.
وأدلة جزئية تفصيلية).
أي أنّ الدلائل التي يقوم عليها الفقه نوعان:
(1)
رواه مسلم (636).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* الأول: أدلة كلية:
وهي القواعد العامة التي تضمنها أصول الفقه كقولنا: إن الأصل في الأمر الوجوب حتى تصرفه قرينة إلى غيره، والنهي للتحريم حتى تصرفه قرينة إلى غيره، والعام شامل لجميع أفراده حتى يثبت تخصيصه، ويعمل بالمطلق حتى يثبت تقييده وغير ذلك من الأدلة الكلية العامة والتي تشمل كل الأبواب.
* الثاني: أدلة جزئية:
وهي كل دليل يختص بمسألة معينة كقوله تعالى: «وأقيموا الصلاة» فهو يختص بوجوب إقامة الصلاة، وقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} فهو يختص بحرمة الزنى، وقوله صلى الله عليه وسلم:«السواك مطهرة للفم مرضاة للرب»
(1)
يختص باستحباب السواك، وهذه الأدلة التفصيلية تحتاج إلى أن تبنى على الأدلة الكلية كما سيأتي.
وقد دل كلام الشيخ رحمه الله على أن الفقه يقوم على الأدلة الكلية التي هي القواعد الأصولية، وعلى الأدلة الجزئية، والتي هي: الكتاب والسنة وما يستند إليهما من الإجماع والقياس، وهو بهذا يؤكد على أن الفقه يحتاج إلى الأدلة الكلية، وأن الفقه لابد أن يؤسس على القواعد الأصولية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«الفقه لا يكون إلا بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباطاً»
(2)
ويقول:
(1)
أخرجه البخاري معلَّقًا، كتاب الصوم، باب سواك الرطب واليابس للصائم.
(2)
«الاستقامة» ابن تيمية 1/ 61.
(3)
«مجموع الفتاوى» ابن تيمية 13/ 118.
تفتقر إلى أن تبنى على الأدلة الكلية، فإذا تمت حكم على الأحكام بها.
فالأحكام مضطرة إلى أدلَّتها التفصيلية، والأدلة التفصيلية مضطرَّة إلى الأدلَّة الكليَّة. وبهذا نعرف الضرورة والحاجة إلى معرفة أصول الفقه وأنها معينة عليه، وهي أساس النظرة والاجتهاد في الأحكام.
«الفقه لا يكون فقهاً إلا من المجتهد المستدل»
(3)
.
قوله: (فالأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية، والأدلة التفصيلية مضطرة إلى الأدلة الكلية).
هذا توضيح لما سبق، فإن أي حكم شرعي لابد له من دليل يدل عليه وهو الدليل التفصيلي، وهذا الدليل التفصيلي مفتقر إلى الدليل الكلي في أصول الفقه، إذ لا يتم الاستدلال والاستنباط إلا بواسطته.
مثال ذلك: الحكم الشرعي: وجوب صلاة الجماعة.
دليلها التفصيلي: قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
فهذا الدليل التفصيلي يدل على وجوب صلاة الجماعة بناء على الدليل الكلي، وهو القاعدة الأصولية: الأمر المطلق المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب.
قوله: (وبهذا نعرف الضرورة والحاجة إلى معرفة أصول الفقه وأنها معينة عليه، وهي أساس النظرة والاجتهاد في الأحكام).
ذكر المؤلف رحمه الله فائدة من فوائد معرفة أصول الفقه وهذه الفائدة بينها بقوله: «الأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية، والأدلة التفصيلية مضطرة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلى الأدلة الكلية».
وهناك فوائد أخرى تبين أهمية دراسة أصول الفقه منها:
* الأولى: ضبط أصول الاستدلال ببيان الأدلة الصحيحة من غيرها.
* الثانية: بيان الوجه الصحيح للاستدلال، فقد يستدل أحدهم بدليل صحيح لكن على غير وجهه فينتج عن ذلك خطأً في الحكم والنتيجة، بينما دراسة أصول الفقه تضبط الوجه الصحيح للاستدلال.
* الثالثة: تيسير عملية الاجتهاد وإعطاء الحوادث الجديدة والنوازل ما يناسبها من الأحكام الشرعية.
* الرابعة: بيان ضوابط الفتوى.
* الخامسة: صيانة الفقه الإسلامي من الانفتاح المترتب على وضع مصادر جديدة للتشريع لم ترد في الكتاب ولا في السنة.
* السادسة: صيانته من دعوى الجمود المترتب على إغلاق باب الاجتهاد، فيصان الفقه من إيجاد أدلة لم ترد.
* السابعة: الدعوة إلى اتباع الدليل.
تنبيه:
أصول الفقه ليس خاصا بالفقه الذي هو علم الفروع، بل أصول الفقه قواعد في الاستدلال لكل أحكام الشريعة في العقيدة والآداب والأخلاق،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتفسير والحديث، وإضافة أصول للفقه ليست إضافة حصر، وإنما من باب التغليب، ولهذا بعض المحققين يسمونه أصول الشريعة، كما فعل ذلك الجصاص والجويني، وسمى الشاطبي كتابه الموافقات في أصول الشريعة، والغزالي سمى كتابه المستصفى من علم الأصول، والسمعاني سمى كتابه قواطع الأدلة في الأصول، والشوكاني سمى كتابه: إرشاد الفحول.
فصل
الأحكام التي يدور عليها الفقه
الأحكام التي يدورُ الفقه عليها خمسة:
الأحكام في اللغة: جمع حكم، ويطلق على معان منها القضاء والفصل والمنع، ومن ذلك قوله تعالى:{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي: لتقضي بما أراك الله، وقوله تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26] يعني اقض وافصل بين الناس لكي تمنع عدوان بعضهم على بعض.
وأما في الاصطلاح: فهو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
قولنا: (خطاب الشارع) لإخراج الحكم العقلي والحكم العادي.
والحكم العقلي: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه عقلا، وذلك مثل: الكل أكبر من الجزء.
والحكم العادي: هو ما تعرف فيه النسبة عن طريق العادة، وذلك مثل: الخبز مشبع.
وقولنا: (المتعلق بأفعال المكلفين) المكلف هو البالغ العاقل فيخرج بذلك الصبي والمجنون.
وقولنا: (بالاقتضاء) يعني بالطلب، وهذا الطلب على قسمين:
الواجب: الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
* الأول: طلب فعل وهو إما:
على وجه اللزوم ويسمى الواجب.
أو على غير وجه اللزوم ويسمى المستحب.
* الثاني: طلب ترك وهو إما:
على وجه اللزوم ويسمى المحرم.
أو على غير وجه اللزوم ويسمى المكروه.
وقولهم: (أو التخيير) وهو المباح.
وقولهم: (أو الوضع) أي: الحكم الوضعي، ما دل عليه خطاب الشارع بجعل شيء علامة على شيء.
قوله: (الواجب: الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه).
الواجب في اللغة: الساقط واللازم ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 26] يعني سقطت، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:«غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»
(1)
.
ثم عرفه المؤلف بقوله: «الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه» وهذا تعريف بالحكم وفيه نظر، والتعريف يكون لحقيقة الشيء لا لحكمه، فحكمه وثمرته: الذي يثاب فاعله امتثالاً ويعاقب تاركه استحقاقاً.
(1)
رواه البخاري (858) ومسلم (846).
والحرام: ضده.
والأحسن في تعريف الواجب أن يقال: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الفعل على وجه اللزوم.
قولنا: (بطلب الفعل) لإخراج المكروه والمحرم؛ لأنهما طلب ترك.
وقولنا: (على وجه اللزوم) لإخراج المستحب؛ لأن المستحب لا على وجه اللزوم.
وأمثلة الواجب كثيرة منها:
الصلاة.
الزكاة.
الصيام.
ويعرف الواجب بألفاظ ودلالات كثيرة منها:
الأمر، والتصريح بالإيجاب مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم»
(1)
، والفعل المضارع المقرون بلام الأمر، واسم فعل الأمر، ومنها الجملة الإسمية التي يراد بها الطلب.
وقد يفهم بالفرض والكتب، والوجوب، وبالوعيد على تركه، وبذم تاركه، وبأنه حق على المؤمنين، وبإحباط العمل بتركه وعدم فعله.
وقوله: (والحرام ضده).
الحرام في اللغة: الممنوع.
(1)
أخرجه البخاري (879).
والمسنون: الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
وضده على تعريف المؤلف للواجب: «الذي يعاقب فاعله ويثاب تاركه» ، وتقدم في الواجب أن هذا التعريف فيه نظر.
والأحسن في تعريف الحرام: أن يقال: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الترك على وجه اللزوم.
قولنا: (طلب الترك) لإخراج الواجب والمستحب؛ لأنهما طلب فعل.
وقولنا: (على وجه اللزوم) لإخراج المكروه؛ لأن المكروه طلب للترك لا على وجه اللزوم.
فرع: يعرف المحرم بألفاظ ودلالات منها:
أن ينص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على تحريمه، أو بيان أنه محظور أو مكروه أو ممنوع.
ومنها: النهي عنه؛ فإن الأصل في النهي التحريم.
ومنها: أن يأتي الأمر باجتنابه.
ومنها: الوعيد على الفعل بعقوبة، أو ذم فاعله.
قوله: (والمسنون: الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه).
السنة في اللغة: هي الطريقة.
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف: الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وفيه نظر كما تقدم في تعريف الواجب.
والأحسن أن يقال: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفعل لا على وجه اللزوم.
قولنا: (بطلب الفعل) لإخراج المحرم والمكروه؛ فإن المحرم والمكروه كلاهما طلب ترك.
قولنا: (لا على وجه اللزوم) لإخراج الواجب؛ فإن الواجب طلب فعل على وجه اللزوم.
فرع: ويسمى المندوب والنافلة والتطوع، والرغيبة والفضيلة، قال بعض الأصوليين: هي من باب المترادف، وقال بعضهم: من باب المتباين، وعلى هذا تنقسم ثلاثة أقسام:
1 السنة المؤكدة، أو المندوب المؤكد، وهو ما داوم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كالوتر والسنن الرواتب.
2 مطلق السنة: وهو الذي لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه كسنة الضحى.
3 التطوع، وهو فضائل الأعمال المطلقة التي لم تحد بقدر ولا وقت.
فرع: يعرف المسنون:
بورود الصارف من الوجوب إلى الندب.
ومنها: أن يعقب الأمر بقول لمن شاء.
ومنها: أن يكون الشيء منهيا عنه ثم يؤمر به بعد ذلك.
ومنها: أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ثم يتركه.
والمكروه ضده
ومنها: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد تقربا من غير أن يأمر به.
ومنها: الترغيب فيه بذكر ثوابه من غير أمر، وبيان محبة الله للفعل، ومدح فاعله.
قوله: (والمكروه ضده).
المكروه في اللغة: هو المبغض، مأخوذ من الكريهة، وهي شدة الحرب.
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف بقوله: «ضده» أي ضد المسنون، والمقصود:«الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله» وفيه نظر كما تقدَّم في تعريف الواجب.
والأحسن في تعريف المكروه أن يقال: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الترك لا على وجه اللزوم.
قولنا: (طلب الترك) لإخراج الواجب والمستحب؛ لأنهما طلب فعل.
وقولنا: (لا على وجه اللزوم) لإخراج المحرم؛ لأن المحرم طلب ترك على وجه اللزوم.
فرع: يعرف المكروه بوجود الصارف من التحريم إلى الكراهة، وأن يترتب على فعل الشيء الحرمان من فضيلة.
مثل: أكل الثوم والبصل، فمن أكلهما ممنوع من دخول المسجد.
فرع: على لسان الشارع يأتي المكروه، ويراد به المحرَّم؛ لأن الله تعالى
والمباح: مستوي الطرفين
ذكر بعض المحرمات، ثم قال:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38]، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»
(1)
.
وعند الحنفية يطلق المكروه على شيئين:
1 المكروه كراهة تحريم: وهو ما نهى عنه الشرع نهيا جازما، ولكنه ثبت بطريق ظني، مثل: أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.
2 المكروه كراهة تنزيه: وهو ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم، وهو مرادف للمكروه عند الجمهور.
قوله: (والمباح: مستوي الطرفين).
المباح لغة: المعلن والمأذون، أخذا من الإباحة، وهي الإظهار والإعلان، وقيل: من باحة الدار، وهي: ساحتها، وفيه معنى السعة.
وقيل في تعريفه: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالتخيير.
وقال بعض العلماء: هو ما لا يتعلق بفعله مدح ولا ذم.
فرع: ويعرف المباح بأمور منها:
أنه الأصل، فالأصل في الأعيان من مطاعم وآلات وغيرها الإباحة.
(1)
رواه البخاري (2408)، ومسلم (593).
وينقسم الواجب إلى:
فرض عين، يطلب فعله من كل مكلف بالغ عاقل، وهو جمهور أحكام الشريعة الواجبة.
وإلى فرض كفاية، وهو الذي يطلب حصوله وتحصيله من المكلفين، لا من كل واحد بعينه، كتعلم العلوم والصناعات النافعة والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.
ومنها: دلالة الكتاب والسنة على أنه مباح.
ومنها: أن يكون الحكم مسكوتا عنه.
ومنها: الأمر الوارد بعد الحظر.
ومنها: النص على التخيير بين الفعل والترك.
ومنها: نفي الإثم والمؤاخذة.
قوله: (وينقسم الواجب إلى فرض عين يطلب فعله من كل مكلف بالغ عاقل وهو جمهور أحكام الشريعة الواجبة.
وإلى فرض كفاية وهو الذي يطلب حصوله وتحصيله من المكلفين، لا من كل واحد بعينه، كتعلم العلوم والصناعات النافعة والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك).
أي الواجب له عدة تقسيمات، من هذه التقسيمات ما ذكره المؤلف رحمه الله باعتبار الفاعل فإنه ينقسم إلى قسمين:
* الأول: فرض عين: وهو الذي لا تدخله النيابة مع القدرة، بل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يطلب فعله من كل مكلف بعينه، كالطهارة، والصلوات الخمس، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ونحو ذلك، فما دامت القدرة موجودة وجب على المكلف أن يفعله بنفسه، أما مع عدم القدرة ففي المسألة تفصيل بحسب نوعية العبادة.
وأفاد المؤلف رحمه الله بأن فرض العين هو جمهور أحكام الشريعة الواجبة، والمقصود أن فرض العين أكثر من فرض الكفاية في الشريعة الإسلامية وهذا ظاهر.
* الثاني: فرض كفاية: وهو ما يسقطه فعل البعض (فعل من يكفي ولو مع القدرة)؛ لأن المطلوب حصوله وتحصيله من المكلفين، لا من كل واحدٍ بعينه، كتعلم العلوم والصناعات النافعة، والأذان، وتجهيز الميت، والصلاة عليه، ودفنه، والقضاء، والإفتاء، ونحو ذلك.
وقد يكون فرض الكفاية فرض عين، وذلك إذا لم يوجد إلا واحد ممن يتعين عليه الواجب؛ كوجود مغسل واحد للميت ونحو ذلك.
فرع: لم يتكلم المؤلف عن الأحكام الوضعية وهي كما يلي:
* أولاً: السبب:
وهو في اللغة: الطريق الموصل إلى الشيء، ومنه سمي الحبل سببا، كما في قوله تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15].
وفي الاصطلاح: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.
مثال ذلك: وقت الصلاة سبب للوجوب، فيلزم من عدم السبب عدم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الوجوب، ويلزم من وجوده وجود الوجوب.
وقولهم لذاته: أي لذات السبب، لا لأمر خارج عنه، فقد يوجد السبب ولا تجب الصلاة لوجود مانع كالحيض مثلاً.
* ثانيا: الشرط:
وهو في اللغة: إلزام شيء والتزامه.
وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
مثاله: الطهارة شرط لصحة الصلاة، فيلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة صحة الصلاة ولا عدمها لذات الشرط؛ لأن الطهارة قد تحصل ولا تحصل صلاة، أو تحصل صلاة غير مستوفية لبقية الشروط والأركان.
* ثالثا: المانع:
هو في اللغة بمعنى: الحاجز أو الحائل.
وفي الاصطلاح: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.
مثل: الرق مانع من الإرث، فالرق وصف متعلق بشخص هو ابن للميت مثلا، فلولا هذا الوصف لورث من تركته، ولكن لوجود هذا الوصف منع من الإرث، فيكون هذا الوصف مانعا من موانع الإرث.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولهم: لذاته: أي ذات المانع، فقد يعدم الرق ولكن يكون الشخص ليس من الوارثين أصلا كالعم مع الابن، أو محجوبا بوارث آخر، كأن يكون الميت له ابن وابن ابن وكلاهما حر غير رقيق، فابن الابن لا يرث مع أنه ليس برقيق؛ لأنه محجوب بالابن.
* رابعا: العلة:
العلة في اللغة: المرض، أو ما اقتضى تغييرا في المحل.
وفي الاصطلاح: «وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم» .
ومثالها: الإسكار علة لتحريم الخمر، والطعم مع الكيل علة لتحريم التفاضل في بيع البر بالبر والتمر بالتمر وما جرى مجراهما.
* خامسا: الصحة:
الصحة في اللغة: ضد المرض.
وفي الاصطلاح: ترتب الآثار المقصودة من الفعل عليه.
فالآثار المقصودة من فعل العبادة عند الفقهاء هي براءة الذمة وسقوط المطالبة به، وهذه تحصل من الفعل الصحيح للعبادة.
والآثار المقصودة من المعاملة تختلف باختلاف نوعها، فإن كانت بيعا فهي دخول الثمن في ملك البائع، والمبيع في ملك المشتري، وإن كان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نكاحا فَحِلُّ الاستمتاع للزوج، وتملُّك الزوجة للصداق.
وقيل في تعريف الصحيح من العبادة: موافقة الفعل لأمر الشارع، سواء أسقط القضاء بالفعل أم لا.
* سادسًا، وسابعًا: الفساد والبطلان:
الفساد في اللغة: ضد الصلاح.
والبطلان: ذهاب الشيء خسرا وهدرا.
وفي الاصطلاح: تخلف الآثار المقصودة من الفعل عنه.
فإن كانت عبادة ففسادها أن لا تبرأ بها الذمة، ولا يحصل بها الثواب، وإن كان عقدا أو نحوه ففساده أن لا يترتب عليه أثره من نقل الملك، أو حل الاستمتاع ونحو ذلك.
والفاسد والباطل عند الجمهور مترادفان وهو: ما لا يترتب عليه أثره، وعند الحنفية الباطل: هو ما لم يشرع بأصله ووصفه كالربا والزنا.
والفاسد ما شرع بأصله دون وصفه كالبيع بعد النداء الثاني.
مثال آخر للفاسد: العقود الربوية، فإذا باع رشيد من رشيد درهما بدرهمين فالعقد فاسد وليس بباطل.
ومثال آخر للباطل: إذا باعه حملا.
وبين العقدين عندهم فرق:
فإن العقد الفاسد إذا اتصل بالقبض يفيد الملك الخبيث، والباطل لا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يفيد شيئا.
والعقد الفاسد يمكن إصلاحه برد الزيادة إذا كانت هي سبب الفساد فيكون الباقي حلالا طيبا، أما الباطل فهو لغو لا فائدة فيه ولا يمكن إصلاحه.
تنبيه:
ووقع مثل ذلك للحنابلة في الحج، والنكاح ففرقوا بين العقد الفاسد والباطل وجعلوا الباطل: ما أجمع العلماء على بطلانه، كالعقد على الزوجة المعتدة، والفاسد: ما اختل شرطه كالنكاح بلا ولي.
والصحة والفساد جعلهما بعض الأصوليين من الأحكام التكليفية، وقالوا: الصحة ليست شيئا زائدا على الاقتضاء والتخيير، بل هي راجعة إلى واحد من الأحكام التكليفية الخمسة.
* * *
وهذه الأحكام الخمسة تتفاوت تفاوتاً كثيراً، بحسب حالها ومراتبها وآثارها:
فما كان مصلحته خالصةً أو راجحةً أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب.
وما كانت مفسدته خالصةً أو راجحة نهى عنه الشارع نهي تحريم أو كراهة.
فهذا الأصل يحيط بجميع المأمورات والمنهيات.
قوله: (وهذه الأحكام الخمسة
…
) إلخ.
المقصود من ذلك بيان أن المأمورات والمنهيات تنقسم إلى أربعة أقسام:
* الأول: أن يكون المأمور به مصلحة خالصة، كالأمر بالتوحيد، والإخلاص، والعدل، والإحسان، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وفعل المعروف ونحو ذلك، فهذا يأمر به الشرع أمر إيجاب أو استحباب، بحسب نوعية المأمور به.
* الثاني: أن يكون المأمور به مصلحته راجحة، وهي التي تخالطها مفسدة ولكن المصلحة فيها غالبة، كالأمر بالجهاد، فإن فيه إعلاء كلمة الله ونصرة دينه مع ما فيه من التعرض للقتل، وهذا يأمر بها الشرع أمر إيجاب أو استحباب؛ لأن العبرة بالغالب ولا ينظر إلى ما فيها من المفسدة؛ لضعف أثرها وغلبة المصلحة عليها.
* الثالث: أن يكون المنهي عنه مفسدة خالصة، وهي التي لا يخالطها مصلحة كالنهي عن الشرك والظلم وعقوق الوالدين، ونحو ذلك مما لا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مصلحة فيه، فهذه ينهى عنها الشرع نهي تحريم أو كراهة بحسب المفسدة.
* الرابع: أن يكون المنهي عنه مفسدة راجحة، وهي التي تضمنت مصلحة ولكن جانب المفسدة أغلب، كالنهي عن الخمر والميسر والربا والظلم ونحو ذلك، فإن هذه المذكورات فيها مصالح كسب المال وما يحصل لفاعلها من اللذة ولكن مفاسدها أعظم، قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وهذه ينهى عنها الشارع نهى تحريم أو كراهة؛ لأن العبرة بالغالب، ولا ينظر إلى ما فيها من المصلحة؛ لضعف أثرها وغلبة المفسدة عليها.
يقول ابن القيم رحمه الله: «ولما كانت خاصة العقل النظر فيه إلى العواقب والغايات، كان أعقل الناس أتركهم لما ترجحت مفسدته في العاقبة، وإن كانت فيه لذة ومنفعة يسيرة بالنسبة إلى مضرته»
(1)
.
* * *
(1)
«مفتاح دار السعادة» ابن القيم 2/ 14.
وأما المباحات، فإن الشارع أباحها وأذن فيها، وقد يتوصل بها إلى: الخير فتلحق بالمأمورات، وإلى الشر فتلحق بالمنهيات.
فهذا أصل كبير أن الوسائل لها أحكام المقاصد،
قوله: (وأما المباحات فإن الشارع أباحها وأذن فيها).
المباح قد يكون مطلوب الفعل أو الترك لغيره، لكن لذاته ليس مطلوب الفعل ولا الترك.
وهذا هو النوع الثاني من نوعي المباح وهو الذي صار وسيلة لمأمور به أو منهي عنه، فيكون حكمه حكم ما كان وسيلة إليه، فإن كان المباح يتوصل به إلى الخير فهو مأمور به أمر إيجاب أو استحباب، ويثاب على ذلك بحسب نيته، وإن كان يتوصل به إلى منهي عنه فهو منهي عنه نهي تحريم أو كراهة.
مثال ما كان وسيلة لمأمور به: النوم والأكل حكمهما الإباحة، فإذا كانا وسيلة للتقوي على طاعة الله تعالى أو كسب الرزق صار مستحباً يثاب عليه المكلف.
ومثال ما كان وسيلة لمنهي عنه: بيع المباحات لمن يعمل فيها معصية، كبيع العنب إلى من يتخذه خمراً، والأكل والشرب من الطيبات فإنهما مباحان لكن الإسراف فيهما إلى حد التخمة مكروه، وقد يحرم، واللهو أيضاً مباح في غير محرم فإن أدى إلى تفويت الصلاة أو التعدي على الآخرين صار محرماً.
قوله: (فهذا أصلٌ كبير أن الوسائل لها أحكام المقاصد).
الوسائل: جمع وسيلة: وهي الطريق إلى الشيء.
وبه نعلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وما يتوقف الحرام عليه فهو حرام، ووسائل المكروه مكروهة).
والمقاصد: جمع مقصد: وهو ما يقصده المكلف من فعل مأمور به أو ترك منهي عنه.
والمعنى: أن ما يثبت للمقصود من حكم، فإنه يثبت مثله للوسيلة الموصلة إليه، فوسائل المأمورات مأمور بها، ووسائل المنهيات منهي عنها، فإن كان تحقيق المقصود واجباً، فإن الأخذ بالوسيلة الموصلة إليه يكون أمراً واجباً.
مثال ذلك: الصلاة من حيث أداؤها مقصد، والمشي إليها وسيلة، وبما أن الصلاة واجبة، فالوسيلة إليها واجبة، ومثله يقال في المندوب وغيره كما سيأتي إن شاء الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع حسنة»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (282).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة»
(1)
.
وهذه القاعدة يندرج تحتها أربعة فروع:
* الأول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب.
ما لا يتم الواجب إلا به، كالمشي إلى الصلاة فهو واجب؛ إذ لا تتم صلاة الجماعة في المسجد إلا بالمشي إليها، ومثله السعي إلى الجمعة، والسفر إلى مكة لأداء الحج أو العمرة، وكنقل الأقدام إلى زيارة الوالدين أو صلة الأرحام، وطلب الماء للوضوء، أو شراؤه بثمن المثل أو زيادة لا تضر، أو شراء ثوب لستر العورة ونحو ذلك.
وهذه واجبة بنفس دليل ذلك الواجب، وقد يرد دليل على ما لا يتم الواجب إلا به، كما في قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
ومن إطلاقات القاعدة أيضاً قولهم: الأمر بالشيء أمرٌ به وبجميع لوازمه وشروطه.
مثال ذلك: أن الأمر بالصلاة أمرٌ بها وبشروطها وبلوازمها، ومن شروط الصلاة الطهارة وستر العورة، وعليه فإنه يلزم الأمر بشراء الماء للوضوء وشراء الثوب لستر العورة.
وأما قولهم: ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب؛ إما؛ لأنه خارج
(1)
أخرجه الترمذي (2646)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عن قدرة المكلف، كزوال الشمس لإقامة صلاة الظهر، وخروج الهلال لشهر رمضان ونحو ذلك مما هو خارج عن قدرة المكلف واستطاعته.
وإما لعدم الشرط كالاستطاعة في الحج فهي شرط من شروط وجوبه، فلا نقول بأنه يجب على الإنسان أن يحصل المال حتى يكون مستطيعاً لكي يجب عليه الحج.
ومن ذلك أيضاً شرط ملك النصاب في الزكاة فلا نقول للفقير اذهب واجمع المال حتى تملك نصاباً، لكي تجب عليك الزكاة.
* الثاني: ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون: كالسواك والتطيب يوم الجمعة، فإذا توقف تحقيق ذلك على شراء السواك أو الطيب كان ذلك الشراء مسنوناً بمعنى أنه مندوب إليه بواسطة المسنون نفسه، وهكذا يقال في نوافل الصلاة والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من المسنونات.
* الثالث: ما يتوقف الحرام عليه فهو حرام: ومن ذلك الشرك الأكبر، فكل قولٍ أو فعلٍ يفضي إليه فهو محرم، وكذا الشرك الأصغر ووسائله كالحلف بغير الله تعالى إن لم يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله ونحو ذلك، وكالسعي إلى المعاصي كالزنا والخمر ونحو ذلك، أو الخلوة بالمرأة الأجنبية المفضية إلى الفاحشة ولو في إقراء القرآن أو السفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين.
* الرابع: وسائل المكروه مكروهة: فأكل الثوم مكروه، وشراؤه وسيلة لأكله فيكون مكروهاً.
(فصل) الأدلة التي يستمد منها الفقه
الأدلة التي يستمد منها الفقه أربعة:
هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لبيان أدلة الأحكام الشرعية إجمالاً، وسيتكلم عن كل واحد منها بشيء من التفصيل.
* تعريف الأدلة:
والأدلة لغة: جمع دليل، وهو ما فيه دلالة وإرشاد إلى أمر من الأمور.
واصطلاحاً: ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو الظن.
والأدلة تنقسم إلى قسمين:
* الأول: أدلة متفق عليها: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس.
* الثاني: أدلة مختلف فيها: وهي قول الصحابي والاستحسان والاستصحاب، وشرع من قبلنا، وإجماع أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع.
قوله: (الأدلة التي يستمد منها الفقه) أي التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية العملية التي تتعلق بالمكلفين، وهي الكتاب والسنة والإجماع وهي أدلةٌ نقلية، وأما القياس فهو دليل عقلي؛ لأن مرده إلى النظر والرأي المستند إلى النقل.
الكتاب والسنة، وهما الأصل الذي خوطب به المكلفون، وانبنى دينهم عليه.
والإجماع والقياس الصحيح، وهما مستندان إلى الكتاب والسنة.
فالفقه من أوله إلى آخره لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة.
قوله: (وهما الأصل الذي خوطب به المكلفون) والمراد من ذلك أن الكتاب والسنة هما الأصل في خطاب المكلفين بالأحكام الشرعية، والإجماع والقياس مستندان إليهما؛ لأن الإجماع لابد أن يستند إلى نص، والقياس مسلك اجتهادي في حدود نصوص الكتاب والسنة بضوابط معينة، بل إن الأدلة الثلاثة كلها راجعة إلى القرآن؛ لأن العمل بالسنة إنما دل عليه القرآن، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ولأن السنة جاءت لبيان القرآن وتفسيره وتفصيل ما أُجمل فيه، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
قوله: (فالفقه في أوله إلى آخره لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة).
هذا ظاهر حيث إن جميع مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويُفتون بها ثابتة بهذه الأدلة الأربعة، ومن استقرأ كلام أهل العلم رحمهم الله يجد أنهم يستدلون بهذه الأدلة الأربعة التي أشار إليها المؤلف، وكذلك مما عداها مما أشرنا إليه كقول الصحابي والاستحسان وإجماع أهل المدينة والمصالح المرسلة.
وأكثر الأحكام المهمة تجتمع عليها الأدلة الأربعة: تدل عليها نصوص الكتاب والسنة، ويجمع عليها العلماء، ويدل عليها القياس الصحيح لما فيها من المنافع والمصالح إن كانت مأموراً بها، ومن المضار إن كانت منهياً عنها.
والقليل من الأحكام يتنازع فيها العلماء،
قوله: (وأكثر الأحكام المهمة تجتمع عليها الأدلة الأربعة، تدل عليها نصوص الكتاب والسنة، ويجمع عليها العلماء، ويدل عليها القياس الصحيح).
أي أن أكثر الأحكام الشرعية التي لابد للناس من العلم بها، مما يجب عليهم ويحرم ويباح، تجتمع عليها الأدلة الأربعة، لأنها من قبيل المعلوم المقطوع به، وذلك كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج واستقبال القبلة ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والعدل، والصدق، وتحريم الزنا والخمر، والفواحش، والظلم، وعقوق الوالدين وغير ذلك.
قوله: (والقليل من الأحكام يتنازع فيها العلماء).
أي أن الأحكام التي حصل فيها خلاف بين العلماء قليلة بالنسبة للأحكام المهمة التي هي أصول؛ لأن من هذه الأحكام المختلف فيها مسائل مقدرة غير واقعة، ومنها ما هو تفاريع فقهية على بعض الأحكام الأصول، وهذا الاختلاف له أسبابه، كعدم سماع الحديث، أو عدم ثبوته، أو الاختلاف في فهمه، أو كيفية الاستدلال به، أو اعتقاد عدم معارض
وأقربهم إلى الصواب فيها من أحسن ردها إلى هذه الأصول الأربعة.
للدليل، أو نحو ذلك مما هو معروف في محله.
قوله: (وأقربهم إلى الصواب من أحسن ردها إلى هذه الأصول الأربعة).
أي أن هذه المسائل المختلف فيها لابد لها من دليل، قد يكون هذا الدليل نصاً، وقد يكون استنباطاً، ولهذا قال الشافعي رحمه الله:«قلّ ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو قياساً عليهما أو على واحد منهما» وأقرب العلماء إلى الصواب في هذه المسائل المختلف فيها من أحسن استنباط حكمها الشرعي من نص أو إجماع أو قياس، ولابد في ذلك من الإحاطة بدلالات الألفاظ وقواعد الاستنباط، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] قال الشيخ السعدي في تفسيره: «أي كتاب الله وسنة رسوله، فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما، أو إيماء أو تنبيه أو مفهوم أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه؛ لأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عليهما بناء الدين ولا يستقيم الإيمان إلا بهما، فالرد إليهما شرطٌ في الإيمان»
(1)
.
(1)
«تفسير السعدي» ص 183.
فصل
في الكتاب والسنة ودلالتهما
أما الكتاب: فهو هذا القرآن العظيم، كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين،
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان معنى الكتاب والسنة وكيفية استنباط الحكم من هذين الدليلين.
قوله: (أما الكتاب فهو القرآن العظيم):
عرف الشيخ رحمه الله القرآن وهو أشهر من أن يعرف لكنه تَبِع الأصوليين في ذلك، ولعل في تعريفه إظهار بعض خصائصه التي جعلته المصدر الأول للتشريع في كل زمان ومكان، وهو حجة الله تعالى على جميع البشر، قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله تعالى به.
قوله: (كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شرع المؤلف رحمه الله بتعداد خصائص القرآن الكريم، وذكر أن أول خصائص القرآن: أنه كلام الله تعالى حقيقة تكلم به بحرف وصوت مسموعين، وأنه اللفظ والمعنى جميعاً، وأنه المنَزَّل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نزل به جبريل عليه السلام، وهذا كله دليل على تعظيم هذا الكتاب وشدة
بلسان عربيٍ مبين،
الاهتمام فيه؛ لأنه نزل من الله لا من غيره.
ويخرج بهذا التعريف جميع الكتب التي أنزلت على غير محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة والإنجيل والزبور فهي ليست قرآناً؛ لأن القرآن مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم.
قوله: (بلسان عربيٍ مبين):
هذه الخصيصة الثانية من خصائص القرآن الكريم، وهي أنه نزل باللسان العربي، فحروفه هي الحروف التي تتكلم بها العرب، ليس فيها زيادة حرف واحد، واللسان العربي هو أفضل الألسنة، فقد نزل بلغة من بعث إليهم في ذلك الوقت ولسانهم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].
* مسألة: هل في القرآن ألفاظٌ أعجمية؟ اختلف أهل العلم رحمهم الله على قولين:
* القول الأول: وهو رأي الجمهور: إن القرآن ليس فيه ألفاظٌ أعجمية؛ وذلك لقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ولسان العرب الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم هو اللسان العربي.
* القول الثاني: ذهب إليه بعض الأصوليين: وقالوا إن في القرآن ألفاظًا أعجمية مثل: استبرق، مشكاة، سندس، وهذه ليست من لغة العرب، قال تعالى:{كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35].
للناس كافة في كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم،
وأجيب عن ذلك بجوابين:
* الأول: أنه لا يسلم أنها ليست عربية، فإنه إذا لم يعرف عن بعض العرب أنه نطق بها؛ فلا يلزم من ذلك أن يكون الناطق بها غير العرب.
* الثاني: على تسليم أنها ليست عربية، فإن العرب تكلمت بها وعربتها؛ قال الشافعي:«إنه ليس في القرآن لفظٌ ليس عربي» .
قوله: (للناس كافة في كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم).
أشار الشيخ رحمه الله بذلك إلى أن القرآن يشتمل على كل ما يحتاجه الناس، وهو ثلاثة أنواع:
* الأول: أحكام اعتقادية:
وهي المتعلقة بالعقيدة، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما يلحق بهذه الأصول ويتفرع عنها.
* الثاني: أحكام أخلاقية سلوكية:
وهي المتعلقة بتهذيب النفس وتزكيتها، كأعمال القلوب ومكارم الأخلاق، وجميل الصفات كالمحبة والخوف والرجاء والصدق والشكر وبر الوالدين وصلة الأرحام والصبر والعفو والإصلاح بين الناس وكف الأذى
وهو المقروء بالألسنة، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
والوفاء بالعهد وغير ذلك.
* الثالث: أحكام عملية:
وهي المتعلقة بأفعال المكلفين وهي نوعان:
أ عبادات: وهي ما بين العبد وربه، كالصلاة والزكاة والصيام والحج.
ب معاملات: وهي كل ما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات، كأحكام البيوع والنكاح والطلاق والجنايات والحدود والسياسة الشرعية.
واصطلح العلماء على تسميتها بالمعاملات وليس معنى ذلك خلوها من معنى العبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قوله: (وهو المقروء بالألسنة، المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور).
ذكر المؤلف رحمه الله أربعاً أخرى من خصائص القرآن إضافة إلى ما تقدم وهي:
أنه مقروء بالألسنة بمعنى أنه متعبد بتلاوته في الصلاة وغيرها، فهو الذي تتعين القراءة به في الصلاة، قال تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزَّمل: 20] وقراءته عبادة فيها ثواب عظيم، كما ثبت ذلك في حديث
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: (ألم) حرف، ولكن (ألف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف»
(1)
.
مسألة: القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة:
القراءة الصحيحة هي: ما صح سندها، ووافقت اللغة ولو من وجه، ووافقت رسم المصحف العثماني.
والقراءة الشاذة: ما صح سندها ووافقت اللغة ولو من وجه، وخالفت رسم المصحف العثماني.
والمخالفة قد تكون بزيادة كلمة أو تغييرها ونحو ذلك، ومثالها قراءة ابن مسعود:«فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ، فكلمة (متتابعات) غير موجودة في المصحف العثماني، ولهذا أطلق عليها بعض العلماء اسم القراءة الشاذة أو الآحادية.
ولما كان رسم المصحف العثماني متواترا، عدوا ما خرج عنه آحادا أو شاذا.
واختلفوا في القراءة الشاذة أو الآحادية هل تجوز القراءة بها في الصلاة؟
* القول الأول: ذهب الجمهور إلى عدم صحة القراءة بها؛ لأنها ليست قرآنا؛ إذ القرآن متواتر وهي ليست متواترة.
(1)
أخرجه الترمذي (2910).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* القول الثاني: وهو إحدى الروايتين عن مالك وإحدى الروايتين عن أحمد واختاره ابن القيم رحمه الله: صحة القراءة بها في الصلاة إذا صح سندها، واستدل بأن ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما كانوا يقرأون بها ولا يمكن أن نقول ببطلان صلاة هؤلاء وأمثالهم.
حجية القراءة الشاذة:
* القول الأول: أنها حجة، وهو منسوب لأبي حنيفة وأحمد، وأكثر أصحابهم، وحكاه البويطي عن الشافعي.
ودليل هذا القول: أن هذه القراءة نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح فهي لا تخلو إما أن تكون قرآنا أو سنة، وعلى كلا الاحتمالين فهي حجة.
القول الثاني: أنها ليست بحجة، وهو المشهور عن الشافعي رحمه الله.
والدليل على ذلك: أن الصحابي نقلها على أنها قرآن، لا على أنها سنة، وهي لا يمكن أن تكون قرآنا؛ لأن القرآن متواتر وهي غير متواترة، ولأن الظاهر أنها تفسير من الصحابي نفسه، ومذهب الصحابي ليس حجة عند الشافعي.
ومن خصائص القرآن الكريم أيضاً: أنه مكتوب في المصاحف، وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا من مناقبه الجليلة وحسناته العظيمة، بعد استشارته الصحابة رضي الله عنهم.
ومن خصائصه أيضاً: أنه محفوظ في الصدور، فإن الله تعالى اختص
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذه الأمة بذلك، وهو أن القرآن محفوظ في صدورهم، كما ورد في ذلك حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني» ، إلى أن قال:«وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء»
(1)
.
ومعنى ذلك أنه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأ على كل حال، بخلاف أهل الكتاب فإنهم لا يقرأونه إلا نظراً.
ومن خصائصه أيضاً: أنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجر: 9]، وقال أيضاً:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ومعنى ذلك أنه لا يقربه شيطان من شياطين الجن والإنس، وتفسير قوله:{مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} بزيادة عليه، وتفسير قوله:{وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} أي بنقصان منه، فهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي ذو حُكم وحكمة، ومحمود على جميع أسمائه، وجميع صفاته، وجميع أفعاله، ومحمود لكثرة خيره وسعة جوده وكرمه.
* * *
(1)
أخرجه مسلم (63).
وأما السنة: فإنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته على الأقوال والأفعال.
قوله: (وأما السنة .. ).
السنة في اللغة: هي السيرة سواء كانت حميدةً أو ذميمة، قال لبيد:
من معشر سنَّت لهم آباؤهم
…
ولكل قومٍ سنةٌ وإمامُها
وأما في الاصطلاح: فلها ثلاثة معان:
* الأول: ما يقابل الواجب ويرادف المندوب، ويدرس في الأحكام التكليفية في أبواب الأصول وتقدم.
* الثاني: ما يقابل البدعة، ويراد بها ما وافق القرآن أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل في ذلك سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، ويدرس ذلك في كتب الاعتقاد وأصول الدين.
* الثالث: ما يقابل القرآن، وهو المراد هنا، ويراد بها قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره، ويضيف المحدثون وصفه صلى الله عليه وسلم في خُلُقه، فيكون المعنى عندهم أعم؛ لأنهم أهل العناية برواية الأخبار.
والسنة يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين:
الأول: باعتبار ذاتها، وهذا على أنواع:
* الأول: السنة القولية:
مثالها: حديث عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»
(1)
.
* الثاني: السنة الفعلية:
مثالها: صفات العبادات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فالنبي عليه الصلاة والسلام بيّن الصلاة بفعله، وقال:«صلوا كما رأيتموني أصلي»
(2)
، وبيّن الحج بفعله وقال:«لتأخذوا عني مناسككم»
(3)
.
* الثالث: السنة التقريرية:
مثالها: حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جارية: «أين الله؟» فقالت: في السماء، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك
(4)
.
الثاني: باعتبار علاقتها مع القرآن، وهذا على أنواع:
* الأول: مؤكدة للقرآن:
ومعنى ذلك أن يأتي الحكم في القرآن ثم تأتي السنة بتأكيده.
ومن ذلك: قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزَّمل: 20] أمر من الله بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبعد ذلك جاءت السنة بتأكيد هذا
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907).
(2)
أخرجه البخاري (631).
(3)
أخرجه مسلم (1297).
(4)
أخرجه مسلم (537).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأمر من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان»
(1)
.
* الثاني: أنها مبينة للقرآن:
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزَّمل: 20] أمر مجمل من الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم جاءت السنة بتبيين تفاصيل الصلاة وكيفية إقامتها، وبتبيين مقادير الزكاة، وشروطها، وبيان الأموال التي يجب فيها الزكاة.
* الثالث: أن تكون مستقلة أو زائدة على ما في القرآن:
ومن ذلك: أحكام الشفعة، وميراث الجدة، وغير ذلك كما في كتب الفروع.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على وجوب اتباع ما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة من الكتاب والسنة متظاهرة على ذلك، قال تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
وجه الدلالة: أن الله تعالى ساوى بين طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال أيضاً:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3: 4].
وجه الدلالة: أن الآية دلت على استواء السنة مع القرآن في كونهما
(1)
أخرجه البخاري (4514)، ومسلم (16).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحياً من الله تعالى، إلا أن السنة موحى بها بالمعنى دون اللفظ.
وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه»
(1)
.
وقد دل هذا الحديث بتمامه على أمرين:
* الأول: حجية السنة واستقلالها بتشريع بعض الأحكام، وأن القرآن لا يغني عن السنة، بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» ، والمراد بالكتاب القرآن، وبالمثل السنة، ومثليتها تكون في وجوب العمل بهما.
* الثاني: في الحديث آية باهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا أورده البيهقي رحمه الله في كتابه «دلائل النبوة» فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن شيء قد وقع، فقد ظهر في زماننا من يرد الاحتجاج بالسنة وينكر العمل بها، ولهم في ذلك شبه سموها أدلة، وماهي إلا محض أوهام، وهذا ليس بوليد هذا العصر، فإن لكل قومٍ وارثاً، وسلفهم في ذلك طوائف من أهل البدع، يقول الشوكاني رحمه الله:«والحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في دين الإسلام»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (28/ 410)، وأبو داود (4604).
(2)
«إرشاد الفحول» الشوكاني 1/ 97.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فرع: السنة المتواترة حجة بالاتفاق.
وأما الآحادية فحجة عند جماهير العلماء واستدلوا على ذلك بعدد من الأدلة منها:
1 قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وجه الدلالة: أن الطائفة في اللغة تطلق على الواحد وعلى العدد القليل والكثير، وقد أوجب الله عليهم أن ينذروا قومهم، ولولا أن نذارتهم مقبولة لما كان لإيجاب النذراة عليهم فائدة.
2 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله وأمراءه وقضاته وسعاته المأمورين بجمع الزكاة، وهم آحاد فلو لم يجب قبول خبرهم عنه لما أرسلهم، ولما حصل المقصود بإرسالهم.
3 إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد والعمل به، ويدل على إجماعهم قضايا ووقائع لا يمكن تكذيبها مجتمعة.
* * *
فالأحكام الشرعيَّة: تارة تؤخذ من نص الكتاب والسنة، وهو اللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى.
شرع المؤلف رحمه الله بذكر مباحث دلالات الألفاظ وابتدأ:
قوله: (تؤخذ من نصِّ الكتاب
…
).
1 النص:
والنص في اللغة: الكشف والظهور، يقال: نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، ومنه منصة العروس، وهو الكرسي الذي تجلس عليه.
وفي اصطلاح الأصوليين: هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً فقط.
فهو في مقابلة الظاهر والمجمل.
ومثال ذلك: قول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزَّمل: 20] فهذا نص في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
ومن ذلك أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان»
(1)
.
فهذا نص في بناء الإسلام على هذه الأركان الخمسة.
وحكم النص: أنه يجب العمل به والمصير إليه.
(1)
سبق تخريجه.
وتارة تؤخذ من ظاهرهما، وهو ما دل على ذلك على وجه العموم اللفظي أو المعنوي.
وقوله: (وتارة تؤخذ من ظاهرهما: وهو ما دل على ذلك على وجه العموم اللفظي أو المعنوي).
2 الظاهر:
والظاهر في اللغة: الواضح.
وأما في الاصطلاح: فهو ما احتمل معنيين أحدهما أرجح من الآخر.
مثال الظاهر: قول الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237].
فقوله الذي بيده عقدة النكاح يحتمل أن يكون الولي أو الزوج، لكن لما قال {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أي الزوجات بقي حق الزوج، فيكون هو المراد.
مثال آخر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضؤوا من لحوم الإبل»
(1)
.
وهذا الحديث يحتمل معنيين:
المعنى الأول: الوضوء اللغوي وهو مجرد النظافة.
المعنى الثاني: الوضوء الشرعي وهو التعبد لله عز وجل بغسل الأعضاء الأربعة على وجه مخصوص.
فقوله: «توضؤوا» يحتمل هذين المعنيين لكن أحدهما أظهر من الآخر،
(1)
أخرجه مسلم (360).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحمله على الوضوء الشرعي أظهر؛ لأن الألفاظ الشرعية تحمل على مراد الشارع.
حكم الظاهر: أنه يجب المصير إلى المعنى الظاهر.
فرع: المؤول لغة: من الأول وهو الرجوع.
ويطلق على عدَّةِ معانٍ:
المعنى الأول عند السلف: الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، كقول كثير من السلف في بعض الآيات:«هذه ذهب تأويلها، وهذه لم يأت تأويلها» .
والمعنى الثاني عند السلف: التفسير والبيان، كقول بعض المفسرين:«القول في تأويل قول الله تعالى» .
المعنى الثالث عند الأصوليين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يدل على ذلك.
فخرج بقولنا: «المرجوح» ؛ النص والظاهر.
أما النص؛ فلأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً، وأما الظاهر فلأنه محمول على المعنى الراجح.
والتأويل قسمان: صحيح مقبول، وفاسد مردود.
1 فالصحيح: ما دل عليه دليل صحيح؛ كتأويل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] إلى معنى: واسأل أهل القرية، لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها.
وتارة تؤخذ من المنطوق، وهو ما دل على الحكم في محل النطق.
وتارة تؤخذ من المفهوم، وهو ما دل على الحكم: بمفهوم موافقة إن كان مساوياً للمنطوق أو أولى منه،
2 -
والفاسد: ما ليس عليه دليل صحيح؛ كتأويل المعطلة قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] إلى معنى استولى، والصواب: أن معناه العلو والاستقرار من غير تكييف ولا تمثيل.
قوله: (وتارة تؤخذ من المنطوق):
3 المنطوق:
وقد عرفه المؤلف بقوله: وهو ما دل على الحكم في محل النطق، وقيل: هو المعنى المستفاد من صريح اللفظ.
ومعنى قوله: في محل النطق، أي: في العبارة المنطوق بها.
مثاله: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزَّمل: 20]، يستفاد منه الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] يستفاد منه النهي عن الأكل من متروك التسمية.
قوله: (وتارة تؤخذ من المفهوم):
4 المفهوم:
هو المعنى اللازم للفظ ولم يصرح به فيه.
وقد يقال: ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق، أي في مقدر خارج
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عن المنطوق به.
والمفهوم ينقسم إلى قسمين:
* الأول: مفهوم موافقة: هو ما وافق المسكوت عنه المنطوق به في الحكم.
* الثاني: مفهوم مخالفة: هو ما خالف المسكوت عنه المنطوق به في الحكم.
ومفهوم الموافقة ينقسم إلى قسمين:
* الأول: مفهوم موافقة أولوي:
وهو ما كان أولى من المنطوق به من المعاني المسكوت عنها.
ومثاله: قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فالمنطوق هو حكم التأفيف، والذي يفهم منه وهو المسكوت عنه تحريم الضرب من باب أولى؛ لأنه أشد في الإيذاء من التأفيف.
* الثاني: مفهوم موافقة مساوي:
وهو ما كان مساويا للمنطوق به من المعاني المسكوت عنها.
مثاله: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] فالمنطوق به أكل مال اليتيم، ويفهم من ذلك أن ما عدا الأكل يأخذ حكمه في التحريم أيضاً، كما لو شرب ماء اليتيم أو استهلكه بأي طريق؛ لأنه مساوٍ له في الإتلاف.
أو بمفهوم المخالفة إذا خالف المنطوق في حكمه لكون المنطوق وصف بوصف أو شُرط فيه شرط إذا تخلف ذلك الوصف أو الشرط، تخلف الحكم).
ومفهوم الموافقة حجة عند جميع الأئمة، وخالف فيه الظاهرية ولا يلتفت إلى خلافهم.
قوله: (أو بمفهوم المخالفة إذا خالف المنطوق في حكمه):
شرع المؤلف رحمه الله في بيان مفهوم المخالفة وأنواعه، ومفهوم المخالفة: هو ما خالف المسكوت عنه المنطوق به في الحكم.
ومفهوم المخالفة يقسمه العلماء إلى ستة أقسام:
* الأول: مفهوم الوصف: وهو ما يفهم من تخصيص الحكم بوصف.
ويقصد به: ما هو أعم من النعت عند النحاة، فيشمل النعت، والحال، والجار والمجرور، والظرف، والتمييز.
ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة»
(1)
.
قوله: (سائمة): هذا وصف، والمراد به أنها ترعى المباح أكثر الحول، ويفهم منه مفهوم مخالفة وهو أن الأربعين التي ليست سائمة فلا تجب فيها الزكاة.
* الثاني: مفهوم الشرط: وهو ما يفهم من تخصيص الحكم بشرط.
مثاله: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].
(1)
أخرجه البخاري (1454).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله: (وإن كنّ): هذا شرط، ويفهم منه أنّ المرأة إذا طلقت طلاقاً بائناً وليست حاملاً أنه لا نفقة لها.
* الثالث: مفهوم العدد: وهو ما يفهم من تعليق الحكم على عدد مخصوص.
مثاله: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
ويفهم منه أن ما دون الثمانين لا يحصل به إقامة الحد.
* الرابع: مفهوم الغاية: وهو ما يفهم من مد الحكم إلى غاية بإحدى أدوات الغاية وهي: (إلى، حتى، اللام).
ومثاله: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
قوله: (فإن طلقها): بمعنى طلقها الطلقة الثالثة، فجعل الله غاية الحل للزوج الأول أن تنكح الزوجة زوجاً غيره.
* الخامس: مفهوم التقسيم: وهو ما يفهم من تقسيم المحكوم عليه قسمين فأكثر، وتخصيص كل منهما بحكم.
ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن»
(1)
.
ويفهم من هذا أن هناك فرقاً بين الثيب والبكر، وهو أن الثيب لابد أن
(1)
أخرجه مسلم (1421).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تستأذن ولابد أن تنطق، وأن البكر لابد من رضاها دون اشتراط نطقها.
* السادس: مفهوم اللقب: وهو ما يفهم من تخصيص الاسم المجرد بالحكم من نفي الحكم عما عداه.
وسواء أكان الاسم لإنسان أو حيوان، اسم علم أم اسم جنس.
وهذا القسم ضعيف عند الأصوليين ولا تقوم به حجة؛ لأن الاسم لا يشعر بالتعليل، ولهذا لا يدل ذكره على نفي الحكم عن غيره.
مثاله: ما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء»
(1)
.
ويفهم من هذا الحديث أن الربا لا يكون إلا في هذه الأصناف الستة.
فرع: حكم مفهوم المخالفة:
القول الأول: مفهوم المخالفة بأنواعه الخمسة الأولى حجة عند الجمهور، مع اختلافهم في قوة كل نوع من أنواعه.
واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
1 قوله صلى الله عليه وسلم: «وسأزيده على السبعين»
(2)
بعد أن نزل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة 80].
(1)
أخرجه مسلم (1587).
(2)
أخرجه البخاري (4670).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم من النص على السبعين أن ما زاد عنها قد يكون حكمه مختلفا عن المقتصر على هذا العدد.
2 أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من تخصيص الوصف بالذكر انتفاء الحكم عما خلا عنه، ويدل على ذلك وقائع منها:
ما روى يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ألم يقل الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»
(1)
.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة الكلب الأسود» ، قال عبد الله بن الصامت لأبي ذر: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: «الكلب الأسود شيطان»
(2)
.
3 ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة، فإذا لم نعلم فائدة غير انتفاء الحكم عما عداه جعلنا التخصيص دالا على ذلك.
القول الثاني: عدم حجية مفهوم المخالفة مطلقا، وذهب أكثر الحنفية إلى ذلك؛ وقالوا لأن القرآن والسنة مليئان بالنصوص التي فيها تعليق الحكم على وصف أو عدد أو غاية، ولا يكون نفي الحكم عما سوى المذكور مرادا باتفاق الصحابة.
(1)
رواه مسلم برقم (686).
(2)
رواه مسلم برقم (952).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] ولا خلاف في تحريم الربيبة وإن لم تكن في الحجر.
ومن ذلك: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ولا خلاف في جواز القصر للمسافر وإن لم يكن خائفا.
وأجيب: بأن تلك المواضع لم تتوافر فيها شروط الاحتجاج الآتي ذكرها.
* شروط العمل بالمفهوم:
يشترط للعمل بالمفهوم شروط، أهمها:
1 أن لا يكون تخصيص المذكور بالذكر جرى مجرى الغالب، فإن كان كذلك فلا يحتج به.
ومثاله: قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] فوصف الربائب بكونهن في الحجور جرى مجرى الغالب؛ إذ الغالب أن تكون بنت الزوجة مع أمها عند زوجها الثاني.
وإنما اشترطوا ذلك؛ لأن ما جرى مجرى الغالب يكون حاضرا في الذهن عند التكلم فيذكره في كلامه ولا يقصد نفي الحكم عما عداه.
2 أن لا يكون حكم المذكور جاء لكونه مسؤولا عنه، أو بيانا لحكم واقعة، فإن سئل عنه فرتب الحكم عليه، أو كان أمرا واقعا جاء بيان حكمه على صفته التي هو عليها، لم يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثلوا لذلك بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فإنه لا يدل على جواز أكل الربا إذا كان قليلا؛ لأن الآية بيان لحكم أمر واقع.
3 أن لا يكون المذكور في اللفظ قد سبق ذكره حتى يكون معهودا، فإن كان معهودا فلا يدل ذكره على قصر الحكم عما عداه، وهو أعم من الذي قبله؛ لأن المسؤول عنه معهود لسبق ذكره.
وهذه الشروط التي ذكروها كلها ترجع إلى شرط واحد: وهو أن لا يظهر لتخصيص المذكور بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم عما لم يشاركه في الصفة المذكورة
(1)
.
* * *
(1)
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 384.
(والدلالة من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام:
دلالة مطابقة: إذا طبقنا اللفظ على جميع المعنى،
ودلالة تضمن: إذا استدللنا باللفظ على بعض معناه،
ودلالة التزام: إذا استدللنا بلفظ الكتاب والسنة ومعناهما على توابع ذلك ومتمماته وشروطه، وما لا يتم ذلك المحكوم فيه أو المخبر عنه إلا به).
قوله: (والدلالة
…
).
شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان الدلالة وأقسامها.
تعريف الدلالة:
الدلالة لغة: بكسر الدال وفتحها، والفتح أحسن، وهي فهم المعنى من اللفظ، والمراد هنا الدلالة اللفظية.
وهي ثلاثة أقسام:
* الأول: دلالة مطابقة:
وهي دلالة اللفظ على جميع معناه الذي وضع له.
* الثاني: دلالة التضمن:
وهي دلالة اللفظ على جزء من مسماه.
* الثالث: دلالة التزام:
وهي دلالة اللفظ على أمرٍ خارجٍ عن المسمى لكنه لازم له.
ومثال ذلك: قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} : دلّ دلالة مطابقة وتضمن والتزام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فقوله: {خَالِقُ} : دلّ دلالة مطابقة على صفة الخلق وصفة الذات جميعاً، ودل دلالة تضمن على صفة الخلق وحدها، وعلى صفة الذات وحدها، ودل دلالة التزام على صفة العلم والقدرة؛ لأن الخلق لا يكون إلا عن وقدرة، وعلى هذا فقس.
مثال آخر: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] دل دلالة مطابقة على جميع أفعال الصلاة وأقوالها، ودل دلالة تضمن على فعل الركوع وحده مثلا، أو التسبيح وحده مثلا، ودل دلالة التزام على أمر خارج عن الصلاة وهو شروطها من رفع الحدث واستقبال القبلة وغير ذلك، إذ إن إقامة الصلاة لا تتحقق إلا بهذا.
واعلم أن أقسام الدلالة من قسم المنطوق وهي على قسمين:
* الأول: المنطوق الصريح:
وهو دلالة المطابقة ودلالة التضمن.
* الثاني: المنطوق غير الصريح:
وهو دلالة الالتزام، وهي ثلاثة أنواع:
أ دلالة الاقتضاء:
وهي دلالة الكلام على معنى غير موجود لا يستقيم الكلام إلا بتقديره.
ومثاله: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي أن السياق يقتضي تقدير كلمة فأفطر فعدة من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أيام أخر؛ لأن القضاء لا يلزم بمجرد المرض أو السفر بل لابد من الفطر.
ب دلالة الإيماء والتنبيه:
وهو فهم التعليل من ترتيب الحكم على الوصف المناسب.
مثاله: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فهذا يدل على أن العلة السرقة؛ لأن الله رتب الحكم بالفاء على وصف مناسب وهو السرقة، وهذا يومئ إلى العلة وينبه عليها، ولذا سماه بعضهم الإيماء أو التنبيه إلى العلة.
ومثاله: قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] والمراد إن الأبرار لبرهم لفي نعيم.
ج دلالة الإشارة:
وهي أن يدل اللفظ على معنى ليس مقصوداً في الأصل، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام من أجله.
ومثاله: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فإن الآية دلت على إباحة إتيان الزوجة ليلة الصيام، في أي وقتٍ من الليل إلى آخر جزءٍ منه.
ويستفاد من ذلك: صحة صوم من أصبح جنباً، فإن امتداد الإباحة إلى آخر جزء من الليل يستلزم أن الصائم قد يصبح جنباً، وهذا المعنى غير مقصود من سياق الآية، فتكون دلالتها عليه بالإشارة.
فصل
(أصول يضطر إليها الفقيه)
(الأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها للوجوب،
شرع المؤلف رحمه الله في مباحث الأمر والنهي وهي من المباحث التي أولاها الأصوليون بحثاً وأطالوا في ذلك؛ لأن الأوامر والنواهي مناط التكليف، ولشرف المأمور به قدم الأمر على النهي.
قوله: (والأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها للوجوب):
الأمر تحته عدد من المسائل:
* المسألة الأولى: تعريف الأمر:
الأمر في اللغة: الحال أو الشأن قولاً كان أو فعلاً، كقوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} .
وأما في الاصطلاح: هو استدعاء العمل بالقول ممن هو دونه على وجه الاستعلاء.
قولنا: (العمل): يشمل القول والفعل، فأما القول فكما في قوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وأما الفعل كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
وقولنا: (بالقول) يخرج الفعل كالإشارة والكتابة، والجمهور: لا يسمى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفعل أمراً إلا مع القرينة.
ولهذا فإن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم المجردة لا تكون بمثابة الأمر، إلا إذا دل الدليل على وجوب متابعته فيها.
وقولنا: (ممن هو دونه): يخرج استدعاء العمل ممن هو مساوٍ له، فهذا لا يسمى أمراً وإنما يسمى التماساً، ويخرج استدعاء العمل من الأدنى إلى الأعلى، فهذا لا يسمى أمراً وإنما يسمى دعاءً.
* المسألة الثانية: اقتضاء الأمر الوجوب.
الأصل في أوامر الكتاب والسنة المطلقة المجردة عن القرائن أنها تقتضي الوجوب، كما هو قول جمهور أهل العلم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«أمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب»
(1)
.
والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1 قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
فالله جلَّ وعلا توعد المخالفين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة وهي الزيغ أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب، فدل ذلك على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المطلق يقتضي الوجوب.
2 ولقوله تعالى على لسان موسى مخاطبا أخاه هارون: {أَفَعَصَيْتَ
(1)
«مجموع الفتاوى» 22/ 529.
إلا إذا دل الدليل على الاستحباب، أو الإباحة
أَمْرِي} [طه: 93]، مع قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14].
فالآية الأولى جعلت مخالفة الأمر معصية، والآية الثانية جعلت المعصية سبباً لدخول جهنم.
3 ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»
(1)
.
وجه الدلالة من الحديث: لما كان الأمر تتعلق به المشقة دل على الوجوب، ولو كان الأمر للاستحباب لم يكن هناك مشقة.
4 ومن ذلك: إجماع الصحابة على الاستدلال بالأمر على الوجوب في وقائع متعددة.
قوله: (إلا إذا دل الدليل على الاستحباب):
فإذا دل الدليل على الاستحباب فإنه يحمل عليه، ومثاله سيأتي قريبًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قوله: (أو الإباحة):
ومثال ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
هذا أمر من الله عز وجل بالصيد بعد الحل من النسك، ولكن الصارف له من الوجوب إلى الإباحة هو الإجماع؛ فإن المسلمين مجمعون على أن الصيد مباح.
(1)
أخرجه البخاري (887)، ومسلم (252).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فرع: ذكر المؤلف رحمه الله النص الصارف من الوجوب إلى الاستحباب، والصوارف ثلاثة:
* الأول: أن يدل الدليل على أن المراد بهذا الأمر الاستحباب ولا يراد به الوجوب وهذا له أمثلة منها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال»
(1)
.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من هذه الأربع، ووجد الصارف الذي يدل على أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع أنه للاستحباب وليس للوجوب وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر التشهد الأول قال:«ثم لْيَتَخيّر من الدعاء أعجبه»
(2)
أي أعجب الدعاء إليه فدل على أن الاستعاذة بالله من هذه الأربع لا تتعين.
* الصارف الثاني: الإجماع قد يُجمع العلماء رحمهم الله على أن هذا الأمر لا يراد به الوجوب.
ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] هذا أمر ومع ذلك العلماء رحمهم الله مجمعون على أن الإنسان إذا حلّ من إحرامه لا يجب عليه أن يصطاد.
(1)
أخرجه مسلم رقم (588).
(2)
أخرجه البخاري رقم (835)، ومسلم (402).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* الصارف الثالث: إذا علمنا أن هذا الأمر، أو أن هذا النهي يُقصد به الإرشاد والأدب فإن هذا الأمر لا يقتضي الوجوب، والنهي لا يقتضي التحريم اللهم إلا إذا قامت قرينة تدل على أنه يقصد به الوجوب، أو يقصد به التحريم فإنه يبقى على الأصل، وأن الأمر للوجوب والنهي للتحريم، ومن الأمثلة على ذلك:
المثال الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأتم أو لبستم فابدؤوا بميامنكم»
(1)
فإذا توضأ الإنسان، أو لبس فقد أمره أن يبدأ بيمينه لكن هذا على سبيل الإرشاد والأدب ولذلك حمله العلماء على الاستحباب.
المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تخلف عن الصلاة وأناب أبا بكر رضي الله عنه، وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة من مرضه فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه أبو بكر أراد أن يتأخر لكي يقوم النبي صلى الله عليه وسلم من مقامه فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمكث فلم يمكث أبو بكر
(2)
؛ لأن أبا بكر علم من إشارة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس للإلزام وإنما أراد بذلك الإكرام، فدل ذلك على أن الشيء إذا قُصد به الأدب والإكرام والإرشاد أنه لا يقتضي الوجوب، لكن إذا دلت القرائن على أن الشارع أراد بهذا الأمر الوجوب، أو النهي التحريم حتى ولو كان على سبيل الإرشاد والإكرام فإنه يبقى على الأصل.
(1)
أخرجه أبو داود رقم (4141) وابن ماجه رقم (402)، وابن خزيمة (1/ 91)، وقال ابن الصلاح والنووي حديث حسن وإسناده جيد، وقال ابن دقيق العيد هو حقيق بأن يصحح، وصححه ابن الملقن البدر المنير (3/ 418).
(2)
أخرجه البخاري رقم (683)، ومسلم (418).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن الأمثلة على ذلك:
أن الشارع أمر بالأكل باليمين، ونهى عن الأكل بالشمال وهذا من باب الإرشاد والأدب قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»
(1)
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل والشرب باليمين ونهى عن الأكل والشرب بالشمال وأخبر أن الشيطان يأكل ويشرب بشماله، هذا الأمر حسب ما ذكرنا أنه إذا قصد به الإرشاد والأدب يُحمل على الاستحباب لكن دلت قرينة على أن المراد به الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، ونحن منهيون عن اتباع خطوات الشيطان وموافقته؛ لأنه عدوٌ لنا فلا يكون إمامًا لنا.
(1)
أخرجه مسلم رقم (2020).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* المسألة الثالثة: للأمر صيغة خاصة.
عامة السلف على أن الأمر له صيغة خاصة وهي افعل للحاضر، وليفعل للغائب، وقد عد الأصوليون من صيغه:
1 فعل الأمر، مثل:«صلوا كما رأيتموني أصلي»
(1)
.
2 المضارع المقرون بلام الأمر، مثل:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].
3 المصدر النائب عن فعل الأمر، مثل:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] أي: فاضربوا الرقاب.
4 اسم فعل الأمر، مثل: صه، بمعنى: اسكت.
والخبر قد يأتي بمعنى الأمر، ومن أمثلته قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
فهذان الخبران يقصد بهما الأمر، فكأنه قال: المطلقات مأمورات بالانتظار ثلاثة قروء قبل زواجهن، وأولات الأحمال مأمورات بالانتظار حتى يضعن حملهن.
وعند بعض أهل البدع كالأشعرية: أن الأمر ليس له صيغة خاصة، وهذا يبنونه على أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، ويتوصلون بذلك إلى إنكار صفة كلام الله عز وجل.
* المسألة الرابعة:
اقتضاء الأمر المطلق للفورية، وتأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
* المسألة الخامسة:
دلالة الأمر على التكرار، وتأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
* المسألة السادسة:
الأمر بالشيء نهي عن ضده، وتأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
* المسألة السابعة:
الأمر بعد الحظر، وتأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
(1)
سبق تخريجه.
والأصل في النواهي أنها للتحريم، إلا إذا دلّ الدليل على الكراهة).
قال: (والأصل في النواهي أنها للتحريم إلا إذا دل الدليل على الكراهة).
والنهي تحته مسائل:
* المسألة الأولى: تعريفه:
النهي في اللغة: المنع، وطلب الترك.
وأما في الاصطلاح: استدعاء ترك العمل بالقول ممن هو دونه.
قولنا: (استدعاء ترك العمل):
أي: طلب ترك الفعل أو القول، فيدخل في ذلك المكروه والمحروم.
وقولنا: (بالقول):
يخرج الفعل كالإشارة والكتابة، والجمهور: لا يسمى الفعل نهيا إلا مع القرينة.
وقولنا: (ممن هو دونه):
يخرج طلب الترك ممن هو أعلى منه وهذا يسمى دعاء، ويخرج طلب الترك ممن هو مساوٍ وهذا يسمَّى التماسًا.
* المسألة الثانية: صيغة النهي.
للنهي صيغة واحدة متفق على كونها تفيد النهي، وهي صيغة:(لا تفعل)، كقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وزاد بعضهم صيغتي: (انته) و (اكفف)، ونحوهما من الأوامر الدالة على الترك.
قوله: (والأصل في النواهي أنها للتحريم إلا إذا دل الدليل على الكراهة).
* المسألة الثالثة:
أن الأصل في النواهي أنها للتحريم إلا إذا وُجد دليل يدل على الكراهة، والدليل على ذلك:
1 قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
ووجه الدلالة: أن الله أمر بالانتهاء عما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر يقتضي الإيجاب كما سبق.
2 قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»
(1)
، فهذا الحديث فيه الأمر بالانتهاء عما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير استثناء، والأمر للوجوب.
3 أن صيغة (لا تفعل) تقتضي ترك الفعل والامتناع عنه، والامتناع أبداً لا يحصل إلا بالتحريم.
4 أن أهل اللغة لا يفهمون من الصيغة عند الإطلاق إلا المنع الجازم، ولهذا إذا قال السيد لعبده: لا تفعل كذا ثم فعله، استحق العقوبة، والقرآن
(1)
أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والسنة جاءا بلغة العرب.
5 أن الصحابة فهموا من النهي المطلق التحريم، فإذا روي لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء عدوه محرماً سواء أصحبته قرينة تدل على التحريم أم لا.
6 أن كثيراً من النواهي رُتب عليها عقوبات شرعية متنوعة مما يدل على أن الأصل في النهي التحريم، فمن ذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69].
ومنه كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن»
(1)
.
قوله: (إلا إذا دلّ الدليل على الكراهة).
بمعنى أنه لا يخرج عن أصل التحريم إلا إذا كان هناك دليل يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، ومن أمثلة ذلك أن الشارع نهى عن أكل الثوم والبصل ودل الدليل على أن هذا النهي ليس للتحريم إنما للكراهة، وذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر أكل هذه البقول وأكلت بحضرته ولم ينكر ذلك، فدل ذلك على أن النهي فيها ليس على سبيل التحريم إنما على سبيل الكراهة.
(1)
أخرجه البخاري (6772)، ومسلم (100).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والصوارف ثلاثة كما تقدم في الأمر من الوجوب إلى الاستحباب: النص، والإجماع، والإرشاد والأدب، وتقدم بيان ذلك قريبا.
ومن أمثلة ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يشرب الرجل قائمًا»
(1)
وشرِبَ النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا
(2)
فدل ذلك على أن النهي هنا لا يدل على التحريم وإنما يدل على الكراهة.
* المسألة الثالثة: النهي عن الشيء يقتضي تحريم كل جزء منه:
النهي عن الشيء نهيٌ عنه وعن جميع أجزائه، كما أن الأمر بالشيء أمرٌ به وبكل جزء منه مع الاستطاعة.
مثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
…
} [البقرة: 196].
فنهى الشارع المحرم أن يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله أي وقت حلوله وهو يوم عيد النحر، وهذا النهي شاملٌ لكل الرأس، كما أنه شامل لكل فردٍ من أفراد الرأس، فلا يجوز للمحرم أن يأخذ ولا شعرة من شعرات رأسه حتى يتحلل التحلل الأول.
ومن ذلك أيضاً: أن الشارع نهى عن شرب الخمر، فيحرم على الإنسان أن يشرب الخمر سواء كان مسكراً أو غير مسكر، حتى ولو شرب
(1)
أخرجه مسلم رقم (2024).
(2)
أخرجه البخاري رقم (5615).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نقطة واحدة فإنه محرم ويترتب عليه الحد.
ومن ذلك أيضاً: النظر المحرم فإنه يشمل النظر سواء كان عن طريق مباشر أو غير مباشر، كما لو نظر إلى صورة وغير ذلك.
* المسألة الرابعة:
اقتضاء النهي الفساد، وتأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
* المسألة الخامسة:
اقتضاء النهي الفورية، وتأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
* المسألة السادسة:
النهي عن الشيء أمر بضده، وتأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
* * *
(والأصل في الكلام الحقيقة فلا يعدل به إلى المجاز إن قلنا به، إلا إذا تعذرت الحقيقة،
قوله: (والأصل
…
).
والحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له.
والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.
والأصل في الكلام الحقيقة كما ذكره المؤلف.
وقوله: (إن قلنا به): فيه إشارة إلى الخلاف في إثبات المجاز.
وهنا مسألة: وهي هل في اللغة العربية مجاز أو ليس فيها مجاز
(1)
؟
اختلف العلماء في إثبات المجاز على ثلاثة أقوال:
* القول الأول: وهو قول الجمهور، قالوا بوجوده في اللغة والقرآن والسنة، ويدل على ذلك قول الله عز وجل:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} .
وقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .
وقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} وهذا مجاز؛ لأنه استعمال للفظ في غير موضعه.
ومثال ذلك: لفظ الدابة هي في الحقيقة اسم لكل ما يدب على الأرض، وفي المجاز هي اسم لما يركب من ذوات الأربع.
ومثاله أيضاً: لفظ الغائط في حقيقته هو اسمٌ للمنخفض من الأرض، وفي المجاز هو اسمٌ للخارج المستقذر من الإنسان.
(1)
وهذه المسألة كبيرة جداً وتكلم عليها العلماء وألفوا فيها رسائل ومؤلفات مستقلة.
والحقائق ثلاث: شرعية ولغوية وعرفية).
* والقول الثاني: نفي وقوع المجاز في اللغة والشرع، وبه قال أبو علي الفارسي، وأبو إسحاق الإسفراييني
وابن تيمية وابن القيم، وإنما يعرف المراد من اللفظ من خلال القرائن ودلالات الأحوال، بدليل:
1 أن المجاز لم يعرفه السلف فهو مصطلح حادث.
2 ولأنه يجوز نفيه فيلزم على القول به جواز نفي الكتاب والسنة، وجواز نفي صفات الله بدعوى مجازيتها.
* والقول الثالث: يوجد المجاز في اللغة ولا يوجد في الكتاب والسنة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال ابن خويز منداد، وابن فورك، وابن القاص، لما تقدم من الأدلة.
قوله: (والحقائق ثلاث: شرعية ولغوية وعرفية).
قسم العلماء رحمهم الله الحقيقة إلى ثلاثة أقسام:
1 الحقيقة الشرعية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له شرعاً.
2 الحقيقة اللغوية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له لغة.
3 الحقيقة العرفية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له عرفاً.
واختلف العلماء رحمهم الله في أي الحقائق الثلاث أحق بالتقديم؟
فقدم بعضهم الحقيقة الشرعية، وقدّم بعضهم الحقيقة اللغوية، وقدّم بعضهم الحقيقة العرفية.
والأقرب في ذلك أن يقال: إن هذه المسألة تنقسم إلى أقسام:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* القسم الأول: إذا كان الأمر متعلقاً بالعبادات؛ فإننا نقدم الحقيقة الشرعية؛ لأن هذا هو المتبادر من مراد الشارع، فمثلاً: لو أن شخصاً حلف وقال: والله لأصلينّ هذا اليوم، فمتى يبر بيمينه؟
نقول: إن الصلاة لها حقيقة شرعية وحقيقة لغوية، وحقيقة الصلاة الشرعية هي التعبد لله سبحانه وتعالى بأقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، وأما حقيقتها اللغوية فهي الدعاء، وعلى ذلك فأيهما نقدم؟
فنقدم الحقيقة الشرعية، فلا يبر بيمينه حتى يصلي صلاة شرعية مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم مستكملة لشروطها وأركانها، وأقل الصلاة ركعتان، إلا إذا كان هناك سبب أو نية أو عرف، فإذا كانت نيته بالصلاة الدعاء فالنية مقدمة.
ومن أمثلة ذلك: لو قال: والله لأصومن هذا الشهر، فالصيام له حقيقة شرعية وحقيقة لغوية، والحقيقة الشرعية هي الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وحقيقته اللغوية هي مجرد الإمساك، فأيهما يقدم؟
نقدم الحقيقة الشرعية، فلا يبر بيمينه حتى يصوم صوماً صحيحاً عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إلا إذا كان هناك سبب أو نية أو عرف.
ومن أمثلته كذلك: لو قال قائل: والله لأعتمرن، العمرة لها حقيقة شرعية وأخرى لغوية، والحقيقة الشرعية هي زيارة مكة وأداء مناسك العمرة، والحقيقة اللغوية هي مجرد الزيارة، فمتى يبر بيمينه؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والجواب: إذا أدى مناسك العمرة فإنه يكون قد برَّ بيمينه؛ لأن الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية.
* القسم الثاني: إذا كان الأمر متعلقاً بالعقود فإننا نقدم الحقيقة الشرعية.
مثال ذلك: لو قال: والله لأبيعن هذا اليوم، البيع له حقيقتان حقيقة شرعية وحقيقة لغوية، الحقيقة الشرعية: هي مبادلة مال بمال باستكمال شروطه الشرعية، والحقيقة اللغوية هي مطلق المبادلة، فمتى يعتبر باراً بيمينه؟
الجواب عن ذلك: لا يبر بيمينه حتى يعقد عقد بيع صحيح، فلو عقد عقد بيع فاسد لا يكون باراً بيمينه.
* القسم الثالث: إذا كان الأمر متعلقاً بالأعيان أو الأقوال أو الأفعال؛ فإننا نقدم الحقيقة اللغوية، وعلى هذا فإنه لو حلف شخص على عينٍ من الأعيان أو على قول من الأقوال أو على فعل من الأفعال؛ فإننا نرجع إلى حقيقة ذلك في اللغة.
مثال ذلك: لو حلف على فاكهة حلف على عين من الأعيان أو حلف أن يأكل لحماً، أو أن يقول قولاً من الأقوال، أو حلف على فعل شيء كأن يركب أو يسافر، فما هو المقدم في هذه المسائل؟
الجواب: نرجع إلى حقيقة ذلك اللغوية ما لم يكن هناك سبب أو نية أو عرف، فإذا كان هناك عرف فإنا نرجع إلى الحقيقة العرفية ونقدمها على الحقيقة اللغوية؛ لأن الحقيقة العرفية أصبحت كالمهجورة، لكن إذا لم يكن هناك عرف فإننا نقدم الحقيقة اللغوية.
فما حكم به الشارع وحده، وجب الرجوع فيه إلى الحد الشرعي.
وماحكم به ولم يحده اكتفاءً بظهور معناه اللغوي، وجب الرجوع فيه إلى اللغة.
ومالم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة، رجع فيه إلى عادة الناس وعرفهم.
وقد يصرح الشارع بإرجاع هذه الأمور إلى العرف، كالأمر بالمعروف والمعاشرة بالمعروف ونحوهما، فاحفظ هذه الأصول التي يضطر إليها الفقيه في كل تصرفاته الفقهية.
قوله: (فما حكم به الشارع
…
).
هذا فيما لم يرد له حد في الشرع؛ لأن ما حكم به الشارع ينقسم إلى قسمين:
* القسم الأول: أن يضع الشارع له حداً.
* القسم الثاني: أن يتركه الشارع مطلقا.
فإن ما كان من قبيل القسم الأول؛ فإننا نرجع فيه إلى حد الشارع.
مثال ذلك: الصلاة، فإن الشارع قد حد لها حداً، وذلك بالقيام المعروف والقراءة والركوع والسجود ونحو ذلك، فهذا يجب الرجوع فيه إلى حد الشارع.
ومن ذلك الصيام، فإن الشارع قد حده بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، فما حده الشارع وبينه وفسره فإننا نرجع فيه إلى حد الشارع.
وأما ما كان من قبيل القسم الثاني فإننا نرجع فيه إلى العرف؛ وذلك
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأن من القواعد الخمس الكلية التي يدور عليها الفقه قاعدة العرف أو «العادة محكمة» .
ومن ذلك: صلة الرحم، فصلة الرحم أوجبها الله عز وجل بقوله:{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38].
وقال: «لا يدخل الجنة قاطع رحم»
(1)
، لكن لم يحد الشارع صلة الرحم، فنرجع في تحديدها إلى العرف، فيمن تجب صلته ومن لا تجب صلته، وبما تكون الصلة وقدرها إلى آخره.
ومن ذلك أيضاً: عشرة الزوجة، فإن الشارع لم يحدها، وإنما أرجعها إلى العرف وذلك بقوله تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وعلى ذلك فإنه يجب على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، وأن يقوم بالحقوق الواجبة عليه لهذه الزوجة وفق العرف.
ومن ذلك أيضاً: الحرز مكان حفظ المال في السرقة، وهذا أيضاً لم يحده الشارع، فيختلف باختلاف الأموال والبلدان وقوة السلطان وضعفه.
(1)
أخرجه البخاري رقم: (5984)، ومسلم رقم:(2556).
فصل دلالة نصوص الوحيين
ونصوص الكتاب والسنة:
منها: عام، وهو اللفظ الشامل لأجناس أو أنواع أو أفراد كثيرة، وذلك أكثر النصوص.
قوله: (منها: عام
…
).
العموم نوع من أنواع دلالات الألفاظ التي ينبغي للفقيه العناية بها، وقد تقدم أن المؤلف رحمه الله ذكر شيئاً من دلالات الألفاظ، فذكر الأمر والنهي والمنطوق والمفهوم
…
إلخ، ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالعموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين.
أما
دلالة العام
فإن تحتها عدد من المباحث:
*
المبحث الأول: تعريفه لغةً واصطلاحاً:
العام في اللغة: هو الشامل.
وفي الاصطلاح عرفه المؤلف رحمه الله بقوله: (هو اللفظ الشامل لأجناس، أو أنواع، أو أفراد كثيرة).
ومثال الأجناس: الناس في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا .... } [النساء: 1].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثال الأنواع: الرجال في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34].
ومثال الأفراد: المسلمون في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35].
والأحسن أن يقال في تعريفه: هو اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.
فقولنا: (اللفظ): خرج بذلك الفعل والإشارة.
وقولنا: (المستغرق): يخرج ما ليس مستغرقاً كالعلَم مثل: محمد، وصالح، والنكرة في سياق الإثبات مثل: قول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] فهذه ليست مستغرقة.
وقولنا: (بلا حصر): يخرج ألفاظ العدد فإنها مستغرقة لكن مع الحصر مثل: مائة، مائتان، ثلاثمائة، ألف، ألفان.
*
المبحث الثاني: أقسام العام:
ينقسم العام إلى عدة أقسام:
القسم الأول: باعتبار ما فوقه وما تحته وهو نوعان:
الأول: عام مطلق مثل: المعلوم، فإنه يدخل فيه الموجود والمستحيل.
الثاني: عام نسبي، مثل: الحيوان فإنه لا يشمل كل شيء فلا يدخل فيه الجماد.
القسم الثاني: باعتبار عمومه وعدمه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وينقسم إلى:
1 عام أريد به العموم قطعاً ولا يدخله التخصيص، كقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176].
2 عام يراد به العموم ويدخله التخصيص، وهو المسمى بالعام المطلق أي الذي لم يقترن به ما يدل على تخصيصه، ولا ما يدل على أنه غير قابل للتخصيص.
3 عام أريد به الخصوص، وهو الذي لفظه عام من حيث الوضع ولكن اقترن به دليل يدل على أنه مراد به بعض مدلوله اللغوي، مثل قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، فلفظ الناس عام ولكنه لم يرد به عموم الناس بدليل قوله:{قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} فدل على وجود أناس جمعوا، وأناس مجموع لهم، وأناس نقلوا الخبر للمجموع لهم، فلفظ الناس تكرر مرتين والمراد في الأولى نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس، والمراد في الثانية أبو سفيان ومن معه من الأحزاب.
* القسم الثالث: باعتبار تخصيصه وهو نوعان:
الأول: عام محفوظ غير مخصص.
ومثاله: قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فهذا عام لم يدخله التخصيص.
الثاني: عام دخله التخصيص.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثاله: قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6].
هذا يشمل كل ما ملكت اليمين لكن خُصّ من ذلك الأختان، فإنه لا يجوز للإنسان أن يجمع بين الأختين في ملك اليمين بالوطء؛ لقوله تعالى عند ذكره المحرمات من النساء: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
…
} [النساء: 23]، ولما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم.
*
المبحث الثالث: صيغ العموم:
ويأتي في آخر الرسالة.
*
المبحث الرابع: العام بعد التخصيص:
العام بعد التخصيص حجة فيما بقي، ولكنه حجة ظنية، اتفق على ذلك رأي الأصوليين والفقهاء من المذاهب الأربعة.
* المبحث الخامس: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويأتي في كلام المؤلف رحمه الله.
ومنها خاص، يدُلُّ على بعض الأجناس أو الأنواع أو الأفراد،
قال رحمه الله: (ومنها خاص، يدُلُّ على بعض الأجناس أو الأنواع أو الأفراد).
وأمثلة ذلك في بعض الأجناس قولنا: هذا إنسان، وفي بعض الأنواع قولنا: هذا رجل، أو هذه امرأة، وفي بعض الأفراد كقولنا: حضر علي.
و
دلالة الخاص
تحتها عدة مباحث:
*
المبحث الأول: تعريفه.
التخصيص في اللغة: الإفراد والتمييز.
واصطلاحاً: هو قصر العام على بعض أفراده لدليل يدل على ذلك.
*
المبحث الثاني: حكمه.
انعقد الإجماع على تخصيص العام بالخاص من حيث الجملة.
*
المبحث الثالث: أقسام التخصيص.
المخصصات عند الأصوليين تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المخصصات المنفصلة:
وهي كل دليل يستقل بنفسه، ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه، وهي أنواع:
1 - الحس.
ومن ذلك: قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25].
ف (كل): من صيغ العموم، لكن الحس خص هذا العموم فهي لم تدمر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السماوات والأرض.
وكقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23].
فهذا خُص بالحس؛ لأن هناك أشياء لم تعط إياه هذه الملكة.
2 - العقل.
وقد اختلف في عد العقل من المخصصات، ومثّل له الأصوليون بقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62].
وقالوا: بأن العقل خصّ صفات الله عز وجل، وصفات الله ليست مخلوقة، وهذا فيه ضعف.
والصحيح: أن هذا ليس من قسم التخصيص، وإنما هذا من العام الذي أريد به الخاص.
ومن أمثلته: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فالعقل اقتضى بنظره عدم دخول الصبي، والمجنون بالتكليف بالحج لعدم فهمهما.
3 - النص:
والتخصيص بالنص له أنواع:
أ تخصيص القرآن بالقرآن:
مثاله: تخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، بقوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فالآية الأولى تفيد أن كل مطلقة عدتها ثلاث حيض، وإذا قيل:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إنها مخصوصة بالآية الثانية فتخرج الحوامل من العموم.
ب تخصيص القرآن بالسنة:
مثاله: تخصيص قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، بما ثبت أنه رجم الزاني المحصن، فيكون مخصوصا من العموم، وهو تخصيص بالفعل.
ومثله تخصيص قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، بما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تتزر فيباشرها وهي حائض
(1)
.
وقد اختلف الأصوليون في تخصيص القرآن بالسنة الآحادية، فذهب الجمهور إلى أنه جائز، وهذا منقول عن الأئمة الأربعة، ومنه: تخصيص آيات المواريث بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر»
(2)
.
ج تخصيص السنة بالسنة:
مثاله: تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون العشر»
(3)
بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»
(4)
، فإن الحديث الأول عام في القليل والكثير، والثاني دل على إخراج القليل الذي لا يبلغ خمسة أوسق عن أن تجب فيه زكاة.
(1)
أخرجه البخاري (300).
(2)
أخرجه البخاري (6764)، ومسلم (1614) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (1483) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
د تخصيص السنة بالقرآن:
مثاله: تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»
(1)
بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فالحديث دل على مقاتلة جميع الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والآية خصصت أهل الكتاب فإنهم لا يقاتلون إذا أعطوا الجزية.
4 المفهوم:
وهو قسمان:
1 - مفهوم الموافقة:
وتقدم تعريفه.
ومثال التخصيص به: تخصيص حديث: «ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته»
(2)
بمفهوم الموافقة في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإن مفهوم الموافقة من الآية: أن الابن لا يجوز أن يؤذي أباه بالشكوى إلى القاضي ولا يحل له عرضه أو معاقبته إذا ماطله في حق له.
2 مفهوم المخالفة:
مثال التخصيص به: تخصيصهم حديث: «الماء طهور لا ينجسه شيء»
(3)
، بمفهوم حديث:«إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث»
(4)
، فمفهوم هذا الحديث: أن الماء إذا لم يبلغ القلتين يحمل
(1)
أخرجه البخاري (25)، ومسلم (36).
(2)
أحمد 29/ 465، وأبو داود (3628)، والنسائي (4689)، وابن ماجه (2427).
(3)
أحمد (17/ 356)، وأبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326).
(4)
أحمد (8/ 211)، وأبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52).
الخبث، أي: يتنجس، ولو لم يتغير طعمه أو ريحه أو لونه.
5 - الإجماع:
ومثال التخصيص به قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] مَخصَّص بالإجماع على أن العبد يُجلد خمسين جلدة على النصف من الحر، ومستند هذا الإجماع هو القياس على الأَمة، حيث ورد النص على أنها تجلد نصف ما على الحرة، فقال تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فقاس العلماء العبد على الأَمة، وأجمعوا على هذا القياس.
6 - القياس:
وهو موضع خلاف، والصواب جواز تخصيص القرآن والسنة بالقياس الجلي دون الخفي، والمراد بالجلي: ما كان بنفي الفارق بين الأصل والفرع، أو منصوصا على علته.
ومثاله: قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] لم يبق على عمومه، حيث من وجب عليه حد في النفس ثم لجأ إلى الحرم فإنه يُقتص منه، ولو كان داخل الحرم، وخصصنا ذلك من عموم الآية السابقة بالقياس، حيث قسناه على من جنى داخل الحرم، فإن قتله جائز أخذًا من قوله تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191].
القسم الثاني: المخصصات المتصلة
فهذه أنواع:
1 - الاستثناء،
وتحته مسائل:
*
المسألة الأولى: تعريفه:
لغةً: مأخوذ من الثني، وهو الرجوع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اصطلاحاً: هو خروج ما لولاه لدخل في الكلام بإلا أو إحدى أخواتها.
*
المسألة الثانية: شروط صحة الاستثناء:
وشروط التخصيص بالاستثناء:
الشرط الأول: أن يبقى شيء بعد الاستثناء، وهذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ أن يبقى بعد الاستثناء الأكثر أو النصف.
حكمه: استثناء صحيح.
مثل: لو قال قائل: رقيقي أحرار إلا زيد.
ومن ذلك أيضاً: لو قال قائل: زوجاتي الأربع طوالق إلا فاطمة وزينب.
ب أن يستثني الكل.
حكمه: أنه استثناء غير صحيح.
مثال ذلك: لو قال قائل: رقيقي الثلاثة أحرار إلا ثلاثة منهم، أو قال: زوجاتي طوالق إلا أربعاً.
وقد حكى الآمدي والزركشي وغيرهما الاتفاق على بطلان الاستثناء المستغرق؛ لأننا لو قلنا بصحته لكان قوله: أحرار، وطوالق ملغى ليس معملاً، والأصل في الكلام إعماله لا إهماله، وليس من كلام العرب ولا يعرفونه، وإنما هو نوع من العبث فلا يحمل عليه كلام العقلاء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما إذا كان الاستثناء من الصفة فيجوز وإن استغرق، ومثاله: عبيدي أحرار إلا من لم يصل الفجر معنا، فتبين أن عبيده كلهم لم يصلوا الفجر معه، فلا يبطل الاستثناء ولا يعتقون، وهذا لا ينافي كلام العرب.
ج أن يبقى الأقل، وهذا موضع خلاف.
مثال ذلك: لو قال قائل: زوجتي طالق ثلاثاً إلا اثنتين.
وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إن هذا لا يصح، وبه قال أكثر الأصوليين؛ وعللوا قولهم بعدم صحته في اللغة العربية.
القول الثاني: إن هذا صحيح؛ واستدلوا على هذا بأن استثناء الأكثر بحيث لا يبقى إلا الأقل وارد في الصفة، فإذا ورد في الصفة فكذلك أيضاً يصح في العدد.
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].
فقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] فيه دليل على استثناء الأكثر؛ لأن الذين اتبعه من الغاوين أكثر من المهتدين، وبناء على ذلك فإن القول الثاني هو القول هو الصواب.
الشرط الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.
وقد اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: إذا اختلف الجنس لا يصح الاستثناء، وهذا ما عليه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جمهور أهل العلم رحمهم الله.
ومثال ذلك: لو قال: له عليّ مائة دينار إلا درهماً؛ لأن الجنس مختلف وعلى هذا لا يصح التخصيص فيلزمه مائة دينار.
القول الثاني: لا يشترط اتحاد الجنس؛ واستدلوا بوروده في قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25 - 26] وورد ذلك في اللغة العربية، ومن ذلك قول الشاعر:
وبلدةٌ ليس بها أنيس
…
إلا اليعافير وإلا العيسُ
فقوله: (إلا اليعافير وإلا العيسُ) هذا ليس من جنس المستثنى منه.
وهذا القول هو الأقرب للصواب.
الشرط الثالث: الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه، فلابد من الاتصال حقيقةً أو حكماً.
حقيقةً: أن يأتي بالمستثنى مباشرة، ومثال ذلك: لو قال قائل: زوجتي طالق ثلاثاً إلا واحدة، فيستثني مباشرة.
حكماً: أي في حكم المتصل، بأن يعرض له عارض من عوارض النطق، كما لو حصل له سعال أو عطاس ونحو ذلك، ومثال ذلك: لو قال قائل: زوجتي طالق ثلاثًا ثم تثاءب أو حصل له سعال أو عطاس ونحو ذلك، ثم قال: إلا واحدة، فقالوا: هذا في حكم المتصل.
واختلفوا في اشتراطه على قولين:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الأول: أن اتصال المستثنى والمستثنى منه شرط، وبه قال جمهور العلماء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير»
(1)
.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الحالف إذا رأى الخير في مخالفة ما حلف عليه أن يكفر عن يمينه ويأتي ما حلف عنه، ولو كان الاستثناء المتأخر صحيحا لأرشده إليه، ولم يرشده إلى التكفير؛ لأن الاستثناء أيسر على المكلفين.
القول الثاني: أن الاتصال ليس شرطاً، وهذا هو الوارد عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير رحمه الله واختلف النقل عنه فقيل: يجيز تأخر الاستثناء شهرا أو شهرين، وقيل: أربعة أشهر، وقيل: إلى سنة، وقيل: مطلقا.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة، وإنما نزلت هذه الآية: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، قال: إذا ذكر استثنى» . وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين
(2)
.
والصواب في ذلك: أنه يشترط الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه، ولو أنه حصل فاصل يسير من كلام أو سكوت فإن هذا لا بأس به ويدل لذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تحريم مكة ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله إلا الإذخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إلا الإذخر»
(3)
.
(1)
رواه مسلم (1650).
(2)
المستدرك للحاكم (4/ 336).
(3)
أخرجه البخاري (112)، ومسلم (447).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن ذلك أيضاً ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح لما قال سليمان: «لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدةٍ منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله» ، فقال الملك:(قل إن شاء الله)، فلم يقل إن شاء الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً له في حاجته»
(1)
.
الشرط الرابع: النية، فلابد أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه.
ومثال ذلك: لو قال قائل: زوجتي طالق ثلاثاً، ثم نوى فقال: إلا واحدة فهذا لا يصح؛ لأنه لو لم ينوه قبل النطق بالمستثنى منه لكان الاستثناء إلغاء لبعض مراد المتكلم، والاستثناء عند أهل اللغة ليس إلغاء، وإنما هو بيان أن الجملة ليست مرادة بكاملها منذ إنشاء الكلام.
والقول الثاني: أن هذا ليس شرطاً؛ بدليل ما تقدم من قول العباس: إلا الإذخر، فقال عليه الصلاة والسلام:«إلا الإذخر» . ويظهر من الحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الاستثناء.
وأيضاً ما ثبت من حديث أبي هريرة السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً له في حاجته» وهو الأقرب.
الشرط الخامس: أن يكون الاستثناء صادراً من المتكلم نفسه.
فإذا كان الاستثناء صادراً من غيره فإنه لا يصح، ومثال ذلك: لو قال قائل: زوجتي طالقٌ ثلاثاً، ثم قال أبوه: إلا واحدة فإنه لا يصح، ولهذا قال الملك لسليمان عليه الصلاة والسلام:(قل إن شاء الله) ولم يستثن الملك.
(1)
أخرجه البخاري (6720)، ومسلم (23).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الشرط السادس: أن يستثني باللفظ إذا صرّح بالعدد.
أما إذا لم يصرح بالعدد فتكفي النية؛ لأن العام يرد في اللغة ويراد به الخاص.
مثال ذلك: لو قال قائل: رقيقي أحرار، وينوي إلا زيداً، فإنه يصح لأنه في اللغة العربية يصح أن يأتي العام ويراد به الخاص.
ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
ومن ذلك أيضاً: لو قال قائل: زوجاتي طوالق وينوي إلا هنداً، فإنه يصح.
أما إذا صرّح بالعدد فإنه لابد من اللفظ ولا تكفي النية؛ لأن العدد نص فلا يرفعه إلا النص، وعلى هذا لو قال قائل: زوجاتي الأربع طوالق وأراد إلا هنداً فإنه لا يصح؛ لأنه نص على العدد، ولا يرفع النص إلا النص؛ لأنه في قوته، والنية أضعف.
*
المسألة الثالثة: إذا تعقّب الاستثناء جملاً.
إذا تعقّب الاستثناء جملاً فهل يعود للجملة الأخيرة أو يعود للجملة كلها؟
لا خلاف في أن الاستثناء المتعقب جملا إذا قامت قرينة تدل على أنه يعود إلى الجميع أو يعود إلى الأخيرة أو غيرها يعمل فيه بالقرينة، وإنما الخلاف فيما خلا عن قرينة تبين عود الاستثناء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
* القول الأول: أنه يعود للجمل كلها، وهو قول جمهور أهل العلم؛ لأن الشرط كالاستثناء في تعلقه بما قبله، والشرط إذا تعقب جملا متعاطفة عاد إلى الكل باتفاق، فيكون الاستثناء كذلك.
* القول الثاني: أنه يعود للجملة الأخيرة، وهو قول الحنفية؛ لأن العموم يثبت في كل صورة بيقين، وعود الاستثناء إلى جميعها مشكوك فيه، والمتيقن لا يرفع بالشك.
ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] اشتملت هذه الآية على ثلاثة أحكام: فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون، ثم بعد ذلك استثنى الله عز وجل الذين تابوا، فهل الاستثناء هنا يعود على الجمل كلها؟
والجواب: أما بالنسبة للجلد فالتوبة ليس لها أثر في إسقاطه، وأما عدم قبول الشهادة ووصفهم بالفسق، فالجمهور على أنهما يرتفعان بالتوبة، وعند الحنفية إنما يرتفع وصف الفسق فقط.
والصواب في ذلك: أنه عائد على الجميع إلا إذا دلت قرينة على أنه متعلق بالأخير.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2 - التخصيص بالشرط.
تعريف الشرط:
لغةً: التزام شيء وإلزامه.
اصطلاحاً: هو تعليق شيء على شيء بإنّ الشرطية أو إحدى أخواتها.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12].
ف (ما): من صيغ العموم يعني كل ما ترك أزواجكم، ولكن قيده بقوله:{إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]، فالشرط خصص حكم العموم بعدم وجود الولد.
3 - التخصيص بالصفة:
ويقصد بها كل معنى يميز بعض المسميات، فيشمل النعت أو الحال أو الظرف أو الجار والمجرور، أو غير ذلك.
مثال النعت: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من اشترى نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع»
(1)
.
(نخلاً): يشمل المؤبر وغير المؤبر، لكنه خص بالمؤبر، فإذا كان مؤبراً يكون للبائع، وإذا لم يكن مؤبراً فيكون للمشتري.
ومثال الحال: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا
(1)
أخرجه أبوداود (3433)، وابن ماجه (2210)، وصححه الألباني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95].
فقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ} : يشمل المتعمد وغيره، لكنه خصصه بحال العمد.
ومثاله في البدل: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
فقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} : بدل.
4 - التخصيص بالغاية:
وهي نهاية الشيء ومنقَطَعُه، ولها لفظان: حتى، إلى.
ومثال التخصيص بالغاية: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة 222].
والفرق بين المخصصات المتصلة والمخصصات المنفصلة:
أن المخصص المنفصل: هو الذي يستقل بنفسه.
وأما المخصص المتصل: هو الذي لا يستقل بنفسه.
* * *
فحيث لا تعارض بين العام والخاص عمل بكلٍ منهما، وحيث ظنّ تعارضهما خص العام بالخاص)
قال رحمه الله: (فحيث لا تعارض بين العام والخاص عمل بكلٍ منهما، وحيث ظنّ تعارضهما خص العام بالخاص).
والمراد من ذلك بيان أن العام مع الخاص لهما حالتان:
* الحالة الأولى: ألا يكون بينهما تعارض.
وهذا إذا ورد الخاص بحكم، والعام بحكم يوافقه، فلا يخصص الخاص العام، بل يعمل بكلٍ منهما لعدم تعارضهما.
مثال ذلك: أكرم الطلبة، ثم تقول: أكرم خالداً، فهذا لا يقتضي التخصيص.
ومن ذلك أيضاً: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»
(1)
.
فهذا نص عام في جميع أنواع الأرض من تراب ورمل وحجر ونحو ذلك وورد في حديث حذيفة: «جعلت تربتها لنا طهوراً»
(2)
.
وعند التأمل نجد أن حديث حذيفة رضي الله عنه خاص بالتراب، وحديث جابر رضي الله عنه عام في جميع أنواع الأرض، إلا أنه لا تعارض بينهما؛ وعليه فلا يخصص حديث حذيفة ما ثبت في حديث جابر رضي الله عنهم، بل يبقى حديث
(1)
أخرجه البخاري (438)، ومسلم (523).
(2)
أخرجه مسلم (522).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جابر على عمومه، فنقول: بجواز التيمم بكل نوع من أنواع الأرض، ويبقى حديث حذيفة على خصوصه؛ لأن التربة فردٌ من أفراد الأرض والحكم فيهما واحد.
وفائدة ذكر الخاص مع دخوله في العام: بيان عدم تخصيصه أو تفخيمه وإثبات مزيته على غيره، حيث أفرد في نص مستقل.
* الحالة الثانية: أن يكون بينهما تعارض في الظاهر.
وذلك إذا كان للخاص حكم يخالف حكم العام، فيخصص العام بالخاص.
مثال ذلك: أكرم الطلبة ثم تقول: لا تكرم خالداً، فهذا يقتضي التخصيص.
والتخصيص: هو إخراج بعض أفراد العام بدليل متصل أو منفصل، وتقدم.
* * *
(ومنها مطلق عن القيود، ومقيد بوصف أو قيد معتبر، فيحمل المطلق على المقيد).
قوله: (ومنها مطلق
…
).
هذا نوع آخر من
أنواع دلالات الألفاظ
وهو
المطلق والمقيد،
وتحته عدد من المباحث:
*
المبحث الأول: تعريف المطلق:
لغةً: هو المنفك عن قيد.
واصطلاحاً: هو اللفظ المتناول لواحدٍ لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه.
أو: الدال على الحقيقة من غير وصف زائد عليها.
قولنا: (لواحد): يخرج العام، وبهذا نعرف الفرق بين العام والمطلق، فالمطلق يراد به واحد، والعام يشمل أكثر من واحد.
وبعض المتقدمين لا يفرقون بينهما، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:«لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق سواء» والفرق بينهما من التعريف كما تقدم، ومن حيث الحكم، فإن المطلق إذا ورد الأمر به لا يتناول جميع الأفراد التي تصلح للدخول تحت اللفظ، بل تحصل براءة الذمة بواحد منها.
أما العام فيشمل جميع الأفراد التي تصلح للدخول تحته، ولا تبرأ الذمة إلا بفعل الجميع.
وقولنا: (لا بعينه): يخرج المعرفة مثل: زيد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولنا: (باعتبار حقيقة شاملة لجنسه): أخرج المشترك والواجب المخير.
والمشترك: هو اتحاد اللفظ وتغير المعنى.
مثل: العين، وهذا يشمل عين الباب والجارية والذهب فهذا مشترك وليس مطلقاً.
والواجب المخير: هو ما خُير فيه المكلف بين أشياء.
مثل: قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فخير الشارع الفاعل بين هذه الأمور الثلاثة فهذا تخيير بين ثلاثة أشياء وليس مطلقاً.
وأما المقيد: فهو اللفظ المتناول لمعينٍ وغير معينٍ موصوفٍ بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه.
مثال ذلك: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3].
فقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} : أي عن رقبة واحدة لكنها مطلقة، فتشمل الرقبة المسلمة والكافرة، والصغيرة والكبيرة، والمريضة والصحيحة، والذكر والأنثى.
وجاء تقييد الرقبة في كفارة القتل بأنها الرقبة المؤمنة {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فوصف الرقبة هنا بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
*
المبحث الثاني: ما يتعلق بحمل المطلق على المقيد:
حمل المطلق على المقيد له أربع حالات:
*
الحال الأولى: أن يتحد الحكم والسبب.
فإذا اتحد الحكم والسبب فإننا نحمل المطلق على المقيد.
ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3].
فجاء الدم مطلقاً في هذه الآية، وجاء تقييده بالمسفوح في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فيحمل المطلق على المقيد لاتحاد الحكم وهو تحريم الدم، فلا يحرم من الدم إلا الدم المسفوح وهو الدم الجاري، وأما غير المسفوح فهو معفو عنه كالذي يوجد في اللحم أو في العروق.
ومثاله أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين»
(1)
.
وقوله في حديث ابن عباس بعرفة: «فليلبس الخفين»
(2)
وليس فيه ذكر للقطع.
فالقاعدة تقتضي أن يحمل المطلق على المقيد باتفاق؛ لاتحاد الحكم
(1)
أخرجه البخاري (134)، ومسلم (1177).
(2)
أخرجه البخاري (1841)، ومسلم (1178).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والسبب، فالحكم هو لبس الخف لمن لم يجد النعل، والسبب هو الإحرام.
*
الحال الثانية: أن يتفق الحكم ويختلف السبب.
ومثال ذلك: قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3].
فجاءت الرقبة في هذه الآية مطلقة لم تقيد بالإيمان، وجاء تقييدها بالإيمان في كفارة القتل:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
فإذا اتفق الحكم واختلف السبب فعند جمهور الأصوليين أنه يحمل المطلق على المقيد، وعلى هذا يشترط أن تكون الرقبة المعتقة مؤمنة، سواء كان ذلك في كفارة القتل أو كفارة الظهار أو كفارة الوطء في نهار رمضان، وأما الحنفية فإنهم لا يشترطون الإيمان.
*
الحال الثالثة: أن يختلف الحكم ويتفق السبب:
ومثال ذلك قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].
وقال أيضاً في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].
فهنا اختلف الحكم واتفق السبب، ففي الآية الأولى صيام شهرين متتابعين والسبب الظهار، وفي الآية الثانية إطعام ستين مسكيناً والسبب هو الظهار، وهنا يتبين لنا أن السبب في الآيتين واحد ولكن الحكم مختلف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أكثر الأصوليين على أنه إذا اختلف الحكم واتفق السبب، فإننا لا نحمل المطلق على المقيد، وعليه فلا نشترط في الإطعام أن يكون متتابعاً، وعلى هذا لو فرق الإنسان، وأطعم اليوم عشرة وغداً خمسة ولم يتابع فإن فعله جائز ولا بأس به.
*
الحال الرابعة: أن يختلف الحكم والسبب جميعاً:
وفي هذه الحال لا يحمل المطلق على المقيد، ومثال ذلك قوله تعالى في كفارة القتل:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92].
وقال تعالى في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].
ففي الآيتين السبب مختلف في الأولى قتل وفي الثانية ظهار، والحكم مختلف في الأولى صيام وفي الثانية إطعام، فلا نقول بأن الإطعام في الظهار يجب أن يكون متتابعاً.
*
المبحث الثالث: حكم المطلق:
يجب العمل به على إطلاقه حتى يثبت تقييده؛ لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها من إطلاق أو تقييد.
ومن ذلك قوله تعالى في المحرَّمات: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، فهذا مطلق لم يقيد بالدخول فيعمل به على إطلاقه، وتحرم أم الزوجة بمجرد العقد على البنت سواء دخل بها أم لم يدخل إذ لم يقم دليل على التقييد.
(ومنها:
مجمل ومبين،
فما أجمله الشارع في موضع وبينه ووضحه في موضعٍ آخر وجب الرجوع فيه إلى بيان الشارع).
قوله: (ومنها مجمل ومبين): أي: ومن نصوص الكتاب والسنة ما هو مجمل ومنها ما هو مبين.
والمجمل في اللغة: هو المبهم، والمجموع.
وأما في الاصطلاح: هو ماله دلالة على معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر.
قولنا: (دلالة): يخرج اللفظ المهمل الذي لا دلالة له ولا معنى يمكن أن يراد به.
قولنا: (معنيين): يخرج النص فالنص ليس له دلالة إلا على معنىً واحد.
قولنا: (لا مزية لأحدهما على الآخر): يخرج الظاهر فإنه يدل على معنيين لكن أحدهما أرجح من الآخر.
وأما المبين في اللغة: المظهر الموضح.
وأما في الاصطلاح: ما يفهم المراد منه إما بأصل الوضع أو بعد التبيين.
و
أسباب الإجمال
ثلاثة:
1 عدم معرفة المراد.
ويزول هذا السبب بتبيين مراد المتكلم، ويدخل في ذلك المشترك وهو تردد اللفظ بين معنيين فأكثر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مثال ذلك: لفظ العين كلمة واحدة ولها معانٍ متعددة، فيطلق هذا اللفظ ويراد به الذهب والعين الجارية والعين الباصرة.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
و (القرء): هذا لفظ مشترك يطلق على الحيض ويطلق على الطهر؛ ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله ما المراد بالقرء؟
* القول الأول: إن القرء هو الحيض، وعلى هذا فإنها تتربص ثلاث حيض، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.
* القول الثاني: إن القرء هو الطهر، وعلى هذا فإنها تتربص ثلاثة أطهار، وهو قول مالك والشافعي.
والصواب في ذلك: هو القول الأول، وأن القرء هو الحيض، وهو قول أكابر الصحابة، وهو الذي دلت عليه الأدلة.
2 عدم معرفة الصفة.
ويزول الإجمال بتبيين الصفة، ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
فإن كيفية إقامة الصلاة مجهولة لم تبينها الآية، ثم بينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن ذلك: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
وهذا الحكم مجمل لم يوضح لنا كيفية الحج وأحكامه، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم لنا الكيفية العملية للحج.
3 عدم معرفة المقدار.
ويزول ذلك بمعرفة المقدار وتفسيره، ومثال ذلك قوله تعالى:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
فإن هذه الآية مجملة لم يبين فيها المقدار المطلوب في الزكاة، ثم جاءت السنة مبينة للمقدار الواجب في الزكاة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر»
(1)
.
وقوله: (فما أجمله الشارع وبينه ووضحه في موضعٍ آخر وجب الرجوع فيه إلى بيان الشارع).
وقول المصنف يدلنا على أمرين:
* الأول: وقوع المجمل في الكتاب والسنة، كما في آيات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، وحكمة ذلك والله أعلم بالنسبة للوضع
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من السماء، رقم:1483.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العربي: تشويق النفس إلى البيان وتشوفها إلى المقصود، فإذا تبين الشيء اتضح ورسخ في الذهن أكثر مما لو ورد اللفظ مبيناً من أول مرة، وأما بالنسبة للحكم الشرعي: فإن سامع المجمل يستعد ويعقد العزم على العمل بالمجمل حتى يحصل بيانه، فيؤجر على نيته وعزمه.
* الثاني: أن المجمل قد حصل بيانه من الشارع، فلم يترك البيان عند الحاجة إليه أبداً، وذلك أن ما يثبت به التكليف العملي ويتصل به الفقه، فإنه يستحيل استمرار الإجمال فيه، فلابد أن يكون الشارع قد بينه، فإن كان البيان وافياً قطعياً انتقل من وصف (المجمل) إلى وصف (المبين)، وإن بينه الشرع ببعض البيان مع بقية خفاء، صار في قسم المشكل فيحتاج إلى نظر واجتهاد لإزالة إشكاله ومعرفة المراد منه، وكأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين فتح الباب للتأمل والاجتهاد لمعرفة المعنى المقصود من ذلك، كالربا فإنه ورد في القرآن مجملاً وبينته السنة النبوية بحديث الأصناف الستة التي يجري فيها الربا، ولكن هذا البيان فيه بقية خفاء لأنه لم يحصر الربا فيها، فجاز الاجتهاد لبيان ما يمكن أن يقاس على الأصناف المنصوص عليها.
* * *
(وقد أُجمل في القرآن كثير من الأحكام وبينتها السنة، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه المبين عن الله.
ونظير هذا: أن منها محكماً ومتشابهاً،
قوله: (وقد أُجمل
…
).
معنى ذلك أن كثيراً من الأحكام الشرعية جاءت مجملة في القرآن، فبينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أو بفعله أو بقوله وفعله كما في الصلاة والصوم والزكاة والحج وغير ذلك، ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم البيان عند الحاجة إليه أبداً، بل ترك الأمة على شريعةٍ بيضاء نقية ليلها كنهارها، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»
(1)
.
تعريف البيان:
البيان في اللغة: الإيضاح والكشف.
والمبيَّن: الموضح.
وفي الاصطلاح: يطلق البيان على الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل، وهو المبيِّن، ويطلق المبيَّن بالفتح على الدليل المحتاج إلى بيان.
وعرف بأنه: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.
(1)
أخرجه أحمد (28/ 367)، وابن ماجه (43).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
*
مسألة: طرق تبيين المجمل:
الأول: قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وسكوته.
الرابع: إشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
الخامس: الترك: والمقصود به أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل الشيء مع قيام الداعي له، كما ترك الوضوء مما مسته النار، مع أنه كان يتوضأ من الأكل مما مسته النار
(1)
.
فائدة: قاعدة السنة التَّرْكية: كل عمل وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله مع وجود المقتضي، وعدم المانع، ولم يكن الترك لحق الغير، فالترك هو السنة.
*
مسألة: هل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟
جمهور الأصوليين على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق وهذا ممتنع شرعاً.
(1)
في مسلم (352) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضَّؤوا مما مسَّتِ النار» .
وأمَّا ترك الوضوء: فعن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكلَ كتف شاةٍ ثم صلَّى ولم يتوضَّأ) البخاري (207)، ومسلم (354).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
*
مسألة: هل يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة؟
تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ولا بأس به؛ لعدم المحذور، ويدل على ذلك قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 - 19] و (ثم) تقتضي التراخي.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة 110] مع الأحاديث الكثيرة التي بينت صفة الصلاة وعدد ركعاتها، وبينت مقادير الزكاة والأنصباء. وبيان الصلاة والزكاة ليس مقارنا لنزول الآيات التي فيها الأمر بها.
وعند أكثر الحنفية: المنع من تأخير البيان مطلقا، سواء أكان بيانا لمجمل عام أم غير ذلك، قالوا: لأن تأخير البيان عن الخطاب المحتاج إلى بيان فيه تجهيل للمكلف.
* قاعدة:
النصوص المجملة الباقية على إجمالها لا يتعلق بها تكليف، ونظير هذا أن منها محكماً ومتشابهاً، فيجب إرجاع المتشابه إلى المحكم.
المحكم في اللغة: مأخوذ من قولهم: أحكمت الدابة، وأحكمت بمعنى: منعت.
والحكم: هو الفصل بين المتخاصمين.
المتشابه في اللغة: هو أن يشبه أحد الشيئين الآخر بحيث لا يتميز عنه.
ويقال: تشابه الكلام: أي تماثل وتناسب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ووصف الله القرآن بوصفين:
* الأول: وصفه بأنه محكم على وجه العموم، وبأنه متشابه على وجه العموم.
أما الإحكام العام فدليله قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
وأما التشابه العام فدليله قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23].
ومعنى كونه محكماً على وجه العموم: أي أنه كلام متقن فصيح يميز بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب.
ومعنى تشابه القرآن على وجه العموم: أي أنه يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة ويصدق بعضه بعضاً.
* الثاني: وصف بأنه محكم على سبيل الخصوص وبأنه متشابه على سبيل الخصوص:
فالمحكم الخاص: هو ما اتضح معناه لكل أحد، ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة محكمان.
والمتشابه الخاص: ما خفي معناه.
وهما المذكوران في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
فيجب إرجاع المتشابه إلى المحكم).
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
وهما المقصودان غالباً إذا أطلق الإحكام والتشابه، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال:(المحكم الذي ليس فيه اختلاف، والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا).
قوله: (فيجب إرجاع المتشابه إلى المحكم).
هذا شأن الراسخين في العلم أنهم يرجعون المتشابه إلى المحكم؛ فيتضح المراد ويصير كله محكماً، وهذا المتشابه الذي يمكن اتضاحه والبحث عن بيانه، وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه المجمل كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أما إن أريد بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه فهذا لا سبيل إلى معرفته، ويجب الإيمان به ورده إلى الله تعالى وهي طريقة الراسخين في العلم.
وقد دلت الآية السابقة على أمرين:
* الأول: أن المتشابه قليل بالنسبة للمحكم؛ لأن الله عز وجل قال عن المحكم {أُمُّ الْكِتَابِ} وأمُّ الشيء بمعنى معظمه وأكثره، وأما المتشابه فذكره بلفظ يدل على التقليل، وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن مبيناً لا لبس فيه ولا إشكال؛ ليسهل تدبره والعمل بما فيه، لكن قد يشتبه شيء منه على بعض الناس دون بعض فيحتاج إلى أهل العلم لإزالة ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* الثاني: أن الناس أمام التشابه فريقان:
أ أهل الزيغ والضلال عن الحق، وهؤلاء هم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم»
(1)
.
ب الراسخون في العلم، وهم الذين يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه، ويقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي يؤمنون بأن محكمه ومتشابه حق.
واعلم أن المتشابه نوعان:
الأول: نسبي: وهو الذي يخفى على بعض الناس دون البعض.
الثاني: مطلق: وهو الذي يخفى على كل أحد.
فالأول: كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].
فقد تشتبه هذه الآية على من يظن أن هداية الله وإضلاله ليس لها سبب، لكن هناك آيات أخرى تكشف هذا الاشتباه كما في قوله تعالى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة: 16].
والثاني: مثل كيفية صفات الله تعالى، فهي من قبيل المتشابه الذي لا
(1)
أخرجه البخاري (4547)، ومسلم (2665).
(ومنها: ناسخ ومنسوخ،
يعلمه إلا الله، وأما معانيها فهي واضحة لا خفاء فيها، كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن استواء الله على عرشه:(الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة).
ومنه أيضاً حقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء).
تنبيه:
ينبغي أن يعلم أن البحث في المتشابه الذي استأثر الله بعلمه لا يتصل به شيء من التكليف، وكان الأولى عدم ذكره في أصول الفقه لهذا السبب، لكنهم يذكرونه في باب تتمة القول في دلالات الألفاظ، وأنواع نصوص الكتاب والسنة والله أعلم.
قوله: (ومنها): الضمير يعود على نصوص الكتاب والسنة.
النسخ في اللغة: يطلق على النقل والإزالة، تقول: نسخت ما في الكتاب أي نقلت ما فيه، وتقول: نسخت الشمس الظل أي أزالته.
وأما في الاصطلاح فله معنيان:
الأول: النسخ في اصطلاح السلف أعم من النسخ في اصطلاح المتأخرين، فنجد أن تخصيص العام يسمى نسخاً عند بعض السلف، وتقييد المطلق يسمى نسخاً، وتبيين المحكم يسمى نسخاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثاني: النسخ عند المتأخرين: وهو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه.
قولهم: «رفعُ الحكمِ الثابتِ بخطابٍ» : أي بيانُ انتهاءِ العمل بالحكم الذي ثبت بدليلٍ شرعيٍّ من كتابٍ أو سنةٍ.
وقولهم: «الثابت بخطاب متقدم» : يخرج ما كان ثبوته بمقتضى البراءة الأصلية، فإن رفعه لا يسمى نسخاً.
وأدلة النسخ: من القرآن والسنة والإجماع.
أما القرآن: قال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
وقال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].
وأما السنة: فمن ذلك أن استقبال القبلة كان في أول الأمر إلى بيت المقدس ثم بعد ذلك نسخ إلى جهة الكعبة، وكذلك ما ورد في نكاح المتعة أنه كان مباحاً ثم بعد ذلك نسخ، ومنه أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم:«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»
(1)
.
وأما الإجماع فهو قائم على ذلك.
(1)
أخرجه مسلم (977).
والمنسوخ في الكتاب والسنة قليل).
قوله: (والمنسوخ في الكتاب والسنة قليل).
اعلم أن المنسوخ قليل وأكثر نصوص الشريعة محكمة، وقد ذكر المؤلفون في الناسخ والمنسوخ آيات كثيرة، لكن منهم المكثر الذي اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه، ومن أسباب ذلك: هو إطلاق النسخ على الاستثناء والتخصيص والتقييد وغير ذلك مما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم وسلف هذه الأمة، ومنهم المتحري الذي اعتمد على النقل الصحيح في النسخ، وذلك أن النسخ ليس من الأمور الاجتهادية، بل هو قائم على شروط وضوابط حددها العلماء، وبتطبيق ذلك لا يثبت النسخ إلا في آيات وأحاديث قليلة جداً.
والحكمة من النسخ تعود إلى ثلاث حكم:
* الأولى: التوسعة ورفع الحرج.
وذلك بنسخ الأثقل إلى الأخف، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 65] نُسخ حكمها بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].
فكان المسلم في أول الأمر يجب عليه أن يصابر عشرة عند القتال ويحرم عليه الفرار ثم بعد ذلك نُسخ بوجوب المصابرة على اثنين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* الثانية: تكثير الأجور.
وذلك بنسخ الأخف إلى الأثقل، ومن ذلك كان المسلم مخيرًا في الصيام في أول الأمر، فله أن يصوم وله أن يفطر ويطعم عن كل يومٍ مسكيناً ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
* الثالثة: الابتلاء والاختبار وتقوية الإيمان.
وذلك بنسخ المساوي إلى المساوي، ومن ذلك ما ثبت في نسخ القبلة، فإن القبلة نُسخت من بيت المقدس إلى البيت الحرام، وقد ذكر الله حكمة ذلك بقوله:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].
والنسخ يشترط له عدد من الشروط:
1 أن يكون الناسخ وحياً من القرآن أو السنة، وعلى هذا فإن بقية الأدلة كالإجماع والقياس الصحيح لا تعتبر نسخاً، فإذا رأيت في كلام العلماء أن هذا الحكم نسخه الإجماع فالمراد بذلك مستند الإجماع؛ لأن الإجماع لابد أن يكون له مستند من الكتاب والسنة.
2 أن يتأخر الناسخ عن المنسوخ، وذلك يعرف بطرق منها:
أ العلم بالتاريخ.
ب قول الراوي كان كذا فرُخص أو نسخ.
ج الإجماع: بأن تجمع الأمة على خلاف الخبر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3 تعذر اجتماع الناسخ والمنسوخ
ولهذا قال المؤلف: (فمتى أمكن الجمع بين النصين، وحمل كل منهما على حال وجب ذلك)، فإذا تعذر الجمع بين الناسخ والمنسوخ بأن يكونا متنافيين وتواردا على محلٍ واحد؛ فإنه يصار إلى النسخ.
4 أن يكون المنسوخ حكماً.
وعلى هذا فإن الأخبار والعقائد لا يدخلها النسخ، فأخبار الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم التي توجد في القرآن، من أخبار الجنة والنار وأخبار الأمم السابقة ونحو ذلك، وما يكون يوم القيامة، فإنها لا يدخلها النسخ؛ لأن نسخ الأخبار يجعلها كذباً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والنسخ ينقسم إلى قسمين:
* القسم الأول: من حيث الثقل والخفة فهذا على ثلاثة أنواع:
1 نسخ من أخف إلى أثقل.
مثل: الصيام فإن المكلف في أول الأمر كان مخيراً بين أن يصوم أو يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ثم نسخ ذلك إلى وجوب الصيام، قال تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
2 نسخ من الأثقل إلى الأخف.
مثل: المصابر في القتال، فإنه كان في أول الأمر يجب على المسلم أن يصابر عشرة من الكفار ثم نسخ ذلك إلى أن يصابر اثنين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3 -
نسخ من مساوٍ إلى مساوٍ.
مثل: النسخ في استقبال القبلة من جهة المقدس إلى جهة البيت الحرام.
* القسم الثاني: من حيث الدليل وهذا له أربع حالات:
الحال الأولى: نسخ القرآن بالقرآن.
حكمه: الجواز.
مثاله: الصيام. قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ثم نسخ بعد ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
الحال الثانية: نسخ القرآن بالسنة المتواترة.
ومثّل له العلماء بالرضاع كما في حديث عائشة رضي الله عنها: «أول ما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات»
(1)
.
الحال الثالثة: نسخ القرآن بأخبار الآحاد.
وهذه الحال موضع خلاف بين العلماء:
القول الأول: لا يجوز أن ينسخ القرآن بالسنة الآحادية وهو قول جمهور الأصوليين، وقد نقل إمامُ الحرمين الإجماعَ على ذلك، فقال:«أجمع العلماء على أن الثابتَ قطعاً لا ينسخُه مظنونٌ؛ فالقرآنُ لا ينسخُه الخبرُ المنقولُ آحاداً، والسنة المتواترة لا ينسخها ما نقله غير مقطوع به» ؛
(1)
رواه مسلم (1452).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقالوا: لأن الأضعف لا يقوى على رفع الأقوى.
القول الثاني: جائز ولا بأس به:
1 لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة 180] نسخت بحديث: «لا وصية لوارث»
(1)
.
2 واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر 7].
3 وقياساً للنسخ على التخصيص.
الحال الرابعة: نسخ السنة المتواترة بالآحاد من السنة.
وهذا موضع خلاف أيضاً:
القول الأول: لا يجوز نسخ السنة المتواترة بالسنة الآحادية، وهو رأي الجمهور؛ وقالوا: لأن الأضعف لا يقوى على رفع الأقوى.
القول الثاني: يجوز أن تنسخ السنة المتواترة بالسنة الآحادية ما دام أن الدليل ثابت في ذلك؛ لما تقدم من الدليل وهو رأي الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله.
فرع:
يعرف النسخ: بالنص على النسخ، وتأخر أحد النصين المتعارضين
(1)
أخرجه أحمد (29/ 210)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2714)، وأبو داود (2870)، والنسائي (3641).
فمتى أمكن الجمع بين النصين وحمل كل منهما على حال وجب ذلك
عن الآخر، واتفاق الصحابة على نسخ أحد النصين بالآخر، وترك الصحابة والتابعين العمل بالحديث من غير نص على النسخ.
قوله: (فمتى أمكن
…
).
شرع الشيخ رحمه الله في التعارض وطرق درئه:
والتعارض: في اللغة بمعنى: التقابل.
وفي الاصطلاح: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر.
والجمع: هو بيان التوافق والائتلاف بين الأدلة، إما ببناء العام على الخاص أو بحمل المطلق على المقيد، أو بتأويل أحد الدليلين على معنى مناسب بلا تكلف.
قوله: (فمتى أمكن الجمع بين النصين وحمل كل منهما على حال وجب ذلك).
هذا الطريق الأول لدرء التعارض: وهو الجمع بين النصين وأنه مقدم على النسخ؛ لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين، والنسخ فيه إلغاء لأحد الدليلين، فإذا أمكن الجمع بين النصين بأن يحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، فإنه يجب ذلك؛ لأن الأصل إعمال الدليل لا إهماله.
ومن أمثلة ذلك: حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها»
(1)
، مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي القرن الذين بعثت
(1)
أخرجه مسلم (1719).
ولا يعدل إلى النسخ إلا بنص من الشارع، أو تعارض النَّصَّين الصحيحين الذين لا يمكن حمل كلٍّ منهما على معنى مناسب، فيكون المتأخرُ ناسخًا للمتقدِّم،
فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم يخلف قوم يحبون السمّانة يشهدون قبل أن يستشهدوا»
(1)
.
ففي الأول مدح من أتى بالشهادة قبل أن تطلب منه، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الخيرية له، وفي الثاني ذمه حيث سيق مساق الصفات المذمومة، وقد جمع العلماء بينهما بأجوبة لعل من أظهرها: أن حديث زيد بن خالد محمول على شهادة لا يعلم بها صاحب الحق، فيأتي الشاهد إليه فيخبره بها؛ لأجل أن يحفظ له حقه بهذه الشهادة، أو يكون في حقوق الله التي لا مطالب لها، لا في حقوق الآدميين.
قوله: (ولا يعدل إلى النسخ إلا بنصٍ من الشارع):
هذا الطريق الثاني لدفع التعارض: وهو العدول إلى النسخ، فإذا لم يمكن الجمع بين النصين، ويمكن أن نحمل أحد الدليلين على زمن والدليل الآخر على زمن آخر، فإن المتأخر يكون ناسخاً للمتقدم، ولهذا قال المؤلف:(أو تعارض النصين الصحيحين اللذين لا يمكن حمل كل منهما على معنىً مناسب فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم).
ومن أمثلة ذلك: حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (2534).
(2)
سبق تخريجه.
فإن تعذر معرفة المتقدم والمتأخر رجعنا إلى الترجيحات الأُخر).
فقوله: (فزوروها): نص من الشارع على أن النهي قد نسخ.
ومثاله أيضاً: حديث الربيع بن سمرة الجهني عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة»
(1)
.
فقوله: (وإن الله قد حرم ذلك): هذا نص من الشارع على أن الإباحة قد نسخت.
وكذلك يثبت النسخ بخبر الصحابي كما في قول علي رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس)
(2)
.
وقول جابر رضي الله عنه: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)
(3)
.
قوله: (فإن تعذر معرفة المتقدم والمتأخر رجعنا إلى الترجيحات الأُخر).
هذا الطريق الثالث من طرق درء التعارض، وهو الترجيح ونعني به تقديم المجتهد أحد الدليلين المتعارضين لما فيه من مزية معتبرة، تجعل العمل به أولى من الآخر، ولا يعدل إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع والنسخ، والمرجحات في المسائل كثيرة؛ لأن ما يحصل به تغليب ظن
(1)
أخرجه مسلم (1406).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 484).
(3)
أخرجه أبو داود (192)، والنسائي (185).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
على ظنٍ آخر كثير جداً ولا ينحصر.
ومن المرجحات:
1 الترجيح من جهة المتن: مثاله: كثرة الرواة: فيرجح الخبر الذي رواته أكثر على الخبر الذي رواته أقل، ويرجح بفقه الراوي، وكون أحد الراويين صاحب الواقعة أو له صلة قوية بما رواه، وكون أحد الراويين ممن تأخر إسلامه، وقوة الحفظ والضبط، ويقدم المسند على المرسل؛ للخلاف في حجية المرسل.
2 الترجيح من جهة المتن: ومثاله: ترجيح الخاص على العام، والأخص من العامين على الأعم منهما، وترجيح العام المحفوظ على العام المخصوص، وترجيح ما قلت مخصصاته على ما كثرت مخصصاته، وترجيح العام المطلق على العام الوارد على سبب في غير صورة السبب، وترجيح الخبر الدال على المراد من وجهين على الخبر الدال عليه من جهة واحدة، وترجيح ما فيه إيماء إلى العلة على ما ليس كذلك، وترجيح ما سيق لبيان الحكم على الدال على الحكم بلفظه من غير أن يساق لبيانه، وترجيح الناقل عن حكم الأصل على الموافق لحكم الأصل، وترجيح ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة، وترجيح المثبت على النافي، وترجيح النص على الظاهر، والحقيقة على المجاز، وترجيح المنطوق على المفهوم المخالف.
3 الترجيح لأمر خارجي: ومثاله: اعتضاد أحد الخبرين بموافقة ظاهر القرآن، وترجيح القول على الفعل المجرد، وترجيح ما كان عليه عمل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أكثر السلف على ما ليس كذلك، وموافقة أحد الخبرين للقياس، فيقدم على ما خالف القياس، وترجيح الخبر المقترن بتفسير راويه له بقول أو فعل، دون الآخر، وتقديم المعنى الذي لا يحتاج إلى إضمار على المعنى الذي يحتاج إلى إضمار، وترجيح الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية، وتقديم التأسيس على التأكيد.
4 الترجيح بين الأقيسة: ومثاله: تقديم القياس في معنى الأصل على قياس العلة وقياس الشبه، وتقديم قياس العلة على قياس الشبه وقياس الطرد، وتقديم القياس الذي علته مطردة منعكسة على القياس الذي علته ليست كذلك، وتقديم القياس الذي علته منصوصة أو مومأ إليها على غير المنصوصة وغير المومأ إليها، وتقديم القياس الذي علته مثبتة على الذي علته نافية، وتقديم القياس الذي ثبت حكم أصله بالنص على الذي ثبت حكم أصله بالظاهر، وتقديم القياس الموافق للأصول الثابتة في الشرع على ما ليس له إلا أصل واحد، وتقديم القياس الموافق لظاهر قرآن أو سنة أو قول صحابي على ما ليس كذلك.
وأمثلة الترجيح: حديث أسامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا في النسيئة»
(1)
فهذا كالصريح في نفي ربا الفضل، وورد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:«الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (2178)، ومسلم (1596).
(2)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهنا يترجح حديث أبي سعيد رضي الله عنه؛ لأن حديث أسامة رواية صحابي واحد، وأحاديث منع ربا الفضل عن جماعة من الصحابة، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت من رواية الواحد.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: «من مس ذكره فلا يصلّ حتى يتوضأ»
(1)
، وحديث قيس بن طلق بن علي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه وضوء فقال:«لا، إنما هو بضعةٌ منك»
(2)
.
فمن قال بالترجيح رجح الأول لوجوه:
الوجه الأول: أن العمل به أحوط.
الوجه الثاني: لأنه أكثر طرقاً ومصححيه أكثر.
الوجه الثالث: لأنه ناقل عن البراءة الأصلية وهي عدم إيجاب الوضوء والناقل يقدم على المبقي؛ لأن مع الناقل زيادة علم، حيث أفاد حكماً شرعياً ليس موجوداً عند المبقي على الأصل.
* فائدة:
اعلم أنه لا يمكن التعارض بين النصوص الشرعية على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح؛ قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ
(1)
أحمد (27293)، وأبو داود (181)، والترمذي (83)، والنسائي (163)، وابن ماجه (479).
(2)
أخرجه أحمد (16286)، وأبو داود (182)، والترمذي (85)، النسائي (119)، وابن ماجه (483).
ولهذا إذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله قُدِّم قوله؛ لأنه أمرٌ أو نهيٌ للأمة، وحُمل فعله على الخصوصية له،
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقال سبحانه عن السنة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3].
فالأدلة لا تتناقض، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ وبيّن، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد، إما لنقص في علمه، أو خلل في فهمه، وعلى هذا فأقل أحوال درء التعارض هو الترجيح، وأما القول بأنه قد تأتي نصوص لا يمكن الترجيح بينها، وحينئذٍ يتوقف المجتهد، فيه نظر ظاهر، فإنه لا بد من الترجيح إما عن طريق الإسناد أو عن طريق المتن، وهي وجوه كثيرة، ولن يعدم المجتهد وجهاً واحداً يدرأ التعارض.
قوله: (ولهذا إذا تعارض
…
).
شرع المؤلف رحمه الله في حكم تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وموضوع تعارض القول والفعل اهتم به الأصوليون، بل أفردوا فيه مصنفات مستقلة ومن ذلك كتاب (تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال) للحافظ العلائي.
فإذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله قُدم قوله؛ لأنه خطاب للأمة وحمل فعله على الخصوصية، وهذا ما قرره الشيخ رحمه الله وقال به بعض الأصوليين.
وفيه نظر لأمرين:
الأول: أن حمل الفعل على الخصوصية يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل عدمها، كما سيأتي إن شاء الله، ويؤيد ذلك أنه جاءت بعض الأفعال المعارضة للقول، ولا يصح حملها على الخصوصية كما سترى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثاني: أن الحكم بالخصوصية يفضي إلى ترك العمل بشطر السنة، وهي السنة الفعلية.
والأظهر في هذه المسألة:
أنه إذا تعارض القول والفعل وقام دليل على أن الفعل خاص به صلى الله عليه وسلم حكم بها، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال) فقال رجلٌ من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟ قال: «وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»
(1)
.
فهذا دليل واضح على أنه لا تعارض بين وصاله ونهيه عن الوصال؛ لأن الوصال مختص به، وهذا على أحد الأقوال في المسألة.
فإن لم يوجد دليل على الخصوصية فإننا لا نحكم بها؛ لأن الأصل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ومشاركة الأمة له في الأحكام إلا ما دل الدليل على تخصيصه به، ولا ريب أن الأصل في التشريع وخطاب الأمة هو القول ولا يتطرق إليه في الاحتمالات ما يتطرق للفعل، لكن إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر وفعل خلافه، أو نهى عن شيء وفعله، فإما أن يكون الفعل مخصصاً للقول، أو محمولاً على بيان الجواز، أو أنه ناسخٌ للقول إلى غير ذلك مما تتم معرفته باستقراء مواضع التعارض والنظر في الأدلة، والقرائن التي يستفاد منها في تحديد المراد.
ومن أمثلة ذلك:
(1)
أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما روى أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً»
(1)
، وفي لفظ:«نهى أن يشرب الرجل قائماً»
(2)
.
وفي حديث النزال بن سبرة قال: أتى علي رضي الله على باب الرحبة بماءٍ فشرب قائماً، فقال:(إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت)
(3)
.
فنهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً، وشربه قائماً بينهما تعارض في الظاهر، ولا يمكن حمل الفعل على الخصوصية؛ لفعل علي رضي الله عنه، والظاهر أن النهي محمول على التنزيه، وشربه قائماً إنما هو لبيان الجواز، ولا يكون مكروهاً في حقه أصلاً، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:(سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم)
(4)
.
ومن الأمثلة أيضاً ما ثبت في حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توضؤا مما مست النار»
(5)
.
وقد عارض ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم: (أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ)
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم (2024)
(2)
أخرجه مسلم (2024).
(3)
أخرجه البخاري (5615).
(4)
أخرجه البخاري (1637).
(5)
سبق تخريجه.
(6)
سبق تخريجه.
فخصائص النبي صلى الله عليه وسلم تنبني على هذا الأصل، وكذلك إذا فعل شيئاً
وقال جابر رضي الله عنه: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار)
(1)
.
فذهب بعض الصحابة ومنهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وكذا الأئمة الأربعة رحمهم الله إلى أنه لا يجب الوضوء مما مست النار؛ لأنه لا يتعارض الفعل والقول، ولما كان الفعل متأخراً صار ناسخاً للقول؛ لأنه يشمل النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المخاطب يدخل في عموم خطابه على الراجح ما لم يرد دليل على خلافه، فالقول بالنسخ هنا قوي.
وقوله: (فخصائص النبي صلى الله عليه وسلم تبنى على هذا الأصل).
ظاهره أن التعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله هو الطريق الوحيد لمعرفة الخصائص النبوية، ولعل هذا غير مراد، فإن كثيراً من الخصائص مجردة عن التعارض، بل إن من الخصائص ما ثبت بالنص، كقوله تعالى عن النكاح بلفظ الهبة:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] وكما تقدم في الوصال وغير ذلك مما هو مقرر في محله.
قوله: (وكذلك إذا فعل
…
).
تقدم أن السنة قول وفعل وتقرير، وقد انتهى الكلام على القول، وأشار هنا إلى الفعل، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى أقسام:
(1)
سبق تخريجه.
على وجه العبادة ولم يأمر به فالصحيح أنه للاستحباب، وإن فعله على وجه العادة، دل على الإباحة
* القسم الأول: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الطاعة والقربة والعبادة، فالراجح أنه مستحب، فنفعل مثل فعله، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد فهو عبادة، يشرع التأسي به فيه، فإذا خصص زماناً أو مكاناً بعبادة، كان تخصيصه تلك العبادة سنة)
(1)
.
ومن أمثلة ذلك صلاة التطوع وصدقة التطوع، ومنه ما ورد عن شريح بن هانئ قال: سألتُ عائشة قلت: بأيِّ شيءٍ كان يبدأ به صلى الله عليه وسلم؟ قالت: (بالسواك)
(2)
.
وكذلك ما ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)
(3)
.
* القسم الثاني: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الجبلة والطبيعة البشرية مثل: القيام، والقعود، وحركة اليد في أثناء المشي، والنوم، والاستيقاظ، والأكل، والشرب، فنقول: هذه الأشياء لا حكم لها في ذاتها؛ فهذا النوع يفيد الإباحة عند الجمهور ولا يتعلق به أمر ولا نهي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله
(1)
«مجموع الفتاوى» 10/ 409.
(2)
أخرجه مسلم (253).
(3)
أخرجه البخاري (1180)، ومسلم (729).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من غير قصد إلى القربة به، ولأنه ليس من باب التكليف ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع فليس لنا أن نتأسى به، لكن إذا وردت السنة بتقييد هذه الصفات والهيئات فإنه يتقيد بهذه الصفات والهيئات، وقد يكون التقييد واجباً وقد يكون مستحباً، فإذا كان لهذا الفعل هيئة معينة كصفة أكله وشربه ونومه ونحو ذلك فهذا له حكم شرعي كما دلت عليه النصوص.
* القسم الثالث: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة مثل: اللباس، كلبس العمامة، ولبس الإزار والرداء، وترك الشعر فهذه الأشياء فعلها النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لأهل بلده فنقول: لا يستحب المتابعة في ذلك؛ لأن اللباس منظور فيه إلى العادة، ولو قلنا بأن الإنسان يلبس الآن ما لبسه النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه وذاك اللباس يخالف اللباس في بلده لكان هذا من لباس الشهرة فيكون منهياً عنه، وعندنا قاعدة وهي: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم موافقاً لأهل بلده فهذا لا يستحب الاقتداء به، وإذا قدرت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مخالفاً لأهل بلده فهذا يستحب فيه الاقتداء.
* القسم الرابع: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل، فهذا النوع من الأفعال لا خلاف في أنه لا يخرج عن الوجوب أو الندب، وحكمه حكم المبين، فإن كان المبين واجباً كان الفعل واجباً، وإن كان مندوباً فمندوب؛ لأن المقصود به البيان والتشريع، كأفعال الصلاة، ومناسك الحج وغير ذلك، وهذا هو المشهور عند أكثر الأصوليين.
ومن ذلك أيضاً مسح الرأس حكمه الوجوب؛ لقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ .. } [المائدة: 6] والنبي عليه الصلاة والسلام مسح على رأسه كله.
ومثال المندوب: قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فالنبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر رضي عنه أتى إلى مقام إبراهيم وصلى خلفه ركعتين
(1)
.
* القسم الخامس: ما دل الدليل على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قام الدليل على أنه خاص به عليه الصلاة والسلام فهذا لا خلاف في عدم جواز التأسي به فيه.
ومن ذلك زواج المرأة بلا مهر فهذا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
ومن ذلك الزيادة على أربع في الزواج، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50].
ومن ذلك الوصال في الصيام فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال فقام رجل من المسلمين فقال: فإنك يا رسول الله تواصل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني»
(2)
.
(1)
رواه مسلم (1218).
(2)
سبق تخريجه.
وما أقره النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال حكم عليه بالإباحة أو غيرها على الوجه الذي أقره.
قوله: (وما أقره النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال حكم عليه بالإباحة أو غيرها على الوجه الذي أقره).
التقرير: هو ترك الإنكار على ما علم به من قول أو فعل، والتقرير حجة؛ لأنه قسم من أقسام السنة النبوية، وقد نقل الحافظ ابن حجر الاتفاق على الاحتجاج به، ودليل حجيته: أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن أن يقر أحداً على خطأ أو معصية فيما يتعلق بالشرع، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وشرط حجيته: أن يعلم بوقوع الفعل أو القول، وذلك بأن يقع بحضرته أو في زمنه وهو عالم به لانتشاره انتشاراً يبعد معه ألا يعلم به.
وحكمه: الإباحة وقد يفيد الوجوب أو الاستحباب عن طريق دليل آخر.
ومن أمثلة ذلك أن أنس بن مالك رضي الله عنه: سئل وهو غادٍ إلى عرفة كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (كان يهل منا المهلّ فلا ينكر عليه، ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه)
(1)
.
فهذا يدل على أن الحاج مخير في هذا اليوم بين التكبير والتلبية؛ لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك.
ومن ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: (أقبلت راكباً على حمارٍ أتان، وأنا
(1)
أخرجه البخاري (1659).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد)
(1)
.
فهذا يدل على أن المرور بين يدي المأموم لا يضر؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما استدل بترك الإنكار على جواز ذلك.
ومن ذلك إقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على قوله بإعطاء سلب القتيل لقاتله
(2)
.
فرع:
إقرار الله عز وجل زمن نزول الوحي: حجة، ولذلك استدل الصحابة رضي الله عنهم على جواز العزل بإقرار الله لهم عليه، قال جابر رضي الله عنه:(كنا نعزل والقرآن ينزل)
(3)
، وزاد مسلم: قال سفيان: (ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).
ويدل على أن إقرار الله حجة، أن الأفعال المنكرة التي كان المنافقون يخفونها يبينها الله تعالى وينكرها عليهم، فدل على أن ما سكت الله عنه ولم ينكره جائز.
(1)
أخرجه البخاري (493)، ومسلم (504).
(2)
أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (1751).
(3)
أخرجه البخاري (5208)، ومسلم (1440).
فصل
الدليل الثالث: الإجماع
(وأما الإجماع: فهو اتفاق العلماء المجتهدين على حكم حادثة).
قوله: (وأما الإجماع
…
).
الإجماع في اللغة: العزم المؤكد.
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف بقوله: اتفاق العلماء المجتهدين على حكم حادثة.
قوله: (اتفاق العلماء) هذا قيد في التعريف يخرج وجود خلاف ولو من واحد فلا ينعقد معه الإجماع؛ لأن من الجائز إصابة الأقل وخطأ الأكثر كما كشف الوحي عن إصابة عمر رضي الله عنه في أسرى بدر.
وقوله: (المجتهدين) جمع مجتهد: وهو الفقيه الذي له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وهذا القيد يخرج المقلدين والعوام، فلا عبرة بهم في الإجماع لا وفاقاً ولا خلافاً.
قوله: (على حكم حادثة) أي: حادثة دينية والمراد بها الواقعة من الوقائع التي تستدعي بيان الحكم فيها، وهذا القيد يخرج ما لو اتفق العلماء على حكم حادثة غير دينية فلا عبرة به.
ويضاف على هذا التعريف قيد آخر وهو اتفاق العلماء المجتهدين من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم حادثة دينية.
فرع:
الإجماع متصور الوقوع في عهد الصحابة وبعدهم، وهو مذهب الجمهور.
وحجتهم: أنه ليس بمحال في ذاته ولا يترتب على فرض وقوعه محال.
وقال بعض الأصوليون: غير ممكن؛ لأن بلاد الإسلام واسعة وعلماء الشريعة متباعدون في الأمصار.
وقال بعض الأصوليين ممكن في عصر الصحابة دون من بعدهم من العصور؛ لأن العلماء بعد عصر الصحابة تفرقوا في الأمصار تفرقا شديدا يصعب معه معرفة أقوالهم في المسألة.
*
مسألة: الإجماع حجة وقد دل على حجيته القرآن والسنة:
أما القرآن فقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، وقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ولا تكون هذه الأمة شاهدة على الناس إلا إذا كان إجماعها على حق، فلو كان إجماعها على ضلالة لم تكن شاهدة على الناس، وقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] ولو كان إجماعها ليس على حق لم تكن آمرة بالمعروف
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وناهية عن المنكر.
وأما السنة: فإنهم استدلوا بما في مستدرك الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة»
(1)
.
قال شيخ الإسلام: «السلف كان يشتد إنكارهم على من يخالف الإجماع، ويعدونه من أهل الزيغ والضلال» .
*
مسألة: والإجماع يشترط له شروط:
الأول: أن يكون الإجماع صادراً من العلماء المجتهدين، وعلى هذا فإن غير المجتهد لا عبرة بإجماعه.
* مسألة:
هل يكفي الاجتهاد الجزئي أو لابد من الاجتهاد المطلق؟ ومعنى ذلك لو أن شخصاً أتقن ما يتعلق بباب العبادات واجتهد اجتهاداً جزئياً هل يعتبر خلافه أو لابد أن يكون اجتهاده مطلقاً؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:
القول الأول: قالوا يشترط أن يكون الاجتهاد مطلقاً.
القول الثاني: قالوا يكفي الاجتهاد الجزئي ولا يشترط أن يكون مطلقاً.
الثاني: الإسلام فلا عبرة بإجماع غير المسلمين.
(1)
أخرجه أحمد (177)، والترمذي (2165)، والحاكم (387).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثالث: العدالة وذلك لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: عدولاً خياراً.
الرابع: اتفاق جميعهم وعلى هذا لو خالف واحد لم يكن هناك إجماع؛ لأن الأدلة الدالة على الحجية وعصمة الأمة تدل على ذلك.
وقال ابن جرير الطبري: إن مخالفة الواحد والاثنين لا تخرم الإجماع؛ لحديث: «عليكم بالسواد الأعظم»
(1)
.
وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح، وأنه لا يكون هناك إجماع حتى يتفق الجميع.
الخامس: أن يكونوا أحياء موجودين، فالأموات لا عبرة بخلافهم واتفاقهم.
فرع:
اشترط بعض العلماء لحجية الإجماع: موت العلماء المجمعين؛ لأن العالم لا يمكن منعه من الرجوع عن رأي رآه ثم تبين له خطؤه، وبأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:«اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، وأنا الآن أرى بيعهن»
(2)
فرجع عن رأي اتفق عليه.
وعند الأكثر: أن انقراض العصر ليس شرطا؛ لأن الأمة إذا اتفقت على حكم فهي معصومة من الخطأ؛ لحديث: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (3950).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (13224).
(3)
أخرجه أبو داود (4253)، والترمذي (2167)، وابن ماجه (3950).
فمتى قطعنا بإجماعهم وجب الرجوع إلى إجماعهم، ولم تحل مخالفتهم.
ينقسم الإجماع إلى أقسام:
*
القسم الأول: الإجماع القطعي.
وهو ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة، كالإجماع على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام وعلى تحريم الزنا والربا ونحو ذلك.
وقيل: القطعي: هو ما تحقق فيه شرطان وهما: التصريح بالحكم من أهل الإجماع، ونقله إلينا بطريق قطعي.
وهذا النوع من الإجماع له ثلاثة أحكام:
الأول: أنه يجب الرجوع إليه والأخذ به، إذ لا خلاف في كونه حجة.
الثاني: أنه لا تحل مخالفته، إذ لا أحد ينكر ثبوته.
الثالث: أنه يكفر مخالفه إذا كان ممن لا يجهله، لأنه مقطوعٌ بوقوعه.
*
القسم الثاني: الإجماع الظني:
وهو ما اختل فيه أحد الشرطين السابقين.
*
القسم الثالث: الإجماع السكوتي أو الإقراري:
وهو أن يشتهر القول أو الفعل من البعض فيسكت الباقون عن إنكاره.
فهذا الإجماع هل هو حجة؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم على قولين:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الأول: إنه حجة؛ لأن سكوت العالم عن فتوى غيره يدل على موافقته إياه.
القول الثاني: إنه ليس حجة؛ لأنه لا ينسب إلى ساكت قول، وبأن العالم قد يسكت مع عدم موافقته لأسباب كثيرة منها: أن يغلب على ظنه أن غيره قد كفاه مؤنة الإنكار على الفتوى، وكخوف ونحو ذلك.
والصواب في ذلك: التفصيل وأنه يُرجع في معرفته إلى القرائن وأحوال الساكتين وملابسات الكلام، فإن غلب على الظن أنهم اتفقوا فهو حجة ظنية، وإن حصل القطع باتفاقهم فهو حجة قطعية، وإن ترجحت المخالفة فلا يعتد به.
*
القسم الرابع: إجماع أهل المدينة.
عمل أهل المدينة ليس المقصود به عملهم في جميع الأعصار، بل في عصر الصحابة والتابعين.
الإمام مالك رحمه الله يرى أن إجماع أهل المدينة حجة بشرطين:
الأول: أن يكون فيما لا مجال للرأي فيه.
الثاني: أن يكون الاتفاق من الصحابة أو التابعين؛ لما عرف عن الإمام مالك أنه كان يروي الخبر ثم يترك العمل به ويقول: «وليس على هذا العمل عندنا» يعني في المدينة كما فعل في خيار المجلس.
ويشكل على هذا النقل أن الإمام مالكاً رحمه الله ذكر في الموطأ في باب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
العيب في الرقيق إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرأ من العيب لو اشترطه ثم خالفهم، ولعل هذا هو ما جعل بعض علماء المالكية ينكرون احتجاج مالك بإجماع أهل المدينة إلا فيما سبيله النقل.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حرر القول فيما يتعلق بإجماع أهل المدينة وذكر أنه ينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل نقلهم مقدار الصاع والمد فهذا حجة، وقال أبو العباس القرطبي: إنه لا ينبغي الخلاف فيه.
القسم الثاني: العمل القديم في المدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، فهذا حجة عند جمهور العلماء رحمهم الله.
القسم الثالث: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين تعارضا أو قياسين تعارضا ولم يترجح أحدهما فهل يرجح بإجماع أهل المدينة؟
هذا موضع خلاف:
القول الأول: الترجيح بإجماع أهل المدينة وهذا عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد رحمهم الله.
القول الثاني: عدم الترجيح بإجماع أهل المدينة وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله.
القسم الرابع: العمل المتأخر بالمدينة، والجمهور على أنه ليس
ولابد أن يكون الإجماع مستنداً إلى دلالة الكتاب والسنة.
بحجة؛ لأن أدلة الإجماع ما خصت أهل المدينة بل عمت الأمة.
وقيل حجة: لأن المدينة قد ضمت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناءهم وأبناء أبنائهم.
قوله: (ولا بد أن يكون
…
).
معنى ذلك أن الإجماع ليس دليلاً مستقلاً تثبت به الأحكام الشرعية، وإنما تابع للكتاب والسنة، إذ لا يوجد مسألة مجمعٌ عليها إلا وفيها نص، إذ لا يمكن أن يكون إجماع هذه الأمة عن هوى أو قولاً على الله بغير علم أو دون دليل؛ وذلك لأن الأمة معصومة عن الخطأ، والقول على الله بدون دليل خطأ، لكن يخفى مستند الإجماع على بعض العلماء فيستدل بالاجتهاد والقياس، وبعضهم يعلم النص فيستدل به.
الدليل الرابع: القياس
(وأما القياس الصحيح: فهو إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما، فمتى نص الشارع على مسألة ووصفها بوصف أو استنبط العلماء أنه شرعها لذلك الوصف، ثم وجد ذلك الوصف في مسألة أخرى لم ينص الشارع على عينها، من غير فرق بينها وبين المنصوص، وجب إلحاقها بها في حكمها؛ لأن الشارع حكيم لا يفرق بين المتماثلات في أوصافها، كما لا يجمع بين المختلفات، وهذا القياس الصحيح هو الميزان الذي أنزله الله، وهو متضمنٌ للعدل، وما يعرف به العدل، والقياس إنما يعدل إليه وحده إذا فُقد النص، فهو أصل يرجع إليه إذا تعذر غيره، وهو مؤيد للنص، فجميع ما نص الشارع على حكمه فهو موافق للقياس لا مخالف له).
القياس هو أحد الأدلة الشرعية الأربعة المتفق عليها بين الأئمة الأربعة وتحته عدد من المباحث:
*
المبحث الأول: تعريف القياس:
في اللغة: هو التقدير والمساواة، تقول: قست الثوب بالذراع إذا قدرته به، وتقول: فلان لا يقاس بفلان أي لا يساوى به.
في الاصطلاح: هو إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما.
والمراد بالإلحاق: تعدية الحكم في مسألة منصوص عليها إلى مسألة غير منصوص عليها مساوية لها في العلة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والعلة: المراد بها هنا: المعنى الذي ثبت الحكم في المسألة المقيس عليها لأجله.
*
المبحث الثاني: الناس في القياس طرفان ووسط:
الطرف الأول: أنكروا القياس أصلاً وهم الظاهرية.
الطرف الثاني: أسرفوا في استعماله حتى ردوا به النصوص الصريحة.
الطرف الثالث: أثبتوا القياس بضوابطه الشرعية وهو ما عليه السلف.
واستدل الجمهور على أن القياس دليل شرعي بعدد من الأدلة منها:
الأول: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فقالوا: إن الله عز وجل أمر بالاعتبار والنظر والتفكر، وفي هذا إثبات للقياس، فالاعتبار: هو تمثيل الشيء بغيره.
الثاني: قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فالله سبحانه وتعالى أقام مثل الشيء مقام الشيء، ولهذا الصحابة رضي الله عنهم حكموا بأن النعامة إذا قتلها المحرم فيها بدنة.
الثالث: ما ورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم (1006).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الرابع: إجماع الصحابة على إثبات القياس، كما في قولهم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه:(رضيه الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا) وقول علي رضي الله عنه: (اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يُبعن كالحرائر، أما الآن فقد رأيت بيعهن كالإماء)
(1)
.
وأما الظاهرية الذين قالوا: بعدم إثبات القياس فإنهم استدلوا على ذلك بأدلة منها:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقالوا: إن الشريعة جاءت بالتفريق بين المتماثلات، وذلك أن الثوب يغسل من بول الجارية، ولا يغسل من بول الصبي، وقالوا أيضاً إن السارق تقطع يده، والغاصب لا يقطع، واستدلالهم بهذا فيه نظر.
والصواب في ذلك: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله.
وأما الجواب عن أدلة الظاهرية فمن وجوه:
الأول: لا شك أن القرآن تبيان لكل شيء، والله عز وجل ما فرط في الكتاب من شيء، ومن ذلك أنه جاء بالقياس.
الثاني: قول الظاهرية بأن الشريعة تفرق بين المتماثلات، فهذا غير
(1)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صحيح؛ لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات، واستدلالهم بالتفريق بين بول الصبي وبول الجارية غير صحيح؛ لأن الفرق موجود بينهما، وكذلك الفرق موجود بين الغاصب والسارق، فالسارق أخذ المال على وجه الاختفاء، بخلاف الغاصب.
*
المبحث الثالث: ضوابط القياس:
والقياس له ضوابط:
الضابط الأول: ألا يوجد نص في المسألة، فإن وجد نص في المسألة فإنه لا يصار إلى القياس؛ إذ النظر لا يعارض الأثر.
الضابط الثاني: أن يكون القياس من عالم مستجمع لشروط الاجتهاد.
الضابط الثالث: صحة القياس باستكمال شروطه الشرعية.
*
المبحث الرابع: أركان القياس:
القياس له أربعة أركان:
* الأول: الأصل:
وهو المحل المعلوم بثبوت الحكم فيه ويسمى (المقيس عليه).
* الثاني: الفرع:
وهو المحل الذي يراد إثبات الحكم فيه ويسمى (المقيس).
* الثالث: الحكم:
وهو الأمر المقصود إلحاق الفرع بالأصل فيه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* الرابع: الوصف الجامع:
وهو المعنى المشترك بين الأصل والفرع.
*
المبحث الخامس: أقسام القياس:
يقسم الأصوليون القياس إلى قسمين:
* القسم الأول: القياس باعتبار قوته وضعفه وهو نوعان:
الأول: قياس جلي:
وهو ما قطع فيه بنفي الفارق المؤثر أو كانت العلة منصوصاً عليها أو مجمعاً عليها.
ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
فالله عز وجل حرّم أكل مال اليتيم، وقاس العلماء عليه تحريم تحريق مال اليتيم، وهذا قياس جلي.
الثاني: قياس خفي:
وهو ما لم يقطع بنفي الفارق فيه ولم تكن العلة منصوصاً عليها أو مجمعاً عليها.
ومن ذلك: القتل بالمحدد، فإن العلماء قد قاسوا عليه القتل بالمثقل، وعليه فإن القتل بالمثقل فيه قصاص.
ومن ذلك أيضاً جريان الربا في البر، فإنه يقاس عليه جريان الربا في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأرز بجامع أن كلاً منهما مكيل مطعوم.
* القسم الثاني: القياس باعتبار علته، وهو ثلاثة أنواع:
الأول: قياس العلة:
وهو ما صرح فيه بالعلة.
ومثاله: قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] فالعلة الجامعة هي التكذيب، والأصل هو قوله:{مِنْ قَبْلِكُمْ} ، والفرع: أنتم.
الثاني: قياس الدلالة:
وهو الذي لم تذكر فيه العلة، وإنما ذكر لازم من لوازمها.
ومثاله: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] والأصل هو إحياء الأرض، والفرع هو إحياء الموتى، والعلة هي عموم قدرته سبحانه وتعالى وكمال حكمته.
الثالث: قياس الشبه:
هو الفرع المتردد بين أصلين.
ومثاله: الرقيق متردد بين أمرين الحر والمال، فهل يشبه بالإنسان الحر أو بالمال؟
ولذلك تجد العلماء يختلفون إذا قتل الرقيق، هل فيه الدية أو فيه القيمة؟ إذا قلنا بأن فيه القيمة أشبه البهيمة، وإذا قلنا بأن فيه الدية أشبه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الإنسان الحر.
وأيضاً لو أن سيده ملّكه مالاً، هل يملك بالتمليك؟
إذا قلنا بأنه يملك بالتمليك أشبه الحر، وإذا قلنا بأنه لا يملك بالتمليك أشبه البهيمة.
*
المبحث السادس:
هناك مسائل اختلف فيها أهل العلم هل يجري فيها القياس أو لا يجري فيها القياس؟
وفي ذلك مسائل:
*
المسألة الأولى: التوحيد والعقائد:
هل يجري فيها القياس أو لا؟
باتفاق أهل السنة والجماعة أن القياس لا يجري في التوحيد والعقائد، إذا أدى ذلك إلى البدعة أو تعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله كتشبيه الخالق بالمخلوق، وإنما يصح القياس في التوحيد إذا استدل به على معرفة الخالق وتوحيده، ويستخدم في ذلك قياس الأولى كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60].
ومن أمثلة ذلك: كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه فالخالق أولى به.
*
المسألة الثانية: الحدود والكفارات:
هل يجري فيها القياس أو لا؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا موضع خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: إن القياس يجري في الحدود والكفارات، وهو ما عليه جمهور الأصوليين، ومن ذلك أنهم قاسوا النباش على السارق في قطع اليد، وقاسوا اللائط على الزاني، وقالوا: إن اللوطي يلحق بالزاني في إقامة الحد؛ لعموم أدلة حجية القياس التي تقدمت، وهو الأقرب؛ لأن أدلة القياس تدل على أن القياس يجري في جميع الأحكام إذا استكملت شروط القياس، فلم تفرق بين حكم وحكم، والحدود والكفارات، من ضمن الأحكام.
القول الثاني: إن القياس لا يجري في الحدود، وهو رأي الحنفية؛ لأن الحدود عقوبات مقدرة من قبل الشرع تشتمل على تقديرات لا تعقل معناها بالرأي كعدد المائة في الزنا، والثمانين في القذف، والقياس لا يصح إلا إذا عقل المعنى الذي من أجله شرع الحكم.
ونوقش: بأن معقولية التقدير غير ممتنعة، فمن الممكن أن يشرع الشارع الحد أو الكفارة لمعنى مناسب، ثم يوجد ذلك المعنى المناسب في شيء آخر.
*
المسألة الثالثة: الرخص:
هل يجري فيها القياس؟
هذا موضع خلاف عند العلماء:
القول الأول: جمهور أهل العلم قالوا بثبوت القياس فيها؛ لما تقدم من الدليل في المسألة السابقة، وهذا الأقرب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثال ذلك: مدة السفر إذا قلنا بأنها مقدرة، وكذا حد الزنى فإنه مقدر، ونصاب السرقة كذلك مقدر، ومثال الرخص قياس الثلج على المطر في الجمع بين الصلاتين.
القول الثاني: لا يثبت فيها القياس وهو قول الحنفية؛ لأن الرخص مخالفة للدليل، فالقول بجواز القياس عليها يؤدي إلى كثرة مخالفة الدليل.
ونوقش: إن الدليل إنما يخالفه صاحب الشرع لمصلحة، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي خولف الدليل لأجلها في صورة أخرى وجب أن يخالف الدليل بها أيضاً عملاً برجحانها فنحن حينئذٍ نكون قد أكثرنا من موافقة الدليل لا مخالفته
(1)
.
*
المسألة الرابعة: العبادات:
هل يجري فيها القياس؟
وهذا موضع خلاف عند أهل العلم.
القول الأول: يثبت القياس في العبادات، وهو قول الجمهور؛ لعموم أدلة حجية القياس.
القول الثاني: إن العبادات لا يثبت فيها القياس، ونسب إلى أبي حنيفة؛ لأن العبادات توقيفية.
(1)
المهذب في أصول الفقه 4/ 1940.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأقرب في ذلك: أن هذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: إثبات عبادة أو كيفية مما لا مجال للعقل فيه، فلا يصح.
الأمر الثاني: إثبات القياس في العبادات متى وجدت العلة التي من أجلها شرع الحكم في الفرع كوجودها في الأصل، فيصح القياس.
*
المبحث السابع: شروط القياس:
يشترط لصحة القياس شروط:
الأول: أن يكون حكم الأصل (المقيس عليه) ثابتاً بالنص أو بالإجماع، أو باتفاق الخصمين عليه، أو بدليلٍ يغلب على الظن صحته، وألا يكون منسوخاً.
الثاني: أن يكون حكم الأصل معقولاً لتعدية الحكم، فإذا كان حكم الأصل ليس معقولاً، فإنه لا يصح القياس؛ لأنه لا يمكن أن يعدّ الحكم للفرع.
وذلك كعدد ركعات الصلوات ككون الظهر أربعاً والعصر أربعاً مثلاً، فإن هذا ليس معقولاً فلا يصح القياس عليه.
الثالث: أن توجد العلة في الفرع بتمامها بالقطع، ويسمى قياس الأولى أو المساواة، أو يغلب على الظن وجودها في الفرع.
الرابع: ألا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه بنصٍ يخالف حكم الأصل.
الخامس: أن يكون حكم الفرع مساوياً لحكم الأصل، وعلى هذا لا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقاس الواجب على المندوب ولا المندوب على الواجب؛ لعدم تساويهما، وإنما يقاس الواجب على الواجب والمندوب على المندوب.
السادس: أن يكون القياس في الأحكام الشرعية العملية.
السابع: أن تكون العلة متعدية، أي: توجد في غير الأصل كوجودها في الأصل، فإن كانت قاصرة، أي: لا تتعدى محل الأصل الذي ثبت حكمه فلا يصح التعليل بها.
مثال التعليل بالعلة القاصرة: تعليل جواز الفطر في السفر بالسفر، فإن هذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غير المنصوص عليه.
الثامن: ألا تخالف العلة المستنبطة نصاً أو إجماعاً.
التاسع: أن تكون العلة وصفاً صالحاً لترتيب الحكم، فلا يصح التعليل بالوصف الطردي كالطول والسواد ونحو ذلك، وأن تكون منضبطة، أي: لا تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة اختلافاً كبيراً.
العاشر: أن تكون العلة مطردة، والمراد بالاطراد: وجود الحكم كلما وجد الوصف المدعى كونه علة.
وعكسه: الانتقاض، وهو وجود الوصف مع تخلف الحكم.
مثاله: لو علل القصاص بالقتل، فإن هذه العلة منتقضة؛ لأن القتل الخطأ لا قصاص فيه باتفاق، ولأن القاتل يقتل ولا قصاص في قتله.
وأما إذا علل القصاص بالقتل عمدا عدوانا فإن هذه العلة مطردة غير منقوضة، فكل من قتل مسلما معصوما يستحق القتل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحادي عشر: أن تكون العلة ثابتة، وسيأتي ما يتعلق بمسالك العلة.
*
المبحث الثامن: تعريف العلة، وطرق إثباتها:
العلة في اللغة: هي المرض.
وفي الاصطلاح: هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع دل الدليل على مناسبته لتشريع الحكم.
وتطلق العلة ويراد بها: المناط، والجامع، والسبب، والمستدعي، والمقتضي، والمؤثر، والمظنة.
والوصف الذي هو العلة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
* القسم الأول: وصفٌ يعلم مناسبته لبناء الحكم الشرعي عليه.
مثل: مناسبة الإسكار لتحريم الخمر، فهذا وصفٌ مناسب يصح القياس عليه.
* القسم الثاني: وصفٌ ليس مناسباً لبناء الحكم عليه؛ لأن الشارع لم يلتفت إليه.
مثل: وصف الطول والقصر والعرض والسواد، فهذه لا تصلح لبناء الحكم عليها؛ لعدم التفات الشارع إليها.
* القسم الثالث: وصفٌ متردد بين القسمين السابقين، بين كونه مناسباً وبين كونه غير مناسب.
مثل: الرقيق هل تجب فيه الدية أو القيمة أو لا تجب؟
لكون الرقيق مترددا بين كونه آدمياً وبين كونه مالاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كيفية طرق إثبات العلة:
الأول: النص.
ومنه ما يكون صريحاً في إثبات العلة، ومنه ما لا يكون صريحاً في إثبات العلة.
مثال الصريح: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر»
(1)
فالعلة هنا الإسكار.
ومثال غير الصريح: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»
(2)
فالعلة هنا تشويش الذهن، وما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو ينازعه الأخبثان»
(3)
فالعلة هنا التشويش أيضاً.
الثاني: الإجماع على أن هذا الحكم علته كذا وكذا.
وذلك مثل: الصغر فهو علة الولاية في المال، فالصغير لا ينفرد بالتصرف في ماله، ولا تصح تصرفاته المالية ويتصرف عنه وليه، والعلة في وجود الولاية على هذا الشخص هي الصغر، وقد أجمع العلماء على هذه العلة.
الثالث: السبر والتقسيم:
الأول: التقسيم.
وهو: حصر الأوصاف التي توجد في الأصل، ومن ذلك قول الله عز وجل:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].
(1)
أخرجه مسلم (2003).
(2)
أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717).
(3)
أخرجه مسلم (560).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا لا يخلوا من ثلاثة أمور:
1 أنهم خلقوا من غير خالق.
2 أنهم خلقوا أنفسهم.
3 أن الله عز وجل خلقهم.
الأمر الثاني: السبر.
في اللغة: الاختبار: وهو إبطال ما ليس صالحاً من الأوصاف، فعندنا هنا وصفان باطلان؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يوجد هكذا صدفة، كما لا يمكن للشيء أن يوجد نفسه، فلابد من خالق خلقهم وهو الله عز وجل.
الرابع: الدوران.
وهو في اللغة: عدم الاستقرار.
وهو اقتران حكمٍ بوصفٍ ما وجوداً وعدماً.
وقول الأصوليين (وجوداً وعدماً): أي أنه لا يكفي الوجود بل لابد أن يكون هذا الوصف مقترناً بهذا الحكم في الوجود وفي العدم.
ومثال ذلك: الشدة في الخمر فإنها علة تحريمه.
ووجوب الزكاة مع تمام النصاب وعدمه مع عدمه، فيدل على أن علة الوجوب ملك النصاب.
الخامس: المناسبة:
المناسبة في اللغة: المشاكلة.
وهي أن يكون الحكم مقترناً بوصفٍ صالح لبناء الحكم عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذلك مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام»
(1)
فالعلة في تحريم الخمر هي الإسكار فدل ذلك على أن كل مسكر يلحق بالخمر في التحريم.
(1)
سبق تخريجه.
فصل أصول مستنبطة من الكتاب والسنة
قوله: (أصول): جمع أصل: وهو ما يبنى عليه غيره أو ما يتفرع منه غيره.
قوله: (مستنبطة): يعني مأخوذة من الكتاب والسنة.
وهذا الفصل ذكر فيه الشيخ رحمه الله عدداً من القواعد الفقهية وهي جمل موجزة، تندرج تحتها مسائل فقهية كثيرة من أبواب متعددة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
والفرق بين القاعدة الفقهية والأصولية يتعدد من وجوه:
* أولاً: أن قواعد الأصول تتعلق بالألفاظ ودلالاتها على الأحكام في غالب أحوالها، وأما قواعد الفقه فتتعلق بالأحكام ذاتها.
* ثانياً: أن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله، وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة الإجمالية، وأما قواعد الفقه فإنما يراد بها ربط المسائل المختلفة الأبواب برباط متحد، وحكم واحد؛ هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله.
* ثالثاً: أن قواعد الأصول إنما تبنى عليها الأحكام الإجمالية، وعن طريقها يستنبط الفقيه أحكام المسائل الجزئية من الأدلة التفصيلية، وأما قواعد الفقه فإنما تعلل بها أحكام الحوادث المتشابهة وقد تكون أصلاً لها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* رابعاً: أن قواعد الأصول محصورة في أبواب الأصول ومواضعه ومسائله، وأما قواعد الفقه فليست محصورة أو محدودة العدد، بل هي كثيرة جداً منثورة في كتب الفقه العام، وكتب الفتاوى في جميع المذاهب.
* خامساً: أن القاعدة الأصولية توجد أولاً، ثم يستخرج الحكم الفقهي، وأما القاعدة الفقهية فتجمع الأحكام الفقهية المتشابهة، فيؤلف منها قاعدة فقهية.
* سادسا: أن القاعدة الأصولية لا يمكن أن يؤخذ منها الحكم الفقهي مباشرة، بل لا بد أن يكون معها دليل تفصيلي.
مثال ذلك: قاعدة [الأمر للوجوب]:
لا يؤخذ منها وجوب أي فعل من الأفعال حتى تضيف إليها دليلا تفصيليا، كقوله تعالى:{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 72].
بينما القاعدة الفقهية يمكن أن نأخذ منها حكما مباشرة.
مثال ذلك: قاعدة [الأمور بمقاصدها]: نأخذ منها اشتراط النية للصلاة وللوضوء.
* سابعاً: أن قواعد الأصول إذا اتفق على مضمونها لا يستثنى منها شيء، فهي قواعد كلية مطّردة كقواعد العربية بلا خلاف، وأما القاعدة الفقهية فهي قاعدة أغلبية لا تشمل جميع جزئياتها كما تقدم.
(وأخذ الأصوليون من الكتاب والسنة أصولاً كثيرة، بنوا عليها أحكاماً كثيرة جداً، ونفعوا وانتفعوا بها).
* ثامناً: أن القاعدة الأصولية لا تعنى بما يتعلق بمقاصد الشريعة، وبيان حكمها ومصالحها وأسرارها، أما بالنسبة للقاعدة الفقهية فإنها تعنى بهذا الجانب.
* تاسعاً: أن القاعدة الأصولية شاملة لأحكام العقائد، والعمليات، بخلاف القاعدة الفقهية فهي خاصة بأحكام العمليات.
قوله: (وأخذ الأصوليون من الكتاب والسنة أصولاً كثيرة).
ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن القواعد الفقهية من أصول الفقه؛ لأنه ذكرها ضمن رسالته، وكأن هذا مبني على ما يفهم من أول الرسالة من التلازم بين الفقه وأصوله، وأن الفقيه الحق هو الأصولي.
والمشهور أن هذه القواعد من قبيل الفقه لا من قبيل أصول الفقه، ولعل القرافي رحمه الله أول من ميز بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه (الفروق)، وقال في موضوع آخر:(فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جداً عند أئمة الفتوى والقضاء، ولا توجد في كتب أصول الفقه أصلاً).
القاعدة الأولى
فمنها: (اليقين لا يزول بالشك).
أدخلوا فيه من العبادات والمعاملات والحقوق شيئاً كثيراً.
فمن حصل له الشك في شيء منها رجع إلى الأصل المتيقن.
هذه هي القاعدة الأولى التي ذكرها المؤلف رحمه الله وهي قوله: «اليقين لا يزول بالشك» وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس الكبرى التي يدور عليها الفقه.
والقواعد الفقهية الخمس هي: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، والعادة محكمة، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقد نضمها ابن سويدان الشافعي بقوله:
ضرر يزال وعادة قد حكمت
…
وكذا المشقة تجلب التيسيرا
والشك لا ترفع به متيقناً
…
والنية أخلص إن أردت أجورا
وقوله: (اليقين لا يزول بالشك):
هذه القاعدة من أوسع القواعد الفقهية تطبيقاً، وأكثرها امتداداً في أبواب الفقه، وقد ذكر السيوطي أنها تدخل في جميع أبواب الفقه.
واليقين في اللغة في المشهور: هو العلم وزوال الشك.
والمراد هنا: الأمر الثابت المعلوم من الشريعة.
وقد يأتي بمعنى الظن الراجح والغالب، وقد استعمل الظن بمعنى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اليقين في القرآن في عدد من الآيات، قال تعالى:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20].
(1)
.
وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
وجه الدلالة: أنه فسر الظن هنا بالتوهم، وقد علمنا أن الوهم قد يطلق عليه الظن الفاسد.
فرع:
قال مجاهد: «كل ظن في القرآن فهو يقين» .
إلا أن الزركشي: قال: هناك ضابطان للفرق بين اليقين والظن في القرآن:
أحدهما: حيث وجد الظن محمودًا مثابًا عليه فهو اليقين، وحيث وجد مذموماً متوعداً عليه بالعذاب فهو الشك.
الثاني: أن كل ظن يتصل به (أنْ) المخففة فهو شك، وكل ظن يتصل به (أنّ) المشددة فهو يقين؛ لأن المشددة للتأكيد خلافاً للمخففة.
والشك في اللغة يراد به: التداخل؛ وذلك لأن الشاك يتداخل عنده أمران، لا يستطيع الترجيح بينهما.
(1)
المجموع 1/ 240.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما في الاصطلاح: فهو تجويز أمرين فما زاد، ولا مزية لأحدها على سائرها، فيَرِد عنده احتمالان أو أكثر، ولا يتمكن من الترجيح بين تلك الاحتمالات.
وقول المؤلف: (اليقين لا يزول بالشك):
يعني بذلك أن الشريعة عولت في أحكامها على اليقين، وليس مراد المؤلف هنا عدم إعمال الظن الغالب؛ لأن الشريعة جاءت بإعمال الظن الغالب في عدد من المسائل، ويدل على ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230]، فعول بالحكم على الظن، والمراد به الاحتمال الراجح.
* أدلة القاعدة:
1 قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
2 حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شُكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً»
(1)
.
3 وحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته
(1)
رواه البخاري 137، ومسلم 361.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلم يدرِ كم صلى أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن»
(1)
.
4 وأما الإجماع على القاعدة فحكاه غير واحد، كالقرافي في (الذخيرة) وفي (الفروق)، وابن دقيق العيد في (إحكام الأحكام).
فإذا شك الإنسان هل أحدث أو لم يحدث؟
فالأصل في ذلك بقاء الطهارة.
وإذا شك هل تطهر أو لم يتطهر؟
فالأصل بقاء الحدث.
وإذا شك هل طلع الفجر أو لم يطلع؟
فالأصل بقاء الليل، فلك أن تأكل ولا تصلي الفجر.
وإذا شك في غروب الشمس هل غربت أو لم تغرب؟
فالأصل بقاء النهار، فليس لك أن تأكل ولا أن تصلي المغرب.
وإذا شك هل وقع الطلاق أو لم يقع؟
فالأصل بقاء النكاح.
القواعد المتفرعة عن قاعدة: [اليقين لا يزول بالشك]
على سبيل الإجمال:
*
القاعدة الأولى: [الأصل عدم المُسْقِط وبقاء الواجب].
مثال ذلك: إذا شك الإنسان هل قضى الصلاة التي عليه أو لم يقضها؟
(1)
رواه مسلم 571.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإن الأصل عدم قضاء الصلاة وبقاء الواجب.
ولو شك هل قضى الدَّين الذي عليه أو لم يقضه؟
فإن الأصل بقاء الدين في الذمة.
*
القاعدة الثانية: [الأصل بقاء ما كان على ما كان].
وهذه القاعدة: دليل الاستصحاب.
ومعنى (الأصل): أي القاعدة المستمرة في الشرع.
قولنا: (بقاء ما كان): أي ثبوت الأمر في الزمان الحاضر.
وقولنا: (على ما كان): أي على ما ثبت عليه في الزمان الماضي.
*
القاعدة الثالثة: [الأصل براءة الذمة].
ومعناها أن الأصل السلامة والخلو من التكليف.
ومعنى القاعدة: أن الإنسان بريء الذمة من وجوب شيء أو لزومه، وكونه مشغول الذمة خلاف الأصل.
ويدل لهذه القاعدة: قوله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
.
(1)
أخرجه البيهقي 10/ 252، وبعضه في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه البخاري 4552، ومسلم 1711. وصححه ابن الملقن، وحسنه ابن الصلاح، جامع العلوم والحكم 2/ 236، وحسنه كذلك ابن حجر في الفتح تحت حديث 2669.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبراءة الذمة تكون من حقين:
أ حق الله تعالى: فلا يجب عليه شيء إلا بدليل؛ إذ الأصل في العبادات التوقيف، فلا تجب عبادة إلا بدليل، ويدخل فيه براءة جسده من الحدود والتعزيرات.
ب حقوق العباد: فلا يطالب بشيء إلا بقيام دليل على انشغال ذمته به؛ إذ الأصل عدم شغل الذمة، سواء كانت مالية أو بدنية.
ومن الفروع المترتبة على ذلك:
لو ادعى شخص على شخص حقاً من الحقوق فنقول: بأن المدَّعَى عليه الأصل بريئة ذمته حتى يثبت هذا الحق بالبينة.
*
القاعدة الرابعة: [الأصل في الصفات العارضة العدم].
من أمثلة هذه القاعدة:
لو أن أحداً اشترى سلعة ثم وجد بها عيباً، فنقول: الأصل عدم العيب، فإذا اختلف البائع والمشتري فنقدم قول البائع؛ لأن الأصل في الصفات العارضة العدم، وأن هذا البائع باع هذه السلعة وليست معيبة.
*
القاعدة الخامسة: [الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته].
الحادث: هو الشيء الذي لم يكن موجوداً ثم وجد، ومعنى ذلك أن وقته المعتبر هو الوقت القريب.
فلو أن شخصاً نام ثم وجد في ثوبه منياً، ثم شك هل حصل من نوم الليل أو النهار؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فنقول يُرجعه إلى أقرب أوقاته، وأقرب الأوقات النوم بالنهار.
*
القاعدة السادسة: [لا ينسب إلى ساكت قول، لكن السكوت في معرض البيان بيان].
هذه القاعدة تشتمل على أمرين:
الأمر الأول: لا ينسب إلى ساكت قول؛ إذ الأحكام تبنى على الألفاظ في الأصل.
ومن أمثلة ذلك: إذا سكتت الثيب عند الاستئذان في النكاح لم يقم سكوتها مقام الإذن.
ومن ذلك: لو أتلف شخص مال آخر، وصاحب المال ساكت، فلا يكون سكوته إذناً في الإتلاف بل يضمن.
الأمر الثاني: «لكن السكوت في معرض البيان بيان» وهذا كالاستثناء من القاعدة.
ومن أمثلة ذلك: سكوت البكر عند استئمار وليها قبل التزويج.
ومن ذلك: إذا سكت المحرم وقد حُلِق رأسه مع القدرة على منعه؛ تلزمه الفدية.
*
القاعدة السابعة: [لا عبرة بالتوهم].
التوهم أدنى من الظن والمراد به الاحتمال العقلي البعيد.
ومن أمثلة ذلك: لو اشتبهت القبلة فصلى بلا تحر ولا اجتهاد؛ فلا تصح صلاته لبنائها على الوهم.
وقالوا: (الأصل الطهارة في كل شيء)، و (الأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه)،
*
القاعدة الثامنة: [الممتنع عادة كالممتنع حقيقة].
الممتنع حقيقة: هو المستحيل الذي لا يمكن وقوعه عقلاً.
والممتنع عادة: هو الذي لم يعهد وقوعه، وإن كان فيه احتمال بعيد بالوقوع.
ومن أمثلة ذلك: ادعاء من عُرِف بالفقر أموالاً عظيمة على شخص، وأنه قد اقترضها منه.
*
القاعدة التاسعة: [الأصل حمل الكلام على ظاهره].
مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «توضؤا من لحوم الإبل»
(1)
فالمعنى الظاهر: الوضوء الشرعي بغسل الأعضاء الأربعة، دون مجرد النظافة؛ لأن ما ورد فيما يتعلق بالعبادات يحمل على لسان الشارع.
*
القاعدة العاشرة: [الأصل في العقود والشروط في العقود الصحة].
مثال ذلك: الأصل في البيوع الطارئة وما يشترطه أحد المتعاقدين من شروط: الصحة، إلا لدليل يدل على التحريم.
*
القاعدة الحادية عشر: [الأصل في الأعيان الحل والطهارة].
قوله: (والأصل الطهارة في كل شيء والأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه).
(1)
رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 255).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الشيخ رحمه الله في منظومته:
والأصل في مياهنا الطهارة
…
والأرض والثياب والحجارة
قول المؤلف: «الأصل» : المراد به القاعدة المستمرة التي نحكم بها.
والمراد بقوله: «والأصل في مياهنا الطهارة» : أن الماء الذي لا نعلم دليلاً على طهارته، ولا على نجاسته، فإننا نحكم بقاعدة الأصل، وهو أن الأصل فيه أنه طاهر ما لم يأت دليل يغيره.
ودليل هذه القاعدة:
1 قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11].
2 قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48].
3 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله غ:«هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
(1)
.
4 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله:«إن الماء طهور لا ينجسه شيء»
(2)
.
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في طهارة المياه، فهذا هو الأصل،
(1)
رواه أبو داود 83، والنسائي 59، والترمذي 69، وابن ماجه 386.
(2)
رواه أبو داود 66، الترمذي 66.
و (الأصل براءة الذمم من الواجبات ومن حقوق الخلق، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك). و (الأصل بقاء ما اشتعلت به الذمم من حقوق الله وحقوق عباده، حتى يتيقن البراءة والأداء).
والقاعدة المستمرة في المياه.
وقول المؤلف: «الأرض» : أي أن الأصل في الأرض أنها طاهرة، والدليل على ذلك:
1 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
(1)
.
2 وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا ذر ابد فيها» ، فبدوت إلى الربذة فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أبو ذر» ، فسكت فقال:«ثكلتك أمك أبا ذر، لأمك الويل» ، فدعا لي بجارية سوداء فجاءت بعس فيه ماء، فسترتني بثوب واستترت بالراحلة، واغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلا، فقال:«الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير»
(2)
.
قال رحمه الله: (والأصل براءة الذمم من الواجبات، ومن حقوق الخلق حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك).
أي: أن الإنسان بريء الذمة من وجوب شيء أو لزومه،
(1)
رواه البخاري 438، ومسلم 521.
(2)
رواه أبو داود 332.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكونه مشغول الذمة خلاف الأصل.
ويدل لهذه القاعدة: قوله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(1)
.
وبراءة الذمة تكون من حقين:
أ حق الله تعالى: فلا يجب عليه شيء إلا بدليل؛ إذ الأصل في العبادات التوقيف، فلا تجب عبادة إلا بدليل، ويدخل فيه براءة جسده من الحدود والتعزيرات.
ب حقوق العباد: فلا يطالب بشيء إلا بقيام دليل على انشغال ذمته به؛ إذ الأصل عدم شغل الذمة، فتبرئ ذمته من حقوق العباد، سواء كانت مالية أو بدنية.
ومن الفروع المترتبة على ذلك: لو ادعى شخص على شخص حقاً من الحقوق فنقول: بأن المدَّعَى عليه الأصل براءة ذمته حتى يثبت هذا الحق بالبينة.
(1)
سبق تخريجه.
القاعدة الثانية
ومنها: «أن المشقة تجلب التيسير»
وبنوا على هذا جميع رخص السفر، والتخفيف في العبادات والمعاملات وغيرها.
المشقة: الحرج، والضيق، والشدة.
* قوله: «التَّيْسِيرُ» : مأخوذ من اليسر، وهو السهولة والليونة.
وهذه إحدى القواعد الخمس الكلية وهي قاعدة المشقة تجلب التيسير.
والمراد بهذه القاعدة: أن من حكمة الله عز وجل ومن رحمته بعباده أنه إذا حصل لهم العسر فالشريعة تخفف وتيسر لهم، وهذه القاعدة يُعبّر عنها أيضاً بلفظ آخر:[إذا ضاق الأمر اتسع].
* أدلة القاعدة:
1 قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
2 وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
3 ومن السنة: ما رواه أحمد في مسنده مرفوعاً: «إنما بعثت بالحنيفية السمحة»
(1)
.
4 وعن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»
(2)
.
(1)
رواه أحمد في مسنده 6/ 116، ولفظه:«إني أرسلت بحنيفية سمحة» ، ورجاله ثقات حفاظ.
(2)
رواه البخاري 69، ومسلم 1734.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
5 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»
(1)
.
6 وأما الإجماع: فحكاه غير واحد، كالشاطبي في «موافقاته» .
والمشقة الواردة في الأوامر الشرعية لا تنافي نفي الحرج الوارد في الشريعة؛ لأمور منها:
* الأمر الأول: أن هذه المشقة التي في الفعل مقدورة للمكلَّف، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
* الأمر الثاني: أن المصلحة في هذا الفعل أعظم من المشقة الواقعة فيه؛ ولذلك نجد الطبيب يصف للمريض الدواء مرًّا، لكن المصلحة المترتبة على الدواء أعظم، وهي الخاصية التي جعلها الله عز وجل في الدواء يُشفَى بها المريض، هذه المصلحة أعظم من المشقة الحاصلة في الدواء، وكذلك أحكام الشريعة، والشارع لا يقصد المشقة لذات المشقة، وإنما مقصوده المصلحة الواقعة في الفعل.
* أقسام المشقة:
قسّم العلماء رحمهم الله المشقة إلى قسمين:
* القسم الأول: مشقة معتادة: فهذه يُكلِّف بها الشارع، فالإنسان يمكنه
(1)
رواه البخاري 39.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أن يتحملها، فكون الإنسان يُصلي الصلوات الخمس هذه مشقة لكنها معتادة، وكونه يصوم شهر رمضان ويزكي هذا الجزء من ماله هذه مشقة لكنها معتادة.
* القسم الثاني: مشقة خارجة على العادة وهذه لا يُكلِّف بها الشارع.
مثال ذلك: إطالة السهر في القيام، وإطالة الصوم في النهار، وإخراج كل المال في الزكاة، أو نصف المال، أو ربعه، هذه لا يُكلِّف بها الشارع.
والمشقة يقسمها الفقهاء كما نص على ذلك ابن نُجيم الحنفي في (الأشباه والنظائر) إلى ثلاثة أقسام:
* القسم الأول: مشقة تخرج الفعل عن طاقة العبد وقدرته كإخراج المال كله في الزكاة.
* القسم الثاني: مشقة خفيفة لا تخرج الفعل عن طاقة العبد وقدرته كأدنى مرض.
* القسم الثالث: مشقة يتنازعها القسمان السابقان فقد تصل إلى رتبة القسم الأول، وقد تنزل إلى رتبة القسم الثاني.
وإنما جاءت الرخصة مع هذا النوع من المشاق لسببين اثنين كما قال الشاطبي في الموافقات:
السبب الأول: لحفظ جوارح العبد، ونفسه، وماله، وما إلى ذلك، حتى لا ينقطع عن العبادة، ويكره التعبد لله عز وجل.
السبب الثاني: حتى لا يصيب العبد انقطاع عند تزاحم الأعمال التعبدية،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكسل وملل عن العبادة.
* مسألة: التيسير في الشريعة له أنواع:
النوع الأول: تيسير بالإسقاط: كإسقاط الصلاة عن الحائض والنفساء، وإسقاط الحج على من لا يجد مالاً.
النوع الثاني: تيسير بالنقص: كالقصر في السفر.
النوع الثالث: تيسير إبدال: كإبدال الوضوء عند مشقة وجود الماء بالتيمم.
النوع الرابع: تيسير تقديم: كجمع التقديم للمسافر.
النوع الخامس: تيسير تأخير: كجمع الصلاة تأخيراً، وقضاء رمضان للمسافر ونحوه.
النوع السادس: تيسير باستعمال المحرم: وذلك في حال الضرورة.
* التخفيف في الشريعة ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تخفيف أصلي، فكل أوامر الشريعة مبنية على التخفيف، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وعن أنس بن مالك قال: قال النبي: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» .
وعن أبي هريرة قال: قال النبي: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وشيء من الدلجة»
(1)
.
مثال ذلك: لا يجب على المسلم في اليوم والليلة إلا خمس صلوات؛ لا تأخذ شيئا كثيرا من وقته، ولا تجب الزكاة إلا على من ملك نصابا وقدر الزكاة في الأثمان مثلا، وعروض التجارة: اثنان ونصف في المائة، ولا يجب الصيام في العام إلا مرة واحدة، ويجب الحج والعمرة على المستطيع في العمر مرة واحدة.
القسم الثاني: تخفيف عارض، وذلك بأن يخفف عن المكلف مرة أخرى إذا ورد عليه سبب من أسباب التخفيف الآتية.
وهذا العارض يُعبِّر عنه العلماء رحمهم الله بقولهم: أسباب التخفيف.
والتخفيف في الشريعة له أسباب:
* السبب الأول والثاني: الخطأ والنسيان.
والخطأ يراد به معنيان:
الأول: ضد الصواب، واسم الفاعل من هذا المعنى:«خاطئ» ، كما في قول إخوة يوسف:{قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97].
الثاني: عدم القصد للفعل، واسم الفاعل منه:«مخطِئ» .
أما النسيان في اللغة: فهو الغفلة.
وأما في الاصطلاح: فهو الغفلة عن الشيء وعدم تذكره.
(1)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل: بأنه ذهول القلب عن معلوم.
والدليل على أن الخطأ والنسيان من أسباب التخفيف:
1 قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، قال الله تعالى كما في صحيح مسلم:«قد فعلت»
(1)
.
2 حديث ابن عباس رضي الله عنه: «إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»
(2)
، وفيه ضعف.
أمثلة لذلك:
المثال الأول: لو أن الإنسان نسي، أو أخطأ فصلى وعليه نجاسة، فهذا النسيان من أسباب التخفيف، فصلاته صحيحة.
المثال الثاني: لو نسي أو أخطأ وأكل وهو صائم، فإن هذا من أسباب التخفيف، فصيامه صحيح.
المثال الثالث: لو نسي أو أخطأ وصلى وهو محدث، فإن هذا من أسباب التخفيف، فلا إثم عليه، لكن يجب عليه أن يعيد الصلاة.
* مسألة: النسيان أو الخطأ من أسباب التخفيف كما يلي:
* الأمر الأول: ما يتعلق بحقوق الله تعالى:
أ فمن حيث الحكم التكليفي: يسقط الإثم بالنسيان أو الخطأ؛ لقوله
(1)
رواه مسلم 126.
(2)
رواه ابن ماجه 2043، وقال أبو حاتم:«لا يثبت» ، وأنكره الإمام أحمد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وأيضاً لحديث ابن عباس المتقدم.
ب لكن بالنسبة للحكم الوضعي في الخطأ والنسيان الضمان:
فإن كان من باب الأوامر: فإنه يضمن ولا يسقط، وإن كان من باب النواهي والتروك فإنه يسقط ولا يضمن.
مثال ذلك: لو صلى الإنسان محدثاً فإنه يضمن إعادة الصلاة؛ لأن الأوامر يمكن استدراكها.
وكذلك لو صلى وقد أخل بالطمأنينة فإنه يضمن، وفي قصة الأعرابي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «ارجع فصل فإنك لم تصل»
(1)
نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعفه مع أنه جاهل، والجهل أخو النسيان.
ولقصة أبي بردة رضي الله عنه: «لما ذبح قبل الوقت أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد»
(2)
.
ولأن عمر رضي الله عنه «لما صلى بالناس وهو جنب أعاد»
(3)
.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم»
(4)
.
(1)
رواه البخاري 757، ومسلم 397 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري 955، ومسلم 1961 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(3)
رواه مالك في الموطأ 1/ 49، وعبد الرزاق في مصنفه 2/ 348، والدارقطني في سننه 1/ 364. وقال صاحب التعليق المغني:«رواته كلهم ثقات، واحتج به الإمام أحمد في مسائل ابنه صالح» .
(4)
رواه البخاري 694.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما إن كان من باب النواهي والتروك: فلا ضمان عليه ولا إثم.
مثال ذلك: رجل أكل وهو صائم، أو شرب ناسياً، فلا شيء عليه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»
(1)
.
كذلك لو جامع في الصيام وهو ناس فلا شيء عليه.
ولو تكلم في الصلاة وهو ناس فلا شيء عليه.
وكذلك في الحج لو صاد وهو ناس أنه محرم، أو ناسٍ أنه في الحرم فلا شيء عليه.
ولو جامع أهله ناسياً أنه محرم لا شيء عليه.
وكذلك لو حلق رأسه ناسياً فلا شيء عليه، ولا ضمان.
* الأمر الثاني: فيما يتعلق بحقوق المخلوقين:
أ فمن حيث الحكم تكليفي: لا إثم عليه، فلو أتلف مال شخص ناسياً يظن أن هذا المال ماله فأكله، أو لبس ثوب غيره حتى أبلاه يظن أنه له، فلا إثم عليه؛ لما تقدم من الدليل على أنه يعذر بالنسيان.
ب لكن بالنسبة للحكم الوضعي في الخطأ والنسيان الضمان: فلا يسقط في حقوق المخلوقين.
(1)
رواه البخاري 1933، ومسلم 1155.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ودليل ذلك:
1 قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]، فوجبت الدية ولم يُعذر بالخطأ، والنسيان أخو الخطأ في كتاب الله عز وجل.
2 ولأن حقوق المخلوقين مبنية على المشاحَّة، فَفرْق بين حق الله وحق المخلوق، ولما غضبت عائشة رضي الله عنها وضربت يد الخادم فانكسرت القصعة، ضمنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم:«طعام بطعام، وإناء بإناء»
(1)
.
* السبب الثالث من أسباب التخفيف: الجهل.
الجهل لغة: نقيض العلم.
وأما في الاصطلاح: الجهل بالأحكام الشرعية، كلها أو بعضها.
والدليل على أن الجهل من أسباب التخفيف: قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، قال تعالى:«قد فعلت»
(2)
، والخطأ إنما يكون عن جهل.
مسألة: أقسام الجهل:
اعلم أن الجهل الذي يكون سببا للتخفيف ينقسم إلى أقسام:
* القسم الأول: الجهل الذي يتعلق بأصول الدين كالعقائد والتوحيد،
(1)
رواه الترمذي 1359. وقال: «حديث حسن صحيح» وأصله في البخاري 2481.
(2)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فهل يكون هذا سببا للتخفيف؟ للعلماء فيها أقوال، من أهمها:
القول الأول: الجهل لا يكون عذراً في التوحيد والعقائد وأصول الدين، ولا سبباً للتخفيف.
القول الثاني: الجهل يكون عذراً، إلا إذا كان مفرطا بأن قام عند الإنسان شبهة في كون هذا شرك أو مكفر أو مخرج من الملة، وأمكنه أن يتعلم.
* القسم الثاني: أن يكون حديث عهد بالإسلام، فإنه يكون سبباً للتخفيف، فإذا شرب خمراً، أو أخرج الصلاة عن وقتها؛ فإن هذا يكون سبباً للتخفيف.
* القسم الثالث: أن يكون ناشئاً في بادية بعيدة عن بلاد الإسلام، فإن من نشأ بعيداً عن أهل العلم، فإن بيئته تكون سببا للتخفيف.
* القسم الرابع: من كان ناشئاً في بلاد الكفار، فإن منشأه يكون سبباً للتخفيف.
* القسم الخامس: ما يدق ويغمض من مسائل الفقه، فإن العامي يعذر فيها، ذكره بعض العلماء رحمهم الله.
* القسم السادس: إذا كان الإنسان مقيماً في المدن، ولم تقم عنده شبهة بأن هذا محرم، فإنه يُعذر لعدم تفريطه، أما إن قامت عنده شبهة، وأَمْكَنه التعليم، بحيث يمكنه أن يسأل العلماء عن هذا الحكم ولم يفعل ولم يتعلم، فإنه لا يعذر لكونه مفرط.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما ما يتعلق بالإثم والضمان، فالجهل لا يخلو من أمرين:
* الأمر الأول: فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل:
أ فمن حيث الحكم التكليفي: لا يأثم؛ لأن حقوق الله مبنية على المسامحة.
فلو أن الإنسان صلى جاهلاً لغير القبلة، أو ترك المضمضة في الوضوء، فلا يأثم، ودليل ذلك:
1 قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
2 ولحديث ابن عباس رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» وفيه ضعف
(1)
.
3 حديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة
(2)
لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة؛ لأنه كان جاهلاً تحريم الكلام، يظن أنه على ما سبق في أول الإسلام وأنه مباح.
ب أما من حيث الحكم الوضعي:
فإن كان في باب الأوامر: فيضمن؛ لأنه يمكنه الاستدراك، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«ارجع فصل فإنك لم تصل»
(3)
لما جهل وجوب الطمأنينة ولم يطمئن.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
رواه مسلم (537).
(3)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بردة رضي الله عنه: «شاتك شاة لحم»
(1)
لما ذبح قبل الصلاة.
وكذلك لو صلى إلى غير القبلة جاهلاً فإنه يعيد الصلاة.
وعند شيخ الإسلام: لا يضمن ولا إعادة.
واستدل شيخ الإسلام: بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالإعادة لما أخل بالطمأنينة لما مضى.
أما إن كان من باب التروك والنواهي: فيعذر إثماً وضماناً.
فلو أن إنساناً جهل النجاسة التي في ثوبه وصلى، أو جهل وجوب إزالة النجاسة؛ فصلاته صحيحة ولا إثم عليه، وكذا لو جهل تحريم الخمر فلا إثم عليه ولا عقوبة؛ لأنه من باب التروك.
* الأمر الثاني: ما يتعلق بحقوق المخلوق:
أ فمن حيث الحكم التكليفي: فإنه يعذر فيه فلا يأثم، فلو جهل وأتلف مال زيد من الناس فلا إثم عليه.
ب أما من حيث الحكم الوضعي: فإنه يضمن، وتقدم حديث عائشة لما ضربت يد الخادم فقال صلى الله عليه وسلم:«طعام بطعام، وإناء بإناء»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأيضاً فإن الله عز وجل أوجب الدية على من قتل خطأ في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]، مما يدل على أنه لا يعذر في الخطأ والنسيان والجهل فيما يتعلق بحقوق المخلوق، فلابد من الضمان.
ولأن حقوق المخلوقين مبنية على المشاحَّة.
* السبب الرابع من أسباب التخفيف: المرض.
المرض في اللغة: هو السَّقَم، واعتلال الصحة.
وأما في الاصطلاح: فهو كل ما يكون معه حرج ومشقة حال فعل المأمور.
ولذلك أمثلة:
المثال الأول: إذا كان الإنسان يلحقه حرج ومشقة ظاهرة إذا لم يفطر وهو مريض، فهذا من أسباب التخفيف.
المثال الثاني: إذا كان المريض يلحقه مشقة ظاهرة إذا لم يجمع، أو لم يتيمم، فهذا من أسباب التخفيف، فله الجمع والتيمم، وكذا إذا لحقه حرج ومشقة إذا صلى قائماً أو راكعاً أو ساجداً، فإنه يجلس ويؤمئ بالركوع والسجود.
والدليل على أن المرض من أسباب التخفيف:
1 قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2 -
وحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما شكى له أن به بواسير: «صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»
(1)
.
* السبب الخامس من أسباب التخفيف السفر:
السفر في اللغة: قطع المسافة.
وأما في الاصطلاح: فهو الخروج من الوطن على قصد السفر عرفاً.
والدليل على أن السفر من أسباب التخفيف:
1 قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
2 فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا سافر قصر وجمع، فدل على أنه من أسباب التخفيف.
مسألة: ذكر العلماء رحمهم الله شروطاً للسفر الذي يكون من أسباب التخفيف؛ إذْ ليس كل سفر يكون سبباً للتخفيف، وهذه الشروط على سبيل الإجمال:
الشرط الأول: المسافة، فهل يشترط للسفر مسافة معينة أو لا يُشترط؟
هذا موضع خلاف:
جمهور أهل العلم رحمهم الله: أن مسافة القصر مسيرة يومين، تساوي 48 ميلا، والميل يساوي كيلو وستين متر، تساوي 77. 72 كيلو مترا، وقيل:
(1)
رواه البخاري (1117).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تساوي 77. 238 كيلو مترا وستة أسباع المتر.
وعند الحنفية: مسيرة ثلاثة أيام.
وعند داود الظاهري: يقصر في طويل السفر وقصيره.
والأقرب: ما ذهب إليه الجمهور رحمهم الله؛ لما ثبت أن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: «كانا يقصران ويفطران في أربعة برد» علقه البخاري بصيغة الجزم، وحكي الإجماع على هذه المسافة.
وقيل: مرجع السفر إلى العرف، فما عده الناس سفرا فهو سفر.
الشرط الثاني: أن لا يكون سفراً محرماً، فمتى كان سفراً محرماً فلا يجوز له أن يترخص فيه برخص السفر، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم.
واستدلوا: بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
قالوا: الباغي: هو الذي يخرج على الإمام.
والعادي: هو قاطع الطريق، وهذا يكون في السفر.
الرأي الثاني: رأي أبي حنيفة، وشيخ الإسلام رحمهما الله: أن هذا ليس شرطاً؛ لعمومات الأدلة، وهذا هو الأقرب، فيترخص الإنسان في جنس السفر، حتى في السفر المحرم يجمع ويقصر ويمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: في الآية: «إن الباغي: هو الذي يَبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي: هو الذي يتجاوز قدر الحاجة» .
الشرط الثالث: الخروج من البلد، فليس له أن يترخص داخل البلد، قال تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 184]، ولم يقل الله عز وجل: أو على نية السفر، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم ترخص حتى خرج من البلد.
الشرط الرابع: المدة، فهل للسفر الذي يُترخص فيه مدة محددة أو ليس له مدة محددة؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:
القول الأول: رأي الحنابلة رحمهم الله: أن مدة السفر الذي يترخص فيه أربعة أيام، فإذا أراد أن يقيم أكثر من أربعة أيام ووصل البلد فليس له أن يترخص.
القول الثاني: رأي المالكية والشافعية رحمهم الله: إذا نوى إقامة ثلاثة أيام قصر، وأكثر يتم.
القول الثالث: رأي الحنفية رحمهم الله: إذا نوى خمسة عشر يوماً فأكثر أتم، وأقل يقصر.
والصواب في ذلك: أنه ليس له حد، لكن إذا أطال الإنسان الإقامة وتشبه بالمقيمين بطول الإقامة فإنه لا يترخص، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في البخاري حده بتسعة عشر يوماً، وهي أعلى مدة قصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيصار إليها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* السبب السادس: الإكراه:
الإكراه: من الكَرْه بالفتح وهو المشقة، قاله الفرَّاء.
وقيل: من الكُرْه، قال ابن منظور في (اللسان):«أَجمع كثير من أَهل اللغة أَنْ الكَرْهَ والكُرْهَ لُغتانِ، فبأَيِّ لغة وقع فجائِزٌ، إلا الفراء فإنه زعم أَنْ الكُرْهَ ما أَكْرهْتَ نَفْسَك عليه، والكَرْه ما أَكْرَهَكَ غيرُكَ عليه» .
والإكراه: هو حمل الغير على أمر لا يرضاه لو خُلِّي ونفسه.
الدليل على أن الإكراه من أسباب لتخفيف:
1 قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
2 وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»
(1)
.
3 وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق»
(2)
، أي: إكراه.
والحديثان فيهما ضعف.
مسألة: اشترط العلماء رحمهم الله في الإكراه الذي يكون سببا للتخفيف شروطاً:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
رواه أبو داود 2193، وابن ماجه 2046، وحكم على ضعفه: الإمام أبو حاتم كما في العلل لابنه 1300، كما حكم بضعفه: ابن عبد الحق في الأحكام الوسطى 3/ 200، وابن القطان في بيان الوهم والإيهام 4/ 251.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* الشرط الأول: أن يكون المُكرِه قادراً على إيقاع ما هدد به، والمُكرَه ليس قادراً على دفعه.
* الشرط الثاني: أن يكون الإكراه عاجلاً ليس آجلاً.
مثال ذلك: لو قال له رجل: طلق زوجتك وإلا قتلتك بعد سنة، فإنه لا يكون إكراهاً معتبراً.
* الشرط الثالث: أن يكون ما يُكَره عليه يشق تحمله.
* الشرط الرابع: أن يظن المكرَه أن المكرِه سيوقع ما هدد به؛ لأن ذلك لا يخلو من ثلاث حالات:
1 أن يعلم أنه سيوقع ما هدد به: فيكون سبباً للتخفيف.
2 أن يظن أنه سيوقع ما هدد به: فهنا أيضاً يكون سبباً للتخفيف.
3 أن يشك أو يظن أنه لن يوقع ما هدد به: فهذا لا يكون سبباً للتخفيف.
* الشرط الخامس: أن يكون الإكراه بغير حق، فإن كان بحق فلا يكون سبباً للتخفيف.
مسألة: الأصل أن الإكراه سبب للتخفيف في الإثم والضمان، لكن قد لا يكون سبباً في التخفيف كما في مسألة القتل، ونحوها.
مثال: ما كان الإكراه سبباً للتخفيف:
في العبادات: إذا أكره على الإفطار في رمضان فلا يبطل صومه،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو أكره أن يأكل في الصلاة، فإن صلاته لا تبطل.
وكذلك في المعاملات: فلو أُكره على البيع أو الشراء، أو أُكره في النكاح على الطلاق، فكل ذلك لا يقع.
وقد لا يكون الإكراه سبباً للتخفيف: كما لو أُكره على قتل إنسان، فليس له أن يقتله.
مسألة: ينقسم الإكراه إلى قسمين:
* القسم الأول: أن يكون في حقوق الله:
أ من حيث الحكم التكليفي: فإنه لا يأثم؛ لما تقدم من الأدلة.
ب من حيث الحكم الوضعي الضمان: فإن كان من باب الأوامر: فإنه يعيد؛ لأنه يمكنه أن يستدرك، فلو أكره على أن يصلي بلا وضوء، فلا إثم عليه لكن يعيد الصلاة.
وأما إن كان من باب النواهي: فإنه يعذر، فلو أُكره على أن يتكلم في الصلاة، أو يأكل وهو صائم، فإنه معذور في هذه الحال، فلا يعيد.
* القسم الثاني: أن يكون في حقوق المخلوقين:
أ من حيث الحكم التكليفي: فلا يأثم، كما تقدم.
ب من حيث الحكم الوضعي الضمان: فإنه يوجب الضمان، لكن يكون تارة على المُكرِه فقط، وتارة يكون على المُكرِه والمُكرَه معاً.
فالأصل: أن الضمان يكون على المكرِه، كما لو أَكرَه زيدٌ عمراً على
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إتلاف مال صالح، فالضمان على زيد.
وقد يكون الضمان عليهما جميعاً، كما لو أَكرَه زيدٌ عمراً على القتل، فالقصاص عليهما جميعا، فالمكرِه متسبب، والمُكرَه مباشر، وليست نفسه أولى بالبقاء من نفس المقتول.
* مسألة: الإكراه يكون في الأقوال كما يكون في الأفعال غير أنها لا تنفذ بالإكراه، فمن أكره على الكفر لا يكفر بنطقه، ومن أكره على البيع لا ينعقد بيعه، ومن أكره على الطلاق لا ينفذ طلاقه وهكذا، ولذلك قالوا:«قول المكره بغير حق ملغى» .
قال ابن رجب: وأما الإكراه على الأقوال فاتفق العلماء على صحته، وأن من أكره على قول محرم إكراهاً معتبراً أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه، وقد دل عليه قول الله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
ولما عدد المجدد محمد بن عبد الوهاب: نواقض الإسلام التي يخرج بفعلها أو قولها من الإسلام استثنى المكره.
* السبب السابع من أسباب التخفيف: النقص.
والنقص ذكر العلماء رحمهم الله له أنواعاً:
* النوع الأول: الجنون:
والجنون: فقدٌ للعقل يصحبه اضطراب وهيجان أحياناً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والقاعدة في المجنون من حيث التخفيف:
1 العبادات البدنية المحضة: فلا تجب عليه، ولا تصح منه كالصلاة والصيام ونحو ذلك.
2 العبادات المركبة من المال والبدن: لا تجب عليه ولا تصح منه، كالجهاد، والحج، والعمرة، والكفارات.
3 العبادات المالية المحضة: كالزكاة تجب في ماله.
4 الحقوق المالية: كالنفقات، وضمان المتلفات، وأروش الجنايات، تجب في ماله، فلا يكون الجنون هنا سبباً للتخفيف، إلا إذا بلغ أرش الجناية ثلث الدية فعلى العاقلة، وأقل من الثلث في ماله.
5 ما يتعلق بعقوده وفسوخه: فلا تصح منه.
6 ما يتعلق بجناياته وحدوده: فالجنون سبب للتخفيف، فلا يقتص منه، ولا يقام عليه حد، لكن ما يتعلق بأرش جنايته تقدم الكلام عليها.
* النوع الثاني من أنواع النقص: العَتَه.
والفرق بين العته والجنون؛ أن الجنون: فقد للعقل يصحبه اضطراب وهيجان أحياناً.
وأما العته: فهو نقص في العقل يصحبه خمول وكسل وسكون.
والقاعدة: أن العته بالنسبة للتخفيف ينقسم قسمين:
القسم الأول: عته ليس معه إدراك، فهذا حكمه حكم المجنون، وقد تقدم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حكمه.
القسم الثاني: عته معه إدراك، فهذا حكمه حكم الصبي المميز، ويأتي حكمه.
* النوع الثالث من أنواع النقص: الأنوثة.
الأنوثة قد تكون سبباً للتخفيف، فيسقط عنها من التكاليف ما لا يسقط عن الذكر.
والقاعدة: [الأصل تساوي الذكور والإناث في التكاليف إلا ما دل الدليل عليه].
فالأنثى لا تجب عليها صلاة الجماعة، ولا الجمعة، ولا الجهاد، ولا الأذان، ولا الإقامة؛ لدلالة الدليل على ذلك، فهو سبب للتخفيف، وإلا فالأصل التساوي في الأحكام، فيجب على الأنثى ما يجب على الذكر من عبادات، وتكاليف، كالصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك، ويحرم عليها ما يحرم على الذكر من محرمات كالزنى، وشرب الخمر، والسرقة وغير ذلك، ويصح منها ما يصح من الذكر من عقود كالبيع، والإجارة، والوقف، وغير ذلك.
ودليل ذلك:
1 عموم الأدلة من القرآن والسنة، فهي شاملة للذكور والإناث.
2 الإجماع على ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* النوع الرابع من أنواع النقص: الرِّق.
والرق في اللغة: العبودية.
وفي الاصطلاح: عجز حكمي يقوم بالإنسان، سببه الكفر بالله عز وجل.
والقاعدة: أن التكاليف الشرعية بالنسبة للرقيق تنقسم إلى أقسام:
1 العبادات البدنية المحضة: فحكمه التساوي مع الحُر، فالصلاة، والصيام ونحو ذلك يجبان على الحر والرقيق، وكذا الكفارات البدنية كالصيام.
والصواب: حتى صلاة الجماعة، والجمعة تجبان على الرقيق.
2 العبادات المالية المحضة: فلا تجب على الرقيق، كالزكاة، والكفارات المالية كالعتق والإطعام والكسوة، ونحوها.
3 العبادات المركبة من المال والبدن: فلا تجب على الرقيق، كالحج والعمرة والجهاد.
4 الحقوق المالية: كأروش الجنايات وقيم المتلفات وغيرها، قال السعدي رحمه الله: (وقسّموا ما يتعلق بالرقيق من ضمانات الأموال إلى أربعة أقسام:
1 قسم يتعلق بذمة سيده قليله وكثيره، وهو ما أذن له فيه.
2 وقسم يتعلق برقبة العبد وهو جناياته وإتلافاته فيخيّر سيده بين فدائه بالأقل من قيمته أو أرش الجناية والإتلاف، أو يسلمه للمجني عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3 -
وقسم يتعلق أيضاً برقبته على المشهور من المذهب، وهو تصرفاته التي يلزم فيها مال مثل: زواجه بلا إذن سيده، فإنه يلزم منه المهر، وعلى القول الصحيح: هذا القسم يتعلق بذمته.
4 ديون العبد التي بلا إذن السيد، فتتعلق بذمته قولاً واحداً يتبع بها بعد عتقه، والله أعلم).
5 عقوده وفسوخه: من البيع والإجارة والنكاح ونحو ذلك، فتصرفات الرقيق كلها غير صحيحة وباطلة إلا مع الإذن، لكن يقع طلاقه.
وهل يملك بالتمليك سواء كان التمليك من السيد أو غيره؟ فيه خلاف.
6 ما يتعلق بجناياته وحدوده: فالرق ليس سبباً للتخفيف، فتقام عليه الحدود والقصاص في العمد، إلا ما ورد من تنصيف الحد في حقه.
وفي غير العمد: تقدم ما يتعلق بأروش الجنايات.
* النوع الخامس من أنواع النقص: النوم والإغماء.
فالنوم والإغماء من أسباب التخفيف، ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم: النائم حتى يستيقظ»
(1)
، والمغمى عليه أشد من النائم.
والتخفيف عن النائم والمغمى عليه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: ما يتعلق بالإثم: فلا يأثم عند ترك المأمور وفعل
(1)
رواه أبو داود 4401، والنسائي 7343.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المحظور، لكن يجب عليه تدارك المأمور الذي يجب عليه تداركه.
فالمغمى عليه إذا كان الإغماء بغير اختياره، فإنه لا يجب عليه قضاء الصلاة إلا إذا أفاق فيها أو أغمي عليه في وقتها ولم يصلها، أو أغمي عليه باختياره، وإذا نام الإنسان عن الصلاة لا يأثم لكن يجب عليه القضاء.
القسم الثاني: ما يتعلق بأقوالهما: لا يترتب عليها أثر، فلا تنعقد عقودهما مثلا كعقود المعاملات، والتبرعات، والأنكحة، والفسوخ ونحوها فلا تنعقد من النائم، والمغمى عليه.
من أمثلة ذلك: إذا باع أو اشترى وهو نائم فلا يصح، أو طلق وهو نائم فلا يقع.
وكذلك إذا باع أو اشترى وهو مغمى عليه فلا يصح منه، أو طلق زوجته فلا يقع عليها.
القسم الثالث: ما يتعلق بأفعالهما:
أما يتعلق بحقوق المخلوقين: فيضمنان، فلو أتلفا مالاً لمخلوق ضمنا، أو جنيا عليهما أرش الجناية ولا قصاص، لما تقدم من الأدلة على ضمان أموال المخلوقين.
وأما ما يتعلق بحقوق الله: فلا ضمان عليهما، فلو شربا خمراً، أو أتلفا صيداً في الحرم فلا ضمان عليهما، ولا حد.
* النوع السادس من أنواع النقص: الصغر.
فالصغير يخفف عنه، والأوامر بالنسبة إلى الصغير تنقسم إلى أقسام:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
1 -
العبادات البدنية المحضة: كالصلاة، والصيام، والوضوء، والغسل لا تجب عليه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: «رفع القلم عن ثلاثة
…
»، وتصح منه إذا ميّز، وأجرها له، ولوليه أجر، لقوله تعالى:(من عمل صالحا فلنفسه).
2 العبادات المركبة من المال والبدن: كالحج، والعمرة، والجهاد، لا تجب عليه ويصح منه الحج والعمرة مطلقاً ولو كان غير مميز، وله أجره، ولوليه أجر؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي رفعت إليه صبيا فقالت: ألهذا حج؟، قال: نعم ولك أجر)
(1)
.
3 العبادات المالية المحضة: كالزكاة، فتجب عليه، ولو كان غير مميز.
4 الحقوق المالية: كقيم المتلفات، وأروش الجنايات، والنفقات، فتجب عليه مطلقا في ماله، إلا ما يتعلق بأروش الجنايات إذا بلغت ثلث الدية فتجب على عاقلته.
5 عقوده وفسوخه: لا تصح منه، إلا أنه يستثنى من عقوده ما يلي:
أ الأمور اليسيرة عرفا، فتصح.
ب ما كان مصلحة محضة، كقبول الهبة والوقف ونحو ذلك، فتصح.
ج إذا كان القصد اختباره عند تسليم ماله إليه، فلا بأس أن يؤذن له في بعض التصرفات لينظر رشده.
(1)
رواه مسلم (1336).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
6 -
الحدود والجنايات: لا تجب عليه، لكن ما يتعلق بأروش الجنايات تقدم الكلام عليها.
* السبب الثامن من أسباب التخفيف: العسر وعموم البلوى.
وهو شيوع البلاء بحيث يصعب على المرء التخلص أو الابتعاد، كطهارة فم الهرة وسؤرها لكثرة تطوافها.
القاعدة الثالثة
ومنها: قولهم: «لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة» ،
فالشارع لم يوجب علينا ما لا نقدر عليه بالكلية،
ذكر الشيخ هنا قواعد:
*
القاعدة الأولى: قوله: «لا واجب مع العجز» .
فالأصل في المأمور أنك تأتي به كله، فإذا لم تستطع أن تأتي به كله، فتأتي بما استطعت منه.
أدلة القاعدة:
1 قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
2 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
(1)
.
3 وفي حديث عمران قال صلى الله عليه وسلم: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب»
(2)
.
ويدخل تحت هذه القاعدة فروع كثيرة، منها:
في الصلاة: يجب على المسلم أن يصلي قائماً، فإذا لم يستطع أن يصلي قائماً فيصلي جالساً ويومئ بالركوع والسجود إذا لم يستطع السجود.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
وما أوجبه من الواجبات فعجز عنه العبد: سقط عنه، وإذا قدر بعضه، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما يعجز عنه وأمثلتها كثيرة جداً.
وكذلك ما احتاج الخلق إليه لم يحرمه عليهم.
ومنها في زكاة الفطر: يجب على المسلم أن يؤدي صاعاً، فإذا لم يجد إلا نصف صاع فإنه يؤديه.
ومنها في الحج: فالأصل أن الإنسان يحج بماله وبدنه، فإذا لم يستطع أن يحج ببدنه فإنه ينيب من يحج عنه.
قوله: (وما أوجبه من الواجبات فعجز عنه العبد: سقط عنه).
يسقط الواجب في حالتين:
* الحال الأولى: مع العجز.
ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» .
* الحال الثانية: حال الحرج والمشقة الظاهرة.
ودليل ذلك: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
قوله: (وإذا قدر بعضه، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما يعجز عنه) أي: إذا قدر على بعض المأمور وعجز عن بعضه، فتحته أقسام:
الأول: أن يكون المقدور عليه وسيلة محضة؛ فلا يجب الإتيان به.
مثاله: لو قدر على الذهاب إلى المسجد، لكن عجز عن الصلاة مع الجماعة.
والخبائث التي حرمها إذا اضطر إليها العبد: فلا إثم عليه، فالضرورات تبيح المحظورات الراتبة، والمحظورات العارضة، والضرورة تقدر بقدرها، تخفيفاً للشر، فالضرورة تبيح المحرمات من المآكل والمشارب والملابس وغيرها.
الثاني: أن يكون المقدور عليه عبادة لو انفرد؛ فيجب الإتيان به.
مثاله: لو قدر على نصف صاع من زكاة الفطر، وجب عليه أن يخرجه.
الثالث: أن يكون غير عبادة لو انفرد، فلا يجب الإتيان به.
مثاله: لو قدر على الصيام إلى نصف النهار فلا يجب عليه الصيام.
*
القاعدة الثانية قوله:
(والخبائث أي المحرمات التي حرمها الله إذا اضطر إليها العبد: فلا إثم عليه، فالضرورات تبيح المحظورات الراتبة أي المستمرة والمحظورات
العارضة الطارئة) أي: «لا محرم مع الضرورة» .
قوله: (تبيح المحظورات الراتبة) أي: المستمرة: كالميتة والخمر والماء النجس ونحو ذلك.
قوله: (والمحظورات العارضة) أي: الطارئة: أي التي يكون تحريمها عارضاً بسبب.
مثل: محظورات الإحرام، كأن يحتاج لحلق الرأس لجرح مثلاً فله أن يحلق رأسه ويفدي.
والدليل على هذه القاعدة: قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
(1)
.
وهذه القاعدة تابعة للقاعدة السابقة: (المشقة تجلب التيسير).
فدل ذلك على أن المحرم تبيحه الضرورة، لكن يشترط لذلك شروط:
* الشرط الأول: أن تكون الضرورة واقعة، فإن كانت منتظرة فإن المحرم لا يباح.
مثال ذلك: إنسان وقع في مخمصة وأصابه الجوع جاز له الأكل من الميتة، أما إذا لم يصبه الجوع، وإنما يخشى الجوع فليس له أن يأكل من الميتة.
* الشرط الثاني: أن لا يكون هناك وسيلة أخرى غير المحرم، فإن كان هناك وسيلة مباحة فإنه لا يجوز؛ ولهذا قال تعالى:{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
والباغي: هو الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال.
والعادي: هو الذي يأخذ من الضرورة أكثر من حاجته.
* الشرط الثالث: أن يكون الأخذ من المحرم بقدره، وعبّر عنه بعض العلماء بقوله:«الضرورة تُقَدَّر بقَدْرِها» ، فيأخذ من المحرّم بقدر ضرورته.
ودليل ذلك:
قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، والباغي:
(1)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هو الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال، والعادي: هو الذي يأخذ من الضرورة أكثر من حاجته.
مثال ذلك: نظر الطبيب للمريضة، أو عورة المريض للضرورة؛ لا يبيح النظر مطلقاً، بل بالقدر الذي تندفع به الضرورة.
ومثال ذلك أيضاً: في أكل الميتة، فإنه يأكل منها بقدر ما يمسك حياته، وليس له أن يشبع، لكن كما قال الإمام مالك: له أن يتزيد إن خاف مسغبة.
ومما يقارب هذه القاعدة قاعدة أخرى، وهي قولهم:«ما جاز لعذر بطل بزواله» .
ومعناها: أن المحرم إذا أبيح للضرورة، فإنه لا يأخذ صفة الاستمرار بالإباحة، بل متى زالت الضرورة رجع الحكم إلى أصله وهو الحرمة.
ودليل هذه القاعدة:
1 قوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103].
2 وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه»
(1)
.
* الشرط الرابع: أن تندفع الضرورة بهذا المحرم، فإذا لم تندفع به فإنه لا يجوز، وإذا شككنا هل تندفع الضرورة بهذا المحرم أو لا؟
(1)
رواه أبو داود 4390.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالأصل عدم الحل؛ لأن ارتكاب المحظور مفسدة متيقنة، واندفاع الضرورة مشكوك فيه، واليقين مُقدم على الشك.
* الشرط الخامس: أن يكون المحظور أنقص من الضرورة.
مثال ذلك: إذا أُجبر إنسان وهُدِّد على أن يقتل إنساناً، فقيل له: اقتل هذا الرجل وإلا قتلناك، ففي هذه الحال لا يجوز أن يقتله؛ لأن هذا المحظور ليس أنقص بل مساوٍ.
مسألة: إذا حصل للإنسان عجز، فله حالتان:
* الحالة الأولى: أن يسقط عنه إلى بدل.
مثاله: عجز عن استعمال الماء، فيسقط عنه إلى التيمم.
ومثال ذلك أيضا: من كان عليه كفارة ظهار، فلم يستطع العتق، فيسقط عنه إلى صيام شهرين، فإن عجز أطعم ستين مسكيناً.
* الحالة الثانية: أن يسقط عنه إلى غير بدل.
مثاله: إذا لم يجد عنده الماء والصعيد، فإنه تسقط عنه الطهارة فيصلي الصلاة في وقتها.
مسألة: الفرق بين الضرورة والحاجة من وجوه:
الوجه الأول: أن الضرورة: ما يضطره الإنسان للمحافظة على نفسه، ومنافعه، وأطرافه.
وقيل: الضرورة حالة تطرأ يخاف معها فوت شيء من مصالح الدين
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو الدنيا، بحيث لا تندفع إلا بارتكاب محرم أو ترك واجب، وتقدم.
والحاجة: ما يلحق الحرج والمشقة بعدمها.
وقيل: الضرورة ما لحق المكلَّف ضرر بعدم فعله ولا يقوم غيره مقامه، بخلاف الحاجة فإن الحاجة هي ما يلحق المكلَّف ضرر بتركه، لكنه قد يقوم غيره مقامه.
مثال ذلك: أكل البصل والثوم مكروه، ويجوز له أن يأكل منه إذا احتاج إليه وإن لم يكن مضطراً، حتى وإن كان هناك شيء آخر يستطيع أن يدفع به حاجته غير هذا الثوم أو البصل.
مثال آخر: سفر الإنسان وحده مكروه، لكن قد يحتاج إلى السفر وحده ولا يضطر فيباح.
وكذلك الالتفات في الصلاة مكروه، لكن الحاجة تبيحه، فإذا احتاج الإنسان أن يبصق فإنه يلتفت ويتفل عن يساره.
الوجه الثاني: أن الضرورة في الغالب تكون إباحة لمحظور ممنوع بنص شرعي، وتكون هذه الإباحة مؤقتة حيث تنتهي بزوال الاضطرار، وتتقيد بالشخص المضطر.
أما الإباحة الاستثنائية الثابتة بالحاجة فهي غالباً لا تخالف نصاً صريحاً، لكن تخالف القواعد العامة في الشرع، والحكم في الغالب يكون بصورة ثابتة.
الوجه الثالث: أن الضرورة تبيح المحظورات، سواء أكان الاضطرار
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حاصلاً للفرد أم للجماعة، أما الحاجة فتبيح المكروه.
فرع:
يظهر والله أعلم: أن تقسيم المحرم إلى تحريم وسائل وتحريم مقاصد فيه نظر، وأنّ ما ورد الدليل على تحريمه فإنه لا يباح إلا لضرورة، إلا لدليل يدل على خلاف ذلك.
*
القاعدة الثالثة: قوله: (الضرورة تقدر بقدرها):
هذه قاعدة أخرى وهي: كالقيد لما قبلها.
ومعناها: أن الاضطرار يبيح المحظور بقدر ما يدفع الخطر، ولا يجوز الاسترسال، ومتى زال الخطر عاد الحظر.
ودليلها: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ومعنى {غَيْرَ بَاغٍ} : أي غير طالب للمحرم مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه، {وَلَا عَادٍ}: أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً.
ومن أمثلة ذلك: أن المضطر إلى أكل الميتة لا يأكل منها إلا بقدر ما يدفع عن نفسه الهلاك.
ومن ذلك: جواز كشف الطبيب عورات الأشخاص، إذا توقف على هذا الكشف مداواتهم، ويكشف من عورته بقدر ما يحتاجه للمداواة ولا يزيد على ذلك.
ويذكر العلماء رحمهم الله على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات قواعد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كثيرة متفرعة عنها ومنها:
1 قاعدة: الاضطرار لا يبطل بها حق الغير:
وعلى هذا إذا اضطر الإنسان إلى طعام غيره: فهل يضمن إذا أكله؟
هذا موضع خلاف:
القول الأول: يضمن مطلقاً وهو المشهور من المذهب.
القول الثاني: إن كان غنياً معه مال فإنه يضمن، وإن كان فقيراً ليس معه مال فإنه لا ضمان عليه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والقول الثاني هو الصواب.
2 قاعدة: ما أبيح شرعاً انتفى ضرره قدراً:
وهذه القاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث إن الشارع إنما حرم الميتة لما فيها من احتقان الرطوبات وعدم إسالة الدم الذي يؤدي إلى تطهيرها وتطييبها، فلما أبيحت للمضطر بإذن الله فإنه يرتفع عنها الضرر.
القاعدة الرابعة
ومنها: «الأمور بمقاصدها»
فيدخل في ذلك: العبادات والمعاملات
قوله: «الأمور» جمع أمر، وهو لفظ عام للأفعال والأقوال كلها، ومنه قوله تعالى:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]، وهو هنا بمعنى: الشيء، والشأن.
قوله: (بمقاصدها): المقاصد جمع مقْصَد، أو مقصِد وهو: مصدر ميمي للفعل قَصَد، والقصد يطلق في اللغة بمعنى الأمّ وإتيان الشيء، ويطلق بمعنى: التوسط بين الإفراط والتفريط، وبمعنى: استقامة الطريق، ومعان أخرى والمراد هنا المعنى الأول، فالقصد هنا بمعنى النية فكأن الناوي يؤّم بقلبه الشيء ويتوجه إليه للإتيان به.
وهذه هي قاعدة النية، والنية في اللغة: العزم والقصد، ونوى الشيء:(قصده واعتقده)
(1)
.
وفي الاصطلاح: عزم القلب على الفعل تقرباً لله عز وجل.
وقد ذكر الشافعي أنها تدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه، وهذا من قبيل التمثيل وإلا فإنها تدخل في جُل مسائل الفقه، ما من باب من أبواب الفقه إلا وتدخله هذه القاعدة، فهي ليست خاصة بالفقه، بل في العقائد والعمليات، كما سيأتي إن شاء الله.
(1)
انظر: «لسان العرب» 15/ 347.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النية لها معنيان:
المعنى الأول: انبعاث القلب نحو قول أو عمل يراه، موافقاً لغرض صالح له من جلب مصلحة أو دفع مضرة، وهذا المعنى عام للأمور الدينية والدنيوية.
المعنى الثاني: قصد الطاعات والتقرب إلى الله تعالى، بفعل المأمور به وترك المنهي عنه، وهذا المعنى أخص من الأول؛ لأنه لا يكون إلا في الأمور الشرعية.
وهذه القاعدة من أجمع قواعد الدين وأشملها وأعظمها منزلة، قال ابن القيم رحمه الله:(وأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه، وأصله الذي يبنى عليه)
(1)
.
ومعنى القاعدة إجمالاً: أن جميع أقوال المكلف وأفعاله تختلف نتائجها وثمارها وأحكامها الشرعية باختلاف قصد الإنسان وغايته من هذه الأقوال والأفعال.
والأدلة على هذه القاعدة كثيرة من القرآن والسُنّة:
1 قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
(1)
انظر: «إعلام الموقعين عن رب العالمين» 4/ 152.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
2 -
3 قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
4 قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2].
5 قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
.
قال أبو عبيد: «ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع، وأغنى، وأكثر فائدة منه» ، وقد جعله بعض الأئمة ثلث العلم، كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي داود، وغيرهم.
6 حديث أبي مسعود البدري قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
رواه البخاري 55، ومسلم 1002.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
7 -
حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«ثم يُبعثون على نياتهم»
(1)
.
8 حديث عقبة بن عامر قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة» ، وذكر منهم:«وصانعه يحتسب في صنعته الأجر»
(2)
.
9 قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها
…
» الحديث
(3)
.
10 وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولكن جهاد ونية»
(4)
.
11 والإجماع قائم على اعتبار هذه القاعدة.
شروط النية:
اشترط العلماء للنية شروطاً:
* الشرط الأول: الإسلام، فالكافر لا تصح نيته، فلا تصح عباداته كالوضوء والصلاة، ونحو ذلك.
وهذا في الجملة؛ لأن الكافر تصح نيته في بعض الأمور، مثل: الكفارة
(1)
رواه البخاري 2118 ومسلم 2884، وفيه: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم. قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم» .
(2)
رواه أحمد 4/ 146 وأبو داود 2513، والترمذي 1637، والنسائي 3148، وابن ماجه 3811.
(3)
رواه البخاري 1295، ومسلم 1628.
(4)
رواه البخاري 3189، ومسلم 1353.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المالية، كما لو ظاهر من زوجته، وكطلاقه، وبيعه، ونذره، ويمينه، فدل ذلك على أن النية معتبرة من الكافر، وأن النية تصح وإن كانت من غير المسلم.
* الشرط الثاني: العقل، فالمجنون لا تصح نيته، فلو نوى المجنون أنه يصلي لم تصح نيته؛ لأنه لا قصد له معتبر.
* الشرط الثالث: التمييز؛ والمميز: هو الذي يفهم الخطاب، ويرد الجواب.
فغير المميز لا تصح نيته، فلو نوى طفل له سنتان، أو ثلاث سنوات أن يتوضأ، أو نوى أن يصلي فلا تصح نيته.
واعلم أن الحج والعمرة يختلفان في بعض المسائل فيما يتعلق بالنية عن كثير من أبواب الفقه، فالحج والعمرة لا يشترط لهما التمييز، فيصح الحج والعمرة من الصبي الذي لم يميز.
ويدل لذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة رفعت صبياً للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر»
(1)
، قال العلماء رحمهم الله: ولو كان ابن ساعة، يعني لو ولد الآن فيصح حجه وعمرته وينوي عنه وليه.
* الشرط الرابع: العلم بالمنوي، بأن يعلم المكلف حكم الذي يُعمل من وجوب، أو ندب، عبادة أو غير عبادة، والعلم بصفته؛ إذْ لا يتصور قصد الشيء إلا بعد العلم به.
* الشرط الخامس: أن لا يأتي بمناف بين النية والمنوي، والمنافي
(1)
رواه مسلم 1336.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قطعها، أو الردة، والعياذ بالله.
فوائد النية:
* الفائدة الأولى: تمييز العبادات بعضها عن بعض، فالإنسان يُصلي ركعتين، قد يقصد بهما الفرض، وقد يقصد بهما السنة الراتبة، أو تحية المسجد، كذلك قد يصلي ركعتين وينوي بهما نفلاً مطلقاً، أو سنة مقيدة، فيميز الإنسان الفروض عن النوافل، والنوافل المعيَّنة عن المطلقة.
* الفائدة الثانية: تمييز العبادات عن العادات، فالإنسان ينغمس في الماء، قد ينوي بذلك أن ينظف بدنه وقد ينوي رفع الحدث الأكبر عنه.
* الفائدة الثالثة: الإخلاص لله عز وجل، وسيأتي إن شاء الله الإشارة فيما يتعلق بالتشريك في النية، فقد يتصدق الإنسان وينوي بذلك وجه الله عز وجل، وقد ينوي بذلك الرياء والسمعة وعرض الدنيا.
* الفائدة الرابعة: فيما يتعلق بتداخل العبادات، فالضابط في ذلك: أنه إذا كانت العبادة ليست مقصودة لذاتها فإنها تدخل مع غيرها.
مثال ذلك: تحية المسجد ليست مقصودة لذاتها فإنها تدخل مع غيرها كالسنة الراتبة، فإذا دخلت المسجد لصلاة الظهر فإنك تصلي ركعتين، تنوي بهما السنة الراتبة وتحية المسجد.
فإذا نويت تحية المسجد والسنة الراتبة حصل لك صلاتان بركعتين، وإذا توضأت وأتيت المسجد تنوي السنة الراتبة، وتحية المسجد، وركعتي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الوضوء، فيحصل لك ثلاث صلوات بركعتين، فهذه من فوائد النية، وكذلك إذا توضأ الإنسان للضحى وصلى ركعتين ينوي بهما ركعتي الوضوء وركعتي الضحى يحصل له صلاتان بركعتين.
ولو أن الإنسان عطس وهو يرفع من الركوع فقال بعد قوله سمع الله لمن حمده: ربنا ولك الحمد، ينوي بذلك التحميد، وأيضاً قول الحمد لله بعد العطاس فإنه يجزئ.
كذلك لو أن الإنسان لم يطف طواف الإفاضة، ثم أخره حتى خرج من مكة فإنه يطوف، وينوي بذلك طواف الإفاضة وطواف الوداع، ويجزئه ذلك.
* الفائدة الخامسة: حصول الثواب، فالنية شرط الإثابة، ويتوقف حصول الثواب على قصد التقرب إلى الله تعالى بهذا الفعل أو القول، فالمباح كالأكل والشرب ونحو ذلك إذا صحبه نية صالحة كالاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على طاعة الله تعالى بهذا المباح يكون عملاً صالحاً يثاب عليه المسلم.
* الفائدة السادسة: في ألفاظ المكلف، وتمييز المراد منها كما في الكنايات التي تحتمل معنيين.
محل النية:
محل النية القلب، قال النووي:«بلا خلاف» ، وقال ابن تيمية وغيره: ولا يتلفظ بها أي بالنية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتلفظ بالنية في رواية في مذهب الإمام أحمد وغيره: أنها مستحبة، واحتجوا بالأثر:«لبيك عمرة وحجاً»
(1)
وكذلك بالنظر قالوا: اجتماع جارحتين في عمل آكد وأولى، وعلى هذا فليست النية من أعمال الجوارح، وإنما هي من أعمال القلوب، فيكفي في ذلك قصد القلب وعزيمته، وأما التلفظ بها فهذا لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته؛ إذْ لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد الصلاة أو الوضوء قال: نويت أن أصلي، أو أتوضأ أو أغتسل.
وأما بالنسبة للحج والعمرة فهو تصريح بالمنوي وليس بالنية، ولهذا لا يشرع للإنسان إذا أراد أن يحرم بالحج أو العمرة أن يقول: نويت العمرة، أو نويت الحج، وإنما يلبي بالمنوي إظهاراً لشعيرة الله عز وجل، فإذا أراد الحج قال:«لبيك حجاً» ، وإذا أراد العمرة قال:«لبيك عمرة» ، ولا يشرع أن يقول: نويت العمرة متمتعاً بها إلى الحج، أو قصدت الحج.
فالإيراد الذي يأتي في الحج نقول: بأنه إظهار للمنوي وليس إظهاراً للنية، فالتلبية شعيرة النسك وهي تحدث بعد نية العمل، وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أنكر على رجل قال:«اللهم إني أريد حجاً أو عمرة»
(2)
، قال ابن رجب: في شرح الأربعين: «هذا خبر صحيح عنه» .
مسألة: هل النية شرط أو ركن في العبادات؟
هذا مما وقع الخلاف فيه، والفرق بين الشرط والركن: أن الشرط
(1)
رواه البخاري 4353، ومسلم 1232.
(2)
رواه البيهقي 5/ 40.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يكون سابقاً للمشروط، بينما الركن جزء من أجزائه.
وإذا تقرر لنا أن النية تسبق الفعل فإنها حينئذ تكون شرطاً، وأما النية المقارنة للفعل، فإنها ركن في العبادة، وهذا يجرنا إلى مبحث وهو:
ما هو وقت النية؟
الأصل في النية أن تكون مقارنة للفعل المنوي، أو قبله بيسير، هذا هو الأصل، إلا أن الشارع في بعض الأعمال صحح سبق النية للفعل، مثل: الصيام، فمن نوى الصيام من الليل صح صومه، ولو لم تكن نيته مقارنة لأول الصوم.
مسألة: ما لا تشترط له النية:
هناك أشياء لا تشترط لها النية منها:
* أولاً: التروك، كإزالة الخبث، فلا تشترط له نية، فلو أن الإنسان أصاب ثوبه بول، ثم وقع ثوبه في ماء، أو نزل عليه المطر ولم ينوِ إزالة الخبث من هذا الثوب فإنه يطهر؛ لأن المقصود إزالة الأذى وقد حصل، وسواء كان هذا الخبث على الثوب، أو البدن، أو البقعة التي يُصلى عليها.
* ثانياً: العبادة التي لا تكون عادة، قال العلماء رحمهم الله:
لا تشترط لها النية مثل الخوف من الله عز وجل، والتوكل عليه، وكذلك قراءة القرآن، وغيرها من العبادات التي لا تكون عادات؛ لكونها لا تلتبس بغيرها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* ثالثاً: ما كان نفعه متعدياً، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو حيوان إلا كُتب له بذلك أجر»
(1)
فهذا الرجل زرع زرعاً ولم يقصد بذلك إطعام الطير، بل أحياناً يضع في زرعه ما يدفع الطير ويمنعه من أكل الزرع، ومع ذلك إذا أكل الطير من هذا الزرع فإنه يكتب له الأجر عند الله عز وجل.
* رابعاً: ما يغلب فيه حق المخلوق، كرد الودائع والمغصوب والنفقات الواجبة.
مسألة: مبطلات النية:
1 الردة: ودليل ذلك: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
2 قطع حكم النية أو العزم على القطع: فإذا قطع حكم النية فإنها تبطل عبادته.
مثال ذلك: إذا كان يصلي ثم قطع نيته أو عزم على قطعها، أو يتوضأ ثم قطع نيته أو عزم على قطعها، فإن عبادته ونيته تبطل.
3 التردد في القطع: يعني إذا تردد هل يبطل غسله أو صلاته أو لا؟ هل تبطل بذلك النية؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم.
والصواب: أنها لا تبطل عبادته؛ لأن أصل النية لا يزال باقياً، ويدل لذلك: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم
(1)
رواه البخاري 2320، ومسلم 1353.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
فابن مسعود رضي الله عنه لما أطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام قال: «هممت أن أجلس وأترك النبي صلى الله عليه وسلم يصلي» فهو عزم على ذلك، ومع ذلك لم تبطل عبادته.
4 العزم على فعل المحظور: فهذا لا يُبطل النية، فلو قام الإنسان يصلي ثم عزم على الأكل، أو الشرب، أو الكلام، أو غير ذلك من المبطلات فإن نيته لا تبطل.
مسألة: الانتقال بالنية من عبادة إلى عبادة له أربع صور:
* الصورة الأولى: أن ينتقل من عبادة معينة إلى عبادة معينة، فتبطل الأولى ولا تنعقد الثانية.
والمعين: هو المقيد بزمان أو مكان أو حال، أو كان واجباً، وما عداه المطلق.
ولذلك أمثلة، منها:
المثال الأول: إنسان شرع يصلي الظهر، ثم تذكر أنه صلى الفجر وهو محدث، فنوى أن هذه الصلاة هي صلاة الفجر، فنقول: بطلت الأولى وهي صلاة الظهر؛ لأنه قطع نيتها، ولم تنعقد الثانية وهي صلاة الفجر؛ لأن النية كما سبق لنا أن محلها مع الشروع في العبادة أو قبل الشروع بزمن يسير عند بعض العلماء، وقيل: ولو قبل الشروع بزمن كثير.
(1)
رواه البخاري 1135، ومسلم 773.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المثال الثاني: إنسان يصلي الظهر ثم تذكر أنه لم يصلِّ راتبة الظهر القبلية، فنوى أنها راتبة الظهر القبلية، فالحكم هنا: بطلت صلاة الظهر؛ لأنه قطع نيتها، ولم تنعقد السُنة القبلية؛ لأنه لم ينوها قبل الدخول في الصلاة.
* الصورة الثانية: أن ينتقل بنيته من معين إلى مطلق فهذا لا بأس به.
مثال ذلك: إنسان يصلي الظهر، ثم نوى أنها نفل مطلق ليس معينا، فإذا انتقل من المعين إلى المطلق فلا بأس به؛ لأن الصلاة اشتملت على نيتين نية الإطلاق ونية التعيين، فالآن هو أبطل نية التعيين فبقيت نية الإطلاق.
* الصورة الثالثة: أن ينتقل بنيته من مطلق إلى معين فلا يصح.
مثال ذلك: إنسان صلى نافلة مطلقة ثم انتقل من هذه النافلة المطلقة إلى نافلة معينة؛ كأن ينوي بهذه النافلة المطلقة سنة راتبة، أو فريضة، فلا يصح هذا الانتقال.
* الصورة الرابعة: الانتقال من مطلق إلى مطلق، فهذا لا أثر له؛ لأنه لا يترتب عليه شيء.
مثال ذلك: إنسان نوى أن يصلي أربع ركعات نفلا مطلقاً ركعتين ركعتين، فشرع في الركعتين الأوليين، ثم نوى أن هاتين الركعتين الأوليين هما الركعتان الأخيرتان، فهذا لا يترتب عليه شيء.
مسألة: التشريك في النية، وإرادة العابد بعبادته حظاً من حظوظ الدنيا، على أقسام:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القسم الأول: أن لا يريد بإسلامه إلا الدنيا، فهذا شرك ونفاق.
القسم الثاني: أن لا يريد بالعبادة إلا الدنيا وحدها، كمن يحج ليأخذ المال، وكمن يغزو من أجل الغنيمة وحدها، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الوظيفة، ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى، فهذا القسم محرم وكبيرة من كبائر الذنوب، وهو من الشرك الأصغر، ويبطل العمل الذي يصاحبه، ويدل لذلك: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع»
(1)
.
القسم الثالث: أن يريد بالعبادة وجه الله والدنيا معاً، كمن يخرج لوجه الله والتجارة، وكمن يقاتل ابتغاء وجه الله والدنيا، وكمن يصوم لوجه الله والعلاج.
فمن العلماء من قال: ببطلان العمل لمنافاته الإخلاص.
ومنهم من قال: بصحته؛ لما يأتي في القسم الخامس.
(1)
رواه البخاري 2887.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنهم من قال: إن غلّب قصد العبادة صحت، وإن غلّب قصد الدنيا بطلت.
وعلى كل فأجره ناقص، ويدل لذلك: حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم»
(1)
.
القسم الرابع: أن يبتدئ العبادة مريداً للدنيا، ثم تطرأ إرادة الثواب، فإن كانت العبادة مرتبطاً آخرها بأولها كالصلاة لم يصح، وإن لم يكن؛ صح ما قصد به وجه الله عز وجل.
القسم الخامس: أن يكون الدافع إرادة الثواب، وتكون إرادة الدنيا تابعة، فهذا مباح؛ بدليل أن الشارع رتب على العبادات، أو على بعضها ثواباً معجلا، قال تعالى:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10: 12].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب، والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة»
(2)
.
القسم السادس: أن يعمل العبادة بإخلاص تام، ثم يريد بها
(1)
رواه مسلم 1906.
(2)
رواه الترمذي 810.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو بشيء منها، كحال الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فسألوا الله عز وجل بخالص أعمالهم أن يفرج ما هم فيه، فالحديث يدل على جوازه.
مسألة: القواعد المندرجة تحت عموم هذه القاعدة:
1 قاعدة: «العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني» .
فالقصد والنية إذا عارضت اللفظ كانت هي المعتبرة لا اللفظ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر يقول: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها، فباعوها»
(1)
، ولو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ الظاهر دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعن.
2 قاعدة: «الثواب لا يكون إلا بالنية» .
لقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
3 قاعدة: «المقاصد معتبرة في التصرفات والعادات» .
التصرفات: كل ما صدر عن الشخص بإرادته من قول أو فعل يرتب عليه الشرع أثراً من الآثار، سواء كان في صالح ذلك الشخص أو لا.
فمن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد
(1)
رواه البخاري 2223، ومسلم 1682.
وتحريم الحيل المحرمة مأخوذ من هذا الأصل.
إتلافها أتلفه الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله»
(1)
.
4 قاعدة: «من كان عازماً على الفعل عزماً جازماً، وفعل ما يقدر عليه منه، كان بمنزلة الفاعل» .
5 قاعدة: «من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه» .
6 قاعدة: «اللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية» .
7 قاعدة: «الكناية مفتقرة إلى نية» .
قوله: (وتحريم الحيل المحرمة مأخوذ من هذا الأصل).
أي: أن تحريم الحيل المحرمة داخل تحت هذه القاعدة؛ لأن الحيلة ظاهرها الجواز، ولكنها حرمت نظراً لقصد فاعلها.
والحيل: جمع حيلة، والحيلة في اللغة: الحذق في تدبير الأمور، وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود، والحيلة والاحتيال: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف.
وأما في الاصطلاح: فهو عمل يتحول به فاعله من حال إلى حال.
والأدلة على الحيل كثيرة جدًا من ذلك: قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98].
(1)
رواه البخاري 2387.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن الأدلة ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه»
(1)
.
فاليهود احتالوا على تحريم الشحوم، لم يأكلوها مباشرة وإنما أكلوا أثمانها.
وأيضًا «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحِلَّ والمحلَّل له»
(2)
.
واعلم أن الحيل تنقسم إلى قسمين:
* القسم الأول: حيل شرعية.
* القسم الثاني: حيل غير شرعية محرمة.
الحيل الشرعية: هي التي يأتي بها الإنسان للتخلص من المأثم، أو التوصل إلى الحق، أو دفع باطل بطريق مشروع، وذلك مثل الأسباب التي نصَبَها الشارع مُفْضِية إلى مسبباتها، كالبيع سبب لتملك الرقبة، والإجارة سبب لتملك المنفعة، وكذلك المعاريض في الكلام عند المصلحة، أو عند دفع الظلم عنه؛ كأن يكون عنده وديعة لشخص فيأتي ظالم يريد أن يأخذ هذه الوديعة فيعرض له يقول: ما له عندي شيء ويقصد في جيبه مع أن الوديعة في البيت، أو ماله عندي شيء في بيتي مع أنها في مكان آخر، ومن ذلك أن
(1)
أخرجه البخاري رقم (2236) ومسلم رقم (1581).
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 448) والنسائي (6/ 149) والترمذي رقم (1120)، والدارمي (2/ 158) وابن أبي شيبة (3/ 553) والبيهقي (7/ 208) وصححه الترمذي وابن حزم وابن دقيق العيد وابن القطان وابن الملقن وغيرهم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النبي صلى الله عليه وسلم أتي بتمر جنيب (جديد) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا يعني (التمر الجنيب) بالصاعين يعني من التمر الرديء (الجَمْع) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلا تفعل بع الجَمْعَ (التمر الرديء) بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا»
(1)
أي: تمرًا جديدًا؛ فهذا من باب الحيلة لا للوقوع في الحرام، وإنما لتوقي الحرام فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الذي يستطيع به أن يتخلص من الوقوع في الحرام فبدلًا من أن يقع في ربا الفضل، مثل أن يأخذ الصاع بصاعين أرشده إلى أن يبيع الجمع (التمر الرديء) بالدراهم ويشتري بالدراهم جنيبًا.
والحيل المحرمة: وهي الحيل التي يتوصل بها إلى إبطال حق؛ أو إحقاق باطل، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
في باب العبادات:
صلاة الجماعة واجبة فلو أكل شخص بصلًا، أو ثومًا لكي يتحيل على ذلك بترك الجماعة لم يجز.
ومنها: الفطر في رمضان محرم، فيتحيل على ذلك بالسفر لكي يفطر، فإن هذه الحيلة محرمة.
ومن الأمثلة في المعاملات:
بيع العينة محرم؛ لأنه حيلة على ربا الفضل وربا النسيئة، بدلًا من أن يقرضه خمسين بستين إلى أجل، يسلك مسلك العينة فيشتري منه سلعة
(1)
أخرجه البخاري رقم (2201) ومسلم رقم (1593).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وانصراف ألفاظ الكنايات والمحتملات إلى الصرائح من هذا الأصل، وصورها كثيرة جداً.
بثمن مؤجل بستين ألفًا ثم يبيعها عليه بخمسين ألفًا، فأصبحت خمسين بستين.
ومن ذلك في باب الأنكحة:
نكاح التحليل فالنبي صلى الله عليه وسلم: «لعن المحلِّل والمحلَّل له»
(1)
فيتزوج المرأة لا لقصد الزواج وإنما لقصد أن يحلها لمن طلقها ثلاثًا، فإذا كان ذلك عن مؤامرة واتفاق، أو لم يكن هناك اتفاق وإنما نوى التحليل للزوج ولم يقصد الاستمرار فهذا كله محرم ولا يجوز.
قوله: (وانصراف ألفاظ الكنايات والمحتملات إلى الصرائح مأخوذ من هذا الأصل).
الكنايات: جمع كناية وهي: اللفظ الذي استتر المعنى المراد به، فلا يفهم إلا بقرينة، مثل: كنايات الطلاق، وهي: الألفاظ التي لا تدل بلفظها على الطلاق، مثل: اذهبي لأهلك، اخرجي من المنزل، اعتزلي، ونحو ذلك.
والصرائح: جمع صريحة، واللفظ الصريح هو: اللفظ الذي ظهر معناه ظهوراً تاماً لكثرة استعماله.
فاللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية، فلو قال لزوجته: أنت طالق حصل الطلاق بمجرد التلفظ به.
(1)
أخرجه أحمد (4284)، وأبو داود (2076)، وابن ماجه (1934).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما الكناية كأن يقول لزوجته: اذهبي لأهلك، فإنه يختلف الحكم باختلاف قصد المتكلم ونيته، فإن نوى إيقاع الطلاق وقع، وإن قال: قصدت مجرد الزيارة ولم أقصد الطلاق فإنه يصدق بدعواه؛ لأن غير الصريح لا يعطى حكمه إلا بالقصد، فلا ينفصل الفعل عن النية.
وكذا لو قال لزوجته: أنت مثل أمي، فهذا اللفظ محتمل للظهار وغيره، فيرجع إلى النية في تحديد المراد، فإن نوى أنها مثل أمه في الكرامة فلا شيء عليه، وإن نوى أنها مثل أمه في حرمة وطئها والاستمتاع بها فهو مظاهر.
وكذا لو قال: تصدقت، وحرّمت، وأبدت، فإنها لا تفيد انعقاد الوقف إلا بالنية التي تحدد المراد؛ لأن هذه الألفاظ محتملة للوقف وغيره، والله تعالى أعلم.
القاعدة الخامسة
ومنها: «يختار أعلى المصلحتين، ويرتكب أخف المفسدتين عند التزاحم»
وعلى هذا الأصل الكبير ينبني مسائل كثيرة، وعند التكافؤ فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
قوله: (ومنها: يختار أعلى
…
).
ذكر الشيخ هنا ما يتعلق بتزاحم المصالح، وتزاحم المفاسد.
فالمصالح: هي أوامر الشرع.
والمفاسد: هي نواهي الشرع.
وعبر عن الأوامر بالمصالح لأن الأوامر تنتج المصالح، وعبر عن النواهي بالمفاسد؛ لأن النواهي تنتج المفاسد.
* أدلة القاعدة:
1 الأمر بالأخذ بالأحسن كما في قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
2 وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145].
3 قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»
(1)
.
* المسألة الأولى: تزاحم المصالح لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يمكن الجمع بين هذه المصالح، والإتيان بها كلها، فيأتي بها كلها.
الأمر الثاني: أن لا يمكن الجمع بين هذه المصالح، فلا يمكن أن تفعل إلا إحدى المصلحتين، وهذا هو المراد هنا فأيهما يقدم؟
هذا تحته أقسام:
1 أن تتزاحم الواجبات: فإذا تزاحمت فإننا نقدم آكد الواجبين، ولذلك أمثلة:
المثال الأول: إنسان عنده ماء وحضر وقت الصلاة، وهذا الماء يحتاجه للشرب ويحتاجه للوضوء، فالوضوء واجب، وإبقاء النفس والمحافظة عليها واجب، فأيهما آكد؟ نقول: إبقاء النفس آكد، فيقدم الشرب على الوضوء.
المثال الثاني: إنسان عليه فائتة: صلاة الفجر، وعليه حاضرة وهي صلاة الظهر، فنسي أن يصليها حتى تضايق وقتها ولم يبقَ إلا عشر دقائق لفعل صلاة الظهر، فنقول: ابدأ بالحاضرة؛ لأن الحاضرة هنا آكد؛ إذْ لو فعلها كانت أداء في وقتها.
المثال الثالث: طاعة الله واجبة، وطاعة الأب واجبة، فلو تزاحمتا
(1)
رواه البخاري (9)، ومسلم (35).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عندك، فتقدم طاعة الله عز وجل على طاعة الوالد؛ لأن طاعة الله آكد من طاعة الوالد.
المثال الرابع: إذا كان عند الإنسان دراهم، فإما أن يحج بهذه الدراهم في هذه السنة، وإما أن ينفقها على أهله، فتعارض واجبان، فنقول: يقدم النفقة؛ لأن النفقة آكد.
المثال الخامس: إذا كان عنده دراهم إما أن ينفقها على زوجته وأولاده، وإما أن ينفقها على أقاربه، فينفقها على زوجته؛ لأنها آكد.
المثال السادس: إذا كان عنده دراهم إما أن يحج بهذه الدراهم، وإما أن يقضي بها الدين، فصرف هذه الدراهم في قضاء الدين آكد.
2 إذا تعارض واجب ومستحب: فالأمر في ذلك ظاهر، فإنه يُقدم الواجب على المستحب، ولذلك أمثلة:
المثال الأول: إنسان عنده دراهم إما أن يخرجها صدقة، وإما أن يخرجها زكاة، فيبدأ بالزكاة.
المثال الثاني: إنسان عنده دراهم، إما أن يتصدق بها، أو ينفقها على أهله ونفسه، فيبدأ بالنفس والأهل؛ لأن الواجب مقدم على المستحب.
المثال الثالث: لو تعارضت نوافل الصلاة مع الواجب، فيقدم الواجب.
3 إذا تعارض عنده مستحبان، أو سنتان فيقدم أفضل السنتين، أو المستحبين، والتفضيل ذكر العلماء له أسباباً، منها:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
* السبب الأول: التفضيل للآكدية.
مثاله: ما لو بقي ثلاث دقائق على طلوع الفجر، فإما أن يصلي ركعة الوتر، أو يصلي نافلة مطلقة، فيقدم الآكد وهو الوتر.
* السبب الثاني: كون إحدى السنتين أنفع للقلب وأصلح له.
مثاله: إنسان تعارض عنده إما أن يقرأ القرآن بلا صلاة أو يصلي، فإنه يفعل ما هو أصلح للقلب سواء كان ذلك قراءة القرآن أو الصلاة.
* السبب الثالث: كون إحدى السنتين نفعها متعد.
مثال ذلك: لو تعارض عنده في هذه الساعة إما أن يحضر الدرس، أو يقوم يصلي، فنقول: يحضر الدرس؛ لأن كونه يتعلم هذا نفع متعد.
وأيضاً: لو تعارض عنده إما أن يقوم يصلي ركعتين، أو يجلس يستمع إلى العلم، فالأفضل له أن يجلس ويستمع إلى العلم؛ لأن هذا نفعه متعد.
وأيضاً: لو تعارض عنده إما أن يدعو إلى الله عز وجل، أويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في هذه اللحظة، أو يقوم يصلي ركعتين، فالأفضل أن يدعو ويأمر؛ لأن هذا نفعه متعد.
* السبب الرابع: كون السنّة مشروعة في هذا الحال، أو في هذا الزمان، أو هذا المكان، فإنها تقدم على غيرها.
مثال ذلك: بعد انتهاء الصلاة المكتوبة يشرع للإنسان الذكر من تهليل، وتسبيح، هذه هي السنّة، والقرآن أشرف الذكر، فإذا انتهت الصلاة إما أن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يذكر الله عز وجل، أو يقرأ القرآن، فالسنة أن يقدم الذكر هنا على قراءة القرآن.
* السبب الخامس: كون هذا التقديم يؤدي إلى العمل بالسنة كلها.
مثال ذلك: بعد الانتهاء من الصلاة إما أن يسبح المصلي ثلاثاً وثلاثين مرة، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين مرة، ويكبر الله ثلاثاً وثلاثين مرة، ويقول في تمام المائة:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، أو أن يسبح عشراً ويحمد عشراً ويكبر عشراً، فتزاحم ذلك عنده، فنقول: يقدم العمل بالسنّة كلها، بأن يأتي بهذا تارة، ويأتي بهذا تارة ليعمل بالسنة كلها.
* السبب السادس: أن يكون أحد المستحبين يحصل به التأليف.
مثال ذلك: عيادة المريض، واتباع الجنازة، والصلاة على الميت، فهذه الأصل فيها أنها فرض كفاية: إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وصارت في حق الباقين سنة.
فإذا تعارض عند الإنسان: إما أن يقوم يصلي، وإما أن يتبع جنازة أو يعود مريضا، فالأفضل أن يفعل ما يحصل فيه التأليف وزيادة المحبة والأخوة بين المسلمين.
* السبب السابع: دفع المفسدة.
مثال ذلك: الإسرار بالصدقة أفضل من الجهر بها، لكن إذا كان في جهره دفع مفسدة؛ حيث إن هذا الشخص مُتهم بأنه لا يتصدق وأراد أن يدفع المفسدة عن نفسه، فأظهر الصدقة فهذا أفضل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القسم الثاني: تزاحم المفاسد: إذا تزاحمت المفاسد فإنه يرتكب الأدنى منها.
ومن أدلة هذه القاعدة في الشريعة:
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]
فتعارضت هنا مفسدتان:
المفسدة الأولى: مفسدة النفس.
والمفسدة الثانية: الأكل من الميتة، فتُجُنِّبَت المفسدة الأشد، ولو كان في ذلك ارتكاب المفسدة الأقل بأكل الميتة.
وهنا أقسام:
* القسم الأول: أن يتزاحم عنده محرمان فإنه يقدم أخف المحرمين، وله أمثلة:
المثال الأول: إنسان في مخمصة أي: في جوع إما أن يأكل من الميتة التي ماتت حتف أنفها، أو يأكل من شاة اشتبه عليه هل ذكر اسم الله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عليها أو لم يذكر؟
فيقدم المشتبه فيها على الميتة؛ لأن الميتة أشد تحريماً.
المثال الثاني: لو تعارض عنده: إما أن يزني، وإما أن يحصل منه استمناء، فيقدم الاستمناء؛ لأنه أخف.
المثال الثالث: لو تعارض عنده: إما أن يطأ زوجته الحائض؛ لأن الإنسان قد يكون عنده شبق شدة شهوة ولا يزول هذا الشبق بمجرد الاستمناء، وإما أن يطأ زوجته الصائمة، فيقدم وطأ زوجته الصائمة، مع أن كلًّا منهما محرم.
* القسم الثاني: إذا تزاحم مكروهان فإنه يقدم أخفهما.
مثال ذلك: تعارض عنده إما أن يأكل من البصل، أو يأكل من الثوم، فإنه يقدم أقلهما كراهة وهو البصل؛ لأن البصل أقل رائحة.
* القسم الثالث: أن يتعارض عنده محرم، ومكروه فيقدم المكروه على المحرم.
مثال ذلك: لو كان عنده بصل، وعنده ميتة، وهو في مخمصة فإنه يبدأ بالبصل ويأكل منه.
القاعدة السادسة
ومن ذلك قولهم: «لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وانتفاء موانعها»
قوله: «لا تتم الأحكام» الأحكام: جمع حكم.
والحكم في اللغة: القضاء والفصل.
وهو إضافة شيء إلى شيء أو نفيه عنه.
والمراد بالحكم الحكم الشرعي، وتقدم تعريفه عند الكلام على الأحكام التكليفية.
قوله: (إلا بوجود شروطها) الشروط: جمع شرط.
والشرط في اللغة: إلزام الشيء والتزامه.
والشرط في الاصطلاح: هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
فمثلا: الوضوء شرط لصحة الصلاة، يلزم من عدم الوضوء عدم الصحة لكن لا يلزم من وجود الوضوء أن تصح الصلاة فقد لا يطمئن الإنسان في صلاته، أو قد لا يستقبل القبلة، فقد يوجد الشرط ويتخلف شرط آخر أو ركن أو يوجد مانع.
قوله: (وانتفاء موانعها)
المانع لغة: اسم فاعل من المنع.
وهذا أصلٌ كبير بُني عليه من مسائل الأحكام وغيرها شيء كبير، فمتى فُقد شرط العبادة أو المعاملة، أو ثبوت الحقوق، لم تصح ولم تثبت، وكذلك إذا وُجد مانعها: لم تصح ولم تنفذ.
وشروط العبادات والمعاملات: كل ما تتوقف صحتها عليها، ويعرف ذلك بالتتبع والاستقراء الشرعي، وبأصل التتبع حصر الفقهاء فرائض العبادات وشروطها وواجباتها وكذلك شروط المعاملات وموانعها.
والحصر: إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما عداه، فيستفاد من حصر الفقهاء شروط الأشياء وأمورها: أن ما عداها لا يثبت له الحكم المذكور.
وأما في الاصطلاح: فله تعريفات منها: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، كالحيض مع الصلاة فإنه مانع من صحتها.
وحاصل كلام المؤلف: أن الحكم الشرعي لا يتم إلا باستكمال شروطه وانتفاء موانعه.
والدليل على هذه القاعدة:
1 أن الشارع اشترط اجتماع الشروط وانتفاء الموانع:
مثال ذلك: الوقت شرط لصحة الصلاة، قال تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقال عمر رضي الله عنه:«ألا وإن الصلاة لها وقت شرطه الله لا تصلح إلا به» .
ودليل انتفاء المانع في الصلاة: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إذا أحدث حتى يتوضأ»
(1)
.
وكذلك في البيوع يشترط أن يكون مالكاً للمعقود عليه، والدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك»
(2)
.
ودليل انتفاء المانع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]
2 ومن الأدلة على القاعدة: الإجماع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«اتفق على ذلك أهل العلم، ولا خلاف بينهم في ذلك؛ ولكنهم اختلفوا في تنزيلها على بعض القضايا الشرعية والعقلية» .
وحكى الاتفاق غير واحد كالغزالي في (المستصفى)، والآمدي في (الإحكام).
وهذه القاعدة لابد من مراعاتها عند تنزيل الأحكام الشرعية، سواء أكان تكليفياً، أم وضعياً، حتى في باب العقائد لا يتم الحكم، ولا يترتب الأثر إلا بهذين الأمرين:
الأمر الأول: توفر الشروط.
الأمر الثاني: انتفاء الموانع.
(1)
رواه البخاري 36.
(2)
رواه الترمذي 1232، وأبو داود 3503، والنسائي 4617، وابن ماجه 2188. وصححه ابن الملقن في البدر المنير 6/ 448.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أمثلة القاعدة:
المثال الأول: في التكفير: فلا يكفر المعين حتى تتوفر الشروط، ومنها: كونه مكلفاً، عالماً بالحكم، مختاراً، وتنتفي الموانع ومنها: التأويل السائغ، والجهل، والإكراه.
المثال الثاني: في الوضوء: فإنه لا يتم ولا يترتب عليه أثره، فيرتفع بذلك الحدث وتصح به الصلاة إلا إذا توفرت شروطه، وانتفت موانعه.
وشروطه: تكلم عليها العلماء رحمهم الله منها: الإسلام، والعقل، والتمييز، وإزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة، إلى غير ذلك من الشروط الواجب توفرها.
والموانع: كما لو توضأ المسلم فتمضمض واستنشق وهو لا يزال يخرج منه الحدث، فإن وضوءه غير صحيح؛ لأن المانع لا يزال باقياً فلا يترتب عليه أثر.
المثال الثالث: في الصلاة: فلابد من توفر شروطها وانتفاء موانعها، فلو صلى الإنسان قبل الوقت فصلاته غير صحيحة؛ لتخلف شرط من شروط الصلاة، وكذا لو صلى ولم يستر عورته، أو عليه خبث، أو لم يرفع الحدث، لابد من توفر الشروط التي ذكرها العلماء رحمهم الله.
وكذلك لابد من انتفاء الموانع التي تمنع من صحة الصلاة، فلو تنفل تنفلاً مطلقاً في وقت النهي، أو أكل في الصلاة، أو تكلم فيها، فصلاته غير صحيحة؛ لوجود المانع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المثال الرابع: في المعاملات: فلو أن شخصاً عَقَدَ عقْد بيع فلا بد من توفر الشروط: كالعلم بالثمن، والعلم بالمثمن، وأن يكون البيع صادراً من مالك أو من يقوم مقامه، وأن يكون العاقد جائز التصرف.
وكذلك لابد من انتفاء الموانع، فلو باع واشترى بعد أن تضايق وقت المكتوبة فالبيع غير صحيح، أو باع واشترى بعد أذان الجمعة الثاني، فهذا البيع غير صحيح؛ لأن الموانع ليست منتفية.
المثال الخامس: في الأنكحة: فلو أن شخصاً عقد على امرأة فلابد من توفر الشروط، وهي: رضا الزوجين، وتعيين الزوجين، والإشهاد، والولي.
وكذلك لابد من انتفاء الموانع، فلو عقد على امرأة في عدتها، أو وهي مُحْرِمة، أو عقد على امرأة وأختها لازالت في عصمته لم يفارقها بطلاق، أو فسخ، فإن هذا العقد غير صحيح؛ لوجود المانع.
المثال السادس: في التبرعات: فإذا وقَّف الإنسان وقفاً، أو تصدق بصدقة، فلابد أن تتوفر الشروط وتنتفي الموانع، وشروط الوقف ذكرها العلماء رحمهم الله، ومنها: أن يكون المسبِّل جائز التبرع، وأن يكون الوقف على بِر، إلى آخر ما ذكر العلماء من الشروط.
وكذلك لابد من انتفاء الموانع، فلو وقَّف وعليه ديون، أو تصدق وعليه ديون، فوقفه وصدقته لا تصح؛ لوجود المانع.
المثال السابع: في الوصايا، فلابد أن تتوفر الشروط، وتنتفي الموانع، فشروط الوصية التي ذكرها العلماء رحمهم الله، منها: العقل، والتمييز
…
إلخ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكذلك لابد أن تنتفي الموانع، فلو وصّى بأكثر من الثلث، أو وصى لوارث، فوصيته لا تنفذ إلا بإجازة الورثة، فلابد فيها من توفر الشروط وانتفاء الموانع.
المثال الثامن: في الإرث، فقد توجد شروط الإرث ويكون هناك مانع من رق، أو قتل، أو اختلاف دِين.
ويمنع الشخص من الميراثِ
…
واحدة من علل ثلاثِ
رق وقتل واختلاف دين
…
فافهم فليس الشك كاليقين
المثال التاسع: من ارتكب أموراً محرمة، فهو أهل لما جاء في النصوص من الوعيد، لكن قد يكون هناك مانع من العقاب، كالتوبة، أو استغفار المؤمنين له، أو المصائب.
القاعدة السابعة
(ومن ذلك قولهم: «الحكم يدور مع علته ثبوتاً وعدماً»
فالعلل التامة التي يعلم أن الشارع رتب عليها الأحكام، متى وجدت وجد الحكم، ومتى فقدت لم يثبت الحكم).
قوله: (الحكم يدور مع علته ثبوتاً وعدماً)
الحكم في اللغة: المنع.
وأما في الاصطلاح: فهو إثبات أمرٍ لأمر، أو نفيه عنه.
والمراد الحكم الشرعي، وقد تقدم.
والعلة في اللغة: المرض، سمي المرض علة؛ لأنه يعل البدن، أي يغيره ويخرجه عن طبيعته.
قال الفيومي في المصباح: «العلة: هي المرض المشغل» .
وأما في الاصطلاح: فهي المعنى الذي من أجله شرع الحكم، أي شرع لوجود هذا المعنى فيه، فالإسكار علة تحريم الخمر؛ فإذا وجد الإسكار حرم الشرب.
وعرّفها الإمام مالك: بقوله: «هي الصفة التي يتعلق الحكم الشرعي بها» .
وعرّفها الشاطبي: بقوله: «الحِكَمُ والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، أو المفاسد التي تعلقت بها النواهي» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الباجي في (الحدود)، وبه قطع الآمدي وابن الحاجب رحمهم الله بأن العلة في الاصطلاح:«هي الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم» .
مسألة:
للناس في حقيقة العلة ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: الأشاعرة يقولون: بأن العلة أمارة على الحكم ولا تؤثر فيه، وهذا بناء على مذهبهم في نفي الأسباب.
المذهب الثاني: المعتزلة يقولون: بأن العلة هي الوصف المؤثر بذاته في الحكم، وهذا بناء على قولهم في نفي القدر.
المذهب الثالث: أهل السنة والجماعة يقولون: بأن العلة هي الوصف المؤثر في الحكم بجعل الله تعالى، بناء على قولهم بإثبات الأسباب، وإثبات القدر.
وهذه القاعدة أغلبية وقد اتفق عليها الفقهاء قاله ابن النجار في (شرح مختصر التحرير)، وبنحوه قال الشاطبي (في الموافقات).
ومثالها: ما جاء في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «إنما نهيتكم من أجل الدَافَّة التي دفَّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا»
(1)
، والدَافَّة: هم الأعراب الفقراء الذين دفَّوا والدف نوع من أنواع المشي إلى المدينة وقت عيد الأضحى، فنهى
(1)
رواه مسلم 1971، ونحوه عند البخاري 1719.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث حتى يتصدقوا على هؤلاء الفقراء.
وإنما قيل: إن القاعدة السابقة أغلبية؛ لأن لها استثناءات، وهي ترجع إلى أمور:
* أولها: ما كان له يعني الحكم أكثر من علة فإن انتفاء بعض العلل لا يوجب انتفاء الحكم، كالحدث ببول وغائط فإنه يوجب عدم الصلاة حتى يرتفع الحدث، فلو انتفت علة البول فلا يعني جواز مباشرة الصلاة وصحتها؛ لأنه قد توجد علة أخرى تمنع الصلاة وهي الغائط مثلاً.
* ثانيها: الحكم الذي بقي مع انتفاء علته، مثل الرَّمَل
(1)
، فإن العلة انتفت وهي إظهار النشاط للكفار
(2)
، وبقي الحكم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حجة الوداع
(3)
.
* ثالثها: ما كان الحكم مبنياً على علة ظنية، مثل الرخص المتعلقة بالسفر لمظنة المشقة، فإن أحكام الرخص تستمر ولو لم توجد تلك العلة، وهي المشقة؛ لكونها ظنية قاله شيخ الإسلام: في (مجموع الفتاوى).
مسألة:
الأحكام الشرعية كلها معللة؛ أي: مبنية على أوصاف ومعاني مناسبة
(1)
الرمل: هو «الإسراع في المشي مع تقارب الخطى» .
(2)
وذلك عندما قال المشركون أنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة. رواه البخاري 1602، ومسلم 1266.
(3)
فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: رواه مسلم 1218.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
للحكم، والعلل في الأحكام الشرعية تنقسم قسمين:
* القسم الأول: علل معلومة، وهي تنقسم إلى قسمين كذلك:
أ علل منصوصة: نص عليها الشارع.
ب علل مستنبطة: لم ينص عليها الشارع.
* القسم الثاني: علل غير معلومة، وهي التي يعبر عنها الفقهاء رحمهم الله:(بأن الحكم تعبدي)، يعني غير معلل.
واعلم أن العلة من حيث وجود الحكم وعدمه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
* القسم الأول: علة منصوصة، فإذا كانت العلة منصوصة، فإنه يدور الحكم معها، ولذلك أمثلة:
المثال الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه»
(1)
، فقوله:«من أجل أن ذلك يحزنه» هذه علة منصوصة يوجد الحكم معها.
فإن تناجى ثلاثة دون الرابع فإنه لا يجوز؛ لأن العلة موجودة الآن (من أجل أن ذلك يحزنه)، وكذلك لو تكلم اثنان بلغة أجنبية دون الثالث وهو لم يفهم ولم يتناجيا، فإنه لا يجوز؛ لأن العلة هنا موجودة (من أجل أن ذلك يحزنه).
ولو تناجى صبيان دون رجل كبير جاز؛ لأن ذلك لا يحزنه.
(1)
رواه البخاري 6288، ومسلم 2183.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المثال الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظُّفُر» قال: «أما السن فعظم»
(1)
، فالعلة منصوصة، فلو ذبحت بعظم آخر غير السن فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علّل فقال:(أما السن فعظم)، فلا يجوز التذكية بسائر العظام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل بذلك.
* القسم الثاني: أن تكون العلة مستنبطة وهي قريبة، فيدور الحكم معها.
مثال ذلك: حديث عائشة في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان»
(2)
، فالعلة في ذلك: هي التشويش وإشغال الذهن، فلو صلى في حر شديد، أو برد شديد فإنه يأخذ نفس الحكم؛ لأن المقصود الإشغال وهو موجود سواء أكان بحضرة طعام، أم وهو يدافعه الأخبثان، أم غير ذلك.
وكذلك لو صلى وهناك شيء يلهيه عن صلاته يأخذ نفس الحكم وهو الكراهة.
* القسم الثالث: أن تكون العلة مستنبطة، وهي بعيدة، فإنه لا يدور الحكم معها.
مثال ذلك: ما ورد في حديث عبادة وحديث أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر
(1)
رواه البخاري 2488، ومسلم 1968.
(2)
رواه مسلم 560.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء مثلاً بمثل»
(1)
، فاختلف الفقهاء رحمهم الله في العلة في الذهب والفضة على أقوال:
ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أن العلة في الذهب والفضة هي الوزن، فيجري الربا في كل الموزونات من ذهب، وفضة، وحديد، ورصاص، ونحاس، وصُفْر، وشعر، وحرير، وقطن، وغير ذلك.
فإذا بادلت ذهباً بذهب فلابد أن يكون مثلاً بمثل سواء بسواء، وإذا بادلت فضة بفضة فلابد أن يكون مثلاً بمثل سواء بسواء، وكذلك في بقية الموزونات، الحديد بالحديد، والنحاس بالنحاس، والرصاص بالرصاص، مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، وهذه العلة بعيدة.
والصواب: أن العلة في الذهب والفضة ليست الوزن، وإنما هي غلبة الثمنية؛ أي: كون هذه الأشياء ثمناً للمبيعات، أما التعليل بالوزن فضعيف، ولهذا رده ابن القيم: من وجوه، منها:
أن الشارع رخص في السلم في الموزونات، كما في حديث ابن عباس في الصحيحين لما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
رواه البخاري 2239، ومسلم 1604.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإذا أسلفت في الوزن فإنك سُتعطي ذهباً موزوناً بحديد موزون، فالشارع جوز في السلّم تأخير القبض، وإذا قلنا: بأن العلة الوزن، فإن ذلك يؤدي إلى إغلاق باب السلم في الموزونات.
القاعدة الثامنة
ومن ذلك قولهم: «الأصل في العبادات الحظر إلا ما ورد عن الشارع تشريعه» .
قوله: «الأصل في العبادات الحظر، إلا ما ورد عن الشارع تشريعه»
العبادات: جمع عبادة: وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
أي: الأصل في العبادات الحظر والمنع، فلا يتعبد الإنسان بأي عبادة إلا بعبادة جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام: «العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع» .
دليل القاعدة:
1 قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21].
فحصر الله عز وجل التحليل والتحريم إليه سبحانه وحده.
2 وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18: 19].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3 -
ومن السنة حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
أي أن عمله مردود عليه.
قال الشاطبي في (الاعتصام) عن هذا الحديث: «وهذا أصل في أن الأصل في العبادات المنع والحظر» .
وقال أيضاً: «وهذا يعني حديث عائشة عده العلماء ثلث الإسلام؛ لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام، ويستوى في ذلك ما كان بدعة أو معصية» .
4 وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ»
(2)
.
5 وحكى شيخ الإسلام: في مجموع الفتاوى اتفاق السلف رحمهم الله على أن الأصل في العبادات الحظر والمنع.
مسألة: لابد أن تكون العبادة موافقة للشرع في ستة أمور:
(1)
رواه البخاري 2697، ومسلم 1718.
(2)
رواه الترمذي 2676.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
1 -
السبب. 2 الجنس. 3 القدْر.
4 الكيفية والهيئة. 5 المكان. 6 الزمان.
فإن خالفت في أحد هذه الأمور فغير مشروعة.
* الأمر الأول: السبب، فعلى هذا لو اتخذ عبادة عند سبب لم يرد به الشرع، فإن هذا لا يصح.
مثال ذلك: لو استاك عند دخوله المسجد قياساً على الاستياك عند دخول البيت، فإن هذا لا يصح.
فالقاعدة: (أن ما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي، وعدم المانع، ولم يكن الترك حقاً لحق الغير ولم يفعله، فتركه هو السنة) فهذا ضابط قاعدة السنة التركية.
فالفعل كما يكون سنة، فالترك أيضاً يكون سنة، فكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله يكون تركه سنة، وبهذا نعلم أن ما يقام من حفل مولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدعة؛ لأن مولد النبي صلى الله عليه وسلم وجد سببه في عهده ولم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله الخلفاء الراشدون.
* الأمر الثاني: أن تكون موافقة للشرع في الجنس.
وعلى هذا فلو تعبد الإنسان بجنس لم يأتِ به الشرع، فإن هذا بدعة.
ولذلك أمثلة:
المثال الأول: في الهدي والأضحية، فالشرع جاء بجنس مُعيّن وهي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بهيمة الأنعام، فكون الإنسان يضحي مثلاً بدجاج، أو بسائر الطيور، فإن هذا بدعة؛ لأن هذا ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
المثال الثاني: في العقيقة، جاءت الشريعة بذبح شاتين للذكر وشاة للأنثى، فلو أن الإنسان عقّ عن ابنه بغزال، فإن هذا جنس لم يأتِ به الشرع.
* الأمر الثالث: القَدْر، فلابد أن تكون هذه العبادة موافقة للشرع في قدرها، وهذه المسألة يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين:
1 أن يكون ما زاد على القدر المشروع لا يتبعّض؛ فهذا بدعة، فلو صلى الظهر خمساً، أو المغرب أربعاً، فإنه جاء بعبادة لم يأتِ بها الشرع فيما يتعلق بالقدْر.
2 أن يكون ما زاد على القدر المشروع يتبعّض ويمكن فصله، فهذا فيه تفصيل: إن اعتقد أنه من الوارد فإنه بدعة، وإنه لم يعتقد أنه من الوارد، وإنما أراد أن يتعبد به استقلالاً فإن هذا لا بأس به.
مثال ذلك: الواجب في زكاة الفطر صاع، فلو أخرج الإنسان صاعين على أن هذه الزيادة صدقة ونافلة، فإن هذا لا بأس به، لكن لو أخرجه على أنه يتقرب به، وأنه زكاة واردة فإن هذا بدعة.
ونظير ذلك أيضاً: أن المشروع في دبر كل صلاة أن يسبح الله ويحمده ويكبره تسعاً وتسعين مرة، ثم يقول في تمام المائة:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فلو زاد على هذا التسبيح: إن اعتقد أنه سنة واردة في هذا الموضع فإنه بدعة،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما إذا زاد على أنه يتنفل بهذه العبادة أحياناً فإنه لا بأس به.
* الأمر الرابع: الهيئة والكيفية، فإذا خالفت في ذلك فإنها تكون بدعة.
مثال ذلك: لو صلى صلاة خلاف الصلاة المشروعة فإن هذه بدعة، أو صام صياماً أو حجاً خلاف الحج والصوم المشروعين فإن هذا بدعة؛ كما لو قدم السجود على الركوع أو ركع ركوعين أو نحو ذلك، فإن هذا بدعة.
* الأمر الخامس: المكان، فإذا خالفت الشرع في مكانها، فإن ذلك بدعة.
مثال ذلك: الحج له أمكنة معلومة، فالطواف لا يكون إلا في البيت، فلو طاف في غير البيت فهذا بدعة، وكذلك الوقوف في عرفة ومزدلفة، فهذه أمكنة حدّدها الشارع، وكذلك الاعتكاف لا يكون في غير المسجد.
* الأمر السادس: الزمن، فإذا خالفت الشرع في زمانها فإنها تكون بدعة.
مثال ذلك: لو أن رجلاً صلى الظهر قبل زوال الشمس، أو صلى الفجر بعد طلوع الشمس، هذا كله خلاف أمر الله، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه القاعدة: رد على المبتدعة مطلقاً، والذين لا يضبطون المصلحة الشرعية التي يجوز للمجتهد أن يعملها، بل يتعدون بها إلى غير مواضعها كالعبادات؛ لأن من شروط الاستصلاح ألا يكون في العبادات.
وفي هذه القاعدة: رد على المستحسنة الذين يستحسنون بعقولهم خلاف مقتضيات الشرع، قال الشافعي:«من استحسن فقد شرع» .
(والأصل في العادات الإباحة، إلا ما ورد عن الشارع تحريمه)؛ لأن العبادة ما أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب فما خرج عن ذلك فليس بعبادة، ولأن الله خلق لنا جميع ما على الأرض لننتفع به بجميع أنواع الانتفاعات إلا ما حرمه الشارع علينا.
والصحابة كانوا يجتهدون في المسائل التي لا دليل فيها، فيرجعونها إلى ما فهموه من الأصول الثابتة، ولم يحكموا فيها بآرائهم واستحسانهم، بل مرجعهم ضوابط الشرع وأصوله العامة.
قوله: (والأصل في العادات الإباحة، إلا ما ورد عن الشارع تحريمه).
العادات: جمع عادة، وهي: ما استقر في الأنفس السليمة، والطبائع المستقيمة من المعاملات، سواء كانت معاملة مع النفس، أو مع الخلق.
وأما المراد بالعادات: ما لا يتقرب به الإنسان، ويتعبد به، وعرفها شيخ الإسلام:«ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه» .
ويراد بالإباحة: الإذن في فعل الشيء، وتركه.
فعادات الناس الأصل فيها الإباحة، كالأكل والشرب واللباس والنوم.
ويدل لذلك:
1 قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]
فساق الآية مساق الامتنان وغايته الحل والإباحة، كما قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: أي لكم أن تنتفعوا بكل ما على الأرض.
وأطلق الله عز وجل ولم يقيد ذلك بقيد، فكل ما على هذه الأرض مما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يؤكل: تأكلونه، ومما يشرب: تشربونه ومما يلبس: تلبسونه.
2 قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10]، أي: أن الأرض كلها موضوعة لمصالح الناس من الأكل والشرب واللباس.
3 ولما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء لم يحرم ثم حرم من أجل مسألته»
(1)
.
وأما ما حرمه الشارع علينا فهو حرام ولو تعارف الناس عليه.
وضابط ذلك: أن كل عرفٍ خالف الشرع فهو مردود، مثل: تعارف الناس في بعض المجتمعات على الاقتراض من المصارف الربوية، أو تعارفهم على منكرات الأفراح، أو أخذ الرشوة، أو لبس الرجال الذهب، ونحو ذلك.
مسألة: العادة نوعان:
1 عادة فردية: وهي ما يعتاده الشخص الواحد في شؤونه الخاصة، كعادته في النوم والأكل.
2 عادة جماعية: وهي ما يعتاده الناس من أفعال وأقوال تنتج عن اتجاه عقلي وتفكير جماعي، فمع استمرار الوقت يصبح عرفاً وعادة للجماعة، مألوفاً سائداً فيهم، قولاً كان أم فعلاً.
قال شيخ الإسلام: «وأما العادات فالأصل فيها عدم الحظر، فلا يحظر منها إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى» .
(1)
رواه البخاري 7289، ومسلم 2358.
القاعدة التاسعة
ومنها: «إذا وجدت أسباب العبادات والحقوق ثبتت ووجبت إلا إذا قارنها المانع» .
قوله: (إذا وجدت أسباب
…
).
هذه القاعدة التاسعة، وهي تتعلق بأحد أقسام الحكم الوضعي، وهو السبب.
والأسباب في اللغة: جمع سبب، وهو الطريق الموصل إلى الشيء ومنه الحبل.
وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
مثل: دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة، ودخول الشهر سبب لوجوب صوم رمضان ونحو ذلك.
وهذه القاعدة ليست تكراراً للقاعدة السادسة لأن المانع هنا يراد به مانع السبب، والمانع هناك مانع الحكم.
فمانع السبب: هو الوصف الذي يلزم من وجوده عدم تحقق السبب، كالدين في باب الزكاة عند من يقول: إنه مانع وهم الجمهور، فالسبب هو ملك النصاب والحكم هو وجوب الزكاة، فالدين مانع من وجوب الزكاة ولو وجد السبب، لأن تخليص ذمة المدين مما عليه من دين أولى من مواساة الفقراء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه أيضاً: القرابة سبب في الإرث؛ لأنها تقتضي النصرة والمودة، فإذا قتل الأخ أخاه صار القتل مانعاً من الإرث؛ لأن وجود القتل يناقض هذه الحكمة، لأنه يعني العقوق والقطيعة، والله أعلم.
القاعدة العاشرة
ومنها: «الواجبات تلزم المكلفين» ،
والتكليف: يكون بالبلوغ والعقل،
قوله: (ومنها الواجبات
…
).
هذه القاعدة العاشرة، وهي تتعلق بمباحث الأحكام وهو بحث المحكوم عليه، والمراد به: الشخص الذي يتعلق به خطاب الشارع وهو المكلف.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن الشخص لا يكون صالحاً للتكليف إلا باجتماع وصفين:
الأول: البلوغ.
الثاني: العقل.
والبلوغ يكون بالاحتلام، ويكون بالحيض في النساء، قال ابن بطال:(أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والحيض في النساء هو البلوغ الذي تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره).
وما عدا ذلك من علامات البلوغ كنبات الشعر الخشن حول القبل، أو البلوغ بالسن، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم، وليس عليه أدلة صريحة والله أعلم.
قولنا: (البالغ): أخرج بذلك الصغير، فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها، وتقدم مفصلاً في أسباب التخفيف سبب النقص.
والإتلافات تجب على المكلفين وغيرهم،
أما (العقل): فقد اتفق العلماء على أنه شرط للتكليف، أما المجنون فلا يكلف بالأمر والنهي، ولكنه يمنع مما فيه تعدٍّ على غيره أو إفساد، ولو فعل المأمور به لم يصح منه، لعدم قصد الامتثال، وتقدم مفصلاً في أسباب التخفيف سبب النقص.
وقد دل على ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصَّغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل»
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»
(2)
.
قوله: (والإتلافات تجب على المكلفين وغيرهم).
أي أن ضمان الأشياء المتلفة تجب على المكلفين، وهم البالغون العقلاء وتجب على غيرهم كالصبيان والمجانين، وهذا شامل لإتلاف النفوس المحترمة والأموال فمن أتلف شيئاً من ذلك بغير حق فهو مضمون، سواء كان متعمداً أو جاهلاً أو ناسياً وسواء كان مكلفا أو غير مكلف لأن هذا ليس من خطاب التكليف وإنما هو من باب ربط الأحكام بأسبابها، بمعنى أن الشرع وضع أسباباً تقتضي أحكاماً تترتب عليها، تحقيقاً للعدل في خلقه، ورعاية لمصالح العباد، فمتى وجد السبب كنصاب الزكاة، أو الإتلاف وجب الحكم، وتقدم مفصلاً في أسباب التخفيف سبب النسيان،
(1)
أخرجه أحمد (24694)، وأبو داود (4403)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041).
(2)
أحمد (25167)، وأبو داود (641)، وابن ماجه (655).
فمتى كان الإنسان بالغاً عاقلاً، وجبت عليه العبادات التي وجوبها عام، ووجبت عليه العبادات الخاصة إذا اتصف بصفات من وجبت عليهم بأسبابها، والناسي والجاهل غير مؤاخذين من جهة الإثم؛
والخطأ، والنقص.
قوله: (فمتى كان الإنسان بالغاً عاقلاً وجبت عليه العبادات التي وجوبها عام).
كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك بالإجماع.
قوله: (ووجبت عليه العبادات الخاصة إذا اتصف بصفات من وجبت عليهم بأسبابها).
مثال ذلك: صلاة الكسوف على القول بوجوبها، تجب على المكلف إذا وجد سببها وهو كسوف أحد النيرين.
وتحية المسجد إذا قيل بوجوبها، تجب إذا وجد سببها وهو دخول المسجد، وهكذا.
قوله: (والناسي والجاهل غير مؤاخذين من جهة الإثم).
وذلك لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات والناسي والجاهل لا قصد لهما، فلا إثم عليهما، ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
(1)
.
وقد استجاب الله دعاء المؤمنين حين قالوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
(1)
سبق تخريجه.
لا من جهة الضمان في المتلفات
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
فقال الله عز وجل: «قد فعلت»
(1)
.
فلو نسي إنسان صلاة فلا إثم عليه بنسيانه، لكن يجب عليه قضاؤها إذا تذكرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»
(2)
.
وكذلك لو نسي الصائم فأكل أو شرب فلا إثم عليه، وليتم صومه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» وتقدم مفصلاً في أسباب التخفيف سبب النسيان، والخطأ، والنقص.
قوله: (لا من جهة الضمان في المتلفات).
ومعنى ذلك أن النسيان والجهل ليس عذراً فيما يتعلق بحقوق المخلوقين، فلو أتلف مال غيره جاهلاً، أو ناسياً فقد وجب عليه الضمان، وتقدم مفصلاً في أسباب التخفيف سبب النسيان، والخطأ، والنقص.
(1)
أخرجه مسلم (126).
(2)
أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684).
فصل
قول الصحابي وحجيته
قول الصحابي وهو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإيمان:
إذا اشتهر، ولم ينكر بل أقره الصحابة عليه، فهو إجماع.
فإن لم يعرف اشتهاره، ولم يخالفه غيره، فهو حجة على الصحيح.
فإن خالفه غيره من الصحابة لم يكن حجةً.
قوله: (قول الصحابي
…
).
قول الصحابي: هو ما صدر عن الصحابي من قول أو فعل أو تقرير ونحو ذلك فيما لا نص فيه من الكتاب والسنة.
والصحابي: هو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.
فذكر قيدين:
الأول: أن يكون حال اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً وهذا يخرج من اجتمع به أو رآه وهو كافر كأبي جهل وغيره، وإن آمن ولم يجتمع به فليس بصحابي كالنجاشي.
الثاني: أن يموت على الإيمان، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، ويرى بعضهم أنه لا حاجة له، لأنه قيد اتفاقي، لا يضر خلو التعريف منه، لأن مرادهم ألا يظهر منه ردة، فمن ارتد ورجع فهو صحابي كالأشعث ابن قيس، فإنه ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم تاب، ومن مات على ردته فليس بصحابي، كعبد الله بن خطل، قتل يوم الفتح، وربيعة بن أمية بن خلف،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ارتد في زمن عمر رضي الله عنه، ومات على الردة.
أفاد المؤلف رحمه الله أن قول الصحابي ينقسم إلى قسمين:
* الأول: أن يشيع وينتشر ولا يعرف له مخالف: وهذا ما يعرف بالإجماع السكوتي، وسبق الخلاف في ذلك.
* الثاني: ألا يشيع وينتشر: يعني الصحابي قال قولاً لكن هذا القول لم يشع ولم ينتشر فهذا تحته أقسام:
الأول: أن يكون فيما لا مجال للرأي فيه فهذا حجة عند الأئمة الأربعة لأنه لابد أن يكون سمعه الصحابي من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا اجتهاد في الأمور التي لا تعرف إلا بتوقيف.
الثاني: أن يخالف نصاً من القرآن أو السنة فهذا ليس بحجة.
الثالث: أن يخالف قول صحابي آخر فهذا ليس حجة ولكن لا يخرج الفقيه عن أقوالهم إلى قول آخر، بل يتخير من أقوالهم ماهو أقرب للدليل، ومن الفقهاء من يستدل بقول الصحابي ولو خالفه غيره إذا رأى رجحانه بقياس أو غيره.
الرابع: ما عدا ذلك: هل هو حجة؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم:
* القول الأول: قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وقول الشافعي القديم:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أنه حجة ودليل ذلك أن الله عز وجل أثنى على الصحابة، والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على صحابته، فقال الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»
(1)
.
وقال عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر»
(2)
، وقال عليه الصلاة والسلام:
«إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا»
(3)
.
* القول الثاني: أن الحجة هو قول الخلفاء الراشدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»
(4)
.
* القول الثالث: أن قول الصحابي ليس حجة، وهذا قول الشافعي في الجديد وقال به الغزالي والجويني وغيرهم.
واستدلوا على ذلك: بأن الصحابة رضي الله عنهم بشر قد يرد عليهم ما يرد على غيرهم من الخطأ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في بعض المسائل: من ذلك: اختلفوا في تيمم الجنب، وفي بيع أمهات الأولاد، وفي إرث الإخوة مع الجد.
والصواب في هذه المسألة: هو القول الأول وأن قول الصحابي حجة بالضوابط السابقة.
(1)
أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540).
(2)
أخرجه أحمد (23245)، والترمذي (3662).
(3)
أخرجه مسلم (681).
(4)
سبق تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تنبيه:
قول الصحابي من الأدلة المختلف فيها، وبقي من الأدلة المختلف فيها كذلك الاستحسان، والمصلحة المرسلة، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، وسد الذرائع.
فصل الأمر والنهي
(الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده
قوله: (الأمر بالشيء
…
).
هاتان مسألتان:
* الأولى: الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده: هذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: من حيث اللفظ والصيغة فالأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده لفظاً؛ لأن صيغة افعل ليست كصيغة لا تفعل.
الثاني: من حيث المعنى: يقول المؤلف رحمه الله: (بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده)، وذلك كقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 56] فالأمر بإقامة الصلاة نهي عن تركها، والأمر بإيتاء الزكاة نهي عن تركها والأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم نهي عن معصيته؛ لأنه لا يمكن الإتيان بالمأمور به إلا بترك ضده، وما لا يتم فعل الواجب إلا بتركه فهو حرام والحرام منهي عنه.
* المسألة الثانية: النهي عن الشيء أمر بضده.
النهي عن الشيء أمر بضده، إذا لم يكن له إلا ضد واحد أما إن تعددت أضداد المنهي، فالنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده لا كلها؛ لأن الأمر به ليس مقصوداً بذاته، إذ المقصود الامتناع عن المنهي وهذا يتحقق
ويقتضي الفساد إلا إذا دل الدليل على الصحة،
بمباشرة أحد أضداده، فالنهي عن الزنا أمر بأحد أضداده وهي كثيرة، ومنها: النكاح، والصوم، والصبر، والتسري.
قوله: (ويقتضي الفساد إلا إذا دل الدليل على الصحة).
هذه قاعدة: (النهي يقتضي الفساد) والدليل على أن النهي يقتضي الفساد:
1 قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»
(1)
.
ومعناه: أن كل عمل ليس من أمر الإسلام ولا من شرعه فهو مردود على صاحبه.
2 إجماع الصحابة والتابعين على بطلان البيوع الربوية للنهي عنها.
3 حديث فضالة بن عبيد في بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب وفيه الأمر بردها
(2)
.
هذه المسألة لا تخلو من أحوال:
الأولى: أن يتوجه النهي إلى ذات المنهي عنه، إلى ذات العبادة أو ذات العقد، فيقتضي الفساد.
من أمثلة ذلك في العبادة: النهي عن الصلاة في أوقات النهي، فالنهي يعود إلى ذات المنهي عنه فيقتضي الفساد، وأيضاً: النهي عن صوم يوم العيدين، نقول: بأنه يعود إلى ذات المنهي عنه فيقتضي الفساد.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (1591).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثاله في العقد: قول الله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وقول الله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
…
} [النساء: 23] وأيضاً: ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها
(1)
.
وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الميتة: فهذه الأشياء يعود النهي فيها إلى ذات العقد فيقتضي الفساد.
الثانية: أن يتوجه النهي إلى شرط العبادة أو المعاملة على وجهٍ يختص بها، فيقتضي الفساد.
مثال ذلك في شرط العبادة: لو صلى ولم يستر عورته فالنهي هنا يعود إلى شرط العبادة على وجه يختص بها، فيقتضي الفساد.
مثال ذلك في شرط العقد: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر والملاقيح والمضامين، وأيضاً: إذا كان الثمن أو المثمن مجهولاً، هنا عاد إلى شرط العقد على وجه يختص به فيقتضي الفساد.
الثالث: أن يتوجه النهي إلى شرط العبادة أو المعاملة على وجهٍ لا يختص بها: فهذا موضع خلاف:
فالمشهور من المذهب: أنه يقتضي الفساد.
والقول الثاني، وهو الصواب: أنه لا يقتضي الفساد.
(1)
أخرجه البخاري (5109)، ومسلم (1408).
والأمر بعد الحظر يرده إلى ما كان عليه قبل ذلك،
مثال ذلك: النهي عن الوضوء بماء مغصوب أو مسروق، أو التيمم بتراب مغصوب، أو مسروق، أو ستر العورة بثوب محرم، أو صلى في أرض مغصوبة، ونحو ذلك فهنا عاد النهي إلى شرط العبادة على وجهٍ لا يختص بها فنقول:
الصواب: أنه لا يقتضي الفساد؛ لأن الشارع لم يقل (لا تصلوا في ثوب مغصوب) أو (لا تتوضؤوا بماء مغصوب أو مسروق)، وإنما نهى عموماً عن السرقة والغصب.
الرابع: أن يعود النهي إلى أمر خارج عن العبادة أو العقد فلا يقتضي الفساد.
مثال ذلك: لو صلى وعليه عمامة من حرير أو خاتم من ذهب، فهذا أمر خارج لا يتعلق بالشرط ولا بالعبادة فلا يقتضي الفساد.
قوله: (والأمر بعد الحظر يرده إلى ما كان عليه قبل ذلك).
الأمر بعد الحظر ماذا يفيد؟
هذا موضع خلاف:
* القول الأول: وهو قول الشافعي أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة.
مثل: قول الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، فالأصل في الاصطياد أنه مباح ثم بعد ذلك منع منه، ثم بعد ذلك أذن فيه، فهذا يفيد الإباحة، وقول الله:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] فهذا يفيد الإباحة.
والأمر والنهي يقتضيان الفور،
* القول الثاني: ذهب إليه جمع من الأصوليين واختاره ابن كثير وهو ما ذهب إليه المؤلف: أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر فإن كان مباحاً فهو مباح، وإن كان مستحباً فهو مستحب، وإن كان واجباً فهو واجب.
ومن أمثلة ذلك:
في المباح: الصيد قبل الإحرام كان جائزاً، فمنع للإحرام بقوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، ثم أمر به بعد الإحلال بقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2].
فيُرجع إلى الإباحة.
مثال المستحب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»
(1)
وزيارة القبور مستحبة ثم بعد ذلك أمر بزيارتها فيعود الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر وهو الاستحباب.
مثال الواجب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: «إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي»
(2)
، فالأمر بالصلاة للوجوب؛ لأن الصلاة قبل امتناعها بالحيض واجبة وهذا القول هو الصواب.
قوله: (والأمر والنهي يقتضيان الفور).
الأمر هل يقتضي الفورية أو لا؟
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (228)، ومسلم (333).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا موضع خلاف:
* القول الأول: ما عليه جمهور الأصوليين: أن الأمر يقتضي الفورية، واستدلوا على ذلك: بأن الله عز وجل أمر بالمسارعة إلى الخيرات فمن ذلك: قول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
ومن السنة: حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الحديبية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحلقوا وأن ينحروا ويحلوا فتباطؤوا
(1)
، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على أن الأمر يقتضي الفورية.
وأيضاً: حديث عائشة في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة كل من لم يسق الهدي، أن يجعل إحرامه بالحج عمرة فتباطؤوا فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الأمر يقتضي الفورية
(2)
.
ومن حيث اللغة: لو أن السيد أمر رقيقه بأمر فتباطأ فإنه يحسن لومه.
* القول الثاني: أنه يجوز التراخي، وبه قال ابن السمعاني والإسفراييني وابن برهان ونسب للشافعي، قال ابن السمعاني:«واعلم أن قولنا: إنه على التراخي، ليس معناه أنه يؤخر عن أول أوقات الفعل، لكن معناه أنه ليس على التعجيل» .
واستدلوا على ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخّر الحج إلى السنة العاشرة،
(1)
أخرجه البخاري (2731).
(2)
أخرجه مسلم (1211).
ولا يقتضي الأمر التكرار إلا إذا علق على سبب، فيجب أو يستحب عند وجود سببه.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر لم يصلها فوراً وإنما أخرها حتى خرج عن ذلك الوادي.
وأجيب عن ذلك:
أما تأخير الحج، فإن الحج لم يفرض إلا في السنة التاسعة واحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخره إلى العاشرة؛ لأن مكة فتحت في السنة الثامنة من الهجرة، وبعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يمكث في المدينة في السنة التاسعة لمبايعة الناس على الإسلام واستقبال الوفود، فأراد ألا تخلو المدينة منه، وأقام على الموسم أبا بكر.
وأما تأخير صلاة الفجر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها وإنما خرج عن ذلك المكان فقط؛ لأن ذلك المكان حضر فيه الشيطان، ولهذا قال العلماء: يستحب للإنسان إذا نام عن الصلاة في مكان ألا يصلي في ذلك المكان؛ لأنه مكان حضر فيه الشيطان.
والصواب في ذلك: هو القول الأول.
قوله: (ولا يقتضي الأمر التكرار
…
).
هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
* الأول: أن يقيد الأمر بما يفيد عدم التكرار، فنقول: بأنه لا يقتضي التكرار.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من ذلك: قول الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
…
} [آل عمران: 97].
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج أكلّ عام يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: «الحج مرة»
(1)
.
* الثاني: أن يقيد الأمر بما يفيد التكرار، فنقول: بأنه يقتضي التكرار.
من ذلك: قول الله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
فكل ما وجدت الجنابة وجب التطهير، وقول الله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فكل ما حصلت السرقة وجب القطع.
الثالث: أن يكون الأمر مطلقاً: فهل يقتضي التكرار؟ فهذا موضع خلاف بين أهل العلم.
القول الأول: ما عليه أكثر الأصوليين: أنه لا يقتضي التكرار وقالوا: بأن اللغة تقتضي ذلك فلو أن الأب أمر ولده بأمر ثم نفذ هذا الأمر ولم يعاود الأمر مرة أخرى لا يحسن لومه ولأن صيغة الأمر لا تعرض فيها لعدد مرات الفعل، وقياساً للأمر المطلق على اليمين والنذر والوكالة والخبر، فلو حلف أن يصوم أو نذر أن يصوم بر بصيام يوم واحد، ولو قال لوكيله: طلق زوجتي، لم يكن له أكثر من طلقة واحدة، ولو أخبر عن صيامه فقال: صمت، صدق بصيام يوم واحد.
القول الثاني: حكاه ابن القصار عن مالك، ورواية عن أحمد وبه قال أكثر أصحابه، وذهب إليه ابن القيم رحمه الله: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار،
(1)
أخرجه أحمد (2304)، وأبو داود (1721)، وابن ماجه (2886).
والأشياء المخير فيها:
إن كان للسهولة على المكلف، فهو تخيير رغبة واختيار،
وإن كان لمصلحة ما ولي عليه، فهو تخيير يجب تعيين ما ترجحت مصلحته.
واستدل على ذلك باستقراء أدلة الشرع، فإنه حسب استقراء أدلة الشرع الأوامر المطلقة تقتضي التكرار مثل: قول الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
والأقرب: هو القول الأول.
ومن ثمرة الخلاف: تكرار الفاتحة إذا فرغ المأموم من قراءتها في الصلاة السرية ولم يركع الإمام.
قوله: (والأشياء المخير فيها).
ذكر الشيخ في هذه المسألة أن الأشياء المخير فيها نوعان:
الأول: أن يكون التخيير مقصوداً به التسهيل على المكلف، فيكون التخيير تخيير رغبة واختيار، كخصال الكفارة من إطعام أو كسوة أو عتق، وكفدية الأذى وهي صيام أو صدقة أو نسك.
الثاني: أن يكون المقصود من التخيير مصلحة الغير فهو تخيير يجب فيه ما ترجحت مصلحته.
مثل: تخيير ملتقط الحيوان في حول تعريفه بين حفظه والإنفاق عليه ليرجع على صاحبه إذا وجده، وبين بيعه وحفظ ثمنه، وبين أكله بعد أن يقومه على نفسه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن ذلك: تصرفات ولي اليتيم وناظر الوقف والوصي وغيرهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الوكيل والولي في البيع والشراء، عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله» .
فسائر ما خير فيه ولاة الأمر من تصرف لغيره بولاية، كناظر الوقف، ووصي اليتيم والوكيل تخيره تخير اجتهاد ونظر وطلب الجواز والأصلح لا تخير شهوة.
فصل في ألفاظ العموم
وألفاظ العموم ككل، وجميع، والمفرد المضاف، والنكرة في سياق النهي أو النفي أو الاستفهام أو الشرط، والمعرف بأل الدالة على الجنس أو الاستغراق كلها تقتضي العموم.
قوله: (وألفاظ العموم
…
).
ذكر الشيخ رحمه الله هنا مسائل:
الأولى: صيغ العموم، وهذه المسائل يبحثها الأصوليون رحمهم الله في مباحث العام.
والعام لغة: الشامل.
وفي الاصطلاح: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر.
والأصل: العمل بالعام حتى يرد المخصِص.
تنبيه:
العموم لا يكون في الأفراد فقط، بل يكون في الأحوال، والأوصاف، والأزمنة، والأمكنة.
ومثاله: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36].
فيها:
عموم في الأفراد: أي: اقتلوا كل مشرك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعموم في الأحوال: أي: على كل حال كان.
وعموم في الأوصاف: أي: اقتلوه على أي صفة كانت.
وعموم في الأزمنة: أي: اقتلوه في كل زمان.
وعموم في الأمكنة: أي: اقتلوه في كل مكان.
والمنع من قتل بعض المشركين يحتاج إلى دليل يخرج بعض أفراد المشركين، كما أخرج الصبيان والنساء، أو أحوالهم أو أوصافهم أو في زمان أو مكان خاصين؛ إذ كل ذلك خروج عن عموم اللفظ فيحتاج إلى دليل.
* مسألة: ومن ألفاظ العموم: لفظ (كل)، قال أبو المعالي الجويني: في كتابه (البرهان): (وهي أقوى ألفاظ العموم في الدلالة على العموم)، وقد صنف تقي الدين السبكي: مصنفاً في (كل) ومشتقاتها، وأطال الكلام حولها، ولخصه العلائي: في (تلقيح الفهوم)، وهي تفيد العموم، سواء كانت مستقلة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، أو مؤكِّدة نحو قولك:«اشتريت هذا البيت كله» .
وكذلك ما يلحق (بكل) فإنه يدل على العموم، مثل: جميع، ومعشر، ومعاشر، وكافة، وعامة.
ومن صيغ العموم أيضاً: المفرد المضاف، وبهذا قطع الموفق في الروضة، وجزم به ابن القيم في إعلام الموقعين.
ولفظ المفرد يراد به معنيان:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المعنى الأول: ما يقابل الجملة وشبه الجملة، بحيث يشمل الواحد والمثنى والجمع، فهذا يسمى مفردًا عند النحاة، وليس مراد الأصوليين بلفظ المفرد هذا المعنى.
المعنى الثاني: إطلاق لفظ المفرد على ما يقابل المثنى والجمع.
مسألة: المضاف إلى معرفة ثلاثة أنواع:
* النوع الأول: الجمع، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] ف «أولادكم» : جمع مضاف إلى معرفة وهو الكاف فيكون مفيدًا للعموم، وقال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، ف «أمهاتكم» جمع مضاف إلى معرفة هو الكاف، فيكون مفيداً للعموم.
* النوع الثاني: أسماء الأجناس، وهذه إذا أضيفت إلى معرفة أفادت العموم أيضًا.
مثل قولنا: ماء البحر.
* النوع الثالث: المفرد الذي ليس بمثنى ولا بجمع، إذا أضيف إلى معرفة هل يفيد العموم؟
مثل قولك: قلم زيد، وسيارة عمرو، فهذا القسم اختلف الفقهاء فيه على قولين:
القول الأول: أن المفرد المضاف إلى معرفة يفيد العموم، وهذا قول: بعض الحنابلة وبعض المالكية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واستدلوا عليه: بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، قالوا:«نعمة» مفرد وأضيفت إلى معرفة وهو لفظ الجلالة، وهي مفيدة للعموم بالإجماع وبدلالة النص، فيشمل كل نعم الله عز وجل الدينية والدنيوية.
والقول الثاني: أن المفرد المضاف إلى معرفة لا يفيد العموم؛ لأنه لم يقم على إفادة المفرد المضاف إلى معرفة دليل يفيد العموم.
وأما قول الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فنعمة هنا ليست مفردًا، وإنما هي اسم جنس، واسم الجنس خارج عن محل النزاع.
ومن ثمرات هذه المسألة:
1 لو قال الرجل: زوجتي طالق، وعنده أربع نسوة، ولم ينو واحدة منهن، فعلى القول الأول: تطلق الأربع جميعاً، وعلى القول الثاني: لا تطلق إلا واحدة، وتعين بالقرعة.
2 لو قال: رقيقي حر، فهذا مفرد مضاف يعم كل الأرقاء فيعتق عليه جميع الأرقاء على القول الأول، وعلى القول الثاني لا يعم.
3 لو قال: بيتي وقف، فيشمل جميع بيوته على القول الأول، وعلى القول الثاني لا يعم.
تنبيه:
المفرد إذا أضيف إلى نكرة لم يفد العموم بالإجماع، مثل: سيارة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رجل، وقلم طالب.
ومن ألفاظ العموم: النكرات سواء كانت في سياق النهي أو النفي.
النكرة: هي كل ما يدل على واحد غير معين.
والنكرات تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: النكرة في سياق الإثبات، فهذه تدل على الإطلاق إلا إذا كانت في مجال الامتنان، فإنها تدل على العموم.
والمطلق: هو اللفظ المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه.
مثال ذلك: في كفارة الظهار، قال تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فهذا يشمل كل رقبة: صغيرة أو كبيرة، مؤمنة أو كافرة، ذكر أو أنثى، سليمة من العيوب أو معيبة، فهذا اللفظ مطلق يشمل كل هذه الأشياء، لكن يتناول أمراً واحداً لا بعينه غير محدد.
وأيضاً من ذلك: لو قلت: (أكرم رجلاً)، فهذه نكرة في سياق الإثبات فتدل على الإطلاق.
أما إذا كانت في معرض الامتنان، فإنها تدل على العموم، ومن ذلك:
قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، نكرة في سياق الإثبات، والأصل أنها تكون من باب الإطلاق، وليس من باب العموم، لكن لما كانت في معرض الامتنان كانت مستثناة، فتكون دالة على العموم،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتشمل كل فاكهة، وكل نخل، وكل رمان.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، فيشمل كل ماء؛ لأنها وردت في معرض الامتنان وبيان النعمة.
القسم الثاني: أن ترد النكرة بعد النفي، أو النهي، أو الاستفهام، أو الشرط، فإنها تدل على العموم.
فمثال النفي: قوله تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، فتشمل كل نفس، فتدل على العموم؛ لأنها في سياق النفي.
وقوله: {لِنَفْسٍ} : أيضاً نكرة ثانية في سياق النفي، فتدل على العموم، وقوله:{شَيْئًا} : نكرة ثالثة في سياق النفي فتدل على العموم.
كذلك قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، فنفى كل رفث، وكل فسوق، وكل جدال.
ومثال النهي: قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص: 88]، فيشمل كل إله.
والدليل على إفادة النكرة في سياق النهي العموم: أنها في الحقيقة بمعنى النفي فتأخذ حكمه.
ومثال الاستفهام: قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60].
وقولك: (أأحد في المسجد؟)، فهذا يشمل كل أحد.
ومثال الشرط: قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نكرة في سياق الشرط، فيشمل كل سوء، وعلى ذلك فإنها تفيد العموم.
وكقوله تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46].
وقول القائل: من فاز فأعطه جائزة.
وتتأكد دلالة النفي على العموم في حالات، منها:
1 إذا كانت النكرة مركبة مع «إلا» ، مثل: لا إله إلا الله.
2 وإذا كانت النكرة مسبوقة ب «من» ، مثل قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
3 إذا كانت النكرة مما يختص بالنفي، فلا ترد إلا في أسلوب النفي، مثل: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
أيضاً: من صيغ العموم الأسماء المبهمة، ويدخل في ذلك: أسماء الشرط، والأسماء الموصولة، وأسماء الاستفهام، فهذه كلها تدل على العموم.
مثال اسم الشرط: قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15]، (من) اسم شرط يشمل كل من عمل صالحاً، قال العلائي:(اتفق الأصوليون الذين يقولون بالعموم على أن (مَنْ) إذا أتت بمعنى الشرطية والجزاء؛ فإنها تفيد العموم)، و «من» تفيد العموم سواء كانت «من» موصولة أو استفهامية أو شرطية.
ومثله «ما» تفيد العموم سواء كانت «ما» : موصولة أو استفهامية أو شرطية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فمثال «ما» الشرطية: قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197].
ومثال «ما» الاستفهامية: قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17].
ومثال «ما» الموصولة: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [آل عمران: 109].
ودليل إفادة «ما» للعموم: أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، اعترض بعض المشركين على هذا اللفظ بأن عيسى وعزيراً والملائكة يُعبدون، ومع ذلك ليسوا من أهل النار، فقالوا: نرضى بأن نكون معهم، فنزلت الآية مبينة أنهم غير مرادين بالآية السابقة، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] الآيات.
وأما «ما» الحرفية: فلا تفيد العموم:
سواء كانت نافية: كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].
أو كانت مصدرية: قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128].
أو كانت «ما» زائدة: تكف «إن» عن العمل، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، فهذه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لا يستفاد منها العموم.
ومثال الاسم الموصول الدال على العموم:
قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، يشمل كل من جاء بالصدق.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، عام يشمل كل من جاهد.
وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»
(1)
، فقوله عليه السلام:«الذي يشرب» : يشمل كل إنسان يشرب ذكراً كان أو أنثى، فهو لفظ عام إلا إذا ورد ما يقتضي التخصيص.
ومثال اسم الاستفهام الدال على العموم: من حضر من الطلاب؟
قوله: (والمعرّف بأل
…
).
من صيغ العموم: «أل» و «أل» الداخلة على الأسماء ثلاثة أنواع:
* النوع الأول: الزائدة، وتكون قبل أسماء الأعلام، مثل: الحارث والعباس، فهذه زائدة ولا يستفاد منها العموم.
* النوع الثاني: «أل» العهدية، وهي التي يراد بها إرجاع الكلام إلى معهود مصاحب سابق.
(1)
رواه البخاري 5634، ومسلم 2056.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثاله: قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15: 16]، فالرسول هنا معرف ب «أل» ، لكن «أل» هنا للعهد، بمعنى أنه هو الرسول السابق، فهذه لا يستفاد منها العموم.
ومثاله: قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]، فهنا «أل» في الموطنين المصباح والزجاجة عهدية، فلا يستفاد منها العموم.
وقد يكون العهد موجودًا في الذهن وليس موجودًا في الكلام، مثل قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، ف «أل» في الميتة عهدية، فلا يستفاد منها العموم.
* النوع الثالث: «أل» الجنسية، وهي التي يراد بها الجنس، فهذه هي التي يستفاد بها العموم، ومن علامة عموم اللفظ: إبداله ب «كل» ، أو دخولها عليه واستقامة المعنى.
وهي على ثلاثة أنواع:
1 الداخلة على الجمع، مثل: المؤمنون، المسلمون، الرجال.
2 «أل» الداخلة على أسماء الأجناس، مثل الماء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
3 -
«أل» الداخلة على الأسماء المفردة، كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وكقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، ف «أل» هنا دخلت على اسم مفرد وهي جنسية، فتفيد العموم.
والدليل على إفادة هذا النوع للعموم:
1 صحة الاستثناء منه، بدلالة قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 2 - 3]، فدل ذلك على أن لفظ الإنسان عام، وإلا ما صح الاستثناء منه.
2 صحة وصفه بالجمع كما في قوله تعالى:
{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، فالطفل معرف ب «أل» الجنسية، فتكون مفيدة للعموم؛ بدلالة وصفها بالاسم الموصول «الذين» .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،
ورسوله»
(1)
. فدل ذلك أن لفظ «الصالحين» يفيد العموم، بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بالعام.
وقد بنى الفقهاء مسائل كثيرة على عموم اللفظ المحلى ب «أل» ، منها:
1 الأصل في البيع الحل؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].
2 الأصل في العقود الحل؛ لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] أي كل العقود، والمحرم منها مستثنى.
فرع:
هذه الصيغ نستفيد منها في ألفاظ العاقدين كالموقفين والموصين، وفي ألفاظ المعاملات والتبرعات، فنفهم من ذلك: أن المتلفظ بهذه الألفاظ يحكم عليه أنه أراد العموم إلا لقرينة، أو بينة تمنع من ذلك.
قوله: (والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
* المسألة الثانية: قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
ومعناها: أنه إذا حدثت حادثة فورد في حكمها نص بلفظ عام، فإن العبرة بهذا اللفظ العموم، ولا ينظر إلى السبب الخاص، وتوضيح ذلك: أن العام الوارد على سبب خاص له ثلاث حالات:
الأولى: أن يدل دليل على العموم، فيعم إجماعاً.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجلاً أصاب من
(1)
رواه البخاري 831.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: (لجميع أمتي كلهم)
(1)
.
الثانية: أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله العام، فيختص بما يشبهها، ولا يعمل به على عمومه.
وذلك: كحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من البر الصيام في السفر»
(2)
، فإن سببه أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى رجلاً قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم، فقال:«ليس من البر الصيام في السفر» فهذا الحديث عام لعموم البر والصيام، فيدل على انتفاء كل بر عن كل صيام في السفر، لكن لا يؤخذ بعمومه في الأحوال، فيحكم على كل صيام في السفر بأنه ليس من البر، وإنما هو خاص بمن يشبه حال الصحابي الذي قيل الحديث بسببه.
والدليل على ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في السفر، حيث لا يشق عليه، وهو لا يفعل ما ليس براً.
الثالثة: أن لا يدل دليل على التعميم ولا على التخصيص.
فجمهور العلماء: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، سواء كان السبب سؤالاً أو واقعة، فيجب العمل بعمومه.
(1)
رواه البخاري (526)، ومسلم (2763).
(2)
أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ودليل ذلك:
1 أن الصحابة والتابعين استدلوا بالآيات والأحاديث العامة الواردة على أسباب خاصة في عمومها، ولم يقصروها على أسبابها، وذلك كآيات اللعان، والظهار، والسرقة، والمواريث.
2 أن الحكم إنما يؤخذ من نص الشارع، وهو نص عام فيجب حمله على عمومه.
3 أن عدول الشارع عن الجواب الخاص إلى العموم دليل على أنه أراد العموم.
ونسب إلى الإمام أبي حنيفة، والشافعي وأبي ثور قصر العام على سببه.
ومثاله: ما ورد أن قوماً من الصحابة قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ولو توضأنا بما معنا من الماء عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام:«هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
(1)
.
فصيغة العموم، وهي قوله:«هو الطهور ماؤه» تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهر حال الضرورة والاختيار، ولا عبرة بورود السؤال عن شيء خاص وهو الوضوء، ولا بكون السؤال ورد في حال الضرورة، وهو خشية العطش.
(1)
أخرجه أحمد (7233)، وأبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (59)، وابن ماجه (386).
ويراد بالخاص العام وعكسه، مع وجود القرائن الدالة على ذلك
قوله: (ويراد بالخاص العام وعكسه، مع وجود القرائن الدالة على ذلك).
أي يأتي النص الخاص ويراد به العام، إذا وجد قرينة تدل على ذلك، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] فهذا خاص؛ لأنه خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يراد به العام أي عموم الخلق، وكقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] فخصّ التأفيف بالنهي عنه، والمراد النهي عن جميع أنواع الأذى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (جمهور علماء الأمة أن الله إذا أمر نبيه بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك، ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك).
ومن الأمثلة أيضاً: قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] فإن الخطاب في هذه الآيات وهي آيات الحجاب وإن كان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو عام لجميع نساء الأمة.
قوله: (وعكسه) أي يأتي العام ويراد به الخاص بالشرط المذكور، كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].
فالناس في هذه الآية عام يراد به خصوص المكلفين؛ لأن الشرع والعقل يقضيان بخروج الصبيان والمجانين.
وخطاب الشارع لواحد من الأمة، أو كلامه في قضية جزئية يشمل جميع الأمة وجميع الجزئيات إلا إذا دل الدليل على الخصوص.
وكقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] فهنا لفظان عامان يراد بهما خصوص القادرين، كما ذكر ذلك الشافعي رحمه الله وذكر أمثلة أخرى.
قوله: (وخطاب الشارع لواحد من الأمة، أو كلامه في قضية جزئية يشمل جميع الأمة وجميع الجزئيات إلا إذا دل الدليل على الخصوص).
أي: أن خطاب الشارع لواحد من الصحابة، يشمل جميع المكلفين، ولا يختص بذلك الصحابي، إلا بدليل يدل على التخصيص.
من أمثلة ذلك: قول علي رضي الله عنه: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد)
(1)
.
ومن الأمثلة أيضاً: حديث قيس بن عاصم رضي الله عنه: (أنه لما أسلم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر)
(2)
.
ودليل هذا التعميم النص والقياس، أما النص فقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة»
(3)
.
وأما القياس: فإن قياس غير المخاطب على المخاطب بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي.
(1)
أخرجه مسلم (480).
(2)
أخرجه أحمد (20611)، والترمذي (605)، والنسائي (188).
(3)
أخرجه أحمد (27006)، والترمذي (1597)، والنسائي (4181)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون في أحكامهم العامة إلى أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعضها توجه إلى صحابي واحد كحديث عائشة رضي الله عنها لما حاضت صفية رضي الله عنها وفي تفويض المهر إلى قصة بروع بنت واشق رضي الله عنها، وفي حكم السكنى للمبتوتة إلى حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وفي حد الزاني إلى قصة ماعز رضي الله عنه وغير ذلك.
قوله: (أو كلامه في قضية جزئية يشمل جميع الأمة وجميع الجزئيات).
كلام الشارع في قضية جزئية يشمل جميع الجزئيات، وذلك مثل:(نهى عن بيع الغرر)
(1)
، وقول الصحابي:(قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار)
(2)
، فهذا يعم كل غرر وكل جار؛ وذلك لأن الصحابي الناقل لذلك عدل ضابط فلا يروي ما يدل على العموم إلا وهو جازم بالعموم، وقد كان الصحابة يحتجون بمثل ذلك دون نكير، وقد رجع ابن عمر إلى حديث رافع بن خديج:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)
(3)
.
قوله: (إلا إذا دل دليل على الخصوص).
أي: أن ما خوطب به الصحابي لا يختص به إلا إذا دل الدليل على اختصاصه بهذا الحكم، كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في الأضحية بالجذع من المعز:«تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك»
(4)
، وهذه خصوصية حال لا خصوصية عين، ومثل ذلك تخصيصه صلى الله عليه وسلم خزيمة رضي الله عنه بجعل شهادته كشهادتين
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم (1513).
(2)
رواه مسلم (1608).
(3)
رواه البخاري (2381)، ومسلم (1536).
(4)
أخرجه البخاري (983)، ومسلم (1961).
(5)
رواه البخاري (2807).
وفعله صلى الله عليه وسلم الأصل أن أمته أسوته في الأحكام إلا إذا دل دليل على أنه خاص به
وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة: فهو لفسادها، أو نفى بعض ما يلزم فيها:
قوله: (وفعله صلى الله عليه وسلم الأصل أن أمته أسوته في الأحكام إلا إذا دل دليل على أنه خاص به).
هذه المسألة تتعلق بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الكلام عليها، وبيان أقسامها، وذكر هنا أن الأصل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله من العبادات والمعاملات؛ لقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فيجب العمل بمقتضى هذه الآية حتى يقوم الدليل المانع من التأسي، وهو الدال على الخصوصية، كما في قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فهذه الآية تدل على أن الله تعالى أحلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم أن ينكح التي تهب له نفسها بدون مهر، وأما غيره صلى الله عليه وسلم فلابد من المهر والولي والشهود.
قوله: (وإذا نفى الشارع
…
).
هذه المسألة تتعلق ببيان حكم ما نفاه الشارع، فإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة، فهو إما لفسادها من أصلها، أو لانتفاء بعض ما يلزم فيها من واجبات أو غيرها.
النفي الداخل على المسميات الشرعية له ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: للوجود، وإذا لم تمكن هذه المرتبة فالمرتبة الثانية:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النفي للصحة هذا هو الأصل إلا إذا وجد دليل يصرف هذا النفي إلى الكمال وأنه ليس نفيًا للصحة، فالمرتبة الثالثة: نفي الكمال.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من قال إن النفي للكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يُذم صاحبه فقد صدق، وإن أراد الكمال المستحب فلم يقع في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك ولا يجوز أن يقع).
فإذا قلت: لا خالق إلا الله فالنفي هنا للوجود، يعني ليس هناك خالق موجود غير الله عز وجل وإذا قلت: لا صلاة إلا بوضوء، الصلاة الآن موجودة فنقول: النفي هنا للصحة هذا الأصل إلا إذا وجد صارف ولم يوجد صارف.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي»
(1)
النفي هنا للصحة، وأن النكاح لا يصح إلا بولي إلا إذا وجد صارف ولم يوجد الصارفُ.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان»
(2)
فالنفي هنا ليس للصحة، وإنما هو للكمال لوجود الصارف، وهو أن هذه الصلاة اكتملت شروطها وواجباتها وأركانها، لكن لما وجد شيء يشوّش على الإنسان فالنفي هنا للكمال، فالكمال أن يمتنع الإنسان عن كل ما يشوش عليه صلاته، أما إذا كان هذا التشويش يؤدي إلى الإخلال بشرط أو ركن كالطمأنينة فالنفي يبقى على
(1)
أخرجه أبو داود رقم (2085) والترمذي رقم (1101) وابن ماجه رقم (1881)، وصححه علي بن المديني وابن معين وابن حبان والحاكم وابن حزم والبيهقي وابن عدي وابن الجوزي.
(2)
تقدم تخريجه.
فلا تنفى لنفي بعض مستحباتها.
تنعقد العقود وتنفسخ بكل ما دل على ذلك من قول أو فعل.
أصله وهو أنه نفي للصحة.
كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف»
(1)
نقول: النفي هنا للصحة؛ لأن الصلاة وجدت فلا يمكن أن يكون للوجود، فمن صلى خلف الصف فصلاته غير صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة لمنفرد خلف الصف» إلا إذا وجد صارف، وذلك فيما إذا كان الصف مكتملًا، فإن النفي ليس للصحة.
قوله: (فلا تنفى لنفي بعض مستحباتها).
أي: أن العمل إذا فُعِل كما أوجبه الله تعالى، فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من مستحباته التي ليست بواجبة.
وعلى هذا فلا يحكم عليه بالفساد، كما لو ترك المصلي رفع يديه عند تكبيرة الإحرام، أو اقتصر على الذكر مرة واحدة، ونحو ذلك مما يعده الفقهاء من سنن الأقوال والأفعال والله أعلم.
قوله: (تنعقد العقود وتنفسخ بكل ما دل على ذلك من قول أو فعل).
هذه المسألة تتعلق بالعقود من البيع والإجارة والهبة والنكاح وغير
(1)
رواه أحمد (4/ 228) وأبو داود رقم (682) والترمذي رقم (231) وابن حبان (3/ 313) وفي الباب عن علي بن شيبان أخرجه أحمد (4/ 23) وابن ماجه (1003) وحسن هذا الحديث الإمام أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم والبوصيري، وقال ابن رجب (رواته كلهم ثقات) وأخذ به ابن معين وعمل به.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذلك، وكذا ما يتعلق بالفسوخ، كفسخ البيع والإجارة ونحو ذلك.
ومعنى هذه القاعدة: أن كل ما يدل على مراد المتعاقدين مما تعارف عليه الناس من لفظ أو فعل أو نحوهما فإنه ينعقد به العقد وهكذا يقال في الفسوخ.
ومعلوم أن الألفاظ التي عند العرب ليست هي الألفاظ التي عند غيرهم، ويدخل في ذلك ما تعارف الناس عليه من البيع بالمعاطاة من غير إيجاب ولا قبول عند شراء حوائجهم.
وما تقدم معلل بأمرين:
الأول: أن الشرع ذكر العقود، وليس لها حد في اللغة أو الشرع، فيرجع إلى العرف.
الثاني: أن العقود ليست عبادات يتقيد الإنسان فيها بما ورد، بل هي معاملات يُرجع فيها إلى ما تعارف الناس عليه، والله أعلم.
فصل في الاجتهاد والتقليد
المسائل قسمان:
مجمع عليها، فتحتاج إلى تصور وتصوير، وإلى إقامة الدليل عليها، ثم يحكم عليها بعد التصوير والاستدلال.
وقسم فيها خلاف، فتحتاج مع ذلك إلى الجواب عن دليل المنازع.
قوله: (المسائل قسمان).
ذكر المؤلف رحمه الله في خاتمة هذه الرسالة ثلاث مسائل:
الأولى: طريقة تقرير الأحكام الشرعية: فإن المسائل قسمان:
* القسم الأول: مجمعٌ عليها، وهذه لها ثلاث مراتب:
1 تصور المسألة وتصويرها، والتصور هو: إدراك الشيء من غير أن يحكم عليه بنفي أو إثبات، فتصور المسألة هو إدراكها، وأما تصويرها فهو: حصر ضوابطها، أو وصفها للغير وصفاً واضحاً.
2 إقامة الدليل عليها: وهو الاستدلال على المسألة من كتاب أو سنة؛ لأن الإجماع والقياس لابد أن يستندا إلى دليل.
3 الحكم عليها وهذه ثمرة الاستدلال.
مثال ذلك: نفقة الزوجة، فلابد من تصوير المسألة المعروضة على المفتي؛ ليعرف مقدار ما يجب من النفقة؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأمكنة، والنظر إلى حال الزوجين يساراً وإعساراً، فإذا تقرر ذلك عند المفتي، استدل عليه بمثل قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»
(1)
.
وقد نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على وجوب نفقة الزوجة على زوجها مالم تكن ناشزاً، وبناء على هذه الأدلة يذكر المفتي وجوب نفقة الزوجة على زوجها، ويرجع في تقدير ذلك إلى العرف في ذلك البلد الذي منه السائل.
* القسم الثاني: المسائل التي فيها خلاف.
ونحتاج فيها إلى أربع مراتب، المراتب الثلاث السابقة، ونزيد عليها مرتبة رابعة وهي الجواب عن دليل المنازع؛ لأنه بعد تصوير المسألة والاستدلال عليها وبيان حكمها، يبقى دليل المخالف موهناً لدليله وترجيح أحد القولين لابد فيه من الجواب عن دليل المنازع ليظهر ضعفه وقوة دليل المستدل.
ومثال ذلك: أنه يجوز اختلاف نية الإمام والمأموم.
وتصوير المسألة: مثاله: ما لو دخل إنسان المسجد والإمام يصلي التراويح فله أن يصلي العشاء خلفه، فإذا سلم الإمام قام وأتم صلاته، ودليل ذلك: ما ورد عن جابر أن معاذاً رضي الله عنهما «كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه مسلم (1218).
وهذا في حق المجتهد والمستدل، وأما المقلد فوظيفته السؤال لأهل العلم
العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة
(1)
.
كما يدل على ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الثانية صلاة الخوف وهي له نافلة، فإنه صلى بالطائفة الأولى ثم سلم، ثم صلى بطائفة أخرى ثم سلم.
واستدل المخالف بحديث «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه»
(2)
.
والقول الأول أرجح لقوة دليله، وأما دليل المنازع فله جوابان:
الأول: أنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره بذلك كما في تمام الحديث: «فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا» .
الثاني: سلمنا أنه عام في اختلاف النيات والأفعال الظاهرة، لكنه مخصوص بمثل حديث جابر المذكور والله أعلم.
قوله: (وهذا في حق المجتهد والمستدل).
أي: أن هذا المسلك في بناء الحكم الشرعي هو وظيفة المجتهد، وهو الفقيه الذي له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
وكذا المستدل: وهو من يطلب الدليل على حكم شرعي.
قوله: (وأما المقلد فوظيفته السؤال لأهل العلم).
كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
(1)
رواه البخاري (701)، ومسلم (465).
(2)
رواه البخاري (378)، ومسلم (411).
والتقليد: قبول قول الغير من غير دليل
والطرق الدالة على من يصلح للفتوى ثلاث:
الأول: الاشتهار، فمن اشتهر بالعلم والدين، فإنه يستفتى.
الثاني: إخبار العدل أن فلاناً يستفتى.
الثالث: الانتصاب للفتوى.
قوله: (والتقليد: قبول قول الغير من غير دليل).
التقليد في اللغة: وضع الشيء في العنق محيطاً به.
وأما في الاصطلاح: اتباع قول الغير من غير معرفة دليله.
حكم التقليد: جائز في العامة الذين لا قدرة لهم على الأدلة والاستنباط، وهو قول الجمهور؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
ولإجماع الصحابة على إفتاء العوام إذا سألوا، وعلى أن فرض الجاهل سؤال العالم.
ومنع من التقليد في الفروع ابن حزم والشوكاني؛ لأن التقليد قبول قول الغير من غير حجة، وقصدوا بهذا أن القول المقلد فيه لا حجة عليه إلا قول المجتهد أو فعله.
ولا يفهم من هذا أنهم يمنعون العامة من سؤال العلماء، فإن هذا مجمع عليه لا ينكره أحد، ولكنهم لا يسمونه تقليداً إذا كان العالم أفتى بقول بناء على الدليل.
وقد أوجب ابن حزم على العامي أن يسأل المفتي عن دليله، فلا يقبل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتواه إلا إذا ذكر له الدليل، أو قال له: إن هذا حكم الله جل جلاله.
والتقليد يشترط له شروط:
الأول: أن يكون جاهلاً عاجزاً عن معرفة حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يقلد من عرف بالعلم والاجتهاد ممن يكون أهلاً للدين والصلاح.
الثالث: ألا يخالف التقليد الإجماع أو النص الصحيح الصريح.
الرابع: ألا يتبين له الحق.
الخامس: ألا يلتزم مذهباً معيناً بل عليه أن يتحرّى في كل مسألة وأن يقلد فيها.
ومخالفة هذه الشروط يترتب عليها ما يسمى بالتقليد المذموم.
مسألة: حكم التمذهب.
الجمهور على الجواز؛ لأنه إذا جاز لغير المجتهد تقليد من شاء من العلماء جاز له أن يختار منهم واحدا فيقلده دون غيره؛ لثقته في علمه وعدالته وورعه.
وقيل: لا يجوز؛ إذ لم يكن معروفاً في صدر الإسلام، وأنه يؤدي إلى التعصب وترك الحق.
وأجيب: بعدم التسليم، فإن المفتين في الصدر الأول لم تكن لهم مذاهب معروفة في جميع مسائل الفقه، وهذا جعل المقلدين يسألون من وجدوه حين تعرض لهم المسألة.
فالقادر على الاستدلال عليه الاجتهاد والاستدلال، والعاجز عن ذلك عليه التقليد والسؤال،
والصواب في ذلك: أنه لا يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين، لكن يجوز له أن يتمذهب بشرطين:
الأول: إذا لم يستطع أن يتعلم دينه إلا بالتزام مذهب معين، فيجوز له أن يتمذهب.
الثاني: أن يترتب على عدم التمذهب بمذهبٍ معين فساد عظيم لا يتمكن دفعه إلا بذلك.
وإذا تمذهب بمذهب معين فعليه أن يراعي الأمور الآتية:
الأولى: ألا يتخذ ذلك دعوة يدعو إليها، يوالي ويعادي من أجلها.
الثاني: ألا يعتقد أنه يجب على جميع الناس اتباع شخص بعينه.
الثالث: أن يعتقد أن هذا الإمام الذي تابعه ليس له من الطاعة إلا أنه مبلغٌ عن الله ورسوله وليس له الطاعة المطلقة.
الرابع: أن يحترز عن الوقوع في أخطاء بعض المتمذهبين، مثل: التعصب والتفرق والانتصار بالأحاديث الضعيفة والإعراض عن الوحي
(1)
.
قوله: (فالقادر على الاستدلال عليه الاجتهاد والاستدلال):
أي أن الناس صنفان:
* الأول: قادر على الاستدلال، والمراد به: المجتهد، وفي جوازه
(1)
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 492، ومعالم أصول الفقه عند أهل السنة 465.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تقليده لغيره قولان:
القول الأول: لا يجوز له التقليد وهو مذهب الجمهور؛ لحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
(1)
، فإن رأي المجتهد الآخر مما يرتاب فيه المجتهد.
القول الثاني: لا يجوز له التقليد إلا إذا ضاق الوقت وحضر وقت العمل، ولم ينظر أو لم يتبين له فيها رأي، وهو مذهب ابن سريج، واختاره ابن تيمية.
ودليله: أنه إذا لم يتمكن من النظر لضيق الوقت، أو نظر فلم يظهر له حكم معين يكون بمنزلة العامي؛ إذ لا يمكنه التوقف إلى الأبد، فيجوز له أن يقلد حينئذ للضرورة.
* الثاني: العاجز عن الاستدلال فهذا عليه أن يسأل أهل العلم، أو يقلد غيره من أهل العلم.
مسألة: إذا كان في البلد مجتهدان أو مجتهدون، فهل للعامي أن يتخير أو ليس له أن يتخير؟
الرأي الأول: يجب عليه أن يسأل أوثق العالمين علماً وورعاً، كما أنه في مرضه البدني يجب عليه أن ينظر إلى أوثق الطبيبين.
الرأي الثاني: أنه لا يجب عليه أن يتحرّى، وإنما له أن يتخير؛ أخذاً
(1)
أخرجه أحمد (1723)، والترمذي (2518)، والنسائي (5711).
كما ذكر الله الأمرين في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
مما عليه الحال وقت الصحابة والتابعين، فإنهم كانوا يسألون المفضول فيفتيهم، ولا يأمرهم بسؤال الفاضل، وقد أفتى ابن عباس وابن عمر في حياة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم أجمعين.
والصواب في هذه المسألة: أنه ليس له أن يتخير؛ فيبحث عن الأفضل منهم، كما يجتهد العالم في الأخذ بالأقوى من الدليلين المتعارضين، ولأن المفتين كثروا والناس يتفاوتون في العلم.
مسألة: إذا تساوى عنده عالمان في الدين والعلم، فهل له أن يتخير من أقوالهم، أو يأخذ بالأشد؟
الرأي الأول: أن له أن يتخير من أقوالهم.
الرأي الثاني: أنه يأخذ بالأشد، وهذا قول الظاهرية.
والأقرب: أنه يتخير من أقوالهم.
وقوله: (كما ذكر الله الأمرين في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]).
المراد بالأمرين أن القادر يجتهد لقوله: {أَهْلَ الذِّكْرِ} ، وأن العاجز يقلد، لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا} والله أعلم.
مسألة: تتبع الرخص.
يقصد بتتبع الرخص: الأخذ بأخف الأقوال في المسائل الخلافية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا العمل قد يحصل من مجتهد أو مقلد.
وقد أجازه بعض العلماء، وقيل: بمنعه؛ لأن فرض المقلد سؤال أهل العلم، كما قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ولأن تتبع الرخص يؤدي إلى التحلل من ربقة التكاليف الشرعية، وهو عمل بالهوى بدون دليل، ولهذا قال بعض العلماء: من تتبع الرخص فقد تزندق.
مسائل تتعلق بالاجتهاد:
* الأولى: الاجتهاد في اللغة: بذل الجهد واستفراغ الوسع لإدراك أمر شاق.
وأما في الاصطلاح: فهو بذل الوسع بالنظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية.
* الثانية: شروط الاجتهاد:
يشترط له شروط:
الأول: أن يكون المجتهد عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة وأصول الفقه ويكفي القدر اللازم لاستنباط الأحكام بأن يكون عارفاً بدلالات الألفاظ، خبيراً بما يصح من الأساليب وما لا يصح، وأن يكون عارفاً بمراتب الأدلة، وطرق الجمع بينها، وطرق الترجيح عند التعارض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثاني: أن يكون عالماً بأحوال الرجال لكي يعلم المقبول من غيره، وعارفاً بالناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع.
الثالث: أن يكون عارفاً بالآيات والأحاديث الواردة في الأحكام.
الرابع: أن يستند في اجتهاده إلى دليل.
الخامس: أن يبذل جهده قدر المستطاع.
السادس: ألا تكون المسألة منصوصاً عليها أو في معنى المنصوص.
السابع: أن تكون من النوازل أو مما يمكن وقوعه والحاجة إليه ماسة.
الثامنة: أن يكون عارفاً بالواقعة مدركاً لأحوالها.
* الثالثة: تجزؤ الاجتهاد:
عند جمهور العلماء من حصَّل الشروط العامة له أن يجتهد في المسألة المستقلة، إذا أحاط بأدلتها، وقدر على النظر فيها، ولو لم يستطع الاجتهاد في مسألة أخرى لقصوره عن الإحاطة بأدلتها؛ لأن أكثر العلماء كانوا يتوقفون في بعض المسائل، مما يدل على أنهم لم يحيطوا بأدلتها، ويفتون في غيرها لإحاطتهم بأدلتها.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الاجتهاد لا يتجزأ، ومن لم يحط بأدلة الفقه على الوجه الذي ذكرناه في شروط الاجتهاد ليس له أن يجتهد في باب أو مسألة لأن مسائل الفقه متصل بعضها ببعض كسلسلة متصلة الحلقات،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يمكن أن يحيط بأدلة مسألة ما لم يحط بأدلة المسائل الأخرى.
* الرابعة: تجديد الاجتهاد.
المقصود بتجديد الاجتهاد: إعادة النظر في حكم الواقعة، لتجدد وقوعها أو السؤال عنها، واختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: يجب عليه تجديد الاجتهاد إذا وجد ما يستدعي إعادة النظر في المسألة، كتغير العرف في مسألة مبنية على العرف، أو وجود نص يخالف ما أفتى به سابقاً في الصور الثلاث كلها، وهو مذهب أكثر الحنفية والحنابلة.
وحجتهم: أنه إذا لم ينظر في المسألة الجديدة يكون مقلداً لنفسه.
وأيضاً فإن الاجتهاد كثيراً ما يتغير بمعاودة النظر، فلا يأمن أن يكون الحق في غير ما أفتى به أولا.
القول الثاني: عدم وجوب إعادة النظر.
وهو قول بعض الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة.
وحجتهم: أن الأصل عدم تغير الاجتهاد، فيجوز البناء عليه.
وأيضاً فإنه لو أمر بتجديد الاجتهاد لكان إيجاباً من غير دليل.
والقول الثالث: أنه إن كان ذاكراً لطريق اجتهاده السابق فلا يجب عليه معاودة النظر، وإن كان ناسياً وجب عليه معاودة الاجتهاد والنظر، وهو قول
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المحققين من الأصوليين.
دليله: أن المجتهد إذا كان ذاكراً لدليله السابق، ولم يظهر له ما يعارضه، فهو باق على اجتهاده السابق، ولا يجب عليه تجديد البحث؛ لأنه لا موجب له.
وأما إذا نسي دليله السابق فإنه لو حكم بما حكم به أولاً من غير نظر كان كالمقلد؛ لأنه أخذ قولاً لا يعرف دليله، والمجتهد لا يجوز له أن يقنع بالتقليد مع قدرته على النظر والاجتهاد.
* الخامسة: قاعدة: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد إلا إذا خالف نصاً صريحاً من كتاب أو سنة، أو خالف إجماعاً صريحاً ثابتاً.
* السادسة: هل يلزم المجتهد إخبار من أفتاه بتغير اجتهاده؟
اختلف العلماء في ذلك، والأكثر على أنه لا يلزمه ذلك.
وقيل: يلزمه إن لم يتصل به العمل وأمكنه ذلك من غير مشقة.
وهو أرجح؛ لأنه من النصح لعامة المسلمين.
* السابعة: لا ينكر تغير الفتوى بتغير الأزمان:
نص العز ابن عبد السلام، والقرافي، وابن القيم، وغيرهم على أن الحكم أو الفتوى قد يتغيران في المسألة الواحدة لأجل تغير الأعراف والعادات والأزمان، ونحو ذلك مما له أثر في الحكم.
وقد توسع في القاعدة بعض المتأخرين، ولم يقصروها على الأحكام
(والله أعلم، وصلى الله على محمد رسول الله، وآله وصحبه وسلم).
التي ترجع إلى العرف والعادة
(1)
.
مسألة: المفتي في اللغة: اسم فاعل من الإفتاء وهو الإخبار بالحكم.
وفي الاصطلاح: المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله.
وحكم إفتاء الناس: فرض كفاية، لقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] والإفتاء من تبيين العلم للناس، وكان على الكفاية لأن المطلوب تحصيل العمل، إذ الأمر روعي فيه العمل لا العامل.
وإفتاء الناس من تعليمهم ودلالتهم على الخير وبه تصلح عبادات الناس ومعاملاتهم وتنحل مشكلاتهم، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدافعون الفتيا تورعاً لعلمهم بكثرة من يغنيهم بفتوى الناس.
قال ابن القيم: «الذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله وسلم مائة ونيف وثلاثون نفساً» .
ويشترط في المفتي: العلم بآيات الأحكام وأحاديثها وما يتعلق بذلك، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، ومواقع الإجماع، والعلم بالفقه، وأصوله، وآثار الصحابة.
قال رحمه الله: (والله أعلم، وصلى الله على محمد رسول الله، وآله وصحبه وسلم).
في آخر هذه الرسالة المباركة ردَّ المؤلفُ العلمَ إلى الله عز وجل،
(1)
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله 499.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا من خلقه مع الله عز وجل، وختم رسالته بالصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وتقدَّم تفسير صلاة الله وسلامه على عبده.