المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الاثنين المبارك بعد صلاة المغرب 29/ - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ١٢

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الاثنين المبارك بعد صلاة المغرب 29/ 8/ 1426 هـ أول الجزء الثاني عشر من شرح "صحيح الإِمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإِمام مسلم بن الحجاج" رحمه اللَّه تعالى.

(5) - (كِتَابُ الْمَسَاجِدِ، وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا معظم النسخ بلفظ "كتاب المساجد"، ولا يخفى مناسبة ذكر أحاديث المساجد في أبواب الصلاة؛ لأنها مراضع الصلاة، ولكن كان الأولى للمصنّف أن يقدّمه في أوائل الصلاة، كما فعل البخاريّ رحمه الله، فقد أورد أحاديث فرض الصلاة، ثم أحاديث ستر العورة، ثم أحاديث المساجد، وهكذا، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1166]

(520) - (حَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟

(1)

قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟، قَالَ:"الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى"، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَهُوَ مَسْجِدٌ"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ: "ثُمَّ حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّه

(2)

، فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ")

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) هو: فُضيل بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ

(1)

وفي نسخة: "أولًا" منصوبًا منوّنًا.

(2)

وفي نسخة: "فصلّ".

ص: 5

[10]

(ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبديّ مولاهم البصريّ، ثقة [8] (ت 176) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) هو: إبراهيم بن يزيد بن شَرِيك، أبو أسماء الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، لكنه يُرسل، ويدلّس [5](ت 92) وله (40) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

4 -

(أَبُوهُ) يزيد بن شَرِيك بن طارق التيميّ الكوفيّ، يقال: إنه أدرك الجاهليّة [2] مات في خلافة عبد الملك بن مروان (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.

5 -

(أَبُو ذَرٍّ) جندب بن جُنادة الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بين اثنين منهم؛ لاختلاف صيغ الأداء بسب اختلاف كيفيّة التحمّل، وذلك أن أبا كامل حدّثه وحده، ولذا قال:"حدّثني أبا كامل"، وصرّح عبد الواحد بتحديث الأعمش له، وأما أبو بكر، وأبو كريب، فحدّثاه مع غيره، ولذا قال:"وحدّثنا أبو بكر إلخ".

2 -

(ومنها): أن رجا له رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي كامل، وأبي بكر، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، وعلّق له البخاريّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير أبي كامل، وعبد الواحد، فبصريّان، والصحابيّ: مدنيّ، ثمّ رَبَذيّ، قرية قريبة من المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) يزيد بن شَرِيك (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة رضي الله عنه أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟)"أَيّ" -بفتح الهمزة، وتشديد الياء-: اسم استفهام، مرفوع على الابتداء، وخبره جملة "وُضع"، وهو بالبناء للمفعول، و"أَوَّلُ" بالبناء على الضمّ؛ لقطعه

ص: 6

عن الإضافة، ونيّة معناها، كـ "قبلُ"، و"بعد"، قال في "الخلاصة":

وَاضْمُمْ بِنَاءً "غَيْرًا" انْ عَدِمْتَ مَا

لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا

"قَبْلُ" كَـ "غَيْرُ""بَعْدُ""حَسْبُ""أَوَّلُ"

وَ"دُونُ" وَالْجِهَاتُ أَيْضًا وَ"عَلُ"

وَأَعْرَبُوا نَصْبًا إِذَا مَا نُكِّرَا

"قَبْلًا" وَمَا مِنْ بَعْدِهِ قَدْ ذُكِرَا

وفي بعض النسخ بلفظ: "أَوَّلًا" فيكون منصوبًا على الظرفيّة متعلّقًا بـ "وُضِعَ".

وقال في "المرعاة": قوله: "أوَّلُ" بضم اللام، وهي ضمة بناء؛ لقطعه عن الإضافة مثل "قبل"، و"بعد"، قال أبو البقاء: وهو الوجه، والتقدير: أوّلُ كلِّ شيءٍ، ويجوز النصب مصروفًا، وغير مصروف؛ لوزن الفعل والوصفيّة، نحو قوله تعالى:{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42]. انتهى بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد نظم بعضهم ضابطَ "أوّلُ"، فقال [من الطويل]:

إِذَا "أَوَّلٌ" قَدْ جَاءَ مَعْنَاهُ أَسْبَقُ

فَمَنْعُ انْصِرَافٍ فِيهِ أَمْرٌ مُحَتَّمُ

لِوَصْفٍ وَوَزْنِ الْفِعْلِ فِيهِ أَيَا فَتَى

فَكُنْ حَافِظًا لِلْعِلْمِ تَحْظَى وَتَغْنَمُ

وَمَا جَاءَ ظَرْفًا مِثْلُ "قَبْلٍ" فَذَا لَهُ

كَـ "قَبْلُ" مِنَ الأَحْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ") بالرفع على أنه مبتدأ حُذف خبره؛ لدلالة السؤال عليه، أي المسجدُ الحرامُ وُضِع أوّلًا، ويحتمل أن يكون نائب فاعل لفعل محذوف، دلّ عليه السؤال أيضًا، أي وُضِعَ المسجد الحرام أوّلًا، قال أبو ذرّ رضي الله عنه (قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟) يجوز تنوينه؛ لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، وتركه بنيّة المضاف إليه، أي ثمّ أيُّ مسجد وُضع بعده، وقد تقدم البحث في هذا مستوفًى في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أي العمل أحبّ إلى اللَّه".

قال في "الفتح": وهذا الحديث يفسّر المراد بقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} الآية [آل عمران: 96]، ويدلّ على أن المراد بالبيت بيت العبادة، لا مطلق البيوت، وقد ورد صريحًا عن عليّ رضي الله عنه، أخرجه إسحاق ابن راهويه، وابن أبي حاتم، وغيرهما بإسناد صحيح عنه، قال:"كانت البيوت قبله، ولكنه كان أوّل بيت وُضع لعبادة اللَّه". انتهى

(2)

.

(1)

"المرعاة" 2/ 468.

(2)

"الفتح" 6/ 470 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3366).

ص: 7

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى") يعني مسجدَ بيت المقدس، قيل له: الأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث، والْمُقَدَّسُ: المطهر عن ذلك.

قال أبو ذرّ رضي الله عنه (قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟) أي كم مدّةً بين وضع المسجدين؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَرْبَعُونَ سَنَةً) قال ابن القيّم رحمه الله: وقد أشكل هذا الحديث على من لم يَعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام، قال: وهذا جهل من هذا القائل؛ فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده، لا تأسيسه، والذي أسّسه يعقوب بن إسحاق -صلى اللَّه عليهما وآلهما وسلّم- بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة بهذا المقدار. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن الجوزيّ رحمه الله: فيه إشكال؛ لأن إبراهيم عليه السلام بَنَى الكعبة، وسليمان عليه السلام بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ومُسْتَنَدُه في أن سليمان عليه السلام هو الذي بَنَى المسجد الأقصى، ما رواه النسائيّ من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا بإسناد صحيح:"أن سليمان عليه السلام لَمّا بنى بيت المقدس، سأل اللَّه تعالى خِلالًا ثلاثًا. . . " الحديث، وفي الطبرانيّ من حديث رافع بن عميرة:"أن داود عليه السلام ابتدأ ببناء بيت المقدس، ثم أوحى اللَّه إليه إني لأقضي بناءه على يد سليمان"، وفي الحديث قصّةٌ. انتهى.

قال: وجوابه أن الإشارة إلى أوّل البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بَنَى بيت المقدس، فقد رَوَينا أن أول مَن بَنَى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وَضَعَ بيت المقدس، ثم بنى إبراهيم الكعبة بنصّ القرآن، وكذا قال القرطبيّ: إن الحديث لا يدلّ على أن إبراهيم وسليمان لَمّا بنيا المسجدين ابتدءا وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لِمَا كان أسسه غيرهما.

(1)

"زاد المعاد" 1/ 49.

ص: 8

قال الحافظ: وقد مَشَى ابن حبان في "صحيحه" على ظاهر هذا الحديث، فقال: في هذا الخبر ردٌّ على من زعم أن بين إسماعيل وداود ألف سنة، ولو كان كما قال: لكان بينهما أربعون سنةً، وهذا عين المحال؛ لطول الزمان بالاتفاق بين بناء إبراهيم عليه السلام البيت، وبين موسى عليه السلام، ثم إن في نصّ القرآن أن قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة.

وقد تعقب الحافظ الضياء بنحو ما أجاب به ابن الجوزيّ.

وقال الخطابيّ: يُشبه أن يكون المسجد الأقصى أوّلُ ما وَضَع بناءه بعض أولياء اللَّه قبل داود وسليمان، ثم داود وسليمان، فزادا فيه ووسعاه، فأضيف إليهما بناؤه، قال: وقد يُنسب هذا المسجد إلى إيلياء، فَيَحْتَمِل أن يكون هو بانيه أو غيره، ولست أُحَقِّق لِمَ أضيف إليه.

قال الحافظ: الاحتمال الذي ذكره أوّلًا مُوَجَّهٌ، وقد رأيت لغيره أن أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام، وقيل: الملائكة، وقيل: سام بن نوح عليه السلام، وقيل: يعقوب عليه السلام، فعلى الأولين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديدًا، كما وقع في الكعبة، وعلى الأخيرين يكون الواقع من إبراهيم أو يعقوب أصلًا وتأسيسًا، ومن داود تجديدًا لذلك، وابتداءَ بناء، فلم يَكْمُل على يده حتى أكمله سليمان عليه السلام.

لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزيّ أوجه.

قال: وقد وجدت ما يَشْهَد له، ويؤيد قولَ مَن قال: إن آدم هو الذي أسس كلًّا من المسجدين، فذكر ابن هشام في "كتاب التيجان" أن آدم لما بني الكعبة أمره اللَّه بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه، ونسك فيه، وبناء آدم للبيت مشهور.

وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: "لَمّا كان زمن الطوفان رُفِع البيتُ، وكان الأنبياءُ يحجّونه، ولا يعلمون مكانه، حتى بوّأه اللَّه لإبراهيم، وأعلمه مكانه".

وروى البيهقيّ في "الدلائل" من طريق أخرى عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "بَعَثَ اللَّه جبريل إلى آدم، فأمره ببناء البيت، فبناه آدم، ثم أمره بالطواف به، وقيل له: أنت أوّل الناس، وهذا أولُ بيت وُضع للناس".

ص: 9

وروى عبد الرزّاق، عن ابن جريج، عن عطاء:"أن آدم أول من بنى البيت"، وقيل: بنته الملائكة قبله، وعن وهب بن منبّه: أول من بناه شيث بن آدم، والأول أثبت.

ورَوَى ابن أبي حاتم، من طريق معمر، عن قتادة، قال: وضع اللَّه البيت مع آدم لَمّا هَبَطَ، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال اللَّه له: يا آدم إني قد أهبطت بيتًا يطاف به، كما يطاف حول عرشي، فانطَلِق إليه، فخرج آدم إلى مكة، وكان قد هبط بالهند، ومُدَّ له في خطوه، فأتى البيت، فطاف به، وقيل: إنه لما صلى إلى الكعبة أُمر بالتوجه إلى بيت المقدس، فاتخذ فيه مسجدًا، وصلى فيه؛ ليكون قبلةً لبعض ذريته.

وأما ظَنُّ الخطابيّ أن إيليا اسم رجل، ففيه نظر، بل هو اسم البلد، فأضيف إليه المسجد، كما يقال: مسجد المدينة، ومسجد مكة.

وقال أبو عبيد البكريّ في "معجم البلدان": إيليا مدينة بيت المقدس، فيه ثلاث لغات: مَدّ آخره، وقصره، وحذف الياء الأولى، قال الفرزدق [من الطويل]:

لَوَى ابْنُ أَبِي الرَّقْرَاقِ عَيْنَيْهِ بَعْدَ مَا

دَنَا مِنْ أَعَالِي إِيلِيَاءَ وَغَوَّرَا

وعلى ما قاله الخطابيّ يمكن الجمع بأن يقال: إنها سُمِّيت باسم بانيها كغيرها. انتهى

(1)

.

(وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ) أي في أيِّ مكان أدركك وقت الصلاة، فـ "أينما" اسم شرط جازم لفعلي الشرط والجزاء، وهما:"أدركتك"، و"فصلِّ"، وهو ظرف متعلّق بـ "أدركتك"، وكذا "حيثما" الآتي، وهما من أدوات الجزم التي ذكرها ابن مالك: في "الخلاصة" بقوله:

بِـ "لَا" وَلَامٍ طَالِبًا ضَعْ جَزْمَا

فِي الْفِعْلِ هَكَذَا بَـ "لَمْ" وَ"لَمَّا"

وَاجْزِمْ بِـ "إِنْ" وَ"مَنْ" وَ"مَا" وَ"مَهْمَا"

"أَيٍّ""مَتَى""أَيَّانَ""أَيْنَ""إِذْ مَا"

وَ"حَيْثُمَا""أَنَّى" وَحَرْفٌ "إِذْ مَا"

كَـ "إِنْ" وَبَاقِي الأَدَوَاتِ جَزْمَا

(فَصَلِّ) في ذلك المكان، ولا تأخّر الصلاة، وقوله:(فَهُوَ مَسْجِدٌ") الفاء

(1)

"الفتح" 6/ 463 و 470 - 471 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3366).

ص: 10

للتعليل؛ أي لأن ذلك المكان مسجد للصلاة، فلا ينبغي تأخيرها عنه، وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلوات في أول أوقاتها، ويتضمّن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات.

(وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ) فُضيل بن حسين الْجَحدريّ، شيخه الأول، فالجارّ والمجرور خبر مقدّم، لقوله:"ثمّ حيثما إلخ"؛ لقصد لفظه ("ثُمَّ حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّهْ) بالهاء الساكنة، وهي هاء السكت، كما قال في "الخلاصة":

وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ

بِحَذْفِ آخِرٍ كَـ "أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كَـ "ع" أَوْ

كَـ "يَعِ" مَجْزُومًا فَرَاعِ مَا رَعَوْا

وفي بعض النسخ: "فصلِّ" بلا هاء.

وفي رواية البخاريّ: "ثمّ أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلِّهْ".

قال في "الفتح": قوله: "فصَلِّهْ" بهاء ساكنة، وهي هاء السكت، وللكشميهني بحذفها، وقوله:"فإن الفضل فيه" أي في فعل الصلاة إذا حضر وقتها، زاد من وجه آخر، عن الأعمش في آخره:"والأرضُ لك مسجد"، أي للصلاة فيه، وفي "جامع سفيان بن عيينة"، عن الأعمش:"فإن الأرض كلَّها مسجدٌ"، أي صالحة للصلاة فيها، ويُخَصُّ هذا العموم بما ورد فيه النهي. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ") تعليل للأمر بالصلاة حيثما أدركته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1166، 1167](520)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3366 و 3425)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 32)،

(1)

"الفتح" 6/ 471.

ص: 11

و (ابن ماجه) فيها (753)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1578)، و (أبو داود الطيالسيّ) في"مسنده"(462)، و (الحميديّ) في"مسنده"(134)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 402)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 150 و 156 و 157 و 160 و 166 و 167)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1290)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1598)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(1/ 32)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1158 و 1159 و 1160 و 1161)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1149)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 433) وفي "دلائل النبوّة"(2/ 43)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه بيان أول مسجد بُني للعبادة في الأرض، وهو المسجد الحرام، ثم بُني بعده المسجد الأقصى، وهو أفضل المساجد على الإطلاق، ثم يليه الأقصى.

2 -

(ومنها): بيان المدّة التي بين بناء المسجدين، وهو أربعون عامًا، وهذا بالنسبة للوضع الأوّليّ، فلا ينافي ما ثبت من كون الخليل عليه السلام بنى الكعبة، وسليمان، أو أبوه عليه السلام بنى بيت المقدس؛ لأن هذا ثانويّ، ثم إنه لم يصحّ تحديد ما بين بناءيهما من المدّة.

3 -

(ومنها): بيان جواز الصلاة في جميع المواضع، إلا ما استثناه الشرع، من الصلاة في المقابر وغيرها، من المواضع التي فيها النجاسة، كالْمَزْبلة، والْمَجْزَرة، وكذا ما نُهِي عنه لمعنى آخر، فمن ذلك أعطان الإبل، وسيأتي بيانها قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- ومنه قارعة الطريق، والْحَمّام وغيرها؛ لحديث ورد فيها، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار النوويّ بقوله: "لحديث ورد فيها" إلى الحديث الذي أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، وعبد بن حُميد في "مسنده" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "نَهَى أن يصلى في سبعة مواطن: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمّام، وفي معاطن الإبل، وفوق

(1)

"شرح النووي" 5/ 2 - 3.

ص: 12

ظهر بيت اللَّه"، وهذا الحديث ضعيفٌ جدًّا؛ لأن في سنده زيدَ بنَ جَبِير متروك، فتنبّه.

4 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها، ويتضمن ذلك الندبَ إلى معرفة الأوقات.

5 -

(ومنها): أن فيه إشارةً أيضًا إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل، لا يترك المأمور به لفواته، بل يُفْعَل المأمور في المفضول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كأنه فَهِمَ عن أبي ذرّ رضي الله عنه من تخصيصه السؤال عن أوّل مسجد وُضِع أنه يريد تخصيص صلاته فيه، فَنَبَّهه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يَتَوَقَّف على المكان الأفضل.

6 -

(ومنها): بيان فضيلة الأمة المحمدية؛ لما ذُكِر أن الأمم السابقة كانوا لا يصلون إلا في مكان مخصوص، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، في حديثه الطويل، وفيه:"وجُعِلت لي الأرض مساجد وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان مَن قبلي يُعَظِّمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبِيَعِهِم. . . " الحديث.

7 -

(ومنها): حُسْن الزيادة على السؤال في الجواب، لا سيّما إذا كان للسائل في ذلك مزيدُ فائدة.

8 -

(ومنها): أن الحديث دليل فضيلة من فضائل الكعبة الشريفة، حيث كانت أول بيت وُضع لعبادة اللَّه تعالى، وقد خصّها اللَّه بخصائص كثيرة، فمنها هذا.

[ومنها]: كونها قبلة لأهل الأرض كلّهم، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها.

[ومنها]: أنه يحرُم استقبالها، واستدبارها عند قضاء الحاجة، دون سائر البقاع، وقد تقدّم تفصيل مذاهب العلماء في ذلك، مع ترجيح القول باستثناء ما كان في البيان في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد.

[ومنها]: أن اللَّه تعالى سمّاها أم القرى، فالقرى كلّها تبَعٌ لها، وفرعٌ عليها، وهي أصل القرى، فيجب أن لا يكون لها في القرى عَدِيلٌ، فهي كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن "الفاتحة" أنها أم القرآن، ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عَدِيل.

ص: 13

[ومنها]: أنه لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام، عند بعض أهل العلم، ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، والراجح أنه لا يجب ذلك إلا لمريد الحجّ أو العمرة، وسيأتي تمام البحث في ذلك في "كتاب الحجّ" -إن شاء اللَّه تعالى-.

[ومنها]: أنه يعاقب فيه على الهمّ بالسيئات، وإن لم يفعلها، قال تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: فتأمل كيف عَدَّى فعل الإرادة هنا بالباء، ولا يقال: أردت بكذا إلا لما ضُمِّن معنى فِعْلِ هَمّ، فإنه يقال: هممت بكذا، فتوعد مَن هَمَّ بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم. انتهى.

[ومنها]: تضاعف مقادير السيئات فيه، لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن السيئة كبيرةٌ، وجزاؤها مثلها، والصغيرة جزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم اللَّه وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طَرَف من أطراف الأرض، ولهذا ليس مَن عَصَى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات، قاله ابن القيّم رحمه الله.

[ومنها]: أنه قد ظهر معمر هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة، وهَوَى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل [من الوافر]:

مَحَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ

وَمَغْنَاطِيسُ أَفْئِدَةِ الرِّجَالِ

ولهذا أخبر اللَّه عز وجل أنه مثابة للناس، أي يثوبون إليه على تعاقب الأعوام، من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وَطَرًا، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقًا، كما قال [من البسيط]:

لَا يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُهَا

حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقَا

فللَّه كم لها من قتيل، وسَليب، وجريح، وكم أُنفق في حبها من الأموال، والأرواح، ورَضِي المحبّ بمفارقة فِلَذِ الأكباد

(1)

، والأهل، والأحباب، والأوطان، مقدِّمًا بين يديه أنواع المخاوف، والمتالف،

(1)

"الْفِلْذة، بكسر، فسكون: القطعة، وجمعها فِلَذ، كسِدْرة وسِدَرٍ. اهـ. "المصباح".

ص: 14

والمعاطف، والمشاقِّ، وهو يستلذّ ذلك كله، ويستطيبه، ويراه لو ظهر سلطان المحبة في قلبه أطيب من نِعَم المتحلية وتَرَفِهم ولذّاتهم، كما قال [من الطويل]:

وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُّ شَقَاءَهُ

عَذَابًا إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبيبُهُ

قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: وهذا كلُّه سر إضافته إليه عز وجل بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} الآية [الحج: 26]، فاقتضت هذه الإضافة الخاصّة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى نفسه ما اقتضته من ذلك، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كَسَتهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم، فكلُّ ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه، فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلًا آخر، وتخصيصًا وجلالةً زائدًا على ما كان له قبل الإضافة. انتهى المقصود من كلام ابن القيّم رحمه الله، فإن أردت الزيادة من الفائدة، فارجع إلى كتابه النافع "زاد المعاد" تر كلامًا يسرّ الفواد

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(المسألة الرابعة): في بيان فائدة مهمة، تتعلّق بإعراب أَسْماء الشرط والاستفهام:

(اعلم): أن أسماء الشرط والاستفهام إذا وقعت على زمان، أو مكان، فهي في محلّ نصب على الظرفيّة لفعل الشرط، إن كان تامًّا، نحو قوله [من الطويل]:

مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ

تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ

وقوله [من البسيط]:

أَيَّانَ نُؤْمِنْكَ تَأْمَنْ غَيْرَنَا وَإِذَا

لَمْ تُدْرِكِ الأَمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِرَا

وقوله [من الخفيف]:

حَيْثُمَا تَسْتَقِم يُقَدِّرْ لَكَ اللَّهُ

نَجَاحًا فِي غَابرِ الأَزْمَانِ

وظرفًا لخبره إن كان ناقصًا، كـ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} الآية [النساء: 78]، فـ "أينما" ظرف متعلّق بمحذوف خبر {تَكُونُوا} الذي هو فعل الشرط،

(1)

راجع: "زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم" 1/ 49 - 52 وما بعده.

ص: 15

و {يُدْرِكْكُمُ} جوابه، وإن وقعت على حَدَث، فمفعول مطلقٌ لفعل الشرط، كـ "أيَّ ضَرْبٍ تَضْرِبْ أَضْرِبْ"، أو على ذات، فإن كان فعل الشرط لازمًا، نحو "من يقم اضربه" فهي مبتدأ، وكذا إن كان متعدّيًا واقعًا على أجنبيّ منها، نحو {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وخبره إما جملة الشرط، أو الجواب، أو هما معًا، أقوال، فإن كان متعدّيًا، وسُلِّط على الأداة، فهي مفعوله، نحو {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، و"من يضرب زيدًا أضربه"، وإن سُلّط على ضميرها، أو على ملابسه، فاشتغال، نحو من يضربه، أو من يضرب أخا زيد أضربه، فيجوز في "من" كونها مفعولًا لمحذوف يُفسّره فعل الشرط، أو مبتدأ، وفي خبره ما مرّ.

وإنما كان العامل في الأداة هو فعل الشرط لا الجواب عكس "إذا"؛ لأن رتبة الجواب مع متعلّقاته التأخير عن الشرط، فلا يعمل في متقدّم عليه، ولأنه قد يقترن بالفاء، أو "إذا" الفجائيّة، وما بعدهما لا يعمل فيما قبلهما، واغتُفِرَ ذلك في "إذا"؛ لأنها مضافة لشرطها، فلا يصلح للعمل فيها، ذكر هذا التحقيق الخضريّ في "حاشيته"

(1)

.

وقد نظمت هذه القاعدة، فقلت:

يَا أَيُّهَا النِّحْرِيرُ يَا لَبِيبُ إِنْ

أَرَدْتَ إِعْرَابَ الشُّرُوطِ فَاسْتَبِنْ

إِنِ الأَدَاةُ وَقَعَتْ زَمَانًا أَوْ

مَكَانًا النَّصْبَ لَهَا ظَرْفًا رَأَوْا

لِفِعْلِ شَرْطِهَا إِذَا تَمَّ وَإِنْ

نَقَصَ بِالْخَبَرِ نَصْبَهَا أَبِنْ

وَإِنْ عَلَى الْجَدَثِ دَلَّتْ تُعْرَبُ

مَفْعُولَ مُطْلَقٍ لِشَرْطٍ يَصْحَبُ

وَإِنْ عَلَى ذَاتٍ تَقَعْ وَالشَّرْطُ قَدْ

لَزِمَ قُلْ مُبْتَدَأٌ أَوْ إِنْ وَرَدْ

لأَجْنَبِيٍّ قَدْ تَعَدَّى وَالْخَبَرْ

الشَّرْطُ أَوْ جَوَابُهُ أَوْ ذَانِ قَرْ

وَإِنْ عَلَى الأَدَاةِ قَدْ تَسَلَّطَا

تُعْرَبُ مَفْعُولًا لَهُ فَلْتَضْبِطَا

وَإِنْ عَلَى الضَّمِيرِ أَوْ مُلَابِسِهْ

فَبَابُ الاشْتِغَالِ جَاءَ يَكْتَسِهْ

وَهَكَذَا أَدَاةُ الاسْتِفْهَامِ

مِثْلُ أَدَاةِ الشَّرْطِ بِالتَّمَامِ

(1)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 186 "باب عوامل الجزم".

ص: 16

وإِنَّمَا أُعْمِلَ فِعْلُ الشَّرْطِ فِي

أَدَاتِهِ دُونَ الْجَوابِ فَاعْرِفِ

لِكَوْنِهِ مُؤَخَّرًا عَنْهُ فَلَا

يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ فَلْتَعْقِلَا

وَقَدْ يَجِي مُقْتَرِنًا بِالْفَاءِ أَوْ

"إِذَا" وَمَا يَلِي لِذَيْنِ قَدْ أَبَوْا

عَمَلَهُ فِيمَا مَضَى وَاغْتُفِرَا

ذَلِكَ فِي "إِذَا" لأَجْلِ مَا عَرَا

مِنَ الإِضَافَةِ لِشَرْطِهَا فَلَا

يَعْمَلُ فِيهَا عِنْدَ كُلِّ النُّبَلَا

فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّهْ

قَرَّبْتُهَا لِرَاغِبٍ ذِي هِمَّهْ

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وإنما طوّلت في بيان هذه القاعدة؛ لكونها تتكرّر في الأحاديث، كما ذكرت في هذا الحديث، فأحببت أن تتضح لطلّاب العلم في موضع واحد حتى يعملوا بمقتضاها كما جاءت في الأحاديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1167]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ

(1)

فِي السُّدَّةِ، فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى"، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ عَامًا، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

(1)

وفي نسخة: "أقرأ القرآن على أبي".

ص: 17

وقوله: (قَالَ: كُنْتُ أقرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ) وفي نسخة: "كنت أقرأ القرآن على أبي"، وفي رواية ابن خزيمة:"كنت أنا وأبي نجلس في الطريق، فيَعْرِض عليّ القرآن، وأَعْرِض عليه، فقرأ السجدة، فسجد، فقلت: تسجد في الطريق؟ قال: نعم، سمعت أبا ذرّ. . . "، فذكره.

وقوله: (فِي السُّدَّةِ) متعلّق بـ "أقرأ"، وهي بضم السين، وتشديد الدال المهملتين، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في "صحيح مسلم"، ووقع في كتاب النسائيّ:"في السِّكَّة"، وفي رواية غيره:"في بعض السِّكَك"، وهذا مطابق لقوله:"يا أبت أتسجد في الطريق؟ "، وهو مقارب لرواية مسلم؛ لأن السُّدّة واحدة السُّدَدِ، وهي المواضع التي تُطِلُّ حول المسجد، وليست منه، ومنه قيل لإسماعيل السُّدّيّ؛ لأنه كان يبيع في سُدَّة الجامع، وليس للسُّدَّة حكم المسجد، إذا كانت خارجة عنه.

وقوله: (فَإذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ) قال القاضي عياض رحمه الله: واختَلَفَ العلماء في المعلِّم والمتعلِّم إذا قرآ السجدة، فقيل: عليهما السجود لأول مرّة، وقيل: لا سجود. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تحقيق البحث في هذا في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقوله: (فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ) بكسر التاء، وهو الأكثر، وفتحها، قال في "الخلاصة":

وَفِي النِّدَا "أَبَتِ""أُمَّتِ" عَرَضْ

وَاكْسِرْ أَوِ افْتَحْ وَمِنَ الْيَا التَّا عِوَضْ

وحُكي ضمّها، وهو قليل، وقد ذكر النحاة في نداء الأبوين تسع لغات، وقيل: عشر، فإذا أردت بيان ذلك، فراجع شروح "الخلاصة"، وغيرها.

وقوله: (أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟) قال النوويّ رحمه الله: أما سجوده في السُّدَّة، وقوله:"أتسجد في الطريق"، فمحمول على سجوده على طاهر. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 3.

ص: 18

وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1168]

(521) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(هُشَيْم) بن بشير بن القاسم بن دينار السّلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(سَيَّار) بن أبي سيّار وَرْدان، أبو الحكم الْعَنَزيّ الواسطيّ، ويقال: البصريّ، ثقةٌ [6](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

4 -

(يَزِيدُ الْفَقِيرُ) هو: يزيد بن صُهيب، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 479.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنهم ما بين نيسابوريّ، وواسطيين، وكوفيّ، ومدنيّ.

4 -

(ومنها): أن يزيد لُقّب بالفقير؛ لأنه كان يَشكو فَقَار ظهره، وليس من الفقر ضدّ الغنى، قال في "المحكم": رجلٌ فقيرٌ: مكسور فَقَار الظهر، ويقال له: فُقَيِّرٌ بالتشديد أيضًا. انتهى.

ص: 19

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

[فائدة]: قال الحافظ رحمه الله: "سَيّار" -بمهملة، بعدها تحتانية مشدّدة، وآخره راء- هو أبو الْحَكَم الْعَنَزيّ الواسطيّ البصريّ، واسم أبيه وردان على الأشهر، ويكنى اْبا سيَّار، واتَّفقوا على توثيق سيّار، وأخرج له الأئمة الستة وغيرهم، وقد أدرك بعض الصحابة، لكن لم يَلْقَ أحدًا منهم، فهو من كبار أتباع التابعين، ولهم شيخ آخر يقال له:"سيّار"، لكنه تابعيّ شاميّ، أخرج له الترمذيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال: وإنما ذكرته؛ لأنه رَوَى معنى حديث الباب عن أبي أمامة، ولم يُنْسَب في الرواية، كما لم يُنْسَب سيار في حديث الباب، فربما ظنهما بعض من لا تمييز له واحدًا، فيظن أنّ في الإسناد اختلافًا، وليس كذلك. انتهى

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدّأ.

[فائدة أخرى]: قال الحافظ أيضًا: مدار حديث جابر رضي الله عنه هذا على هُشيم بهذا الإسناد، وله شواهد من حديث ابن عباس، وأبي موسى، وأبي ذرّ، ومن رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان. انتهى، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَيَّارٍ) سيأتي في الرواية التالية التصريح بالسماع في كلّ السند، حيث قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا هُشيم، أخبرنا سيّار، حدّثنا يزيد الفقير، أخبرنا جابر بن عبد اللَّه. . .، فاتّصل بالسماع من أوله إلى آخره، فزالت تهمة تدليس هُشيم، وكذا وقع في رواية البخاريّ نحو هذا، قال الحافظ ابن رجب في "شرح البخاريّ": هُشيم مدلّسٌ، وقد صرّح هنا بالسماع من سيّار، وصرّح سيّار بالسماع من يزيد، وصرّح يزيد بالسماع من جابر رضي الله عنه، فهذا الإسناد جليل متّصل. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 1/ 520.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 206.

ص: 20

(عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ) تقدّم سبب تلقيبه به آنفًا (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) كان ذلك في غزوة تبوك، وهي آخر غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم.

أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يَحْرُسونه، حتى إذا صَلَّى، وانصرف إليهم، فقال لهم:"لقد أُعطيت الليلة خمسًا، ما أعطيهنّ أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامّةً، وكان مَن قبلي إنما يُرْسَل إلى قومه، ونُصِرتُ على العدوّ بالرُّعْب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لَمُلئ منه رُعْبًا، وأُحِلّت لي الغنالْم، آكُلُها، وكان مَن قبلي يُعْظِمُون أكلها، كانوا يُحَرِّقونها، وجُعلت لي الأرض مساجد وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان مَن قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيَعِهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سَلْ، فإن كل نبي قد سأل، فاخَّرت مسَالتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ولمن شَهِدَ أن لا إله إلا اللَّه". انتهى.

قال الحافظ ابن رجب بعد ذكر هذا الحديث: قوله: "أُعطيت الليلة خمسًا" لم يُرد أنه لم يُعطها قبل تلك الليلة، فإن عامّتها كان موجودًا قبل ذلك، كنصره بالرعب، وتيمّمه بالتراب، فإن التيمّم شُرع قبل غزوة تبوك بغير إشكال، ولعلّه أراد أنه أُعلم بأن هذه الخمس خصال اختصّ بها عن سائر الأنبياء في تلك الليلة. انتهى

(1)

.

("أُعْطِيتُ) ببناء الفعل للمفعول (خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ) بالبناء للمفعول أيضًا (أحَدٌ قَبْلِي) زاد في رواية البخاريّ في "الصلاة": "من الأنبياء"، يعني أن اللَّه عز وجل أعطاه هذه الخصال، وخصّه بهنّ، ولم يُشاركه فيهنّ أحد من الأنبياء الذين قبله، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"لا أقولهنّ فخرًا"، يعني أنه إنما ذكر هذا اعترافًا بالنعمة، وأداءً لشكرها، وامتثالًا لأمره تعالى بقوله:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، لا افتخارًا، وتطاوُلًا على غيره من الخلق.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 207.

ص: 21

[فإن قيل]: مفهوم الحديث يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يَختَصّ بغير الخمس المذكورة فيه، وهذا يعارضه ما جاء في أحاديث كثيرة تدلّ على الزيادة على هذه الخمس، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي هنا بعد حديث حذيفة رضي الله عنه، بلفظ:"فُضِّلت على الأنبياء بست. . . "، فذكر أربعًا من هذه الخمس، وزاد اثنتين:"وأعطيت جوامع الكلم، وخُتم بي النبيّون".

ويُجاب بأن سياق الحديث لا يدلّ على الحصر، فلا ينافي ما دلّت عليه الأحاديث الأخرى من الخصوصيّات الزائدة على الخمس.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذه الخمس اختصّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء، وليس في الحديث أنه لم يختصّ بغيرها، فإن هذه اللفظة لا تقتضي الحصر، وقد دلّت النصوص الصحيحة الكثيرة على أنه صلى الله عليه وسلم خُصّ عن الأنبياء بخصال كثيرة غير هذه الخمس. انتهى.

وقال في "الفتح": وطريق الجمع أن يقال: لعله اطَّلَع أوّلًا على بعض ما اختَصّ به، ثم اطَّلع على الباقي، ومن لا يَرَى مفهوم العدد حجةً يَدفع هذا الإشكال من أصله. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله في حديث جابر صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خمسًا"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ستًّا"، وفي حديث حُذيفة:"ثلاثًا"، لا يظُنّ القاصد أن هذا تعارض، وإنما يَظُنّ هذا من توهّم أن ذكر الأعداد يدلّ على الحصر، وأنها لها دليلُ خطاب، وكلُّ ذلك باطلٌ، فإن القائل: عندي خمسة دنانير مثلًا لا يدلّ هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول تارةً أخرى: عندي عشرون، وتارة أخرى: عندي ثلاثون، فإن من عنده ثلاثون صدق عليه أن عنده عشرين، وعشرةً، فلا تناقض ولا تعارض.

ويجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أُعلم في وقت بالثلاث، وفي وقت بالخمس، وفي وقت بالستّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: ظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من

(1)

"المفهم" 2/ 115 - 116.

ص: 22

الخمس المذكورات، لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك، ولا يُعْتَرَض بأن نوحًا عليه السلام كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلًا إليهم؛ لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتَّفَق بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.

وأما قول أهل الموقِفِ لنوح عليه السلام كما صحّ في حديث الشفاعة: "أنت أول رسول إلى أهل الأرض"، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادًا فهو مخصوص بتنصيصه عز وجل في عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أُرسل إلى غيرهم.

واستَدَلَّ بعضهم لعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض، فأُههلكوا بالغَرَق، إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقد ثبت أنه أول الرسل.

وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح، وعَلِمَ نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه، ومن غيرهم فأجيب، وهذا جواب حَسَنٌ، لكن لم يُنقَل أنه نُبِّئ في زمن نوح غيره.

ويَحْتَمِل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يُبْعَث نبي في زمانه أو بعده، فينسخ بعض شريعته.

ويَحْتَمِل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتَمَادَوا على الشرك، فاستَحَقُّوا العقاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسير "سورة هود"، قال: وغير ممكن أن تكون نبوته لم تبلغ القريب والبعيد؛ لطول مدته، ووجّهه ابن دقيق العيد: بأن توحيد اللَّه تعالى يجوز أن يكون عامّا في حقّ بعض الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عامًّا؛ لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم لم يقاتلهم.

ويَحْتَمِل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح، فبعثته

ص: 23

خاصّة؛ لكونها إلى قومه فقط، وهي عامّة في الصورة؛ لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتَّفَق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن هذا الاحتمال الأخير أقرب الاحتمالات، وأظهرها؛ لموافقته لظاهر قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ولآيات أخرى نصَّت على أن بعث نوح عليه السلام كان لقومه خاصّة، كقوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]، وقوله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} [العنكبوت: 14] الآية، وقوله:{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)} [الشعراء: 160 - 161] وغير ذلك من الآيات، وما عدا ذلك من الاحتمالات، فالتكلّف فيه ظاهرٌ، فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وغَفَل الداوديّ الشارح غفلةً عظيمةً، فقال: قوله: "لم يُعْطَهُنّ أحدٌ" يعني لم تُجْمَع لأحد قبله؛ لأن نوحًا عليه السلام بُعِث إلى كافّة الناس، وأما الأربع فلم يُعْطَ أحدٌ واحدة منهنّ، وكأنه نظر في أول الحديث، وغَفَل عن آخره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نَصّ على خصوصيته بهذه أيضًا، لقوله:"وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة"، وفي رواية مسلم:"وكان كلُّ نبي. . . إلخ". انتهى

(1)

.

ثم فصّل تلك الخمسة التي أجملها في قوله: "أُعطيتُ خمسًا إلخ"، فأشار إلى الخصوصيّة الأولى بقوله:

(كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ) بالبناء للمفعول، يقال: بَعَثْتُ رسولًا بَعْثًا: أوصلته، وابتعثته كذلك، وفي المطاوع: فانبعث، مثلُ كَسَرْتُهُ فانكَسَر، وكلُّ شيء يَنبَعِث بنفسه، فإن الفعل يتعدى إليه بنفسه، فيقال: بعثته، وكلُّ شيء لا ينبعث بنفسه، كالكتاب، والهدية، فإن الفعل يتعدى إليه بالباء، فيقال: بَعَثْتُ به، وأَوْجَزَ الفارابيّ، فقال: بَعَثَهُ: أي أَهَبَّهُ، وبَعَثَ به: وَجَّهَهُ. انتهى

(2)

.

(إِلَى قوْمِهِ خَاصَّةً) قال الفيّوميّ رحمه الله: الخاصّة: خلاف العامّة، والهاء للتأكيد، وعن الكسائيّ: الخاصّ، والخاصّة واحدٌ. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 521.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 52.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 171.

ص: 24

قال السنديّ رحمه الله: وهذا يشمل نوحًا عليه السلام، فقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} الآية [نوح: 1]، وآدم عليه السلام، نعم قد اتّفق في وقت آدم أنه ما كان على وجه الأرض غير أولاده، فعمّت نبوّته لأهل الأرض اتّفاقًا، وكذا اتّفق مثله في نوح بعد الطوفان حيث لم يبق إلا من كان معه في السفينة، وهذا لا يؤدّي إلى العموم، وأما دعاء نوح عليه السلام على أهل الأرض كلّها، وإهلاكهم، فلا يَتَوقّف على عموم الدعوة، بل يكفي بلوغ الدعوة، وقد بلغت دعوته الكلّ؛ لطول مدّته، كيف، والإيمان بالنبيّ بعد بلوغ الدعوة، وثبوت النبوّة واجبٌ، سواء كان مبعوثًا إليهم أم لا، كإيماننا بالأنبياء السابقين، مع عدم بعثتهم إلينا، وفرقٌ بين المقامين. انتهى كلام السنديّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(وَبُعِثْتُ) بالبناء للمفعول أيضًا (إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ) أي إلى كافّة الناس، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية [سبأ: 28].

قال ابن الأثير رحمه الله: أراد العجم والعرب؛ لأن الغالب على ألوان العجم الحمرة والبياض، وعلى ألوان العرب الأُدْمة والسُّمْرة، وقيل: أراد الجنّ والإنس، وقيل: أراد بالأحمر الأبيض مطلقًا، فإن العرب تقول: امرأة حمراء: أي بيضاءُ.

وسُئل ثعلب: لم خَصَّ الأحمر دون الأبيض؟ فقال: لأن العرب تقول: رجلٌ أبيض، من بياض اللون، وإنما الأبيض عندهم الطاهر النَّقِيّ من العيوب، فإذا أرادوا الأبيض من اللون قالوا: الأحمر.

قال ابن الأثير: وفي هذا نظرٌ؛ فإنهم قد استعملوا الأبيض في ألوان الناس وغيرهم. انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله

(2)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "وأُرسلت إلى الخلق كافّة"، "وبُعثت إلى الناس عامّةً"، وفي رواية النسائيّ:"وبُعثت إلى الناس كافّةً".

وقال في "الفتح": قيل: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب،

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 211 - 212.

(2)

"النهاية" 1/ 437 - 438.

ص: 25

وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجنّ، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه مرسل إلى الجميع، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها رواية أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم:"وأرسلت إلى الخلق كافة". انتهى.

ثم أشار إلى الخصوصيّة الثانية بقوله:

(وَأحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ) فعلٌ ونائب فاعله، وفي رواية الكشميهني عند البخاريّ:"المغانم".

و"الغنائم": جمع غَنِيمة -بفتح، فكسر- يقال: غَنِمتُ الشيءَ أَغْنَمَهُ، من باب تَعِبَ، غُنْمًا بالضمّ: أصبته غَنِيمةً ومَغْنَمًا، قال أبو عُبيد: الغنيمة: ما نِيل من أهل الشرك عَنْوةً، والحرب قائمةٌ، والفَيْءُ: ما نِيلَ منهم بعدما تضع الحرب أوزارها. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": "الغنائم": جميعِ غَنِيمة، وهي مالٌ حَصَل من الكفار بإيجاف خيل وركاب، والمغانم جمع مَغْنم، وقال الجوهريّ: الغنيمة والمغنم بمعنى واحد. انتهى

(2)

.

(وَلَمْ تُحَلَّ) يَحْتَمل أن يكون بضمّ أوله، وفتح ثالثه، مبنيًّا للمفعول، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح أوله، وكسر ثالثه، مبنيًّا للفاعل، أي لم يُحلّها اللَّه تعالى (لِأَحَدٍ قَبْلِي) أي من الأنبياء وأممهم.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما إحلال الغنائم له ولأمته خاصّةً، فقد رُوي أن من كان قبلنا من الأنبياء كانوا يحرقون الغنائم، وفي حديث عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وأُحلّت لي الغنائم آكلُها، وكان من قبلي يُعظمون أكلها، كانوا يحرقونها".

وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة. . . " فذكر قصّته، وفيه: "فجمع الغنائم، فجاءت يعني النار لتأكلها، فلم تَطْعمها، فقال: إن فيكم غلولًا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلَزِقَت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول،

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 455.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 14.

ص: 26

فليبايعني قبيلتك، فلَزِقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأسٍ مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثم أَحَلّ اللَّه لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا".

وأخرج الترمذيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لم تحلّ الغنائم لأحد سُود الرءوس مِن قبلكم، كانت تنزل نار من السماء، فتأكلها"، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح

(1)

.

وقال الخطابيّ رحمه الله: كان مَن تقَدَّم على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانم، ومنهم من أُذن له فيه، لكن كانوا إذا غَنِمُوا شيئًا لم يَحِلّ لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته، وقيل: المراد أنه خُصَّ بالتصرف في الغنيمة، يَصْرِفها كيف يشاء، والأول أصوب، وهو أنّ مَن مضى لم تحل لهم الغنائم أصلًا، وسيأتي بسط ذلك في "كتاب الجهاد" -إن شاء اللَّه تعالى-.

ثم أشار إلى الخصوصيّة الثالثة بقوله:

(وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً) أي طاهرةً في نفسها (طَهُورًا) بفتح الطاء: أي مُطهِّرةً لغيرها، والمراد أن الأرض ما دامت على حالها الأصليّة، فهي كذلك، وإلا فقد تخرج بالنجاسة عن ذلك، وهذا معنى قوله:"طيّبةً" أي طاهرةً، فلو تنجّست لا تكون لها هذه الخصوصيّة، فتنبّه.

وهذا الحديث يؤيّد القول الراجح بأن التيمّم يجوز على وجه الأرض كلّها، ولا يختصّ بالتراب، ويؤيّد أن هذا العموم غير مخصوص قوله في حديث أبي أمامة عند البيهقيّ:"فأيّما رجل من أمتي أتى الصلاة، فلم يجد ماء وجد الأرض طَهُورًا، ومسجدًا"، وعند أحمد:"فعنده طَهُوره ومسجده".

قال السنديّ رحمه الله: قوله: "فأينما أدرك الرجل من أمتي الصلاة إلخ" ظاهر في العموم، ولا سيّما في بلاد الحجاز، فإن غالبها الجبال والحجارة، فكيف يصحّ، أو يناسب هذا العموم إذا قلنا: إن بلاد الحجاز لا يجوز التيمّم منها إلا في مواضع مخصوصة؟ فليُتأمل. انتهى.

(وَمَسْجِدًا) أي موضع سجود، لا يختصّ السجود منها بموضع دون غيره،

(1)

نقل من "فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 211 - 212 بتصرف وزيادة.

ص: 27

أو المراد محلّ صلاة، وهذا أولى؛ لأنه يؤيّده قوله:"فأيما رجل أدركته الصلاة صلّى"، وعبارة الفتح: ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبنيّ للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنه لَمّا جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد المبنيّ في ذلك.

وقال ابن التين: قيل: المراد جُعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، وجُعلت لغيري مسجدًا، ولم تُجعل له طَهورًا؛ لأن عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال، وسبقه إلى ذلك الدّاوُديّ، وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها في جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته، والأظهر ما قاله الخطابيّ، وهو أنّ مَن قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالْبِيَعِ والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ:"وكان مَن قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم"، وهذا نصّ في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما نحو حديث الباب، وفيه:"ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ مِحْرابه". انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد ذكر حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور ما نصّه: وقد تبيّن بهذا أن معنى اختصاصه عن الأنبياء بأن الأرض كلّها جُعلت مسجدًا له ولأمته أن صلاتهم لا تختصّ بمساجدهم المعدّة لصلاتهم، كما كان من قبلهم، بل يُصلّون حيث أدركتهم الصلاة من الأرض، وهذا لا يُنافي أن يُنهى عن الصلاة في مواضع مخصوصة من الأرض لمعنى يختصّ بها، كما نُهي عن الصلاة في أعطان الإبل، وفي المقبرة، والحَمّام. انتهى

(2)

.

(فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ)"أَيُّ" مبتدأ فيه معنى الشرط يجزم الفعلين، و"ما" زائدة لتأكيد العموم، و"رجلٍ" مضاف إليه "أيُّ"، و"أدركته الصلاة" وهو فعل الشرط في محلّ جزم، وهو العامل في الظرف، و"الصلاة" فاعل مؤخّر، وقوله:(صَلَّى) خبر المبتدأ، وقوله:(حَيثُ كَانَ) ظرف لـ "صلّى"، وهو لتأكيد

(1)

"الفتح" 1/ 521 - 522.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 208.

ص: 28

التعميم، والمراد صلّى بعد التيمّم، وقيل: معنى قوله: "صلّى": أي تيمّم، وصلّى؛ ليناسب الأمرين: المسجد والطَّهور، أفاده في "العمدة"

(1)

.

قال في "الفتح": قوله: "فأيّما رجلٍ إلخ" هذه صيغة عموم يدخل تحتها مَن لم يجد ماءً ولا ترابًا، ووجد شيئًا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به، ولا يقال: هو خاص بالصلاة؛ لأنا نقول: لفظ حديث جابر رضي الله عنه مختصر، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقيّ:"فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة، فلم يجد ماءً، وجد الأرض طَهُورًا ومسجدًا"، وعند أحمد:"فعنده طَهُوره ومسجده"، وفي رواية عمرو بن شعيب:"فأينما أدركتني الصلاة تَمَسَّحتُ وصليتُ".

واحتجَّ مَن خَصّ التيمم بالتراب بحديث حذيفة رضي الله عنه عند المصنف بلفظ: "وجُعِلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طَهُورًا، إذا لم نجد الماء"، وهذا خاصّ، فينبغي أن يُحْمَل العام عليه، فتختص الطهورية بالتراب، ودل الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجدًا دون الآخر على افتراق الحكم، وإلا لعُطِف أحدهما على الآخر نَسَقًا، كما في حديث الباب.

ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ "التربة" على خصوصية التيمم بالتراب، بأن قال: تُربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره.

وأجيب: بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث عليّ رضي الله عنه:"وجُعل التراب لي طهورًا" أخرجه أحمد، والبيهقيّ باسناد حسن.

ويُقّوِّي القول بأنه خاص بالتراب أن الحديث سيق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو كان جائزًا بغير التراب لما اقتَصَر عليه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي مال إليه صاحب "الفتح" من تأييد القول بتخصيص التيمّم بالتراب فقط، كما هو مذهب الشافعي، وطائفة، قد سبق لنا في "التيمّم" ترجيح خلافه، وأن الحقّ جواز التيمّم بجميع ما كان من جنس الأرض، ترابًا كان أو غيره؛ عملًا بظواهر النصوص المطلقة، وأما رواية

(1)

"عمدة القاري" 4/ 14.

(2)

"الفتح" 1/ 522.

ص: 29

"تربتها"، أو "ترابها" فليس مما يخصّ به العامّ، بل هو من باب ذكر بعض الأفراد؛ تشريفًا، واللَّه تعالى أعلم.

ثم أشار إلى الخصوصيّة الرابعة بقوله:

(وَنُصِرْتُ) بالبناء للمفعول (بِالرُّعْبِ) زاد أبو أمامة: "يُقْذَف في قلوب أعدائي"، أخرجه أحمد.

و"الرُّعْب": -بضم الراء، وسكون العين المهملة-: الخوف، وقرأ ابن عامر، والكسائيّ، بضم العين، والباقون بسكونها

(1)

.

قال الفيّوميّ رحمه الله: رَعَبْتُ رَعْبًا، من باب نَفَعَ: خِفْتُ، ويتعدّى بنفسه، وبالهمزة أيضًا، فيقال: رَعَبته، وأرعبته، والاسم الرُّعْبُ بالضمّ، وتُضمّ العين للإتباع. انتهى

(2)

.

وقال ابن رجب رحمه الله: الرعب: هو الرعب الذي يقذفه اللَّه تعالى في قلوب أعدائه المشركين، كما قال تعالى:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} الآية [آل عمران: 151]، وقال في قصّة بدر:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} الآية [الأنفال: 12] انتهى

(3)

.

وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "نصِرت بالرعب": أي بقذفه من اللَّه في قلوب الأعداء بلا أسباب ظاهرية، وآلات عادية له، بل بضدّها، فإنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يَرْبِط الحجر ببطنه من الجوع، ولا يوقد النار في بيوته، ومع هذا الحال كان الكَفَرة، مع ما عندهم من المتاع والآلات والأسباب، في خوف شديد من بأسه صلى الله عليه وسلم، فلا يُشْكِل بأن الناس يخافون من بعض الجبابرة مسيرة شهر وأكثر، فكانت بلقيس تخاف من سليمان عليه الصلاة والسلام مسيرة شهر، وهذا ظاهر، وقد بقي آثار هذه الخاصّة في خلفاء أمته ما داموا على حاله، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(4)

.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 5.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 230.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 206 - 207.

(4)

"حاشية السنديّ على النسائيّ" 1/ 210 - 211.

ص: 30

(بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "نُصِرتُ"، قال في "الفتح": مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرُّعْب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب:"ونُصِرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر"، فالظاهر اختصاصه به مطلقًا، وإنما جَعَل الغاية شهرًا؛ لأنه لم لِكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال. انتهى

(1)

.

ثم أشار إلى الخصوصيّة الخامسة بقوله:

(وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ") أي أعطاني اللَّه تعالى الشفاعة العُظمى في هول الموقف.

و"الشفاعة": هي سؤال فعل الخير، وترك الضرر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضَّرَاعة، وذكر الأزهريّ في "تهذيبه" عن المبرد وثعلب: أن الشفاعة الدعاء، والشفاعة كلام الشفيع للملك عند حاجة يسألها لغيره، وعن أبي الهيثم أنه قال:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] أي من يزدد عملًا إلى عمل، وفي "الجامع": الشفاعةُ: الطلبُ من فعل الشفيع، وشَفَعتُ لفلان: إذا كان متوسلًا بك، فشفعت له، وأنت شافع له، وشفيع. انتهى

(2)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: الأقرب أن اللام في "الشفاعة" للعهد، والمراد الشفاعة العُظْمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وكذا جزم النوويّ وغيره.

وقيل: الشفاعة التي اختُصّ بها أنه لا يُرَدّ فيما يَسْأَلُ، وقيل: الشفاعة لخروج مَن في قلبه مثقال ذرّة من إيمان؛ لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك، قاله عياض.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر لي أن هذه مرادةٌ مع الأولى؛ لأنه يتبعها بها، وقال البيهقيّ في "البعث": يَحْتَمِل أن الشفاعة التي يَخْتَص بها أنه يشفع

(1)

"الفتح" 1/ 521.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 15.

ص: 31

لأهل الصغائر والكبائر، وغيره إنما يَشفع لأهل الصغائر دون الكبائر، ونَقَل عياض أن الشفاعة الحصة به شفاعة لا تُرَدّ.

وقد وقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "وأُعطيت الشفاعة، فأخّرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك باللَّه شيئًا".

وفي حديث عمرو بن شعيب: "فهي لكم، ولمن شَهِد أن لا إله إلا اللَّه"، فالظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث إخراج مَن ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مختصّ أيضًا بالشفاعة الأولى، لكن جاء التنويه بذكر هذه؛ لأنها غاية المطلوب من تلك؛ لاقتضائها الراحة المستمرة، واللَّه أعلم.

وقد ثبتت هذه الشفاعة في رواية الحسن، عن أنس رضي الله عنه عند البخاريّ في "كتاب التوحيد":"ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا اللَّه، فيقول: وعزتي وجلالي، لأُخْرِجنّ منها مَن قال: لا إله إلا اللَّه".

ولا يَعْكُر على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: "وعزتي": "فيقول: ليس ذلك لك، وعزتي. . . إلخ"؛ لأن المراد أنه لا يباشر الإخراج، كما في المرات الماضية، بل كانت شفاعته سببًا في ذلك في الجملة. انتهى ما في "الفتح"، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا في "المساجد"[1168 و 1169](521)، و (البخاريّ) في "التيمّم"(335) و"الصلاة"(438) و"الجهاد"(3122)، و (النسائيّ) في "الغسل"(1/ 209 و 211)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 432)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 304)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 322 - 333)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1173)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1150 و 1151)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6398)، و (البيهقيّ) في

ص: 32

"الكبرى"(1/ 212 و 2/ 329 و 433 و 6/ 291 و 9/ 4) وفي "دلائل النبوّة"(5/ 472 - 473)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3616)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة تعداد نعم اللَّه تعالى؛ تحدّثًا بها، وإظهارًا لها، لا فخرًا وخيلاء؛ امتثالًا لقوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11].

2 -

(ومنها): استحباب إلقاء العالم العلم من غير أن يُسأل، ولا سيّما إذا كان للناس به حاجة.

3 -

(ومنها): ما استدلّ به صاحب "المبسوط" من الحنفيّة على إظهار كرامة الآدميّ، وقال: لأن الآدميّ خُلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كلًّا منهما طَهُور، ففي ذلك بيان كرامته

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان أن الأصل في الأرض الطهارة، وأنها كلها مسجد للصلاة فيها، فلا تختصّ بالمسجد المبنيّ لها، وأما حديث:"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، فضعيف، أخرجه الدارقطنيّ من حديث جابر رضي الله عنه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث، وإن كان هو ضعيفًا، إلا أنه يُغني عنه ما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من سمع النداء، فلم يأته، فلا صلاة له إلا من عذر"

(2)

.

ويؤيّد هذا ما أخرجه المصنّف

(3)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول اللَّه، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُرَخِّص له، فيصلي في بيته، فرَخّص له، فلما وَلَّى دعاه، فقال:"هل تسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم، قال:"فأجب".

5 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الطَّهُور هو المطَهِّر لغيره؛ لأن الطَّهور لو كان المراد به الطاهر، لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها، قال: وقد رَوَى ابن المنذر وابن الجارود، بإسناد صحيح عن

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 524.

(2)

حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه في "سننه" برقم (793).

(3)

سيأتي للمصنّف برقم (653).

ص: 33

أنس منه مرفوعًا: "جعلت لي كلُّ أرض طيبة مسجدًا، وطهورًا"، ومعنى "طيبة" طاهرة، فلو كان معنى طهورًا طاهرًا للزم تحصيل الحاصل.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن التيمم يرفع الحدث كالماء، لاشتراكهما في هذا الوصف، قال في "الفتح": وفيه نظرٌ. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ليس فيه نظرٌ معتبَرٌ، بل الحقّ كونه رافعًا كالماء، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفًى في "أبواب التيمّم"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

7 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "طهورًا" هذه البنية من أبنية المبالغة، كقتول، وضروب، وكذلك قال في الماء، فقد سوَّى بين الأرض والماء في ذلك، ويلزم منه أن التيمّم يرفع الحدث، وهو أحد القولين عن مالك، وليس بالمشهور. انتهى.

8 -

(ومنها): أنه استُدِلَّ به على أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أَكَّد ذلك في رواية أبي أمامة بقوله:"وجُعِلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدًا وطهورًا".

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وجُعِلت لي الأرضُ طيبةً طهورًا ومسجدًا"، وفي الرواية الأخرى:"وجُعلت تربتها لنا طهورًا"، احتج بالرواية الأولى مالك، وأبو حنيفة -رحمهما اللَّه تعالى- وغيرهما ممن يُجَوِّز التيمم بجميع أجزاء الأرض، واحتج بالثانية الشافعيّ، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى- وغيرهما ممن لا يُجَوِّز إلا بالتراب خاصّةً، وحَمَلوا ذلك المطلق على هذا المقيد. انتهى

(1)

.

وردّ هذا بعض المحقّقين فقال: وقد ظنّ بعضهم أن هذا من باب المطلق والمقيّد، وهو غلطٌ، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، وهو لا يقتضي التخصيص عند الجمهور، خلافًا لما حُكِي عن أبي ثور، إلا أن يكون له مفهوم، فينبني على تخصيص العموم بالمفهوم، والتراب والتُّربة لقب، واللقب مختَلَف في ثبوت المفهوم له، والأكثرون يأبَوْن ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النووي" 5/ 3 - 4.

(2)

راجع: "فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 210.

ص: 34

وقال القرطبيّ رحمه الله: الحديث حجة لمالك، في التيمّم بجميع أجزاء الأرض، فإن اسم الأرض يشملها، وكما أباح الصلاة على جميع أجزاء الأرض كذلك يجوز التيمّم على جميع أجزائها؛ لأن الأرض في هذا الحديث بالنسبة إلى الصلاة والتيمّم واحدةٌ، فكما تجوز الصلاة على جميع أجزائها كذلك يجوز التيمّم على جميع أجزائها.

قال: ولا يُظنّ أن قوله في حديث حذيفة رضي الله عنه: "وجُعلت تربتها لنا طَهُورًا" مخصّص له، فإن ذلك ذُهول من قائله، فإن التخصيص إخراج ما تناوله العموم عن الحكم، ولم يُخرج هذا الخبر شيئًا، وإنما عَيَّنَ واحدًا مما تناوله الاسم الأول مع موافقته في الحكم، وصار بمثابة قوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]، وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} الآية [البقرة: 98]، فعَيَّن بعض ما تناوله اللفظ الأول مع الموافقة في المعنى على جهة التشريف، وكذلك ذكر التراب في حديث حذيفة، وإنما عيّنه؛ لكونه أمكن وأغلب، فإن قيل: عيّنه ليبيّن أنه لا يجوز التيمّم بغيره، قلنا: لا نسلّم ذلك، بل هو أول المسألة، ولئن سلّمنا أنه يَحْتَمل ذلك، فيحتمِل أيضًا ما ذكرناه، وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر، فليُلحَق اللفظ بالمجملات، فلا يكون لكم فيه حجةٌ، ويبقى مالك متمسّكًا باسم الصعيد، واسم الأرض، وأيضًا فإنه نقول بموجبه، فإن تراب كلّ شيء بحسبه، فيقال: تراب الزرنيخ، وتراب السباخ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

9 -

(ومنها): ما خصّه اللَّه عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم من الشفاعة، وأنها مقبولة لا محالة، كما وعده اللَّه تعالى:"قل تُسمَعْ، واشفع تُشَفَّع".

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما الشفاعة التي اختُصّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء، فليست الشفاعة في خروج العصاة من النار، فإن هذه الشفاعة يُشارك فيها الأنبياء والمؤمنون أيضًا، كما تواترت بذلك النصوص، وإنما الشفاعة التي يختصّ بها دون الأنبياء أربعة أنواع:

إحداها: شفاعته للخلق في فصل القضاء.

(1)

"المفهم" 2/ 116 - 117.

ص: 35

والثانية: شفاعته لأهل الجنّة في دخول الجنّة.

والثالث: شفاعته في أهل الكبائر من أهل النار، فقد قيل: إن هذه يختصّ بها هو.

والرابعة: كثرة من يشفع له من أمته، فإنه وفّر شفاعته، وادّخرها إلى يوم القيامة، وقد ورد التصريح بأن هذه الشفاعة هي المرادة في هذا الحديث، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي. . . الحديث، وفيه: فقال: "لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهنّ أحد قبلي"، إلى أن قال:"والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم، ولمن شَهِد أن لا إله إلا اللَّه".

وأخرج أيضًا: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي. . . "، فذكر الحديث، وفي آخره:"وأعطيت الشفاعةَ، فأخّرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك باللَّه شيئًا".

وأخرج أيضًا عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا. . . " فذكره، وفي آخره:"وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعةً، وإني أخبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك باللَّه شيئًا".

وأخرج من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يكن نبي إلا له دعوة تنجزها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي. . . " الحديث.

وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة، يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة".

وأخرجا عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ نبي سأل سؤالًا، أو قال: لكل نبي دعوة قد دعا بها، فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

ص: 36

وأخرج مسلم عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

قال ابن رجب رحمه الله: والمراد من هذه الأحاديث -واللَّه أعلم- أن كلّ نبيّ أُعطي دعوة عامّة شاملة لأمته، فمنهم من دعا على أمته المكذّبين له، فهلكوا، ومنهم سأل كثرتهم في الدنيا، كما سأله سليمان عليه السلام، واختصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن ادّخر تلك الدعوة العامّة الشاملة لأمته شفاعةً لهم يوم القيامة.

وقد ذكر بعضهم شفاعة خامسة خاصّة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته في تخفيف عذاب بعض المشركين، كما شفع لعمه أبي طالب، وجعل هذا من الشفاعة المختصّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وزاد بعضهم شفاعةً سادسةً خاصّةً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته في سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله بتصرّف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قد تقدّم أن ذكر الخمس ليس للحصر، بل أخبر صلى الله عليه وسلم به على حسب ما أطلعه اللَّه عليه، وإلا فقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"فُضِّلت على الأنبياء بستّ. . . " فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر رضي الله عنه، إلا الشفاعة، وزاد خَصْلتين، وهما:"وأعطيت جوامع الكلم، وخُتم بي النبيون"، فتحصّل منه، ومن حديث جابر سبع خصال.

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه الآتي بعد هذا: "فُضّلنا على الناس بثلاث خصال: جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة. . . " وذكر خصلة الأرض، كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى، وهذه الخصلة المبهمة بيّنها ابن خزيمة، والنسائيّ، وهي:"وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش"، يشير إلى ما حطه اللَّه عن أمته من الإصر، وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعًا.

ولأحمد من حديث عليّ رضي الله عنه: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد من أنبياء اللَّه: أعطيت مفاتيح الأرض، وسُمِّيت أحمد، وجُعلت أمتي خير الأمم"، وذكر خصلة التراب، فصارت الخصال اثنتي عشرة خصلةً.

وعند البزار من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "فُضِّلت على

ص: 37

الأنبياء بستّ: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجُعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وأن صاحبكم لَصَاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه"، وذكر اثنتين مما تقدم.

وله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "فُضّلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا، فأعانني اللَّه عليه فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى.

قال الحافظ رحمه الله: فينتظم بهذا سبع عشرة خصلةً، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع، وقد تقدم طريق الجمع بين هذه الروايات، وأنه لا تعارض فيها.

وقد ذكر أبو سعيد النيسابوريّ في "كتاب شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم" أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلةً. انتهى كلام الحافظ

(1)

.

قال السيوطيّ رحمه الله في "شرح النسائيّ"(1/ 210) بعد ذكر كلام الحافظ هذا ما نصّه:

قلت: وقد دعاني ذلك لَمّا ألّفت التعليق الذي على البخاريّ في سنة بضع وسبعين وثمانمائة إلى تتبعها، فوجدت في ذلك شيئًا كثيرًا في الأحاديث والآثار، وكتب التفسير، وشروح الحديث والفقه والأصول والتصوف، فأفردتها في مؤلف سَمَّيته "أُنموذج اللبيب في خصائص الحبيب"، وقسمتها قسمين: ما خُصّ به عن الأنبياء، وما خص به عن الأمة، وزادت عِدّة القسمين على ألف خِصِّيصة، وسار المؤلَّف المذكور إلى أقاصي المغارب والمشارق، واستفاده كل عالم وفاضل، وسَرَق منه كل مُدَّعٍ وسارق. انتهى.

وقد عَقَد الحافظ أبو الفضل العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة" المسمّاة "نظم الدرر البهيّة في سيرة خير البريّة" بابًا في ذكر القسمين، فقال:

"باب في ذكر خصائصه صلى الله عليه وسلم":

خُصَّ النَّبيُّ بِوُجُوب عدَّةِ

الوتْرِ والسّوَاكِ وَالأضْحيَّةِ

كَذَا الضُّحَى لَوْ صَحَّ

(2)

وَالمُصَابَرَةْ

عَلَى العَدُوِّ وَكَذَا المُشَاوَرَهْ

(1)

"الفتح" 1/ 523 - 524.

(2)

أي لو صحّ الحديث، ولكنه لم يصحّ، كما قال البلقينيّ رحمه الله.

ص: 38

وَالشَّافعِيْ عَن الوُجُوب صَرَفَهْ

حَكَاهُ عَنْهُ البَيْهَقيْ في المَعْرفَهْ

كَذَا التَّهَجُّدُ وَلَكنْ خُفِّفَا

نَسْخًا وَقيلَ الوتْرُ ذَا وَضُعِّفَا

كَذَا قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ وَلَمْ

يَتْرُكْ وَفًا وَقيلَ: بَلْ هَذَا كَرَمْ

كَذَاكَ تَخْييرُ النِّسَاء اللاتِي

مَعْهُ وَأمَّا في المُحَرَّمَاتِ

ممَّا أبيحَ لسوَاهُ حُرِّمَا

عَلَيْه فَهْوَ مَدُّ عَيْنَيْه لِمَا

قَد مُتِّعَ النَّاسُ به منْ زَهْرَةِ

دُنْيَاهُمُ كَذَاكَ مِنْ خَائنَةِ

الأَعْيُنِ اعْدُدْهُ وَنَزْعُهُ لِمَا

لَبِسَ منْ لأمَةِ حَرْبٍ حُرِّمَا

حَتَّى يُلاقيَ العِدَا فَيَنْزِعَا

صَدَقَةً فَامْنَعْ وَلَوْ تَطَوُّعَا

والشِّعْرَ وَالخَطَّ وَقيلَ: يُمْنَعُ

ثُوْمٌ وَنَحْوُهُ وَأكْلٌ يَقَعُ

مَعَ اتِّكَاءٍ والنِّكَاحُ للأمَهْ

مَعَ الكتَابيَّة غَيْرِ المُسْلمَهْ

كَذَاكَ إمْسَاكُ التي قَدْ كَرهَتْ

نكَاحَهُ وَالخُلْفُ في هَذَا ثَبَتْ

وَقَدْ أبَاحَ رَبّهُ الوصَالا

لَهُ وَفي سَاعَةٍ القتَالا

بِمَكَّةٍ كَذَا بِلا إحْرَامِ

دُخُولُهَا وَلَيْسَ بالمَنَامِ

مُضْطجعًا نَقْضُ وُضُوئِهِ حَصَلْ

كَذَا اصْطفَاءُ مَا لَهُ اللَّهُ أحَلّ

مِنْ قَبْلِ قِسْمَةٍ كَذَاكَ يَقْضِي

لِنَفْسِهِ وَوُلْدِهِ فَيَمْضِي

كَذَا الشَّهَادَةُ كَذَاكَ يَقْبَلُ

مَنْ شَهِدُوا لَهُ كَذَاكَ يَفْصِلُ

في حُكْمهِ بعلْمهِ لِلْعصْمَةِ

وَاخْتَلَفُوا في غَيْره للرِّيبَة

كَذَا لَهُ أنْ يَحْميَ المَوَاتَا

لنَفْسِهِ وَيَأخُذَ الأقْوَاتَا

وَغَيْرَهَا منَ الطَّعَامِ مَهْمَا

احْتَاجَ وَالبَذْلَ فَأوْجبْ حَتْمَا

مِنْ مَالِكٍ وَإنْ يَكُنْ مُحْتَاجَا

لَكنَّهُ لِفِعْل هَذَا مَا جَا

وَالخُلْفُ فِي النَّقْضِ بلَمْسِ المَرْأةِ

وَالمُكْثُ فِي المَسْجِدِ مَعْ جَنَابَةِ

وَجَائِز نكَاحُهُ لتسْعَةِ

وَفَوْقَهَا وَعَقْدُهُ بالهبَةِ

فَإنْ فَلا بِالعَقْدِ حَتْمُ مَهْرِهِ

وَلا الدُّخُولِ بخلاف غَيْرِهِ

كَذَا بِلا وَليٍّ أَوْ شُهُودٍ أَوْ

فِي حَالِ إحْرَامٍ بِخُلْفٍ قَدْ حَكَوْا

وَمَنْ يَرُمْ نكَاحَهَا لَزِمَهَا

إجَابَةٌ وَحَرُمَتْ خِطْبَتُهَا

ص: 39

وَمَنْ لَهْا زَوْجٌ فَحَقًّا وَجَبَا

طَلاقُهَا كَما جَرَى لِزَيْنَبَا

(1)

وَفي وُجُوب قَسْمِهِ بَيْنَ الإِمَا

وَبَيْنَ زَوْجَاتٍ لَهُ خُلْفٌ نَمَا

زَوْجَاتُهُ كُلٌّ مُحَرَّمَاتُ

هُنَّ لِذِي الإيمَانِ أمَّهَاتُ

نكَاحُهُنَّ مَعْ عُقُوقِهنَّهْ

مَعَ الوُجُوبِ لاحْترامِهِنَّهْ

لا نَظَرٌ وَخَلْوَةٌ بِهِنَّهْ

ولا بتحريم بناتهنه

(2)

مَنْ دَخَلَتْ عَلَيْه أوْ قَدْ فُورقَتْ

أوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ تَكُونُ سَبَقَتْ

وَهُنَّ أفْضَلُ نسَاءِ الأمَّةِ

ضُعّفْنَ فِي الأجْرِ وَفي العُقُوبَةِ

أفْضَلُهُنَّ مُطْلَقًا خَدِيجَةُ

وَبَعْدَهَا عَائِشَةُ الصِّدّيقَةُ

وَأنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبيَاءِ

خَيْرُ الخَلائِقِ بلا امْترَاءِ

أمَّتُهُ فِي النَّاسِ أفْضَلُ الأمَمْ

مَعْصُومَةٌ منَ الضَّلالِ بِعِصَمْ

أَصْحَابُهُ خَيْرُ القُرُونِ فِي المَلا

كتَابُهُ المحْفُوظُ أنْ يُبَدَّلا

شِرْعَتُهُ قَدْ أبِّدَتْ وَنَسَخَتْ

كُلَّ الشَّرَائع الَّتِي قَبْلُ خَلَتْ

وَالأرْضُ مَسْجِدٌ لَهُ طَهُورُ

وَالرُّعْبُ شَهْرًا نَصْرُهُ يَسِيرُ

سَيِّدُ أوْلادِ أَبِينَا آدَمَا

قَدْ حَلَّلَ اللَّهُ لَهُ الغَنَائِمَا

أُرْسِلَ للنَّاسِ جَميعًا أُعْطِيَا

مَقَامَهُ المَحْمُودَ حَتَّى رَضِيَا

وَخُصَّ بِالشَّفَاعَةِ العُظْمَى الَّتِي

يُحْجِمُ عَنْهَا كُلُّ مَنْ لَهَا أُتِي

أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ

وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ بَلْ غَمْضُ

أوَّلُ مَنْ يَقُومُ لِلشَّفَاعَةِ

أوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الجَنَّةِ

أكْثَرُ الأَنْبيَاءِ حَقًّا تَبَعَا

يَرَى مَنْ خَلْفَهُ كَقُدَّامٍ مَعَا

(1)

قد أنكر السبكيّ رحمه الله هذا، وقال: هو من منكر القول، ولم يكن صلى الله عليه وسلم تعجبه امرأة من الناس، وقصّة زينب إنما جعلها اللَّه تعالى كما في "سورة الأحزاب" قطعًا لقول الناس: إن زيدًا ابن محمد صلى الله عليه وسلم، وإبطالًا للتبنّي، قال: ولا لجملة هذا من منكرات كلامهم في الخصائص، وقد بالغوا في هذا الباب في مواضع اقتَحَموا فيها عظائم، لقد كانوا في غنية عنها. انتهى كلام السبكيّ رحمه الله منقولًا من هامش شرح الألفيّة المذكورة (ص 139)، ولقد أجاد السبكيّ رحمه الله في إنكاره هذا، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

الهاء في المواضع الأربعة للسكت.

ص: 40

آتاهُ رَبُّهُ جَوَامِعَ الكَلِمْ

قَرينُهُ أيسْلَمَ فَهْوَ قَدْ سَلِمْ

صُفُوفُهُ وَالأمَّةِ المُبَارَكَهْ

كَصَفِّ عنْدَ رَبِّهَا المَلائكَهْ

وَلا يَحلُّ الرَّفْعُ فَوْقَ صَوْتِهِ

وَلا يُنَادَى باسْمِهِ بَلْ نَعْتِهِ

خُوطِبَ فِي الصَّلاةِ بالسَّلامِ

عَلَيْكَ دُونَ سَائِرِ الأنَامِ

وَمَنْ دَعَاهُ فِي الصَّلاة وَجَبَتْ

إِجَابَةٌ لَهُ وَفَرْضُهُ ثَبَتْ

وَبَوْلُهُ وَدَمُهُ إذْ أُتِيَا

تَبَرُّكًا مِنْ شَارِبٍ مَا نُهِيَا

يَقْبَلُ مَا يُهْدَى لَهُ فَحِلُّ

دُونَ الوُلاةِ فَهْوَ لا يَحِلُّ

فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ

صَلَّاهُمَا وَدَامَ بَعْدَ العَصْرِ

وَمَا لَنَا دَوَامُ ذَا بَلْ يَمْتَنِعْ

وَمَا سِوَى سَبَبِهِ فَمُنْقَطِعْ

وَنَسَب يَوْمَ القيَامَة وَمَنْ

رَآه نَوْمًا فَهْوَ قَدْ رَآه لَنْ

يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ مِنْ تَمَثُّلِ

بِصُورَةِ النَّبيِّ أوْ تَخَيُّلِ

وَكَذبٌ عَلَيْه لَيْسَ كَكَذِبْ

عَلَى سِوَاهُ فَهْوَ أكْبَرُ الكَذِبْ

انتهى كلام الحافظ العراقيّ رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1169]

(. . .) - (حَدَثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ، أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، فَذَكرَ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

كلّهم تقدّموا في السند الماضي، إلا شيخه، فتقدّم في أول الباب، وإنما أعاد السند هذا لبيان الاتّصال بالتحديث والإخبار، فقد صرّحوا بذلك، فزال بذلك تهمة التدليس عن هُشيم، وقد مرّ بيان هذا في الحديث الماضي.

وقوله: (فَذَكرَ نَحْوَهُ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير أبي بكر بن أبي شيبة، يعني أنه ذكر نحو حديث يحيى بن يحيى شيخه الماضي.

(1)

منقولًا من "الألفيّة" المذكورة (ص 133 - 150) بنسخة الشرح.

ص: 41

[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة هذه ساقها هو في "مصنّفه"(6/ 303) فقال:

(31642)

حدّثنا هشيم، أخبرنا سيّار، أخبرنا يزيد الفقير، أخبرنا جابر بن عبد اللَّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أُعطيت خمسًا، لم يعطهن أحدٌ قبلي: نُصِرت بالرُّعْب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأُحِلَت لي الغنائم، ولم تَحَلَّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يُبعَث إلى قومه خاصّةً، وبُعِثت إلى الناس عامّة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1170]

(522) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لنَا طَهُورًا، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ"، وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل) بن غَزْوَان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

3 -

(أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِي) سعد بن طارق الكوفيّ، ثقةٌ [4](خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

4 -

(رِبْعِي) بن حِرَاش العبسيّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 100) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

5 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حُسَيل، أو حِسْل الْعَبْسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 457.

ص: 42

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.

2 -

(ومنها): رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذي، وأبو مالك علّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، ومن السابقين الأولين، وفي "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وبما يكون إلى قيام الساعة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْنَا) بالبناء للمفعول، أي فضّلنا اللَّه تعالى (عَلَى النَّاسِ) أي على سائر الأمم (بِثَلَاثٍ) أي ثلاث خصال، وإنما ذكّر العدد؛ لما سبق غير مرّة أن قاعدة تأنيث العدد مع المذكّر، وتذكيرها مع المؤنّث إنما يجب إذا وقع المعدود تمييزًا، وأما إذا حُذف كهذا الحديث، وكحديث:"من صام رمضان، وأتبعه ستًّا من شوّال"، أو قُدّم، كرجل خمسة فيجوز الوجهان. (جُعِلَتْ صُفُوفُنَا) ببناء الفعل للمفعول في المواضع الثلاثة، وهذه إحدى الخصال الثلاث (كصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ) وقد تقدّم تفسير صفوف الملائكة في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقال: "ألا تَصُفُّون كما تصف الملائكة عند ربها؟ "، فقلنا: يا رسول اللَّه، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال:"يُتِمُّون الصفوف الأول، ويتراصون في الصّفّ".

(وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا) بضمّ، فسكون: لغة في التراب (لَنَا طَهُورًا، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ") فيه بيان أن التيمّم لا يجوز إلا عند فقد الماء، ومثله تعذّر استعماله؛ لمرض، أو غيره (وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى) الظاهر أن قائل "ذَكَرَ" هو محمد بن فُضيل، وفاعله ضمير أبي مالك، يعني أن أبا مالك الأشجعي ذَكر في روايته خصلة أخرى ثالثة، نسيتها الآن.

ص: 43

[تنبيه]: قال العلماء -رحمهم اللَّه تعالى-: المذكور هنا خصلتان فقط؛ لأن قضيّة الأرض في كونها مسجدًا وطَهُورًا خصلة واحدة، وأما الثالثة فمحذوفة في رواية المصنّف هنا، وذكرها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(22740)

حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا أبو مالك الأشجعيّ، عن ربعيّ بن حِرَاشٍ، عن حُذيفة، قال: فُضِّلت هذه الأمة على سائر الأمم بثلاث: جُعِلت لها الأرض طَهُورًا ومسجدًا، وجُعلت صفوفها على صفوف الملائكة، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول ذا: "وأعطيت هذه الآيات من آخر البقرة، من كنز تحت العرش، لم يُعطَها نبيّ قبلي"، قال أبو معاوية: كلُّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وساقها أيضًا الإمام النسائيّ في "السنن الكبرى"(5/ 15)، فقال:

(8022)

أخبرنا عمرو بن منصور، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا أبو عوانة، قال: ثنا أبو مالك الأشجعيّ، عن رِبْعِيّ بن حِرَاشٍ، عن حُذيفة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعِلت الأرض كلها لنا مسجدًا، وجُعلت تربتها لنا طُهورًا، وجُعِلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأُوتيت هؤلاء الآيات، آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يُعْطَ أحدٌ منه قبلي، ولا يُعْطى منه أحد بعدي". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11701 و 1171](522)، و (النسائيّ) في "السنن الكبرى"(5/ 15) رقم (8022)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(418)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 435)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 383)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(263 و 264)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1697)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(874)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1152)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 213 و 223)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 44

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1171]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدِ ابْنِ طَارِقٍ، حَدَّثَنِي رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم في هذا الباب.

2 -

(ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، و"سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ": هو أبو مالك الأشجعي المذكور هناك.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث محمد بن فُضيل، يعني أن حديث يحيى بن أبي زائدة، عن سعد بن طارق، وهو أبو مالك الأشجعيّ، مثل حديث محمد بن فضيل عنه.

[تنبيه]: حديث يحيى بن أبي زائدة لم أجد من ساقه، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1172]

(523) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِي بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ").

ص: 45

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتيبَة بْن سَعِيدٍ) تقدم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقىّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

4 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

5 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ الحرقيّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) 8/ 134 تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

وعليّ بن حجر تقدّم في هذا الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن قوله: "وهو ابن جعفر" أشار به إلى أن ذكر أبيه ليس من الرواية، وإنما زاده هو للإيضاح، ففصل بين ما سمعه من شيخه، وبين ما زاده هو.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه، فالأول نيسابوريّ، والثاني بَغْلانيّ، والثالث مروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعي: العلاء، عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُضِّلْتُ) بالبناء للمفعول، أي فضّلني اللَّه تعالى (عَلَى الأَنْبِيَاءِ) عليهم الصلاة والسلام (بِسِتٍّ) أي بستّ خصال، وتقدّم في الحديث الماضي وجه تذكير العدد، فلا تغفل (أُعْطِيتُ

ص: 46

جَوَامِعَ الْكَلِمِ) وفي الرواية التالية: "بُعِثتُ بجوامع الكلم"، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الكلم الجوامع، وهو جمع جامعة، كما قال في "الخلاصة":

فَوَاعِلٌ لِفَوْعَلٍ وَفَاعَلِ

وَفَاعِلَاءَ مَعَ نَحْوِ كَاهِلِ

وَحَائِضٍ وَصَاهِل وَفَاعِلَهْ

وَشَذَّ فِي الْفَارِسِ مَعْ مَا مَاثَلَهْ

وقال ابن الأثير رحمه الله: "جوامع الكلم" يعني به القرآن، جمع اللَّه تعالى بلطفه في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرةً، واحدها جامعة، أي كلمة جامعة، ومنه الحديث في صفته صلى الله عليه وسلم:"كان يتكلّم بجوامع الكلم" أي أنه كان كثير المعاني، قليل اللفظ، ومنه حديث:"كان يستحبّ الجوامع من الدعاء"، هي التي تجمع الأغراض الصالحة، والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء على اللَّه تعالى، وآداب المسألة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الأصحّ أن جوامع الكلم لا يختصّ بالقرآن، بل هو موجود في كلامه صلى الله عليه وسلم، فمِمّا ذكروا من أمثلة جوامع الكلم في القرآن قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179]، وقوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52]، إلى غير ذلك.

ومن أمثلة جوامع الكلم من الأحاديث النبويّة حديث عائشة رضي الله عنها: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، وحديث:"كلّ شرط ليس في كتاب اللَّه، فهو باطل"، متّفق عليهما، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم"، متفق عليه، وحديث المقدام رضي الله عنه:"ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه. . . " الحديث، أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان، والحاكم، إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبّع.

وإنما يُسَلَّم ذلك فيما لم تَتَصَرّف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تَقِلّ مخارج الحديث، وشّفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث إذا كثرت قلّ أن تتّفق ألفاظه لتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى

(1)

"النهاية" 1/ 295.

ص: 47

بحسب ما يظهر لأحدهم أنه وافٍ به، والحامل لأكثرهم على ذلك أنهم كانوا يكتبون، ويطول الزمان، فيتعلّق المعنى بالذهن، فيرتسم فيه، ولا يستحضر اللفظ، فيحدّث بالمعنى لمصلحة التبليغ، ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه أنه لم يُوَفّ بالمعنى. قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ) أي الخوف الذي يقذفه اللَّه تعالى في قلوب أعدائه (وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ) هو بمعنى الرواية السابقة: "وبُعثت إلى كلّ أحمر وأسود"، والرواية الأخرى:"بُعِثت إلى الناس"، وبمعنى قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية [سبأ: 28]، وقوله:(كَافَّةً) أي جميعًا.

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي إلا إلى جميع الخلائق من المكلفين، كقوله تبارك وتعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا}: أي تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار.

قال محمد بن كعب في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} يعني إلى الناس عامّة، وقال قتادة في هذه الآية: أرسل اللَّه تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم، فأكرمُهم على اللَّه تبارك وتعالى أطْوَعُهم للَّه عز وجل. انتهى

(2)

.

[فائدة]: قال في "اللسان": الكافّة: الجماعةُ، وقيل: الجماعة من الناس، يقال: لقيتهم كافةً، أي كلهم، وقال أبو إسحاق في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} قال: "كافّة" بمعنى الجميع والإحاطة، فيجوز أن يكون معناه: ادخلوا في السلم كله، أي في جميع شرائعه، ومعنى "كافة" في اشتقاق اللغة: ما يَكُفُّ الشيءَ في آخره، من ذلك كُفّة القميص، وهي حاشيته، وكلُّ مستطيل فحَرْفُهُ كُفّةٌ -بالضمّ- وكلُّ مستدير كِفّة -بالكسر- نحو كِفّة الميزان. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 15/ 173.

(2)

"تفسير ابن كثير" 3/ 539.

(3)

"لسان العرب" 9/ 305.

ص: 48

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وجاء الناسُ كافّة، قيل: منصوب على الحال، نصبًا لازمًا، لا يُسْتَعْمل إلا كذلك، وعليه قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية [سبأ: 28]، أي إلا للناس جميعًا، وقال الفراء في "كتاب معاني القرآن": نُصِبت؛ لأنها في مذهب المصدر، ولذلك لم تُدْخِل العرب فيها الألف واللام؛ لأنها آخرٌ لكلام، مع معنى المصدر، وهي في مذهب قولك: قاموا معًا، وقاموا جميعًا، فلا يُدخلون الألف واللام على "معًا"، و"جميعًا"، إذا كانت بمعناها أيضًا، وقال الأزهريّ أيضًا:"كافّةً" منصوب على الحال، وهو مصدر على فَاعِلَةٍ، كالعافية، والعاقبة، ولا يُجْمَع، كما لو قلت: قاتلوا المشركين عامّةً، أو خاصّةً، لا يُثَنَّى ذلك، ولا يُجْمَع. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ") فعلٌ ونائب فاعله، وزاد في رواية أحمد:"مثلي ومثل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كمثل رجل بَنَى قصرًا، فأكمل بناءه، وأحسن بُنيانه، إلا موضع لَبِنَةٍ، فنظر الناسُ إلى القصر، فقالوا: ما أحسن بنيان هذا القصر، لو تَمّت هذه اللَّبِنَة، ألا فكنت أنا اللبنةَ، ألا فكنت أنا اللبنة".

وهذا الحديث بمعنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} الآية [الأحزاب: 40]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1172](523)، و (الترمذيّ) في "السير"(4/ 123)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(567)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 411 - 412)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2313)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1170 و 1171)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1153 و 1154)، و (البيهقيّ)

(1)

"المصباح المنير" 2/ 536.

ص: 49

في "الكبرى"(2/ 433 و 9/ 5)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3617)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كون الأرض كلّها مسجدًا وطَهُورًا.

2 -

(ومنها): بيان ما منّ اللَّه عز وجل على نبيّه صلى الله عليه وسلم بإعطائه جوامع الكلم، والمراد القرآن، ففي ألفاظه اليسيرة توجد معانٍ كثيرة، وكذلك كان كلامه صلى الله عليه وسلم ودعاؤه بجوامع الكلم.

3 -

(ومنها): نصره صلى الله عليه وسلم بقذف المهابة والخوف والرعب في قلوب أعدائه، فلا يسمع أحد منهم به إلا امتلأ قلبه خوفًا وفزعًا.

4 -

(ومنها): حلّ الغنائم له، ولأمته بعد أن كانت محرّمة على الأمم السابقة.

5 -

(ومنها): عموم رسالته صلى الله عليه وسلم جميع الثقلين، بخلاف الأنبياء قبله، فكانوا يبعثون إلى قومهم.

6 -

(ومنها): ما منّ اللَّه عز وجل على هذه الأمة بختمه صلى الله عليه وسلم للنبوة، فلا نبيّ بعد، ولا رسول من باب أولى، فكلّ من ادّعى ذلك فإنه أفّاك أثيم مجرم من أصحاب الجحيم، فهذا الحديث بمعنى قوله عز وجل:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .

قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ في تفسير هذه الآية بعد كلامه في لغات الخاتم ما نصّه: قال ابن عطية: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفًا وسلفًا مُتَلَقّاة على العموم التامّ مُقْتضية نصًّا أنه لا نبيّ بعده صلى الله عليه وسلم، وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بـ "الهداية" من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف -بل باطل- وما ذكره الغزاليّ في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بـ "الاقتصاد" إلحاد عندي، وتطرُّق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذَرَ الحذَرَ منه، واللَّه الهادي برحمته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

بزيادة، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"تفسير القرطبي" 14/ 196 - 197.

ص: 50

وقال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} كقوله عز وجل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فهذه الآية نصّ في أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخصّ من مقام النبوة، فإن كل رسول نبيّ ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

أخرج الإمام أحمد في "مسنده" من طريق عبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل، عن الطفيل بن أُبَيّ بن كعب، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مثلي في النبيين، كمثل رجل بنى دارًا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويَعْجَبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة"، ورواه الترمذيّ، وقال: حسن صحيح.

وأخرج أحمد أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبيّ"، قال: فشقّ ذلك على الناس، فقال:"ولكن المبشرات"، قالوا: يا رسول اللَّه، وما المبشرات؟ قال:"رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة"، وهكذا رواه الترمذيّ، وقال: صحيح غريب من حديث المختار بن فُلْفَل. وأخرج الشيخان عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بَنَى دارًا، فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فكان من دخلها، فنظر إليها، قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة، جئتُ، فختمتُ الأنبياء"، لفظ مسلم.

وأخرجا أيضًا: عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء، أنا محمدٌ، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يَمحُو اللَّه تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمَيّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبيٌّ".

وأخرج أحمد من طريق ابن لهيعة، عن عبد اللَّه بن هُبيرة، عن عبد الرحمن بن جبير، قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول: خرج علينا

ص: 51

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا كالمودِّع، فقال:"أنا محمد النبي الأميّ -ثلاثًا- ولا نبيّ بعدي، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وعُلِّمت كم خزنة النار، وحملة العرش، وتُجُوز بي، وعوفيت، وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا، ما دمت فيكم، فإذا ذُهِب بي فعليكم بكتاب اللَّه تعالى، أَحِلّوا حلاله، وحَرِّموا حرامه"، تفرد به الإمام أحمد، وفيه سنده ابن لهيعة، والكلام فيه مشهور.

ثم قال ابن كثير رحمه الله: والأحاديث في هذا كثيرة، فمِن رحمة اللَّه تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم خَتْمُ الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر اللَّه تبارك وتعالى في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه، أنه لا نبيّ بعده؛ ليعلموا أن كُلَّ مَن ادَّعَى هذا المقام بعده، فهو كذّاب أفّاك دجّال ضالّ مضلّ، ولو تَخَرَّق، وشَعْبَذ، وأَتَى بانواع السحر والطلاسم والنَّيرجيّات، فكلها مُحَالٌ وضلالٌ عند أولي الألباب، كما أجرى اللَّه عز وجل على يد الأسود العنسيّ باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، من الأحوال الفاسدة، والأقوال الباردة، ما عَلِمَ كلُّ ذي لُبّ وفَهْمٍ وحِجًى أنهما كاذبان ضالان، لعنهما اللَّه، وكذلك كلُّ مُدَّع لذلك إلى يوم القيامة، حتى يُخْتَمُوا بالمسيح الدجال، فكلُّ واحد من هؤلاء الكذابين يَخْلُق اللَّه تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها، وهذا من تمام لطف اللَّه تعالى بخلقه، فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، إلا على سبيل الاتفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221، 222] الآية، وهذا بخلاف حال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فإنهم في غاية البرّ والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه، ويأمرون به، وينهون عنه، مع ما يُؤَيَّدون به من الخوارق للعادات، والأدلة الواضحات، والبراهين الباهرات، فصلوات اللَّه وسلامه عليهم دائمًا مستمرًّا، ما دامت الأرض والسموات. انتهى كلام ابن كثير باختصار

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ

(1)

"تفسير ابن كثير" 3/ 494 - 495.

ص: 52

أنيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1173]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيح خَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيَّ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ) بن يحيى التُّجيبيّ بن حرملة بن عمران، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(ابْنُ وَهْب) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابد فقيهٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الفقيه الثقة الحافظ المتقن المتّفق على جلالته، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب الخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الفقيه الحجة الثبت، من كبار [3](94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والصحابي تقدّم قبله.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 53

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنف.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: فالأول ما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ، والثاني ما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ، وأبو داود.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: الزهري، عن سعيد.

5 -

(ومنها): أن سعيدًا من الفقهاء السبعة، وأن أبا هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ) أي الكلم الجوامع، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والجوامع جمع جامعة، قيل: يعني القرآن، جمع اللَّه تعالى في ألفاظ يسيرة منه معاني كثيرة، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يتكلّم بألفاظ يسيرة، تحتوي على معاني كثيرة.

وفي "صحيح البخاري": قال محمد

(1)

: "وبلغني أن جوامع الكلم أن اللَّه يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد، والأمرين، أو نحو ذلك". انتهى. وهذا التفسير منقول عن الزهريّ رحمه الله تعالى، كما بيّنه في "الفتح"

(2)

، قال: وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلّم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني، وجزم غير الزهريّ بأن المراد بـ "جوامع الكلم" القرآن بقرينة قوله:"بُعثت"، والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ، واتساع المعاني. انتهى

(3)

، وقد سبق البحث مستوفًى في الحديث الماضي.

(وَنُصِرْتُ) بالبناء للمفعول أيضًا (بِالرُّعْبِ) بضمّ، فسكون: أي الخوف (وَبَيْنَا) هي "بين" الظرفيّة أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، وقد تقدّم

(1)

رجّح الحافظ أنه محمد بن سيرين، وقال بعض الشرّاح أنه البخاريّ، راجع:"الفتح" 12/ 418.

(2)

"الفتح" 14/ 433 في "كتاب التعبير".

(3)

"الفتح" 15/ 172 في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة".

ص: 54

البحث فيها مستوفًى قريبًا. (أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ) من الإتيان ثلاثيًّا، وفي بعض نسخ البخاريّ:"أوتيت" بالواو بعد الهمزة، من الإيتاء رباعيًّا، وهو الإعطاء، فعلى هذا تكون الباء زائدةً في قوله:(بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ) المراد منها: ما يُفتَحُ لأمته من بعده من الفتوح، وقيل: المعادن، وقال الخطابيّ: المراد بخزائن الأرض: ما فُتِح على الأمة من الغنائم، من ذخائر كسرى، وقيصر، وغيرهما، ويَحْتَمِل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضّة، وقال غيره: بل يُحْمَل على أعمّ من ذلك. انتهى

(1)

.

(فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيَّ") وفي رواية البخاريّ: "في يدي"، وفي رواية:"في كفّي"، ثم يحتمل أن يكون مفردًا مضافًا إلى ياء المتكلّم، فتكون الدال، أو الفاء مكسورة، ويحتمل أن يكون مثنّى، مضافًا إليها أيضًا، فتكون مفتوحةً، على قاعدة المثنّى المضاف إلى ياء المتكلّم، ولا تخالف بين المعنيين؛ لأن المفرد المضاف يعمّ، فيكون بمعنى المثنّى، واللَّه تعالى أعلم.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذه الرؤيا أوحى اللَّه فيها لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستملك الأرض، ويتّسع سلطانها، ويَظْهر دينها، ثم إنه وقع ذلك كذلك، فملكت أمته من الأرض ما لم تملكه أمة من الأمم فيما عَلِمناه، فكان هذا الحديث من أدلة نبوّته صلى الله عليه وسلم، ووجه مناسبة هذه الرؤيا أن مَن مَلَك مفتاح الْمُغْلَق، فقد تمكّن من فتحه، ومن الاستيلاء على ما فيه. انتهى

(2)

.

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وهو موصول بالسند المذكور أوّلًا (فَذَهَبَ) أي مات (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وهو: بمثناة، ثم نون ساكنة، ثم مثناة، بوزن تَفْتَعِلُونها، يعني تستخرجون ما فيها من خزائن الأرض، وما فُتح على المسلمين من الدنيا، وتنتفعون بها.

وقال في "الفتح": ولبعضهم بحذف المثناة الثانية، من النَّثل -بفتح النون، وسكون المثلّثة- وهو الاستخراج، يقال: نَثَلَ كنانته -أي من باب

(1)

"الفتح" 14/ 461 في "كتاب التعبير".

(2)

"المفهم" 2/ 119 - 120.

ص: 55

ضرب-: استخرج ما فيها من السِّهام، وجِرابَه: نَفَضَ ما فيه، والبئرَ: أخرج ترابها، فمعنى تنتثلونها: تستخرجون ما فيها، وتتمتّعون به.

قال ابن التين، عن الداوديّ: هذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وقال النوويّ: يعني ما فُتح على المسلمين من الدنيا، وهو يَشْمَل الغنائم، والكنوز، وعلى الأول اقتصر الأكثر، ووقع عند بعض رُواة مسلم بالميم بدل النون الأولى، وهو تحريف. انتهى.

[تنبيه]: وقع في رواية للبخاري في "كتاب الاعتصام" من "صحيحه" ما نصّهّ: "قال أبو هريرة: فقد ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنتم تَلْغَثُونها، أو تَرْغَثُونها، أو كلمة تشبهها".

قال في "الفتح": فالأولى بلام ساكنة، ثم غين معجمة مفتوحة، ثم مثلّثة، والثانية مثلها، لكن بدل اللام راء، وهي من الرَّغْث، كناية عن سَعَة العيش، وأصله من رَغَثَ الْجَدْيُ أمه: إذا ارتضع منها، وأرغثته هي: أرضعته، ومن ثمّ قيل: رُغُوث، وأما باللام، فقيل: إنه لغة فيها، وقيل: تصحيف، وقيل: مأخوذة من اللَّغِيث بوزن عَظِيم، وهو الطعام المخلوط بالشعير، ذكره صاحب "المحكم" عن ثعلب، والمراد يأكلونها كيما اتفق، وفيه بُعد.

وقال ابن بطّال: وأما اللغث باللام، فلم أجده فيما تصفّحتُ من اللغة. انتهى.

قال الحافظ: ووجدت في حاشيةٍ من كتابه: هما لغتان صحيحان فصيحتان، معناهما الأكل بالنَّهَم، وأفاد الشيخ مغلطاي عن كتاب "المنتهى" لأبي المعالي اللغويّ: لغث طعاَمه، ولعث -بالغين، والعين، أي المعجمة، والمهملة-: إذا فرّقه، قال: واللَّغِيث ما يبقى في الكيل من الْحَبّ، فعلى هذا فالمعنى: وأنتم تأخذون المال، فتفرّقونه بعد أن تحوزوه، واستعار للمال ما للطعام؛ لأن الطعام أهمّ ما يُقْتَنَى لأجله المالُ، وزعم أن في بعض نسخ "الصحيح": وأنتم تلعقونها -بمهملة، ثم قاف- قال الحافظ: وهو تصحيف، ولو كان له بعض اتِّجَاه. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 15/ 172.

ص: 56

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [1173 و 1174 و 1175 و 1176 و 1177]، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2977)، و"التعبير"(6998 و 7013)، و"الاعتصام"(7273)، و (الترمذيّ) في "السير"(1553)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(1/ 3088 و 3089)، وفي "الكبرى" فيه (1/ 4294 و 4295 و 4296 و 4297)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 433)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 264 و 268 و 455 و 501 و 502)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6363 و 6401 و 6403)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 48)، وفي "دلائل النبوّة"(5/ 470 و 471)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1170 و 1171 و 1172)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1154 و 1155)، وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما خصّ اللَّه سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، حيث كان يتكلّم بألفاظ يسيرة، تحتوي على معان كثيرة.

2 -

(ومنها): ما خصّه عز وجل أيضًا من النصر على أعدائه بإلقاء الرعب في قلوبهم من مسافة بعيدة، فينهزمون بمجرّد سماعهم بقصده غزوهم.

3 -

(ومنها): ما أنعم اللَّه تعالى به عليه، من اتساع دينه، وانتشار أمته على مشارق الأرض ومغاربها.

4 -

(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا، ولم يتناول من زخارفها شيئًا، إلا قدر الحاجة، مع أن اللَّه تعالى جعل في يده مفاتيح خزائن الأرض، بل كان ذلك لأمته بعده صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

[1174]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ).

ص: 57

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَاجِبُ بْنُ الْوَليدِ) بن ميمون الأعور، أبو أحمد المؤدِّب الشاميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10].

رَوَى عن محمد بن حَرْب الأَبْرَش، ومحمد بن سلمة، وأبي حَيْوة شُريح بن يزيد الحمصيّ، ومبشر بن إسماعيل، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وروى له أبو داود في "مسند مالك" بواسطة الذُّهْليّ، وروى عنه أيضًا يحيى بن أكثم، ويعقوب بن شيبة، وجعفر بن محمد بن شاكر، وابن أبي الدنيا، وموسى بن هارون، وأبو القاسم البغويّ، وغيرهم.

قال عبد الخالق بن منصور: قلت لابن معين: تَرَى أن أكتب عنه؟ فقال: ما أعرفه، وهو صحيح الحديث، وأنت أعَلم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان راويًا للشاميين، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال ابن سعد وغيره: مات في رمضان سنة (228).

تفرّد به المصنّف، وأخرج له أبو داود في "مسند مالك"، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (523) و (902) و (2233) و (2269)(2559) و (2560) و (2609) و (2658).

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَولانيّ الْحِمصيّ المعروف بالأبرش -بالمعجمة- كاتب محمد بن الوليد الزبيدي، ثقة [10].

رَوَى عن الأوزاعي، وابن جريج، ومحمد بن زياد الألهاني، وعمر بن رؤبة التغلبي، وسعيد بن سنان، وعبيد اللَّه بن عمر العمري، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو مسهر، وخالد بن خَلِيّ، وحيوة بن شريح، ومحمد بن وهب بن عطية، وإبراهيم بن موسى الرازي، وهارون الحمال، وحاجب بن الوليد، وعمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، وآخرون.

قال ابن سعد: ولي قضاء دمشق، وقال الْمَرُّوذي عن أحمد: ليس به بأس، وقدّمه على بقية. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: فبقية كيف حديثه؟ قال: ثقة، قلت: هو أحب إليك أو محمد بن حرب؟ قال: ثقة ثقة. قال عثمان: وهو الأبرش الحمصي ثقة. وقال العجلي، ومحمد بن عوف،

ص: 58

والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وقال خُشنام بن الصديق: ثنا محمد بن حرب الخولاني، وكان من خيار الناس.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (192)، وقال يزيد بن عبد ربه، وعمرو بن عثمان: مات سنة أربع وتسعين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.

3 -

(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر الزُّبَيديّ -بالزاي، والموحّدة، مصغّرًا- أبو الْهُذَيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7].

رَوَى عن الزهريّ وسعيد المقبريّ، وعبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، ونافع مولى ابن عمر، وعامر بن عبد اللَّه بن الزبير، وسُليم بن عامر، وعمرو بن شعيب، ومكحول، وهشام بن عروة، ويزيد بن شُريح الحضرميّ، ويونس بن سيف، وغيرهم.

وروى عنه الأوزاعيّ، وشعيب بن أبي حمزة، وهو من أقرانه، وأخوه أبو بكر بن الوليد، ويحيى بن حمزة الحضرميّ، وعبد اللَّه بن سالم الأشعريّ، وإسماعيل بن عياش، ومحمد بن حرب الْخَوْلانيّ، وبَقِيّة، وآخرون.

قال إبراهيم بن الجنيد: سئل ابن معين: مَن أثبت مَن روى عن الزهريّ؟ فقال: مالك، ثم معمر، ثم عُقيل، ثم يونس، ثم شعيب، والأوزاعيّ، والزُّبيديّ، وابن عيينة، وكل هؤلاء ثقات، والزُّبيدي أثبت من ابن عيينة، وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعيّ يُفَضِّل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزهريّ، وقال عبد اللَّه بن سالم: حدثني أخي محمد بن سالم قال: أتيت الزهري أقرأ عليه، فقال: تسألني وهذا محمد بن الوليد بين أظهركم، وقد حَوَى ما بين جنبي من العلم، وقال بَقِيَّة عن الزبيديّ: أقمت مع الزهريّ عشر سنين، وقال علي ابن المدينيّ: ثقةٌ ثبتٌ، وقال العجليّ، وأبو زرعة الرازيّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: قال لي دُحَيم: شعيب ثقةٌ ثبتٌ يشبه حديثه حديث عُقيل، والزُّبيدي فوقه، وقال عليّ بن عَيّاش: كان الزُّبيدي على بيت المال، وكان الزهريّ به مُعْجَبًا، يُقَدِّمه على جميع أهل حمص، وقال محمد بن عوف: الزُّبيديّ من ثقات المسلمين، وإذا جاءك الزبيديّ، عن الزهريّ، فاستمسك به، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ليس في حديثه خطأٌ.

ص: 59

وقال الإمام أحمد: كان لا يأخذ إلا عن الثقات، وقال الخليليّ: ثقةٌ حجةٌ إذا كان الراوي عنه ثقةً.

وقال ابن سعد: كان أعلم أهل الشام بالفتوى والحديث، وكان ثقةً إن شاء اللَّه تعالى، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ست، أو سبع وأربعين ومائة، وهو ابن سبعين سنةً، وقال: كان من الفقهاء في الدين، وكان من الحفاظ المتقنين، أقام مع الزهريّ عشر سنين، حتى احتوى على علمه، وهو من الطبقة الأولى من أصحاب الزهريّ، وقال أحمد بن محمد بن عيسى البغداديّ: مات في المحرَّم سنة تسع وأربعين.

أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.

[تنبيه]: "الزُّبيديّ" -بضمّ الزاي، وفتح الموحّدة، مصغّرًا- نسبة إلى زُبيد، وهى قبيلة من مَذْحِج، واسم زُبيد مُنَبّه بن صَعْب بن سعد العَشِيرة بن مالك بن أُدد، وإنما قيل له: زُبيد؛ لأنه قال: من يُزبد لمن رفده؟ فأجابه أعمامه، فقيل لهم جميعًا: زُبيد، أفاده في "اللباب"

(1)

.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قريبًا. والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ) يعني أن الزبيديّ حدّث عن الزهريّ مثل حديث يونس عنه في الحديث الماضي.

[تنبيه]: حديث الزُّبيديّ الذي أحاله المصنّف هنا على حديث يونس، ساقه النسائيّ في "سننه"، فقال:

(3089)

أخبرنا كَثِير بن عُبيد، قال: حدّثنا محمد بن حرب، عن الزُّبَيدي، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعِثتُ بجوامع الكلم، ونُصِرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوُضعت في يدي، فقال أبو هريرة: فقد ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنتم تَنْتَثلونها". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 400.

ص: 60

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1175]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُميْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ زاهد [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الْحِمْيريّ، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ شهير، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211) عن (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن معمرًا حدّث عن الزهريّ بمثل حديث يونس، والزُّبيديّ كلاهما عنه.

[تنبيه]: حديث معمر هذا ساقه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(7576)

حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيِّب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرُّعْب، وأُعطيت جوامع الكلام، وبينا أنا نائم إذ جيء بمفاتيح خزائن الأرض، فوُضِعت في يدي، فقال أبو هريرة: لقد ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنتثلونها". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 61

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1176]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَأُوتيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَبَيْنَمَا

(1)

أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدَيَّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو يُونُسَ، مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) هو: سُلَيم بن جُبير الدَّوْسيّ المصريّ، ثقةٌ [3](123)(ع) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.

والباقون ذُكروا في هذا الباب.

وقوله: (وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ) وفي نسخة: "وبينا أنا نائم"، وقد تقدّم البحث عن "بينا"، و"بينما" مستوفى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1177]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا

(3)

مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُوتيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) بن كامل الأبناويّ، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

(1)

وفي نسخة: "وبينا".

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 62

والباقون تقدّموا قبل حديث.

وقوله: (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ. . . إلخ) الإشارة إلى مجموع الأحاديث التي جمعها همّام بن منبّه، وكتبها عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم البحث في هذا مستوفًى غير مرّة.

وقوله: (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) أي ذكر همّام أحاديث كثيرة، وهي نحو (138) حديثًا، وهذا الحديث هو:(37) في "الصحيفة"

(1)

.

وقوله: (مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. . . إلخ)"منها" جارّ ومجرور خبر مقدّم، وقوله:"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1) - (بَابُ ابْتِنَاءِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1178]

(524) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ الضُّبَعِيِّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ

(2)

، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلِإ بَنى النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِينَ بِسُيُوفِهِمْ

(3)

، قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(4)

يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، قَالَ: فَأَرْسلَ إِلَى مَلِإ بَنِي

(1)

راجع: "صحيفة همام بن منبّه" 1/ 37.

(2)

وفي نسخة: "يقال: هم بنو عمرو بن عوف".

(3)

وفي نسخة: "متقلّدين سيوفَهُم".

(4)

وفي نسخة: "فكان نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ص: 63

النَّجَّارِ، فَجَاءُوا، فَقَالَ:"يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا"، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ

(1)

ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ، كَانَ فِيهِ نَخْلٌ، وَقُبُورُ الْمُشْرِكينَ، وَخِرَبٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، قَالَ: فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةً

(2)

، وَجَعَلُوا عِضَادتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَكَانُو يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ:

اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ

فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ)

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام المذكور في الباب الماضي.

2 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُوخَ) الأُبُلي، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 236) عن بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

3 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ) الْعَنبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

4 -

(أَبُو التَّيَّاحِ الضُّبَعِيُّ) يزيد بن حُميد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو (67) من رباعيّات الكتاب، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني تفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه يحيى، فنيسابوريّ، وشيبان أُبُليّ، وهي من قرى البصرة.

(1)

وفي نسخة: "ما نطلُبُ".

(2)

وفي نسخة: "قبلةً له".

ص: 64

4 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وهو معمّر، فقد جاوز عمره مائة سنة، واشتهر بالخادم؛ لكونه خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فدعا له بخيري الدنيا والآخرة، فنال ذلك رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) بالمثنّاة الفوقيّة، وتشديد التحتانيّة (الضبَعِيِّ) بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة: نسبة إلى ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، أبو قبيلة نزلت البصرة

(1)

، أنه (حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ) بفتح القاف، وكسر الدال، يقال: قَدِمَ من سَفَره يَقْدَم بفتح الدال، من باب تَعِبَ قُدُومًا، ومَقْدَمًا بالفتح أيضًا: إذا رجع

(2)

. (الْمَدِينَةَ) النبويّة، وهي في الأصل: المصر الجامع، ووزنها فَعِيلة؛ لأنها من مَدَنَ، وقيل: مَفْعِلَةٌ بفتح الميم؛ لأنها من دان، والجمع مُدُنٌ، ومَدَائنُ بالهمز على القول بأصالة الميم، ووزنها فَعَائلُ، وبغير همز على القول بزيادة الميم، ووزنها مفاعل؛ لأن للياء أصلًا في الحركة، فتُرَدّ إليه، ونظيرها في الاختلاف مَعَايش، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

ثم صارت علمًا بالغلبة على مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مُضَافٌ أَوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَـ "الْعَقَبَهْ"

وَحَذْفَ "أَلْ" ذِي إِنْ تُنَادِي أَوْ تُضِفْ

أَوْجِبْ وَفِي غَيْرِهِمَا قَدْ تَنْحَذِفْ

(فَنَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ) بضمّ العين المهملة، وكسرها، لغتان مشهورتان، قاله النوويّ رحمه الله

(4)

، وقال الفيّوميّ رحمه الله: عِلْوُ الدار وغيرها: خلافُ السُّفْل، بضمّ العين وكسرها، والْعُلْيا: خلاف السُّفلى، تُضمّ العين، فتُقصَرُ، وتُفْتَح فتُمَدُّ، قال ابن الأنباريّ: والضمّ مع القصر أكثر استعمالًا، فيقال: شَفَةٌ عُلْيَا،

(1)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 62.

(2)

راجع: "مختار الصحاح"(ص 243) بزيادة من "كتاب العين" 3/ 366.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 566 - 567.

(4)

"شرح النوويّ" 5/ 6 - 7.

ص: 65

وعَلْيَاءُ، وأصلُ الْعَلْيَاء: كلُّ مكان مُشْرِفٍ، وجمعُ الْعُلْيا عُلًى، مثلُ كُبْرَى وكُبَر. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": كلُّ ما في جهة نجد يُسمَّى العاليةَ، وما في جهة تِهَامة يُسمّى السافلةَ، وقُبَاءُ من عوالي المدينة، وأُخِذ من نزول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه التفاؤل له ولدينه بالعلوّ. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أعلى المدينة هو العوالي، والعاليةُ، وهو قُباء وما حولها، وكانت قباء مسكن بني عمرو بن عوف، وقيل: إن كلّ ما كان من جهة نجد من المدينة من قُراها وعمائرها إلى تهامة يُسمّى العالية، وما كان دون ذلك يُسمّى السافلة، وبنو النجّار كانوا أخوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مقصود النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينتقل من العوالي إلى وسط المدينة، وأن يتّخذ بها مسكنًا يسكنه. انتهى

(3)

.

ثم بيّن تلك الناحية بما أبدله بقوله:

(فِي حَيٍّ) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد التحتانيّة-: القبيلة، وجمعه أحياء (يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) -بفتح العين فيهما- أي ابن مالك بن الأوس بن حارثة، ومنازلهم بقباء، وهي على فرسخ من المسجد النبويّ بالمدينة، وكان نزوله على كُلْثوم بن الْهِدْم، وقيل: كان يومئذ مشركًا، وجزم به محمد بن الحسن بن زِبَالة في "أخبار المدينة".

وكان ذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، وهذا هو المعتمد، وشَذّ من قال: يوم الجمعة، وفي رواية موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: قَدِمَها لهلال ربيع الأول، أي أول يومٍ منه، وفي رواية جرير بن حازم، عن ابن إسحاق: قَدِمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبي مَعْشَر، لكن قال: ليلة الاثنين، ومثله عن ابن الْبَرْقيّ، وثبت كذلك في أواخر "صحيح مسلم".

وفي رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق: قَدِمها لاثنتي عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول، وعند أبي سعيد في "شرف المصطفى"، من طريق أبي بكر بن حزم: قَدِم لثلاث عشرة من ربيع الأول.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 427 - 428.

(2)

"الفتح" 7/ 312.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 205.

ص: 66

قال الحافظ رحمه الله: وهذا يُجمَع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال، وعنده من حديث عُمر:"ثم نزل على بني عمرو بن عوف، يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول"، كذا فيه، ولعله كان فيه "خَلَتَا"؛ ليوافق رواية جرير بن حازم.

وعند الزبير في "خبر المدينة"، عن ابن شهاب: في نصف ربيع الأول، وقيل: كان قدومه في سابعه.

وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام ابن الكلبيّ: إنه خرج من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول، فإن كان محفوظًا، فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضُمّ إلى قول أنس: إنه أقام بقباء أربع عشرة ليلةً، خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبيّ جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه، فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبّان، فإنه قال: أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس، يعني وخرج يوم الجمعة، فكأنه لم يعتدّ بيوم الخروج، وكذا قال موسى بن عقبة: إنه أقام فيهم ثلاث ليال، فكأنه لم يعتدّ بيوم الخروج ولا الدخول.

وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يومًا، حكاه الزبير بن بكار.

وفي مرسل عروة بن الزبير ما يقرُب منه.

والأكثر أنه قَدِمَ نهارًا، ووقع في رواية مسلم ليلًا، ويُجْمَع بأن القدوم كان آخر الليل، فدخل نهارًا، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً) وفي رواية للبخاريّ: "فلبِث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلةً"، وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب:"أقام فيهم ثلاثًا"، قال: وروى ابن شهاب عن مُجَمِّعِ بن جارية: "أنه أقام اثنتين وعشرين ليلةً"، وقال ابن إسحاق:"أقام فيهم خمسًا"، وبنو عمرو بن عوف يزعُمون أكثر من ذلك.

(1)

"الفتح" 7/ 287.

ص: 67

قال الحافظ رحمه الله: ليس أنس من بني عمرو بن عوف، فإنهم من الأوس، وأنس من الخزرج، وقد جزم بما ذكرته، فهو أولى بالقبول من غيره. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلَإِ بَنِي النَّجَّارِ) وفي رواية للبخاريّ: "إلى ملإ من بني النجّار"، أي يريد رجالهم، وشُجعانهم، وأشرافهم

(2)

، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الْمَلأُ" مهموزًا: أشراف القوم، سُمُّوا بذلك لِمَلاءتهم بما يُلْتَمَس عندهم من المعروف، وجَوْدَة الرأي، أو لأنهم يَمْلئون العيون أُبَّهَةً، والصدر هَيْبَةً، والجمع: أَملاءٌ، مثلُ سَبَبٍ وأَسبابٍ. انتهى

(3)

.

وبنو النّجّار هم: بنو تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الْجَمُوح، والنّجّار: قَبِيلٌ كبيرٌ، من الأنصار، منه بطون، وعمائر، وأفخاذ، وفصائل، وتيم اللات هو النجار، سُمِّي بذلك؛ لأنه اخْتَتَن بقَدُوم، وقيل: بل ضَرَب رجلًا بقَدُوم، فجرحه، ذكره الكلبيّ، وأبو عبيدة.

وإنما طلب صلى الله عليه وسلم بني النجار؛ لأنهم كانوا أخواله؛ لأن هاشمًا جدَّه صلى الله عليه وسلم تزوج سَلْمَى بنت عمرو بن زيد، من بني عديّ بن النجار بالمدينة، فولدت له عبد المطلب، قاله في "العمدة"

(4)

.

(فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِينَ بِسُيُوفِهِمْ) وفي نسخة: "متقلّدين سُيُوفهم"، وفي رواية البخاريّ:"متقلّدي سيوفهم" بالإضافة، قال في "العمدة": قوله: "فجاؤا متقلدي السيوف" هكذا في رواية كريمة بإضافة "متقلدين" إلى "السيوف"، وسقوط النون للإضافة، وفي رواية الأكثرين:"متقلدينَ السيوفَ"، بنصب "السيوفَ"، وثبوت النون؛ لعدم الإضافة، وعلى كلّ حال هو منصوب على الحال، من الضمير الذي في "جاؤوا"، والتّقَلُّد: جعل نِجَاد السيف على المنكب. انتهى

(5)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي أنه مستحضرٌ الآن

(1)

"الفتح" 7/ 288.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 205.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 580.

(4)

"عمدة القاري" 4/ 259.

(5)

"عمدة القاري" 4/ 259.

ص: 68

لتلك الهيئة، وأراد بذلك تأكيد خبره بأنه لم يَنْسَ منه شيئًا، بل كأنه ينظر إليهم الآن، وهم على الهيئة المذكورة (عَلَى رَاحِلَتِهِ) جارّ ومجرور متعلّق بحال مقدّر من "رسول اللَّه"، أي حال كونه راكبًا على راحلته.

و"الراحلة": الْمَرْكَبُ من الإبل ذكرًا كان أو أنثى، وبعضهم يقول: الراحلة: الناقة التي تصلح أن تُرْحَل، وجمعها رَوَاحِل، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقال في "العمدة": وكانت راحلته صلى الله عليه وسلم ناقةً تُسَمَّى القَصْواء. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وراحلته صلى الله عليه وسلم هذه أخذها من أبي بكر رضي الله عنه في الهجرة، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه كان جهّز للَّهجرة راحلتين لَمّا قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أرجو أن يؤذن لي"، يعني في الهجرة، فعلفهما ورَقَ السَّمُرَة أربعة أشهر، فلَمّا أُذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة، قال أبو بكر: خذ بأبي أنت وأمّي يا رسول اللَّه إحدى راحلتيّ هاتين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بالثمن"، وفي رواية ابن إسحاق: قال: "لا أركب بعيرًا ليس هو لي"، قال: فهو لك، قال:"لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به"، قال: أخذتها بكذا وكذا، قال:"أخذتها بذلك"، قال: هي لك، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه عند الطبرانيّ فقال:"بثمنها يا أبا بكر"، فقال: بثمنها إن شئتَ.

ونَقَل السُّهَيليّ في "الروض الأُنُف" عن بعض شيوخ المغرب أنه سئل عن امتناعه صلى الله عليه وسلم من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله، فقال: أَحَبّ أنْ لا تكون هجرته إلا من مال نفسه.

وأفاد الواقديّ أن الثمن ثمانمائة، وأن التي أخذها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أبي بكر هي القَصْواء، وأنها كانت من نَعَم بني قُشَير، وأنها عاشت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم قليلًا، وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مُرْسَلة ترعى بالبقيع.

وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء، وكانت من إبل بني الْحَرِيش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها الجذعاء، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 222 - 223.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 259.

(3)

7/ 277 - 278.

ص: 69

(وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ) جملة حاليّة من الفاعل، أي حال كون أبي بكر رضي الله عنه راكبًا خلفه صلى الله عليه وسلم.

و"الرَّدْفُ" -بكسر الراء، وسكون الدال المهملة-: هو الذي تَحْمِله خلفك على ظهر الدابّة، يقال: أردفته إردافًا، وارتدفته، فهو رَدِيفٌ، ورِدْفٌ، أفاده في "المصباح"

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: المراد أنه كان راكبًا خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهما على بعير واحد، وهو الظاهر، أو على بعيرين، لكن أحدهما يتلو الآخر. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: كأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردفه تشريفًا له، وتنويهًا بقدره، وإلا فقد كان لأبي بكر ناقة هاجر عليها. انتهى.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وفي إردافه لأبي بكر رضي الله عنه في ذلك اليوم دليلٌ على شرف أبي بكر، واختصاصه به دون سائر أصحابه. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": وكان لأبي بكر ناقةٌ، فلعله تركها في بني عمرو بن عوف؛ لمرض، أو غيره، ويجوز أن يكون ردّها إلى مكة؛ ليحمل عليها أهله، وثَمّ وجه آخر حسَنٌ، وهو أن ناقته كانت معه، ولكنه ما ركبها؛ لشرف الارتداف خلفه؛ لأنه تابعه، والخليفة بعده. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما استحسنه أخيرًا قريبٌ مما قاله الحافظ، وهو الأولى.

وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم أردفه على ناقته؛ ليتشرّف بذلك، وليعلم الناس منزلته عنده، واللَّه تعالى أعلم.

(وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ) جملة حاليّة أيضًا، أي حال كون أشراف بني النّجّار محيطين به صلى الله عليه وسلم، وإنما أحاطوا به؛ تعظيمًا له، وفرحًا بقدومه إليهم.

(حَتَّى أَلْقَى) أي رَحْله، فالمفعول محذوفٌ، يقال: ألقيت بالشيء: إذا طرحته، وقال ابن رجب: معناه: أنه نزل به، فإن السائر إذا نزل بمكان ألقى فيه رحله، وما معه. انتهى.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 224 - 225.

(2)

"فتح الباري" 2/ 205.

(3)

"عمدة القاري" 4/ 259.

ص: 70

و"حتى" غاية لمحذوف، أي واصل سيره حتى ألقى رحله (بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ) متعلّق بـ "ألقى"، أي بفناء دار أبي أيوب رضي الله عنه، و"الْفِنَاء" بكسر الفاء: سعةٌ أمامَ الدار، والجمع أفنيةٌ، وفي "الْمُجْمَل": فناء الدار: ما امتدّ من جوانبها، وفي "المحكم": وتبدل الباء من الفاء، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": وقع عند ابن إسحاق، وابن عائذ أنه رَكِب من قُباء يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فقالوا: يا رسول اللَّه هَلُمّ إلى العَدَد والعُدَد والقوّة، انزِلْ بين أظهرنا.

وعند أبي الأسود، عن عروة نحوه، وزاد:"وصاروا يتنازعون زمام ناقته"، وسَمّى ممن سأله النزول عندهم عِتبان بن مالك في بني سالم، وفَرْوة بن عمرو في بني بياضة، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وغيرهما في بني ساعدة، وأبا سَلِيط وغيره في بني عَدِيّ يقول لكل منهم:"دَعُوها فإنها مأمورة".

وعند الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس: جاءت الأنصار، فقالوا: إلينا يا رسول اللَّه، فقال:"دعوا الناقة، فإنها مأمورةٌ"، فبركت على باب أبي أيوب.

وفي حديث البراء عن أبي بكر رضي الله عنهما: "فتنازعه القوم، أيُّهم ينزل عليه؟، فقال: إني أنزل على أخوال عبد المطلب، أُكْرِمهم بذلك".

وعند ابن عائذ، عن الوليد بن مسلم، وعند سعيد بن منصور، كلاهما عن عَطّاف بن خالد:"أنها استناخت به أوّلًا، فجاءه ناس، فقالوا: المنزل يا رسول اللَّه، فقال: دعوها، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلحلت، فنزل عنها، فأتاه أبو أيوب، فقال: إن منزلي أقرب المنازل، فأذن لي أن أنقُل رَحْلك، قال: نعم، فنَقَل، وأناخ الناقة في منزله".

وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لَمّا نَقَل رحل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى منزله، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"المرء مع رحله"، وأن سعد بن زُرارة جاء، فأخذ ناقته، فكانت عنده، قال: وهذا أثبت، وذكر أيضًا أن مُدّة إقامته عند أبي أيوب، كانت سبعة أشهر

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 259 - 260.

(2)

"الفتح" 7/ 289.

ص: 71

وذكر في "الفتح" أيضًا: أن البخاريّ أخرج في "التاريخ الصغير" عن ابن شهاب: قال: كان بين ليلة العقبة -يعني الأخيرة- وبين مُهَاجَر النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، أو قريب منها.

قال الحافظ: هي ذو الحجة، والمحرم، وصفر، لكن كان مَضَى من ذي الحجة عشرة أيام، ودخل المدينة بعد أن استهَلّ ربيع الأول، فمهما كان الواقع أنه اليوم الذي دخل فيه من الشهر يُعْرَف منه القدر على التحرير، فقد يكون ثلاثة سواء، وقد ينقص، وقد يزيد؛ لأن أقلّ ما قيل: إنه دخل في اليوم الأول منه، وأكثر ما قيل: إنه دخل الثاني عشر منه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: ذكر الحافظ العراقيّ في "ألفيّة السيرة" خبر وُصُوله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، ثم إلى المدينة، فأجاد في ذلك وأفاد، فقال:

حَتَّى إِذَا أَتَى إِلَى قُبَاءِ

نَزَلَهَا بِالسَّعْدِ وَالْهَنَاءِ

فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِثِنْتَي عَشْرَهْ

مِنْ شَهْرِ مَوْلِدٍ فَنِعْمَ الْهِجْرَهْ

أَقَامَ أَرْبَعًا لَدَيْهِمْ وَطَلَعْ

فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ فَصَلَّى وَجَمَعْ

فِي مَسْجِدِ الْجُمْعَةِ وَهْيَ أَوَّلُ

مَا جَمَّعَ النَّبِيُّ فِيمَا نَقَلُوا

وَقِيلَ بَلْ أَقَامَ أَرْبَعَ عَشْرَهْ

فِيهِمْ وَهُمْ يَنْتَحِلُونَ ذِكْرَهْ

وَهْوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ

لَكِنَّ مَا مَرَّ مِنَ الإِتْيَانِ

لِمَسْجِدِ الْجُمْعَةِ يَوْمَ جُمْعَةِ

لَا يَسْتَقِيِمُ مَعَ هَذِي الْمُدَّةِ

إِلَّا عَلَى قَوْلٍ بِكَوْنِ الْقَدْمَةِ

إِلَى قُبَا كَانتْ بِيَوْمِ الْجُمْعَةِ

بَنَى بِهَا مَسْجِدَهُ وَارْتَحَلَا

لِطَيْبَةَ الْفَيْحَاءِ طَابَتْ نُزُلَا

فَبَكَتْ نَاقَتُهُ الْمَأْمُورَهْ

بِمَوْضِعِ الْمَسْجِدِ فِي الظَّهِيرَهْ

فَحَلَّ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَا

حَتَّى ابْتَنَى مَسْجِدَهُ الرَّحِيبَا

وَحَوْلَهُ مَنَازِلًا لأَهْلِهِ

وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ فِي ظِلِّهِ

طَابَتْ بِهِ طَيْبَةُ مِنْ بَعْدِ الرَّدَى

أَشْرَقَ مَا قَدْ كَانَ مِنْهَا أَسْوَدَا

كَانَتْ لَمِنْ أَوْبَأِ أَرْضِ اللَّهِ

فَزَالَ دَاؤُهَا بِهَذَا الْجَاهِ

وَنَقَلَ اللَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَةِ

مَا كَانَ مِنْ حُمَّى بِهَا لِلْجُحْفَةِ

(1)

"الفتح" 7/ 291.

ص: 72

وَلَيْسَ دَجَّالٌ وَلَا طَاعُونُ

يَدْخُلُهَا فَحِرْزُهَا حَصِينُ

انتهى المقصود من كلام الحافظ العراقيّ رحمه الله.

[تنبيه آخر]: ذكر في "شرف المصطفى" أنه لَمّا نزلت الناقة عند دار أبي أيوب، جَعَل جبار بن صخر يَنْخَسها برجله، فقال أبو أيوب: يا جبار أَعَنْ منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام لضربتك بالسيف.

وهو: جبار بن صخر بن أمية بن خنساء السلميّ، ويقال: جابر بن صخر الأنصاريّ، شَهِد العَقَبة وبدرًا، وهو صحابيّ كبير.

رَوَى محمد بن إسحاق، عن أبي سعد الخطميّ سمع جبار بن عبد اللَّه، قال: صليت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنا وجابر بن صخر، فأقامنا خلفه، والصحيح أن اسمه جبار بن صخر.

وذكر محمد بن إسحاق في "كتاب المبتدأ، وقصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-" تألِيفِهِ أن تُبَّعًا، وهو ابن حسان، لَمّا قدم مكة قبل مولد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بألف عام، وخرج منها إلى يثرب، وكان معه أربعمائة رجل من الحكماء، فاجتمعوا وتعاقدوا على أن لا يخرجوا منها، وسألهم تُبَّعٌ عن سِرّ ذلك، فقالوا: إنا نجد في كتبنا أن نبيًا اسمه محمد، هذه دار مُهَاجَرِه، فنحن نقيم لعل أن نلقاه، فأراد تُبّع الإقامة معهم، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارًا، واشترى له جاريةً، وزوّجها منه، وأعطاهم مالًا جزيلًا، وكتابًا فيه إسلامه، وقوله:

شَهِدتُ عَلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ

رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِئِ النَّسَمِ

في أبيات، وختمه بالذهب، ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا من أدركه من ولده، وبنى للنبيّ صلى الله عليه وسلم دارًا ينزلها، إذا قدم المدينة، فتداول الدار الملّاك إلى أن صارت لأبي أيوب رضي الله عنه، وهو من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، قال: وأهل المدينة من ولد أولئك العلماء الأربعمائة، ويزعُم بعضهم أنهم كانوا الأوس والخزرج، ولما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرسلوا إليه كتاب تُبَّع مع رجل يسمى أبا ليلى، فلما رآه قال:"أنت أبو ليلى، ومعك كتاب تبع الأول"، فبقي أبو ليلى متفكرًا، ولم يعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: من أنت؟ فإني لم أر في وجهك أثر السحر، وتوهّم أنه

ص: 73

ساحر، فقال صلى الله عليه وسلم:"أنا محمد، هات الكتاب"، فلما قرأه قال:"مرحبًا بتُبّع الأخ الصالح" ثلاث مرات.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ساق أهل التواريخ هذه الحكاية، فاللَّه تعالى أعلم بصحّتها.

وفي "معجم الطبرانيّ": "لا تُسُبّوا تُبّعًا".

وأخرج أحمد في "مسنده" عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسبوا تُبّعًا، فإنه كان قد أسلم"

(1)

.

و"تُبَّعُ" -بضم التاء المثناة من فوقُ وفتح الباء المشددة، وفي آخره عين مهملة- لَقَبٌ لكل مَن مَلَك اليمن، ككسرى لقب لكل من ملك الفُرْس، وقيصر لكل من ملك الروم.

وقال عكرمة: إنما سُمّي به؛ لكثرة أتباعه، أفاده في "العمدة"

(2)

.

(قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم"(يُصَلِّي حَيْث أَدْرَكتْهُ الصَّلَاة) وفي رواية البخاريّ: "وكان يُحبّ أن يُصلّي حيث أدركته الصلاة".

يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يُصلّي في أيّ موضع أدركه فيه وقت الصلاة؛ مبادرةً إليها في أول وقتها.

(وَيُصَلِّي فِي مَرَابِض الْغَنَمِ) جمع مَرْبِضٍ، كمجلسٍ، ومَقْعَدٍ: وهو مأوى الغنم ليلًا، يقال: رَبَضَت الدابّة رَبْضًا، من باب ضَرَبَ، ورُبُوضًا، وهو مثلُ بُرُوك الإبل

(3)

.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذا موافق لحديث: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، فأيما رجل أدركته الصلاة، فعنده مسجده، وطَهوره"، ولحديث:"الأرضُ لك مسجدٌ، فأينما أدركتك الصلاة فصلّهْ، فإنه لك مسجد". انتهى.

(1)

حديث صحيح بشواهده، راجع:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله (5/ 548).

(2)

"عمدة القاري" 4/ 260 - 261.

(3)

راجع: "القاموس"، و"المصباح" في مادّة ربض.

ص: 74

(ثُمَّ إِنَّهُ) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعها في محلّ الابتداء، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

وضمير "إنه" للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا فاعل قوله:(أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ) والفعل مبنيّ للفاعل، أي أَمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه ببناء المسجد.

قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه "أَمَرَ" بفتح الهمزة والميم، و"أُمِرَ" بضم الهمزة، وكسر الميم، وكلاهما صحيح. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: فنائب الفاعل على الضبط الأخير ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل الضبط الأول، وكذا ضمير "إنه" له أيضًا، وأما ما قاله العينيّ من أن ضمير "إنه" في هذه الحالة للشأن ففيه نظر لا يخفى، يعني أن أللَّه تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَأَرْسَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلَى مَلِإ بَنِي النَّجَّارِ) بالإضافة، وفي رواية البخاريّ:"إلى ملإ من بني النجّار"(فَجَاءُوا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي) أي قرّروا معي ثمنه، وبيعونيه بالثمن، يقال: ثامنتُ الرجل في المبيع أُثَامِنه: إذا قاولته في ثمنه، وساومته على بيعه واشترائه، قاله في "اللسان".

قال الخطابيّ رحمه الله: فيه أن صاحب السلعة أحقّ بالسوم، فإنه صلى الله عليه وسلم طلب منهم أن يذكروا له الثمن، ولم يقطع فيها من عنده. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِحَائِطِكُمْ هَذَا") متعلّق بـ "ثامنوني"، والإشارة إلى بستان هناك، و"الحائط": البستان من النخيل، إذا كان عليه حائطٌ، وهو الجدار، وجمعه الحوائط، قاله في "اللسان".

وقال في "العمدة": الحائط هنا: البستان، يدلّ عليه قوله:"وفيه نخل، وبالنخل فقُطِع"، وفي لفظ:"كان مِرْبَدًا"، وهو الموضع الذي يجعل فيه التمر ليُجَفّف. انتهى.

(قَالُوا) أي ملأ بني النجّار (لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ) وفي نسخة: "ما نطلب ثمنه"، وأصل الكلام:"واللَّه لا نطلُب ثمنه"، فاعتُرض بالقسم بين "لا"

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 390.

ص: 75

والفعل؛ للتأكيد، وكُرّرت "لا" للتأكيد أيضًا (إِلَّا إِلَى اللَّهِ) أي إلا من اللَّه، فـ "إلى" بمعنى "من"، على حد قول الشاعر [من الطويل]:

تَقُولُ وَقَدْ عَالَيْتُ بِالْكُورِ فَوْقَهَا

ايُسْقَى فَلَا يَرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا

أي تقول الناقة بلسان الحال ذلك، و"الْكُور": الرحل، و"السقيُ" بمعنى الركوب مجازًا، و"إليّ" بمعنى "منّي"

(1)

.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: ما حاصله: لا نطلُب ثمن المصروف في سبيل اللَّه إلا من اللَّه، وأطلق الثمن على سبيل المشاكلة، ثم قال: فإن قلت: الطلب يُستعمل بـ "مِنْ"، فالقياس أن يقال: إلا من اللَّه، قلت: معناه: لا نطلُب الثمن من أحد، لكنه مصروف إلى اللَّه تعالى.

وتعقّبه العينيّ رحمه الله بأن هذا تعسّف مع تطويل، بل معناه: لا نطلب الثمن إلا من اللَّه تعالى، وكذا وقع عند الإسماعيليّ:"لا نطلب ثمنه إلا من اللَّه"، وقد جاء "إلى" في كلام العرب للابتداء، كقوله:

إِلَيَّ ابْنُ حْمَرَا

ويجوز أن تكون "إلى" ههنا على معناها لانتهاء الغاية، ويكون التقدير: نُنْهِي طلب الثمن إلى اللَّه تعالى، كما في قولهم:"أَحمَدُ إليك اللَّه"، والمعنى:"أُنْهِي حمده إليك"، والمعنى لا نطلب منك الثمن، بل نتبرع به، ونطلب الثمن أي الأجر من اللَّه تعالى. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: ظاهر هذه الرواية يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتره منهم، ولم يأخذوا منه ثمنًا، لكن وقع في "صحيح البخاريّ" في "الهجرة" ما ظاهره مخالف له، ففيه: قال: "ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس، حتى بركت عند مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلّي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مِرْبَدًا للتمر، لسُهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زُرارة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته: هذا -إن شاء اللَّه- المنزل.

ثم دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالْمِرْبد؛ ليتخذه مسجدًا،

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 70 - 71 بنسخة "حاشية الأمير".

(2)

"عمدة القاري" 4/ 261.

ص: 76

فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول اللَّه، فأبى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبةً حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا. . . " الحديث.

فهذه الرواية تدلّ على أنه اشتراه منهما، وذَكَر أهل السير ما يدلّ على أنهم أخذوا الثمن، فقد ذكر ابن سعد في "الطبقات" عن الواقديّ، عن معمر، عن الزهريّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يُعطيهما ثمنه"، قال: وقال غير معمر: أعطاهما عشرة دنانير.

وقد أجاب في "الفتح" عن هذا بما حاصله أنه لا منافاة بينهما؛ لأنه يُجمع بأنهم لَمّا قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه، سأل صلى الله عليه وسلم عمن يختصّ بملكه منهم، فعيّنوا الغلامين، فابتاعه منهما، فحينئذ يَحْتمل أن يكون الذين قالوا له: لا نطلب ثمنه إلا إلى اللَّه تحمّلوا عنه للغلامين بالثمن، وعند الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه. انتهى

(1)

.

وقال في "المنهل" بعد ذكر نحو ما تقدّم: ويُجمع بين رواية الواقديّ وما بعدها بأن أبا بكر رَغِبَ في الخير كما رغب فيه أسعد، وأبو أيوب، ومعاذ بن عفراء، فدفع أبو بكر العشرة، ودفع كلّ من أولئك ما دفع، فاشتركوا في الثمن. انتهى

(2)

، وهو جمع حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الحافظ ابن رجب بعد ذكر رواية الواقديّ المتقدّمة ما نصّه: وهذا إن صحّ يدلّ على أن الغلامين كانا قد بلغا الحلم، وحديث أنس أصحّ من رواية يرويها الواقديّ، عن معمر وغيره، عن الزهريّ مرسلةً، فإن مراسيل الزهريّ لو صحّت عنه، فهي من أضعف المراسيل، فكيف إذا تفرّد بها الواقديّ؟. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لكن فيه أن رواية الواقدي موافقة لما في "صحيح البخاريّ" في "الهجرة"، إلا في دفع أبي بكر رضي الله عنه الثمن، فلا وجه لطعن ابن رجب للرواية، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (فَكَانَ فِيهِ) أي في الحائط الذي بُنِي في مكانه المسجدُ

(1)

"الفتح" 7/ 290.

(2)

"المنهل العذب المورود" 4/ 56.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 297.

ص: 77

(مَا أقولُ)"ما" موصولة اسم "كان" وخبره "فيه" مقدّمًا، وقوله:(كانَ فِيهِ نَخْلٌ) بيان لـ "ما أقول"، و"النخل": اسم جمع الواحدة: نخلة، وكلُّ جمع بينه وبين واحده الهاءُ، قال ابن السِّكّيت: فأهل الحجاز يُؤَنِّثُون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البرّ، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجد، وتميم يُذَكِّرون، فيقولون: نخلٌ كريم، وكريمةٌ، وكرائم، وفي التنزيل:{نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، و {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وأما "النِّخِيلُ" بالياء فمؤنثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذلك، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَخِرَبٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه بفتح الخاء المعجمة، وكسر الراء، قال القاضي عياض رحمه الله: رويناه هكذا، ورويناه بكسر الخاء وفتح الراء، وكلاهما صحيح، وهو: ما تَخَرّب من البناء.

وقال الخطابيّ: لعل صوابه خُرْب بضم الخاء، جمع خُرْبة بالضم، وهي الخروق في الأرض، أو لعله حرف.

قال القاضي: لا أدري ما اضطرّه إلى هذا، يعني أن هذا تكلف لا حاجة إليه، فإن الذي ثبت في الرواية صحيح المعاني، لا حاجة إلى تغييره؛ لأنه كما أَمَرَ بقطع النخل لتسوية الأرض أمر بالخَرِبِ فرفعت رسومها، وسُوّيت مواضعها؛ لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين، وكذلك فُعِل بالقبور. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الْخِرَب" يجوز أن يكون بكسر الخاء، وفتح الراء: جمع خَرِبَة، كنَقِمَة ونِقَمٍ، ويجوز أن تكون جمع خِرْبة بكسر الخاء، وسكون الراء على التخفيف، كنِعْمَة ونَعَمٍ، ويجوز أن يكون الَخَرِبُ بفتح الخاء، وكسر الراء، كنَبِقَة ونَبِقٍ، وكَلِمَة وكَلِمٍ، وقد رُوي بالحاء المهملة، والثاء المثلثة: يريد به الموضع المحروث للزراعة. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قال ابن الجوزيّ: المعروف فيه فتح الخاء المعجمة، وكسر الراء، بعدها مُوَحَّدةٌ: جمع خَرِبة، ككَلِم وكَلِمة.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 596 - 597.

(2)

"شرح النووي" 5/ 7.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 18.

ص: 78

قال الحافظ: وكذا ضُبِط في "سنن أبي داود"، وحَكَى الخطابيّ أيضًا كسر أوله، وفتح ثانيه، جمع خِرَبةٍ، كعِنَب وعِنَبَة، وللكشميهنيّ "حَرْثٌ" بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء، بعدها مثلثة، وقد بَيَّن أبو داود أن رواية عبد الوارث بالمعجمة والموحدة، ورواية حماد بن سلمة، عن أبي التياح بالمهملة والمثلثة، فعلى هذا فرواية الكشميهنيّ وَهَمٌ؛ لأن البخاريّ إنما أخرجه من رواية عبد الوارث.

وقال الخطابيّ: أكثر الرواة بالفتح ثم الكسر، وحُدِّثناه "الخِرَب" بالكسر ثم الفتح، ثم حَكَى احتمالات: منها "الْخُرْب"، بضم أوله، وسكون ثانيه، قال: هي الخروق المستديرة في الأرض، و"الْجِرَف"، بكسر الجيم، وفتح الراء، بعدها فاء: ما تجرفه السيول، وتأكله من الأرض، و"الْحَدَب"، بالمهملة وبالدال المهملة أيضًا: المرتفع من الأرض، قال: وهذا لائق بقوله: "فَسُوِّيت"؛ لأنه إنما يُسَوَّى المكان المحدوب، وكذا الذي جرفته السيول، وأما الخراب فيُبنى، ويُعَمَّر دون أن يُصْلَح، ويُسَوَّى.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وما المانع من تسوية الخراب، بأن يزال ما بقي منه، ويُسَوّى أرضه، ولا ينبغي الالتفات إلى هذه الاحتمالات، مع توجيه الرواية الصحيحة. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة" بعد ذكر ما قاله الخطابيّ: قال عياض: هذا التكلف لا حاجة إليه، فإن الذي ثبت في الرواية صحيح المعنى، كما أَمَر يقطع النخل لتسوية الأرض، أمر بالْخِرَب فرُفِعت رسومها، وسُوِّيت مواضعها؛ لتصير جميع الأرض مبسوطةً، مستوية للمصلين، وكذلك فُعِل بالقبور، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" بسند صحيح:"وأَمَر بالحرث، فحُرِث"، وهو الذي زعم ابن الأثير أنه روي بالحاء المهملة، والثاء المثلثة، يريد الموضع المحروث للزراعة

(2)

.

(فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ) بالبناء للمفعول، أي أمر بقطع النخل، فقُطع، وهذا كما قال في "الفتح" محمول على أنه لم يكن يُثمر، أو يُثمر، ولكن دعت الحاجة إليه؛ ليُمكن بناء المسجد في ذلك المكان. انتهى.

(1)

"الفتح" 7/ 312.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 262.

ص: 79

(وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ) بالبناء للمفعول أيضًا، قال ابن بطال رحمه الله: لم أَجِد في نبش قبور المشركين لتُتَّخَذ مسجدًا نصًّا عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا هل تُنْبَش بطلب المال؟ فأجازه الجمهور، ومنعه الأوزاعيّ، وهذا الحديث حجة للجواز؛ لأن المشرك لا حرمة له حيًّا ولا ميتًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ) أي وأمر بالخِرَب أن تُسوّى، أي تُعَدَّل، فسُوّيت، أي فعُدِّلت، يقال: سَوَّيتُ المكان: إذا عدّلته

(2)

، وإنما أَمَر بذلك لتستوي الأرض، فتصلح لبناء المسجد عليها.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَصَفُّوا النَّخْلَ) من صَفَّ القومَ، من باب ردّ: إذا أقامهم صفًّا واحدًا، قاله في "المختار"(قِبْلَةً) منَصوب الظرفيّة على حذف مضاف، أي جهة قبلة، وفي نسخة:"قبلةً له"، وفي رواية البخاريّ:"فَصَفّوا النخل قبلةَ المسجد"، والمراد أنهم جعلوها سواري جهة القبلة؛ ليُسقف عليها، أفاده في "المنهل".

وفي "مغازي ابن بكير" عن ابن إسحاق: "جُعِلَت قبلةُ المسجد من اللَّبِنِ"، ويقال: بل من حجارة منضودة، بعضها على بعض، وفي "صحيح البخاريّ" عن ابن عمر رضي الله عنه: أن المسجد كان على عهده صلى الله عليه وسلم مَبْنِيًّا باللَّبِن، وسَقْفُهُ الجريد، وعَمَدُهُ خَشَب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئًا.

قال في "العمدة": ولعل المراد بالقبلة جهتها، لا القبلة المعهودة اليوم، فإن ذلك لم يكن ذلك الوقت.

وورد أيضًا أنه كان في موضع المسجد الغرقد، فأَمَر أن يُقْطَع، وكان في المربد قبور جاهليةٌ، فأَمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنُبِشت، وأَمَر بالعظام أن تُغَيَّب، وكان في المربد ماء مُسْتَنْجِلٌ، فستره حتى ذهب، وهو: من النجل وهو الماء القليل، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مربع، ويقال: كان أقل من المائة، وجعلوا الأساس قريبًا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللَّبِن، وجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَّبِن والحجارة بنفسه، ويقول:

(1)

7/ 312.

(2)

"المصباح" 1/ 298.

ص: 80

هَذا الْحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرَ

هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ

وجَعَل قبلته إلى القدس، وجَعَل له ثلاثة أبواب: بابًا في مؤخره، وبابًا يقال له: باب الرحمة، وهو الباب الذي يُدْعَى باب العاتكة، والثالث: الذي يدخل منه عليه الصلاة والسلام وهو الباب الذي يلي آل عثمان، وجَعل طول الجدار قامة وبسطة، وعَمَده الجذوع، وسقفه جريدًا، فقيل له: ألا تُسَقِّفه، فقال: عَرِيش كعريش موسى، خُشيبات، وتمام الأمر أعجل من ذلك.

وفي "الصحيح" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن المسجد كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مبنيًا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبًا، ثم غَيَّره عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة، والقَصَّة، وجَعَل عَمَده حجارة منقوشة، وسقفه بالساج.

وفي "الإكليل": ثم بناه الوليد بن عبد الملك في إمرة عمر بن عبد العزيز، وفي "الروض": ثم بناه المهديّ، ثم زاد فيه المأمون، ثم لم يبلغنا تغيره إلى الآن، ذكره في "العمدة"

(1)

.

(وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً) أي بَنَوا جانبي الباب بحجارة، و"العضادتان" -بكسر العين المهملة، وتخفيف المعجمة-: تثنية عِضَادة، وهي الخشبة التي على جانب الباب، ولكل باب عضادتان، وأعضادُ كلِّ شيء ما يَشُدُّ جوانبه، قاله في "الفتح".

وفي "العمدة": "العِضَادة" بكسر العين، قال ابن التيانيّ في "الموعب": قال أبو عمر: هي جانب الحوض، وعن صاحب "العين": أعضادُ كل شيء ما يَشُدُّه من حواليه، من البناء وغيره، مثال عِضَاد الحوض، وهي صفائح من حجارة، يُنْصَبْن على شَفِيره، وعضادتا الباب: ما كان عليهما يُطَبَّق الباب، إذا أُصفق، وفي "التهذيب" للأزهريّ: عضادتا الباب: الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله، وزاد القزاز: فوقهما العارضة. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ) أي يقولون الرجز، ويتعاطونه،

(1)

"عمدة القاري" 4/ 262 - 263.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 263.

ص: 81

و"الرجَز" -بفتحتين-: نوعٌ من أوزان من الشعر معروفٌ، أجزاؤه "مستفعلن" ستّ مرّات، ورَجَز الرجل يَرْجُز، من باب نصر: إذا قال شعر الرجز، وارتجز مثله، وقد اختَلَفَ العروضيون، وأهل الأدب في الرجز، هل هو شعر أم لا؟، والصحيح أنه شعر، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

(وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ) جملة حاليّة من فاعل "يرتجزون"، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم مصاحب لهم في نقل الحجارة، والارتجاز.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ليس فيه دليل راجح على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان المنشد، بل الظاهر منهم أنهم هم كانوا المرتجزين بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن الواو للحال، و"رسول اللَّه" مبتدأ، و"معهم" خبره، والجملة في موضع الحال، هذا هو الظاهر.

ويَحْتَمِلُ أن يكون معطوفًا على المضمر في "يرتجزون". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل الاحتمال الثاني هو الظاهر، يؤيّده ما وقع في بعض الرواية:"وهو يرتجز معهم"، وفي حديث البراء رضي الله عنه قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وهو ينقل التراب. . . وفيه:"وهو يرتجز برجز عبد اللَّه بن رواحة"، متّفق عليه، فدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتجز بنفسه، ويُنشد شعر غيره، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(وَهُمْ يَقُولُونَ) جملة حاليّة أيضًا، فالحالان إما متداخلان، ولا خلاف فيه، أو مترادفان، وفيه خلاف، وقد تقدّم تحقيقه، وفي رواية البخاريّ في "الصلاة:"وهو يقول"، فالضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية له في "الهجرة" من طريق الزهريّ: وطَفِقَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبِنَ في بنيانه، ويقول، وهو ينقل اللبِنَ:

هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرْ

هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ

ويقول:

اللَّهُمَّ إِنّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ

فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ

(اللَّهُمَّ) معناه: يا اللَّهُ، وقال البصريّون: اللَّهمّ دعاء بِجْمِيع أسمائه؛ إذ

(1)

"المفهم" 2/ 124.

ص: 82

الميم تُشعر بالجمع، كما في "عليهم"، وقال الكوفيون: أصله اللَّهُ أُمَّنا بخير، أي اقصِدْنا، فخُفِّف، فصار اللهم (إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ) وفي رواية أبي داود:"اللهم إنّ الخير خير الآخرة"(فَانْصُرِ الأنْصَارَ) هكذا رواية المصنّف "فانصر"، وهي رواية البخاريّ في "الهجرة"، ورواية أبي داود أيضًا، ووقع في رواية للبخاريّ:"فاغفر للأنصار" قال في "العمدة": كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي، والحمويّ:"فاغفر الأنصارَ" بحذف اللام، ووجهه أن يُضَمَّنَ "اغْفِرْ" معنى "استُرْ"، و"الأنصار": جمع نَصِير، كأشراف جمع شريف، والنصير الناصر، مِن نَصَره اللَّه على عدوّه ينصره نصرًا، والاسم النُّصْرة بالضمّ، وسُمُّوا بذلك؛ لأنهم آووا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعزّروه، ونصروه، واتّبعوا النور الذي أُنزل معه رضي الله عنهم.

(وَالْمُهَاجِرَهْ) أي الجماعة المهاجرة، وهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة النبوية؛ محبةً فيه، وطلبًا للآخرة.

والهجرةُ في الأصل من الْهَجْر ضِدّ الوصل، وقد هَجَره يَهْجُره هجرًا، من باب نصر، وهِجْرانًا: إذا قطعه، وترك وصله، ثم غَلَب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية، يقال منه: هاجر مُهاجرةً.

وقال الكرمانيّ: واعلم أنه لو قُرئ هذا البيت بوزن الشعر ينبغي أن يوقف على "الآخرة"، و"المهاجرة"، إلَّا أنه قيل: إنه قرأهما بالتاء متحركة خروجًا عن وزن الشعر. انتهى.

وتعقّب الحافظ كلام الكرمانيّ هذا بأنه لم يذكر مستنده، وبأن قوله في رواية البخاريّ في "الهجرة":"فتمثل بشعر رجل من المسلمين"

(1)

، أي فإن كونه شعرًا ينافي قراءته بتحريك التاء، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 29.

ص: 83

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 1178 و 1179 و 1180](524)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(234)، و"الصلاة"(428 و 429)، و"فضائل المدينة"(1868)، و"البيوع"(2106)، و"الوصايا"(2771 و 2774 و 2779)، و"مناقب الأنصار"(3932)، و (أبو داود) في "الصلاة"(453 و 454)، و (الترمذيّ) فيها (350)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 39 - 40)، و (ابن ماجه) فيها (742)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2085)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 211 - 212)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2328)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4180)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1177 و 1178)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1159 و 1160)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 438)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3765)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ابتداء بناء المسجد النبويّ.

2 -

(ومنها): جواز الإرداف، وذلك إذا كانت الدابة تطيق ذلك.

3 -

(ومنها): مشروعيّة الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام.

4 -

(ومنها): جواز الْتِفَاف المرؤوسين حول رئيسهم؛ احترامًا له.

5 -

(ومنها): أن للرئيس أن يخصّ بعض قومه بالنزول عنده، إذا كان قريبًا له؛ تقديمًا لحقّ القرابة.

6 -

(ومنها): استحباب المبادرة لأداء الصلاة في أول وقتها في أيّ مكان حضرت.

7 -

(ومنها): جواز الصلاة في مرابض الغنم، وقد أخرج الترمذيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا في مرابض الغنم، ولا تُصَلوا في أَعْطان الإبل"، وقال: حسنٌ صحيح.

8 -

(ومنها): بيان طهارة أبعار الغنم وأبوالها، وهو القول الراجح، وقد تقدّم تحقيقه في "كتاب الطهارة"، وباللَّه تعالى التوفيق.

9 -

(ومنها): استحباب المبادرة ببناء المسجد قبل بناء المنازل.

10 -

(ومنها): مشروعيّة بيع الأرض وشرائها، ومنع اغتصابها.

ص: 84

11 -

(ومنها): جواز التبرّع للَّه تعالى بما يملكه من الأراضي.

12 -

(ومنها): جواز نبش القبور الدارسة، وأنه إذا أُزيل ترابها المختلط بصديدهم ودمائهم، جازت الصلاة في تلك الأرض، وجاز اتخاذ موضعها مسجدًا إذا طُيِّبت أرضه.

13 -

(ومنها): أن الأرض التي دُفِن فيها الموتى، ودَرَسَت يجوز بيعها، وأنها باقية على ملك صاحبها، وورثتِهِ من بعده إذا لم توقف، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال في "العمدة": فيه جواز نبش قبور المشركين؛ لأنه لا حرمة لهم، ويجوز نبش عظامهم، ونقلها من الأرض؛ للانتفاع بالأرض إذا احتيج إلى ذلك.

[فإن قلت]: كيف يجوز إخراجهم من قبورهم، والقبر مختصّ بمن دُفن فيه، فقد حازه فلا يجوز بيعه ولا نقله عنه؟.

[قلت]: تلك القبور التي أَمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم بنبشها لم تكن أملاكًا لمن دُفِن فيها، بل لعلها غُصِبت، فلذلك باعها مُلّاكها، وعلى تقدير التسليم أنها حُبِسَت فليس بلازم، إنما اللازم تحبيس المسلمين لا الكفار، ولهذا قال الفقهاء: إذا دُفِن المسلم في أرض مغصوبة يجوز إخراجه، فضلًا عن المشرك.

وقد يجاب بأنه دَعَت الضرورة، والحاجة إلى نبشهم فجاز.

[فإن قلت]: هل يجوز في هذا الزمان نبش قبور الكفار؛ لِيُتَّخَذ مكانها مساجد؟.

[قلت]: أجاز ذلك قومٌ، محتجين بهذا الحديث، وبما رواه أبو داود: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "هذا قبر أبي رِغَال، وهو أبو ثَقِيف، وكان من ثمود، وكان بالحرم يُدْفَع عنه، فلما خَرَج أصابته النِّقْمَة، فدُفن بهذا المكان، وآية ذلك أنه دُفِن معه غُصْن من ذهب، فابتدر الناس، فنبشوه، واستخرجوا الغصن"

(1)

.

قالوا: فإذا جاز نبشها لطلب المال، فنبشها للانتفاع بمواضعها أولى،

(1)

حديث ضعيف، أخرجه أبو داود برقم (3088) وفي سنده بُجير بن أبي بُجير: مجهول.

ص: 85

وليست حرمتهم موتى بأعظم منها، وهم أحياء، بل هو مأجور في ذلك.

وإلى جواز نبش قبورهم للمال ذهب الكوفيون، والشافعيّ، وأشهب بهذا الحديث.

وقال الأوزاعيّ: لا يُفْعَل؛ لأن رسول اللَّه لما مَرّ بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظَلَموا إلَّا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم"، متّفق عليه، فنهى أن يدخل عليهم مساكنهم، فكيف قبورهم؟ وقال الطحاويّ: قد أباح دخولها على وجه البكاء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي جواز نبش قبور المشركين عند الحاجة؛ لحديث الباب، ولا يعارضه حديث:"لا تدخلوا. . . إلخ"؛ لأنه يُحمل على غير الحاجة، أو كان على وجه الغفلة، واللهو دون البكاء والخشية، واللَّه تعالى أعلم.

قال: [فإن قلت]: هل يجوز أن تُبْنَى على قبور المسلمين؟.

[قلت]: قال ابن القاسم: لو أن مَقْبَرة من مقابر المسلمين عَفَت، فَبَنَى قوم عليها مسجدًا، لم أر بذلك بأسًا، وذلك لأن المقابر وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم، لا يجوز لأحد أن يملكها، فإذا دَرَست، واستُغْنِي عن الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد؛ لأن المسجد أيضًا وقف من أوقاف المسلمين، لا يجوز تملكه لأحد، فمعناهما على هذا واحد.

قال العينيّ: وذكر أصحابنا -يعني الحنفيّة- أن المسجد إذا خَرِب ودَثَر، ولم يبق حوله جماعة، والمقبرة إذا عَفَت، ودَثَرت تعود ملكًا لأربابها، فإذا عادت ملكًا يجوز أن يَبْنِي موضع المسجد دارًا، وموضع المقبرة مسجدًا، وغير ذلك، فإذا لم يكن لها أرباب تكون لبيت المال. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في عودها إلى ملك أصحابها في هذه الحالة عندي نظر؛ بل الذي يظهر في مثل هذه الحالة أن تباع، ويُصرَف ثمنها في إنشاء محلّ مسجد، أو مقبرة في مكان ينتفع به المسلمون، واللَّه تعالى أعلم.

14 -

(ومنها): جواز قطع الأشجار المثمِرَة للحاجة والمصلحة؛

(1)

"عمدة القاري" 4/ 264 - 265.

ص: 86

لاستعمال خشبها، أو لِيُغرَس موضعها غيرها، أو لخوف سقوطها على شيء تُتلفه، أو لاتخاذ موضعها مسجدًا، أو قطعها في بلاد الكفار، إذا لم يُرْجَ فتحها؛ لأن فيه نكايةً وغيظًا لهم، وإضعافًا وإرغامًا.

قال ابن رجب رحمه الله: وقد نصّ أحمد على جواز القطع إذا كانت في داره نخل وضيَّقت عليه، فلا بأس أن يقطعها.

وكره جماعة قطع الشجر الذي يُثمر، منهم الحسن، والأوزاعيّ، وإسحاق، وكره أحمد قطع السدر خاصّةً؛ لحديث مرسل، ورد فيه

(1)

، وقال: قلّ إنسان فعله إلا رأى ما يكره في الدنيا، ورخَّص في قطعه أَخرون. انتهى

(2)

.

15 -

(ومنها): جواز الارتجاز، وقول الأشعار في حال الأعمال الشاقّة، والأسفار، ونحوها؛ لتنشيط النفوس، وتحريك الهمّة، وتشجيعها على معالجة الأمور الصعبة.

قال في "الفتح": وذكر الزبير من طريق مُجَمِّع بن يزيد، قال قائل من المسلمين في ذلك [من الرجز]:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ

ذَاكَ إِذًا لَلْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ

ومن طريق أخرى عن أم سلمة رضي الله عنها نحوه، وزاد: قال: وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه[من الرجز]:

لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ الْمَسَاجِدَا

يَدْأَبُ فِيهَا قَائِمًا وَقَاعِدَا

وَمَنْ يُرَى عَنِ التُّرَابِ حَائِدَا

وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الحديث وشبهه يُستدلّ به على جواز إنشاد الشعر، والاستعانة بذلك على الأعمال، والتنشيط.

قال: ومن هنا أخذت الصوفيّة إباحة السماع، غير أنهم اليوم أفرطوا في ذلك، وتَعَدَّوا فيه الوجه الجائز، وتذرّعوا بذلك إلى استباحة المحرّمات من أصناف الملاهي، كالشّبابات، والطارات، والرقص، وغير ذلك، وهذه أفعال

(1)

حديث ضعيف للاضطراب فيه.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 214.

ص: 87

الْمُجّان، أهل البطالة والفسوق المدخلين في الشريعة ما ليس منها - أعاذنا اللَّه تعالى من ذلك بمنّه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

16 -

(ومنها): جواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها، وإخراج ما فيها.

17 -

(ومنها): أن ما ورد في كراهة البناء مختصّ بما زاد على الحاجة، أو لم يكن في أمر دينيّ، كبناء المساجد.

18 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، وكمال الخُلُق حيث ينقل الصخر والتراب معهم، ويُجيبهم في شعرهم.

19 -

(ومنها): أن الخير كلَّ الخير هو خير الآخرة؛ لكونه لا ينقطع بخلاف خير الدنيا، فإنه سريع الزوال، قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، وقال:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]، إلى غير ذلك من الآيات.

20 -

(ومنها): استحباب الدعاء بالنصر للمسلمين.

21 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": واحتجّ من أجاز بيع غير المالك بهذه القصّة؛ لأن المساومة وقعت مع غير الغلامين.

وأجيب باحتمال أنهما كانا من بني النجّار فساومهما، وأشرك معهما في المساومة عمّهما الذي كانا في حَجْره. انتهى.

22 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وفي بنائه صلى الله عليه وسلم مسجده بالجذوع والجريد دليلٌ على ترك الزَّخْرفة في المساجد، والتأَنُّق فيها، والإسراف، بل قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يقتضي النهي عن زخرفتها، وتشييدها، فقال:"ما أُمرتُ بتشييد المساجد"، وقال ابن عبّاس:"لتزخرفُنّها كما زَخرفت اليهود والنصارى". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحديث هذا أخرجه أبو داود في "سننه" بسند

(1)

"المفهم" 2/ 124.

(2)

"المفهم" 2/ 123.

ص: 88

صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما أُمرت بتشييد المساجد"، قال ابن عباس:"لتزخرِفُنَّها كما زَخْرَفت اليهود والنصارى"

(1)

.

وقال البخاريّ في "صحيحه": "باب بنيان المسجد"، وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أَكِنّ الناس من المطر، وإياك أن تُحَمِّر، أو تُصَفِّر، فتفتن الناس، وقال أنس: يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا، وقال ابن عباس: لتزخرفُنّها كما زخرفت اليهود والنصارى. انتهى.

23 -

(ومنها): ما قاله ابن رجب رحمه الله: في الحديث دليل على طهارة الأرض بالاستحالة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم عند نبش الأرض بإزالة تراب القبور، ولا تطهيرها، ولو فَعَل ذلك لما أهمل تعلّمه؛ للحاجة إليه، ويدلّ عليه أيضًا أن الصحابة رضي الله عنه كانوا يخوضون الطين في الطرقات، ولا يغسلون أرجلهم، والنجاسات مُشاهدة في الطرقات، فلو لم تَطْهُر بالاستحالة لما سومح في ذلك، وهذا قول طائفة من العلماء من السلف، كأبي قلابة وغيره، ورجحه بعض الحنابلة، وهو رواية عن أبي حنيفة، والمشهور عنه أن الأرض النجسة إذا جفّت، فإنه يصلي عليها، ولا يتيمّم بها، ومذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وغيرهم أنها نجسة بكلّ حال. انتهى

(2)

.

24 -

(ومنها): ما قاله ابن رجب أيضًا: في الحديث دليلٌ على أن بيع الأرض التي في بعضها قبور صحيح؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم طلب شراء هذا الْمِربد، وهذه المسألة على قسمين:

[أحدهما]: أن يكون المقبور في الأرض يجوز نبشه، ونقله كأهل الحرب، ومن دُفن في مكان مغصوب، فهذا لا شكّ في صحّة البيع للأرض كلّها، ويُنقل المدفون فيها، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بنقل عظام المشركين.

[والثاني]: أن يكون المقبور محترمًا، لا يجوز نبشه، فلا يصحّ بيع موضع القبور خاصّة، وهل يصحّ في الثاني؟ يُخرّج على الخلاف في تفريق

(1)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه" برقم (448).

(2)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 212.

ص: 89

الصفة. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم هل ينشد النبيّ صلى الله عليه وسلم شعرًا أم لا؟

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف أهل العروض، والأدب في الرجز، هل هو شعر أم لا؟، واتفقوا على أن الشعر لا يكون شعرًا إلا بالقصد، أما إذا جَرَى كلام موزون بغير قصد، فلا يكون شعرًا، وعليه يُحْمَل ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ لأن الشعر حرام عليه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف أصحاب العروض، وعلم الشعر في أعاريض الرجز، هل هي من الشعر؟ الصحيح أنه من الشعر؛ لأن الشعر هو كلام موزون تُلْتَزَم فيه القوافي، والرجز كذلك، وأيضًا فإن قريشًا لَمّا اجتمعوا، وتراؤوا فيما يقولون للناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال قائل: نقول: هو شاعر، فقالوا: واللَّه لتكذّبنّكم العرب، قد عرفنا الشعر كلّه، هزجه، ورجزه، ومقبوضه، ومبسوطه، فذكروا الرجز من جملة أنواع الشعر.

وإنما أخرجه من جنس الشعر مَن أشكل عليه إنشاد النبيّ صلى الله عليه وسلم إياه، فقال: لو كان شعرًا لَمَا عَلِمه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللَّه تعالى قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69]، قال: وهذا ليس بشيء؛ لأن من أنشد القليل من الشعر، أو قاله، أو تمثل به على وجه الندور، لم يستحقّ اسم شاعر، ولا يقال فيه: إنه يعلم الشعر، ولا يُنسب إليه، ولو كان كذلك للزم أن يُطلَق على الناس كلّهم أنهم شُعراء، ويعلمون الشعر؛ لأنهم لا يخلون أن يعرفوا كلامًا موزونًا مرتبطًا على أعاريض الشعر. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح" عند قول ابن شهاب بعد روايته حديث الباب: "ولم يبلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تمثّل ببيت شعر تامّ غير هذه الأبيات"، وزاد ابن عائذ في آخره:"التي كان يرتجز بهنّ، وهو ينقل اللَّبِن لبناء المسجد".

قال ابن التين: أُنكر على الزهريّ هذا من وجهين:

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 2/ 214.

(2)

"شرح النووي" 5/ 8.

(3)

"المفهم" 2/ 123 - 124.

ص: 90

[أحدهما]: أنه رجزٌ، وليس بشعر، ولهذا يقال لقائله: راجزٌ، ويقال: أنشد رجزًا، ولا يقال له: شاعرٌ، ولا أنشد شعرًا.

[والوجه الثاني]: أن العلماء اختلفوا هل ينشد النبيّ صلى الله عليه وسلم شعرًا أم لا؟، وعلى الجواز هل ينشد بيتًا واحدًا، أو يزيد؟ وقد قيل: إن البيت الواحد ليس بشعر، وفيه نظرٌ. انتهى.

والجواب عن الأول أن الجمهور على أن الرجز من أقسام الشعر، إذا كان موزونًا، وقد قيل: إنه كان صلى الله عليه وسلم إذا قال ذلك لا يُطْلِق القافية، بل يقولها متحركة التاء، ولا يثبت ذلك.

وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في غزوة الخندق بلفظ: "فاغفر للمهاجرين والأنصار"، وهذا ليس بموزون.

وعن الثاني بأن الممتنع عنه صلى الله عليه وسلم إنشاؤه، لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلًا، وقول الزهريّ:"لم يبلغنا" لا اعتراض عليه فيه، ولو ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنشد غير ما نقله الزهريّ؛ لأنه نَفَى أن يكون بلغه، ولم يُطْلِق النفي المذكور، على أن ابن سعد رَوَى عن عفّان، عن معتمر بن سليمان، عن معمر، عن الزهريّ قال: لم يقل النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا من الشعر، قيل: قبله، أو يُرْوَى عن غيره إلا هذا، كذا قال، وقد قال غيره: إن الشعر المذكور لعبد اللَّه بن رواحة، فكأنه لم يبلغه، وما في "الصحيح" أصحّ، وهو قوله:"شعر رجل من المسلمين". انتهى

(1)

.

وقد ذكر العلامة أبو عبد اللَّه القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]: ما نصّه: إصابة الوزن أحيانًا لا يوجب أنه يَعْلَم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزن، كقوله يوم حنين وغيره:

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ

وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ

وقوله:

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

(1)

"الفتح" 7/ 291.

ص: 91

فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام، وليس ذلك شعرًا، ولا في معناه، كقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقوله:{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقوله:{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد ذكر ابن العربيّ منها آيات، وتكلم عليها، وأخرجها عن الوزن، على أن أبا الحسن الأخفش قال في قوله:"أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ": ليس بشعر.

وقال الخليل في "كتاب العين": إنّ ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرًا، ورُوي عنه أنه من منهوك الرجز، وقد قيل: لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء، من قوله:"لَا كَذِبْ"، ومن قوله:"عَبْدِ الْمُطَّلِبْ"، ولم يُعْلَم كيف قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال ابن العربيّ: والأظهر من حاله أنه قال: "لَا كَذِب" الباء مرفوعة، وبخفض الباء من "عبد المطلب" على الإضافة.

وقال النحاس: قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرًا؛ لأنه إذا فَتَحَ الباءَ من البيت الأول، أو ضمها، أو نوّنها، وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر.

وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر، وهذا مكابرة للعيان؛ لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره، وأما قوله:"هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ" فقيل: إنه من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من "دَمِيت"، فان سكن لا يكون شعرًا بحال؛ لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول، ولا مدخل لفعول في بحر السريع، ولعل النبيّ صلى الله عليه وسلم قالها ساكنة التاء، أو متحركة التاء من غير إشباع.

والمعوَّل عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر، ويسقط الاعتراض، ولا يلزم منه أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم عالِمًا بالشعر، ولا شاعرًا أن التمثل بالبيت النزر، وإصابة القافيتين من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالِمًا بالشعر، ولا يُسَمَّى شاعرًا باتفاق العلماء، كما أن من خاط خيطًا لا يكون خياطًا.

قال أبو إسحاق الزجاج: معنى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} : وما علّمناه أن يَشْعُر، أي ما جعلناه شاعرًا، وهذا لا يمنع أن يُنْشِد شيئًا من الشعر.

ص: 92

قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا، وقد قيل: إنما أخبر اللَّه عز وجل أنه ما علّمه اللَّه الشعر، ولم يُخبِر أنه لا ينشد شعرًا، وهذا ظاهر الكلام.

وقيل فيه قولٌ بَيِّنٌ زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولًا موزونًا لا يقصد به إلى شعر، فليس بشعر، وإنما وافق الشعر، وهذا قولٌ بَيِّنٌ، قالوا: وإنما الذي نفاه اللَّه عن نبيه صلى الله عليه وسلم فهو العلم بالشعر وأصنافه وأعاريضه وقوافيه، والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفًا بذلك بالاتّفاق، ألا ترى أن قريشًا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه، إذا قَدِموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول إنه شاعر، فقال أهل الفطنة منهم: واللَّه لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون أصناف الشعر، فواللَّه ما يُشبه شيئًا منها، وما قوله بشعر، وقال أنيسٌ أخو أبي ذرّ: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر

(1)

، فلم يلتئم أنه شعر، أخرجه مسلم، وكان أنيس من أشعر العرب.

وكذلك قال عتبة بن أبي ربيعة، لما كلّمه: واللَّه ما هو بشعر، ولا كهانة، ولا سحر، وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء، واللُّسْنِ البلغاء.

ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يُعَدُّ شعرًا، وإنما يُعَدّ منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، فقد يقول القائل:"حدّثنا شيخ لنا"، وينادي:"يا صاحب الكسائي"، ولا يُعَدُّ هذا شعرًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الجواب الأخير هو أحسن الأجوبة عندي، وحاصله أن الشعر المعنيّ في قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] هو الذي يقع عن قصد، وأما ما يقع اتّفاقًا من غير قصد إليه، فلا يُعدّ شعرًا، فما وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم موزونًا، وكان ما أنشده لغيره، وما وقع في الآيات القرآنية موافقًا لأوزان بعض البحور، فليس بشعر؛ لما أسلفناه، وبهذا يزول الإشكال، ويحسن المقال، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

أقراء الشعر: أنواعه، وطرقه، وبُحوره.

ص: 93

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1179]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الرد العتكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظ متقن، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ) جمع مَرْبِضٍ -بفتح الميم، وسكون الراء، وكسر الموحّدة-: مأوى الغنم، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّبَضُ -بفتحتين- والْمَرْبِض، وزانُ مَجْلِسٍ للغنم: مأواها ليلًا، والرَّبض للمدينة ما حولها، قال ابن السِّكِّيت: والرَّبَضُ أيضًا: كلُّ ما أويت إليه من أُخت، أو امرأة، أو قرابة، أو غير ذلك، ورَبَضَت الدابّة رَبْضًا، من باب ضَرَب، ورُبُوضًا، وهو مثلُ بُرُوك الإبل. انتهى

(1)

.

وقال في "العين": الرّبَضُ": ما حول مدينة، أو قصر، من مساكن جُند، أو غيرهم، ومسكنُ كلّ قوم على حيالهم: رَبَضٌ، ويُجمع على أرباض. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: مرابض الغنم: هي مباركها،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 215.

(2)

"العين" 2/ 90.

ص: 94

ومواضع مبيتها، ووَضْعِها أجسادها على الأرض للاستراحة، قال ابن دريد: ويقال ذلك أيضًا لكل دابة من ذوات الحوافر والسباع.

واستَدَلّ بهذا الحديث مالك، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى- وغيرهما ممن يقول بطهارة بول المأكول وروثه، وقد سبق بيان المسألة في آخر "كتاب الطهارة".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد سبق هناك ترجيح مذهبهما؛ لقوّة دليله، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وفيه أنه لا كراهة في الصلاة في مُرَاح الغنم، بخلاف أعطان الإبل، وسبقت المسألة هناك أيضًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ) ببناء الفعل للمفعول، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، والمعنى: قبل أن يبني صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مسجده الشريف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1180]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ

(2)

، حَدَّثَنَا

(3)

خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيب) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

[تنبيه]: قوله: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ) هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في معظمها:"حدّثنا يحيى بن يحيى"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 8.

(2)

وفي معظم النسخ: "حدّثنا يَحْيَى بْنُ يحيى".

(3)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 95

معظم النسخ "يحيى بن يحيى"، وفي بعضها:"يحيى" فقط غير منسوب، والذي في "الأطراف" لخلف أنه يحيى بن حبيب، قيل: وهو الصواب

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كونه "يحيى بن حبيب" هو الذي صرّح به الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه"(2/ 128) فقال: "رواه مسلم عن عُبيد اللَّه بن معاذ، عن أبيه، وعن يحيى بن حبيب، عن خالد بن الحارث". انتهى.

وهو الذي مشى عليه الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف"(1/ 436 - 437) فقال: "رواه مسلم عن يحيى بن حبيب بن عربيّ"، ولم يتعقّبه الحافظ في "نكته"، وفي كلام النوويّ ما يدلّ على أنه الصواب، ولذا أثبتّه هنا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن خالد بن الحارث حدّث، عن شعبة بمثل حديث معاذ بن معاذ، عنه.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث هذه لم أجد من ساقها من طريقه، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ تَحْوِيلِ الْقِبلَةِ مِنَ الْقُدْسِ إِلَى الْكَعْبَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1181]

(525) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتي فِي الْبَقَرَةِ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا

(1)

"شرح النووي" 5/ 8.

(2)

وفي نسخة: "مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ص: 96

وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، فَنَزَلَتْ بَعْدَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَحَدَّثَهُمْ

(1)

، فَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ الأصل، ثم الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابد، اختلط بآخره [3](ت 129) أو قبلها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

4 -

(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِب) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (68) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن أبا إسحاق مشهور بالتدليس، وقد عنعن هنا، لكنه صرّح بالسماع في رواية سفيان التالية، حيث قال:"سمعت البراء"، فزال ما يُخشى منه من التدليس، وللَّه الحمد.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.

(1)

وفي نسخة: "فحدّثهم بالحديث".

ص: 97

شرح الحديث:

(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما، قد تقدّم آنفًا أن أبا إسحاق قال في رواية سفيان التالية:"سمعتُ البراء"، فانتفت تهمة التدليس عنه (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ) وفي رواية سفيان: "نحو بيت المقدس"، أي جهته، و"المقدس" -بفتح الميم، وسكون القاف، وكسر الدال- مصدر ميميّ، كالمرجِعِ، أو اسم مكان من القُدْس، وهو الطُّهْر، أي المكان الذي يُطَهَّر فيه العابد من الذنوب، أو تُطَهَّر العبادة من الأصنام، وجاء فيه ضم الميم، وفتح القاف والدال المشددة، وهو اسم مفعول من التقديس، أي التطهير، وقد جاء بصيغة اسم الفاعل أيضًا؛ لأنه يُقَدَّس العابد فيه من الآثام، وفي "العُباب": القُدُس والقُدْس، مثال خُلُق وخُلْق: الطهر، اسم مصدر، ومنه حَظِيرة القدس، وروح القدس جبريل عليه السلام، قال اللَّه تعالى:{وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} الآية [البقرة: 87 و 253] وقيل له: روح القدس؛ لأنه خلق من الطهارة، قاله في "العمدة"

(1)

، وقد تقدّم البحث في هذا بأتمّ مما هنا عند شرح حديث الإسراء، وللَّه الحمد والمنّة.

(سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا) هكذا رواية أبي الأحوص، عن أبي إسحاق:"ستّة عشر شهرًا" بدون شكّ، ووقع في رواية سفيان التالية:"ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا" بالشكّ، وكذا وقع بالشكّ عند البخاريّ من رواية زُهير بن معاوية، عن أبي إِسحاق، قال في "الفتح": قوله: "ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر" كذا وقع الشكّ في رواية زهير هذه هنا -يعني في الإيمان- وفي "الصلاة" أيضًا، عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوريّ عنده، وفي رواية إسرائيل عند البخاريّ، والترمذي أيضًا، ورواه أبو عوانة في "صحيحه" عن عمار بن رجاء وغيره، عن أبي نعيم، فقال:"ستة عشر" من غير شكّ، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضًا من رواية عمار بن رُزيق -بتقديم الراء، مصغرًا- كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس، وللبزار،

(1)

"عمدة القاري" 1/ 242 - 243.

ص: 98

والطبرانيّ من حديث عمرو بن عوف: "سبعة عشر"، وكذا للطبرانيّ عن ابن عباس.

قال: والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون مَن جزم بستة عشر لَفَّق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الزائد، ومَن جزم بسبعة عشر عدَّهما معًا، ومن شكّ تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس.

وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول.

وشذَّت أقوال أخرى، ففي ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق في هذا الحديث:"ثمانية عشر شهرًا"، وأبو بكر سيئ الحفظ، وقد اضطَرَب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر، وفي رواية ستة عشر، وخرّجه بعضهم على قول محمد بن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في "الروضة"، وأقرّه، مع كونه رَجَّح في شرحه لمسلم رواية ستة عشر شهرًا؛ لكونها مجزومًا بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغَى شهري القدوم والتحويل.

وقد جَزَم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة.

ومن الشذوذ أيضًا رواية ثلاثة عشر شهرًا، ورواية تسعة أشهر، أو عشرة أشهر، ورواية شهرين، ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب، وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول.

فجملة ما حكاه تسع روايات. انتهى ما في "الفتح"

(1)

. وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًا.

(حَتَّى نَزَلَتِ الْآيةُ الَّتي فِي الْبَقَرَةِ) أي في "سورة البقرة"، وقوله:({وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]) بدل من "الآيةُ"، قال الإمام ابن كثير عند تفسير هذه الآية: أمر اللَّه تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض،

(1)

"الفتح" 1/ 120.

ص: 99

شرقًا وغربًا، وشَمالًا وجنوبًا، ولا يُستثنى من هذا شيءٌ، سوى النافلة حال السفر، فإنه يصلّيها حيثما توجّه قالبه، وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل القبلة يصلي باجتهاده، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر؛ لأن اللَّه تعالى لا يكلّف نفسًا إلا وسعها. انتهى

(1)

.

(فَنَزَلَتْ) أي هذه الآية الكريمة (بَعْدَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي صلاة الظهر؛ لأن أول صلاة صلّاها إلى الكعبة بعد التحويل هي العصر، كما بُيّنت في رواية البخاريّ، ولفظه: عن البراء قال: لَمّا قَدِم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل اللَّه تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، فوجّه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر، ثم خرج، فَمَرّ على قوم من الأنصار، فقال: هو يشهد أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد وُجّه إلى الكعبة، فانحرفوا، وهم ركوع في صلاة العصر. انتهى.

فتبيّن بهذا أن قوله هنا: "بعدما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم" يريد صلاة الظهر؛ لأن العصر صلّاها إلى الكعبة بعد التحويل.

[تنبيه]: اختَلَفت الرواية في الصلاة التي تحولت القبلة عندها، وكذا في المسجد، فظاهر حديث البراء رضي الله عنه هذا أنها العصر، وذكر محمد بن سعد في "الطبقات" قال: يقال: إنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أُمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، ودار معه المسلمون، ويقال: زار النبيّ صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن مَعْرور في بني سَلِمَة، فصنعت له طعامًا، وحانت الظهر، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أُمر، فاستدار إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسُمِّي مسجد القبلتين، قال ابن سعد: قال الواقديّ: هذا أثبت عندنا.

وأخرج ابن أبي داود بسند ضعيف، عن عمارة بن رُوَيبة: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيّ حين صُرِفت القبلة، فدار، ودُرْنا معه في ركعتين.

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 276.

ص: 100

وأخرج البزار من حديث أنس رضي الله عنه: انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس، وهو يصلي الظهر بوجهه إلى الكعبة.

وللطبرانيّ نحوه من وجه آخر عن أنس، قال في "الفتح": وفي كلّ منهما ضعف. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كل هذا الروايات ضعاف، لا تقاوم ما في "الصحيح" من حديث البراء رضي الله عنه، حيث دلّ على أنه صلى الله عليه وسلم بعدما صلّى صلاة الظهر أمر بالتوجّه إلى الكعبة، فصلّى العصر متوجّها إليها، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "العمدة" في شرح قوله: "صلاة العصر": كذا هو ههنا "صلاة العصر"، وجاء أيضًا من رواية البراء، أخرجها البخاري في "الصلاة"، وفيه:"فصلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمَرّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس، فقال لهم، فانحرفوا"، فقيّد الأولى بالعصر في الحديث الأول، وأطلق الثانية، وقَيّد في الحديث الثاني الثانية بالعصر، وأطلق الأولى، وجاء في البخاري في "كتاب خبر الواحد" تقييده الصلاتين بالعصر، فقال من رواية البراء أيضًا:"فوُجِّه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر، ثم خَرَج، فمَرَّ على قوم من الأنصار، فقال لهم: هو يشهد أنه صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العصر، وأنه قد وُجِّه إلى الكعبة، قال: فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر"، وكذا جاء في الترمذيّ أيضًا أن الصلاتين كانتا العصر، ولم يذكر مسلم، ولا النسائيّ في حديث البراء هذا تعيين صلاة العصر، ولا غيرها.

وجاء في البخاريّ، والنسائيّ، ومسلم أيضًا في "كتاب الصلاة" من حديث مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، قال:"بينا الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آتٍ"، وفيه:"فكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة"، وكذلك أيضًا جاء في مسلم من رواية ثابت، عن أنس، كرواية ابن عمر أنها الصبح:"فمَرَّ رجل من بني سَلِمَة، وهم ركوع في صلاة الفجر"

(2)

.

(1)

"الفتح" 1/ 599 - 600.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 1/ 385.

ص: 101

قال الجامع عفا اللَّه عنه: طريق الجمع بين روايتي العصر والصبح أن التي صلاها الرجل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم هي العصرُ، ثم مَرّ على قوم من الأنصار في تلك الصلاة، وهي العصر، فهذا من رواية البراء رضي الله عنه.

وأما رواية ابن عمر وأنس رضي الله عنهم أنها الصبح فهي صلاة أهل قباء في اليوم الثاني.

والحاصل أن الذين مَرّ بهم في العصر ليسوا أهل قباء، وإنما هم أهل مسجد بالمدينة، وهم بنو حارثة، على ما قيل، فمَرَّ عليهم وهم في صلاة العصر، وأما أهل قباء، فأتاهم الآتي في صلاة الصبح، من اليوم الثانيّ، كما جاء مُصَرَّحًا به في الروايات.

وهذا هو الحقّ والصواب في الجمع بين الروايات، خلاف ما ادّعاه بعضهم من ترجيح رواية الصبح؛ لأنها من رواية صحابيين: ابن عمر وأنس، كما سيأتي للمصنّف، وتضعيف رواية العصر؛ لكونها في بعض طرق حديث البراء رضي الله عنه دون بعض؛ إذ في بعضها لم تُعيّن، وهذا رأي ضعيفٌ؛ إذ فيه تضعيف ما جاء في "الصحيح" بدون مقتضٍ لذلك؛ لأن الجمع واضح على الوجه الذي أسلفناه، فما الداعي إلى التضعيف؟، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَانْطَلَقَ) أي ذهب (رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) أي الذين صلّوا معه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر قبل الكعبة، وهذا الرجل هو: عبّاد بن بشر بن قَيْظِيّ، كما رواه ابن مندهْ من حديث تُوَيلة بنت أسلم، وكانت من المبايعات، ذكره الفاكهي في "أخبار مكة"، وقيل: هو: عبّاد بن نَهِيك -بفتح النون، وكسر الهاء- ابن إساف الْخَطْميّ، صلى إلى القبلتين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة يومَ صُرِفت، قاله ابن عبد البرّ، وفيه قول ثالث: إنه عباد بن وهب رضي الله عنه

(1)

.

(فَمَرَّ بِنَاسِ)"الناس": اسم وُضِع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده: إنسان من غير لَفظه، مُشْتَقّ من ناس ينوس: إذا تَدَلَّى وتَحَرَّك، فيُطْلَق على

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 120، و"عمدة القاري" 1/ 386.

ص: 102

الجنّ والإنس، قال تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} ثم فَسَّر الناس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} ، وسُمِّي الجن ناسًا كما سُمُّوا رجالًا، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]، وكانت العرب تقول: رأيت ناسًا من الجنّ، ويصغر الناس على نُوَيس، لكن غَلَب استعماله في الإنس، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (مِنَ الأَنْصَارِ) متعلّق بمحذوف صفة لـ "ناس"، وهم بنو حارثة، كما في "الفتح".

(وَهُمْ يُصَلُّونَ) جملة حاليّة من "ناس"(فَحَدَّثَهُمْ) وفي بعض النسخ: "فحدّثهم بالحديث"، يعني أنه ذكر لهم خبر تحويل القبلة، وفي رواية البخاريّ:"فقال لهم: أشهد باللَّه، لقد صلّيتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة"(فَوَلَّوْا) بفتح اللام المشدّدة، وإنما لم تُضمّ اللام مع أنها قبل واو الضمير، وما قبلها يُضمّ؛ لكونها لم تقع قبله في التقدير؛ إذ أصلها وَلَّيُوا بوزن كَلَّمُوا، فقُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثم حُذفت؛ لالتقاء الساكنين، فصارت ما قبل الوا ومحذوفًا، ومعناه: حوّلوا (وُجُوهَهُمْ، قِبَلَ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة، أي جهة (الْبَيْتِ) أي الكعبة؛ لأنه صار علَمًا لها بالغلبة، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مُضَافٌ أَوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَالْعَقَبَهْ

وفي رواية للبخاريّ: "فداروا كما هم قبل البيت"، وقد جاء بيان كيفيّة التحوّل في حديث تُويلة بنت أسلم عند ابن أبي حاتم، وقد تقدم بعضه قريبًا، وقالت فيه:"فتحوّل النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلّينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام".

قال الحافظ رحمه الله: وتصويره أن الإمام تحوّل من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد؛ لأن مَن استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحوّل الإمام تحوّلت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صِرْن خلف الرجال.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 630.

ص: 103

وهذا يستدير عملًا كثيرًا في الصلاة، فَيَحْتَمِل أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير، كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل أن يكون اغتُفِرَ العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أو لم تَتَوال الْخُطَى عند التحوُّل، بل وقعت مُفَرَّقةً. انتهى

(1)

. وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 1181 و 1182](525)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(40)، و"الصلاة"(399)، و"التفسير"(4486 و 4492)، و"أخبار الآحاد"(7252)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(340)، و"التفسير"(2962)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 60)، وفي "الكبرى"(11550 و 11003)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1010)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(719)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 334)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1716)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 273)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1162 و 1163 و 1164 و 1165 و 1166)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1161 و 1162)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(165)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(3/ 133 - 134)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 2)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(444)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وذلك بعد ستة عشر شهرًا من الهجرة.

وقد اختلف العلماء في الجهة التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوجّه إليها للصلاة،

(1)

"الفتح" 1/ 604.

ص: 104

وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لا يستدبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس.

وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس.

وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحوّل إلى المدينة استقبَلَ بيت المقدس، قال في "الفتح": وهذا ضعيف؛ لأنه يلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصحّ؛ لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان صحّة نسخ الأحكام، وهو جائز عقلًا، وواقع شرعًا، وهذا مجمع عليه عند المسلمين، خلافًا لليهود -لعنهم اللَّه- فعند بعضهم باطل نقلًا، وهو ما جاء في التوراة: تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض، فادَّعَوا نقله تواترًا، ويدّعون النقل عن موسى عليه السلام أنه قال: لا نسخ لشريعته، وعند بعضهم باطلٌ عقلًا، وكلّ ذلك من اختلاقاتهم، وافتراءاتهم على اللَّه تعالى، وعلى أنبيائهم، كما أخبرنا اللَّه تعالى بذلك.

3 -

(ومنها): جواز نسخ السنة بالقرآن، وهو جائز عند الجمهور، وللشافعي فيه قولان، قال في إحدى قوليه: لا يجوز كما لا يجوز عنده نسخ القرآن بالسنة قولًا واحدًا.

وقال عياض: أجازه الأكثر عقلًا وسمعًا، ومنعه بعضهم عقلًا، وأجازه بعضهم عقلًا، ومنعه سمعًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: نسخ السنّة بالقرآن أجازه الجمهور، ومنعه الشافعيّ، وهذه الأحاديث حجةٌ عليه، وكذلك قوله تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] نَسخ لما قرّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من العهد والصلح على ردّ كلّ من أسلم من الرجال والنساء من أهل مكة، وغير ذلك. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": استدل المجيزون بأن التوجه نحو بيت المقدس لم يكن ثابتًا بالكتاب، وقد نُسِخ بقوله تعالى:{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144 و 150].

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 119.

(2)

"المفهم" 2/ 125.

ص: 105

وأجيب من جهة الشافعيّ بأنه إنما نُسخ قرآن بقرآن، وأن الأمر كان أولًا بتخيير المصلي أن يولي وجهه حيث شاء بقوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، ثم نسخ باستقبال القبلة.

وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] مُجْمَل فُسِّر بأمور، منها: التوجه إلى بيت المقدس، فيكون كالمأمور به لفظًا في الكتاب، فيكون التوجمه إلى بيت المقدس بالقرآن بهذه الطريقة، وباحتمال أن المنسوخ كان قرآنًا نُسِخ لفظه.

وقال بعضهم: النسخ كان بالسنة، ونزل القرآن على وفقها.

ورُدّ الأول والثاني بأنا لو جوّزنا ذلك لأفضى إلى أن لا يُعْلَم ناسخ من منسوخ بعينه أصلًا، فإنهما يطّردان في كل ناسخ ومنسوخ، والثالث مجرد دعوى فلا تقبل.

قالوا: قال اللَّه تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وصفه بكونه مبنيًا، فلو جاز نسخ السنة بالقرآن، لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم مبينًا، واللازم باطل، فالملزوم مثله، أما الملازمة فلأنه إذا أثبت حكمًا، ثم نسخه اللَّه تعالى بقوله، لم يتحقق التبيين منه؛ لأن المنسوخ مرفوع لا مُبَيَّن؛ لأن النسخ رفع لا بيان، وأما بطلان اللازم، فلقوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] حيث وصفه بكونه مبيّنًا.

قلنا: لا نسلم الملازمة؛ لأن المراد بالتبيين البيان، ولا نسلم أن النسخ ليس ببيان، فإنه بيان لانتهاء أمر الحكم الأول.

ولئن سلّمنا أن النسخ ليس ببيان، وأن المراد منه بيان العام والمجمل والمنسوخ وغيرهما، لكن نُسَلِّم

(1)

أن الآية تدل على امتناع كون القرآن ناسخًا للسنة.

وقالوا: لو جاز ذلك لزم تنفير الناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن طاعته؛ لأنه يوهم أن اللَّه تعالى لم يَرْضَ بما سنّه الرسول صلى الله عليه وسلم، واللازم باطل؛ لأنه مناقض للبعثة، فالملزوم كذلك.

(1)

هكذا نسخة "العمدة"، والظاهر أن "لا" سقطت منه، أي لا نسلّم. . . إلخ.

ص: 106

قلنا: الملازمة ممنوعة؛ لأنه إذا عُلِم أنه مُبَلِّغ عن اللَّه تعالى فلا تنفير، ولا تَنَفُّر؛ لأن الكل من عند اللَّه تعالى، قاله في "العمدة"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره في "العمدة" بحث نفيسٌ، وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" بحثًا مطوّلًا في هذه المسألة، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

4 -

(ومنها): جواز النسخ بخبر الواحد، قال القاضي عياض: وإليه مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين، ووجهه أن العمل بخبر الواحد مقطوع به، كما أن العمل بالقرآن والسنة المتواترة مقطوع به، وأن الدليل الموجب لثبوته أولًا غير الدليل الموجب لنفيه وثبوت غيره

(2)

.

وقال في "الفتح": وفيه قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به، ونسخ ما تقرر بطريق العلم به؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع؛ لمشاهدتهم صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جهته، ووقع تحوّلهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد.

وأجيب بأن الخبر المذكور احتَفّت به قرائن ومقدمات، أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المخبر، فلم يُنسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم.

وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزًا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وإنما منع بعده، ويحتاج إلى دليل. انتهى.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ويُستدلّ بالحديث على أن حكم الخطاب لا يتعلّق بالمكلّف قبل بلوغه إياه، ويستدلّ به على قبول خبر الواحد الثقة في أمور الديانات مع إمكان السماع من الرسول صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، فمع تعذّر ذلك أولى وأحرى.

وما يقال من أن هذا يلزم منه نسخ المتواتر، وهو الصلاة إلى بيت المقدس بخبر الواحد، فالتحقيق في جوابه أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفّت به القرائن، فنداء الصحابيّ في الطرق والأسواق بحيث يسمعه المسلمون كلّهم بالمدينة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بها موجود، لا يتداخل من سمعه

(1)

"عمدة القاري" 1/ 387 - 388.

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 2/ 445.

ص: 107

شكّ فيه أنه صادق فيما يقوله، وينادي به. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ جواز نسخ المتواتر بخبر الواحد؛ لإفادته العلم؛ كما دلّ عليه حديث الباب وغيره، وقد أطبق الصحابة رضي الله عنهم على قبوله.

قال القرطبيّ رحمه الله: قبول خبر الواحد مجمع عليه من السلف، ومعلوم بالتواتر من عادة النبيّ صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادًا إلى الآفاق؛ ليُعَلِّمُوا الناس دينهم، ويبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، من الأوامر والنواهي، والمخالف في ذلك معاند، أو ناقص الفطرة. انتهى

(2)

.

وقد حقّقت هذا البحث في "التحفة المرضيّة"، وشرحها، فراجعهما تزدد علمًا، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

5 -

(ومنها): بيان أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه؛ لأن أهل قباء لم يؤمروا بالإعادة، مع كون الأمر باستقبال الكعبة وقع قبل صلاتهم تلك بصلوات.

قال المازريّ رحمه الله: اختلفوا في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه على المكلف؟ ويُحتَجّ بهذا الحديث لأحد القولين، وهو أنه لا يثبت حكمه حتى يبلغ المكلف؛ لأنه ذَكَر أنهم تحولوا إلى القبلة، وهم في الصلاة، ولم يعيدوا ما مضى، فهذا يدل على أن الحكم إنما يثبت بعد البلاع.

وقال غيره: فائدة الخلاف في هذه المسألة في أن ما فُعِل من العبادات بعد النسخ، وقبل البلاغ، هل يعاد أم لا؟، ولا خلاف أنه لا يلزم حكمه قبل تبليغ جبريل عليه السلام.

وقال الطحاويّ رحمه الله: وفيه دليل على أن من لم يعلم بفرض اللَّه، ولم تبلغه الدعوة، ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض غير لازم، والحجة غير قائمة عليه.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قد اختَلَف العلماء فيمن أسلم في دار الحرب، أو أطراف بلاد الإسلام، حيث لا يجد من يتعلم منه الشرائع، ولا

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 1/ 189.

(2)

"المفهم" 2/ 126.

ص: 108

عَلِم أن اللَّه تعالى فرض شيئًا من الشرائع، ثم عَلِم بعد ذلك، هل يلزمه قضاء ما مرّ عليه من صيام وصلاة لم يعملها؟.

فذهب مالك، والشافعيّ في آخرين إلى إلزامه، وأنه قادر على الاستعلام، والبحث والخروج إلى ذلك.

وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك يلزمه إن أمكنه أن يستعلم فلم يستعلم وفَرَّط، وإن كان لا يحضره من يستعلمه فلا شيء عليه، قال: وكيف يكون ذلك فرض على من لم يفرضه؟.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما قاله الإمام أبو حنيفة: هو الأرجح؛ لقوّة حجته، واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): جواز الاجتهاد في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لما تمادوا في الصلاة، ولم يقطعوها دلّ على أنه رَجَحَ عندهم التمادي والتحول على القطع والاسشاف، ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد، كذا قيل.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نصّ سابقٌ؛ لأنه كان مُتَرَقِّبًا التحول المذكور، فلا مانع أن يُعْلِمهم ما صَنَعُوا من التمادي والتحول. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في هذا النظر نظرٌ؛ إذ الأول هو الظاهر، فلا يدفع بالاحتمال، فتبصّر.

7 -

(ومنها): جواز تعليم من ليس في الصلاة مَن هو فيها، وأن استماع المصلي لكلام من ليس في الصلاة لا يفسد صلاته.

8 -

(ومنها): جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعيّ فمن صلى إلى جهة باجتهاد، ثم تغير اجتهاده في أثنائها، فيستدير إلى الجهة الأخرى، حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في صلاة واحدة، فتصح صلاتهم على الأصح في مذهب الشافعيّ رحمه الله، ذكره في "العمدة"

(1)

.

9 -

(ومنها): وجوب الصلاة إلى القبلة، والإجماع على أنها الكعبة -شرّفها اللَّه تعالى-.

(1)

"عمدة القاري" 1/ 389.

ص: 109

10 -

(ومنها): أنه يُحْتَجّ به على أن من صلى بالاجتهاد إلى غير القبلة، ثم تبيّن له الخطأ لا تلزمه الإعادة؛ لأنه فعل ما عليه في ظنه، وإن خالف الصواب في نفس الأمر، كما أن أهل قباء فَعَلوا ما وجب عليهم عند ظنهم بقباء الأمر، فلم يؤمروا بالإعادة.

11 -

(ومنها): أن فيه الدلالة على شرف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكرامته على ربه، حيث يُعْطِي له ما يحبه ويتمنّاه، فقد تمنّى أن يوجّه إلى الكعبة، فأعطاه اللَّه عز وجل ذلك، {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [البقرة: 144].

12 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على دينهم، والشفقة على إخوانهم، حيث قاموا بتبليغ نسخ القبلة في مساجد المدينة.

13 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم أيضًا من كمال طاعتهم للَّه تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حيث استجابوا من بلّغهم بأن القبلة قد حُولت، فتحولوا إلى الكعبة، مستجيبين للحقّ، ومنقادين له، فرضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين.

14 -

(ومنها): أن ابن كثير: نقل عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن تحويل القبلة هو أول ما نُسخ من القرآن

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن اجتهد في القبلة، فصلى إلى غيرها، فهل يعيد أم لا؟:

ذهب إبراهيم النخعيّ، والشعبيّ، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وحماد إلى أنه لا يعيد، وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإليه ذهب البخاريّ، وعن مالك كذلك، وعنه: يعيد في الوقت استحسانًا.

وقال ابن المنذر: وهو قول الحسن، والزهريّ، وقال المغيرة: يعيد أبدًا، وعن حميد بن عبد الرحمن، وطاووس، والزهريّ: يعيد في الوقت، وقال الشافعيّ: إن فرغ من صلاته، ثم بان له أنه صلى إلى المغرب استأنف الصلاة، وإن لم يَبِن له ذلك إلَّا باجتهاده، فلا إعادة عليه.

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" 1/ 274.

ص: 110

وفي "التوضيح": وقال الشافعيّ: إن لم يتيقن الخطأ فلا إعادة عليه، وإلا أعاد.

ورَوَى الترمذيّ، وابن ماجه، من حديث عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، في ليلة مظلمة، فلم نَدْر أين القبلة؟ فصلى كل رجل منا على حِيَاله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزل:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} الآية [البقرة: 115]، لكن الحديث ضعيف؛ لأن في سنده أشعث السمّان، وهو متروك.

قال الترمذيّ رحمه الله: وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة، ثم استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة، فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان الثوريّ، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح الأقوال عندي ما ذهب إليه الجمهور، ورجحه الإمام البخاريّ في "صحيحه"، حيث قال:"باب ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها، فصلّى إلى غير القبلة"؛ لحديث الباب، ووجه دلالته عليه من حيث إن الخطأ والجهل متشابهان، فيكون حكمهما واحدًا، ولما استدلّ به البخاريّ: من أنه صلى الله عليه وسلم سلّم في ركعتي الظهر. . . إلخ، وهو طرف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصّة ذي اليدين، وهو موصول في "الصحيحين" من طرُق.

لكن قوله: "وأقبل على الناس" ليس في "الصحيحين" بهذا اللفظ موصولًا، لكنه في "الموطّأ" من طريق سفيان مولى ابن أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ووجه الاستدلال به من جهة أن بناءه على الصلاة دالّ على أنه في حال استدباره القبلة كان في حكم المصلّي، ويؤخذ منه أن من ترك الاستقبال ساهيًا لا تبطل صلاته

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 602.

ص: 111

وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1182]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عبيد الْعَنَزيّ، أبو موسى المعروف بالزَّمِنِ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ) هو: محمد بن خلّاد بن كثير الباهليّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان الأحول، أبو سعيد البصريّ الإمام الحافظ الحجة الناقد البصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

4 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل بابين.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) أي جهته.

وقوله: (ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ) ببناء الفعل للمفعول، أي أمرنا أن نصرف وجوهنا جهة الكعبة؛ لأنها القبلة المطلوب استقبالها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1183]

(526) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفظُ لَهُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 112

بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ) القَسْمَليّ -بفتح القاف، وسكون السين المهملة، وفتح الميم مخفّفًا- مولاهم، أبو زيد المروزيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، ربّما وَهِمَ [7].

رَوَى عن أبي إسحاق الهمدانيّ، وعبد اللَّه بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وابن عجلان، والأعمش، وحُصين بن عبد الرحمن، ومُطَرِّف بن طَرِيف، وغيرهم.

وروى عنه ابن مهديّ، وأبو عامر العَقَدّي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وحَرَميّ بن حفص، والعلاء بن عبد الجبار، وأبو عبيدة الحداد، ومسلم بن إبراهيم، والقعنبيّ، وعبد اللَّه بن رجاء، وأبو عمر الْحَوْضيّ، وشيبان بن فَرُّوخ، وآخرون.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث ثقةٌ، وقال أبو عامر: ثنا عبد العزيز، وكان من العابدين، وقال يحيى بن إسحاق: ثنا عبد العزيز، وكان من الأبدال، وقال النسائيّ في "التمييز": ليس به بأسٌ، وقال ابن نمير، والعجليّ: ثقةٌ، وقال يحيى بن حسان: كان من أفاضل الناس، وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، وقال ابن حبان في "الثقات": أصله من مرو، وقال ابن حبان أيضًا في "كتاب الصحابة" في ترجمة فروة بن نوفل: عبد العزيز بن مسلم، رُبّما وَهِمَ، فأفحش.

قال عمرو بن عليّ وغيره: مات سنة سبع وستين ومائة، زاد ابن قانع: في ذي الحجة.

ص: 113

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (526) و (935) و (1151) و (1490).

4 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (69) من رباعيّات الكتاب، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيبان، فانفرد به هو وأبو داود، والنسائيّ، وعبد العزيز، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له"، وقد مرّ البحث فيه غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مالك.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: بَيْنَمَا) وفي رواية البخاريّ: "بينا"، وقد تقدّم أن أصله "بين" الظرفيّة زيد عليها "ما"، فصارت تُضاف إلى جملة اسميّة، أو فعلية، فهي هنا مضافة إلى قوله:(النَّاسُ)"أل" فيه للعهد الذهنيّ، والمراد بهم أهل قباء، ومن حضر معهم (فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ) ورواية موسى بن عقبة:"في صلاة الغداة"، وهو أحد أسمائها، وقد نُقِل بعضهم كراهية تسميتها بذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 1/ 603.

ص: 114

وقال النوويّ رحمه الله: فيه جواز تسمية الصبح غداة، وهذا لا خلاف فيه، لكن قال الشافعيّ رحمه الله: سمّاها اللَّه تعالى "الفجر"، وسمّاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "الصبح"، فلا أُحبّ أن تُسمّى بغير هذين الاسمين. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وهذا فيه مغايرة لحديث البراء رضي الله عنه المتقدم فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر.

والجواب أنه لا منافاة بين الخبرين؛ لأن الخبر وَصَلَ وقت العصر إلى مَن هو داخل المدينة، وهم بنو حارثة، وذلك في حديث البراء، والآتي إليهم بذلك عباد بن بِشْر، أو ابن نَهِيك كما تقدم، ووصل الخبر وقت الصبح إلى مَن هو خارج المدينة، وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء، وذلك في حديث ابن عمر، ولم يُسَمّ الآتي بذلك إليهم، وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه عباد بن بشر، ففيه نظرٌ؛ لأن ذلك إنما ورد في حقّ بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نَقُلوا محفوظًا فيَحْتَمِل أن يكون عباد أتى بني حارثة أوّلًا في وقت العصر، ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح.

ومما يدلّ على تعددهما أن مسلمًا رَوَى في هذا الباب من حديث أنس أن رجلًا من بني سَلِمَةَ مَرّ وهم ركوع في صلاة الفجر، فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة، وبنو سَلِمَة غير بني حارثة، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا جمع في "الفتح"، وهو عندي جمع حسنٌ، إلا أن ابن رجب استبعده، والغريب أنه مع استبعاده لم يذكر لهذا الاختلاف هذا جمعًا، فتأمّل.

(بِقُبَاءٍ) متعلّق بمحذوف، خبر للمبتدأ، و"قُباء" بضمّ القاف، وتخفيف الموحّدة، والمدّ والصرف، وهو الأشهر، ويجوز فيه القصر، وعدم الصرف، وهو يُذَكَّر ويؤنث: موضع معروف بظاهر المدينة، والمراد هنا مسجد أهل قباء، ففيه مجاز الحذف.

(إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ) قال العينيّ: هو عبّاد بن بشر (فَقَالَ) ذلك الآتي (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله ضمير يعود إلى

(1)

"شرح النووي" 5/ 10 - 11.

ص: 115

المعلوم من السياق، وقد جاء مصرّحًا به في رواية البخاريّ، حيث قال:"قد أُنزل عليه الليلةَ قرآن".

قال في "الفتح": قوله: "قد أُنزل عليه الليلةَ قرآنٌ" فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي، والليلة التي تليه مجازا، والتنكير في قوله "قرآن" لإرادة البعضية، والمراد قوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الآيات.

(اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "أُنزل"(وَقَدْ أُمِرَ) بالبناء للمفعول أيضًا، أي أمره اللَّه تعالى في تلك الآيات المنزلة عليه (أَنْ يَسْتَقْبِلَ)"أن" مصدريّة، والفعل مبنيّ للفاعل، وهو في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ مقدّر قياسًا، كما قال في "الخلاصة":

وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبَ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أَنَّ" وَ"أَنْ" يَطَّرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"

أي بالاستقبال (الْكَعْبَةَ) منصوب على المفعوليّة، سُمّي البيت الحرام بالكعبة؛ لارتفاعه، وقيل: لتربيعه، قال الفيّوميّ رحمه الله: كَعَبَت المرأةُ تَكْعُبُ، من باب قَتَلَ كِعَابَة: نَتَأَ ثَدْيُها، فهى كاعبٌ، وسُمّيت الكعبةُ بذلك؛ لنُتُوئها، وقيل: لتربيعها وارتفاعها. انتهى

(1)

.

(فَاسْتَقْبَلُوهَا) قال النوويّ رحمه الله: رُوي بكسر الباء، وفتحها، والكسر أصحّ وأشهر، وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده. انتهى

(2)

.

والمعنى: أنهم تَحَوَّلُوا إلى جهة الكعبة، والواو في "استقبلوها" ضمير أهل قباء.

قال في "الفتح": وفيه أن ما أُمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم يلزم أمّته، وأن أفعاله يُتَأسّى بها كأقواله حتى يقوم دليل الخصوص. انتهى.

وقال في "الفتح" أيضًا: ويَحْتَمِل أن يكون فاعل "استقبلوها" النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه، وضمير "وجوههم" لهم، أو لأهل قباء على الاحتمالين، وفي رواية

(1)

"المصباح المنير" 2/ 534 - 535.

(2)

"شرح النووي" 5/ 10.

ص: 116

الأصيليّ: "فاستقبِلوها" بكسر الموحّدة، بصيغة الأمر، ويأتي في ضمير "وجوههم" الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قباء أظهر.

قال: ويرجِّح رواية الكسر أنه عند البخاريّ في "التفسير" من رواية سليمان بن بلال، عن عبد اللَّه بن دينار في هذا الحديث بلفظ:"وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبِلوها"، فدخول حرف الاستفتاح يُشْعِر بأن الذي بعده أَمْرٌ، لا أنه بقية الخبر الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ) تفسير من الراوي للتحول المذكور، قاله في "الفتح"، وقال في "العمدة": هو من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، لا كلام الرجل المخبِر بتغير القبلة، قاله الكرمانيّ، قال العينيّ: لا مانع أن يكون من كلام المخبِر، فعلى هذا تكون الواو للحال، فتكون جملةً حاليةً على رواية الأكثرين، وهو أن يكون صيغة الجمع من الماضي، وعلى رواية الأصيليّ تكون الواو للعطف، وجاء عطف الجملة الخبرية على الإنشائية، والضمير في "وجوههم" يحتمل الوجهين المذكورين. انتهى

(2)

.

(فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ) أي توجه أهل قباء إلى القبلة المأمور باستقبالها، وهي الكعبة، وقد تقدّم بيان كيفيّة تحوّلهم في شرح حديث البراء رضي الله عنه، فارجع إليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 1183 و 1184](526)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(453)، و"التفسير"(4488 و 4490 و 4491 و 4493 و 4494)، و"أخبار الآحاد"(7251)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(341)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 61)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 195)، و (الشافعيّ) في "مسنده"

(1)

"الفتح" 1/ 604.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 219 - 220.

ص: 117

(1/ 64)، وفي "الأُمّ"(2/ 113)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 335)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 16 و 26 و 105)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 281)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 394)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1715)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 2 و 11)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1163 و 1164 و 1165)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(445)، وفوائد الحديث تقدّمت في شرح حديث البراء رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1184]

(. . .) - (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ

(1)

، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ، إِذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثانيّ، هَرَويّ الأصل، أبو محمد، صدوقٌ، عمي، فتلقّن، من قُدماء [10](ت 240) عن مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عُمر الصنعانيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ، ربّما وَهِم [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

3 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولى آل الزبير، ثقة فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

4 -

(نَافِع) مولى ابن عمر رضي الله عنهما، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (إِذْ جَاءَهُمْ رَجُلٌ) تقدّم أنه عبّاد بن بشر.

(1)

كتب في هامش نسخة محمد ذهني ما نصّه: قوله: "وعن عبد اللَّه بن دينار" وجدنا أيضًا في بعض النسخ علامة التحويل.

ص: 118

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ) يعني أن موسى بن عقبة حدّث عن نافع، بمثل ما حدّث به مالك، عن عبد اللَّه بن دينار.

[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة هذه ساقها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 130) فقال:

(1165)

حدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا عمران بن موسى، ثنا سُويد (ح) وثنا أحمد بن يوسف بن خلاد، ثنا الحسن بن عليّ المعمريّ، ثنا سُويد بن سعيد، حدّثني حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، وعبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر (ح) وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبد اللَّه بن العباس الطيالسيّ، ثنا أحمد لن حفص، حدثني أبي، ثنا إبراهيم بن طَهْمان، عن موسى بن عقبة، عن عبد اللَّه بن دينار، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"بينما الناس في صلاة الصبح، إذ جاءهم رجلٌ، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآنٌ، فأُمِر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكان وجه الناس إلى الشام، فاشتد عليهم، فوُجّهوا إلى الكعبة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1185]

(527) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

ص: 119

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَنَس) بن مالك رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فكوفيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ أيضًا بمن هو أثبت الناس في شيخه، فحماد بن سلمة أثبت في ثابت، وثابت أثبت في أنس، وألزم له، فقد لزمه أربعين سنةً، وأنس من ألزم الناس للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد خدمه عشر سنين رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة رضي الله عنه، ومن المعمّرين، فقد جاوز المائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) أخرج الطبريّ وغيره من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لَمّا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها، يستقبلون بيت المقدس، أمره اللَّه أن يستقبل بيت المقدس، ففَرِحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرًا، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو، وينظر إلى السماء، فنزلت هذه الآية.

ومن طريق مجاهد قال: إنما كان يُحِبّ أن يتحول إلى الكعبة؛ لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد، ويتبع قبلتنا، فنزلت.

قال في "الفتح": وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن

ص: 120

عباس رضي الله عنهما: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه.

والجمع بينهما ممكن بأن يكون أمر صلى الله عليه وسلم لَمّا هاجر أن يستمرّ على الصلاة لبيت المقدس.

وأخرج الطبرانيّ من طريق ابن جريج قال: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صُرِف إلى بيت المقدس، وهو بمكة، فصلى ثلاث حِجَجٍ، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرًا، ثم وجّهه اللَّه إلى الكعبة.

فقوله في حديث ابن عباس الأول: "أَمَرَهُ اللَّه" يردُّ قول من قال: إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد.

وقد أخرجه الطبريّ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف.

وعن أبي العالية أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس يتألّف أهل الكتاب، وهذا لا ينفي أن يكون بتوقيف. انتهى

(1)

. وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

(فَنَزَلَتْ) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله:"قد نرى. . . إلخ"، محكيّ؛ لقصد لفظه، وأنّث الفعل باعتبار الآية، أي نزلت هذه الآية ({قَدْ} للتحقيق {نَرَى تَقَلُّبَ} أي تردّد وتصرّف {وَجْهِكَ فِي} جهة {السَّمَاءِ}) متطلّعًا ومتشوّقًا للأمر باستقبال الكعبة، وكان يودّ ذلك؛ لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، ولأنها أدعى إلى إسلام العرب؛ لأنها مفخرهم، ومزارهم، ومطافهم.

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} أي لنحوّلنّك، وهو جواب قسم محذوف، أي فواللَّه لنولّينّك، وولّى يتعدّى لاثنين، فالأول الكاف، والثاني قوله:{قِبْلَةً} وقوله: {تَرْضَاهَا} صفة لـ "قبلةً"، أي تحبّها محبّة طبيعيّةً ودينيّة؛ لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وقبلته أيضًا قبل الهجرة على ما قيل، وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ أيضًا بيت المقدس من حيث امتثال الأمر باستقباله.

وقال النسفيّ رحمه الله: {قِبْلَةً تَرْضَاهَا} أي تحبّها، وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها، ووافقت مشيئة اللَّه تعالى وحكمته. انتهى

(2)

.

قال بعضهم: قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} بشارة من اللَّه تعالى له صلى الله عليه وسلم بما يُحبه

(1)

"الفتح" 1/ 599.

(2)

"تفسير النسفي" 1/ 81.

ص: 121

ويتمنّاه، وقوله:{فَوَلِّ وَجْهَكَ} إنجاز له بما بشّره به

(1)

.

{شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي نحوه، و"شطر" منصوب على الظرفيّة، أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد الحرام، أي في جهته، وسَمْته؛ لأن استقبال عين القبلة متعسّر على النائي، وذكرُ المسجد الحرام دون الكعبة دليلٌ على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، قاله النسفيّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قال العلماء: هذه الآية مقدَّمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} ، ومعنى {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}: تحوُّل وجهك إلى السماء، قاله الطبريّ. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب، وخَصّ السماء بالذكر؛ إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها، ويعود منها، كالمطر والرحمة والوحي، ومعنى {تَرْضَاهَا}: تحبها، قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يُصَلِّي إلى قِبل الكعبة، فأنزل اللَّه تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]. انتهى

(3)

.

(فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) -بفتح السين المهملة، وكسر اللام-: بطنٌ من الأنصار، قال في "اللباب": هو سَلِمة -بكسر اللام-: هو سَلِمةُ بن سعد بن عليّ بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جُشَم بن الخزرج، والنسبة إليه سَلَميّ بفتح اللام عند النحويين، والمحدِّثون يكسرونها. انتهى

(4)

.

(وَهُمْ رُكُوعٌ) جمع راكع، والجملة في محلّ نصب على الحال.

[تنبيه]: لم يُذكَر في هذه الرواية القوم الممرور عليهم، وقد ذُكروا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي بأنهم أهل قباء، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ) تقدّم في حديث ابن عمر بلفظ "الصبح"، وبلفظ "الغداة"، وكلها بمعنى واحد (وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً) جملة حاليّة أيضًا (فَنَادَى: أَلَا) -بفتح الهمزة، وتخفيف اللام-: أداة استفتاح وتنبيه (إِنَّ الْقِبْلَةَ) بكسر همزة

(1)

راجع: "حاشية الجمل على الجلالين" 1/ 117.

(2)

"تفسير النسفيّ" 1/ 81.

(3)

"تفسير القرطبيّ" 2/ 158.

(4)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 447.

ص: 122

"إن" لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة، كقوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} و (قَدْ حُوِّلَتْ) بالبناء للمفعول، أي صُرفت عن بيت المقدس إلى المسجد الحرام (فَمَالُوا) قال في "المصباح": مال عن الطريق يميل مَيْلًا: إذا تركه، وحاد عنه. انتهى

(1)

. أي ترك هؤلاء القوم قبلتهم، وحادوا عنها (كَمَا هُمْ) أي على حالتهم التي كانوا عليها، وهي كونهم راكعين في صلاة الفجر (نَحْوَ الْقِبْلَةِ) بنصب "نحوَ" على الظرفيّة، أي جهة القبلة المأمور باستقبالها، وهي الكعبة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 1185](527)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1045)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 284 رقم 14042)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 292 رقم 11008)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(430 و 431)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 442 رقم 3826)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 130 رقم 1166)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام.

2 -

(ومنها): بيان وجوب استقبال الكعبة، قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ في "تفسيره": لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أُفُق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها، وهو معاين لها، وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كلّ ما صلى، ذكره أبو عمر.

وأجمعوا على أن كلَّ من غاب عنها عليه أن يستقبل ناحيتها وشطرها، وتلقاءها، فإن خَفِيت عليه فعليه أن يستدلّ على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك، مما يُمْكِن أن يستدَلَّ به على ناحيتها، ومن جلس

(1)

"المصباح المنير" 2/ 588.

ص: 123

في المسجد الحرام، فليكن وجهه إلى الكعبة، وينظر إليها إيمانًا واحتسابًا، فإنه يُرْوَى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء، ومجاهد.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أخرج الطبرانيّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: "أشرف المجالس ما استُقْبِل به القبلة"، وهو ضعيف

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: اختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة؟، فمنهم من قال بالأول، قال ابن العربيّ: وهو ضعيف؛ لأنه تكليف لما لا يَصِل إليه، ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح؛ لثلاثة أوجه:

الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.

الثاني: أنه المأمور به في القرآن؛ لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 144] يعني من الأرض من شرق أو غرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} .

الثالث: أن العلماء احتجُّوا بالصفّ الطويل الذي يُعلم قطعًا أنه أضعاف عرض البيت. انتهى. وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): ما قال القرطبيّ أيضًا: في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك، ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، وقال الثوريّ، وأبو حنيفة، والشافعيّ، والحسن بن حيّ: يُسْتَحَب أن يكون نظره إلى موضع سجوده، وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حِجْره.

قال ابن العربيّ: إنما ينظر أمامه، فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترَض عليه في الرأس، وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة، وحرج، وما جُعِل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل من قدر عليه. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "ضعيف الجامع" للشيخ الألبانيّ رحمه الله رقم (876).

(2)

"الجامع لأحكام القرآن" 2/ 158 - 160.

ص: 124

قال الجامع عفا اللَّه عنه: استنباط المالكيّة لما ذهبوا إليه من نظر المصلي أمامه من هذه الآية لا يخفى بعده، بل ما ذهب إليه الجمهور من أنه يستحبّ نظره إلى موضع سجوده أقرب إلى الخشوع، كما لا يخفى على من تأمّله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ النَّهْي عَنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، وَاتِّخَاذِ الصُّوَرِ فِيهَا، وَالنَّهْي عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1186]

(528) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ، فِيهَا تَصَاوِيرُ، لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(هِشَام) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه ربما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، توفّيت سنة (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

ص: 125

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالتحديث، والإخبار إلا في موضع، ففيه العنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، ويحيى بصريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، ورواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الحديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ) رَمْلة بنت أبي سفيان صَخْر بن حرب بن أمية الأموية، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أسلمت قديمًا، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد اللَّه بن جحش، ومات هناك، فتزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي هناك سنة ست، وقيل: سنة سبع.

رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن زينب بنت جحش، وروت عنها ابنتها حبيبة، وأخواها: معاوية، وعنبسة، وابن أخيها عبد اللَّه بن أبي سفيان، وابن أختها أبو سفيان بن سعيد بن المغيرة بن الأخنس بن شَرِيق، ومولاها سالم بن سَوّار، ومولاها الآخر أبو الجراح، وأبو صالح السّمّان، وعروة بن الزبير، وزينب بنت أم سلمة، وصفية بنت شيبة، وشهر بن حَوْشب، وآخرون.

قال أبو عبيد: تُوُفّيت سنة أربع وأربعين، وقال ابن أبي خيثمة، تُوُفّيت قبل معاوية بسنة، يعني سنة تسع وخمسين، وقال ابن حبان، وابن قانع: ماتت سنة اثنتين وأربعين، وقال ابن عبد البر: قيل: اسمها هُبَيْرَةُ.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب (12) حديثًا بالمكرّر.

(وَأمّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة المخزوميّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، وماتت سنة (61) على الأصحّ، تقدّمت ترجمتها في "شرح المقدمة" ج 2 ص 473.

(ذَكَرَتَا كَنِيسَةً) بفتح الكاف، وكسر النون: مُتعبَّد اليهود، وتُطلق على متعبَّد النصارى، وهو المراد هنا، وهو معرّب، كما قاله في "المصباح".

ص: 126

وفي رواية أبي معاوية التالية أن تلك الكنيسة تسمى مَارِيَة.

(رَأَيْنَهَا) هكذا رواية مسلم: "رأينها" بنون النسوة، والضمير لأم حبيبة، وأم سلمة، ومن معهما، ووقع عند البخاريّ في رواية الأصيليّ، والكُشميهنيّ، بلفظ:"رأتاها" بضمير التثنية للمؤنّث على الأصل، وكذا هو عند النسائيّ.

(بِالْحَبَشَةِ) بفتحتين: البلد المعروف الذي هاجر إليه الصحابة في أول الإسلام، قبل هجرة المدينة، وكانت أم حبيبة، وأم سلمة ممن هاجر إليه (فِيهَا تَصَاوِيرُ) جملة في محل نصب على الحال من "كنيسة"؛ لكونها موصوفة بجملة "رأينها"، أو صفة بعد صفة، والتصاوير: التماثيل، والمراد صُوَر ذوات الأرواح (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "ذَكَرتا" (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أُولَئِكِ) بكسر الكاف، ويجوز فتحها، قاله في "الفتح"، و"العمدة"، وقال السنديّ رحمه الله: قيل: بكسر الكاف؛ لأن الخطاب للمؤنّث، وقد تُفتح، قال: وكأن الفتح لتوجيه الخطاب إلى كلّ ما يصلح له، لا لتوجيهه إليهما، وأنت خبير بأن مقتضى توجيه الخطاب إليهما أن يقال: أولئكما، لا أولئكِ -بالكسر- وعند الإفراد ينبغي الفتح بتوجيه الخطاب إلى كلّ ما يصلح له، فليُتأمّل. انتهى

(1)

.

(إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَمَاتَ) عطف على "كان"، وقوله:(بَنَوْا) جواب "إذا"(عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا) أي محلّ عبادة (وَصَوَّرُوا فِيهِ) أي في ذلك المسجد (تِلْكَ الصُّوَرَ) وفي رواية البخاريّ والنسائيّ: "تيك الصور" بكسر التاء المثنّاة، وسكون الياء بدل اللام، من "تلك"، وهي لغة فيه (أُولَئِكِ) بكسر الكاف، وتفتح كما سبق آنفًا (شِرَارُ الْخَلْقِ) بكسر الشين المعجمة: جمع شَرّ، كالخيار جمع خَيْرٍ، والبحار جمع بَحْر، وأما الأشرار، فقال يونس: واحدها شَرٌّ أيضًا، وقال الأخفش: شَرِيرٌ، مثلُ يَتِيم وأيتام، أفاده في "العمدة".

وإنما كانوا شرار الخلق؛ لأنهم ضمّوا إلى كفرهم الأعمال القبيحة، فهم أقبح الناس عقيدةً وعملًا، قاله السنديّ رحمه الله.

وقوله: (عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") متعلّقان بـ "شرار"، وإنما خصّ يوم القيامة؛ لأن الأمور تشتدّ فيه، بخلاف الدنيا، فمن كان أشرّ الناس فيه كان أشدّهم

(1)

"حاشية السندي على النسائي" 2/ 41 - 42.

ص: 127

عذابًا، ولأن من كان في الدنيا شريرًا ربّما يوفّق للتوبة، وأما الآخرة فليست إلا دار الجزاء، واللَّه تعالى أعلم.

قال القرطبي رحمه الله: إنما صَوَّر أوائلهم الصُّوَرَ ليأتنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون اللَّه عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم خَلَف مِن بعدهم خَلْفٌ جَهِلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدّد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسدّ الذرائع المؤدية إلى ذلك، فقال:"اشتدّ غضب اللَّه على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتّخذوا القبور مساجد"، أي أنهاكم عن ذلك، وقال:"لعن اللَّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"، وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد".

ولهذا بالغ المسلمون في سدّ الذريعة في قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأَعْلَوُا حيطان تربته، وسدُّوا المداخل إليها، وجعلوها مُحدقةً بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يُتّخذ موضع قبره قبلة؛ إذ كان مستقبل المصلين، فتتصوّر الصلاة إليه بصورة العبادة، فبَنَوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرّفوهما حتى التقيا على زاويةِ مثلَّث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكّن أحدٌ من استقبال قبره، ولهذا الذي ذكرناه كلّه قالت عائشة رضي الله عنها:"ولولا ذلك لأُبرز قبره". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله. وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 1186 و 1187 و 1188](528)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1330 و 1341 و 1390)، و"المغازي"(3453 و 4441 و 4443)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 40)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1588)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 218 و 6/ 34 و 121 و 255)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 326)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3181)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1189 و 1019 و 1191)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 131 - 132)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 80)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(508)، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 128

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير، وإنما نُهِي عنه لئلا يؤدّي إلى اتخاذ القبور والصور آلهةً.

2 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صُورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كلّ واحد منهما محرَّمٌ على انفراده، فتصوير صور الآدميين محرّم، وبناء القبور على المساجد بانفراده محرَّمٌ، كما دلتّ عليه نصوص أخرى، فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم، فلا شكّ في تحريمه، سواء كانت صورًا مجسّدةً كالأصنام، أو على حائط ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم.

قال: والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظلّ، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة، فتصوير الصور على مثل صور الأنبياء والصالحين للتبرّك بها، والاستشفاع بها محرَّمٌ في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة.

قال: وتصوير الصور للتأنّس برؤيتها، أو للتنزّه بذلك للتلهّي محرّمٌ، وهو من الكبائر، وفاعله من أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثّلٌ بافعال اللَّه تعالى التي لا يقدر على فعلها غيره، واللَّه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(1)

. وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): تحريم تصوير الحيوان خصوصًا الآدميّ، ولا سيّما الرجل الصالح، وحمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان؛ لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا، وقد أطنب ابن دقيق العيد في ردّ ذلك عليه، وأحسن في ذلك، ودونك نصّه:

قال رحمه الله: وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وإن هذا التشديد

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 3/ 203 - 204.

ص: 129

كان في ذلك الزمان؛ لقرب العهد بعبادة الأوثان، وهذا الزمان حيث انتشر الإسلام، وتمهدت قواعده لا يساويه في هذا المعنى، فلا يساويه في هذا التشديد، هذا أو معناه.

قال: وهذا عندنا باطل قطعًا؛ لأنه قد ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، فإنهم يقال لهم:"أحيُوا ما خلقتم".

وهذه علة مخالفة لما قاله هذا القائل، وقد صُرّح بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"المشبّهون بخلق اللَّه"، وهذه علة عامّة مستقلة مناسبة لا تخص زمانًا دون زمان، وليس لنا أن نتصرّف في النصوص المتظاهرة المتظافرة بمعنى خياليّ يمكن أن لا يكون هو المراد مع اقتضاء اللفظ التعليل بغيره، وهو التشبيه بخلق اللَّه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"بَنَوا على قبره مسجدًا" إشارة إلى المنع من ذلك، وقد صَرَّح به الحديث الآخر:"لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد". انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله

(1)

. وهو تحقيقٌ نفيسٌ مفيد، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): النهي عن بناء المساجد على القبور، والحقّ أنه للتحريم، كيف وقد ثبت اللعن عليه؟، قال في "العمدة": وأما الشافعيّ وأصحابه فصرَّحُوا بالكراهة، وقال البندنيجيّ: والمراد أن يُسَوَّى القبر مسجدًا، فيصلى فوقه، وقال: إنه يكره أن يُبنَى عنده مسجد، فيصلى فيه إلى القبر، وأما المقبرة الداثرة إذا بُنِي فيها مسجد ليصلَّى فيه، فلم أر فيه بأسًا؛ لأن المقابر وقف، وكذا المسجد فمعناها واحد.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ظاهر النصّ العموم، فلا ينبغي العدول عنه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال البيضاويّ: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلةً يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا لعنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح، وقصد التبرك بالقرب منه، لا للتعظيم له، ولا للتوجه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور. انتهى.

(1)

"إحكام الأحكام" 2/ 171 - 172.

ص: 130

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي أباحه البيضاويّ هو عين ما جاء النهي عنه، فهل معنى قصد التبرك بالقبر غير معنى التعظيم، وهل دخل على الأولين الشرك والضلال إلا بقصد التبرك بقبور صالحيهم؟ فهذا هو غربة الإسلام، وعدم غيرة العلماء عليه، فيقرّرون للعوام الفساد، ويحبذون لهم الغلوّ في الصالحين.

ومن الغريب العجيب أن السيوطيّ، والسنديّ نقلا كلام البيضاويّ هذا في شرحيهما على النسائيّ، وكذا ذكر في "الفتح" نحوه، وكلهم أقرّوه عليه، وهذا هو العجب العجاب من مثل هؤلاء الأكابر، كيف جاز لهم إقرار مثل هذا القول الشنيع، المنابذ للسنة، والمعارض للنصوص الصريحة؟ وهل دخل على اليهود والنصارى هذا الضلال إلا من هذا الباب؟، فإن أول بداية ضلالهم هذا هو التبرّك بقبور أنبيائهم، وصالحيهم، فآل بهم الحال إلى أن عبدوهم، وقد وقع من كثير ممن يدَّعي الإسلام في كثير من بلدان الإسلام اليوم ما وقع منهم حذو النعل بالنغل، فمن يرى حال كثير من الناس فيما يفعلونه عند قبور الصالحين، من أنواع الشرك والضلالات لا يشك أنه عين ما وقع لليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فإنا للَّه، وإنا إليه راجعون.

ومن الداهية العظمى سكوت أهل العلم عن بيان ذلك، بل بعضهم يشاركونهم فيه، ويزيّنون لهم قبيح فعلهم، فإلى اللَّه المشتكى.

وقد حَكَى لي بعض من أثق به من أهل العلم أنه سافر إلى مصر لطلب العلاج، فزار قبر البدويّ، فرأى رجلًا من علماء البلد، عليه زيّ علماء الأزهر، يسجد أمام ضريح البدويّ، قال: فقلت له: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، أمثلك يفعل هذا؟، وأنت من علماء هذه البلدة، وعليك لباس علماء الأزهر؟، قال: فردّ عليّ بملء فيه، قائلًا: إن السجود للَّه، والبدوي كالكعبة، أو كما قال، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه العزيز الحكيم.

5 -

(ومنها): جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به.

6 -

(ومنها): ذمّ فاعل المحرمات، ولعنهم، وتحذير الناس من أفعالهم.

7 -

(ومنها): أن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل.

ص: 131

8 -

(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على امتناع اتخاذ قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدًا، ومنه يُفْهَم امتناع الصلاة على قبره، ومن الفقهاء مَن استدلّ بعدم صلاة المسلمين على قبره صلى الله عليه وسلم على عدم الصلاة على القبر جملةً.

وأجيبوا عن ذلك بأن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوص عن هذا بما فُهِم من هذا الحديث من النهي عن اتخاذ قبره مسجدًا.

وبعض الناس أجاز الصلاة على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم كجوازها على قبر غيره عنده، وهو ضعيف؛ لتطابق المسلمين على خلافه، ولإشعار الحديث بالمنع منه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الصلاة على القبر من لم يُصلّ عليه سنّة، فقد صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم على القبر، وصلّى أصحابه معه، فقد أخرج الشيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنهما "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دُفن، فكبّر عليه أربعًا".

وأخرجا أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة أو رجلًا كانت تَقُمّ المسجد، ولا أراه إلا امرأةً، فذكر حديث النبيّ أنه صلى على قبرها.

وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى على قبر".

وأما الصلاة على قبره صلى الله عليه وسلم فمن المنكرات، فمن أجازه قياسًا على غيره، فقد خالف إجماع المسلمين، كما أشار إليه ابن دقيق العيد رحمه الله، فتبصّر.

9 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: في هذه الأحاديث ما يَستدلّ به مالك على صحّة القول بسدّ الذرائع على الشافعيّ وغيره من المانعين لذلك، وهي مستوفاة في الأصول. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه المسألة قد أشبعت الكلام فيها في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

(1)

"إحكام الأحكام" 2/ 173.

(2)

"المفهم" 2/ 129.

ص: 132

[1187]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ، فَذَكَرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ

(1)

، كَنِيسَةً، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظ [10](232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(وَكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197) عن (70) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (وَأُمُّ حَبِيبَةَ) هكذا في معظم النسخ "وأمّ حبيبة" بواو العطف، ووقع في بعض النسخ "أو أم حبيبة" بـ "أو" بدل الواو، وهو الذي في "مستخرج أبي عوانة" الآتي.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ) فاعل "ذكر" ضمير وكيع، وضمير "نحوه" للحديث، يعني أن وكيعًا روى عن هشام بن عروة نحو رواية يحيى القطّان السابقة.

[تنبيه]: رواية وكيع هذه ساقها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه"(2/ 151)، فقال:

(7548)

حدّثنا وكيع، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنهم تذاكروا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه، فذكَرَت أم سلمة، أو أم حبيبة كنيسةً، رأتها في أرض الحبشة، فيها تصاوير، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أولئك كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروه، أولئك شرار الخلق عند اللَّه". انتهى.

(1)

وفي نسخة: "أو أم حبيبة".

ص: 133

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1188]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ذَكَرْنَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل باب أيضًا.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (ذَكَرْنَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هكذا "ذكرن" بالنون في معظم النسخ، وفي بعضها:"ذكرت" بالتاء، قال النوويّ رحمه الله: والأول أشهر، وهو جائز على لغة "أكلوني البراغيث"، ومنه حديث:"يتعاقبون فيكم ملائكة"، وإليه أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

وَجَرِّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا

لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَـ "فَازَ الشُّهَدَا"

وَقَدْ يَقَالُ "سَعِدَا" وَسَعِدُوا"

وَالْفِعْلُ للظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ

وقال الحريريّ في "مُلْحته":

وَوَحّدِ الْفِعْلَ مَعَ الْجَمَاعَهْ

كَقَوْلِهِمْ "سَارَ الرِّجَالُ السَّاعَهْ"

وَإِنْ تَشَأْ أَلْحِقْ عَلَيْهِ التَّاءَ

نَحْوُ "اشْتَكَتْ عُرَاتُنَا الشِّتَاءَ

وقوله: (يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ) بكسر الراء، وتخفيف الياء التحتانيّة.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) كان الظاهر أن يقول: بمثل حديثهما؛ لأن المراد يحيى القطّان، ووكيع، ويمكن أن يجاب عنه بأن أقل الجمع اثنان عند بعضهم، وهو الصحيح.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 134

والمعنى: أن أبا معاوية حدّث عن هشام بمثل حديث يحيى ووكيع.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية هذه لم أجد من ساقها تامّة، غير أن إسحاق ابن راهويه قال في "مسنده" (2/ 265) بعد إخراج رواية وكيع ما نصّه:

(769)

أخبرنا أبو معاوية، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنهم تذاكروا، فذكر مثله، وقال: كنيسة يقال لها: مارية، وقال: شرار الخلق عند اللَّه يوم القيامة. انتهى.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1189]

(529) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّه الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، قَالَتْ: فَلَوْلَا ذَاكَ

(3)

أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ

(4)

أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَلَوْلَا ذَاكَ، لَمْ يَذْكُرْ: قَالَتْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قَيْصَر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) عن (73) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

2 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(3)

وفي نسخة: "ولولا ذلك".

(4)

وفي نسخة: "لأبرز قبره، ولكنه خُشِي".

ص: 135

3 -

(هِلَالُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ) أو ابن حميد، أو ابن مِقْلاص، أو ابن عبد اللَّه الْجُهنيّ مولاهم، أبو الجهم، وقيل غير ذلك في اسم أبيه، وفي كنيته، الصيرفيّ الوزّان الكوفيّ، ثقةٌ [6](خ م د س) تقدم في "الصلاة" 39/ 1062.

والباقون تقدّموا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في كيفيّة التحمّل والأداء، كما أسلفته غير مرّة.

2 -

(ومنها): أنهم ما بين مدنيينِ: عائشة رضي الله عنها وعروة، وبغداديينِ: عمرو، وهاشم، وكوفيينَ، وهم الباقون.

3 -

(ومنها): أن فيه عروة، من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ) أي الذي مات بسببه، ولفظ البخاريّ: "في مرضه الذي مات فيه"، كأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه مرتحلٌ من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره، كما فعل اليهود والنصارى، فعرّض بلعنهم إشارة إلى ذمّ من يَفعَل فعلهم كيلا يُعمل معه ذلك، فقال: ("لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) أي طردهم، وأبعدهم من رحمته، قال الفيّوميّ: لعنه لَعْنًا، من باب نفع: طرده، وأبعده، أو سبّه، فهو لَعِينٌ، وملعونٌ. انتهى

(1)

.

واللعن أمارة الكبيرة المحرّمة أشدّ التحريم، فيكون الفعل الذي أوجب اللعن حرامًا

(2)

.

وقوله: (اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ") جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو واقع جوابًا لسؤال مقدّر، والتقدير هنا: ما السبب الموجب للعنهم، فأجاب

(1)

"المصباح المنير" 2/ 554.

(2)

"المرعاة" 2/ 419.

ص: 136

بقوله: "اتّخذوا. . . إلخ"، زاد في حديث ابن عبّاس، وعائشة رضي الله عنهم الآتي:"يُحَذِّر ما صَنَعوا"، وهو أيضًا جواب لسؤال مقدّر من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فأجاب بأنه قال ذلك ليُحَذِّر أمته أن يصنعوا بقبره مثل ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائه.

[تنبيه]: استُشكل ذكر النصارى في هذا الحديث؛ لأنه ليس لهم نبيّ إلا عيسى عليه السلام؛ إذ لا نبيّ بينه وبين نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو حيّ في السماء لم يمت، فليس له قبر.

وأُجيب بأن ضمير الجمع في قوله: "أنبيائهم" للمجموع من اليهود والنصارى، فإن اليهود لهم أنبياء، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيّده حديث جندب رضي الله عنه الآتية آخر الباب، وفيه:"وإن من كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"، ولهذا لَمّا أفرد النصارى في حديث عائشة رضي الله عنها الماضي في قصّة أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما، قال:"إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجدًا"، ولم يذكر الأنبياء، ولَمّا أفرد اليهود في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي قال:"قاتل اللَّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، فذكر الأنبياء.

قيل: ويَحْتَمل أن يُجاب بأن في النصارى أيضًا أنبياء، لكنهم غير مرسلين، كالحوارين.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف، وعندي أن أظهر الأجوبة ما قيل: إن أنبياء اليهود هم أنبياء النصارى؛ لأن النصارى مأمورون بالإيمان بكلّ رسول، فرُسُل بني إسرائيل يُسمَّون أنبياء في حقّ الفريقين، وأن المراد من اتّخاذ القبور أعمّ من أن يكون ابتداعًا، أو اتّباعًا، فإن اليهود ابتدعت اتّخاذ القبور مساجد، والنصارى اتّبعت في ذلك، ولا ريب أن النصارى تعظّم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظّمهم اليهود، وخصّ اليهود في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بالذكر؛ لكونهم ابتدعوا هذا الاتخاذ، فهم أظلم

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "مرعاة المفاتيح" 2/ 420.

ص: 137

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَلَوْلَا ذَاكَ) وفي نسخة: "ولولا ذلك"، وهو الذي عند البخاريّ، أي لولا تحذّير النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته بذكره لعن المتَّخِذين قبور الأنبياء مساجد (أُبْرِزَ قَبْرُهُ) بالبناء للمفعول، أي لكُشف قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُتَّخذ عليه الحائل، والمراد دفنه صلى الله عليه وسلم خارج بيته، وهذا قالته عائشة رضي الله عنها قبل أن يُوسّع المسجد النبويّ، ولهذا لَمّا وُسِّع المسجد جُعلت حجرتها مثلّثة الشكل محددةً حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر، مع استقبال القبلة، قاله في "الفتح"

(1)

.

(غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بضم الخاء، وفتحها، وهما صحيحان. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أما على الضمّ فالفعل مبنيّ للمفعول، ونائب فاعله، ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي أنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يُتّخذ قبره مسجدًا، فحذّر أمته، وأخبرها بأن اليهود والنصارى ملعونون بسبب ذلك.

وأما على الفتح فالفعل مبنيّ للفاعل، وفاعله ضمير الصحابة رضي الله عنهم، أي إنهم لَمّا حذّرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم خَشُوا أن يُتّخذ قبره مسجدًا، فلم يُبرزوه.

وقوله: (أَنْ يُتَّخَذَ) بالبناء للمفعول أيضًا، والضمير لـ "قبره"(مَسْجِدًا) بالنصب على أنه مفعول ثان لـ "يُتّخذ".

ووقع في نسخة: "فلولا ذاك لأبرز قبرُهُ، ولكنّه خُشي. . . إلخ".

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "غيرَ أني أَخْشَى"، بضمير المتكلّم، قال في "الفتح": كذا هنا، وفي رواية أبي عوانة، عن هلال الآتية في أواخر "الجنائز":"غير أنه خَشِيَ، أو خُشِيَ"، على الشكّ، هل هو بفتح الخاء المعجمة، أو ضمها؛ وفي رواية مسلم:"غير أنه خُشِي" بالضم لا غير.

قال: فرواية الباب تقتضي أن عائشة رضي الله عنها هي التي امتَنَعَت من إبرازه، ورواية الضم مبهمة، يمكن أن تُفَسَّر بهذه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وذلك يقتضي أنهم فعلوه باجتهاد، بخلاف رواية الفتح، فإنها تقتضي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم بذلك. انتهى.

(1)

"الفتح" 23/ 238.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 12.

ص: 138

(وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: وَلَوْلَا ذَاكَ) أي بالواو بدل الفاء (لَمْ يَذْكُرْ) بالبناء للفاعل، والضمير لشيخه هاشم (قَالَتْ) أي لفظة "قالت"، يعني أن هاشمًا حين حدّث أبا بكر لم يذكُر "قالت" قبل قوله:"ولولا ذاك"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 1189](529)، (والبخاريّ) في "الصلاة"(1330 و 1390 و 4441 و 4443 و 5815)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(2/ 40)، و"الجنائز"(4/ 95)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 34 و 80 و 121 و 229 و 255 و 274 و 275)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 326)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1182)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1169)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2327)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(508)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال التُّورِبِشْتِيّ الحنفيّ في "شرح المصابيح": معنى إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرَّجٌ على وجهين:

أحدهما: أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيمًا لهم.

والثاني: أنهم كانوا يتحرَّون الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجّه إلى قبورهم حالة الصلاة؛ نظرًا منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعًا عند اللَّه تعالى؛ لاشتماله على الأمرين: عبادة اللَّه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذهابًا إلى أن تلك البقاع أولى بإقامة الصلاة والتوسّل بالعبادة فيها إلى اللَّه تعالى؛ لاختصاصها بقبور الأنبياء، وكلتا الطريقتين غير مرضيّة.

أما الأولى: فلأنها من الشرك الجليّ، وأما الثانية: فلأنها متضمّنة معنى الإشراك في عبادة اللَّه تعالى حيث أُتي بها على صفة الإشراك، أو التبعيّة لمخلوق.

والدليل على ذمّ الوجهين قوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمّ لا تجعلوا قبري وثَنًا يُعبد،

ص: 139

اشتدّ غضب اللَّه على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

(1)

، والوجه الأول أشبه به.

وأما نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته عن الصلاة في المقابر، فإنه لمعنيين:

أحدهما: لمشابهة ذلك الفعل سنّة اليهود، وإن كان القصدان مختلفين.

والثاني: لما يتضمّنه من الشرك الخفيّ، حيث أُتي في عبادة اللَّه بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له.

قال: والصلاة في المواضع المتبرّك بها من مقابر الصالحين داخلة في جملة هذا النهي، لا سيّما إذا كان الباعث تعظيمَ هؤلاء، وتخصيص تلك المواضع؛ لما أشرنا إليه من الشرك الخفيّ. انتهى كلام التوربشتيّ رحمه الله. وهو تحقيقٌ مفيدٌ.

وقال صاحب "المرعاة" بعد ذكر كلام التوربشتيّ المذكور ما نصّه: ويدخل. أيضًا في هذا النهي والوعيد اتّخاذ مسجد بجوار نبيّ، أو صالح، والصلاة عند قبره، لا لتعظيمه، ولا بالتوجّه نحوه، بل لحصول مدد منه، ورجاء كمال عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح، وهذا لأن اتّخاذ المسجد بقربه، وقصد التبرّك به تعظيم له، ولأن في هذا الصنيع أيضًا من المفاسد ما لا يخفى، ولأنه لم يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدًا من أمته بالاستفاضة بقبره، أو بقبر أحد من صلحاء أمته، ولا بالاستمداد منه، ولا بالمجاورة به، ولا التبرّك به، وإنما أمر أمته بالسلام على أهل القبور، والدعاء والاستغفار لهم عند زيارة القبور، وحثّ على الاعتبار بهم، فالاستفاضة بالقبور، والاستمداد منها، والتبرّك بها، ولو كان بدون التوجّه إليها حرام عندنا؛ لكونه داخلًا في الشرك الخفيّ. انتهى كلام صاحب "المرعاة"، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1190]

(530) - (حَدَّثَنَا

(2)

هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ،

(1)

أخرجه مالك في "الموطأ" مرسلًا برقم (376).

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 140

أَخْبَرَني يُونُسُ وَمَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضل [10](ت 253) عن (83) سنة (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

والباقون تقدّموا قبل بابين، غير مالك وهو: ابن أنس إمام دار الهجرة، فتقدّم في الباب الماضي، و"ابن وهب": هو عبد اللَّه، و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مالك، والباقون مصريّون.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن ابن المسيّب.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة من المكثرين السبعة، وسعيدًا من الفقهاء السبعة.

6 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه على ما قاله بعضهم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أن الأَولى فيه كسر الياء المشدّدة؛ لأنه المنقول عن أهل المدينة، وهم أعلم به، وإنما فتحها أهل الكوفة، وكان هو يكره الفتح، فتنبّه. (أَن أَبا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ) قيل: معناه: لعنهم، كما في الرواية التالية، وقيل: معناه: قَتَلهم وأهلكهم

(1)

، وقال في

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 12.

ص: 141

"العمدة": قوله: "قاتل اللَّه اليهود" أي قتلهم اللَّه؛ فاعل يجيء بمعنى فعل أيضًا، كقولهم: سافر، وسارع بمعنى سَفَر وسَرَع، ويقال: معناه: لعنهم اللَّه، ويقال: عاداهم اللَّه، ويقال: القتال ههنا عبارة عن الطرد والإبعاد عن الرحمة، فمؤدّاه ومؤدّي اللعنة واحد.

وإنما خَصَّص اليهود ههنا بالذكر، بخلاف ما تقدّم؛ لأنهم أسسوا هذا الاتخاذ، وابتدؤوا به فهم أظلم، أو لأنهم أشدّ غلوًّا فيه.

وقد استَشْكَلَ بعضهم ذكر النصارى في الحديث الأول؛ لأنهم ليس لهم نبيّ بين عيسى وبين نبينا صلى الله عليه وسلم غير عيسى عليه الصلاة والسلام وليس له قبر؛ لأنه في السماء.

وأجيب عنه بأنه كان فيهم أنبياء أيضًا، لكنهم غير مرسلين، كالحواريين ومريم في قول.

قال العينيّ رحمه الله: هذا الجواب فيه نظر؛ لأنه جاء في رواية عن عكرمة وقتادة والزهري أن الثلاثة الذين أَتَوْا إلى أنطاكية المذكورين في قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} الآية [يس: 14] كانوا رسلًا من اللَّه تعالى، وهم: صادق وصدوق وشلوم، وعن قتادة: إنهم كانوا رسلًا من عيسى عليه السلام، فعلى هذا لم يكونوا أنبياء فضلًا عن أن يكونوا رسلًا من اللَّه تعالى.

وأما مريم عليها السلام فزعم ابن حزم وآخرون أنها نبية، وكذلك سارة أم إسحاق، وأم موسى عليهم السلام وعند الجمهور كما حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة أن النبوة مختصة بالرجال، وليست في النساء نبية. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" في "كتاب أحاديث الأنبياء": واستُدِلّ بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] على أن مريم كانت نبيةً، ويؤيِّده ذكرها في "سورة مريم" بمثل ما ذُكِر به الأنبياء، ولا يمنع وصفها بأنها صِدّيقة، فإن يوسف وُصِف بذلك مع كونه نبيًّا.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 286 - 287.

ص: 142

وقد نُقِل عن الأشعرىِّ أن في النساء نبيات، وجزم ابن حزم بست: حواء، وسارة، وهاجر، وأم موسى، وآسية، ومريم، ولم يذكر القرطبيّ سارة، ولا هاجر.

ونقله السهيليّ في آخر "الروض" عن أكثر الفقهاء، وقال القرطبيّ: الصحيح أن مريم نبيةٌ.

وقال عياض: الجمهور على خلافه، وذكر النووي في "الأذكار" عن إمام الحرمين أنه نَقَل الإجماع على أن مريم ليست نبية، ونسبه في "شرح المهذَّب" لجماعة، وجاء عن الحسن البصريّ: ليس في النساء نبيةٌ، ولا في الجنّ، وقال السبكيّ: اختُلِف في هذه المسألة، ولم يصحّ عندي في ذلك شيء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن التوقّف في هذه المسألة كما قال السبكيّ هو الحقّ؛ ليس عندنا دليل قاطع لأحد القولين، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ") هذه الجملة تقدّم أنها جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا لسؤال مقدّر، فكانه قيل: ما سبب قتال اللَّه تعالى اليهود؟، فأجاب بانهم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 1190 و 1191](530)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(437)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3227)، و (النسائيّ) فيها (4/ 95 - 96)، وفي "الكبرى"(4/ 257) رقم (7092)، و (مالك) في "الموطّأ"(321) برواية محمد بن الحسن، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 284 و 285 و 366 و 396 و 453 و 454 و 518)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2326)، و (البيهقيّ) في

(1)

"الفتح" 7/ 546.

ص: 143

"الكبرى"(4/ 80)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1184 و 1185 و 1186 و 1188)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1170 و 1171)، وفوائد الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1191]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ

(1)

، حَدَّثَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَنَا

(2)

يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الْفَزَارِيُّ) مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَصَمِّ) هو: عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ العامريّ، نُسب لجدّه، مقبول [6] تقدم في "الصلاة" 46/ 1112.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ) واسم الأصمّ عمرو بن عُبيد بن معاوية البكّائيّ، أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرّقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، ثقة [3](ت 103) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

وشرح الحديث تقدّم في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1192]

(531) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ

(1)

وفي نسخة بحذف "بن سعيد".

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 144

شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَائِشَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قَالَا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ:"لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، يُحَذَرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون تقدّموا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل كيفيّة أدائهما على ما تقدّم بيانه غير مزة.

2 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن صحابيين.

4 -

(ومنها): أن عائشة، وابن عبّاس رضي الله عنهم من المكثرين السبعة، وعبيد اللَّه من الفقهاء السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه قال: (أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عتبة (أَنَّ عَائِشَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسِ) رضي الله عنهم (قَالَا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله الجَارّ والمجرور، والأصل: لَمّا نَزَل الموت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "لَمّا نُزِلَ" هكذا ضبطناه "نُزِلَ" بضمّ النون، وكسر الزاي، وفي أكثر الأصول:"نَزَلَتْ" بفتح الحروف الثلاثة، وبتاء التأنيث

ص: 145

الساكنة، أي حضرت المنيّة والوفاة، وأما الأول فمعناه: نزل ملك الموت، والملائكة الكرام. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "لَمّا نَزَلَ" على صيغة المعلوم في رواية أبي ذرّ، وفاعله محذوف، أي لما نَزَل الموت، وفي رواية غيره بضم النون، وكسر الزاي، على صيغة المجهول. انتهى

(2)

.

وقوله: (طَفِقَ) جواب "لَمّا"، يقال: طَفَق بكسر الفاء وفتحها، أي جعل، والكسر أفصح وأشهر، وبه جاء القرآن، وممن حَكَى الفتح الأخفش والجوهريّ، قاله النوويّ.

وقال في "العمدة": قوله "طَفَقَ" من أفعال المقاربة، وهي ثلاثة أنواع: منها ما وُضع للدلالة على الشروع في الخبر، وأفعاله: أنشأ، وطفق، وجعل، وعَلِق، وأخذ، وتعمل هذه الأفعال عمل "كان"، إلا أن خبرهن يجب كونه جملةً. حَكَى الأخفش: طَفَقَ يَطْفِقُ، مثل ضَرَب يَضْرِب، وطَفِقَ يَطْفَقُ، مثلُ عَلِم يَعْلَم، ولم يستعمل له اسم فاعل، واستعمل له مصدرٌ، حَكَى الأخفش: طُفُوقًا عمن قال: طَفَقَ بالفتح، وطَفَقًا عمن قال: طَفِقَ بالكسر، ومعناه ههنا جَعَلَ. انتهى

(3)

.

وأفعال الشروع هي التي ذكرها ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ

كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ

(يَطْرَحُ) بفتح أوله، وثالثه، قال الفيّوميّ: طَرَحتُهُ طَرْحًا، من باب نَفَعَ: رَمَيْتُ به، ومن هنا قيل: يجوز أن يُعَدّى بالباء، فيقال: طَرَحتُ به؛ لأن الفعل إذا تضمّن معنى فعل جاز أن يَعْمَل عمله، وطَرَحتُ الرداء على عاتقي: ألقيتُهُ. انتهى

(4)

. والجملة خبر "طفق".

(خَمِيصَةً) بالنصب على أنه مفعول "يطرح"، وهي بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم: كِسَاءٌ أسودُ مربعٌ له عَلَمان، فإن لم يكن مُعْلَمًا، فليس بخميصة، وتكون من خزّ، أو صوف، وجمعها خَمَائص، وقيل: الخمائص: ثيابٌ من خزّ

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 12 - 13.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 285.

(3)

"عمدة القاري" 4/ 285 - 286.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 370.

ص: 146

ثِخَان سُودٌ وحُمْرٌ، ولها أعلام ثِخَان أيضًا، أفاده في "اللسان"

(1)

.

وقوله: (لَهُ) متعلّق بصفة لـ "خَمِيصة"، أي كائنةً له صلى الله عليه وسلم (عَلَى وَجْهِهِ) متعلّق بـ "يطرح"، أي يُلقي تلك الخميصة على وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا اغْتَمَّ) بالغين المعجمة: أي احتَبَس نفسه عن الخروج، وقيل: إذا تَسَخَّن بالخميصة، وحَمِي بها (كَشَفَهَا) أي أزال تلك الخميصة (عَنْ وَجْهِهِ) الشريف صلى الله عليه وسلم؛ ليزول اغتمامه (فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ) جملة في محلّ نصب على الحال، وهي معترضة بين القول ومقوله، أي قال صلى الله عليه وسلم، والحال أنه في تلك الحال من الطرح والكشف، وقوله:("لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) مقول "فقال"، واللعنة: الطرد والإبعاد عن الرحمة، أي أبعدهم اللَّه تعالى عن رحمته.

(اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ") تقدّم أنها جملة استئنافية كأنها جواب عن سؤال سائل بقوله: ما سبب لعنهم هذا؟.

وقوله: (يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا) مقول الراوي، وليس مقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أيضًا جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه سئل عن حكمة ذكره صلى الله عليه وسلم ذلك في ذلك الوقت، فأجاب به.

و"يُحذّر" بتشديد الذال المعجمة، مبنيًّا للفاعل، من التحذير، أي يحذر أمته أن تصنع بقبره كما صنعت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها؛ لأن ذلك يصير بالتدريج شَبِيهًا بعبادة الأصنام.

قال الحافظ ابن رجب بعد ذكر هذا الحديث: أخرج الإمام أحمد من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا، لَعَنَ اللَّهُ قومًا اتَّخَذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وروى مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا يُعْبَد، اشتَدَّ غضبُ اللَّه على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: الوَثَنُ: الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة، أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يُعْبَد من دون اللَّه فهو وثن، صَنَمًا

(1)

"لسان العرب" 7/ 31.

ص: 147

كان، أو غير صنم، وكانت العرب تُصَلِّي إلى الأصنام، وتعبدها، فخَشِي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض مَن مضى من الأمم، كانوا إذا مات لهم نبيّ عَكَفُوا حول قبره، كما يُصْنَعُ بالصنم، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا يُصَلَّى إليه، ويُسْجَد نحوه، ويُعْبَدُ، فقد اشتدّ غضب اللَّه على من فعل ذلك، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحَذِّر أصحابه، وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صَلَّوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلةً ومسجدًا، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يَسجُدون إليها، ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط اللَّه وغضبه، وأنه مما لا يرضاه؛ خشية عليهم امتثالَ طرقهم، وكان صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مخالفة أهل الكتاب، وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا تَرَى إلى قوله صلى الله عليه وسلم على جهة التعيير والتوبيخ: "لتتبعُنَّ سَنَنَ الذين كانوا قبلكم حَذْوَ النعل بالنعل، حتى إنّ أحدهم لو دَخَل جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه". انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

. وهو نفيسٌ.

قال ابن رجب رحمه الله: ويؤيّده ما ذكره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُحذِّر من ذلك في مرض موته، كما في حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما، وفي حديث جُندب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل موته بخمس.

وفي "مسند الإمام أحمد" بسند صحيح، من حديث أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وأخرج الإمام أحمد حديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أدخل علي أصحابي"، فدخلوا عليه، فكشف القناع، ثم قال:"لعن اللَّه اليهود والنصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وأخرج أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها من رواية ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن الزهريّ، وقال في آخر حديثه:"يُحرّم ذلك على أمته".

(1)

"التمهيد" لابن عبد البر 5/ 45.

ص: 148

وقد اتّفق أئمة الإسلام على هذا المعنى، قال الشافعيّ رحمه الله: وأكره أن يُعظَّم مخلوقٌ حتى يتّخذ قبره مسجدًا خشيةَ الفتنة عليه، وعلى من بعده.

وقال صاحب "التنبيه" من أصحابه: أما الصلاة عند رأس قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوجّهًا إليه فحرام.

قال القرطبي رحمه الله: بالغ المسلمون في سدّ الذريعة في قبره النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعلموا حِيطان تربته، وسدُّوا الداخل إليها، وجعلوها مُحدقةً بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يُتخّذ موضع قبره قبلةً إذا كان مستقبل المصلّين، فتُتصوّر الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين، وحرّفوهما حتى التقيا على زاوية مُثلّثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكّن أحدٌ من استقبال قبره، ولهذا المعنى قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك أُبرِز قبره. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة وابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 1192](531)، (والبخاريّ) في "الصلاة"(435 و 436 و 3453 و 3454 و 4443 و 4444 و 5815 و 5816)، و (النسائيّ)(2/ 40 - 41)، وفي "الكبرى"(1/ 259 - 260)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 306)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 377)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1183 و 1184)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1172)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن اتّخاذ القبور مساجد؛ لما يترتّب عليه من الفساد بتعظيمها المؤدّي إلى عبادتها.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من شدّة العناية في تحذير أمته

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 3/ 245 - 248.

ص: 149

من الوقوع في الشرك، حتى في آخر لحظة من حياته، وفي الوقت الذي اشتدّ به النزع.

3 -

(ومنها): بيان اشتداد مرضه صلى الله عليه وسلم، وذلك لتضعيف درجاته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما رأيت الوجع على أحد أشدّ منه على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". متّفقٌ عليه.

وعن عائشة رضي الله عنها أيضًا، قالت:"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان بين يديه رَكْوة، أو عُلْبة فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه، ويقول: لا إله إلا اللَّه، إن للموت سكرات، ثم نَصَب يده، فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قُبِض، ومالت يده"، متّفقٌ عليه.

4 -

(ومنها): مشروعيّة لعن اليهود والنصارى؛ لانحرافهم عن دينهم، وعما أنزل اللَّه تعالى عليهم، حتى عَبَدُوا قبور الأنبياء، والصالحين من دون اللَّه تعالى، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} الآية [التوبة: 31].

5 -

(ومنها): أن من فعل مثل ما فعلته اليهود والنصارى استحقّ اللعن والطرد من رحمة اللَّه تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[1193]

(532) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زيدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: "إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ").

ص: 150

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيّ) بن الصلت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ جليلٌ حافظ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(بخ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.

4 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو) بن أبي الوليد الرقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيه ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (79) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 2/ 96.

5 -

(زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ) الْجزريّ، أبو أُسامة، أصله من الكوفة، ثم سكن الرُّهَا، ثقةٌ له أفراد [6](ت 119 أو 124)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

6 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

7 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيُّ) الزُّبيديّ الكوفيّ المعروف بالمكتب، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ابن مسعود، وجندب بن عبد اللَّه البجليّ، وطَلِيق بن قيس، وأبي كثير الزُّبيديّ، وغيرهم.

ورَوى عنه عمرو بن مُرّة، وحميد بن عطاء الأعرج، وأبو سنان ضِرَار بن مرة، والمغيرة بن عبد اللَّه اليشكريّ.

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثبتٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

8 -

(جُنْدَب) بن عبد اللَّه بن سُفيان الْبَجَليّ، ثُمّ الْعَلَقيّ، أبو عبد اللَّه، وربّما نُسب لجدّه، صحابيّ، مات بعد الستين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

ص: 151

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل ببيان صيغتي الأداء؛ لاختلاف كيفيّة التحمّل، كما سبق بيانه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له" وقد سبق بيانه غير مرّة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن عبد اللَّه بن الحارث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ) بفتح النون، وسكون الجيم: نسبة إلى نَجْران: ناحية بين اليمن وهَجَر، قاله في "اللباب"

(1)

، وقال في "المصباح": نَجْرانُ: بلدة من بلاد هَمْدَان من اليمن، قال البكريّ: سُمّيت باسم بانيها نَجْران بن زيد بن يَشْجُبَ بن يَعْرُبَ بن قَحْطان. انتهى

(2)

.

(قَالَ: حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ) -بضم الجيم، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وتُضمّ- ابن عبد اللَّه بن سفيان رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ) أي خمس ليال، وهذا فيه بيان أن هذا الكلام من أواخر ما تكلّم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أنه مرتحل عن الدنيا بذلك المرض، فخاف على أمته أن تُعظّم قبره، وتقع فيما وقعت فيه اليهود والنصارى، فحذّرها عن ذلك (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليّة من المفعول ("إِنِّي أَبْرَأُ) بفتح أوله وثالثه، مضارع بَرِئَ، من باب تَعِبَ، ونَدَر كونه من باب نصرَ، قال في "القاموس": وبَرِئَ من الأمر يَبْرَأُ، ويَبْرُؤُ -نادرٌ- بَرَاءً وبراءةً، وبُرُوءًا: تبرّأ. انتهى

(3)

.

قال النوويّ رحمه الله: معنى "أبرأ": أي أمتنع من هذا، وأنكره، وقال القاضي عياض رحمه الله: أي أبعُد عن هذا، وأنقطع عنه، ولا أتّصل به. انتهى

(4)

.

وقوله: (إِلَى اللَّهِ) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كوني منقطعًا إلى اللَّه تعالى من غيره.

(1)

"اللباب" 2/ 390.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 594.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 8.

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 452.

ص: 152

(أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ) الخليل: هو المنقَطَعُ إليه، وقيل: المختص بشيء دون غيره، قيل: هو مشتقّ من الْخَلَّة -بفتح الخاء-: وهي الحاجة، وقيل: من الْخُلّة -بضم الخاء-: وهي تخلل المودّة في القلب، فنفى صلى الله عليه وسلم أن تكون حاجته، وانقطاعه إلى غير اللَّه تعالى، وقيل: الخليل من لا يَتَّسِع القلب لغيره، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الْخُلّة بالضم: الصداقة، والمحبة التي تخلَّلت القلب، فصارت خلاله، أي في باطنه، والخليل: الصديق، فَعِيلٌ بمعنى مُفَاعِل، وقد يكون بمعنى مفعول، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن خُلّته كانت مقصورة على حبّ اللَّه تعالى، فليس فيها لغيره مُتَّسَعٌ، ولا شَرِكة من مَحابّ الدنيا والآخرة، وهذه حالٌ شريفةٌ، لا ينالها أحدٌ بكسب واجتهاد، فإن الطباع غالبةٌ، وإنما يَخُصّ اللَّه بها من يشاء من عباده، مثل سيد المرسلين -صلوات اللَّه وسلامه عليه-.

ومن جَعَل الخليل مشتقًّا من الْخَلَّة، وهي الحاجة والفقر، أراد: إني أبرأ من الاعتماد والافتقار إلى أحد غير اللَّه تعالى، وفي رواية رحمه الله:"أبرأ إلى كُلّ خِلٍّ من خَلَّته" بفتح الخاء، وبكسرها، وهما بمعنى الْخُلَّة والخليل. انتهى

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "إني أبرأ إلى اللَّه. . . إلخ": أي أَبْعُدُ عن هذا، وأنقطع عنه، وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ بما تخلّله من محبّة اللَّه تعالى وتعظيمه، فلا يَتَّسِعُ لمخاللة غيره، أو لأنه صلى الله عليه وسلم قد انقطع بحاجته كلّها إلى اللَّه تعالى، ولجأ إليه في سدّ خلّاته، فكفاه ووقاه، فلا يَحتاج إلى أحد من المخلوقين. انتهى

(3)

.

ثم علّل براءته عن المخلوقين بقوله:

(فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام خَلِيلًا) حيث قال اللَّه عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 13.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 72.

(3)

"المفهم" 2/ 129.

ص: 153

إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] وهذا من باب الترغيب في اتّباعه؛ لأنه إمام يُقْتَدى به حيث وصل إلى غاية ما يَتَقَرَّب به العباد له، فإنه انتهى إلى درجة الْخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37].

قال كثير من علماء السلف: أي قام بجميع ما أُمر به، وفي كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبيرٌ عن صغير، وقال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية [البقرة: 124]، وقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)} الآية [النحل: 120] والآية بعدها.

وقال البخاريّ: حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون، قال:"إن معاذًا لَمّا قَدِمَ اليمن صلى بهم الصبح، فقرأ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فقال رجل من القوم: لقد قَرَّت عين أم إبراهيم".

وقد ذكر ابن جرير في "تفسيره" عن بعضهم أنه إنما سماه اللَّه خليلًا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْبٌ، فارتحل إلى خليل له من أهل الْمَوْصِل، وقال بعضهم: من أهل مصر؛ ليمتار طعامًا لأهله من قِبَله، فلم يُصِب عنده حاجته، فلما قَرُب من أهله بمفازة ذات رَمْل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل؛ لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير مِيرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون، ففعل ذلك، فتحوَّل ما في الغرائر من الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام، وقام أهله، ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقًا، فعَجَنوا منه، وخَبَزوا، فاستيقظ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فقال: نعم هو من عند خليلي اللَّه، فسماه اللَّه بذلك خليلًا.

قال ابن كثير رحمه الله: وفي صحة هذا ووقوعه نظرٌ، وغايته أن يكون خبرًا إسرائيليًّا لا يُصَدَّق ولا يُكَذَّب.

وإنما سُمِّي خليل اللَّه؛ لشدّة محبته لربه عز وجل لِمَا قام له به من الطاعة التي يحبها ويرضاها، ولهذا ثبت في "الصحيحين" من رواية أبي سعيد الخدريّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمّا خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: "أما بعدُ أيها الناس، فلو

ص: 154

كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل اللَّه".

وجاء من طريق جندب بن عبد اللَّه البجليّ، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّه اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا".

وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدّثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدّثنا إبراهيم بن يعقوب الْجُوزجانيّ بمكة، حدّثنا عبد اللَّه الحنفيّ، حدّثنا زَمْعَة أبو صالح، عن سَلَمَة بن وَهْرَام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"جلس ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عَجَبٌ إن اللَّه اتّخذ من خلقه خليلًا، فإبراهيم خليله، وقال آخر: ماذا بأعجب من أن اللَّه كلم موسى تكليمًا؟، وقال آخر: فعيسى روح اللَّه وكلمته، وقال آخر: آدم اصطفاه اللَّه، فخرج عليهم، فسلّم، وقال: قد سمعت كلامكم، وتعجبكم أن إبراهيم خليل اللَّه، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه اللَّه، وهو كذلك، ألا وإني حبيب اللَّه، ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفَّع ولا فخر، وأنا أول من يُحَرِّك حلقة الجنة فيفتح اللَّه ويدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين، ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة، ولا فخر"

(1)

.

قال ابن كثير رحمه الله: وهذا حديث غريبٌ، من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.

وقال قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الْخُلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد؟ -صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين-

(2)

.

(1)

ضعيفٌ؛ لأن في سنده زمعة بن صالح الْجَنَديّ: ضعيف.

(2)

صححه الشيخ الألباني رحمه الله في "ظلال الجنّة"(442).

ص: 155

رواه الحاكم في "المستدرك" رقم (165)، وقال: صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرِّجاه.

وكذا رُوِي عن أنس بن مالك، وغير واحد من الصحابة والتابعين، والأئمة من السلف والخلف. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(1)

.

(وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنه مخصوص من مِنَحِ اللَّه تعالى، ومن كريم مواهبه، ومن محبّة اللَّه ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له بما ليس لأحد من بعده، وهذا مذهب أهل السنّة أجمعين من السلف الماضي، والخلف اللاحقين. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: كتب بعضهم في معنى قوله: "لو كنت متّخذًا. . . إلخ" ما نصّه: يعني لو جاز لي أن أتّخذ صديقًا من الخلق يَقِف على سرّي لاتّخذت أبا بكر خليلًا، ولكن لا يطّلع على سرّي إلا اللَّه، ووجه تخصيصه بذلك أن أبا بكر كان أقرب سرًّا من سرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن أبا بكر لم يفضُل عليكم بصوم، ولا صلاة، ولكن بشيء كُتِب في قلبه". انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث لا أصل له

(3)

، فلا يصلح لأخذ معنى الحديث منه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (وَإِنَّ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، ألَا فَلَا تَتَّخِذوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ) وقوله: (إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ) تأكيد لقوله: "فلا تتّخذوا. . . إلخ".

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: إنما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أَدَّى ذلك إلى

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 769 - 770.

(2)

"المفهم" 2/ 130.

(3)

راجع: "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 2/ 378 أورده بلفظ: "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وَقَرَ في صدره"، وقال: لا أصل له مرفوعًا.

ص: 156

الكفر، كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة -رضوان اللَّه عليهم أجمعين- والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه، ومنها حُجْرة عائشة لمَدْفَن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بنوا على القبر حيطانًا مرتفعةً مستديرةً حوله؛ لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوامّ، ويؤدي المحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرّفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث:"ولولا ذلك لأُبرز قبره، غير أنه خُشِي أن يُتَّخَذ مسجدًا". انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد اللَّه البجليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخرجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 1193](532)، و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(11123)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1192)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1173)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 168 رقم 1686)، وفوائد الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال القاضي عياض رحمه الله: وفي سند هذا الحديث: "ثنا زكرياء بن عديّ، عن عبيد اللَّه بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد اللَّه بن الحارث النجراني، قال: حدّثني جندبٌ".

هذا مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، وقال: خالف عبيد اللَّه فيه أبو عبد الرحيم

(2)

، فقال: عن جميل النجرانيّ، عن جندب، وجميل مجهول، والحديث محفوظ عن أبي سعيد وابن مسعود، وقال غيره: وقد ذكر النسائيّ

(1)

"شرح النووي" 5/ 13 - 14.

(2)

هو خالد بن أبي يزيد بن سماك الحرّاني، ثقة من السادسة، مات سنة (144).

ص: 157

الحديث من رواية عبيد اللَّه بن عمرو، ثم ذكر رواية أبي عبد الرحيم، عن زيد، عن عمرو، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن جميل النجرانيّ، عن جندب. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ في "النكت الظراف": ذكر الْبَرْقانيّ أن أبا عبد الرحيم رواه عن عبيد اللَّه بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، فقال: عن عمرو بن مرّة، عن جميل النجرانيّ، عن جندب، قال الْبَرْقانيّ: وذكرت ذلك للدارقطنيّ، فقال: رواية عبيد اللَّه بن عمرو، عن زيد أشبه بالصواب.

وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: (2674) سألت أبي عن حديث رواه إسماعيل بن عُبيد بن أبي كريمة، قال: قرأت في كتاب أبي عبد الرحيم بخطه، وأخبرني محمد بن سلمة أنه خط أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللَّه بن الحارث، قال: حدثني جميل النجرانيّ، قال: سمعت جندب بن عبد اللَّه البجليّ، قال:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بخمس. . . " فذكر الحديث، قال أبي: رواه عبيد اللَّه بن عمرو، عن زيد، عن عمرو، عن عبد اللَّه بن الحارث النجرانيّ، قال: حدّثنا جندب، وهو أشبه، وهو عندي عبد اللَّه بن الحارث المكتب الكوفيّ، وقد أدرك جندبًا رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما قاله الدارقطنيّ، وأبو حاتم أن الحديث صحيحٌ، وأنه محفوظ من رواية عبيد اللَّه بن عمرو، عن زيد، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن جندب، كما هو رأي المصنّف رحمه الله، حيث أخرجه في "صحيحه" من هذا الطريق.

والحاصل أن للدارقطني في هذا الإسناد رأيين:

أحدهما: إعلاله بمخالفة أبي عبد الرحيم لعبيد اللَّه بن عمرو، وهو الذي ذكره في كتابه "التتبع والإلزامات"(ص 133) بنسخة تحقيق الشيخ ربيع بن هادي، وهو الذي نقله عياض في كلامه السابق.

والثاني: ترجيح رواية عبيد اللَّه على رواية أبي عبد الرحيم، كما نقله

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 453.

(2)

"علل الحديث" 2/ 388.

ص: 158

الحافظ في "النكت الظراف"، كما أسلفته آنفًا، وهذا الرأي منه هو المقدّم والمرجح؛ لموافقته لرأي الإمامين: مسلم، وأبي حاتم الرازي، فقد اتّفق الثلاثة على صحّته من هذا الوجه.

والحاصل أن الحديث صحيحٌ من هذا الطريق؛ فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1194]

(533) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَن بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلَانِي، يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ، حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم

(1)

: إِنَّكُمْ قَدْ كثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ

(2)

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للَّهِ تَعَالَى -قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ- يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ"، ابْنُ عِيسَى فِي رِوَايَتِهِ:"مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ، يُعرف بابن التستريّ، صدوقٌ تُكلّم في بعض سماعه، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

2 -

(عَمْرو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

(1)

وفي نسخة: "مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(2)

وفي نسخة: "قد سمعتُ".

ص: 159

3 -

(بُكَيْر) بن عبد اللَّه بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ) بن النعمان بن زيد بن عامر بن سَوّاد بن كعب، وهو ظَفَر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الظفريّ، أبو عمرو، ويقال: أبو عمر المدنيّ، ثقة عالم بالمغازي [4].

رَوَى عن أبيه، وجابر بن عبد اللَّه، ومحمود بن لبيد، وجدته رُمَيثة، ولها صحبة، وأنس، والحسن بن محمد بن الحنفية، وعبيد اللَّه الخولانيّ، وعلي بن الحسين بن عليّ، وغيرهم.

وروى عنه ابنه الفضل، وبُكير بن عبد اللَّه بن الأشج، وعبد الرحمن بن سليمان بن الْغَسِيل، وزيد بن أسلم، وعُمارة بن غَزِيّة، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان راويةً للعلم، وله علم بالمغازي والسيرة، أَمَره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق، فيحدّث الناس بالمغازي، ومناقب الصحابة، ففعل، وكان ثقةً كثير الحديث، عالِمًا، وكَنَاه ابن حبان أبا محمد، وقال البزار: ثقةٌ مشهورٌ، وقال عبد الحق في "الأحكام": هو ثقةٌ عند أبي زرعة، وابن معين، وقد ضعَّفه غيرهما، وقد رَدّ ذلك عليه ابن القطان، وقال: بل هو ثقة عندهما وعند غيرهما، ولا أعرف أحدًا ضعّفه، ولا ذكره في الضعفاء. انتهى.

تُوُفّي سنة عشرين ومائة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: توفي سنة (19)، وقيل: مات سنة (6) وقيل: سنة (27)، وقيل: سنة (29).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (533) وأعاده بعده، وحديث (2205):"إن فيه شفاء"، وأعاده بعده.

5 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ الْخَوْلَانِيُّ) هو: عبيد اللَّه بن الأسود، ويقال: ابن الأسد الْخَوْلانيّ، ربيب ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، ثقةٌ [3].

رَوَى عنها، وعن زيد بن خالد الجهنيّ، وابن عباس رضي الله عنهم.

وروى عنه بُسْر بن سعيد، وعاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانة.

ذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 160

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: المراد بقوله: "رَبيب ميمونة رضي الله عنها" أنها رَبّته، فقيل: كان مولاها، لا أنه ابن زوجها.

قال المنذريّ: وكذا وقع في "رجال الموطأ" لابن الْحَذّاء، وأفاد أن الذي سَمَّى أباه الأسود هو الليث بن سعد.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ

(1)

، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (533) وأعاده بعده، وحديث (2106):"إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة"، وأعاده بعده.

6 -

(عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس الأمويّ، أمير المؤمنين، استُشهِد في ذي الحجة بعد عيد الأضحى سنة (35)، وعمره (80) سنة، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد صيغ أدائهما.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع.

3 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": في هذا الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق: بكير، وعاصم، وعبيد اللَّه، وثلاثة من أوله مصريون، وثلاثة من آخره مدنيون، وفي وسطه مدنيّ سكن مصر، وهو بكير، فانقسم الإسناد إلى مصريّ ومدنيّ. انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد السابقين إلى الإسلام، ويُلقّب بذي النورين؛ لأنه تزوّج بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: رُقيّة، وأم كلثوم رضي الله عنهما، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

قال في "التهذيب": له عندهم حديثُ: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير"، وعند الشيخين:"من بَنَى مسجدًا"، وعند أبي داود في الوضوء. انتهى. "تهذيب التهذيب" 3/ 7.

(2)

"الفتح" 1/ 648.

ص: 161

شرح الحديث:

عن عَاصِمِ بن عمر بن قتادة (أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلَانِيَّ) -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو-: نسبة إلى خَوْلان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن يَشْجُب بن عُريب بن زيد بن كَهْلان بن سَبَأ، وبعض خولان يقولون: خولان بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة، وهكذا قال ابن الكلبيّ، واسم خولان: أفكل، وهي قبيلة نزلت الشام، ينسب إليها جماعة من العلماء، قاله في "اللباب"

(1)

.

(يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ) رضي الله عنه (عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ) أي في عثمان رضي الله عنه، وقد وقع بيان ذلك في رواية محمود بن لبيد الأنصاريّ التالية، قال: لما أراد عثمان بناء المسجد، كَرِهَ الناس ذلك، وأحبوا أن يدعوه على هيئته، أي في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال البغويّ في "شرح السنة": لعل الذي كَرِهَ الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة، لا مجرد توسيعه. انتهى.

قال الحافظ: ولم يَبْنِ عثمان المسجد إنشاءً، وإنما وَسّعه وشَيَّده، فيؤخذ منه إطلاق البناء في حقّ من جدّد كما يُطلَق في حقّ من أنشأ، أو المراد بالمسجد هنا بعض المسجد، من إطلاق الكل على البعض. انتهى.

وتعقّبه العينيّ كعادته بما هو ظاهر التعسّف، فتأمله بالإنصاف.

(حِينَ بَنَى) أي حين أراد عثمان رضي الله عنه أن يبني، كما أوضحته الرواية التالية، والمراد به توسيعه، وتشييده، لا أنه أنشأ بناءه (مَسْجِدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم) كذا هو في معظم النسخ، وفي بعضها:"مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

[تنبيه]: كان بناء عثمان رضي الله عنه للمسجد النبويّ سنة ثلاثين على المشهور، وقيل: في آخر سنةٍ من خلافته، ففي "كتاب السير" عن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، أخبرني مالك، أن كعب الأحبار كان يقول عند بنيان عثمان المسجد: لَوَدِدت أن هذا المسجد لا يُنْجَزُ، فإنه إذا فُرخ من بنيانه، قُتِل عثمان، قال مالك: فكان كذلك.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 472.

ص: 162

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بين القولين بأن الأول كان تاريخ ابتدائه، والثاني تاريخ انتهائه. انتهى

(1)

.

(إِنَّكُمْ قَدْ أَكْثَرْتُمْ) هذا مقول لقول مقدّر حال من فاعل "سمع"، أي سمعه يقول:"إنكم قد أكثرتم"، ومفعول "أكثرتم" محذوف؛ للعلم به، أي أكثرتم الكلام في الإنكار عليّ فيما فعلته من بناء المسجد.

(وَإِنِّي سَمِعْتُ) وفي نسخة: "قد سَمِعْتُ"(رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) جملة حالية من المفعول ("مَنْ بَنَى مَسْجدًا للَّهِ تَعَالَى) التنكير فيه للتعميم، فيدخل فيه الكبير والصغير، ووقع في رواية أَنس رضي الله عنه عند الترمذيّ:"صغيرًا أو كبيرًا".

وزاد ابن أبي شيبة في حديث الباب من وجه آخر، عن عثمان رضي الله عنه:"ولو كَمَفْحَص قَطَاة"، وهذه الزيادة أيضًا عند ابن حبّان، والبزّار، من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، وعند أبي مسلم الكجيّ من حديث ابن عباس، وعند الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث أنس وابن عمر رضي الله عنهما، وعند أبي نعيم في "الحلية" من حديث أبي بكر الصدِّيق، ورواه ابن خزيمة من حديث جابر بلفظ:"كمَفَحص قَطاة، أو أصغر".

وحَمَلَ أكثر العلماء ذلك على المبالغة؛ لأن المكان الذي تَفْحَص القَطاة عنه؛ لتَضَع فيه بيضها، وترقُد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه، وتؤيده رواية جابر هذه.

وقيل: بل هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في مسجد قدرًا يُحتاج إليه، تكون تلك الزيادة هذا القدر، أو يشتركَ جماعةٌ في بناء مسجد، فتقع حصّة كل واحد منهم ذلك القدر.

وهذا كلّه بناءٌ على أن المراد بالمسجد ما يَتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يُتَّخذ للصلاة فيه.

فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود، وهو ما يَسَع الجبهة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذُكِر، لكن قوله:"بَنَى" يُشْعِر بوجود بناء على الحقيقة، ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة:"مَن بَنَى للَّه بيتًا"، أخرجه سمويه في "فوائده"

(1)

"الفتح" 1/ 649.

ص: 163

بإسناد حسن، وقوله في رواية عُمر:"مَن بنى مسجدًا يُذكَرُ فيه اسم اللَّه"، أخرجه ابن ماجه، وابن حبّان، وأخرج النسائيّ نحوه من حديث عمرو بن عَبَسَة، فكل ذلك مشعر بأن المراد بالمسجد المكان المتَّخَذ، لا موضع السجود فقط.

لكن لا يَمتنع إرادة الآخر مجازًا؛ إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شاهدنا كثيرًا من المساجد في طُرُق المسافرين يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، وبعضها لا تكون أكثر من قدر موضع السجود.

ورَوَى البيهقيّ في "الشعب" من حديث عائشة نحو حديث عثمان، وزاد:"قلت: وهذه المساجد التي في الطُّرُق؟ قال: نعم"، وللطبرانيّ نحوه من حديث أبي قِرْصَافة، وإسنادهما حسن، قاله في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ بُكَيْرٌ) هو ابن عبد اللَّه بن الأشجّ الراوي عن عاصم بن عمر (حَسِبْتُ) بكسر السين المهملة، ومضارعه يَحْسَب بفتحها، وتُكسر أيضًا في لغة، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَسِبْتُ زيدًا قائمًا أَحْسَبُهُ، من باب تَعِبَ في لغة جميع العرب، إلا بني كِنَانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا على غير قياسٍ، حِسْبَانًا بالكسر: بمعنى ظننتُ. انتهى

(2)

.

وأما حَسَبَ المالَ حَسْبًا: إذا أحصى عدده، فإنه من باب نصر

(3)

، ولا يُناسب هنا، فافهم.

(أَنَّهُ) أي عاصم بن عمر (قَالَ) أي زاد في روايته قوله: (يَبْتغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ) أي يطلب بذلك رضي اللَّه تعالى.

قال في "الفتح": قوله: "قال بكير: حَسِبْتُ أنه" أي شيخه عاصمًا بالإسناد المذكور، قوله: يبتغي به وجه اللَّه" أي يطلب به رضا اللَّه، والمعنى بذلك الإخلاصُ، وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، ولم أَرَها إلا من طريقه هكذا، وكأنها ليست في الحديث بلفظها، فإن كلَّ مَن رَوَى حديث

(1)

"الفتح" 1/ 649.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 134.

(3)

راجع: "مختار الصحاح" ص 81.

ص: 164

عثمان رضي الله عنه من جميع الطرق إليه لفظهم: "من بنى للَّه مسجدًا"، فكأن بُكيرًا نسيها، فذكرها بالمعنى مُتردِّدًا في اللفظ الذي ظنه، فإن قوله:"للَّه" بمعنى قوله: "يبتغي به وجه اللَّه"؛ لاشتراكهما في المعنى المراد، وهو الإخلاص. انتهى.

[فائدة]: قال ابن الجوزيّ رحمه الله: مَن كَتَبَ اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص. انتهى.

قال في "الفتح": ومن بناه بالأجرة لا يحصل له هذا الوعد المخصوص؛ لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر في الجملة.

ورَوى أصحاب "السنن" وابن خزيمة، والحاكم، من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا:"إن اللَّه يُدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ: صانعه الْمُحْتَسِبَ في صنعته، والرامي به، والممدّ به"، فقوله:"المحتَسِب في صنعته" أي مَن يَقْصِد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك، أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يحصل إلا من المتطوع.

وهل يحصل الثواب المذكور من جَعَل بقعة من الأرض مسجدًا، بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء، وكذا من عَمَد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدًا، إن وَقَفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتَّجِهُ.

وكذا قوله: "بَنَى" حقيقةٌ في المباشرة بشرطها، لكن المعنى يَقتَضي دخول الَامر بذلك أيضًا، وهو المنطبِق على استدلال عثمان رضي الله عنه؛ لأنه استَدَلّ بهذا الحديث على ما وقع منه، ومن المعلوم أنه لم يباشر ذلك بنفسه. انتهى. وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ") قال في "الفتح": إسناد البناء إلى اللَّه مجاز، ومثله في "العمدة".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أنه لا مجاز هنا، بل هو كسائر الصفات التي تنسب إلى اللَّه تعالى على الوجه اللائق به عز وجل، مثل نسبة الخلق، والرِّزْق، والمنع، والعطاء، والقبض، والبسط، والرفع، والخفض، ونحو ذلك، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.

ص: 165

وإبراز الفاعل فيه لتعظيم ذكره -جَلّ اسمه- أو لئلا يُتَوَهَّم عوده على باني المسجد.

وقوله: "في الجنة" متعلّق بـ "بنى"، أو بمحذوف صفة لـ "بيتًا".

(وَقَالَ ابْنُ عِيسَى فِي رِوَايَتِهِ: مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) يعني أن أحمد بن عيسى شيخه الثاني قال في روايته: "بَنَى اللَّه له مثله في الجنّة"، بدل قول هارون بن سعيد:"بنى اللَّه له بيتًا في الجنّة".

قال في "الفتح": قوله: "مثلَهُ" صفة لمصدر محذوف أي بَنَى بِناءً مثلَهُ، ولفظ "المثل" له استعمالان:

أحدهما: الإفراد مطلقًا، كقوله تعالى:{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47]، والآخر: المطابقة كقوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنيةً متعددةً، فيحصُل جواب مَن استشكَل التقييد بقوله:"مثله" مع أن الحسنة بعشمرة أمثالها؛ لاحتمال أن يكون المراد بَنَى اللَّه له عشرة أبنية مثله، والأصل أن ثواب الحسنة الواحدة واحد بحكم العدل، والزيادة عليه بحكم الفضل.

وأما مَن أجاب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ففيه بُعْدٌ.

وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة عليه.

ومن الأجوبة المرضيَّة أيضًا أن المثلية هنا بحسب الكميّة، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة، بل من مائة، أو أن المقصود من المثلية أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره، مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعًا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة؛ إذ موضع شبر فيها خير من الدنيا وما فيها، كما ثبت في "الصحيح".

وقد رَوى أحمد من حديث واثلة بلفظ: "بَنى اللَّه له في الجنة أفضل منه"، وللطبرانيّ من حديث أبي أمامة بلفظ:"أوسع منه"، وهذا يُشعر بأن المثلية لم يُقْصَد بها المساواة من كل وجه.

ص: 166

وقال النوويّ: يَحْتَمِل أن يكون المراد أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن المراد بالمثل هنا -واللَّه أعلم- تماثل العمل والجزاء في الجنس، فيكون الجزاء من جنس العمل، لا التماثُل في الكم والكيف، وهذا توضحه نصوص أخرى وردت في هذا المعنى، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من أعتق رقبةً أعتق اللَّه بكلّ عضو منه عضوًا منه من النار". متّفقٌ عليه.

وكحديثه أيضًا مرفوعًا: "من نفّس عن مؤمن كربةً من كُرب الدنيا، نفّس اللَّه عنه كربةً من كُرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا في الدنيا ستره اللَّه في الدنيا والآخرة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". رواه مسلم.

وبهذا المعنى وردت أحاديث كثيرة، فمن بنى للَّه مسجدًا بنى اللَّه له بيتًا في الجنّة، ولا يُراد به المثليّة في الكميّة والكيفيّة، وإنما هو في مسمّى البناء من جنس عمله.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما قوله: "مثله" فليس المراد أنه على قدره، ولا على صفته في بنيانه، ولكن المراد -واللَّه أعلم- أنه يوسّع بنيانه بحسب توسعته، ويحكم بنيانه بحسب إحكامه، لا من جهة الزخرفة، ويكمل انتفاعه بما يُبنى له في الجنّة بحسب كمال انتفاع الناس بما بناه لهم في الدنيا، ويشرُف على سائر بنيان الجنة كما تشرف المساجد في الدنيا على سائر البنيان، وإن كان لا نسبة لما في الدنيا إلى ما في الآخرة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"واللَّه ما في الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يَجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار بالسبّابة- في اليمّ، فلينظر بم ترجع"، رواه مسلم.

وقد دلّ على ما قلناه ما أخرجه أحمد من حديث أسماء بنت يزيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى للَّه مسجدًا في الدنيا، فإن اللَّه عز وجل يبني له بيتًا أوسع

(1)

"الفتح" 1/ 650.

ص: 167

منه في الجنّة"

(1)

. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عثمان بن عفّان رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخرجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 1194 و 1195](533)، وسيأتي في "كتاب الزهد والرقائق" -إن شاء اللَّه تعالى-، و (البخاريّ) في "الصلاة"(450)، و (الترمذيّ) فيها (318)، و (ابن ماجه) في "المساجد"(736)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 310)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 61)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 323)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1291)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1609)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 486)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1156 و 1157)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1174 و 1175)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 437)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(461 و 462)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل من بنى للَّه مسجدًا.

2 -

(ومنها): بيان أهميّة الإخلاص للَّه تعالى في جميع أعمال العبد.

3 -

(ومنها): فضل عثمان رضي الله عنه فإنه قد صحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يوسّع المسجد لَمّا ضاق بأهله، وضَمِنَ له بيتًا في الجنّة

(3)

، فلهذا -واللَّه أعلم- أدخل رضي الله عنه هدم المسجد، وتجديد بنائه على وجه هو أتقن من البنيان الأول مع التوسعة فيه في قوله:"من بنى مسجدًا للَّه بنى اللَّه له مثله في الجنّة"، فرضي اللَّه عنه، وعن الصحابة أجمعين.

(1)

حديث حسن، رواه أحمد في "المسند" 3/ 490.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 3/ 320 - 321.

(3)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ (3636)، والنسائيّ (3608).

ص: 168

4 -

(ومنها): أن فيه بشرى لباني المسجد للَّه تعالى بدخوله الجنة؛ إذ المقصود بالبناء له أن يُسكنه، وهو لا يسكنه إلا بعد الدخول.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1195]

(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَخْبَرَنَا

(1)

عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

3 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَد) بن الضحّاك بن مسلم الشيبانيّ، أبو عاصم النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ) الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، وربّما وَهِمَ، هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد اللَّه بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاريّ الأوسيّ، أبو الفضل، ويقال: أبو حفص، ويقال: إن رافع بن سنان جدّه لأمه.

رَوى عن أبيه، وعن عمّ أبيه عمر بن الحكم، ووهب بن كيسان، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، والأسود بن العلاء بن جارية، وغيرهم.

وروى عنه ابن المبارك، وخالد بن الحارث، وأبو خالد الأحمر، وعبد اللَّه بن حُمران، وهُشيم، ووكيع، وأبو عاصم النبيل، وغيرهم.

قال أحمد: ثقةٌ ليس به بأس، سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان سفيان يُضَعِّفه من أجل القدر، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقة، ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد يضعفه، قلت ليحيى: فقد روى عنه، قال: قد روى عنه، وكان يضعفه، وكان يرى القدر، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد

(1)

وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 169

يوثقه، وكان الثوريّ يضعفه، قلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: ليس بحديثه بأس، وهو صالح، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد: كان سفيان يَحْمِل عليه، ما أدري ما كان شأنه وشأنه؟، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وهو ممن يُكْتَب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو ابن سبعين سنة، وقال الفضل بن موسى: كان ممن خرج مع محمد بن عبد اللَّه بن حسن، وقال ابن حبان: ربما أخطأ، وقال الساجيّ: ثقةٌ صدوق، ضعفه الثوريّ لذلك، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نُمير، وقال النسائيّ في "كتاب الضعفاء": ليس بقويّ.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعين، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.

5 -

(أَبُوهُ) جعفر بن عبد اللَّه بن الحكم الأنصاريّ، والد عبد الحميد، ثقة [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 22/ 187.

6 -

(مَحْمُودُ بْن لَبِيدٍ) بن عقبة بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأوسيّ الأنصاريّ الأشهليّ، أبو نعيم المدنيّ، وأمه أم منظور بنت محمد بن مسلمة.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث، ولم تصحّ له رؤية، ولا سماع منه، وعن عمر، وعثمان، وشداد بن أوس، ورافع بن خَدِيج، وقتادة بن النعمان، وأبي سعيد الخدريّ، ورُفيدة امرأة صحابية، وجماعة.

ورَوَى عنه الزهريّ، وعاصم بن عمر بن قتادة، وجعفر بن عبد اللَّه بن الحكم، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وصالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وحصين بن عبد الرحمن الأشهليّ، وبكير بن الأشج، والمسيّب بن عبد اللَّه بن أبي أمامة بن ثعلبة، وآخرون.

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، فيمن وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: سمع من عُمر، وتُوُفّي بالمدينة سنة ست وتسعين، وكان ثقةً، قليل الحديث، قال الواقديّ: مات وهو ابن تسع وتسعين سنةً، وقال ابن أبي عاصم وغيره: مات سنة سبع وتسعين، وقال ابن أبي خيثمة تبعًا للَّهيثم بن عديّ: مات في خلافة ابن الزبير، زاد ابن أبي خيثمة: وقد قيل: سنة ست وتسعين.

ص: 170

قال الحافظ رحمه الله: على مقتضى قول الواقديّ في سنّه يكون له يوم مات النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً، وهذا يُقَوّي قول مَن أثبت له الصحبة، وقد قال البخاريّ: قال أبو نعيم: حدّثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد:"أسرع النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ".

وذكره مسلم في الطبقة الثانية من التابعين، وقال يعقوب بن سفيان: ثقةٌ، قال ابن عبد البرّ: قول البخاري أولى، يعني في إثبات صحبته، وكذا ذكره ابن حبان في الصحابة، وقال الترمذيّ: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو غلام صغير. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يترجّح عندي ما قاله في "التقريب": صحابيّ صغير، وجُلُّ روايته عن الصحابة رضي الله عنهم.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده في "كتاب الزهد والرقائق".

وقوله: (أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ) أي النبويّ.

وقوله: (فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ) أي بناءه.

وقوله: (فَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ) أي يترك المسجد.

وقوله: (عَلَى هَيْئَتِهِ) أي حالته وصفته التي كان عليها في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخليفتين رضي الله عنهما.

وقوله: ("مَنْ بَنَى مَسْجِدًا للَّهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي مخلصًا في بنائه للَّه تعالى، كما قال في الرواية الأخرى:"يبتغي به وجه اللَّه".

وقوله: (بنى اللَّه له في الجنّة مثله") هذه المثليّة ليست على ظاهرها، ولا من كلّ الوجوه، وإنما يعني أنه بنى له بثوابه بناءً أشرف وأعظم وأرفع، وكذلك في الرواية الأخرى رحمه الله:"بنى اللَّه له بيتًا في الجنّة"، ولم يسمّه مسجدًا، وهذا البيت هو -واللَّه أعلم- مثلُ بيت خديجة رضي الله عنها الذي قال فيه:"إنه بيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"، يريد من قصب الزمرّد والياقوت، ويعتضد هذا بأن أُجور الأعمال مضاعفة، وأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذا كما قال في المتصدّق بالثمرة:"إنها تربى حتى تصير مثل الجبل"، ولكن هذا التضعيف هو بحسب ما يقترن بالفعل من الإخلاص والإتقان والإحسان، ولَمّا فَهِمَ عثمان رضي الله عنه هذا المعنى تأنّق في بناء المسجد، وحسّنه، وأتقنه، وأخلص للَّه فيه؛ رجاء أن يُبنى له في الجنّة قصرٌ متقنٌ مُشَرَّفٌ مرفَّع، وقد فعل اللَّه تعالى له ذلك، وزيادة رضي الله عنه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

ص: 171

قال الجامع عفا اللَّه عنه: إنما جزم القرطبيّ: بأن اللَّه تعالى فعل لعثمان ذلك؛ اعتمادًا على ما صحّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ضمن له الجنّة، وبشّره بها، واللَّه تعالى أعلم.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ وَضْعِ الأَيْدِي عَلَى الرُّكَبِ في الرُّكُوعِ، وَنَسْخِ التَّطْبِيقِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1196]

(534) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، أَبُو كُرَيْبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، وَعَلْقَمَةَ، قَالًا: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِي دَارِهِ، فَقَالَ: أَصَلَّى هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: فَقُومُوا

(1)

، فَصَلُّوا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، قَالَ: وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، قَالَ: فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا، وَطبَّقَ بَيْنَ كَفيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ: إِنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، يُؤَخرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا، وَيَخْنُقُونَهَا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً، وَإِذَا كنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَصَلُّوا جَمِيعًا، وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُفْرِشْ ذِرَاعَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَلْيَجْنَأْ

(2)

، وَلْيُطَبّقْ بَيْنَ كَفَّيْهِ، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَاهُمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، أَبُو كُرَيْب) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) عن (87) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

(1)

وفي نسخة: "قال: قوموا".

(2)

وفي نسخة: "وليحنأ" بالحاء المهملة.

ص: 172

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) عن (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عارف بالقراءة ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقةٌ، إلا أنه يرسل كثيرًا [5](ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

5 -

(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مكثرٌ مخضرم [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

6 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في المقدمة 6/ 52.

7 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات سنة (32)(ع) تقدم فىِ "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم، عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة، والأخيران قُرن بينهما.

6 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد ابن مسعود رضي الله عنه، كما نُقل عن ابن معين رحمه الله، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

كَذَا ابْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْرَاهِيمَ عَنْ

عَلْقَمَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ الْحَسَنْ

7 -

(ومنها): أن ابن مسعود رضي الله عنه صحابيّ مشهورٌ ذو مناقب جمّة، من

ص: 173

السابقين الأولين إلى الإسلام، ومن أكابر فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأثنى النبيّ صلى الله عليه وسلم على قراءته، وحثّ على الأخذ منه، فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بَشّراه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب أن يقرأ القرآن غَضًّا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أُمِّ عبد"، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْأَسْوَدِ، وَعَلْقَمَةَ) أنهما (قَالَا: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (فِي دَارِهِ) وفي رواية النسائيّ: "دخلت أنا وعلقمة على عبد اللَّه بن مسعود"(فَقَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (أَصَلَّى هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ؟) يريد الأمير والتابعين له، وفيه إشارة إلى إنكار تأخير الصلاة.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "أصلّى هؤلاء. . . إلخ" هذه الإشارة إلى الأمراء، عاب عليهم تأخيرها عن وقتها المستحبّ، ويدلّ عليه آخر الحديث، و"خَلْفَكُم" إشارة إلى موضعهم، فكأنه قال:"الذين خَلْفَكُم"، ولم يُرد به أنهم أئمتهم؛ إذ قد صلّى بهم عبد اللَّه رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

(فَقُلْنَا: لَا) أي لم يصلّوا (قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (فَقُومُوا) وفي نسخة: "قوموا"(فَصَلُّوا) قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز إقامة الجماعة في البيوت، لكن لا يَسقُط بها فرض الكفاية، إذا قلنا بالمذهب الصحيح أنها فرض كفاية، بل لا بدّ من إظهارها، وإنما اقتصر عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه على فعلها في البيت؛ لأن الفرض كان يسقط بفعل الأمير، وعامّة الناس، وإن أخروها إلى أواخر الوقت. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الراجح أن صلاة الجماعة فرض على الرجال، لا يسقط إلا بعذر، ومن جملة الأعذار تأخير الأئمة الصلاة عن وقتها، فيُحمل فعل ابن مسعود رضي الله عنه على هذا، وسيأتي تحقيق الخلاف بأدلّته في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذانٍ وَلَا إِقَامَةٍ) قال القرطبي رحمه الله: اختُلف في صلاة الرجل وحده، أو في بيته، فذهب بعض السلف من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه وغيرهم إلى أنه تُجزئه إقامة أهل المصر وأذانهم، وذهب عامّة فقهاء الأمصار إلى أنه لا

(1)

"المفهم" 2/ 132.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 15.

ص: 174

بدّ من إقامة الصلاة، ولا تجزئه إقامة أهل المصر، ولا يؤذّن، واستحبّ ابن المنذر أن يؤذّن ويقيم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا مذهب ابن مسعود رضي الله عنه، وبعض السلف من أصحابه وغيرهم، أنه لا يُشْرَع الأذان ولا الإقامة من يصلي وحده في البلد الذي يؤذَّن فيه ويقام لصلاة الجماعة العظمى، بل يكفي أذانهم وإقامتهم، وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أن الإقامة سنة في حقه، ولا يكفيه إقامة الجماعة، واختلفوا في الأذان، فقال بعضهم: يشرع له، وقال بعضهم: لا يشرع، ومذهبنا الصحيح أنه يشرع له الأذان إن لم يكن سمع أذان الجماعة، وإلا فلا يُشْرَع. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ مشروعيّة الأذان والإقامة من يُصلّي وحده في بيته لعذر؛ لأن الأدلّة التي وردت في الأذان والإقامة تعمّه، فلا يخرج من عمومها إلا بدليل، وأما ما فعله ابن مسعود رضي الله عنه، فهذا رأيه، ولم يُسنده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يكون حجة.

وقد استحبّ ابن المنذر: الأذان والإقامة من صلّى وحده، واحتجّ له بحديث مالك بن الحويرث حيث قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ولابن عمه:"إذا سافرتما فأذنا، وأقيما، وليؤمكما أكبركما"، رواه الترمذيّ، وقال: حسن صحيح.

وفي رواية الشيخين: "فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم".

قال ابن المنذر: فقد أمرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأذان ولا جماعة معهما.

واحتجّ أيضًا بما أخرجه الشيخان عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاريّ ثم المازنيّ، عن أبيه أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدريّ قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنّ، ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(1)

"المفهم" 2/ 132.

ص: 175

قال ابن المنذر: فقد رغّب في رفع الصوت بالأذان؛ لفضيلة الأذان؛ لئلا يظنّ ظانّ أن الأذان لاجتماع الناس لا غير.

وقال الترمذيّ بعد إخراج حديث مالك بن الحويرث المذكور ما نصّه: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، اختاروا الأذان في السفر، وقال بعضهم: تجزئ الإقامة إنما الأذان على من يريد أن يجمع الناس، والقول الأول أصحّ، وبه يقول أحمد وإسحاق. انتهى.

والحاصل أن الأذان والإقامة لا يشترط لها الجماعة، بل يشرعان لكلّ مصلّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) هكذا الرواية بالإفراد مع أن الضمير للأسود وعلقمة، بتأويله بالمذكور، أو بالراوي (وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ) أي نقوم صفًّا واحد (خلف ابن مسعود رضي الله عنه؛ لاعتقادهما أنه السنّة، كما هو الثابت عن الصحابة الآخرين، إلا أن ابن مسعود لا يراه، كما قال: (فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ) قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهب ابن مسعود وصاحبيه، وخالفهم جميع العلماء من الصحابة، فمن بعدهم إلى الآن، فقالوا: إذا كان مع الإمام رجلان وقفا وراءه صفًّا؛ لحديث جابر وجَبّار بن صخر، وقد ذكره مسلم في "صحيحه" في آخر الكتاب في الحديث الطويل عن جابر رضي الله عنه، وأجمعوا إذا كانوا ثلاثةً أنهم يقفون وراءه، وأما الواحد فيقف عن يمين الإمام عند العلماء كافّة، ونقل جماعةٌ الإجماع فيه، ونقل القاضي عياض عن ابن المسيب أنه يقف عن يساره، ولا أظنه يصحّ عنه، وإن صح فلعله لم يبلغه حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وكيف كان فهم اليوم مُجْمِعون على أنه يقف عن يمينه. انتهى.

(قَالَ) الراوي، وتقدّم الكلام في إفراد الضمير (فَلَمَّا رَكَعَ) أي ابن مسعود رضي الله عنه (وَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا) كما هو السنّة، إلا أن ابن مسعود لم يصل إليه علمه، فلذا أنكر عليهما، كما أشار إليه بقوله:(قَالَ) الراوي (فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا، وَطَبَّقَ) بتشديد الموحّدة، من التطبيق (بَيْنَ كَفيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا) أي الكفّين المطبّقين (بَيْنَ فَخِذَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ) ابن مسعود (إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده (سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ

ص: 176

عَنْ مِيقَاتِهَا) أي عن وقتها المعتاد في السنّة، قال النووي رحمه الله: معناه: يؤخّرونها عن وقتها المختار، وهو أول وقتها، لا عن جميع وقتها. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: هذا وقع في بني أميّة، وكذلك أخّر عمر بن عبد العزيز العصر، فدخل عليه عروة بن الزبير، فأنكر عليه، وكأن بني أميّة كانوا قد ذهبوا إلى أن تأخير الصلاة إلى آخر وقتِها أفضل، كما هو قياس قول أبي حنيفة، حيث قال: إن آخر الوقت هو وقت الوجوب. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: ظاهر هذا السياق يدلّ أنّ قوله: "إنه ستكون عليكم أمراء. . . إلخ" موقوف من كلام ابن مسعود، لكن مثل هذا، وإن كان موقوفًا لفظًا، إلا أنه مرفوعٌ حكمًا؛ لأنه مما لا يقال بالرأي، ويؤيّد هذا ما جاء رفعه صريحًا فيما أخرجه المصنّف من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟ " قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: "صَلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلّ، فإنها لك نافلة"

(2)

.

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسند حسن، عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سيكون من بعدي أئمة يميتون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة"

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

(وَيَخْنُقُونَهَا) بضمّ النون، يقال: خَنَقَه يَخْنُقُهُ، من باب قتل خَنِقًا، مثل كَتِفٍ، ويُسكّن للتخفيف

(4)

، وقال النوويّ رحمه الله: معناه يُضَيّقون وقتها، ويتركون أداءها إلى ذلك الحين، يقال: هم في خِنَاق من كذا، أي في ضيق، والْمُخْتَنِقُ الْمُضَيّق. انتهى

(5)

.

(إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى) بفتح الشين والراء، قال ابن الأعرابيّ: فيه معنيان:

(1)

"المفهم" 2/ 133.

(2)

سيأتي للمصنّف رحمه الله برقم (648).

(3)

حديث حسنٌ، أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (16673).

(4)

"المصباح" 1/ 183.

(5)

"إكمال المعلم" 2/ 456، و"شرح النووي" 5/ 16.

ص: 177

أحدهما: أن الشمس في ذلك الوقت، وهو آخر النهار إنما تبقى ساعة، ثم تغيب.

والثاني: أنه من قولهم: شَرِق الميت بريقه، من باب تَعِبَ، إذا لم يَبْقَ بعده إلا يسيرًا، ثم يموت.

وقال الأثير: قوله: "شَرَق الموتى": له معنيان: أحدهما: أنه أراد به آخر النهار؛ لأن الشمس في ذلك الوقت إنما تَلْبث قليلًا، ثم تغيب، فشبّه ما بقي من الوقت ببقاء الشمس تلك الساعة.

والآخر: من قولهم: شَرِق الميت بريقه: إذا غُصّ به، فشبّه قلّة ما بقي من الوقت بما بقي من حياة الشَّرِق بريقه إلى أن تخرج نَفْسُهُ، وسئل الحسن بن محمد ابن الحنفية عنه؟ فقال: ألم تر إلى الشمس إذا ارتفعت عن الحيطان، فصارت بين القبور كأنها لُجّة؟ فذلك شَرَق الموتى، يقال: شَرِقَت الشمس شَرَقًا: إذا ضَعُف ضوؤها. انتهى

(1)

.

وقيل: شرق الموتى: إذا ارتفعت الشمس عن الطلوع يقال: ساعة الموتى، وقيل: هو اصفرارها عند غروبها

(2)

.

(فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ) أي إذا رأيتم تأخير الأمراء الصلاة مثل هذا التأخير (فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا) أي لوقتها المعتاد في السنّة (وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً) بضم السين، وإسكان الباء: هي النافلة.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: صَلُّوا في أول الوقت، يسقط عنكم الفرض، ثم صلُّوا معهم متى صَلَّوا؛ لتحرزوا فضيلة أول الوقت، وفضيلة الجماعة، ولئلا تقع فتنة بسبب التخلف عن الصلاة مع الإمام، وتختلفَ كلمة المسلمين، وفيه دليل على أن من صلى فريضةً مرتين تكون الثانية سنةً، والفرض سقط بالأولى، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وقيل: الفرض أكملهما، وقيل: كلاهما، وقيل: إحداهما مبهمةً، وتظهر فائدة الخلاف في مسائل معروفة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الأقوال كلها ساقطة، غير الأول؛

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 465.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 456.

ص: 178

لمخالفتها النصّ، فالحديث نصّ في أن الثانية نافلة، فلا وجه للترديدات المذكورة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَصَلُّوا جَمِيعًا) أي مجتمعين صفًّا واحدًا، يكون الإمام فيه وسطًا، كما فعل ابن مسعود رضي الله عنه بالأسود وعلقمة (وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أي من الثلاثة (فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ) أي ليتقدّم أمامكم، وتصفّون وراءه (وَإِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُفْرِشْ) بضمّ الراء، وكسرها، يقال: فَرَشتُ البساط وغيره فَرْشًا، من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب: بسطته، وأفرشته، فافترشَ هو، وهو الفِراشُ بالكسر، فِعَالٌ بمعنى مفعول، مثلُ كتاب؛ قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (ذِرَاعَيْهِ) منصوب على المفعوليّة، أي يبسطهما (عَلَى فَخِذَيْهِ) متعلّق بـ "يفرِشُ" (وَلْيَجْنَأْ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الياء، وإسكان الجيم، آخره مهموز، هكذا ضبطناه، وكذا هو في أصول بلادنا، ومعناه: يَنْعَطِف، وقال القاضي عياض رحمه الله: رُوي: "وَلْيَجْنَأْ" كما ذكرناه، ورُوي "ولْيَحْنِ" بالحاء المهملة، قال: وهذا رواية أكثر شيوخنا، وكلاهما صحيح، ومعناه: الانحناء والانعطاف في الركوع، قال: ورواه بعض شيوخنا بضم النون، وهو صحيح في المعنى أيضًا، يقال: حَنَيْتَ الْعُودَ، وحَنَوتُهُ: إذا عطفته، وأصل الركوع في اللغة: الخضوع، والذِّلّة، وسُمِّي الركوع الشرعيُّ ركوعًا، لما فيه من صورة الذِّلّة، والخضوع، والاستسلام. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولْيَحْنِ" رواية الْعُذريّ بضمّ النون، من حَنَوْتُ العودَ: إذا عطفته، ورواية أكثر الشيوخ بكسر النون، من حَنَيتُ العُود، وهما لغتان، وعند الطبريّ:"فليَجْنَأْ" بالجيم وفتح النون، وبهمزة في آخره، وكلها صحيح، والمراد به الانحناء في الركوع، وهو تَعَقُّف الصلْب، يقال: حَنَا على الشيء يَحْنُو حَنْوًا بالحاء، وجَنَأ يَجَنأ جَنًا وجُنُوءًا

(2)

بالجيم والهمز: إذا فعل ذلك، وأصل الركوع في لغة العرب: الخضوع والذِّلّة، قال شاعرهم [من الخفيف]:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 468.

(2)

من بابيّ نفَعَ، وفَرَحَ، كما تفيده عبارة "القاموس".

ص: 179

لَا تُعَادِ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ

كَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ

ثم هو في الشرع: عبارة عن التذلّل بالانحناء، وأقلّه عندنا -يعني المالكيّة- تمكين وضع اليدين على الركبتين منحنيًا، وهو الواجب، وهل الطمأنينة واجبة، أو ليست بواجبة؛ قولان، وعند أبي حنيفة: الواجب منه أقلّ ما يُطلق عليه اسم المنحني، والحديث الصحيح يردّ عليه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحديث الصحيح أيضًا يردّ على من يقول من المالكيّة ويخرهم: إن الطمأنينة غير واجبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته:"ثم اركع حتى تطمئنّ راكعًا. . . " الحديث، متفقّ عليه، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في محلّه، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقال القاضي عياض؛ بعد ذكره نحو ما تقدّم عن القرطبيّ ما نصّه: وهذه صفة الخاضع الذليل الملقي بيده المستسلم، بل قيل: هي صورة الممكّن نفسه لضرب عنقه، وتلك غاية صور الاستسلام، لا سيّما ما كان عليه أول الشرع من التطبيق، وحبس اليدين بين الفخذين كالمكتوف. انتهى

(1)

.

(وَلْيُطَبِّقْ بَيْنَ كَفَّيْهِ، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَاهُمْ) أي أرى ابن مسعود رضي الله عنه الحاضرين كيفيّة التطبيق الذي رآه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:"فلكأني" الفاء فاء الفصيحة، واللام هي لام الابتداء، و"كأنّ" أداة تشبيه، أراد بذلك أنه حفظ هذه القضيّة من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما نسيها إلى ذلك الوقت، بل يستحضر صورتها أمامه، ويتخيّلها، ففيه تأكيد إخباره بذلك، ولقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه فيما قاله، وصحّ ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، إلا أنه منسوخ، ولم يبلغه نسخه، فلهذا استمرّ عليه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الذي ذكره من تشبيك اليدين، وتطبيقهم بين الفخذين هو مذهب ابن مسعود وأصحابه خاصّةً، وهو صحيح من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه منسوخ، كما ذُكر في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، ولم يبلُغ ابن مسعود رضي الله عنه نسخه، قال: وعلى نسخ التطبيق كافّة العلماء غير من

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 458.

ص: 180

ذُكر. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 1196 و 1197 و 1198](534)، و (أبو داود) في "الصلاة"(868)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 49 و 50)، و"التطبيق"(183 و 184) وفي "الكبرى"(27/ 798)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 245 و 246)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 414 و 451 و 455 و 459)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(196)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 229)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(595)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1874 و 1875)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 164 و 165)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 134 و 135)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 83)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان التطبيق الذي كان أوّلًا مشروعًا، ثم نُسخ، ولا زال ابن مسعود رضي الله عنه متمسّكا به؛ لعدم علمه بنسخه.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن أكابر العلماء قد يخفى عليهم من النصوص ما هو مشهور لدى الناس، وقد عقد الإمام ابن حبّان في "صحيحه" بابًا لهذا، فقال:

"ذكر البيان بأن الْخَيِّرَ الفاضلَ من أهل العلم قد يَخْفَى عليه من السنن المشهورة ما يحفظه من هو دونه، أو مثله، وإن كَثُرَ مواظبته عليها، وعنايته بها"، ثم أورد هذا الحديث، وقال قبل ذلك ما نصّه:

كان ابن مسعود رضي الله عنه ممن يُشَبّك يديه في الركوع، وزعم أنه كذلك رأى

(1)

"المفهم" 2/ 133.

ص: 181

النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله، وأجمع المسلمون قاطبةً من لدن المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على أن الفعل كان في أول الإسلام، ثم نسخه الأمر بوضع اليدين للمصلي في ركوعه، فإن جاز لابن مسعود رضي الله عنه في فضله، وورعه، وكثرة تعاهده أحكام الدين، وتفقده أسباب الصلاة خلف المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو في الصف الأول؛ إذ كان من أولي الأحلام والنُّهَى أن يخفى عليه مثل هذا الشيء المستفيض الذي هو منسوخ بإجماع المسلمين، أو رآه فنسيه، جاز أن يكون رفع المصطفى صلى الله عليه وسلم يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، مثلَ التشبيك في الركوع، أن يخفى عليه ذلك، أو ينساه بعد أن رآه. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد ابن حبّان رحمه الله في هذا الاستنباط، والتحقيق، فإن هذا الحديث وأمثاله مما يقطع دابر المقلّدين الذين لا يبالون بالسنن الصحاح إذا خالفت مذهبهم، إذا ذُكِّرُوا لا يذكُرُون، بل يتعلّلون بأن إمامهم أعلم وأكثر اطّلاعًا من غيره، فلو كان هذا النصّ سليمًا لَمَا خفي عليه، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه أعلم، وأحفظ للسنن من الإمام الذي يدّعون له الإحاطة بالسنّة زورًا، قد خفيت عليه هذه السنة، فماذا بعد هذا؟ إلا العناد والمكابرة، اللهم اهدنا فيمن هديت آمين.

3 -

(ومنها): أنه من أدلّة نبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته؛ إذ قد أخبر صلى الله عليه وسلم عن شيء من الغيب، فوقع على نحو ما أخبر به.

4 -

(ومنها): أن فيه جواز التشبيك في المسجد؛ لأن التطبيق الذي ذكر في هذا الحديث كان في المسجد، وفيه قوله:"فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية النسائيّ:"فجعل إذا ركع شبّك بين أصابعه"، ففيه أن التشبيك وقع في المسجد، وقد بوّب النسائيّ في "سننه"، فقال:"تشبيك الأصابع في المسجد"، ثم أورد الحديث محتجًّا به على جوازه، وقد أشبعت البحث في "شرحي"

(2)

عليه، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وأما حديث أحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن كعب بن عجرة رضي الله عنه

(1)

"صحيح ابن حبان" 5/ 194.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 9/ 39 - 41.

ص: 182

مرفوعًا: "إذا توضأ أحدكم، فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد، فلا يُشَبِّكَنّ يديه، فإنه في صلاة"، ففي إسناده اختلاف، ضعَّفه بعضهم بسببه

(1)

، فلا يُعارض حديث الباب والأحاديث الأخرى في معناه.

5 -

(ومنها): الإنكار على الأئمّة إذا أخّروا الصلاة، والمبادرة إلى أدائها في أول وقتها، ثم إذا أدركهم يصلّون صلاها معهم نافلة؛ إحرازًا لفضيلة أول الوقت، وفضيلة صلاة الجماعة.

6 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الواجب على المسلم البعد عن إثارة الفتن في وُلاة الأمور، وجماهير المسلمين، ولو رأى منهم التساهل في بعض أمور الدين، فهذه الصلاة التي أخرها هؤلاء الأئمة الذين أنكر عليهم ابن مسعود رضي الله عنه ما حثه على الخروج بسببها عليهم، بل أمر الأسود وعلقمة بأن يصلوا في بيوتهم، ثم يصلوا معهم في أي وقت صلّوها، وهذا كلّه محافظة على أمن الأمة، وأداء لما يجب على الناس تجاه ولاة الأمور، وإنما الحقّ أن ينصحهم سِرًّا إذا استطاع دون أن يثير شرًّا، أو يُشهِرهم على رؤوس الأشهاد، فإن هذا هو الشرّ المستطير، ونسأل اللَّه تعالى السلامة من كلّ شرّ، اللهم اهدنا فيمن هديت {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، آمين.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1197]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ، أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ وَجَرِيرٍ: فَلَكَأَنِّي

(2)

أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ رَاكِعٌ).

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 144.

(2)

وفي نسخة: "فكأني".

ص: 183

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

2 -

(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو: عليّ بن مُسْهِر القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضَرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) عن (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

4 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ حافظ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

6 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريا الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

7 -

(مُفَضَّل) بن المُهَلْهَل السعديّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ نبيلٌ عابدٌ [7](ت 167)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (كلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ) أي كلّ هؤلاء الثلاثة: عليّ بن مُسهر، وجرير بن عبد الحميد، ومفضل بن مهلهل رووا هذا الحديث عن الأعمش. . . إلخ.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيةَ) يعني أن حديث هؤلاء الثلاثة عن الأعمش بمعنى حديث أبي معاوية عنه الذي سبق قبل هذا.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ وَجَرِيرٍ: فَلَكَأَنِّي. . . إلخ) وفي بعض النسخ "فكأني"، يعني أن في حديثهما زيادة، وهي قوله في آخره:"وهو راكعٌ".

[تنبيه]: روايات هؤلاء الثلاثة لم أجد من ساقها تامّةً، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 184

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1198]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: أَصَلَّى مَنْ خَلْفَكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَامَ بَيْنَهُمَا، وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ رَكَعْنَا، فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا، ثُمَّ طبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) السمرقنديّ، أبو محمد الحافظ، صاحب "المسند" ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ إمام [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي الْمُختار باذام العبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ تُكُلِّم فيه بلا حجة [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.

4 -

(مَنْصُور) بن المعتمر بن عبد اللَّه السَّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا) وفي رواية النسائيّ: "فنزعها، فخالف بين أصابعها"، وهذا هو معنى التشبيك، وهو التطبيق.

وقوله: (ثُمَّ طبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ) المراد بالتطبيق هنا: جمع الكفّين، وتشبيك أصابعهما حتى تختلف، ثم وضعهما بين الركبتين في حالة الركوع، وهذا منسوخ، كما يأتي في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 185

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1199]

(535) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، قَالَ: وَجَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ، فَقَالَ لِي أَبِي: اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، قَالَ: ثُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَضَرَبَ يَدَيَّ، وَقَالَ: إِنَّا نُهِينَا عَنْ هَذَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

- (قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) هو: فضيل بن الحسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(أَبُو يَعْفُورٍ) -بفتح التحتانيّة، وسكون المهملة، وضمّ الفاء، آخره راء- الأكبر، واسمه وَقْدان -بفتح الواو، وسكون القاف، وبالدال المهملة، ثم بالألف والنون- ويقال: واقد العبديّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [4].

أدرك المغيرة بن شعبة، ورَوَى عن ابن عمر، وابن أبي أوفى، وأنس، وعَرْفَجة بن شُرَيح، ومصعب بن سعد، وأبي صادق الأزديّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه يونس، وإسرائيل، وزائدة، والثوريّ، وشعبة، وأبو الأحوص، وأبو عوانة، وابن عيينة، وغيرهم.

قال أبو طالب، عن أحمد: أبو يعفور الكبير اسمه وَقْدان، ويقال: واقد، كوفيّ ثقةٌ، وقال ابن معين، وعليّ ابن المدينيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، يقال: مات سنة عشرين ومائة.

هكذا قال الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال"، وتعقّبه الحافظ، فقال: بل بعدها بسنين؛ لأن ابن عيينة سمع منه، وكان ابتداء طلبه بعد العشرين،

ص: 186

وذكر مسلم في الطبقات أن اسمه واقد، ولقبه وقدان. انتهى

(1)

.

أخرج له الستّة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (535) و (745) و (1852) و (1952).

[تنبيه]: قال النوويّ في "شرحه": أبو يعفور هذا هو عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس، أبو يعفور الأصغر، وهذا ردّه عليه المحقّقون، فقال الحافظ في "الفتح": قوله: "عن أبي يعفور" هو الأكبر، كما جزم به المزيّ، وهو مقتضى صنيع ابن عبد البرّ، وصرّح الدارميّ في روايته من طريق إسرائيل، عن أبي يعفور بأنه العبديّ، والعبديّ هو الأكبر بلا نزاع، وذكر النوويّ في "شرح مسلم" أنه الأصغر، وتُعُقِّب. انتهى

(2)

.

وممن تعقّبه أيضًا العينيّ في "العمدة"، فقال:"أبو يعفور"، واسمه وَقْدان الْعَبْديّ الكوفيّ، والد يونس بن أبي يعفور، ويقال: اسمه واقد، والأول أشهر، وهو أبو يعفور الأكبر، وهو الصحيح، جزم به المزيّ وغيره، وزعم النوويّ أنه يعفور الصغير، عبد الرحمن بن عُبيد بن نِسْطَاس، وليس بشيء؛ لأن الصغير ليس مذكورًا في الآخذين عن مصعب، ولا في أشياخ شعبة. انتهى.

وممن صرّح بأنه الأكبر الحافظ ابن رجب في "شرح البخاريّ"، حيث قال:"أبو يعفور": هو العبديّ الكوفيّ، اسمه وقْدان، وقيل: واقد، وهو أبو يعفور الأكبر. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما قال هؤلاء المحقّقون أن أبا يعفور هنا هو الأكبر، لا الصغير، كما زعم النوويّ رحمه الله، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه آخر]: الظاهر أن يعفور غير منصرف؛ لأن فيه العلميّة ووزن الفعل، كما قال في "الخلاصة":

كَذَاكَ ذُو وَزْنٍ يَخُصُّ الْفِعْلَا

أَوْ غَالِبٍ كَأَحْمَدٍ وَيَعْلَى

(1)

"تهذيب التهذيب" 11/ 108.

(2)

"الفتح" 2/ 319.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 7/ 153.

ص: 187

لكن الموجود في كتب الحديث بضبط القلم صرفه، ولم أر أحدًا من الشرّاح تعرّض لهذا البحث، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(مُصْعَبُ بْنُ سَعْد) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو زُرَارة المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 103)(ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 541.

6 -

(أَبُوه) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا أبا كامل، فما أخرج له ابن ماجه، وعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فإنه من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأول من رمى بسهم في سبيل اللَّه تعالى، وآخر من مات من العشرة المبشّرين رضي الله عنهم، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ) تقدّم آنفًا أن الصواب أنه الأكبر، وقدان، أو واقد (عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ) ابن أبي وقّاص، أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي) سعد رضي الله عنه، والجنب والجانب بمعنى واحد، قال في "اللسان":"الْجَنْبُ" -بفتح، فسكون- و"الْجَنَبَةُ" محرَّكَةً، و"الجانب": شِقُّ الإنسان وغيره، تقول: قعدت إلى جنب فلان، وإلى جانبه، بمعنى، والجمع جُنُوب، وجوانِبُ، وجَنَابٌ، والأخيرة نادرةٌ. انتهى

(1)

.

(قَالَ) مصعبٌ (وَجَعَلْتُ يَدَيَّ) بالتثنية، وأراد باليدين الكفّين، من باب

(1)

"لسان العرب" 1/ 691.

ص: 188

إطلاق الكلّ، وإرادة الجزء (بَيْنَ رُكْبَتَيَّ) بالتثنية أيضًا، والمراد أنه طبّق بين كفّيه، فجعلهما بين ركبتيه، كما فسّرته الرواية الآتية:"فلَمّا ركعت شبّكت أصابعي، وجعلتهما بين ركبتيَّ"، وفي رواية البخاريّ:"فطبّقتُ بين كفّيَّ، ثم وضعتهما بين فخذيّ"، وفي رواية الدارميّ من طريق إسرائيل، عن أبي يعفور:"كان بنو عبد اللَّه بن مسعود إذا ركعوا جعلوا أيديهم بين أفخاذهم، فصلّيتُ إلى جنب أبي، فضرب يدي. . . " الحديث، فأفادت هذه الرواية مُستند مصعب في فعل ذلك، وأولاد ابن مسعود رضي الله عنه أخذوه عن أبيهم

(1)

.

(فَقَالَ لِي أَبِي: اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ) أي اجعل كفّيك على ركبتيك (قَالَ) مصعبٌ (ثُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ) يعني ما ذكره من تطبيق اليدين، وجعلهما بين الركبتين (مَرَّةً أُخْرَى) ظرف متعلّق بـ "فعلتُ" (فَضَرَبَ يَدَيَّ) يعني أن أباه ضرب يديه تأديبًا (وَقَالَ: إِنَّا نُهِينَا عَنْ هَذَا) أي عن التطبيق، والفعل مبنيّ للمجهول، وقوله:(وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالْأَكفِّ عَلَى الرُّكَبِ) أي نضع أكفّنا على رُكَبنا.

و"الأكُفُّ" -بفتح الهمزة، وضمّ الكاف، وتشديد الفاء-: جمع كفّ، كأفلُس جمع فَلْس، ويُجمع أيضًا على كُفُوف، كالفلُوس، قال الأزهريّ: الكفّ: الراحة مع الأصابع، سُمّيت بذلك؛ لأنها تكفّ الأذى عن البدن. انتهى. وهي مؤنّثة على المشهور، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى.

و"الرُّكَب" -بضمّ، ففتح- جمع رُكبة، كغُرفة وغُرَف، قال في "القاموس":"الركبة" بالضمّ: موصل ما بين أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق، أو موضع الْوَظِيف والذراع، أو مَرْفِق الذراع من كلّ شيء. انتهى باختصار

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 2/ 527.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 76.

ص: 189

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 199 و 1200 و 1201 و 1202](535)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(790)، و (أبو داود) فيها (767)، و (الترمذيّ) فيها (259)، و (النسائيّ) فيها (2/ 185)، و (ابن ماجه) فيها (873)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2953)، و (الحميديّ) في "مسنده"(79)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 244)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(595 و 596)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1882)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 166)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 230)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 83)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(196)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 339)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1808 و 1809)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1179 و 1180 و 1181) واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نسخ التطبيق، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

2 -

(ومنها): بيان أن التطبيق كان أوّلًا مأمورًا به، ثم تُرك.

3 -

(ومنها): جواز النسخ في الشريعة، ووقوعه.

4 -

(ومنها): الأمر بوضع اليدين على الركبتين، وسيأتي ترجيح القول بوجوبه.

5 -

(ومنها): تعليم الجاهل بسنّة الصلاة، وهو فيها، فإن سعدًا رضي الله عنه ضرب يدي ولده وهو راكع.

6 -

(ومنها): إزالة المنكر باليد؛ عملًا بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، رواه مسلم، وأحمد، وأصحاب السنن.

7 -

(ومنها): أن الحديث يدلّ على نسخ التطبيق؛ بناءً على أن المراد بالآمر والناهي في قول سعد رضي الله عنه: "نهينا عن هذا، وأُمرنا بالرُّكب" هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الصيغة مختلفٌ فيها، والراجح أن حكمها حكم الرفع، وهو

ص: 190

مقتضى صنيع الشيخين، حيث أخرجا الحديث في هذا الباب احتجاجًا به على هذا الحكم، وإلى هذه المسألة أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذا "كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ" أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التطبيق:

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله: التطبيق منسوخ عند أهل العلم، لا خلاف بين العلماء في ذلك، إلا ما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه وبعض أصحابه أنهم كانوا يُطَبِّقون. انتهى بتصرّف

(1)

.

وأخرج الإمام ابن المنذر بسنده حديث الباب، ثم أخرج بسند قويّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة -يعني التطبيق-.

ثم قال: فقد ثبتت الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه وضع يديه على ركبتيه، ودلّ خبر سعد -يعني حديث الباب- على نسخ التطبيق، والنهي عنه.

ولا يقولنّ قائل: إن المصلّي بالخيار، إن شاء طبّق يديه على ركبتيه، وإن شاء وضع يديه على ركبتيه؛ لأن في خبر سعد رضي الله عنه النهيَ عنه.

قال: وممن رَوَينا عنه من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه وَضَعَ يديه على ركبتيه، وأمر بذلك: عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهم، ثم أخرج آثارهم بأسانيدها.

ثم قال: ورَوَينا ذلك عن عروة بن الزبير، وسعيد بن جُبير، وعطاء، ومجاهد، والنخعيّ، وبه قال سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وكلّ من لقيته من أهل العلم.

وكان عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، والأسود، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن الأسود يُطبِّقون أيديهم بين رُكَبهم إذا ركعوا.

وقد روينا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قولًا ثالثًا من حديث عاصم بن

(1)

راجع: "جامع الترمذيّ" 2/ 115 بنسخة "تحفة الأحوذيّ".

ص: 191

ضَمْرة، عنه أنه قال: إذا ركعت، فإن شئت قلت هكذا طبّقت، وإن شئت وضعت على ركبتيك. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: مذهبنا، ومذهب العلماء كافّة أن السنّة وضع اليدين على الركبتين، وكراهة التطبيق، إلا ابن مسعود، وصاحبيه: علقمة، والأسود، فإنهم يقولون: إن السنّة التطبيق؛ لأنهم لم يبلغهم الناسخ، وهو حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، والصواب ما عليه الجمهور؛ لثبوت الناسخ الصريح. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن ما عليه الجمهور من الصحابة، فمن بعدهم من أن التطبيق منسوخ، هو الحقّ؛ لثبوت النسخ فيما أخرجه الشيخان من حديث سعد رضي الله عنه، ولما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ عن عمر رضي الله عنه، أنه قال:"سُنّت لكم الرُّكَب، فأمسكوا بالرُّكَب"، وقد سبق أن الراجح أن قول الصحابيّ:"من السنة كذا" يريد به سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا سيّما من مثل عمر رضي الله عنه، فهو مرفوع حكمًا.

ويُعتذر عن ابن مسعود رضي الله عنه وأصحابه بأنه لم يبلغهم النسخ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال

(3)

الحافظ ابن رجب رحمه الله: أكثر العلماء على أن وضع اليدين على الركبتين في الركوع من سُنن الصلاة، ولا تبطل الصلاة بتركه، ولا بالتطبيق.

ورَوَى عاصم بن ضمرة، عن عليّ رضي الله عنه أنه مخيَّرٌ بين أن يضع يديه على ركبتيه، أو يُطبِّق.

وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى المنع من التطبيق، وإبطال الصلاة به؛ للنهي عنه، كما دلّ عليه حديث سعد رضي الله عنه، منهم: أبو خيثمة زُهير بن حرب، وأبو إسحاق الْجُوزَجانيّ، وقال أبو بكر بن أبي شيبة فيمن طبَّق، ولم يَضَع يديه على ركبتيه: أحبّ إليّ أن يُعيد.

(1)

"الأوسط" 3/ 152 - 154.

(2)

"شرح النووي" 5/ 15.

(3)

إنما ذكرت هذه المسألة وإن كان معظمها سبق في التي قبلها؛ لما فيها من الزوائد التي لم تذكر فيما مضى، فتنبه.

ص: 192

ونَقَل إسحاق بن منصور عن أحمد أنه سُئل عن قول سفيان: من صلّى بالتطبيق يُجزئه؟ فقال أحمد: أرجو أن يُجزئه، فقال إسحاق ابن راهويه كما قال: إذا كان به علّةٌ.

وحَمَل أبو حفص الْبَرْمكيّ من أصحابنا -يعني الحنبليّة- قول أحمد على ما إذا كان به علّة، فإن لم تكن به علّة فلا تُجزئه صلاته إلا أن لا يعلم بالنهي عنه.

وتوقّف أحمد في إعادة الصلاة مع التطبيق في رواية أخرى.

فعلى قول هؤلاء يكون وضع اليدين على الركبتين في الركوع من واجبات الصلاة.

وقد رُوي عن طائفة من السلف ما يدلّ على ذلك، فإنه رُوي عن جماعة أنهم قالوا: إذا وضع يديه على ركبتيه أجزأه في الركوع، وممن رُوي عنه ذلك: سعد بن أبي وقّاص، وابن مسعود، وابن سيرين، ومجاهد، وعطاء، وقال: هو أدنى ما يُجزئ في الركوع. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام ابن خزيمة في "صحيحه": "باب ذكر البيان أن التطبيق غير جائز، بعد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بوضع اليدين على الركبتين، وأن التطبيق مَنْهِيٌّ عنه، لا أن هذا من فعل المباح، فيجوز التطبيق، ووضع اليدين على الركبتين جميعًا، كما ذكرنا أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم في القراءة في الصلوات، واختلافهم في السور التي كان يقرأ فيها صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وكاختلافهم في عدد غسل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعضاء الوضوء، وكلُّ ذلك مباح، فأما التطبيق فىِ الركوع فمنسوخ منهيٌّ عنه، والسنة وضع اليدين على الركبتين". انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله

(2)

.

وتعقّبه في "الفتح"، فقال: وفيه نظر؛ لاحتمال حمل النهي على الكراهة، فقد رَوَى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن ضَمْرة عن عليّ رضي الله عنه قال:"إذا ركعت فإن شئت قلت هكذا، -يعني وضعت يديك على ركبتيك- وإن شئت طَبَّقت"، وإسناده حسن، وهو ظاهر في أنه كان يرى التخيير، فإما أنه لم يبلغه النهي، وإما حمله على كراهة التنزيه، ويدلّ على أنه ليس بحرام كون عمر

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 7/ 156 - 158.

(2)

"صحيح ابن خزيمة" 1/ 301 - 302.

ص: 193

وغيره ممن أنكره لم يأمر مَن فعله بالإعادة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن هذا الاعتراض غير صحيح؛ لأن ابن خزيمة رحمه الله احتجّ بظاهر النهي المرفوع، فكيف يُعترض بالموقوف على المرفوع، فهل رأي الصحابيّ المخالف للنّصّ يعارَض به النصّ؟، ولا سيّما وقد خالفه الصحابة الآخرون، كعمر بن الخطّاب، وسعد، وعائشة رضي الله عنهم، هذا من الغرائب.

والحاصل أن ما قاله ابن خزيمة رحمه الله من أن التطبيق غير جائز، وأن وضع اليدين على الركبتين في الركوع واجب هو الحقّ، وقد سبق أنه مذهب جماعة من السلف، كالإمام أحمد، وأبي خيثمة، والجوزجانيّ، وغيرهم، فالنصّ الذي عمل به هؤلاء الأئمة من الصحابة، فمن بعدهم هو الحقّ الذي لا مرية فيه، فتأمّل بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[فائدة]: حَكَى ابن بطال عن الطحاويّ، وأقره أن طريق النظر يقتضي أن تفريق اليدين أولى من تطبيقهما؛ لأن السنة جاءت بالتجافي في الركوع والسجود، وبالمراوحة بين القدمين، قال: فلما اتفقوا على أولوية تفريقهما في هذا، واختلفوا في الأول اقتضى النظر أن يُلْحَق ما اختلفوا فيه بما اتفقوا عليه، قال: فثبت انتفاء التطبيق، ووجوب وضع اليدين على الركبتين. انتهى كلامه.

وتَعَقَّبه الزين ابن الْمُنَيِّر بأن الذي ذكره مُعارَض بالمواضع التي سُنّ فيها الضمّ، كوضع اليمنى على اليسرى في حال القيام، قال: وإذا ثبت مشروعية الضمّ في بعض مقاصد الصلاة، بطل ما اعتمده من القياس المذكور.

نعم لو قال: إن الذي ذكره ما يقتضي مَزِيّة التفريج على التطبيق، لكان له وجه.

قال الحافظ: وقد وردت الحكمة في إثبات التفريج على التطبيق، عن عائشة رضي الله عنها، أورد سيف في "الفتوح" من رواية مسروق أنه سألها عن ذلك؟ فأجابت بما مُحَصَّلُهُ أن التطبيق من صنيع اليهود، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنه لذلك، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْزَل عليه، ثم أُمِر

(1)

"الفتح" 2/ 528.

ص: 194

في آخر الأمر بمخالفتهم. انتهى

(1)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1200]

(. . .) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَنُهِينَا عَنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَام) البزّار المقرئ البغداديّ، له اختيارات في القراءات، ثقةٌ [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَص) سلّام بن سليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، ثقة ثبتٌ حجة إمام، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ) أي أبو الأحوص، وسفيان بن عيينة.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) يعني إسناد أبي يعفور المتقدّم، وهو: عن مصعب بن سعد، عن أبيه.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة هذه، ساقها عبد الرزاق في "مصنّفه" (2/ 152) فقال:

(2864)

عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن أبي يعفور، عن مصعب بن

(1)

"الفتح" 2/ 528.

ص: 195

سعد، قال: صليت إلى جنب أبي، فطَبَّقت، فقال: فنهاني أبي، وقال: قد كنا نفعله، فنهينا عنه. انتهى.

وأما رواية أبي الأحوص، فلم أجد من ساقها تامّةً، فليُنظر.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1201]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَكَعْتُ، فَقُلْتُ بِيَدَيَّ هَكَذَا، يَعْنِي طبَّقَ بِهِمَا، وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، فَقَالَ أَبِي: قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا، ثُمَّ أُمِرْنَا بِالرُّكَبِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(وَكِيع) بن الجرّاح تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البَجَليّ الأحمسيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

4 -

(الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ) الْهَمَدانيّ الياميّ، أبو عدس الكوفيّ، ولي قضاء الريّ، ثقةٌ [5](ت 131)(ع) تقدم في "الإيمان" 82/ 438.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (فَقُلْتُ بِيَدَيَّ هَكَذَا) أي فعلت التطبيق، كما فسّره بعد، ففيه إطلاق القول على الفعل، وهو جائز في اللغة، وقد تقدّم أن "قال" تطلق لغةً على معان كثيرة، قد تقدّمت نظمًا.

وقوله: (ثُمَّ أُمِرْنَا بِالرُّكَبِ) أي بوضع اليدين على الركب.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 196

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1202]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، فَلَمَّا رَكَعْتُ شَبَّكتُ أَصابِعِي، وَجَعَلْتُهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيَّ، فَضَرَبَ يَدَيَّ، فَلَمَّا صلَّى، قَالَ: قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا، ثُمَّ أُمِرْنَا أَنْ نَرْفَعَ إِلَى الرُّكَبِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير البغداديّ، أبو صالح الْقَطَريّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187 وقيل: 191) (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقون تقدّموا قبل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ جَوَازِ الإِقْعَاءِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1203]

(536) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ، قَالَا جَمِيعًا: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، يَقُولُ: قُلْنَا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ، فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ، فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ

(3)

، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم).

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "بالرِّجْلِ" بكسر، فسكون: بمعنى القدم.

ص: 197

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) تقدم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ مصنّف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

4 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ، يدلّس ويرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

6 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 191.

7 -

(طَاوُس) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

8 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما تقدّم قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداستات المصنف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف صيغ أدائهما بسبب اختلاف كيفيّة التحمّل، كما أوضحته غير مرّة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديثِ، والإخبارِ، والسماع.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

عن أبي الزبير المكيّ (أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُسًا، يَقُولُ: قُلْنَا لِابْنِ عَبّاسٍ) رضي الله عنه، أي كلّمناه (فِي الإِقْعَاءِ) أي في شأن الإقعاء، أي وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين، وقوله:(عَلَى الْقَدَمَيْنِ) متعلّق بـ "الإقعاء"، أي سألناه هل هذه الْجِلْسة سنة، أم بدعة مخالفة للَّهدي النبويّ؟ (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (هِيَ السُّنَّةُ)

ص: 198

أنّث الضمير مع أن "الإقعاء" مذكّر؛ باعتبار أنه جِلْسة، يعني أن هذه الجِلْسة سنّة نبويّة، وتعريف جزأي الجملة يدلّ على الكمال، أي إنها سنّة مرضيّة؛ لثبوتها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا جفاء فيها، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً) بفتح الجيم، والمدّ: مصدر جفا، يقال: جفوتُ الرجلَ أجفوه: إذا أعرضت عنه، أو طردته، وهو مأخوذ من جُفَاء السيل، وهو ما نَفَاه السيلُ، وقد يكون مع بُغْض، أفاده في "المصباح"

(1)

.

وقوله: (بِالرَّجُلِ) متعلّق بـ "جفاءً"، يعني أن الجلسة نعتبرها من جفاء الرَّجُل، وابتعاده، وإعراضه عن السنّة، وسيأتي تمام البحث في معنى الإقعاء في المسألة الثالثة -إن شاء اللَّه تعالى-.

قال النوويّ رحمه الله: ضبطنا قوله: "بالرَّجُل" بفتح الراء، وضم الجيم، أي بالإنسان، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: وضبطه أبو عمر بن عبد البر بكسر الراء، وإسكان الجيم، قال أبو عمر: ومن ضَمّ الجيم، فقد غَلِطَ، وردَّ الجمهور على ابن عبد البر، وقالوا: الصواب الضم، وهو الذي يليق به إضافة الجفاء إليه. انتهى

(2)

.

وعبارة القاضي عياض رحمه الله: كذا رويناه "الرَّجُل" بفتح الراء، وضمّ الجيم، وكذا قيّدناه عن شيوخنا، وقيّدناه في كتاب أبي داود على الفقيه أبي الوليد هشام بن أحمد، عن الغسّانيّ شيخنا، عن أبي عمر بن عبد البرّ "بالرِّجْل" بكسر الراء، وسكون الجيم، يريد الجارحة، وكذا ألفيته أيضًا في أصل أبي عمر ابن عبد البرّ، وبه عارضت، وقال أبو عليّ: كذا كان يقول أبو عمر فيه، ويقول: من قال بالرَّجُل فقد صحّفه، ولا معنى له، قال أبو عليّ: ولم أسمعه قط إلا "بالرجُل"، وكذا قيّده أبو عليّ في أصله، وبه عارضت أيضًا.

قال القاضي: والأوجه عندي هو قول من يروي "بالرَّجُل" كما قال أبو عليّ، ويدلّ عليه إضافة الجفاء إليه في جِلْسته تلك المكروهة عند العلماء، وأما "الرِّجْلُ" فلا وجه له. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 104.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 19.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 460 - 461.

ص: 199

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تحصّل مما سبق أن ضبط "الرجُل" بضم الجيم بمعنى الإنسان هو الصواب؛ لأنه أوفق بمعنى الجفاء، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما ردًّا على توهّمهم كونها من جفاء الشخص (بَلْ هِيَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم) أي فلا جفاء فيها، بل هي قربة إلى اللَّه تعالى؛ لأن من فعل بالسنة؛ اتّباعًا له صلى الله عليه وسلم، فقد اهتدى، وأفلح، قال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال عز وجل:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 1203](536)، و (أبو داود) في "الصلاة"(845)، و (الترمذيّ) فيها (283)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 313)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1892 و 1893)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1182)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في معنى الإقعاء:

قال القرطبيّ رحمه الله: قال أبو عُبيد: الإقعاء: هو أن يُلْصِقَ الرجل أَلْيَتَيه بالأرض، ويَنصِب ساقيه، ويضع يديه بالأرض، كما يفعل الكلب، قال: وفي تفسير الفقهاء أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين نظر.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا نظر فيه؛ إذ هو تفسير ابن عبّاس رضي الله عنهما، حبر الأمة وبحرها، فتبصّر.

قال: وقال ابن شُميل: الإقعاء: أن يَجلس على وَرِكَيه، وهو الاحتفاز والاستيفاز، وحُكي عن الثعالبيّ أنه قال في أشكال الجلوس عن الأئمة: إن الإنسان إذا ألصق عقبيه بأليتيه، قيل: إقعاءٌ، وإذا استوفز في جلوسه كأنه يريد أن يثور للقيام قيل: احتفز، واقعنفز، وقعد الْقُعْفُزاء، فإذا ألصق أليتيه

ص: 200

بالأرض، وتوسّد ساقيه قيل: فرطش، كذا وقع، وصوابه فرشط، بالفاء، وتقديم الشين المعجمة، والطاء المهملة، وقد ذكره أبو عبيد في "المصنَّف"، قال القاضي عياض: والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنه من السنّة، الذي فسّره به الفقهاء من وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين، وكذا جاء مفسَّرًا عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:"من السّنّة أن تُمِسّ عقبيك أليتيك"، وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن الإقعاء ورد فيه حديثان، ففي هذا الحديث إنه سنةٌ، وفي حديث آخر النهي عنه، رواه الترمذيّ وغيره، من رواية عليّ رضي الله عنه، وابن ماجه من رواية أنس رضي الله عنه، وأحمد بن حنبل من رواية سمرة وأبي هريرة رضي الله عنهما، والبيهقيّ من رواية سمرة وأنس رضي الله عنهما، وأسانيدها كلّها ضعيفة.

وقد اختَلَف العلماء في حكم الإقعاء، وفي تفسيره اختلافًا كثيرًا لهذه الأحاديث، والصواب الذي لا مَعْدِلَ عنه أن الاقعاء نوعان:

[أحدهما]: أن يُلْصِق أَلْيتيه

(2)

بالأرض، ويَنصِب ساقيه، ويَضَع يديه على الأرض، كإقعاء الكلب، هكذا فسَّره أبو عبيدة، معمر بن المثنَّى، وصاحبه أبو عبيد، القاسم بن سَلَّام، وآخرون من أهل اللغة، وهذا النوع هو المكروه الذي ورد فيه النهي.

[والنوع الثاني]: أن يَجْعَل أَلْيَتَيْهِ على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس رضي الله عنهما بقوله:"سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم"، وقد نَصَّ الشافعيّ رحمه الله في "البويطيّ"، و"الإملاء" على استحبابه في الجلوس بين السجدتين، وحَمَل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عليه جماعات من المحققين، منهم البيهقيّ، والقاضي عياض، وآخرون -رحمهم اللَّه تعالى-.

(1)

"المفهم" 2/ 136.

(2)

"الأَلْيَةُ": أَلْيَة الشاة، قال ابن السِّكِّيت وجماعة: لا تُكسَر الهمزة، ولا يقال: لِيَّةٌ، والجمعُ أَلَيَات، مثلُ سَجْدَة وسَجَدَات، والتثنية: أَلْيان بحذف الهاء على غير قياس، وبإثباتها في لغة على القياس. انتهى. "المصباح" 1/ 20.

ص: 201

قال القاضي: وقد رُوِيَ عن جماعة من الصحابة والسلف، أنهم كانوا يفعلونه، قال: وكذا جاء مفسَّرًا عن ابن عباس رضي الله عنهما: "من السنة أن تُمِسّ عقبيك أَلْييك"، هذا هو الصواب في تفسير حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكرنا أن الشافعيّ على استحبابه في الجلوس بين السجدتين، وله نصٌّ آخر، وهو الأشهر أن السنة فيه الافتراش.

وحاصله أنهما سنتان، وأيُّهما أفضل؟ فيه قولان.

وأما جِلْسَةُ التشهد الأول، وجِلْسة الاستراحة فسنتهما الافتراش، وجِلْسة التشهد الأخير السنة فيه التورك، هذا مذهب الشافعيّ رحمه الله، وقد سبق بيانه مع مذاهب العلماء - رحمهم اللَّه تعالى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الصواب في تفسير الإقعاء المذكور في حديث الباب أن يجعل أليتيه على عقبيه، وهما منصوبتان، وهذه الكيفيّة من سنن الصلاة لا كراهة فيها، وأما الإقعاء الذي ورد فيه النهي، فهو أن يُلْصِق أَلْيتيه بالأرض، ويَنصِب ساقيه، ويَضَع يديه على الأرض، كهيئة جلوس الكلب، فهذا تفصيل المسألة.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بابُ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَسْخِ مَا كَانَ مِنْ إِبَاحَتِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1204]

(537) - (حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو جَعْفَرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَوَّافِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا

(3)

أنا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ

(1)

"شرح النووي" 5/ 19.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "بينما".

ص: 202

عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي

(1)

، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ

(2)

: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ، لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ"، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ:"فَلَا تَأْتِهِمْ"، قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، فَالَ: "ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ -قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ

(3)

-: فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ"، قَالَ: قُلْتُ وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قَالَ: "كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ"، قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيةٌ، تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ، وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ

(4)

: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ:"ائْتِنِي بِهَا"، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا:"أَيْنَ اللَّهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ:"مَنْ أَنَا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ:"أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو جَعْفَرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقة حافظ مصنّف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

(1)

وفي نسخة: "يُصَمِّتُوني" بالإدغام، وبدونه.

(2)

وفي نسخة: "ثم قال".

(3)

وفي نسخة: "وقال ابن الصبّاح".

(4)

وفي نسخة: "فقلت".

ص: 203

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ المعروف بابن عُلَيّة، ثقةٌ ثبت حافظ [8](ت 193) عن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ) هو: حجّاج بن أبي عثمان ميسرة، أو سالم الكنديّ مولاهم، أبو الصَّلْت البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.

5 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) واسمه صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثمّ اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

6 -

(هِلَالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ) هو: هلال بن عليّ بن أُسامة، ويقال: هلال بن أبي ميمونة، وهلال بن أبي هلال، العامريّ مولاهم المدنيّ، وبعضهم نسبه إلى جدّه فقال: ابن أسامة، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، وأبي ميمونة المدنيّ.

ورَوَى عنه يحيى بن أبي كثير، وزياد بن سعد، ومالك، وفُليح، وسعيد بن أبي هلال، وعبد العزيز بن الماجشون.

قال أبو حاتم: شيخٌ يُكْتَب حديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال الدارقطنيّ: هلال بن عليّ ثقة، وقال مسلمة في "الصلة": ثقة قديمٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الواقديّ: مات في آخر خلافة هشام بن عبد الملك.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (537) وكرره، و (1052) و (1566).

7 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3](ت 94) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

8 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ) هو: معاوية بن الحكم بن خالد بن صخر بن الشَّرِيد بن رَبَاح بن يقظة بن عُصيّةَ بن خُفَاف بن امرئ القيس بن

ص: 204

بهثة بن سُلَيم بن منصور

(1)

السُّلَميّ الصحابيّ رضي الله عنه.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه كثير، وعطاء بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، قال البخاريّ: له صحبة، يُعدّ في أهل الحجاز، وقال أبو عمر ابن عبد البرّ: كان ينزل المدينة، ويَسْكُن في بني سُلَيم، له عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث واحدٌ، في الكِهانة، والطِّيَرة، والخطّ، وتشميت العاطس، وعتق الجارية -يعني حديث الباب- قال: أحسن الناس له سياقة يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء، عنه، ومنهم من يُقَطِّعه، فيجعله أحاديث.

قال الحافظ: وله حديث آخر، من طريق ابنه كثير بن معاوية، عنه

(2)

. انتهى.

أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

[تنبيه]: "السُّلَميّ" -بضمّ السين المهملة، وفتح اللام-: نسبة إلى سُلَيم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَة بن قيس عَيْلان بن مُضَر، وهي قبيلة مشهورة، قاله في "اللباب"

(3)

.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في صيغة الأداء، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن قوله: "وتقاربا في اللفظ" فيه إشارة إلى أن شيخيه بينهما اختلاف قليل في لفظ الحديث، ومثله لا يضرّ الإجمال فيه، وقد أشرت إلى هذه القاعدة في قولي:

وَلَوْ رَوَى عَنِ الشُّيُوخِ مَا اتَّفَقْ

مَعْنَى حَدِيثِهِمْ وَلَفْظُهُ افْتَرَقْ

يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ فِي السَّنَدِ

وَيُورِدَ الْمَتْنَ بِلَفْظِ وَاحِدِ

(1)

راجع في نسبه: "تحفة الأشراف" 8/ 116.

(2)

هو ما ذكره في "الإصابة" 6/ 118 فقال: وأخرج البغويّ من طريق يعقوب بن محمد الزهريّ، عن أسد بن موسى، عن ضِفَار بن حُميد، عن كثير بن الحكم السُّلَميّ، عن أبيه، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزى أخي عليّ بن الحكم فرسًا له خندقًا. . . فذكر الحديث.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 446 - 447.

ص: 205

مُبَيِّنًا وَإِنْ يَكُنْ قَدْ أَجْمَلَهْ

بِأَنْ أَشَارَ لِلْمُرَادِ جَازَ لَهْ

فَقَالَ قَدْ تَقَارَبُوا فِي اللَّفْظِ أَوْ

وَاتَّحَدَ الْمَعْنَى فَحَقِّقْ مَا رَأَوْا

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، والصحابيّ، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وأخرج له البخاريّ في "جزء القراءة".

4 -

(ومنها): أنهم ما بين مدنيين، وهم: هلال، وعطاء، ومعاوية، وبصريين، وهم: إسماعيل، وحجاج، ويحيى، فهو بصريّ، يماميّ، وبغداديّ، وهو أبو جعفر، وكوفيّ، وهو: أبو بكر بن أبي شيبة.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يحيى، عن هلال، عن عطاء، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة.

6 -

(ومنها): أن صحابيه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ) بضمّ، ففتح: نسبة إلى سُليم أحد أجداده، أنه (قَالَ: بَيْنَا) وفي نسخة: "بينما"، وقد تقدّم البحث فيها مستوفًى غير مرّة (أنا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ) بفتح أوله وثانيه، يقال: عَطَسَ عَطْسًا، من باب ضَرَبَ، وفي لغة من باب قَتَلَ، والْمَعْطِسُ وزانُ مَجْلِس: الأنف، وعَطَسَ الصبْحُ: أنار، على الاستعارة، قاله الفيّوميّ

(1)

. (رَجُلٌ) بالرفع على الفاعليّة (مِنَ الْقَوْمِ) متعلّق بصفة لـ "رجل"(فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ) إنما قال له ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أمره به، ففي رواية أبي داود:"قال: لَمّا قَدِمتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عُلِّمْتُ أمورًا من أمور الإسلام، فكان فيما عُلِّمتُ أن قال لي: إذا عَطَست فاحمد اللَّه، وإذا عطس العاطس، فَحَمِدَ اللَّه، فقل: يرحمك اللَّه، قال: فبينما أنا قائم مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، إذ عطس رجل، فَحَمِدَ اللَّه، فقلت: يرحمك اللَّه، رافعًا بها صوتي، فرماني الناس بأبصارهم. . . "، الحديث.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 416.

ص: 206

(فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ) قال الطيبيّ رحمه الله: أي أسرعوا في الالتفات إليّ، ونفوذ البصر فيّ، استُعير من رمي السهم. انتهى

(1)

.

وفي رواية النسائيّ: "فحدّقني القوم بأبصارهم"، من التحديث، وهو شدّة النظر، والمراد أنهم نظروا إليه نظرةً منكرة؛ إنكارًا عليه في تشميته ذلك العاطس في الصلاة، وهو لا يجوز؛ لأنه من كلام الناس، وكلام الناس في الصلاة لا يجوز (فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ) "وا" حرف نُدبة ونداء، والنُّدبة: نداءُ الْمُتَفَجَّع عليه، نحو وازيداه، أو الْمُتَوَجَّع منه، نحو واظهراه.

و"الثكل" بضمّ الثاء المثلّثة، وسكون الكاف، وبفتحهما لغتان، كالْبُخْل، والْبَخَلِ، حكاهما الجوهريّ وغيره، وهو فقدان المرأة ولدها، يقال: ثَكِلتهُ أمه بكسر الكاف، من باب تَعِبَ: فقدته، وأثكله اللَّه تعالى أمّه، وامرأة ثَكْلَى، وثاكل، قاله النوويّ

(2)

.

وقال في "المصباح": ثَكِلَت المرأة ولدها ثَكَلًا، من باب تَعِبَ: فقدته، والاسم: الثُّكْلُ، وزانُ قُفْلٍ، فهي ثاكلٌ، وقد يقال: ثاكلةٌ، وثَكْلَى، والجمع: ثَوَاكل، وثَكَالَى، وجاء فيها مِثْكَالٌ أيضًا بكسر الميم: أي كثيرة الثُّكْل، ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: أثكلها اللَّه ولدَهَا. انتهى

(3)

.

و"ثُكْلَ" منادى مضاف منصوب بالفتحة الظاهرة، و"أمياه" بضمّ الهمزة، وتشديد الميم، أصله: أُمّي، وهو مضاف إليه "ثُكْلَ"، ومضاف إلى ياء المتكلّم المفتوحة، وزيدت الألف لمدّ الصوت، وأُردف بهاء السكت الساكنة الثابتة في الوقف المحذوفة في الوصل، وإلى هذأ أشار في "الخلاصة" حيث قال:

وَمُنْتَهَى الْمَنْدُوبِ صِلْهُ بِالأَلِفْ

مَتْلُوُّهَا إِنْ كَانَ مِثْلَهَا حُذِفْ

إلى أن قال:

وَوَاقِفًا زِدْ هَاءَ سَكْتٍ إِنْ تُرِدْ

وَإِنْ تَشَا فَالْمَدَّ وَالْهَا لَا تَزِدْ

فكأن معاوية رضي الله عنه قال: وافُقْدان أُمّي ولدها -يعني نفسه- وذلك لعلمه بأنه فعل في الصلاة فعلًا منافيًا لها.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1066.

(2)

"شرح النووي" 5/ 20.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 83.

ص: 207

(مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟)"ما" استفهاميّة مبتدأ خبرها "شأنكم"، وفي رواية النسائيّ:"ما لكم تنظرون إليّ؟ "(فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ) وفي رواية النسائيّ: "فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم"، وإنما فعلوا ذلك زيادةً في الإنكار حتى يسكت.

قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون هذا الفعل منهم قبل نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التصفيق، والأمر بالتسبيح، ويَحْتَمِلُ أن يقال: إنهم فَهِمُوا أن التصفيق المنهيّ عنه إنما هو ضرب الكفّ على الكفّ، أو الأصابع على الكفّ، ويبعُدُ أن يُسمَّى مَن ضَرَبَ على فخذه، وعليها ثوبه مصفِّقًا، ولهذا قال:"فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم"، ولو كان يسمَّى تصفيقًا لكان الأقرب في اللفظ أن يقول: يُصفّقون، لا غير. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفيه دليلٌ على جواز الفعل القليل في الصلاة، وأنه لا تبطل به الصلاة، وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة. انتهى

(2)

.

(فَلَمَّا رَأْيتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي) بضمّ أوله، وتشديد الميم، أو تخفيفها، من التصميت، أو الإصمات، قال الفيّومي: صَمَتَ صَمْتًا، من باب قتل: سكت، وصُمُوتًا، وصُمَاتًا، فهو صامت، وأصمته غيره، وربّما استعمل الرباعيّ لازمًا أيضًا. انتهى

(3)

.

وقال المجد: الصَّمْتُ والصُّمُوتُ، والصُّمَاتُ: السكوت، كالإصمات، والتصميت، قال: وأصمته، وصَمّته: أسكته، لازمان متعدّيان. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما ذكر أن المناسب لما هنا التعديّ، من الإصمات، أو التصميت، وهو بنونين الأولى نون الرفع، والثانية نون الوقاية، كما قال في "الخلاصة":

وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ الْتُزِمْ

نُونُ وِقَايَةٍ وَ"لَيْسِي" قَدْ نُظِمْ

ويجوز إدغام نون الرفع في نون الوقاية، كقوله تعالى:{أَتُحَاجُّونِّي} و {تَأْمُرُونِّي} .

(1)

"المفهم" 2/ 138.

(2)

"شرح النووي" 5/ 20.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 346 - 347.

(4)

"القاموس المحيط" 1/ 152.

ص: 208

وفي بعض النسخ: "يُصمتوني" بحذف إحدى النونين، والصحيح أنها نون الرفع، كما هو معروف في محلّه.

وقوله: (لَكِنِّي سَكَتُّ) استدراك على محذوف جوابٍ لـ "لَمّا"، أي فلَمّا رأيتهم يصمتونني أردت أن أُخاصمهم، لكني سكتّ عن ذلك.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لكني سكت" هكذا في الأصول على ما ذُكر في المتن، ولا بدّ من تقدير جواب "لَمّا"، ومستدرك "لكن"؛ ليستقيم المعنى، فالتقدير: فلما رأيتهم يصمتونني غَضِبتُ وتغيّرتُ، لكني سكت، ولم أعمل بمقتضى الغضب. انتهى

(1)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: قال المنذريّ رحمه الله: يريد لم أتكلّم، لكنّي سكتُ، وورود "لكن" هنا مشكلٌ؛ لأنه لا بدّ أن يتقدّمها كلام مناقضٌ لما بعدها، نحو ما هذا ساكتًا، لكنه متحرّك، أو ضدّ له، نحو ما هو أبيض، لكنه أسود.

ويَحْتَمل أن يكون التقدير هنا: فلما رأيتهم يصمّتوني لم أكلّمهم، لكني سكتُّ، فيكون الاستدراك لرفع ما تُوُهّم ثبوته، مثلُ ما زيدٌ شُجاعًا، لكنه كريمٌ؛ لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان، فالاستدراك من توهّم نفي كرمه.

ويَحْتَمِلُ أن تكون "لكن" هنا للتوكيد، نحو لو جاءني أكرمته، لكنه لم يجئ، فأكّدت "لكن" ما أفادته "لو" من الامتناع، وكذا في الحديث أكّدت "لكن" ما أفاده ضربهم من ترك الكلام. انتهى

(2)

.

(فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي انتهى من صلاته، قال الطيبيّ رحمه الله: جواب "لَمّا" قوله: "قال: إن هذه الصلاة. . . إلخ"، وقوله:"فبأبي هو وأمّي" إلى قوله: "قال" معترضٌ بين "لَمّا" وجوابها. انتهى كلام الطيبيّ، وتبعه ابن حجر الهيتميّ، وقال: واعتُرض بينهما بما فيه غاية الالتئام والمناسبة لهما. انتهى.

وقال ميرك: الأولى أن يقال: جواب قوله: "فلَمّا صلّى. . . إلخ"

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1066.

(2)

"نيل الأوطار" 2/ 371.

ص: 209

محذوف، وهو ما دلّ عليه جملة "فبأبي هو وأمي ما رأيت معلّمًا. . . إلخ"، أي اشتَغَل بتعليمي بالرفق، وحسن الكلام. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأحسن تقدير جواب "لَمّا" بما وقع في الرواية الأخرى، أي "دعاني. . . إلخ"، فقد وقع ذلك فيما أخرجه النسائيّ، ولفظه:"فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمي هو. . . إلخ"، وإنما استحسنت هذا؛ لأن خير ما فُسّر به الوارد بالوارد، ومعنى "انصرف" أي سلّم من صلاته.

(فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي) قال الطيبيّ رحمه الله: هذه الفاء كما في قوله تعالى: {فَلَا تَكُنْ} في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)} [السجدة: 23]، فإنه عطف {وَجَعَلْنَاهُ} على {آتَيْنَا} ، وأوقعها معترضةً بين المعطوف والمعطوف عليه. انتهى.

وقوله: "بأبي هو وأمّي" الجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف خبرٍ لـ "هو" مقدّمًا عليه، أي هو مفديّ بأبي وأميّ.

(مَا) نافية (رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ) بالنصب مفعول ثانٍ لـ "رأيتُ" إن كانت علميّة، أو منصوب على الحال، إن كانت بصريّة، أي ما علمت، أو ما أبصرت قبله صلى الله عليه وسلم، ولا بعده معلّمًا أحسن منه، وقوله:(تَعْلِيمًا) منصوب على التمييز، أي من حيث التعليمُ (مِنْهُ) متعلّق بـ "أحسن".

ثم بيّن حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم بقوله: (فَوَاللَّهِ مَا كهَرَنِي)"ما" نافيةٌ، و"كهر" من باب مَنَعَ، قال أبو عُبيد: الْكَهْرُ: الانتهار، وقيل: الْعُبُوسُ في وجه من يلقاه. انتهى.

وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} [الضحى: 9] بالكاف.

والمعنى هنا: أنه لم ينتهرني، ولا أغلظ لي القول، ولا استقبلني بوجه عَبُوس على ما فعلتُ من المخالفة في الصلاة.

(وَلَا ضَرَبَنَي) تأديبًا على ما أسأت في صلاتي بقولي: يرحمك اللَّه (وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ) صلى الله عليه وسلم، وهو جواب "فلما صلى. . . إلخ" على ما قاله الطيبيّ،

(1)

راجع "المرعاة" 3/ 339.

ص: 210

وعلى ما قاله غيره جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل له: ما الذي قاله لك في تعليمه الحسن؟، فقال:"قال: إن هذه الصلاة. . . إلخ".

وفي بعض "النسخ""ثم قال"، وهو واضح.

("إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ) وفي رواية النسائيّ: "إن صلاتنا هذه"، والمراد مطلق الصلاة، فيشمل الفرض والنفل (لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ) وفي رواية:"لا يحلّ"، وقوله:"يصلح" بضمّ اللام وفتحها، يقال: صلح الشيءُ صُلُوحًا، من باب قعد، وصلاحًا أيضًا، وصَلُحَ يَصْلُحُ بضمّ اللام فيهما لغةٌ، وهو خلاف فَسَدَ، وصَلَحَ يَصْلَحُ بفتحتين لغة ثالثة، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

وقوله: (مِنْ كَلَامِ النَّاسِ) بيان لـ "شيء"، أي ما يجري في مخاطباتهم ومحاوراتهم.

قال الشوكانيّ رحمه الله: و"كلام الناس" اسم مصدر يراد به تارةً ما يُتكلَّم به، على أنه مصدر بمعنى المفعول، وتارةً يراد به التكليم للغير، وهو الخطاب، والظاهر أن المراد به ههنا الثاني بشهادة السبب. انتهى

(2)

.

وقال السيوطيّ في "شرح النسائيّ": هذا من خصائص هذه الشريعة، ذكر القاضي أبو بكر ابن العربيّ: أن شريعة بني إسرائيل كان يباح فيها الكلام في الصلاة دون الصوم، فجاءت شريعتنا بعكس ذلك.

وقال ابن بطّال رحمه الله: إنما عيب على جُريج عدم إجابته لأمه، وهو في الصلاة؛ لأن الكلام في الصلاة كان مباحًا في شرعهم، وفي شرعنا لا يجوز قطع الصلاة لإجابة الأمّ؛ إذ لا طاعة لمخلوف في معصية الخالق. انتهى

(3)

.

(إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ")"هو" ضمير يعود إلى الشيء الذي يصلح في الصلاة، وهو مبتدأ خبره "التسبيح. . . إلخ"، وفي رواية:"إنما هي التسبيح"، أي الصلاة، وقوله:(أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"أو" للشكّ من الراوي، وهو معاوية بن الحكم، أو من دونه، أتى به تحرّيًا واحتياطًا في الألفاظ النبويّة، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 345.

(2)

"نيل الأوطار" 3/ 211.

(3)

"زهر الربى في شرح المجتبى" 3/ 17.

ص: 211

قال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "إنما التسبيح. . . إلخ": هذا ونحوه، فإن التشهد والدعاء والتسليم من الصلاة، وغير ذلك من الأذكار مشروع فيها، فمعناه: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ومخاطباتهم، وإنما هي التسبيح، وما في معناه من الذكر والدعاء، وأشباههما مما ورد به الشرع. انتهى.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: قوله: "إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" هذا الحصر يدلّ بمفهومه على منع التكلم في الصلاة بغير الثلاثة، وقد تمسكت به الطائفة القائلة بمنع الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن من الحنفية، والهادوية.

ويجاب عنهم بأن الأحاديث المثبتة لأدعية، وأذكار مخصوصة في الصلاة، مُخَصِّصة لعموم هذا المفهوم، وبناء العام على الخاص متعين، لا سيما بعدما تقرر أن تحريم الكلام كان بمكة، كما قدمنا، وأكثر الأدعية والأذكار في الصلاة كانت بالمدينة، وقد خصصوا هذا المفهوم بالتشهد، فما وجه امتناعهم من التخصيص بغيره؟ وهذا واضح، لا يلتبس على من له أدنى نظر في العلم، ولكن المتعصِّب أعمى، وكم من حديث صحيح، وسنة صريحة قد نصبوا هذا المفهوم العام في مقابلتها، وجعلوه معارضًا لها، وردّوها به، وغَفَلُوا عن بطلان معارضة العام بالخاص، وعن رجحان المنطوق على المفهوم، إن سَلِمَ التعارض. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله. وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

قال معاوية بن الحكم رحمه الله (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ) ولفظ أبي داود: "إنا قوم حديثو عهد بجاهليّة"، فقوله:"حديث عهد" خبر "إنّ"، ذكر في "القاموس" من معاني "العهد": المعرفة، والوقت، فيكون المعنى هنا: قريب الوقت من الأمور الجاهليّة، أو قريب المعرفة بها

(1)

.

وقال في "المصباح": هو قريب العهد بكذا: أي قريب العلم والحال. انتهى

(2)

.

و"الجاهليّة": قال العلماء: هي ما قبل ورود الشرع، سُمُّوا جاهليّةً؛ لكثرة جهالاتهم، وفُحشهم

(3)

.

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 320.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 435.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 22.

ص: 212

والمراد أنه أسلم قريبًا، ولا يعرف أحكام الدين.

(وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلَامِ) قال السنديّ رحمه الله: عطف على مقدّر، أي كنّا فيها، فجاء اللَّه بالإسلام. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا حاجة إلى هذا التقدير، فإن الكلام مستقيم لا يحتاج إلى تقدير شيء، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وإنما ذكر معاوية رضي الله عنه هذا الكلام تمهيدًا للأسئلة التالية.

(وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ) بضم الكاف، وتشديد الهاء: جمع كاهن، يقال: كَهَنَ له، كمنع، ونصر، وكَرُم كَهَانةً بالفتح، وتكهّن تكهّنًا: قَضَى له بالغيب، فهو كاهن، وجمعه كَهَنَةٌ، وكُهّانٌ، ككافر وكَفَرَة، وكُفّار، وحرفته الكِهانة بالكسر، أفاده في "القاموس"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الكُهّان" جمع كاهنٍ، ككاتب وكُتّاب، والكاهن: الذي يتعاطى علم ما غاب عنه، وكانت الْكِهانة في الجاهليّة في كثير من الناس شائعةً فاشيةً، وكان أهل الجاهليّة يترافعون إلى الكهّان في وقائعهم وأحكامهم، ويرجعون إلى أقوالهم، كما فَعَل عبد المطّلب حيث أراد ذبح ابنه عبد اللَّه في نذر كان نذره، فمنعته عشيرته من ذلك، وسَرَى أمرهم حتى ترافعوا إلى كاهن معروف عندهم، فحكم بينهم بأن يَفْدُوه بمائة من الإبل على ترتيب ذُكِر في السيرة، وإنما كان الكاهن يتمكّن من التكهّن بواسطة تابعه من الجنّ، وذلك أن الجنّيّ كان يسترق السمع، فيَخطَف الكلمة من الملائكة، فيُخبر بها وليّه، فيتحدّث بها، ويزيد معها مائة كذبة، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما بعث اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم أُرسلت الشُّهُب على الجنّ، فلم يتمكّنوا مما كانوا يتمكّنون منه قبل ذلك، فانقطعت الْكِهانة؛ لئلا يجُرّ ذلك إلى تغيير الشرع، ولبس الحقّ بالباطل، لكنها وإن كانت قد انقطعت فقد بقي في الوجود قوم يتشبّهون بأولئك الْكُهّان، فنهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن اتّباعهم؛ لأنهم كَذَبَةٌ مُمَخرِقُون مبطلون ضالّون مضلّون، فيحرُم إتيانهم، والسماع منهم، وقد كثُر هذا النوع في كثير من نساء الأندلس، وكثير من رجال غير الأندلس، فليُحْذَر الأتيان إليهم، والسماع

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 264.

ص: 213

منهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الخطابيّ رحمه الله: كان في العرب كَهَنَةٌ يَدَّعُون أنهم يَعرِفون كثيرًا من الأمور، فمنهم مَن يزعُم أن له رَئِيًّا من الجنّ، يُلقي إليه الأخبار، ومنهم مَن يَدَّعي استدراك ذلك بفهم أُعطيه، ومنهم من يُسَمَّى عَرّافًا، وهو الذي يزعم معرفة الأمور بمقدَّمات أسباب، يستدل بها لمعرفة مَن سَرَقَ الشيء الفلانيّ، ومعرفة مَن يُتَّهَم به المرأة، ونحو ذلك، ومنهم من يُسمّي المنجِّم كاهنًا، قال: والحديث يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلّهم، والرجوع إلى قولهم، وتصديقهم فيما يدَّعونه. انتهى.

(قَالَ: "فَلَا تَأْتِهِمْ") أي الكُهّان، والنهي للتحريم، قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: إنما نُهِيَ عن إتيان الكُهّان لأنهم قد يتكلمون في مُغَيَّبات قد يُصادف بعضها الإصابة، فيُخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك، ولأنهم يُلَبِّسُون على الناس كثيرًا من أمر الشرائع.

وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكُهّان، وتصديقهم فيما يقولون، وتحريم ما يُعْطَون من الْحُلْوان، وهو حرام بإجماع المسلمين، وقد نقل الإجماع في تحريمه جماعة، منهم أبو محمد البغويّ -رحمهم اللَّه تعالى-.

قال البغويّ: اتَّفَقَ أهل العلم على تحريم حُلْوان الكاهن، وهو ما أَخذه المتكهِّن على كَهانته؛ لأن فعل الكِهانة باطل، لا يجوز أخذ الأجرة عليه.

وقال الماورديّ في "الأحكام السلطانية": ويَمْنَعُ المحتَسِب الناس من التكسب بالكهانة، واللهو، ويؤدِّب عليه الآخذ والمعطي.

وقال الخطابيّ رحمه الله: حُلْوان الكاهن ما يأخذه المتكهِّن على كِهانته، وهو محرَّم، وفعله باطل، قال: وحُلْوان العرّاف حرام أيضًا، قال: والفرق بين العرّاف والكاهن، أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدَّعِي معرفة الأسرار، والعراف يتعاطى معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة، ونحوهما. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 2/ 139 - 140.

(2)

"شرح مسلم" 5/ 23.

ص: 214

(قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ) أي يتشاءمون بالطيور، يقال: تطيّر من الشيء، واطّيّر منه، والاسم الطِّيَرة، وزانُ عِنَبَة، وهي التشاؤم، وكانت العرب إذا أرادت المضيّ لمهمّ مرّت بمجاثم الطير وأثارتها؛ لتستفيد هل تمضي، أو ترجع؟ فنَهَى الشرع عن ذلك، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "الطِّيَرَة" -بكسر الطاء، وفتح الياء، وقد تسكن-: هي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تَطَيَّر، يقال تَطَيَّرَ طِيَرَة، وتَخَيَّرَ خِيَرَةً، ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما.

وأصل التطيُّر: التفاؤل بالطير، واستُعمل لكلّ ما يُتفاءل به، ويُتشاءم، وكانت العرب تتطيَّر بالطيور والظباء، فيستبشرون بالسَّوَانح، وهي أن يَمُرّ الطير والصيد من اليسار إلى اليمين، ويتشاءمون بالْبَوَارح، وهي مرور الطير والصيد من اليمين إلى اليسار، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونَهَى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع، أو دفع ضر. انتهى بتصرف

(2)

.

(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم جوابًا عن سؤاله هذا: ("ذَاكَ) إشارة إلى التطيّر المفهوم من "يتطيّرون"(شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ) أي ليس له أصلٌ يُستنَد إليه، ولا له بُرهان يُعتمَد عليه، ولا هو في كتاب منزل من عند اللَّه تعالى، وقيل: معناه: أنه معفُوّ عنه؛ لأنه يوجد في النفس بلا اختيار، نَعَم المشي على وفقه منهيّ عنه، فلذا قال:(فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ") أي لا يمنعنّهم عما هم فيه.

قال القرطبيّ رحمه الله: معنى ذلك أن الإنسان بحكم العادة يجد في نفسه نفرةً وكراهةً مما يُتطيَّر به، فينبغي له أن لا يلتفت إلى تلك النفرة، ولا لتلك والكراهة، ويمضي لوجهه الذي خرج إليه، فإن تلك الطيرة لا تضرّ، وإن لم تضرّ فلا تصدّ الإنسان عن حاجته، وأشار به إلى أن الأمور كلّها بيد اللَّه تعالى، فينبغي أن يُعوَّل عليه، وتُفَوَّضَ جميع الحوائج إليه، ويُفهَم منه أن هذا الوجدان لتك النفرة لا يُلام واجدها عليها شرعًا؛ لأنه لا يقدر على الانفكاك

(1)

"المصباح المنير" 2/ 382.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 152.

ص: 215

عنها، وإنما يلام الإنسان، أو يُمدَح على ما كان داخلًا تحت استطاعته. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه أن الطِّيَرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورةً، ولا عَتْبَ عليكم في ذلك، فإنه غير مُكْتَسَبٍ لكم، فلا تكليف به، ولكن لا تمتنعوا بسببه عن التصرف في أموركم، فهذا هو الذي تقدرون عليه، وهو مكتسب لكم، فيقع به التكليف، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن العمل بالطيرة، والامتناع عن تصرفاتهم بسببها.

قال: وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التّطَيُّر والطِّيَرَة، وهو محمول على العمل بها، لا على ما يوجد في النفس من غير عمل على مقتضاه عندهم. انتهى.

(قَالَ) وفي نسخة: "وقال"(ابْنُ الصَّبَّاحِ) هو: محمد بن الصبّاح شيخه الأول (فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ) يعني بكاف الخطاب بدل قول أبي بكر بن أبي شيبة: "فلا يصدّنّهم" بضمير الغائبين، وهذا من احتياط المصنّف رحمه الله، وشدّة ورعه في المحافظة على أداء ما سمعه كما سمعه، وإن لم يختلف به المعنى، فللَّه درّه، ما أحسن صنيعه رحمه الله.

(قَالَ) معاوية بن الحكم رضي الله عنه (قُلْتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ) أي يستعملون خطًّا معروفًا عندهم يدّعون به التوصّل إلى معرفة النجاح والخيبة في قضاء الحاجة.

قال في "اللسان": الخط: الكتابة ونحوها مما يُخَطّ، ورَوَى أبو العباس عن ابن الأعرابيّ أنه قال في الطَّرْق

(2)

.

وقال في "النهاية": قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الخط": هو الذي يَخُطُّه الحازي، وهو علم قد تركه الناس، يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي، فيُعطيه حُلْوانًا، فيقول له: اقعُد حتى أَخُطّ لك، وبين يدي الحازي غلام له، معه مِيلٌ له، ثم يأتي إلى أرض رِخْوَة، فيخط الأستاذ خطوطًا كثيرة بالعجلة؛ لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مَهَلٍ خطين خطين، فإن بقي من

(1)

"المفهم" 2/ 141.

(2)

لسان العرب 7/ 287.

ص: 216

الخطوط خطان، فهما علامة قضاء الحاجة والنُّجْح، قال: والحازي يمحو، وغلامه يقول للتفاؤل: ابْنَيْ عِيَان أَسْرِعَا البيان، قال ابن عباس: فإذا محا الحازي الخطوط، فبقي منها خط واحد، فهي علامة الخيبة في قضاء الحاجة.

قال: وكانت العرب تُسَمِّي ذلك الخط الذي يبقى من خطوط الحازي: الأَسْحَم، وكان هذا الخط عندهم مشؤومًا.

وقال الحربيّ: الخط هو أن يَخُطّ ثلاثة خطوط، ثم يضرب عليهنّ بشعير، أو نَوًى، وبقول: يكون كذا وكذا، وهو ضرب من الكِهانة.

قال ابن الأثير: الخط المشار إليه علم معروف، وللناس فيه تصانيف كثيرةٌ، وهو معمول به إلى الَان، ولهم فيه أوضاع، واصطلاحٌ، وأسامٍ، ويستخرجون به الضمير وغيره، وكثيرًا ما يصيبون فيه. انتهى

(1)

.

(قالَ) صلى الله عليه وسلم ("كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ) قيل: المراد به إدريس، وقيل: دانيال (يَخُطُّ) بالبناء للفاعل، من باب نصر، أي يستعمل الخطّ معجزةً له (فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ) يَحْتمل الرفع على الفاعليّة، والمفعول محذوفٌ، والنصب على المفعوليّة، والفاعل الضمير المستتر في "وافق" يعود إلى النبيّ على حذف مضاف، أي خطّ ذلك النبيّ، يعني أن من وافق من الناس خطُّهُ خطّ ذلك النبيّ (فَذَاكَ") خبر مبتدأ محذوف، واختُلف في تقديره، فقيل: فذاك مباحٌ، وقيل: فذاك الذي تجدون إصابته فيما يقول، والجملة جواب الشرط.

وقال في "المنهل": قوله: "فذاك" أي فهو مُصيبٌ، وعالمٌ مثل ذلك النبيّ، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقينيّ بالموافقة، وامتَنَعت الموافقة؛ لأن خطّه كان معجزةً، ولأنه كان يَعرِف بالفراسة بواسطة تلك الخطوط، فلا يُلْحَق به أحدٌ من غير الأنبياء في صفة ذلك الخطّ؛ لقوّة فراسته، وكمال علمه وورعه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماءُ في معناه، فالصحيح أن معناه: من وافق خطُّهُ فهو مباح، ولا طريق لنا إلى العلم اليقينيّ بالموافقة، فلا يباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها.

(1)

"النهاية" 2/ 47.

(2)

"المنهل العذب المورود" 6/ 32.

ص: 217

وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فمَن وافق خطه فذاك"، ولم يقل: هو حرام بغير تعليق على الموافقة؛ لئلا يَتَوهَّم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبيّ الذي كان يَخُط، فحافظ النبيّ صلى الله عليه وسلم على حرمة ذاك النبيّ، مع بيان الحكم في حقنا.

فالمعنى أن ذلك النبيّ لا منع في حقّه، وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها.

وقال الخطابيّ: هذا الحديث يَحْتَمِل النهي عن هذا الخطّ؛ إذ كان عَلَمًا لنبوة ذاك النبيّ، وقد انقطعت، فنُهِينا عن تعاطي ذلك.

قال القاضي عياض: الأظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خطّ من يوافق خطّه، لكن من أين نعلم الموافقة؟ والشرع منع من التخرُّص، وادّعاء الغيب جملةً، وإنما معناه: أن من وافق خطُّه فذاك الذي تجدون إصابته فيما يقول، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم، وعليه يدلّ ظاهر قول ابن عبّاس، قال: ويَحْتَمُل أن هذا نُسِخَ في شرعنا. انتهى كلام القاضي

(1)

.

قال النوويّ بعدما تقدّم: فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن

(2)

.

وقال القرطبيّ: حَكَى مكيّ في "تفسيره" أنه رُوي أن هذا النبيّ كان يخطّ بأصبعه السبابة والوسطى في الرمل، ثم يزجر. انتهى

(3)

.

(قَالَ) معاوية رضي الله عنه (وَكَانَتْ لِي جَارِيةٌ) أي أمة، سُمّيت جاريةً؛ تشبيهًا لها بالسفينة الجارية في البحر؛ لجريها مُسخَّرةً في أشغال مواليها، والأصل فيها الشابّة؛ لخفّتها، ثم توسّعوا حتى سَمَّوا كلَّ أمة جاريةً، وإن كانت عجوزًا لا تقدر على السعي؛ تسميةً بما كانت عليه، وجمعها جواري، أفاده الفيّوميّ

(4)

. (تَرْعَى غَنَمًا لِي)"الغنم": اسم جنس يُطلق على الضأن والمعز، وقد يُجمع على أغنام على معنى قُطْعَانات من الغنم، ولا واحد له من لفظه، قاله ابن الأنباريّ، وقال الأزهريّ أيضًا: الغنم: الشاة، الواحدة: شاةٌ، وتقول العرب:

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 464.

(2)

"شرح النووي" 5/ 23.

(3)

"المفهم" 2/ 141 - 142.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 98.

ص: 218

راح على فلان غَنَمان، أي قَطِيعان من الغنم، كلُ قطيع منفرد بمرعًى وراعٍ، وقال الجوهريّ: الغنم اسم مؤنّثٌ موضوع لجنس الشاء، يقع على الذكور والإناث، وعليهما، ويُصَغَّر، فتدخل الهاء، فيقال: غُنيمة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، وصُغِّرت، فالتأنيث لازم لها. انتهى

(1)

.

(قِبَلَ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة: أي جهةَ (أُحُدٍ) بضمّتين: الجبل المعروف بقرب المدينة النبويّة من جهة الشام، وكانت به الوقعة المشهورة في أوائل سنة ثلاث من الهجرة، وهو مذكّرٌ، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم البُقْعة، فيُمنع، وليس بالقويّ

(2)

. (وَالْجَوَّانِيَّةِ) بفتح الجيم، وتشديد الواو، وبعد الألف نون مكسورة، ثم ياء مشدّدة، قال النوويّ: هكذا ضبطناه، وكذا ذكر أبو عُبيد البكريّ، والمحققون، وحَكَى القاضي عياض عن بعضهم تخفيف الياء، والمختار التشديد، والجوّانية بقرب أُحُد: موضع في شَمَاليّ المدينة، وأما قول القاضي عياض: إنها من عَمَلِ الْفُرْع فليس بمقبول؛ لأن الْفُرْع بين مكة والمدينة بعيد من المدينة، وأُحُد في شماليّ المدينة، وقد قال في الحديث:"قِبَلَ أُحُد، والجوّانيّة"، فكيف يكون عند الفُرْع؟. انتهى

(3)

.

(فَاطَّلَعْتُ) بتشديد الطاء المهملة، من الاطّلاع، يقال: اطّلعتُ على الشيء: إذا أشرفت عليه، وعَلِمته، أي أشرفت تلك الغنم (ذَاتَ يَوْمٍ) أي يومًا من الأيام، و"ذات" مقحمة (فَإذَا الذِّيبُ) بكسر الذال المعجمة، بعدها ياء، ويقال: فيها أيضًا ذئب بالهمزة، وهو: كلبُ البرّ، قال في "المصباح": الذِّئبُ: يُهمز، ولا يُهمز، ويقع على الذكر والأنثى، وربّما دخلت الهاء في الأنثى، فقيل: ذئبةٌ، وجمع القليل أذؤُب، مثلُ أفلس، وجمع الكثرة ذِئَابٌ، وذُؤبان، ويجوز التخفيف، فيقال: ذِيَاب بالياء؛ لوجود الكسرة. انتهى.

(قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا) وفي رواية النسائيّ: "قد ذهب بشاة منها"(وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ) بمدّ الهمزة، وفتح السين: أي أغضب، يقال: أَسِفَ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 455.

(2)

"المصباح" 1/ 6.

(3)

"شرح النووي" 5/ 23 - 24.

ص: 219

أَسَفًا، من باب تَعِبَ: حَزِنَ وتَلَهَّفَ، فهو أَسِفٌ، مثلُ تَعِبٍ، وأَسِفَ مثلُ غَضِبَ وزنًا ومعنًى، ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: آسفته، قاله الفيّوميّ

(1)

. (كَمَا يَأْسَفُونَ) أي كما يغضبُ بنو آدم إذا أُصيب مالهم (لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً) أي لطمت تلك الجارية لطمة، يقال: صكّه صَكًّا: إذا ضرب قفاه ووجهه بيده مبسوطة.

وقوله: "لكنّي" تقدّم مثله في قوله: "لكني سكتُّ"، وأنه استدراك على محذوف، فيقدّم هنا: فلما رأيت ذلك أردت أن أسامحها، لكني لم أفعل ذلك، بل صككتها صكّةً، واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ) معطوف على محذوف، وقد صرّح به النسائيّ، أي فأخبرته، فعظّم ذلك عليّ، من التعظيم، أي جعل ما فعلته فعلًا عظيمًا منكرًا.

(قُلْتُ) وفي نسخة: "فقلت"(يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟) بهمزة الاستفهام، وكان هذا العتق لأجل كفّارة كانت عليه من نذر، أو نحوه، كما بيّنه مالك في "الموطّأ"، ولفظه:"وعليّ رقبةٌ، أفأعتقها؟ ".

ويَحْتَمِلُ أن يكون كفّارةً عن جنايته عليها بالصكّ، فكأنه لَمّا عظّم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك عليه أراد أن يكفّره بعتق رقبة، فسأل هل تكفي تلك الجارية عن كفّارته؟.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ائْتِنِي بِهَا") وفي رواية النسائيّ: "قال: ادعها"، وإنما أمره بالإتيان بها؛ ليتبيّن كونها مؤمنةَّ يَعتقها صاحبها عن الرقبة التي عليه.

قال: (فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهَا) أي لتلك الجارية ("أَيْنَ اللَّهُ؟) عز وجل (قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ) قال النوويّ: هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان:

أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه، مع اعتقاد أن اللَّه تعالى ليس كمثله شيء، وتنزيهه عن سمات المخلوقات.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: إن أراد بعدم الخوض في معناه عدم الخوض في معرفة الكيفيّة، فذاك صواب، وإن أراد عدم معرفة المعنى اللغوي من

(1)

"المصباح المنير" 1/ 15.

ص: 220

اللفظ، فهذا باطلٌ؛ لأن هذا ليس مذهب السلف، وإنما مذهبهم أنهم يعرفون المعنى اللغوي، ويُثبتون ذلك للَّه عز وجل على ما يليق بجلاله من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، فتفطّن، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: والثاني: تأويله بما يَلِيق به، فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها، هل هي مُوَحِّدة تُقِرُّ بأن الخالق المدبر الفعال، هو اللَّه وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء، كما اذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء، كما أنه ليس منحصرًا في جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لأن السماء قبلة الداعين" هذا لا دليل عليه، فإن الأدلّة الصحيحة تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا استقبل القبلة، وليس فيها استقبل السماء، فقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى، سيأتي ذكرها في محالّها -إن شاء اللَّه تعالى-.

والحاصل أن الكعبة هي قبلة الصلاة، والدعاء، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.

قال: أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم، فلما قالت:"في السماء" عَلِمَ أنها مُوَحِّدة، وليست عابدة للأوثان.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أبعد هذا التأويل عن معنى هذا النصّ، وما أسمجه، وأسخفه، فهل من عاقل يفهم لغة العرب إذا سمع قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أين اللَّه؟ "، وجواب الأمة بقولها:"في السماء" يفهم هذا التأويل من هذا السؤال والجواب، هيهات هيهات.

سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبَا

شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّب

وبالجملة فهذا تأويلٌ ما أنزل اللَّه به من سلطان، ولا ذهب إليه المحقَّقون من أولي الهداية والعرفان، فالصواب الذي عليه المعوَّل هو المذهب الأول، وهو الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم أجمعين، وسلك بنا مسلكهم الأمين آمين آمين آمين.

وقال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبةً فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونُظّارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر اللَّه تعالى في السماء،

ص: 221

كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} الآية [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها، بل متأوَّلة عند جميعهم، فمن قال بإثبات جهة فوق من غير تحديد، ولا تكييف من المحدثين، والفقهاء والمتكلمين تأول {فِي السَّمَاءِ} أي على السماء، ومن قال من دُهَمَاء النظار والمتكلمين، وأصحاب التنزيه بنفي الحدّ، واستحالة الجهة في حقه عز وجل تأوّلوها تأويلات بحسب مقتضاها، وذكر نحو ما سبق.

قال: ويا ليت شعري ما الذي جمع أهل السنة والحق كلهم على وجوب الإمساك عن الفكر في الذات، كما أُمِروا، وسكتوا لحيرة العقل، واتفقوا على تحريم التكييف والتشكيل، وأن ذلك من وقوفهم، وإمساكهم غير شاكّ في الوجود والموجود، وغير قادح في التوحيد، بل هو حقيقته، ثم تسامح بعضهم بإثبات الجهة خاشيًا من مثل هذا التسامح، وهل بين التكييف وإثبات الجهات فرق؟، لكن إطلاق ما أطلقه الشرع، من أنه القاهر فوق عباده، وأنه استوى على العرش، مع التمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكليّ الذي لا يصح في المعقول غيره، وهو قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الآية [الشورى: 11] عصمة لمن وفقه اللَّه تعالى وهداه. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كلام القاض عياض الأخير هو الذي نعوِّل عليه، فنُثبت للَّه تعالى ما أثبته في الكتاب العزيز، وثبت في السنة الصحيحة، فلا نُعطِّل، وننفي عنه التشبيه، فلا نُمثِّلُ.

وأما قوله: "ويا ليت شعري" إلى قوله: "وهل بين التكييف وإثبات الجهة فرقٌ؟ " فكلام غير صحيح؛ إذ الفرق بينهما واضح، حيث إن التكييف غير جائز؛ لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وأما إثبات الجهة بمعنى أنه تعالى فوق العرش، وفوق مخلوقاته فوقيّةً تليق بجلاله عز وجل، فصحيح جائزٌ الإطلاق، كما أطلقتة النصوص الكثيرة، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} ، وقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقوله:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} [فاطر: 10]، وكحديث الباب: "أين

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 465 - 466.

ص: 222

اللَّه؟ قالت: في السماء"، إلى غير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة التي تُثبت الفوقيّة للَّه تعالى.

والحاصل أن الواجب أن نستعمل النصوص على ما دلّت عليه من إثبات صفات اللَّه عز وجل إثباتًا بلا تمثيل، وننزّهه عما لا يليق بجلاله تنزيهًا بلا تعطيل، وسيأتي تمام البحث في هذا بذكر ما كتبه الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم لتلك الجارية أيضًا ("مَنْ أَنَا؟ " قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ") الفاء للتعليل، فالجملة تعليل للعتق، أي أعتقها؛ لأنها مؤمنة، فتُجزئ عن الرقبة التي عليك.

قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث أن إعتاق المؤمن أفضل من إعتاق الكافر، وأجمع العلماء على جواز عتق الكافر في غير الكفارات، وأجمعوا على أنه لا يُجزئ الكافر في كفارة القتل، كما ورد به القرآن، واختلفوا في كفارة الظهار، واليمين، والجماع في نهار رمضان، فقال الشافعيّ، ومالك، والجمهور: لا يجزئه إلا مؤمنة؛ حملًا للمطلق على المقيد في كفارة القتل، وقال أبو حنيفة والكوفيون: يجزئه الكافر؛ للإطلاق، فإنها تُسَمَّى رقبة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تمام البحث في هذه المسألة في الموضع المناسب له -إن شاء اللَّه تعالى-.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[فائدة]: وقع في "الموطّأ" خطأ في اسم هذا الصحابيّ رضي الله عنه، ونصّه:"مالكٌ، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عُمَر بن الحكم أنه قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" الحديث.

ص: 223

فقوله: "عمر بن الحكم" اتّفقوا على أنه غلط، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هكذا رواه جماعة رواة "الموطأ"، عن مالك، كلهم قال فيه:"عن عمر بن الحكم"، وهو غلط، ووَهَمٌ منه، وليس في الصحابة رجل يقال له: عمر بن الحكم، وإنما هو معاوية بن الحكم السُّلَميّ.

وكذلك قال فيه كلُّ مَن رَوَى هذا الحديث، عن هلال هذا، وهو هلال بن عليّ بن أبى ميمونة، وأبو ميمونة اسمه أسامة، فربما قال: هلال بن أسامة، وربما قال: هلال بن أبي ميمونة، ينسبونه كله

(1)

إلى ذلك، وربما قالوا: هلال بن عليّ بن أبي ميمونة، وهو مولى عامر بن لُؤَيّ.

وأما معاوية بن الحكم، فمعروف في الصحابة، والحديث له محفوظ، وقد يمكن أن يكون الغلط في اسمه جاء من قِبَل هلال شيخ مالك، لا من مالك، والدليل على ذلك رواية مالك في هذا الحديث، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن معاوية بن الحكم، في غير "الموطأ"، ولم يقل: عمر بن الحكم، وقال فيه: معاوية بن الحكم، إلا أن مالكًا لم يذكر في روايته لهذا الحديث عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن معاوية بن الحكم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا قصة إتيان الكُهّان والطيرة، لا غير، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب.

ورواه الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنا كنا حديثي عهد بجاهلية، فجاء اللَّه بالإسلام، وإن رجالًا منا يتطيرون، وذكر الخبر في الطيرة، وفي إتيان الكهان، وفي الخط، وفي كلامهم في الصلاة. انتهى

(2)

.

وقال في "التمهيد" بعد ذكر نحو ما تقدّم ما نصّه: قال الطحاويّ: سمعت المزنيّ يقول: قال الشافعيّ: مالك بن أنس يُسَمِّي هذا الرجلَ عُمَر بن الحكم، وإنما هو معاوية بن الحكم، قال الطحاويّ: وهو كما قال الشافعيّ، وقال

(1)

هكذا نسخة "الاستذكار"، ولعل الصواب "كلهم"، فليُحرّر.

(2)

"الاستذكار" 7/ 336 - 337.

ص: 224

الطحاويّ: وقال مالك: هلال بن أُسامة، وإنما هو هلال بن عليّ، غير أن قائلًا قال: هو هلال بن عليّ بن أسامة، فإن كان كذلك فإنما نسبه مالك إلى جدّه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 1204 و 1205](537)، و (أبو داود) في "الصلاة"(930) وفي "الأيمان والنذور"(3282)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(12318) و"الكبرى"(1145) و"السير" من "الكبرى"(8589)، و (مالك) في "الموطّأ"(3/ 5 - 6)، و (الشافعيّ) في "الرسالة"(242)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1105)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 11 و 20)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 447 - 448)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(212)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 121)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(165 و 2248)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 938)، و (أبو عبيد) في "الإيمان"(84)، و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(104)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 57) وفي "الأسماء والصفات"(ص 421)، و (اللالكائيّ) في "السنّة"(652)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1728)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1183 و 1184)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم الكلام في الصلاة، وهو تحريم كلام الناس، وإنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن، ونحوها من الأذكار والدعوات المشروعة فيها.

قال النوويّ رحمه الله: فيه تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيه، أو إذن لداخل ونحوه سَبَّحَ إن كان رجلًا، وصَفَّقَت إن كانت امرأةً.

قال: هذا مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة -رحمهم اللَّه تعالى- والجمهور من السلف والخلف.

(1)

"التمهيد لابن عبد البر" 22/ 78.

ص: 225

وقال طائفة، منهم الأوزاعيّ: يجوز الكلام لمصلحة الصلاة؛ لحديث ذي اليدين.

قال: وهذا في كلام العامد العالم، أما الناسي فلا تبطل صلاته بالكلام القليل عندنا، وبه قال مالك، وأحمد، والجمهور، وقال أبو حنيفة والكوفيون: تبطل. دليلنا حديث ذي اليدين، فإن كثر كلام الناس ففيه وجهان، مشهوران لأصحابنا، أصحهما: تبطل صلاته؛ لأنه نادر، وأما كلام الجاهل، إذا كان قريب عهد بالإسلام، فهو ككلام الناسي، فلا تبطل الصلاة بقليله؛ لحديث معاوية بن الحكم هذا الذي نحن فيه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الصلاة، لكن علَّمه تحريم الكلام فيما يُستَقبل. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

. وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، والملاطفة في التعليم، فلا يضرب من يُعلِّمه إذا أساء، ولا يُعَنِّفه، ولا يسُبّه، ولا يُعبِّس وجهه عليه، بل يُرشده بلطف وحكمة، فكان المثل الأعلى في الخُلق العظيم، كما قال اللَّه تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وكان ليّن الجانب، كما قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية [آل عمران: 159]، فكان رحمة للعالمين، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الخفيف]:

رَحْمَةٌ كُلُّهُ وَحَزْمٌ وَعَزْمٌ

وَعِصْمَةٌ وَوَقَارٌ وَحَيَاءُ

فينبغي لمن كان يرجو اللَّه واليوم الآخر أن يتخلّق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه، اللهم اجعلنا متخلّقين بأخلاقه صلى الله عليه وسلم الكريمة، ومتمسّكين بشيمه العظيمة، إنك سميع قريب مجيب الدعوات آمين.

3 -

(ومنها): تحريم التطيّر والتشاؤم بالأشياء.

4 -

(ومنها): تحريم الْكِهانة، وتحريم الإتيان إلى الكُهّان.

(1)

"شرح النووي" 5/ 21.

ص: 226

5 -

(ومنها): تحريم الخطّ المسمَّى بضرب الرمل، وبيانه أنه كان نبيّ من الأنبياء عليهم السلام يفعله، فهو علم خاصّ به، لا يجوز لغيره أن يتعاطاه؛ لأنه لا يعلم هل يُصيب خطّه أم لا؟.

6 -

(ومنها): أن تشميت العاطس من جملة كلام الناس الذي لا يجوز في الصلاة، فلو شمّت عاطسًا في الصلاة، بطلت صلاته، إن كان عالِمًا عامدًا.

قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: إن قال: يرحمك اللَّه بكاف الخطاب بطلت صلاته، وإن قال: يرحمه اللَّه، أو اللهم ارحمه، أو رَحِم اللَّه فلانًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ليس بخطاب، وأما العاطس في الصلاة، فيستحب له أن يَحْمَد اللَّه تعالى سرًّا، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وغيره، وعن ابن عمر، والنخعيّ، وأحمد رحمهم الله أنه يجهر به، والأول أظهر؛ لأنه ذكر والسنة في الأذكار في الصلاة الإسرار، إلا ما استُثْنِي من القراءة في بعضها ونحوها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي من قول من قال: يجهر به أن يحمد اللَّه بقدر ما يسمعه من في الصفّ، وهذا هو الحقّ، فإن الرجل الذي عطس وراء النبيّ صلى الله عليه وسلم قد رفع صوته بالحمد، ولم يُنكَر عليه.

فقد أخرج أحمد، وأصحاب السنن عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه، قال: صليت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعطست، فقلت: الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم انصرف، فقال:"من المتكلم في الصلاة؟ " فلم يتكلم أحدٌ، ثم قالها الثانية:"من المتكلم في الصلاة؟ "، فلم يتكلم أحدٌ، ثم قالها الثالثة:"من المتكلم في الصلاة؟ "، فقال رفاعة بن رافع بن عفراء: أنا يا رسول اللَّه، قال:"كيف قلت؟ " قال: قلت: الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكًا، أيهم يصعد بها؟ "، وأصل الحديث في "صحيح البخاريّ"، لكنه لم يذكر العطاس.

فهذا الرجل قد حمد اللَّه بعد العطاس في الصلاة، فرفع به صوته، بحيث

ص: 227

سمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه، فذكر له الفضل في ذلك، ولم يعنّفه في رفع صوته، فدلّ على أن تحميد العاطس لا بأس في الجهر به، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): مشروعيّة تشميت العاطس، وذلك بعد حمده؛ لأنه السنّة، فقد أخرج البخاريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد للَّه، وليقل له أخوه، أو صاحبه: يرحمك اللَّه، فإذا قال له: يرحمك اللَّه، فليقل: يَهْدِيكم اللَّه، ويصلح بالكم".

وأخرج المصنّف من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا عطس أحدكم، فحمد اللَّه، فشمِّتوه، فإن لم يحمد اللَّه فلا تشمتوه".

8 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن من حَلَف لا يتكلم، فسَبَّح، أو كبّر، أو قرأ القرآن لا يَحْنَث، قال النوويّ رحمه الله: وهذا هو الصحيح المشهور في مذهبنا، قال: وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصلاة، وجزء منها، وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليست منها، بل هي شرط خارج عنها، متقدّم عليها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ ما قاله الجمهور؛ لأن الأدلّة التي أوجبت سائر أركان الصلاة، من القراءة، والركوع، والسجود، وغيرها هي التي أوجبت تكبيرة الإحرام، فلا يُعتبر خارجًا منها، واللَّه تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): جواز استخدام السيد جاريته في الرعي، وإن كانت تنفرد في المرعى، وإنما حَرَّم الشرع مُسَافَرَة المرأة وحدها؛ لأن السفر مَظِنَّة الطمع فيها، وانقطاع ناصرها والذابّ عنها، وبُعْدها منه، بخلاف الراعية، ومع هذا فإن خيف مفسدة من رَعْيِها لِرِيبة فيها، أو لفساد مَن يكون في الناحية التي ترعى فيها، أو نحو ذلك لم يسترعها، ولم تُمَكَّن الحرة ولا الأمة من الرعي حينئذ؛ لأنه حينئذ يصير في معنى السفر الذي حَرَّمه الشرع على المرأة، فإن كان معها محرم أو نحوه، ممن تَأْمَن معه على نفسها، فلا منع حينئذ، كما لا يُمنع من المسافرة في هذا الحال، واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

(1)

"شرح النووي" 5/ 24.

ص: 228

10 -

(ومنها): تعظيم ضرب الخادم إذا ضاع عليه شيء مما في يده بغير تعدّ منه.

11 -

(ومنها): الترغيب في الرأفة والرفق بالخدم، والتنفير من إهانتهم.

12 -

(ومنها): بيان شأن المؤمن، وإكرامه، والإحسان إليه.

13 -

(ومنها): أن الكافر لا يصير مؤمنًا إلا بالإقرار باللَّه تعالى، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

14 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن من أقر بالشهادتين، واعتقد ذلك جزمًا كفاه ذلك في صحة إيمانه، وكونه من أهل القبلة والجنة، ولا يُكَلَّف مع هذا إقامة الدليل والبرهان على ذلك، ولا يلزمه معرفة الدليل، وهذا هو الحقّ الذي عليه السلف، وجمهور الخلف، فما ابتدع مسألة وجوب النظر إلا متأخرو المتكلمين وأهل الاعتزال، ومن سار على دربهم، وقد سبق بيان هذه المسألة في أوائل "كتاب الإيمان" مع ما يتعلّق به، فراجعه تجد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الكلام في الصلاة:

قال النوويّ في كتابه "المجموع" ما حاصله: كلام المصلي في صلاته على ثلاثة أقسام:

[أحدها]: أن يتكلم عامدًا لا لمصلحة الصلاة، فتبطل صلاته بالإجماع، نَقَل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره؛ لحديث معاوية بن الحكم السابق، وحديث ابن مسعود، وحديث جابر، وحديث زيد بن أرقم، وغيرها من الأحاديث التي سنذكرها -إن شاء اللَّه تعالى-.

[الثاني]: أن يتكلم لمصلحة الصلاة، بأن يقوم الإمام إلى خامسة، فيقول: قد صليت أربعًا، أو نحو ذلك، فمذهبنا ومذهب جمهور العلماء أنه تبطل الصلاة، وقال الأوزاعيّ: لا تبطل، وهي رواية عن مالك، وأحمد؛ لحديث ذي اليدين، ودليل الجمهور عموم الأحاديث الصحيحة في النهي عن الكلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"من نابه شيء في صلاته، فليسبّح الرجال، وليصفق النساء"، ولو كان الكلام مباحًا لمصلحتها لكان أسهل وأبين، وحديثُ ذي اليدين جوابه ما سنذكره -إن شاء اللَّه تعالى-.

ص: 229

[الثالث]: أن يتكلم ناسيًا، ولا يطول كلامه، فمذهبنا أن لا تبطل صلاته، وبه قال جمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وأنس، وعروة بن الزبير، وعطاء، والحسن البصريّ، والشعبيّ، وقتادة، وجميع المحدثين، ومالك، والأوزاعيّ، وأحمد في رواية، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم رضي الله عنهم.

وقال النخعيّ، وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية: تبطل، ووافقنا أبو حنيفة في أن سلام الناسي لا يبطلها.

واحتُجَّ لمن قال: تَبْطُلُ بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نسلِّم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة، فيردّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشيّ سلمت عليه، فلم يرُدّ عليّ، فقلت: يا رسول اللَّه، كنا نسلِّم عليك في الصلاة، فترُدّ علينا، فقال: "إن في الصلاة شغلًا"، متّفقٌ عليه، وفي رواية أبي داود وغيره زيادة: "وإن اللَّه يُحْدِث من أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث أن لا تَكَلَّموا في الصلاة".

وعن جابر رضي الله عنه قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حاجة، فانطلقتُ، ثم رجحت، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، فلم يرُدّ عليّ، فوقع في قلبي ما اللَّه أعلم به، ثم سلمت، فلم يردّ عليّ، فوقع في قلبي أشدّ من المرة الأولى، ثم سلمت عليه، فقال:"إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي"، وكان على راحلته متوجهًا إلى غير القبلة. متّفقٌ عليه.

وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: "إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُكَلِّم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام"، متفق عليه، وليس في رواية البخاريّ:"ونُهينا عن الكلام"، وفي رواية الترمذيّ:"كنا نتكلم خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

وبحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"، رواه مسلم، يعني المذكور في هذا الباب.

وبحديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء"، ولكنه ضعيف.

ص: 230

وبحديث: "مَن قاء في الصلاة، أو قَلَسَ فلينصرف، وليتوضأ، ولْيَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم"، وهو أيضًا ضعيف.

قال: واحتج أصحابنا -يعني الشافعيّة- بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، أو العصر، فسلَّم، فقال له ذو اليدين: أَقُصِرَت الصلاة أم نَسِيتَ يا رسول اللَّه؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لم تُقْصَر ولم أَنْسَ"، فقال: بلى قد نسيت يا رسول اللَّه، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أحقٌّ ما يقول؟ "، قالوا: نعم، فصلى ركعتين أُخريين، ثم سجد سجدتين"، رواه الشيخان من طرق كثيرة جدًّا، وهكذا هو في مسلم، وفي مواضع من البخاريّ:"صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية لمسلم:"صلى لنا".

وعن عمران بن حصين، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى العصر، فسلّم في ثلاث، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له: الْخِرْباق، وكان في يده طولٌ، فقال: يا رسول اللَّه، فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يَجُرُّ رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال:"أصدق هذا؟ " قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين، ثم سلّم، رواه مسلم.

قال أصحابنا: ومن الدليل لنا أيضًا حديث معاوية بن الحكم، فإنه تكلّم جاهلًا بالحكم، ولم يأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإعادة، قالوا: وقياسًا على السلام سهوًا، وعمدة المذهب حديث ذي اليدين.

واعتَرَضَ القائلون بالبطلان عليه أن هذا الحديث منسوخ بحديث ابن مسعود، وزيد بن أرقم، قالوا: لأن ذا اليدين قُتل يوم بدر، ونَقَلوا عن الزهريّ أن ذا اليدين قُتل يوم بدر، وأن قصته في الصلاة كانت قبل بدر، ولا يَمنَع من هذا كون أبي هريرة رواه، وهو متأخر الإسلام عن بدر؛ لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره، بأن يسمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو صحابي.

وأجاب أصحابنا وغيرهم من العلماء عن هذا بأجوبةٍ صحيحةٍ حسنةٍ مشهورةٍ، أحسنها وأتقنها ما ذكره الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" قال: أما دعواهم أن حديث أبي هريرة منسوخ بحديث ابن مسعود فغلط؛ لأنه لا خلاف بين أهل الحديث والسير أن حديث ابن مسعود كان بمكة حين رجع من الحبشة قبل الهجرة، وأن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين

ص: 231

كان بالمدينة، وإنما أسلم أبو هريرة عام خيبر سنة سبع من الهجرة بلا خلاف.

وأما حديث زيد بن أرقم، فليس فيه بيان أنه قبل حديث أبي هريرة أو بعده، والنظر يشهد أنه قبله.

قال: وأما قولهم: إن أبا هريرة لم يشهد ذلك فغلط، بل شهوده له محفوظ من روايات الثقات الحفاظ، ثم ذكر بأسانيده الروايات الثابتة في صحيح البخاري ومسلم، وغيرهما، أن أبا هريرة قال: صلى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:"صلى بنا"، وفي رواية "صحيح مسلم" وغيره عن أبي هريرة، قال:"بينما أنا أصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، سلَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الركعتين، فقال رجل من بني سُلَيم. . . " وذكر الحديث.

قال ابن عبد البر: وقد روى قصة ذي اليدين مع أبي هريرة ابنُ عمر، وعمران بن الحصين، ومعاوية بن حُدَيج -بضم الحاء المهملة- وابن مَسْعَدة، رجل من الصحابة، وكلهم لم يَحْفَظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا صَحِبَه إلا بالمدينة متأخرًا، ثم ذكر أحاديثهم بطرُقها.

قال: وابن مَسْعدة هذا يقال له: صاحب الجيوش، اسمه عبد اللَّه معروف في الصحابة، له رواية.

قال: وأما قولهم: إن ذا اليدين قُتل يوم بدر فغلط، وإنما المقتول يوم بدر ذو الشمالين، ولا ننازعهم في أن ذا الشمالين قتل يوم بدر؛ لأن ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي ذكروه فيمن قتل ببدر، قال ابن إسحاق: ذو الشمالين هو عُمير بن عمرو بن غبشان، من خزاعة، فذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر؛ لأن ذا اليدين اسمه الْخِرْباق بن عمرو، ذكره مسلم في رواية، وهو من بني سُلَيم، كما ذكره مسلم في "صحيحه"، قال غير ابن عبد البر: وقد عاش ذو اليدين الخرباق بن عمرو بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم زمانًا.

قال ابن عبد البر: فذو اليدين المذكور في حديث السهو، غير المقتول ببدر.

هذا قول أهل الْحِذْق والفهم من أهل الحديث والفقه.

قال: وأما قول الزهريّ: إن المتكلم في حديث السهو ذو الشمالين، فلم يُتابع عليه، قال: وقد اضطَرَب الزهريّ في حديث ذي اليدين اضطرابًا أوجب

ص: 232

عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة، ثم ذكر طرقه، وبَيَّن اضطرابها في المتن والإسناد، وذَكَر عن مسلم بن الحجاج تغليطه الزهريّ في هذا الحديث.

قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عَوَّل على حديث الزهريّ في قصة ذي اليدين، وكلهم تركه لاضطرابه، وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن، فالغلط لا يَسْلَمُ منه بَشَرٌ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقول الزهريّ: إنه قُتل يوم بدر متروك؛ لتحقق غلطه فيه.

هذا مختصر قول ابن عبد البر، وقد بسط شرح هذا الحديث بسطًا لم يبسطه غيره، مشتملًا على التحقيق والإتقان، والفوائد الْجَمَّة رحمه الله، ورضي عنه.

وذكر البيهقيّ بعض هذا مختصرًا، فمما قال: إنه لا يجوز أن يكون حديث أبي هريرة منسوخًا بحديث ابن مسعود؛ لتقدم حديث ابن مسعود، فإنه كان حين رجع من الحبشة، ورجوعه منها كان قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، فحديثه في التسليم كان قبل الهجرة.

ثم رَوَى البيهقيّ ذلك بأسانيده، ثم نقل اتفاق أهل المغازي على أن ابن مسعود قَدِمَ مكة من هجرة الحبشة قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأنه شَهِد بدرًا بعد ذلك.

ثم روى البيهقيّ بإسناده عن الحميديّ، شيخ البخاريّ أنه حَمَل حديث ابن مسعود على النهي عن الكلام عامدًا، قال: لأنه قَدِمَ من الحبشة قبل بدر، وإسلام أبي هريرة سنة سبع من الهجرة، وإسلام عمران بن الحصين بعد بدر، وقد حضرا قصة ذي اليدين، وحضرها معاوية بن حُدَيج، وكان إسلامه قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بشهرين، وذَكَر حديث ابن عمر أيضًا، ثم قال: فعلمنا أن حديث ابن مسعود في العمد، ولو كان في العمد والسهو لكانت صلوات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه ناسخة له؛ لأنها بعده.

ثم رَوَى البيهقيّ عن الأوزاعيّ قال: كان إسلام معاوية بن الحكم آخر الأمر، فلم يأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة، وقد تكلم جاهلًا.

ص: 233

وذَكَر الشافعيّ في كتاب "اختلاف الأحاديث" نحو ما سبق من كلام الأئمة، قال: ذو الشمالين المقتول ببدر غير ذي اليدين، قال البيهقيّ: ذو اليدين بقي حيًّا بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

[فإن قيل]: كيف تكلمَّ ذو اليدين والقوم، وهم بعد في الصلاة؟.

[فجوابه]: من وجهين:

أحدهما: أنهم لم يكونوا على يقين من البقاء في صلاة؛ لأنهم كانوا مُجَوِّزين لنسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين، ولهذا قال:"أَقُصِرت الصلاة أم نسيت؟ ".

والثاني: أن هذا خطاب وجواب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يبطل الصلاة.

وفي رواية لأبي داود وغيره: أن القوم لم يتكلموا، وتحمل رواية "نعم" عليها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب"، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر المذاهب، وأدلّتها أن الراجح؛ لقوّة أدلّته، هو ما ذهب إليه الجمهور، من أن من تكلّم ناسيًا، أو جاهلًا لم تبطل صلاته، وأما من تكلّم عامدًا، وهو يَعلم بتحريم الكلام في الصلاة، فقد بطلت صلاته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: (اعلم): أن من سبَّح اللَّه تعالى، أو حَمِده في غير ركوع وسجود، لا تبطل صلاته، سواءٌ قصد به تنبيه غيره أم لا، قال النوويّ رحمه الله: وهو مذهب الشافعيّ، وبه قال جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، قال: وقال أبو حنيفة: إن قاله ابتداءً فليس بكلام، وإن قاله جوابًا فهو كلام.

قال: دليلنا حديث سهل بن سعد، وهو في "الصحيحين"، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا نابكم شيء في الصلاة، فليُسبّح الرجال، وليُصفِّح النساء". انتهى. وهو بحثٌ نفيس، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في الكلام على قول الجارية: "في السماء"، ومثله قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتّفق عليه:"ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا. . . " الحديث.

ص: 234

لقد حقّق الحافظ الناقد البصير، أبو عمر بن عبد البرّ: هذا الموضوع في كتابه "التمهيد" أتمّ تحقيق، وبيّنه وأحسن تبيين، فأطال وأعاد، وأسهب وأجاد، وأجمل وأفاد، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفوائد، ونشرًا للعوائد.

قال عند شرح حديث النزول، وهو حديثٌ عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد اللَّه الأغر، وعن أبي سلمة، عن أبىِ هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألني فأعطيَهُ؟، من يستغفرني فأغفرَ له؟ ".

قال أبو عمر رحمه الله: وفيه دليل على أن اللَّه عز وجل في السماء، على العرش، من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم: إن اللَّه عز وجل في كل مكان، وليس على العرش.

قال: والدليل على صحة ما قاله أهل الحقّ في ذلك قول اللَّه عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وقوله عز وجل:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصّلت: 11]، وقوله:{إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله تبارك اسمه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]، وقال جل ذكره:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، وهذا من العلوّ، وكذلك قوله:{الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] و {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] و {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15] و {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].

والجهمي يزعُم أنه أسفل، وقال جل ذكره:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقوله:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال لعيسى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال:{فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت: 38]، وقال:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19]، وقال:{لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)} [المعارج: 2 - 3]، والعروج: هو الصعود.

ص: 235

وأما قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ} ، فمعناه: من على السماء، يعني على العرش، وقد يكون "في" بمعنى "على"، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} : أي على الأرض، وكذلك قوله:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وهذا كلُّه يعضده قوله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب.

قال: وهذه الَايات كلُّها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، واللَّه لا يغالبه، ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حقّ الكلام أن يُحْمَل على حقيقته، حتى تَتَّفِق الأمة أنه أريد به المجاز؛ إذ لا سبيل إلى اتباع ما أُنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام اللَّه عز وجل إلى الأشهَر والأظهَر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادِّعاء المجاز لكل مُدَّعٍ ما ثبت شيء من العبارات، وجلّ اللَّه عز وجل عن أن يخاطِب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلوّ والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{اسْتَوَى} : قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى: أي انتهى شبابه واستقرّ، فلم يكن في شبابه مزيدٌ.

قال أبو عمر: الاستواء: الاستقرار في العلوّ، وبهذا خاطبنا اللَّه عز وجل، وقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقال الشاعر [من الطويل]:

فَأَوْرَدتُّهُمْ مَاءً بَفَيْفَاءَ

(1)

قَفْرَةٍ

وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى

وهذا لا يجوز أن يَتَأَوَّل فيه أحدٌ استولى؛ لأن النجم لا يستولي، وقد

(1)

الفيفاء: كصحراء وزنًا ومعنى.

ص: 236

ذكر النضر بن شُميل، وكان ثقةً مأمونًا جليلًا في علم الديانة واللغة، قال: حدَّثني الخليل، وحسبك بالخليل، قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابيّ، وكان من أعلم مَن رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فردَّ علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال. قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول اللَّه عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]، فصَعِدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فَطِير، ولبن هَجِير، وماء نَمِير؟

(1)

، فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلامًا، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركةً لا خير فيها، ولا شرَّ، قال الخليل: هو من قول اللَّه عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].

وأما نَزْعُ مَن نَزَعَ منهم بحديث يرويه عبد اللَّه بن واقد الواسطيّ، عن إبرهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]: على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.

فالجواب عن هذا أن هذا حديث منكر، عن ابن عباس، ونَقَلَته مجهولون ضعفاء، فأما عبد اللَّه بن داود الواسطيّ، وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يُعرَف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا، أو أنصفوا، أما سَمِعوا اللَّه عز وجل حيث يقول:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]، فدلّ على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبًا، قال أمية بن أبي الصلت [من الطويل]:

فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ قَدْرَهُ

وَمَنْ هُوَ فَوْق الْعَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ

مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ

لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ

ويقول في وصف الملائكة [من الطويل]:

فَمِنْ حَامِلٍ إِحْدَى قَوَائِمِ عَرْشِهِ

وَلَوْلَا إِلَهُ الْخَلْقِ كَلُّوا وَأَبْلَدُوا

(1)

"الهجير": الخاثر، و"النمير": العذب.

ص: 237

قِيَامٌ عَلَى الأَقْدَامِ عَانُونَ تَحْتَهُ

فَرَائِصُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ تَرْعَدُ

قال أبو عمر: فإن احتجُّوا بقول اللَّه عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وبقوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وبقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية [المجادلة: 7]، وزعموا أن اللَّه تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته، تبارك وتعالى.

قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير، فظاهر التنزيل يَشهَد أنه على العرش، والاختلاف في ذلك بيننا فقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر.

وأما قوله في الآية الأخرى: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فالإجماع والاتفاق قد بَيَّن المراد بأنه معبود من أهل الأرض فتدبر هذا، فإنه قاطع إن شاء اللَّه.

ومن الحجة أيضًا في أنه عز وجل على العرش فوق السموات السبع، أن الموحِّدين أجمعين من العرب والعجم إذا كَرَبَهم أمر، أو نزلت بهم شدّة رفعوا وجوههم إلى السماء، يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار، لم يُؤنِّبهم عليه أحدٌ، ولا أنكره عليهم مسلم.

وقد قال صلى الله عليه وسلم للأمَة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنةً، فاختبرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن قال لها:"أين اللَّه؟ "، فأشارت إلى السماء، ثم قال لها:"من أنا؟ "، قالت: رسول اللَّه، قال:"أعتقها؛ فإنها مؤمنة"، فاكتفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.

وأما احتجاجهم لو كان في مكان لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته مخلوق، فشيء لا يلزم، ولا معنى له؛ لأنه عز وجل ليس كمثله شيء من خلقه، ولا يقاس بشيء من بَرِيَّته، لا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس، لا إله إلا هو، كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسموات والأرض وما بينهما، وهو الباقي بعد كل شيء، وخالق كل شيء، لا شريك

ص: 238

له، وقد قال المسلمون، وكل ذي عقل: إنه لا يُعْقَل كائن لا في مكان منا، وما ليس في مكان فهو عَدم، وقد صحّ في المعقول، وثبت بالواضح من الدليل، أنه كان في الأزل لا في مكان، وليس بمعدوم، فكيف يقاس على شيء من خلقه، أو يَجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه؟ تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، الذي لا يَبْلُغ مَن وصفه إلا إلى ما وَصَفَ به نفسه، أو وصفه به نبيّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمعت عليه الأمة الحنيفية عنه.

[فإن قال قائل منهم]: إنا وصفنا ربنا أنه كان لا في مكان، ثم خلق الأماكن فصار في مكان، وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال؛ إذ زال عن صفته في الأزل، وصار في مكان دون مكان.

[قيل له]: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان، وانتقل إلى صفة هي الكون في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك، وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، وهذا لا ينفك منه؛ لأنه إن زعم أنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن، فقد أوجب الأماكن والأشياء موجودة معه في أزله، وهذا فاسد.

[فإن قيل]: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟.

[قيل له]: أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه؛ لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانًا، وكذلك نَقْلُهُ لا يوجب مكانًا، وليس في ذلك كالخلق؛ لأن كَوْنَ ما كَوَّنه يوجب مكانًا من الخلق، ونقلته توجب مكانًا، ويصير منتقلًا من مكان إلى مكان، واللَّه عز وجل ليس كذلك؛ لأنه في الأزل غير كائن في مكان، وكذلك نقلته لا توجب مكانًا، وهذا ما لا تقدر العقول على دفعه، ولكنا نقول استوى مِن لا مكان إلى مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحدًا ألا ترى أنا نقول: له العرش، ولا نقول: له سرير، ومعناهما واحد، ونقول: هو الحكيم، ولا نقول: هو العاقل، ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول: صديق إبراهيم، وإن كان المعنى في ذلك كله واحدًا، لا نُسَمِّيه ولا نَصِفُهُ، ولا نُطلِق عليه إلا ما سَمَّى به نفسه على ما تقدم ذكرنا له من وصفه لنفسه، لا شريك له، ولا نَدْفَع ما وَصَف به نفسه؛ لأنه دفع للقرآن، وقد قال اللَّه عز وجل:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، وليس مجيئه

ص: 239

حَرَكة ولا زوالًا ولا انتقالًا؛ لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسمًا أو جوهرًا، فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه حَرَكَة ولا نُقْلَة، ولو اعْتَبَرت ذلك بقولهم: جاءت فلانًا قيامته، وجاءه الموت، وجاءه المرض، وشبه ذلك مما هو موجود نازل به، ولا مجيء لبان لك، وباللَّه العصمة والتوفيق.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لم يرد نصّ بإطلاق الجسم والجوهر على اللَّه تعالى لا إثباتًا، ولا نفيًا، فالأولى عدم الخوض في ذلك، حتى يثبت لدينا نصّ نَعتمِد عليه، واللَّه تعالى أعلم.

قال أبو عمر: فإن قال: إنه لا يكون مستويًا على مكان إلا مقرونًا بالتكييف. قيل: قد يكون الاستواء واجبًا، والتكييف مرتفع، وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء، ولو لَزِم هذا لزم التكييف في الأزل؛ لأنه لا يكون كائن في لا مكان إلا مقرونًا بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحًا في أبداننا، ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح، يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفية استوائه على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه.

ثم أخرج بسنده عن عبد اللَّه بن نافع، قال: قال مالك بن أنس: اللَّه عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه مكان، قال: وقيل لمالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال مالك رحمه الله: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجلَ سَوْء.

قال: وقد رَوَينا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه قال في قول اللَّه عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} مثل قول مالك هذا سواءً.

وأما احتجاجهم بقوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الآية [المجادلة: 7]، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حُمِلت عنهم التأويل في القرآن، قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحدٌ يُحْتَجّ بقوله.

ص: 240

قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا"، فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة، أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويصدِّقون بهذا الحديث، ولا يكيّفون، والقول في كيفية النزول، كالقول في كيفية الاستواء، والمجيء، والحجةُ في ذلك واحدة.

وقد قال قوم من أهل الأثر أيضًا: إنه ينزل أمره، وتنزل رحمته، ورُوي ذلك عن حبيب كاتب مالك وغيره، وأنكره منهم آخرون، وقالوا: هذا ليس بشيء؛ لأن أمره ورحمته لا يزالان ينزلان أبدًا في الليل والنهار، وتعالى الملك الجبار الذي إذا أراد أمرًا قال له: كن فيكون، في أيّ وقت شاء، ويَختص برحمته من يشاء متى شاء، لا إله إلا هو الكبير المتعال.

وقد رَوَى محمد بن علي الجبليّ، وكان من ثقات المسلمين بالقيروان، قال: حدّثنا جامع بن سوادة بمصر، قال: حدّثنا مطرِّف عن مالك بن أنس، أنه سئل عن الحديث:"إن اللَّه ينزل في الليل إلى سماء الدنيا"؟ فقال مالك: يتنزل أمره.

وقد يَحْتَمِل أن يكون كما قال مالك على معنى أنه تتنزل رحمته، وقضاؤه بالعفو والاستجابة، وذلك من أمره، أي أكثر ما يكون ذلك في ذلك الوقت، واللَّه أعلم.

ولذلك جاء فيه الترغيب في الدعاء، وقد رُوي من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه أنه قال: يا رسول اللَّه أيُّ الليل أسمع؟ قال: "جوف الليل الغابر" يعني الآخر، وهذا على معنى ما ذكرنا، ويكون ذلك الوقت مندوبًا فيه إلى الدعاء، كما نُدِب إلى الدعاء عند الزوال، وعند النداء، وعند نزول غيث السماء، وما كان مثله من الساعات المستجاب فيها الدعاء، واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره أبو عمر من تأويل "ينزل ربّنا. . . إلخ" بتنزل رحمته. . . إلخ غير صحيح؛ إذ يردّه قوله في تمام الحديث: "من يدعوني، فأستجيب له. . . إلخ"، فإن الرحمة لا يمكن أن تقول ذلك، وكذا ما نقله عن مالك في هذا المعنى يُرَدّ بمثل ما رَدّ به أبو عمر نفسه على مجاهد في تفسيره قوله تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 23] بقوله: إلى ثواب ربّها.

ص: 241

فقد ردّ عليه بما حاصله: قول مجاهد هذا مردود بالسنّة الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، وجمهور السلف، وهو عند أهل السنّة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس من العلماء أحد إلا ويؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ومجاهد وإن كان أحد المقدّمين في العلم بتأويل القرآن، فإن له قولين في تأويل آيتين، هما مهجوران عند العلماء، مرغوب عنهما.

أحدهما هذا، والآخر في قول اللَّه عز وجل:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قال: يوسّع له على العرش، فيُجلسه عليه، وهذا قولٌ مخالف للجماعة من الصحابة، ومن بعدهم، فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية أن المقام المحمود: الشفاعة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: فنحن نقول هنا فيما نُقِل عن مالك -إن صحّ عنه-: إنه مردود بالسنّة الصحيحة، وبما ثبت عن السلف في هذا الباب.

قال الإمام الترمذيّ في "جامعه" في شرح حديث قبول الصدق

(1)

ما نصّه: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات، من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا، ويُؤْمَنُ بها، ولا يُتَوَهَّمُ، ولا يقال: كيف، هكذا رُوِي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد اللَّه بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة.

وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذَكَر اللَّه عز وجل في غير موضع من كتابه اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات، ففسّروها على غير ما فَسَّر أهل العلم، وقالوا: إن اللَّه لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد ها هنا القوّة.

(1)

هو ما أخرجه الترمذيّ برقم (597) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيّب، ولا يقبل اللَّه إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، تربو في كَفّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله"، وقال: حديث حسن صحيح. انتهى.

ص: 242

وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يدٌ كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال اللَّه تعالى: يدٌ، وسمعٌ، وبصرٌ، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال اللَّه تعالى في كتابه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله.

فتبيّن بهذا أن مالكًا ممن أثبت نزول الربّ عز وجل إلى السماء الدنيا كلّ ليلة على ظاهره، فنقل التأويل عنه محلّ نظر، وعلى تقدير صحته، فجوابه جواب مجاهد فيما خالف فيه السلف في تفسير الآيتين السابقتين، كما قال ابن عبد البرّ.

والحاصل أن المعنى الصحيح الذي عليه السلف أن نزول الربّ عز وجل على ظاهره، فينزل كلّ ليلة، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الصحيح، حقيقةً لا مجازًا، نزولًا يليق بجلاله، واللَّه تعالى أعلم.

ولنعد إلى كلام أبي عمر رحمه الله.

قال: وقال آخرون: ينزل بذاته، ثم أخرج عن نعيم بن حمّاد قال: ينزل بذاته، وهو على كرسيّه.

قال أبو عمر: ليس هذا بشيء عند أهل الفهم، من أهل السنة؛ لأن هذا كيفية، وهم يفزعون منها؛ لأنها لا تصلح إلا فيما يُحاط به عيانًا، وقد جَلَّ اللَّه وتعالى عن ذلك، وما غاب عن العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات اللَّه إلا ما وَصَفَ نفسه به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نتعدى ذلك إلى تشبيه، أو قياس، أو تمثيل، أو تنظير، فإنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

قال الجامع عفا اللَّه عنه: المنكر على حمّاد قوله: "بذاته"، فإنه لم يرد في الكتاب، ولا في السنة زيادة هذه اللفظة، فهي منكرة، واللَّه تعالى أعلم.

قال أبو عمر: أهل السنة مُجْمِعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكَيِّفون شيئًا من ذلك، ولا يَحُدُّون فيه صفةً محصورةً.

وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلُّها، والخوارج، فكلهم ينكرها،

ص: 243

ولا يَحْمِل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرّ بها مُشَبِّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود.

والحقُّ فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب اللَّه تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة، والحمد للَّه.

رَوَى حرملة بن يحيى، قال: سمعت عبد اللَّه بن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: مَن وَصَفَ شيئًا من ذات اللَّه مثل قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} الآية [المائدة: 64]، وأشار بيده إلى عنقه، ومثل قوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فأشار إلى عينيه أو أذنه، أو شيئًا من بدنه قُطِع ذلك منه؛ لأنه شَبَّهَ اللَّه بنفسه.

ثم قال مالك: أما سمعت قول البراء رضي الله عنه حين حَدَّث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُضَحَّى بأربع من الضحايا. . . "، وأشار البراء بيده، كما أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، قال البراء: ويدي أقصر من يد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكَرِه البراء أن يصف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إجلالًا له، وهو مخلوق، فكيف الخالق الذي ليس كمثله شيء.

ثم أخرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتسائلون، حتى يقولوا: هذا خَلَقَ اللَّهُ الخلقَ، فمن خلق اللَّه؟ فمن وجد من ذلك شيئًا، فليقل: آمنت باللَّه"، متّفقٌ عليه.

وفي رواية: "قال: فإذا قالوا ذلك، فقولوا: اللَّه أحد، اللَّه الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم ليتفُل عن يساره ثلاثًا، ويستعيذ باللَّه من الشيطان الرجيم"، رواه أحمد، وأبو داود بسند حسن.

قال: ورُوي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تكون خصومة الناس في ربهم"، وقد رُوي ذلك مرفوعًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال سَحْنُون: من العلم باللَّه الجهلُ بما لم يُخْبِر به عن نفسه.

قال: وهذا الكلام أخذه سحنون عن ابن الماجشون، قال: أخبرني الثقة، عن الثقة، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: لقد تكلم مُطَرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله، ولا يقال بعده، قالوا: وما هو يا أبا سعيد؟ قال: قال: الحمد للَّه الذي من الإيمان به الجهل بغير ما وَصَفَ من نفسه.

ص: 244

ثم أخرج عن سحنون بن منصور، قال: قلت لأحمد بن حنبل: ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا، أليس تقول بهذه الأحاديث؟ ويَرَى أهل الجنة ربهم، وبحديث:"لا تقبحوا الوجوه، فإن اللَّه خلق آدم على صورته"، و"اشتكت النار إلى ربها حتى يضع اللَّه فيها قدمه"، وأن موسى عليه السلام لَطَم ملك الموت -صلوات اللَّه عليه-؟ قال أحمد: كلُّ هذا صحيح، وقال إسحاق: كلُّ هذا صحيح، ولا يَدَعُهُ إلا مبتدع، أو ضعيف الرأي.

وقال أبو عمر أيضًا: الذي عليه أهل السنة، وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة، وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديق بذلك، وترك التحديد والكيفية في شيء منه.

ثم أخرج بسنده عن أحمد بن نصر، أنه سأل سفيان بن عيينة، قال: حديث عبد اللَّه: "إن اللَّه عز وجل يجعل السماء على إصبع"، وحديث:"إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن"، و"إن اللَّه يَعْجَب، أو يضحك ممن يذكره في الأسواق"، و"إنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة"، ونحو هذه الأحاديث؟ فقال: هذه الأحاديث نَرْوِيها، ونُقِرُّ بها كما جاءت بلا كيف.

قال أبو داود: وحدَّثنا الحسن بن محمد، قال: سمعت الهيثم بن خارجة، قال: حدّثني الوليد بن مسلم، قال: سألت الأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات؟ فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف.

وذَكَر عباس الدُّوريّ، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: شَهِدت زكريا بن عديّ سأل وكيع بن الجراح، فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث، يعني مثل: الكرسيُّ موضع القدمين، ونحو هذا؟ فقال: أدركت إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان، ومسعرًا يُحَدّثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: المراد بالتفسير هو تفسير الكيفيّة، وتوضيح معانيها على وجه التشبيه، والتمثيل، لا تفسير معناه اللغويّ، فتنبّه، ولا تكن من الغافلين.

قال عباس بن محمد الدّوريّ: وسمعت أبا عبيد القاسم بن سلام، وذُكِر

ص: 245

له عن رجل من أهل السنة، أنه كان يقول: هذه الأحاديث التي تُرْوَى في الرؤية والكرسيُّ موضع القدمين، وضحك ربنا من قنوط عباده، وإن جهنم لتمتلئ، وأشباه هذه الأحاديث، وقالوا: إن فلانًا يقول: يقع في قلوبنا أن هذه الأحاديث حقٌّ، فقال: ضَعّفتم عندي أمره، هذه الأحاديث حقٌّ لا شكّ فيها، رواها الثقات، بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسير هذه الأحاديث لم نُفَسِّرها، ولم نذكر أحدًا يفسِّرها.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد عرفت المراد بالتفسير هنا آنفًا فلا تنس.

قال: وقد كان مالك يُنكر على مَن حدّث بمثل هذه الأحاديث، ذكره أصبغ، وعيسى، عن ابن القاسم، قال: سألت مالكًا عمن يحدث الحديث: "إن اللَّه خلق آدم على صورته"، والحديث:"إن اللَّه يكشف عن ساقه يوم القيامة"، و"إنه يُدخل في النار يده حتى يُخرج من أراد"، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، ونَهَى أن يحدِّث به أحدًا.

قال أبو عمر: وإنما كره ذلك مالك خشيةَ الخوض في التشبيه بكيف هاهنا.

وأخرج عن ابن وضاح: سألت يحيى بن معين عن التنزل؟ فقال: أَقِرَّ به، ولا تَحُدّ فيه بقول، كلُّ مَن لقيت من أهل السنة يُصَدِّق بحديث النزول، قال: وقال لي ابن معين: صَدِّقْ به، ولا تصفه.

وأخرج عن مهديّ بن جعفر، عن مالك بن أنس، أنه سأله عن قول اللَّه عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: فأطرق مالك، ثم قال: استواؤه غير مجهول

(1)

، والفعل منه غير معقول، والمسألة عن هذا بدعة.

وأخرج عن أيوب بن صلاح المخزوميّ قال: كنا عند مالك، إذ جاءه عراقيّ، فقال له: يا أبا عبد اللَّه مسألة أريد أن أسألك عنها، فطأطأ مالك رأسه، فقال له: يا أبا عبد اللَّه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} ، كيف استوى؟

(1)

وقع في النسخة: بلفظ "مجهول" دون لفظة "غير"، وهو غلط، كما يتبيّن من الراوية التالية، فتنبّه.

ص: 246

قال: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول، إنك امرؤٌ سَوْءٌ، أخرجوه، فأخذوا بضبعيه فأخرجوه.

وقال يحيى بن إبرهيم بن مزين: إنما كره مالك أن يُتَحَدَّث بتلك الأحاديث؛ لأن فيها حدًّا وصفةً وتشبيهًا، والنجاة في هذا الانتهاء إلى ما قال اللَّه عز وجل، ووصف به نفسه بوجه، ويدين، وبسط، واستواء، وكلام، فقال:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، وقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وقال:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} .

فليقل قائل بما قال اللَّه، ولينته إليه، ولا يَعْدُوه، ولا يفسِّره، ولا يقل: كيف؟، فإن في ذلك الهلاك؛ لأن اللَّه كلف عبيده الإيمان بالتنزيل، ولم يكلفهم الخوض في التأويل، الذي لا يعلمه غيره.

وقد بلغني عن ابن القاسم أنه لم يَرَ بأسًا برواية الحديث: "إن اللَّه ضحك"، وذلك لأن الضحك من اللَّه، والتنزل، والملالة، والتعجب منه ليس على جهة ما يكون من عباده.

قال أبو عمر: الذي أقول: إنه مَن نظر إلى إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين اللَّه أفواجًا، عَلِمَ أن اللَّه عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة، ودلائل الرسالة، لا من قِبَل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون، ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبًا، وفي الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه لازمًا، ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نَطَقَ القرآن بتزكيتهم، وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهورًا، أو من أخلاقهم معروفًا لاستفاض عنهم، ولشُهِرُوا به كما شُهِروا بالقرآن، والروايات.

وقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" عندهم مثل قول اللَّه عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، ومثل قوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، كلهم يقول: ينزل، ويتجلى، ويجيء، بلا كيف، لا يقولون: كيف يجيء؟، وكيف يتجلى؟، وكيف ينزل؟، ولا من أين

ص: 247

جاء؟ ولا من أين تجلى؟ ولا من أين ينزل؟؛ لأنه ليس كشيء من خلقه، وتعالى عن الأشياء، ولا شريك له.

وفي قول اللَّه عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} دلالةٌ واضحةٌ أنه لم يكن قبل ذلك متجليًا للجبل، وفي ذلك ما يُفَسِّر معنى حديث النزول.

قال: ومن أراد أن يَقِفَ على أقاويل العلماء في قوله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ، فلينظر في تفسير بَقِيّ بن مَخْلَد، ومحمد بن جرير، وليقف على ما ذَكَرَا من ذاك، ففيما ذَكَرا منه كفاية، وباللَّه العصمة والتوفيق. انتهى المقصود من كلام الحافظ أبي عمر بن عبد البرّ بتصرّف واختصار.

ولقد أجاد في هذا الموضوع وأفاد لمن أراد اللَّه عز وجل له السعادة بفهم النصوص كما فَهِمها السلف رضي الله عنهم، ووفّقه لاتّباع منهجهم، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، "اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت"، "اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلف فيه من الحقّ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"، آمين آمين آمين.

فإن أردت الزيادة من الفوائد، فعليك بمراجعة كتاب "التمهيد"(7/ 128 - 159).

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1205]

(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ، تقدّم قبل باب.

ص: 248

3 -

(الْأَوْزَاعيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ إمام [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ) يعني إسناد يحيى بن أبي كثير الماضي، وهو: عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية الأوزاعيّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله، في "سننه"، فقال:

(1218)

أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: حدّثنا محمد بن يوسف، قال: حدّثنا الأوزاعيّ، قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، قال: حدّثني عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السُّلَميّ، قال: قلت: يا رسول اللَّه، أنا حديث عهد بجاهلية، فجاء اللَّه بالإسلام، وإن رجالًا مِنّا يتطيرون؟، قال:"ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنّهم"، ورجال منا يأتون الكُهّان؟ قال:"فلا تأتوهم"، قال: يا رسول اللَّه، ورجال منا يَخُطُّون؟ قال:"كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك".

قال: وبينا أنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، إذ عَطَسَ رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك اللَّه، فحدَّقَنِي القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّياه، ما لكم تنظرون إليّ؟ قال: فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُسَكِّتوني، لكني سكتّ، فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمي هو، ما ضربني، ولا كَهَرني، ولا سبني، ما رأيتُ مُعَلِّمًا قبله ولا بعده، أحسن تعليمًا منه، قال:"إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وتلاوة القرآن".

قال: ثم اطَّلعت إلى غُنيمة لي، ترعاها جارية لي في قبل أُحُد، والْجَوَّانية، وإني اطَّلعت، فوجدت الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم آسَفُ كما يَأسَفُون، فصككتها صَكَّةً، ثم انصرفت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فَعَظَّم ذلك عليّ، فقلت: يا رسول اللَّه، أفلا أُعتقها؟ قال:"ادعها"، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أين اللَّه عز وجل؟ "، قالت: في السماء، قال:"فمن أنا؟ "، قالت: أنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إنها مؤمنة، فأعتقها".

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 249

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1206]

(538) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَة، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا نُسَلَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ، فَتَرُدُّ عَلَيْنَا؟، فَقَالَ: "إِنَّ في الصَّلَاةِ شُغْلًا")

(1)

.

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد اللَّه بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) أحد مشايخ الستّة بلا واسطة تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

4 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غزوان، تقدّم قريبًا.

والباقون تقدّموا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد صيغة الأداء، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، وزُهير، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وزهير دخل الكوفة.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد مما قيل فيه: إنه أصح الأسانيد، كما نُقل

(1)

وفي نسخة: "إن في الصلاة لشُغْلًا".

ص: 250

ذلك عن ابن معين رحمه الله، قال: أصحّ الأسانيد: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه بن مسعود رحمه الله، وإليه أشار في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

كَذَا ابْنُ مِهْرَانَ عَنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ

عَلْقَمَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ الْحَسَنْ

(1)

5 -

(ومنها): أن فيه "عبد اللَّه" مهملًا، لم يُنسب إلى أبيه، وفي الصحابة من يُسمّى بعبد اللَّه كثيرون، ويعلم الفرق بالرواة، فإذا كان الراوي كوفيًّا كما هنا فهو ابن مسعود رضي الله عنه، وقد بيّن هذا السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عَمَرٍ وإنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ) جملة حاليّة من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

وأخرج الحديث أبو داود في "سننه" من طريق أبي وائل، عن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: كنا نسلِّم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يردَّ عليّ السلام، فأخذني ما قَدُمَ وما حَدُثَ، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال:"إن اللَّه يُحدث من أمره ما يشاء، وإن اللَّه جَلَّ وعَزّ قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة"، فردَّ عليَّ السلام.

(فَيَرُدُّ عَلَيْنَا) أي يردُّ السلام علينا بالقول، وهو في الصلاة؛ لكون الكلام كان مباحًا (فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ) بفتح النون، وقيل: بكسرها، وتخفيف الجيم، وبالشين المعجمة، وتخفيف الياء، وتُشَدَّد كياء النسب.

وفي "القاموس": النجاشيّ بتشديد الياء، وبتخفيفها أفصح، وتُكسر نونها، أو هو أفصح، أصحَمَةُ، ملك الحبشة. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "شرحي" على الألفية المذكورة 1/ 37 - 38.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 289.

ص: 251

وقال ابن الأثير: النجاشيّ الياء مشدّدة، وقيل: الصواب تخفيفها. انتهى

(1)

.

وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء، يعني أنها أصليّة، لا ياء النسبة، وحكى غيره تشديد الياء أيضًا، وحكى ابن دحية كسر نونه، وهو لقبٌ لكل من ملك الحبشة، كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك فارس، وفرعون لملك مصر، واسمه أصحمة، أسلم في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومات سنة تسع من الهجرة عند الأكثر، وصلّى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه بالمدينة

(2)

.

[تنبيه]: (اعلم): أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم هاجروا من مكة إلى الحبشة قبل هجرة المدينة.

قال ابن إسحاق: لَمّا احْتَمَل المسلمون من أذى الكفار، واشتَدَّ ذلك عليهم، قصد بعضهم الهجرة فرارًا بدينهم من الفتنة، قال: ولما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من اللَّه تعالى، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَم عنده أحدٌ، وهي أرض صدق، حتى يجعل اللَّه لكم فرجًا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون، من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة؛ مخافةَ الفتنة، وفرارًا إلى اللَّه تعالى بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.

وقال الواقديّ: كانت هجرتهم إلى الحبشة في رجب سنة خمس من النبوة، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلًا، وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماشٍ وراكبٍ، فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة، وهم: عثمان بن عفان، وامرأته رُقيّة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة، وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوّام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة الْعَنَزيّ، وامرأته ليلى بنت أبي

(1)

"النهاية" 5/ 22.

(2)

راجع: "المرعاة" 3/ 343.

ص: 252

حثمة، وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم، وحاطب بن عمرو، وسُهَيل بن بيضاء، وعبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهم.

وقال ابن جرير: وقال الآخرون: كانوا اثنين وثمانين رجلًا، سوى نسائهم وأبنائهم، وعمار بن ياسر يشك فيه، فإن كان فيهم فقد كانوا ثلاثة وثمانين رجلًا، ولما رجعوا من عند النجاشيّ كان رجوعهم من عنده إلى مكة، وذلك أن المسلمين الذين ذكرناهم أنهم هاجروا إلى الحبشة بلغهم أن المشركين أسلموا، فرجعوا إلى مكة، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، واشتَدَّ الأذى عليهم، فخرجوا إليها أيضًا، فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود مع الفريقين

(1)

.

[تنبيه آخر]: اختُلِف في مراده بقوله: "فلما رجعنا" هل أراد الرجوع الأول، أو الثاني؟.

فمالت جماعة، منهم أبو الطيب الطبريّ إلى الأول، وقالوا: تحريم الكلام كان بمكة، وحَمَلُوا حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ، وقالوا: لا مانع من أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه.

ومالت طائفة إلى الترجيح، فقالوا بترجيح حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه حَكَى لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف زيد، فلم يَحْكِه.

وقالت طائفة: إنما أراد ابن مسعود رجوعه الثاني، وقد ورد أنه قَدِمَ المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر.

ورَوَى الحاكم في "مستدركه" من طريق أبي إسحاق، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، قال:"بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ ثمانين رجلًا. . . "، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره:"فتعجل عبد اللَّه بن مسعود، فشهد بدرًا"، وقال ابن إسحاق: إن المؤمنين وهم بالحبشة لما بلغهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلًا، فمات منهم رجلان بمكة، وحُبِس بها منهم سبعة، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلًا، فشهدوا بدرًا، فبان من ذلك أن ابن مسعود كان من هؤلاء، وأن اجتماعهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم كان

(1)

"عمدة القاري" 7/ 390 - 391.

ص: 253

بالمدينة، قاله في "العمدة"

(1)

.

(سَلَّمْنَا عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، والمراد أنهم سلّموا عليه، وهو يصلّي (فَلَمْ يَرُدَّ) بفتح الدال، ويجوز ضمّها، وكسرها (عَلَيْنَا) أي بالقول، وإلا فقد رَوَى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ على ابن مسعود رضي الله عنه في هذه القصّة السلام بالإشارة، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(فَقُلْنَا) أي بعد الصلاة (يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ) أي قبل أن نهاجر إلى الحبشة (فَتَرُدُّ عَلَيْنَا؟) أي ترد علينا السلام بالقول، فلماذا تركت ذلك؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِن فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا") وفي رواية أحمد:"لشُغلًا" بلام التوكيد، وأشار في هامش نسخة محمد ذهني إلى أنه موجود في بعض نسخ مسلم.

و"الشغل": بضمّ الشين، وسكون الغين المعجمتين، وبضمّهما، قال القرطبيّ رحمه الله: اكتفى بذكر الموصوف عن الصفة، فكأنه قال: شُغْلًا كافيًا، أو مانعًا من الكلام وغيره، ويُفهم منه التفرّغ للصلاة من جميع الأشغال، ومن جميع المشوّشات، والإقبال على الصلاة بظاهره وباطنه. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: التنكير فيه يَحْتَمِل التنويع، يعني أن شغل الصلاة قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، لا الكلام، ويَحْتَمِلُ التعظيم، أي شُغلًا، أيَّ شغل؛ لأنها مناجاة مع اللَّه تبارك وتعالى، واستغراق في خدمته، فلا تصلح للاشتغال بغيره. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته، وتدبّر ما يقوله، فلا ينبغي أن يُعرِّج على غيرها من ردّ السلام ونحوه. انتهى

(5)

.

وزاد في رواية أبي وائل المتقدّمة: "إن اللَّه يُحدث من أمره ما يشاء، وإن اللَّه قد أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة"، وزاد في رواية كلثوم الخزاعيّ:

(1)

"عمدة القاري" 7/ 391.

(2)

"الفتح" 3/ 88.

(3)

"المفهم" 2/ 147.

(4)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1069.

(5)

"شرح النوويّ" 5/ 27.

ص: 254

"إلا بذكر اللَّه، وما ينبغي لكم، فقوموا للَّه قانتين، فأمرنا بالسكون"، قاله في "الفتح"

(1)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: انتقد أبو الفضل بن عمّار الشهيد هذا الإسناد في "علله"، فقال:

ووجدت فيه حديث ابن فُضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، كنا نسلّم على النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . الحديث. وبعده لِهُرَيم بن سُفيان، عن الأعمش مثله.

قال أبو الفضل: وافقهما على ذلك جماعة: أبو عوانة، وأبو بدر شُجاع بن الوليد، ورواه الثوريّ، وشعبة، وزائدة، وجرير، وأبو معاوية، وحفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد اللَّه، ولم يذكروا علقمة، وهؤلاء الذين أرسلوه أثبت، وأجلّ ممن وصله، ورواه الحكم بن عتيبة أيضًا، عن إبراهيم، عن عبد اللَّه مرسلًا أيضًا، إلا ما رواه أبو خالد الأحمر عن شعبة موصولًا، فإنه وَهِمَ فيه أبو خالد. انتهى كلام أبي الفضل رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه أبو الفضل في كلامه هذا ترجيح انقطاع الحديث على وصله، وجه الانقطاع أن إبراهيم النخعي لم يلق ابن مسعود، فروايته عنه منقطعة، وإنما رجّح أبو الفضل الانقطاع على الاتّصال؛ لكثرة من رووه كذلك، فإن الذين رووه موصولًا بذكر علقمة هم: محمد بن فُضيل، وهُريم بن سفيان، وأبو عوانة، وأبو بدر شُجاع بن الوليد، أربعة.

(1)

"الفتح" 3/ 88.

(2)

راجع: "شرح المقدّمة" 1/ 147.

ص: 255

والذين رووه عن إبراهيم، عن عبد اللَّه بدون ذكر علقمة هم: الثوريّ، وشعبة، وزائدة، وجرير بن عبد الحميد، وأبو معاوية، وحفص بن غياث، ستة.

فرجّح أبو الفضل رواية هؤلاء؛ لجلالتهم، وهم أكثر أيضًا، لكن الذي يظهر لي أن الأرجح كونه موصولًا، كما هو صنيع الشيخين، حيث اتّفقا على إخراج الحديث موصولًا، وذلك لأن الذين رووه موصولًا جماعة، ثقات، حفّاظ، وأن الذين رووه منقطعًا، وإن كانوا أجلّ وأكثر، إلا أن للأولين مرجِّحَين:

[أحدهما]: أن الانقطاع بين إبراهيم وابن مسعود له حكم الاتّصال؛ لأن إبراهيم لا يرسل عنه إلا ما سمعه من أكثر من واحد، فقد ذكر ذلك الترمذيّ عنه بسند حسن، عن الأعمش، أنه قال: قلت لإبراهيم النخعيّ: أَسْنِدْ لي عن عبد اللَّه بن مسعود، فقال: إذا حدّثتك عن رجل، عن عبد اللَّه، فهو الذي سَمَّيتُ، وإذا قلت: قال عبد اللَّه، فهو عن غير واحد. انتهى.

قال الحافظ ابن رجب في "شرحه": وهذا يقتضي ترجيح المرسل على المسند، لكن عن النخعيّ خاصّةً فيما يُرسله عن ابن مسعود رضي الله عنه خاصّة.

قال: وقد قال أحمد في مراسيل النخعيّ: لا بأس بها، قال: وقال ابن معين: مرسلات إبراهيم صحيحة إلا حديث تاجر البحرين، وحديث الضحك في الصلاة. انتهى باختصار

(1)

.

وإلى هذا أشرت في "شافية الغُلَل" حيث قلت:

وَمُرْسَلَاتُ النَّخَعِيِّ صُحِّحَتْ

سِوَى حَدِيثَيْنِ لَدَى يَحْيَى الثَّبَتْ

حَدِيثُ إِيجَابِ الْوُضُوءِ بِالضَّحِكْ

وَتَاجِرُ الْبَحْرَيْنِ فَاهْجُرُ مَا تُرِكْ

وَكَوْنُهَا أَعْلَى مِنَ الْمُسْنَدِ إِنْ

إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ عَزَاهَا قُلْ قَمِنْ

وراجع ما كتبه في شرح هذه الأبيات

(2)

.

والحاصل أن مرسل إبراهيم النخعيّ عن ابن مسعود صحيح.

(1)

راجع: "شرح علل الترمذيّ" لابن رجب 1/ 294.

(2)

"مزيل الخلل عن أبيات شافية الغُلل"(ص 57).

ص: 256

[والثاني]: أن الحديث روي متّصلا عن ابن مسعود من طرق كثيرة، غير هذا الطريق، فقد أخرجه أحمد من طريق زائدة بن قُدامة، وأبو داود، من طريق أبان بن يزيد العطار، والنسائيّ من طريق ابن عيينة، ثلاثتهم عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال:"كنا نسلم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا، فقدِمتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرُدّ عليّ السلام. . . " الحديث.

وأخرجه النسائيّ من طريق الثوريّ، عن الزبير بن عديّ، عن كُلْثُوم الخزاعيّ، عن عبد اللَّه رضي الله عنه.

وأخرجه ابن ماجه، والطحاويّ من طريق أبي إسحاق السبيعيّ، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه رضي الله عنه.

وأخرجه أحمد من طريق أبى الجهم

(1)

، عن أبي الرَّضْرَاض

(2)

، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال:"كنت أُسَلِّم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فيردُّ عليّ. . . " الحديث.

والحاصل أن الحديث متّصلًا أرجح، كما هو رأي الشيخين، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [7/ 1206 و 1207](538)، و (البخاريّ) في "كتاب العمل في الصلاة"(1199 و 1216)، و"المناقب"(3875)، و (أبو داود) في "الصلاة"(923)، و (النسائيّ) في "السهو"(1220 و 1221)، وفي "الكبرى"(1143 و 1144)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 139)، و (الحميديّ) في "مسنده"(94)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 377 و 435 و 463)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1185)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 248)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

هو سليمان بن الجهم، وثقه العجلي، وابن حبّان.

(2)

اسمه رضراض، وثقه العجليّ، وابن حبّان.

ص: 257

1 -

(منها): بيان تحريم الكلام في الصلاة.

2 -

(ومنها): أن فيه دلالةً على أن الكلام كان مباحًا في الصلاة، ثم حُرِّم، وكذلك في حديث زيد بن أرقم الآتي بعد هذا، واختلفوا متى حُرِّم؟ فقال قوم: بمكة، واستدلُّوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، ورجوعه من عند النجاشيّ إلى مكة، وقال آخرون: بالمدينة، بدليل حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، فإنه من الأنصار، أسلم بالمدينة، وسورة البقرة مدنية، وسيأتي الخلاف قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): جواز السلام على من يُصلي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على من سلّم عليه، وهو في الصلاة، وإنما ترك الردّ عليه.

4 -

(ومنها): مشروعيّة ردّ السلام في الصلاة بالإشارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ردّ بها.

5 -

(ومنها): أن الإشارة بالسلام لا تُبطل الصلاة؛ خلافًا لأبي حنيفة، والحديث يردّ عليه.

6 -

(ومنها): استحباب ردّ السلام باللفظ بعد الصلاة، وإن ردّ فيها بالإشارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ردّ على ابن مسعود في الصلاة بالإشارة، وبعدها باللفظ، ففي رواية أبي داود من طريق عاصم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال: كنا نسلم في الصلاة،. . . الحديث، وفي آخره:"فردَّ عليّ السلام".

7 -

(ومنها): بيان أن الواجب في الصلاة اشتغال المصلي بقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، ولا يشتغل بما ينافيها، من السلام على الناس، وردّ سلامهم، وتشميت العاطس، ونحو ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[1207]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ، حَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 258

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْر) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير المذكور في السند الماضي.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ الجيّانيّ في كتابه "تقييد المهمل" بعد سوقه هذا الإسناد ما نصّه: هكذا رواه مسلم عن ابن نُمير، ووقع في بعض النسخ بدل "ابن نُمير":"نا ابن مثنّى، قال: نا إسحاق بن منصور"، وفي بعضها أيضًا:"نا ابن كثير، نا إسحاق" وهذا كلّه خطأ، والحديث يرويه محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، عن إسحاق بن منصور، وكذلك خرّجه البخاريّ في "الجامع"، عن محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، عن إسحاق السَّلُوليّ. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

2 -

(إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُوليُّ) -بفتح السين المهملة، ولامين الأولى مضمومة- مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ تُكُلِّم فيه للتشيّع [9](ت 204) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 638.

3 -

(هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ) -بهاء، وراء، آخره ميم، مصغّرًا- البجليّ، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ، من كبار [9].

رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، والأعمش، ومنصور، وأبي إسحاق الشيبانيّ، وسهيل بن أبي صالح، وعبد ربه بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.

وروى عنه إسحاق بن منصور السَّلُوليّ، وأسود بن عامر شاذان، وأبو غَسّان النَّهْديّ، وأبو داود الْحَفَريّ، وأبو نعيم، وأحمد بن عبد اللَّه بن يونس، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوقٌ ثقةٌ، وقال البزار: صالح الحديث، ليس بالقويّ، وقال الدارقطنيّ: صدوقٌ.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

"تقييد المهمل، وتتمييز المشكل" 3/ 813.

ص: 259

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) يعني بإسناد الأعمش المتقدّم، وهو: عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه.

وقوله: (نَحْوَهُ) هذه العبارة أيضًا هي عبارة البخاريّ، فإنه أخرج الحديث بإسنادي المصنّف، وذكر في الثاني هذه العبارة، قال الحافظ رحمه الله: ظاهر في أن لفظ رواية هُرَيم غير مُتّحِد مع لفظ رواية ابن فضيل، وأن معناهما واحدٌ، وكذا أخرج مسلم الحديث من الطريقين، وقال في رواية هُرَيم أيضًا:"نحوه".

قال: ولم أقف على سياق لفظ هُرَيم إلا عند الْجَوْزقيّ

(1)

، فإنه ساقه من طريق إبراهيم بن إسحاق الزهريّ، عنه، ولم أر بينهما مغايرةً، إلا أنه قال:"قَدِمْنا" بدل "رجعنا"، وزاد:"فقيل له: يا رسول اللَّه"، والباقي سواء.

قال: وللحديث طُرُقٌ أخرى، منها عند أبي داود، والنسائيّ من طريق أبي وائل

(2)

، عن ابن مسعود، وعند النسائيّ من طريق كُلْثُوم الخزاعيّ، عنه، وعند ابن ماجه، والطحاويّ من طريق أبي الأحوص، عنه رحمه الله. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لم يطّلع الحافظ على رواية أبي نعيم في "مسنده المستخرج على صحيح مسلم"، فإنه ساقه بتمامه فيه، فالعزو إليه أولى من الْجَوزقيّ، وأيضًا فالمغايرة فيه ظاهرة، كما سيظهر لك في التنبيه التالي، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية هُريم هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 463)، فقال:

(1720)

حدّثنا القاضي إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس أبو إسحاق، قال: ثنا إسحاق بن منصور السَّلُوليّ، عن هُرَيم بن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: كنا نسلم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فيرُدُّ علينا، فلما قَدِمنا من عند النجاشيّ، سلمنا عليه، فلم يرُدّ، فقيل له، فقال:"إن في الصلاة شُغْلًا". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

سيأتي في التنبيه أن أبا عوانة أخرجها في "مسنده"، فتنبّه.

(2)

وقع في نسخة "الفتح": "أبي ليلى"، وهو تصحيف، فتنبّه.

(3)

"الفتح" 3/ 89.

ص: 260

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج المذكور أولَ الكتاب قال:

[1208]

(539) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(هُشَيْم) بن بَشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

4 -

(الْحَارِثُ بْنُ شُبَيْلٍ) -بالشين المعجمة، والموحّدة مصغّرًا- ويقال: ابن شِبْل بن عَوْف الْبَجَليّ، أَبو الطُّفيل الكوفيّ، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أبي عمرو الشيباني، وعبد اللَّه بن شداد بن الهاد، وطارق بن شهاب.

وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وسعيد بن مسروق، والأعمش.

قال إسحاق بن منصور: لا يسأل عن مثله -يعني لجلالته- وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: حديثه -يعني الحارث بن شبيل- عن عليّ مرسل لم يدركه. انتهى.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب سوى هذا الحديث.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: فرّق جماعة بين الحارث بن شُبيل، وبين

ص: 261

الحارث بن شِبْل، منهم أبو حاتم، وابن معين، ويعقوب بن سفيان، والبخاريّ، وابن حبّان في "الثقات"، ولكن المزيّ -يعني في "تهذيب الكمال"- تَبعَ الكلاباذيّ، وقد رَدّ ذلك أبو الوليد الباجيّ على الكلاباذي في "رجال البخاريّ رحمه الله، وقال: الحارث بن شِبْل بصريّ ضعيف، والحارث بن شُبيل كوفيّ ثقةٌ، وكذا ضَعَّف ابنَ شبل ابنُ معين، والبخاريّ، ويعقوب بن سفيان، والدارقطنيّ، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

5 -

(أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ) هو: سَعْد بن إياس الكوفيّ، ثقةٌ مخضرَمٌ [2](ت 5 أو 96)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 469.

6 -

(زيدُ بْنُ أَرْقَمَ) بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، مختلف في كنيته، قيل: أبو عمر، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو عُمارة، وقيل: أبو أُنيسة، وقيل: أبو حمزة، وقيل: أبو سعد، ويقال: أبو سعيد.

واستُصْغِر يوم أُحُد، وأول مشاهده الخندق، وقيل: الْمُرَيسيع، وغزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، ثبت ذلك في "الصحيح"، وله حديث كثير، ورواية أيضًا عن عليّ.

رَوَى عنه أنس مكاتبةً، وأبو الطفيل، وأبو عثمان النَّهْدي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد خير، وطاوس. وله قصة في نزول "سورة المنافقين" في "الصحيح"، وشهد صِفّين مع علي، وكان من خواصّه، ومات بالكوفة أيام المختار سنة ست وستين، وقيل: سنة ثمان وستين.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر عن بعض قومه، عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيمًا لعبد اللَّه بن رواحة، فخرج بي معه مُرْدِفي يعني إلى مؤتة، فذكر الحديث، وهو الذي سمع عبد اللَّه بن أُبَيّ يقول:{لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسأل عبدَ اللَّه، فأنكر، فأنزل اللَّه تصديق زيد، ثبت ذلك في "الصحيحين"، وفيه: فقال: "إن اللَّه قد صدّقك يا زيد".

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 124.

ص: 262

وقال أبو المنهال: سألت البراء عن الصرف؟ فقال: سل زيد بن أرقم، فإنه خير مني، وأعلم

(1)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا

(2)

.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وهُشيم، فواسطيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم عن بعض: إسماعيل، عن الحارث، عن أبي عمرو الشيبانيّ.

5 -

(ومنها): أن زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد عرفت آنفًا عدد أحاديثه فيه، وكذا الحارث بن شُبيل، وليس له في هذا الكتاب، ولا في "صحيح البخاريّ" إلا هذا الحديث، وقال في "الفتح": وليس لأبي عمرو الشيبانيّ عن زيد بن أرقم رضي الله عنه غير هذا الحديث. انتهى

(3)

.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، أنزل اللَّه تعالى في تصديقه سورة كاملة، "سورة المنافقون"، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زيدِ بْنِ أَرْقَمَ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"عن أبي عمرو الشيبانيّ، قال: قال لي زيد بن أرقم"، فصرّح بالسماع من زيد رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كنَّا

(1)

راجع: "الإصابة" 2/ 487 - 488، و"تهذيب التهذيب" 1/ 658.

(2)

ولا ينافي هذا ما ذكرته في "قرّة العين" من أنه رَوَى من الأحاديث (90) حديثًا، اتفق الشيخان منها على أربعة، وانفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بستّة أحاديث؛ لأن ما هنا مع المكرّرات، فتنبّه.

(3)

"الفتح" 3/ 89.

ص: 263

نَتكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ) زاد في رواية البخاريّ: "على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم".

قال في "الفتح": وهذا حكمه الرفع، وكذا قوله:"أُمِرنا"؛ لقوله فيه: "على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم"، حتى ولو لم يقيد بذلك لكان ذِكْرُ نزول الآية كافيًا في كونه مرفوعًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ظاهر ما قاله صاحب "الفتح" أنه لا يكون له حكم الرفع إذا لم يُقيّد بعهده، أو يذكر معه نزول الآية، وهذا ما رجّحوه في "مصطلح الحديث"، فإن المرجّح هنا أنه يُعطى حكم الرفع مطلقًا، كما بيّن ذلك السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، بقوله:

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذا "كُنَّا نَرَى"

"فِي عَهْدِهِ" أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي

تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي

وقال أيضًا:

وَهَكَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَدْ صَحِبَا

فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَوْ رَايًا أَبَى

وقوله: (يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ) تفسير وتوضيح لقوله: "كنّا نتكلّم"(وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ) جملة حاليّة من "صاحبه"، وقوله:(فِي الصَّلَاةِ) متعلّق بـ "يُكَلِّم"، أو بحال مقدّر، وفي رواية البخاريّ زيادة "بحاجته"، قال في "الفتح": والذي يظهر أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء، وإنما يقتصرون على الحاجة من ردّ السلام ونحوه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التقييد يحتاج إلى دليل؛ إذ الظاهر أنه على عمومه في كلّ حاجة، واللَّه تعالى أعلم.

(حَتَّى نَزَلَتْ) وفي رواية البخاريّ: "حتى نزلت هذه الآية"، فاسم الإشارة فاعل "نزلت"، ويكون قوله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} بدلًا من "هذه الآية"، وعلى رواية المصنّف يكون قوله:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} مرفوعًا على الفعليّة، وهو محكيّ؛ لقصد لفظه.

[تنبيه]: اختُلِف في معنى "قانتين" على أقوال:

(1)

"الفتح" 3/ 89.

ص: 264

الأول: أن معناه ساكتين، وبه قال السديّ.

الثاني: طائعين، وبه قال الشعبي، وجابرُ بنُ زيد، وعطاء، وسعيد بن جبرِ، وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن، فإنما يُعْنَى به الطاعة.

الثالث: خاشعين، وبه قال مجاهد، قال: والقنوت طول الركوع، والخشوع، وغضّ البصر، وخفض الجَنَاح.

الرابع: القنوت طولُ القيام، وبه قال ابن عمر رضي الله عنهما، وقرأ:"أمَّن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا"، وأخرج مسلم في "صحيح مسلم":"أفضلُ الصلاةِ طولُ القنوت".

وقال الشاعر [من الرَّمَل]:

قَانِتًا للَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ

وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَل

الخامس: معناه: داعين، لما في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه:"قَنَتَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لى شهرًا. . . " الحديث، أي دعا، وقال قوم: معناه طَوَّلَ قيامه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح هذه الأقوال عندي أولها؛ لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه المذكور هنا، قال:"حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فأمرنا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام".

فهذا نص ظاهر في كون معنى القنوت في الآية السكوتَ. فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.

وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوَام على الشيء جاز أن يُسَمَّى مديمُ الطاعة قانتًا، وكذلك من أطَالَ القيامَ، والقراءةَ والدعاءَ في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت كل هؤلاء فاعلون للقنوت

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: القنوت يُستَعْمَل في معنى الطاعة، وفي معنى الإقرار بالعبودية، والخضوع، والدعاء، وطول القيام، والسكوت، وفي كلام بعضهم ما يُفْهَم منه أنه موضوع للمشترك.

(1)

راجع: "تفسير القرطبي" في تفاصيل هذه الأقوال 3/ 213 - 214.

ص: 265

قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل: أصله الدوام على الشيء، فإذا كان هذا أصله، فمديم الطاعة قانت، وكذلك الداعي، والقائم في الصلاة، والمخلص فيها، والساكت فيها، كلهم فاعلون للقنوت.

قال ابن دقيق العيد: وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من استعماله بمعنى مشترك، وهذه طريقة المتأخرين من أهل العصر وما قاربه، يقصدون بها دفع الاشتراك والمجاز عن موضوع اللفظ، ولا بأس بها إن لم يَقُم دليل على أن اللفظ حقيقةٌ في معنى مُعَيَّنٍ أو معاني، ويُستعمل حيث لا يقوم دليل على ذلك. انتهى

(1)

.

(فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ) بالبناء للمفعول، أي أمرنا اللَّه تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن نسكت عن كلام الناس في الصلاة، فالمراد السكوت عن كلام الناس، لا مطلق السكوت عن الكلام المشروع في الصلاة، كقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، فإن الصلاة ليست محلّ سكوت، كما سبق في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن في الصلاة شُغْلًا"، فهي محلّ قراءة، وتسبيح، وتكبير، وتهليل، وتحميد، ودعاء، ونحو ذلك.

وقال في "الفتح": قوله: "فأُمرنا بالسكوت"، أي عن الكلام المتقدِّم ذكره، لا مطلقًا؛ فإن الصلاة ليس فيها حال سكوت حقيقةً.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ويترجح بما دَلّ عليه لفظ "حتى" التي للغاية، والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ) قال في "الفتح": هذا يقتضي أن كلّ شيء يُسمّى كلامًا فهو منهيّ عنه؛ حملًا للفظ على عمومه، ويَحتمل أن تكون اللام للعهد الراجع إلى قوله:"يكلّم الرجل منا صاحبه بحاجته"، وقوله:"فأمرنا بالسكوت" أي عما كانوا يفعلونه من ذلك. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"إحكام الأحكام" 2/ 52.

(2)

"الفتح" 3/ 90.

(3)

"الفتح" 3/ 90.

ص: 266

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 1208 و 1209](539)، و (البخاريّ) في "كتاب العمل في الصلاة"(1200)، و"التفسير"(4534)، و (أبو داود) في "الصلاة"(949)، و (الترمذيّ) فيها (405)، و"التفسير"(2986)، و (النسائيّ) في "السهو"(3/ 18)، (وأحمد) في "مسنده"(4/ 368)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(856)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2245 و 2246)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1718)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1186)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(5524)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5063 و 5064)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 248)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(722)، و (الخطابيّ) في "غريب الحديث"(1/ 691)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه دليلٌ على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين في الصلاة، وأجمع العلماء على أن الكلام فيها عامدًا عالِمًا بتحريمه بغير مصلحتها، وبغير إنقاذها، وشبهه مبطل للصلاة، وأما الكلام لمصلحتها فقال الشافعيّ، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور: يبطل الصلاة، وجَوَّزه الأوزاعيّ، وبعض أصحاب مالك، وطائفة قليلة، وكلام الناسي لا يبطلها عند الجمهور ما لم يَطُل، وقال أبو حنيفة والكوفيون: يُبطلها، وقد تقدم تحقيق ذلك.

[فائدة]: قال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: الفرق بين قليل الفعل للعامد، فلا يُبطل، وبين قليل الكلام، أن الفعل لا تخلو منه الصلاة غالبًا لمصلحتها، وتخلو من الكلام الأجنبي غالبًا مُطّرِدًا، واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، وأنها نزلت في النهي عن الكلام في الصلاة.

3 -

(ومنها): بيان أن الكلام في الصلاة كان مباحًا، ثم نُسخ.

(1)

"الفتح" 3/ 91.

ص: 267

4 -

(ومنها): أن فيه بيانَ معنى القنوت، وهو السكوت، وهذا أرجح الأقوال كما قدّمناه.

5 -

(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: أن هذا اللفظ أحد ما يُسْتَدلّ به على الناسخ والمنسوخ، وهو ذكر الراوي لتقدم أحد الحكمين على الآخر، وهذا لا شكّ فيه، وليس كقوله: هذا منسوخ من غير بيان التاريخ، فإن ذلك قد ذُكر فيه أنه لا يكون دليلًا؛ لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن طريق اجتهاديّ. انتهى

(1)

.

وقيل: ليس في هذه القصة نسخ؛ لأن إباحة الكلام في الصلاة كان بالبراءة الأصلية، والحكم المزيل لها ليس نسخًا.

وأجيب: بان الذي يقع في الصلاة ونحوها مما يُمنَع أو يباح إذا قَرَّره الشارع كان حكمًا شرعيًّا، فإذا ورد ما يُخالفه كان ناسخًا، وهو كذلك هنا، قاله في "الفتح"

(2)

.

6 -

(ومنها): لفظة الراوي تُشعر بأن المراد بالقنوت في الآية السكوت؛ لما دلّت عليه لفظة "حتى" التي للغاية، والفاء التي تُشعِر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها، وقد قيل: إن القنوت في الآية الطاعة، وفي كلام بعضهم ما يُشعر بحمله على الدعاء المعروف، حتى جَعل ذلك دليلًا على أن الصلاة الوسطى هي الصبح، من حيث قرانها بالقنوت، والأرجح في هذا كلِّه حمله على ما أشعر به كلام الراوي، فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون بسبب النزول والقرائن المحتفَّة به ما يُرشدهم إلى تعيين المحتمِلات، وبيان المجملات، فهم في ذلك كله كالناقلين للفظٍ يدل على التعيين والتسبب، وقد قالوا: إن قول الصحابيّ في الآية: نزلت في كذا يتنزل منزلة المسنَد، قاله ابن دقيق العيد أيضًا.

7 -

(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد أيضًا: قوله: "فنُهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت" يقتضي أن كلَّ ما يسمى كلامًا فهو مَنْهِيّ عنه، وما لا يسمى كلامًا فدلالة الحديث قاصرة عن النهي عنه، وقد اختَلَف الفقهاء في أشياء، هل

(1)

"إحكام الأحكام" 2/ 477 - 478.

(2)

"الفتح" 3/ 90.

ص: 268

تبطل الصلاة أم لا؟ كالنفخ، والتنحنح بغير علة وحاجة، وكالبكاء، والذي يقتضيه القياس أن ما يُسَمَّى كلامًا فهو داخل تحت اللفظ، وما لا يسمى كلامًا، فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس، فَلْيُرَاعَ شرطه في مساواة الفرع للأصل، أو زيادته عليه.

واعتَبَر أصحاب الشافعيّ ظهور حرفين، وإن لم يكونا مفهمين، فإن أقل الكلام حرفان، ولقائل أن يقول: ليس يلزم من كون الحرفين يتألف منهما الكلام أن يكون كل حرفين كلامًا، وإذا لم يكن كلامًا فالإبطال به لا يكون بالنصّ، بل بالقياس على ما ذكرنا، فَلْيُراعَ شرطه.

اللهم إلا أن يريد بالكلام كل مركب مُفْهِمًا كان أو غير مفهم، فحينئذ يندرج المتنازع فيه تحت اللفظ، إلا أن فيه بحثًا، والأقرب أن يُنْظَر إلى مواقع الإجماع والخلاف، حيث لا يسمى الملفوظ به كلامًا، فما أُجمع على إلحاقه بالكلام ألحقناه به، وما لم يُجمَع عليه مع كونه لا يسمى كلامًا، فيقوى فيه عدم الإبطال.

ومن هذا استُضْعِف القول بإلحاق النفخ بالكلام، ومن ضعيف التعليل فيه قول مَن عَلَّل البطلان به بأنه يشبه الكلام، وهذا ركيك، مع ثبوت السنة الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نفخ في صلاة الكسوف في سجوده. انتهى كلامه رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح أن المراد بالكلام هو التخاطب الذي يجري بين الناس؛ إذ قول الراوي "يُخاطب بعضنا بعضًا"، وكذا الحديث المتقدّم:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" ظاهر في كون المراد مخاطبة بعضهم بعضًا، فلا يدخل فيه التنحنح، والأنين، والتأوّه، والنفخ، والبكاء، ونحو ذلك؛ لأنها ليست من جنس الكلام الممنوع في الصلاة، فتبصّر بالإنصاف.

8 -

(ومنها): أن قوله: "ونُهينا عن الكلام" هذه الزيادة لم تقع عند البخاريّ، واستُدلّ بها على أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضدّه؛ إذ لو كان كذلك لم يُحتَج إلى قوله:"ونُهينا عن الكلام".

وأجيب بأن دلالته على ضدّه دلالة التزام، ومن ثَمَّ وقع الخلاف، فلعلّه

ص: 269

ذُكر لكونه أصرح، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح في أن الأمر بالشيء، وكذا النهي عنه لا يستلزم ضدّه لفظًا، وإنما يستلزمه معنًى؛ إذ لا يتأتّى ما طلبه إلا بضدّه، وقد أوضحت هذا في "التحفة المرضيّة" حيث قلت:

الْحَقُّ أَنَّ الأَمْرَ بِالشَّيْءِ فَلَا

يَسْتَلْزِمَ النَّهْيَ عَنِ الضِّدِّ اعْقِلَا

لَفْظًا وَيَسْتَلْزِمُ فِي مَعْنَاهُ

إِذْ دُونَهُ لَمْ يَأْتِ مَا عَنَاهُ

وَهَكَذَا الْعَكْسُ وَلَوْ تَعَدَّدَا

الضِّدُّ وَالنَّدْبُ كَإِيجَابٍ بَدَا

وانظر تفاصيل المسألة في شرحها "المنحة الرضيّة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وقت تحريم الكلام في الصلاة:

(اعلم): أنهم اختلفوا متى حُرِّم؟ فقال قوم: بمكة، واستدلوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه ورجوعه من عند النجاشيّ إلى مكة.

وقال آخرون: حُرِّم بالمدينة، بدليل حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، فإنه من الأنصار، أسلم بالمدينة، وسورة البقرة مدنية، وقالوا: ابن مسعود لَمّا عاد إلى مكة من الحبشة، رجع إلى النجاشيّ إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم ورد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يتجهز لبدر.

وقال الخطابيّ رحمه الله: إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة.

وقال في "الفتح": قوله: "حتى نزلت هذه الآية" ظاهرٌ في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضي أن النسخ وقع بالمدينة؛ لأن الآية مدنية باتفاق، فيُشكل ذلك على قول ابن مسعود رضي الله عنه: إن ذلك وقع لَمّا رجعوا من عند النجاشيّ، وكان رجوعهم من عنده إلى مكة، وذلك أن بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة، ثم بلغهم أن المشركين أسلموا، فرجعوا إلى مكة، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، واشتدّ الأذى عليهم، فخرجوا إليها أيضًا، فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود رضي الله عنه مع الفريقين.

(1)

"الفتح" 3/ 90.

ص: 270

واختُلِفَ في مراده بقوله: "فلما رجعنا" هل أراد الرجوع الأول، أو الثاني؟، فَجَنَح القاضي أبو الطيب الطبريّ، وآخرون إلى الأول، وقالوا: كان تحريم الكلام بمكة، وحَمَلوا حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ، وقالوا: لا مانع أن يتقدم الحكم، ثم تنزل الآية بوفقه.

وجَنَح آخرون إلى الترجيح، فقالوا: يترجح حديث ابن مسعود رضي الله عنه بأنه حَكَى لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف زيد بن أرقم، فلم يَحْكِه.

وقال آخرون: إنما أراد ابن مسعود رضي الله عنه رجوعه الثاني، وقد وَرَد أنه قَدِمَ المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر.

وفي "مستدرك الحاكم" من طريق أبي إسحاق، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلًا. . . فذكر الحديث بطوله، وفي آخره:"فتعجل عبد اللَّه بن مسعود، فشَهِد بدرًا".

وفي "السير" لابن إسحاق: أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، رَجَع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلًا، فمات منهم رجلان بمكة، وحُبِس منهم سبعةٌ، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلًا، فشَهِدوا بدرًا، فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه كان بالمدينة، وإلى هذا الجمع نحا الخطابيّ.

قال الحافظ: ولم يَقِفْ مَن تعقب كلامه على مُستَنَده، قال: ويُقَوِّي هذا الجمع روايهْ كُلْثُوم المتمْدمة، فإنها ظاهرة في أن كلًّا من ابن مسعود وزيد بن أرقم حَكَى أن الناسخ قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

وأما قول ابن حبان: كان نسخ الكلام بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، قال: ومعنى قول زيد بن أرقم: "كنا نتكلم" أي كان قومي يتكلمون؛ لأن قومه كانوا يُصلون قبل الهجرة، مع مُصعب بن عُمير الذي كان يُعَلِّمهم القرآن، فلما نُسخ تحريم الكلام بمكة بلغ ذلك أهل المدينة، فتركوه.

فهو متعَقَّب بأن الآية مدنية باتفاق، وبأن إسلام الأنصار، وتوجه مصعب بن عمير إليهم إنما كان قبل الهجرة بسنة واحدة، وبأن في حديث زيد بن أرقم:"كنا نتكلم خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" كذا أخرجه الترمذيّ، فانتفى أن

ص: 271

يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلون بالمدينة، قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم.

وأجاب ابن حبان في موضع آخر: بأن زيد بن أرقم أراد بقوله: "كنا نتكلم" مَن كان يصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة من المسلمين.

وهو متعقَّب أيضًا بأنهم ما كانوا بمكة يَجتمعون إلا نادرًا، وبما رَوَى الطبرانيّ من حديث أبي أُمامة قال:"كان الرجل إذا دخل المسجد، فوجدهم يصلون، سأل الذي إلى جنبه، فيخبره بما فاته، فيقضي، ثم يَدخُل معهم، حتى جاء معاذ يومًا، فدخل في الصلاة. . . " فذكر الحديث، وهذا كان بالمدينة قطعًا؛ لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل إنما أسلما بها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الراجح أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة، لا بمكة؛ لوضوح حجته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1209]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَوَكِيعٌ قَالَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة، صاحب حديث، سنّيّ، من كبار [9](ت 199) وله (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(وَكِيع) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ) أي كلّ الثلاثة: عبد اللَّه بن نُمير، ووكيعٌ، وعيسى بن يونس، رووا عن إسماعيل بن أبي خالد.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ) أي بإسناد إسماعيل المتقدّم، وهو: عن الحارث بن شُبيل، عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.

(1)

"الفتح" 3/ 89 - 90.

ص: 272

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(1200)

حدّثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا عيسى -هو ابن يونس- عن إسماعيل، عن الحارث بن شُبيل، عن أبي عمرو الشيبانيّ، قال: قال لي زيد بن أرقم: إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت. انتهى.

وأما رواية عبد اللَّه بن نُمير، ووكيع، فساقها الطبريّ في "تفسيره"(2/ 570) مقرونين بابن أبي زائدة، ويعلى بن عُبيد، فقال:

حدّثنا عبد الحميد بن بيان السكريّ، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، وحدّثنا أبو كريب، قال ثنا ابن أبي زائدة، وابن نُمَير، ووكيع، ويعلى بن عبيد، جميعًا عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شِبْل

(1)

، عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن زيد بن أرقم، قال:"كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه في الحاجة، حتى نزلت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}، فأمرنا بالسكوت". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1210]

(540) - (حَدَّثَنَا

(2)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي لِحَاجَةٍ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، وَهوَ يَسِيرُ -قَالَ قُتَيْبَةُ: يُصَلِّي-، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي، فَقَالَ:"إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفًا، وَأَنَا أُصَلِّي"، وَهُوَ مُوَجِّة حِينَئِذٍ قِبَلَ الْمَشْرِقِ).

(1)

تقدّم أن الصحيح أنه ابن شُبيل مصغّرًا، وأما ابن شِبْل، فراو آخر ضعيف، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 273

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيد) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْح) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام السَّلَميّ الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (70) من رباعيّات الكتاب، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه محمد بن رُمح، فانفرد به هو، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنهم ما بين مدنيّ، وهو جابر رضي الله عنه، ومكيّ، وهو أبو الزبير، وبغلانيّ، وهو قتيبة، والباقيان مصريّان.

4 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَني لِحَاجَةٍ) أي لقضائها.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لم أر من بينّ عين تلك الحاجة، غير أنها تتعلّق ببني الْمُصطلِق، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 274

وفي رواية زهير التالية: "أرسلني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو منطلقٌ إلى بني المُصطَلِق، فأتيته، وهو يصلي. . . "، ولأبي داود:"أرسلني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق"، وفي رواية للبخاريّ من رواية عطاء بن أبي رباح، عن جابر رضي الله عنه: "بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حاجة له، فانطلقتُ، ثم رجعتُ، وقد قضيتها، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه، فلم يردّ عليّ، فوقع في قلبي ما اللَّه أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَجَدَ

(1)

عليّ أني أبطأت عليه، ثم سلمت عليه، فلم يرد عليّ، فوقع في قلبي أشدّ من المرة الأولى، ثم سلمت عليه فردّ عليّ، فقال: إنما منعني أن أردّ عليك أني كنت أصلي، وكان على راحلته متوجهًا إلى غير القبلة".

وقوله: "فردّ عليّ" أي بعد الفراغ من الصلاة، قاله في "الفتح"

(2)

.

(ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، وَهُوَ يَسِيرُ) جملة حاليّة من المفعول (قَالَ قُتَيْبَةُ) بن سعيد، شيخه الأول في روايته (يُصَلِّي) بدل قول محمد بن رُمح:"وهو يسير"، وفي رواية زُهير التالية:"وهو يصلي على بعيره"، وفي رواية عطاء الآتية:"وهو يصلّي على راحلته على غير القبلة"(فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ) فيه جواز السلام على من يُصلّي، وسيأتي بيان الخلاف فيه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- (فَأَشَارَ إِلَيَّ) أي أشار صلى الله عليه وسلم بردّ السلام عليّ، وفي رواية زُهير:"فكلّمته، فقال لي بيده هكذا، وأومأ زهير بيده، ثم كلّمته، فقال لي هكذا، فأومأ زُهير أيضًا بيده نحو الأرض، وأنا أسمعه يقرأ، يومئ برأسه".

(فَلَمَّا فَرَغَ) أي انتهى من صلاته، وسلّم منها (دَعَانِي) أي طلبني لأحضر عنده، ويستفسرني هل قضيت حاجته أم لا؟، وفي رواية النسائيّ:"فانصرفت، فناداني: يا جابر، فناداني الناس: يا جابر، فأتيته". (فَقَالَ: "إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفًا) أي الآن، قال في "القاموس": وقال آنفًا، كصاحب، وكَتِفٍ، وقرئ بهما، أي مذ ساعة، أي في أول وقت يقرُبُ منّا. انتهى

(3)

.

(وَأنا أُصَلِّي") جملة حاليّة من الفاعل، فقوله صلى الله عليه وسلم: "إنك سلّمت عليّ. . .

(1)

أي غضب.

(2)

3/ 105.

(3)

"القاموس المحيط" 3/ 119.

ص: 275

إلخ" ذكره اعتذارًا إلى جابر رضي الله عنه في عدم ردّه سلامه، وفي رواية النسائيّ: "فقلت: يا رسول اللَّه سلّمت عليك، فلم تردّ عليّ؟ قال: إني كنت أصلّي"، وفي رواية زهير التالية: "فلما فرغ قال: ما فعلت في الذي أرسلتك له؟ فإنه لم يمنعني أن أكلّمك إلا أني كنت أصلّي".

وقوله: (وَهُوَ مُوَجِّهٌ) بصيغة اسم الفاعل، من وجّه بمعنى توجّه، فهو لازم، يقال: وجّهتُ إليه توجيهًا: بمعنى توجّهتُ، أفاده في "القاموس".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "موجِّه" بكسر الجيم: أي مُوَجّه وجهَهُ وراحلته. انتهى. وعلى ما قاله فهو متعدّ، ولذا قدّر له المفعول.

ويَحتَمِل أن يكون بصيغة اسم المفعول، بمعنى أن اللَّه تعالى وجّهه، أي أمره بالتوجّه في صلاته إلى تلك الجهة.

(حِينَئِذٍ) أي وقت كونه يُصلي عند مجيء جابر، وسلامه عليه (قِبَلَ الْمَشْرِقِ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة: أي جهة مطلع الشمس، وإنما توجّه نحو المشرق؛ لكون بني الْمُصطَلِقِ الذين يريد غزوهم كانوا في جهة الشرق لأهل المدينة.

والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في صلاته تلك متوجّهًا إلى الكعبة، وذلك لأن الصلاة نافلة، ففي حديث جابر رضي الله عنه عند البخاريّ:"فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّي على راحلته حيث توجّهت، فإذا أراد الفريضة نزل، فاستقبل القبلة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 1210 و 1211 و 1212 و 1213](540)، و (البخاريّ) في "كتاب العمل في الصلاة"(1217)، و (أبو داود) في "الصلاة"(926 و 1227)، و (الترمذيّ) فيها (351)، و (النسائيّ) في "السهو"(3/ 6)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1018)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 334)،

ص: 276

و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1270)، و (ابن حبّان)(2516)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1721 و 1722 و 1723 و 1724 و 1725 و 1726)، وأبو نعيم) في "مستخرجه"(1187 و 1188 و 1189 و 1190)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 258)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الكلام في الصلاة مطلقًا فرضًا كانت أو نفلًا.

2 -

(ومنها): بيان أن ردّ السلام بالقول في الصلاة يُعتبر من كلام الناس، فيُبطل الصلاة.

3 -

(ومنها): استحباب ردّ السلام بالإشارة في الصلاة، وأنه لا تبطل الصلاة بالإشارة ونحوها من الحركات اليسيرة.

4 -

(ومنها): استحباب الاعتذار لمن سَلَّم في الصلاة، ومنعه من ردّ السلام مانع، ويذكر له ذلك المانع، وإن ردّ عليه بالإشارة؛ لاحتمال عدم علمه بذلك، فيتغيّر خاطره بعدم الردّ.

5 -

(ومنها): كراهة ابتداء السلام على المصلّي؛ لكونه ربّما شغل بذلك فكره، واستدعى منه الردّ، وهو ممنوع منه، وبذلك قال جابر رضي الله عنه، وهو راوي الحديث، وكرهه عطاءٌ، والشعبيّ، ومالك في رواية ابن وهب، وقال في "المدوّنة": لا يُكره، وبه قال أحمد والجمهور.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح قول من قال بعدم الكراهة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُلّم عليه غير مرّة، فلم يُنكر ذلك، بل ردّ بالإشارة، وردّ بعدما سلّم، فدلّ على أنه غير مكروه؛ إذ لو كره لنهى عنه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): استحباب الردّ بالإشارة لمن سُلّم عليه وهو يصليّ.

7 -

(ومنها): استحباب الرد أيضًا بعدما سلّم من صلاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ردّ أيضًا بعد السلام.

8 -

(ومنها): جواز النافلة على الدابّة إلى أيّ جهة توجّهت به دابّته، وهو مجمع عليه، كما قال النوويّ رحمه الله، وأما الفريضة فلا تصحّ إلا على الأرض، متوجِّهًا إلى القبلة، وقد تقدّم بيان ذلك في محلّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 277

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1211]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابرٍ، قَالَ: أَرْسَلَني رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى بَعِيرِهِ، فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ لِى بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ بِيَدِهِ، ثُمَّ كلَّمْتُهُ، فَقَالَ لِي هَكَذَا، فَأَوْمَأَ

(2)

زُهَيْرٌ أَيْضًا بِيَدِهِ نَحْوَ الْأَرْضِ، وَأَنَا أَسْمَعُهُ

(3)

يَقْرَأُ، يُومِئُ برَأْسِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:"مَا فَعَلْتَ فِي الَّذِي أَرْسَلْتُكَ لَهُ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُكُلِّمَكَ، إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي"، قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَبُو الزُّبَيْرِ جَالِسٌ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بِيَدِهِ أَبُو الزُّبَيْرِ إِلَى بَني الْمُصْطَلِقِ، فَقَالَ بِيَدِهِ إِلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد اللَّه بن يونس بن عبد اللَّه بن قيس التميميّ الْيَرْبوعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة حافظ، من كبار [10](ت 227) عن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زهَيْر) بن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبث [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

والباقيان ذُكرا قبله.

ومن لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (71) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ) بكسر اللام، بصيغة اسم الفاعل، قال في "القاموس": و"الْمُصْطَلِق": لقب جَذِيمة بن سعد بن عمرو، سُمّي لحسن صوته، وكان أول من غَنّى في خُزَاعة. انتهى

(4)

.

وقال في "اللباب": اسمه جَذِيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، بطن من خُزاعة. انتهى

(5)

.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "وأومأ".

(3)

وفي نسخة: "وأنا سمعته".

(4)

"القاموس المحيط" 3/ 255.

(5)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 336.

ص: 278

وقوله: (فَكَلَّمْتُهُ) الظاهر أنه أراد السلام عليه، كما بيّنته الروايات الأخرى.

وقوله: (فَقَالَ لِي بِيَدِهِ هَكَذَا) يعني أشار بيده، ففيه استعمال القول للإشارة، وهو شائع، كما تقدّم.

وقوله: (وَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ بِيَدِهِ) أي أشار زهير بن معاوية في روايته بيانًا لمعنى قوله: "فقال لي بيده".

وقوله: (نَحْوَ الْأَرْضِ) أي أشار بيده إلى جهة الأرض، والظاهر أنه يأمره بأن يجلس في الأرض حتى ينتهي من الصلاة.

وقوله: (وَأَنَا أَسْمَعُهُ يَقْرَأُ) وفي بعض النسخ: "وأنا سمعته يقرأ".

وقوله: (يُومِئُ بِرَأْسِهِ) أي بالركوع والسجود.

وقوله: (مَا فَعَلْتَ فِي الَّذِي أَرْسَلْتُكَ لَهُ؟)"ما" استفهاميّة مفعول مقدّم لـ "فعلت" أي أيَّ فعل فعلت في الحاجة التي أرسلتك لقضائها، فهل قضيتها أم لا؟.

وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ: وَأَبُو الزُّبَيْرِ جَالِسٌ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ) فيه إشارة إلى أن زهيرًا سمع هذا الحديث من أبي الزبير، وهو جالسٌ أمام الكعبة.

وقوله: (فَقَالَ بِيَدِهِ) أي أشار بيده بيانًا لجهة الحاجة التي أرسل لها جابر رضي الله عنه، وهي إلى جهة بني المصطلِق.

وقوله: (فَقَالَ بيَدِهِ إِلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ) أي أشار أبو الزبير إلى الجهة التي استقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كانت في غير جهة القبلة، وفيه دليلٌ على جواز النافلة على الدابّة في السفر حيث توجّهت به دابّته، وهذا مجمع عليه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1212]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 27 - 28.

ص: 279

كَثِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَني فِي حَاجَةٍ

(1)

، فَرَجَعْتُ، وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَوَجْهُهُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ

(2)

، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى

(3)

أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ، إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْد) بن درهم الأزديّ الْجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ عابد فقيه، من كبار [8](ت 179) عن (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(كَثِير) بن شِنْظير -بكسر المعجمتين، وسكون النون- المازنيّ، ويقال: الأزديّ، أبو قرّة البصريّ، صدوقٌ يُخطئ [6].

رَوَى عن عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والحسن، ومحمد، وأنس، وابن سيرين، ويوسف بن أبي الحكم، وغيرهم.

ورَوَى عنه سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن زيد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبان بن يزيد العطار، وحفص بن سليمان الغاضري، وأبو عامر الخزاز، وعباد بن عباد، وبشر بن المفضل، وجماعة.

قال عبد اللَّه بن أحمد: سألت أبي عنه؟ فقال: صالح، ثم قال: قد روى عنه الناس، واحتملوه، وقال مرة: صالح الحديث. وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس بشيء. وقال عمرو بن علي: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه، وكان ابن مهدي يحدث عنه. وقال أبو زرعة: ليّن. وقال النسائيّ: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: أرجو أن تكون أحاديثه مستقيمة، وقال أيضًا: ليس في حديثه شيء من المنكر. وقال ابن سعد: كان ثقة -إن شاء اللَّه-. وقال الأثرم: سئل أبو عبد اللَّه عن كثير بن شِنظِير، هو صحيح الحديث -أو قيل: ثبت الحديث؟ قال: لا، ثم قال كلامًا، معناه: يُكتب

(1)

وفي نسخة: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني في سفر، فبعثني في حاجة".

(2)

وفي نسخة: "ووجهه إلى غير القبلة".

(3)

وفي نسخة: "أما إنه لم يمنعني".

ص: 280

حديثه. وقال الساجي: صدوق، وفيه بعض الضعف، ليس بذاك، ويحتمل لصدقه. وقال الحاكم: قول ابن معين فيه: ليس بشيء، هذا يقوله ابن معين، إذا ذُكِر له الشيخ من الرواة يَقِلّ حديثه، ربما قال فيه: ليس بشيء - يعني لم يُسنِد من الحديث ما يُشتَغل به. وقال البزار: ليس به بأس. وقال ابن حزم: ضعيف جِدًّا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن من هذه الأقوال أن الأكثرين على توثيق كثير بن شِنظير، فقول ابن حزم هذا مُجَازَفٌ فيه، فأيّ ضعف بعد توثيق هؤلاء الأئمة له؟ واللَّه تعالى المستعان.

أخرج له الجماعة، سوى النسائيّ، وله في البخاري حديثان فقط، أخرج مسلم أحدَهما فقط، وهو حديث جابر في السلام على المصلي، وأبو داود، والترمذي الآخر، وهو حديث جابر:"خمروا الآنية"، وابن ماجه حديث أنس:"طلب العلم فريضة"، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(عَطَاء) بن أبي رَبَاح أسلم القرشىِّ مولاهم، أبو محمد المكيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

وقوله: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ) وفي بعض النسخ: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني في سفر، فبعثني في حاجة"، والمراد بالسفر غزوة بني المصطَلِق.

وقوله: (وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ) وفي رواية زهير السابقة: "على بعيره"، ولا تخالف بينهما؛ لأن الراحلة تُطلق على الذكر والأنثى، قال في "المصباح": الراحلة: الْمَرْكبُ من الإبل ذكرًا كان أو أُنثى، وبعضهم يقول: الراحلة: الناقة التي تصلح أن تُرحل، وجمعها رواحل. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَوَجْهُهُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ) وفىِ نسخة: "إلى غير القبلة".

وقوله: ("إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي) وفي بعض النسخ: "أما إنه لم يمنعني".

وقوله: (إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي") استثناء مفرغّ، فما بعد "إلا" في تأويل المصدر فاعل "يمنعني"، أي لم يمنعني إلا كوني مصليًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 222 - 223.

ص: 281

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1213]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، بِمَعْنَى حَدِيثِ حَمَّادٍ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون المعروف بالسمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ ربّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ) الرازيّ، أبو يعلى نزيل بغداد، ثقةٌ سنّيّ فقيهٌ طُلب للقضاء، فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب [10](ت 211) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 43.

وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (540) و (1203) و (1536) و (2897).

3 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيد) بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التّنُّوريّ البصريّ، ثقة ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ حَمَّادٍ) وفي بعض النسخ: "بمعنى حديث حماد بن زيد"، يعني أن حديث عبد الوارث عن كثير بن شِنْظِير بمعنى حديث حماد بن زيد عنه.

[تنبيه]: رواية عبد الوارث بن سعيد هذه، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(1217)

حدّثنا أبو معمر، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا كثير بن شِنْظِير، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حاجة له، فانطلقت، ثم رجعت، وقد قضيتها، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسلمت

(1)

وفي نسخة: "بمعنى حديث حمّاد بن زيد".

ص: 282

عليه، فلم يرُدّ عليّ، فوقع في قلبي ما اللَّه أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عليّ أني أبطأت عليه، ثم سلمت عليه، فلم يردّ عليّ، فوقع في قلبي أشدّ من المرة الأولى، ثم سلمت عليه، فردّ عليّ، فقال: إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي، وكان على راحلته متوجهًا إلى غير القبلة. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ جَوَازِ لَعْنِ الشَّيْطَانِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَالتَّعَوُّذِ مِنْهُ، وَجَوَازِ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فَي الصَّلَاةِ)

وبالسند المتّصل إِلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1214]

(541) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ اَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ، جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ؛ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، فَلَقَدْ هَمَمْتُ

(1)

أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ، مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ

(2)

أَجْمَعُونَ، أَوْ كُلُّكُمْ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ، فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا". وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ فقيهٌ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

(1)

وفي نسخة: "وقد هممت".

(2)

وفي نسخة: "حتى تصبحوا، فتنظروا إليه".

ص: 283

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُور) بن بَهْرَام الكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) عن (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد صيغة أدائهما، وفيه التحديث، والإخبار، والسماع.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني ما أخرج له أبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، فمروزيّان، وأبي هريرة رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

عن محمد بن زياد الْجُمَحيّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عِفْرِيتًا) قال القرطبيّ رحمه الله: العِفْريتُ: المارد من الجنّ الشديد، ومنه رجلٌ عِفْريت: أي شديد الدَّهَاء، والمكر، والحيلة. انتهى

(1)

.

وقال في "النهاية": قال الزمخشريّ: الْعِفْرُ، والْعِفْرِيَةُ، والْعِفْرِيتُ، والْعُفَارِيَةُ: القويّ المتشيطن الذي يَعْفِرُ قِرْنَهُ، والياء في عِفِرِية، وعُفَارِية

(1)

"المفهم" 2/ 151.

ص: 284

للإلحاق بشِرْذِمة، وعُذَافِرَةٍ، والهاء فيهما للمبالغة، والتاءُ في عِفْرِيت للإلحاق بقندِيل. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": ورجلٌ عِفْرٌ، وعِفْريةٌ، وعِفْرِيتٌ بكسرهنّ، وعِفِرٌّ، كطِمِرٍّ، وعِفِرّيٌّ، وعُفَرْنِيَةٌ، كقُذَعْمِلَةٍ، وعُفَارِيَةٌ بالضمّ: بَيِّنُ الْعَفَارَة بالفتح، خَبيثٌ مُنْكَرٌ، والْعِفْرِيتُ، والْعِفْرِينُ، وتشدّد راؤه، مع كسر الفاء: النافذ في الأمر المبالغ فيه، مع دَهَاء. انتهى

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ: الجنّ على مراتب، فالأصل جنيّ، فإن خالط الإنس قيل: عامر، ومن تعرض منهم للصبيان قيل: أرواح، ومن زاد في الْخُبْث قيل: شيطان، فإن زاد على ذلك قيل: مارد، فإن زاد على ذلك قيل: عِفْريت.

وقال الراغب: العفريت من الجنّ هو العارم الخبيث، وإذا بولغ فيه قيل: عِفْريت نِفْريت.

وقال ابن قتيبهَ: العِفريت الْمُوَثَّق الْخَلْق، وأصله من العَفَر، وهو التراب، ورجل عِفِرٌّ بكسر أوله وثانيه، وتثقيل ثالثه، إذا بولغ فيه قيل: عِفِرِّيت بكسر أوله وثانيه، وتثقيل ثالثه. انتهى

(3)

.

وقوله: (مِنَ الْجِنِّ) بكسر الجيم، وتشديد النون، قال ابن سِيدَهْ: الجِنُّ: نوع من العَالَم، سُمُّوا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار، أي استتارهم، ولأنهم استجنُّوا من الناس، فلا يُرون، والجمع: جِنَان، وهم الجِنّة، والجنيّ: منسوب إلى الجنّ، والجنّة: طائفة من الجنّ، وأرض مَجِنّة كثيرة الجنّ، والجانّ أبو الجن، والجانّ الجنّ، وهو اسم جمع.

وقال بعضهم: الجن: خلافُ الإنس، يقال: جَنَّه الليل، وأجنّه، وجنّ عليه، وغَطّاه في معنى واحد: إذا ستره، وكلُّ شيء استتر فقد جَنَّ عنك، وبه سُمِّيت الجنّ؛ لاستجنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سُمّي الجنين جنينًا. انتهى من "العمدة" بتصرّف

(4)

.

(جَعَلَ يَفْتِكُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، وضمه، من الفتك، وهو الأخذ في

(1)

"النهاية" 3/ 262.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 92.

(3)

"الفتح" 8/ 530.

(4)

"عمدة القاري" 4/ 344.

ص: 285

غفلة وخَدِيعة، يقال: فَتَكَ به فَتْكًا، من بابي ضرب، وقتل، وبعضهم يقول: فِتْكًا مثلّث الفاء: إذا بطش به، أو قتله على غفلة، وأفتك بالألف لغة، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "تَفَلَّتَ عليّ" بفتح الفاء، وتشديد اللام: أي تعرّض لي فَلْتةً، أي بغتةً.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يفتك" هكذا صحّ في كتاب مسلم "يفتك"، ومعناه: يُغْفِله عن الصلاة ويَشغله، وأصل "الفتك" القتل على غفلة وغِرّةٍ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان قَيْدُ الفتكِ، لا يَفْتِكُ مؤمن"

(2)

، وهكذا مجيء الشيطان للمصلي على غفلة وغِرّة، وذكره البخاريّ، وقال: تَفَلَّتَ عليّ"، وهو أيضًا صحيحٌ، أي جاءني على غفلة وفَلْتة، وغِرّةٍ، وفَجْأة، ومنه قيل: افتلتت نفسه: أي مات على فَجْأة، والفلتة: الأمر يُوتى على غير رويّة. انتهى

(3)

.

(عَلَيَّ) متعلّق بـ "فتك"(الْبَارِحَةَ) هي أقرب ليلة مَضَت، وفي "المنتهى": كلُّ زائل بارحٌ، ومنه سُمِّيت البارحة، أدنى ليلة زالت عنك، تقول: لقيته البارحةَ، والبارحةَ الأولى، ومنذ ثلاث ليال، وفي "المحكم": البارحةُ هي الليلة الخاليةُ، ولا تُحَقَّر

(4)

، وقال قاسم في "كتاب الدلائل": يقال: بارحة الأولى، يضاف الاسم إلى الصفة، كما يقال: مسجد الجامع، وانتصابها على الظرفية. انتهى

(5)

.

وقال في "الفتح": البارحة: الليلة الخالية الزائلة، والبارح الزائل، ويقال من بعد الزوال إلى آخر النهار: البارحة. انتهى

(6)

.

(لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ) وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الآتي: "إن عدوّ اللَّه إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي. . . "، وفي رواية للبخاريّ:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 461 - 462.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (1429 و 1436 و 16390)، وأبو داود في "سننه" برقم (2769).

(3)

"المفهم" 2/ 150 - 151.

(4)

أي لا تُصغّر.

(5)

"عمدة القاري" 4/ 344.

(6)

"الفتح" 8/ 530.

ص: 286

"عَرَضَ لي، فشَدَّ عليَّ"، ووقع في رواية عبد الرزاق:"عَرَضَ لي في صورة هِرٍّ"(وَإِنَّ اللَّهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ) أي جعلني متمكّنًا وقادرًا على معاقبته، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَكَنَ فلانٌ عند السلطان مكانةً، وزانُ ضَخُمَ ضَخَامةً: عَظُمَ عِنْده، وارتفَعَ، فهو مكينٌ، ومَكّنته من الشيء تمكينًا: جعلتُ له عليه سُلطانًا وقُدرةً، فتمكّن منه، واستمكن: قَدَرَ عليه، وله مَكِنَةٌ: أي قُوَّةً وشِدّةً، وأمكنته بالألف مثلُ مَكَّنته، وأمكنني الأمر: سَهُلَ وتيسّر. انتهى

(1)

.

(فَذَعَتُّهُ) بالذال المعجمة، وتخفيف العين المهملة: أي خنقته، قال مسلم: وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة: "فَدَعَتهُ"، يعني بالدال المهملة، وهو صحيح أيضًا، ومعناه: دفعته دفعًا شديدًا، والدَّعْتُ، والدّعّ: الدفعُ الشديدُ، وأنكر الخطابيّ المهملة، وقال: لا تصحّ، وصححها غيره، وصَوّبوها، وإن كانت المعجمة أوضح وأشهر، وفيه دليل على جواز العمل القليل في الصلاة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وفي رواية النسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا قائم أصلي اعترض لي الشيطان، فأخذت بِحَلْقه، فخنقته حتى إني لأجد بَرْدَ لسانه على إبهامي"، وفي لفظ:"على كفّي"

(3)

.

وفي رواية أحمد عن أبي عبيدة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَرّ عليّ الشيطان، فأخذته، فخنقته، حتى إني لأجد بَرْد لسانه في يدي، فقال: أوجعتني، أوجعتني".

(فَلَقَدْ هَمَمْتُ) وفي بعض النسخ: "وقد هَمَمت"(أَنْ) بالفتح مصدريّةٌ (أَرْبِطَهُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، قال في "القاموس": رَبَطَهُ يَرْبِطُهُ، ويَرْبُطُهُ، أي من بابي ضَرَب ونَصَرَ: شَدّه، فهو مربوطٌ، ورَبِيطٌ

(4)

.

والمعنى هنا أنه صلى الله عليه وسلم قصد أن يشدّ العِفْريت (إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ) هي الأُسطوانة، وجمعها سَوَارٍ، كجاريةٍ وجَوَارٍ (مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ) أي النبويّ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 577.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 29.

(3)

"سنن النسائي الكبرى" 1/ 196 - 197.

(4)

"القاموس المحيط" 2/ 360.

ص: 287

(حَتَّى تُصْبِحُوا) أي حتى تدخلوا في الصباح، وهي هنا تامّة لا تحتاج إلى خبر، كقوله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} ، قال في "الخلاصة":

. . . . . . . . . . .

وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي

وهو منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد "حتى"، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"

حَتْمٌ كَـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"

وقوله: (تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ) جملة حاليّة من الفاعل، وفي نسخة:"فتنظروا إليه"، فيكون منصوبًا بالعطف على "تصبحوا"، وقوله:(أَجْمَعُونَ) توكيد للضمير الفاعل (أَوْ) للشكّ من الراوي، أي قال بدل "أجمعون"(كُلُّكُمْ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخي سُلَيْمَانَ) عليه السلام، قال في "العمدة": والأخوة بين سليمان وبين النبيّ صلى اللَّه عليهما وسلم بحسب أصول الدين، أو بحسب المماثلة في الدين. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "أخي" إشارة إلى ما أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لِعَلّات، أمهاتهم شَتّى، ودينهم واحد".

({رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن ملك الجنّ، والتصرّف فيهم بالقهر مما خُصّ به سليمان عليه السلام، وسبب خُصُوصيّته دعوته التي استُجيبت له حيث قال:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، ولَمّا تحقّق النبي صلى الله عليه وسلم الخصوصتة امتنع من تعاطي ما همّ به من أخذ الجنيّ وربطه.

[فإن قيل]: كيف يتأتّى ربطه وأخذه واللعب به مع كون الجنّ أجسامًا لطيفةً روحانيّةً؟.

[قلنا]: كما تأتّى ذلك لسليمان عليه السلام حيث جعل اللَّه تعالى له منهم {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)} [ص: 37 - 38]، ولا شكّ أن اللَّه تعالى أوجدهم على صُوَر تخصّهم، ثم مكنهم من التشكّل في صور مختلفة، فيتمثّلون في أيّ صورة شاؤوا، وكذلك فعل اللَّه بالملائكة، كما قال تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وقال صلى الله عليه وسلم: "وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا،

ص: 288

فيكلّمني. . . " الحديث، متّفقٌ عليه، فيجوز أن يُمكّن اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم من هذا الجنّيّ مع بقاء الجنّيّ على صورته التي خُلق عليها، فيوثّقه كما كان سليمان عليه السلام يوثقهم، ويرفع الموانع عن أبصار الناس، فيرونه مُوثَقًا حتى يلعب به الغلمان.

ويجوز أن يشكّله اللَّه تعالى في صورة جسميّة محسوسة، فيربطه، ويُلعَب به، ثم يمنعه من الزوال عن تلك الصورة التي تشكّل فيها، حتى يفعل اللَّه ما همّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا دليل على رؤية بنىِ آدم الجنّ، وأما قوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] إخبار عن غالب أحوال بني آدم معهم، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

وقال في "الفتح": وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "فذكرت دعوة أخي. . . إلخ" إشارة إلى أنه تركه رعايةً لسليمان عليه السلام.

ويَحْتَمِل أن تكون خصوصية سليمان عليه السلام استخدام الجنّ في جميع ما يريده، لا في هذا القدر فقط.

واستَدَلّ الخطابيّ بهذا الحديث على أن أصحاب سليمان عليه السلام كانوا يرون الجن في أشكالهم وهيئتهم حال تصرفهم، قال: وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} فالمراد الأكثر الأغلب من أحوال بني آدم.

وتُعُقِّب بأن نفي رؤية الإنس للجن على هيئتهم ليس بقاطع من الآية، بل ظاهرها أنه ممكن، فإن نفي رؤيتنا إياهم مقيدٌ بحال رؤيتهم لنا، ولا ينفي إمكان رؤيتنا لهم في غير تلك الحالة.

ويَحْتَمِل العموم، وهذا الذي فهمه أكثر العلماء، حتى قال الشافعيّ: من زعم أنه يرى الجنّ أبطلنا شهادته، واستَدَلّ بهذه الآية. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي فيما نُقل عن الشافعيّ إن صحّ نظرٌ؛ لأن حديث الباب يردّه، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم:"حتى تُصبحوا، فتنظروا إليه"، وقال:"يلعب به ولدان أهل المدينة"، فهل بعد هذا النصّ يمكن إنكار رؤيتهم كلّا ثم كلّا، وأما الآية فقد وجّهها العلماء، كما سبق آنفًا، والحاصل أن النفي محمول على الأغلبيّة، أو هو مقيّد بحال رؤيتهم لنا.

وعندي يَحْتَمل أن يكون المنفيّ رؤية الناس لهم عند الإغواء، فهم

ص: 289

يستطيعون أن يغووا من شاءوا، وهو لا يراهم حتى لا يحاول الدفاع عن نفسه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: كتب بعضهم ما نصّه:

[فإن قلت]: أما يُشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطي اللَّه ما لا يُعطيه غيره؟ - يعني قول سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35].

[قلت]: كان سليمان عليه السلام ناشئًا في بيت الملك والنبوّة ووارثًا لهما، فأراد أن يطلب من ربّه معجزةً، فطلب على حسب إلفه ملكًا زائدًا على الممالك زيادة خارقةً للعادة بالغةً حدّ الإعجاز؛ ليكون ذلك دليلًا على نبوّته، قاهرًا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزةً حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله:{لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أسلوب هذا السؤال والجواب فيه سوء أدب؛ إذ مثله لا ينبغي أن يوجّه إلى الأنبياء عليهم السلام وإنما كتبته للتنبيه عليه، فتنبّه أيها الطالب، ولا تغترّ بمثله، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَرَدَّهُ اللَّهُ) أي العفريت، حال كونه (خَاسِئًا") أي ذليلًا صاغرًا مطرودًا مُبعَدًا، وقال في "اللسان": الخاسئ من الكلاب، والخنازير، والشياطين: البعيد الذي لا يُتْرَكُ أن يدنو من الناس، والخاسئ: المطرود، وخَسَأَ الكلبَ يَخْسَؤُهُ خَسْأً وخُسُوءًا، فَخَسَأَ، وانخسأ: طَرَدَهُ، قال الراجز:

كَالْكَلْبِ إِنْ قِيلَ لَهُ اخْسَإِ انْخَسَأْ

أي إن طردته انطرد، وقال الليث: خَسَأت الكلبَ: أي زجرته، فقلت له: اخسَأْ، ويقال خَسَأته فَخَسَأَ: أي أبعدته فبَعُدَ، والخاسئ: الْمُبْعَد، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر الذليل، وخَسَأ الكلبُ بنفسه يَخْسأ خُسُوءًا يتعدى ولا يتعدى. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ) يعني شيخه الثاني إسحاق بن منصور (شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ) المراد أن إسحاق بن منصور قال في روايته: حدَّثنا النضر،

(1)

"لسان العرب" 1/ 65.

ص: 290

قال: أخبرنا شعبة، عن محمد بن زياد، فخالف رواية رفيقه إسحاق بن إبراهيم السابقة في شيئين:

[أحدهما]: أنه قال: أخبرنا شعبةُ عن محمد بن زياد، فعنعن، وقال إسحاق بن إبرهيم:"أخبرنا شعبة، قال: أخبرنا محمد"، فصرّح بالإخبار.

[والثاني]: أنه قال: "محمد بن زياد"، فنسبه إلى أبيه، وفي رواية إسحاق بن إبراهيم:"محمد، وهو ابن زياد"، فلم ينسبه إلى أبيه، بل أتى باسم أبيه بعد كلمة "وهو"؛ إشارةً إلى أن شيخه لم ينسبه، فتفطّن لهذه الدقائق الإسناديّة، فإنها مهمّة جدًّا لطالب علم الحديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصّنف) هنا [8/ 1214 و 1215](541)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(461) و"كتاب العمل في الصلاة"(1210) و"بدء الخلق"(3284) و"أحاديث الأنبياء"(3423) و"التفسير"(4808)، و (النسائيّ) في "الصلاة" من "الكبرى"(1/ 16 - 187)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 298)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1729 و 1730 و 1731)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1191)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(646)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن العمل القليل في الصلاة للحاجة، كدفع الأذى، أو لما أذن الشرع فيه، كدفع المارّ بين يديه، وإن أدى إلى المضاربة، أو المقاتلة لا يبطلها.

2 -

(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله: فيه دليل على أن رؤية الجنّ للبشر غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لَطُف فدركه غير ممتنع أصلًا، وأما قوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 72]، فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم اللَّه تعالى

ص: 291

بذلك، وابتلاهم؛ ليَفْزَعُوا إليه، ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبون الأمان من غائلتهم، ولا يُنكَر أن يكون حكم الخاصّ والنادر من المصطفَينَ من عباده بخلاف ذلك.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: لا حاجة إلى هذا التأويل؛ إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقًا، إذ المستفاد منها أن رؤيته إيانا مُقَيَّدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قطّ، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تعقّب الكرمانيّ وجيهٌ، وقد تقدّم البحث بأتمّ من هذا، فتنبّه.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناريّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن عدوّ اللَّه إبليس جاء بشهاب من نار؛ ليجعله في وجهي"، وقال:"رأيت ليلة أُسري بي عفريتًا من الجنّ يطلبني بشُعْلة من نار، كلما التفتُّ إليه رأيته"، ولو كانوا باقين على عنصرهم الناريّ، وأنهم نار محرقة، لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان، أو العفريت منهم بشعلة من نار، ولكانت يد الشيطان، أو العفريت، أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه، كما تُحْرِق الآدمي النارُ الحقيقية بمجرد اللمس، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر، حتى صار إلى البرد، ويؤيِّد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى وجدت بَرْدَ لسانه على يدي"، وفي رواية:"برد لعابه"، قاله في "العمدة"

(1)

.

4 -

(ومنها): أنه يدلّ على أن أصحاب سليمان عليه السلام كانوا يرون الجن، وهو من دلائل نبوته، ولولا مشاهدتهم إياهم لم تكن تقوم الحجة له لمكانته عليهم.

5 -

(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: رؤيته صلى الله عليه وسلم للعفريت هو مما خُصّ به كما خُصّ برؤية الملائكة، وقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، ورأى النبي الشيطان في هذه الليلة، وأقدره اللَّه عليه؛ لتجسّمه لأن الأجسام ممكن القدرة

(1)

"عمدة القاري" 4/ 345 - 346.

ص: 292

عليها، ولكنه أُلْقِي في رُوعه ما وُهِب سليمان عليه السلام، فلم يُنَفِّذ ما قَوِي عليه من حبسه؛ رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصًا على إجابة اللَّه تعالى دعوته، وأما غير النبيّ صلى الله عليه وسلم من الناس فلا يُمَكَّن منه، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره؛ لقوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ} الآية [الأعراف: 72]، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وَجَده في بيته على صورة حَيّة فقتله، فمات الرجل به، فبَيَّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:"إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم من هذه الهوامّ شيئًا فآذنوه ثلاثًا، فإن بدا لكم فاقتلوه"، رواه الترمذيّ، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: (اعلم): أن الجن يتصورون في صور شتى، ويتشكلون في صور الإنسان، والبهائم، والحيات، والعقارب، والإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والبغال، والحمير، وفي صورة الطيور.

وقال القاضي أبو يعلى: ولا قدرة للشيطان على تغيير خلقتهم، والانتقال في الصور، إنما يجوز أن يُعَلّمهم اللَّه كلمات وضربًا من ضروب الأفعال، إذا فعله وتكلم به نقله اللَّه من صورة إلى صورة أخرى، وأما أن يتصور بنفسه فذلك محالٌ؛ لأن انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية، وتفريق الأجزاء، وإذا انتقضت بطلت الحياة، والقول في تشكل الملائكة كذلك. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كلام أبي يعلى ليس واضحًا، إن أراد نفي قدرة الجنّ على تصوّرهم بالصور المختلفة دون أن يأذن اللَّه به، فهذا حقّ، وإن أراد أنهم لا يتشكّلون بإذن اللَّه تعالى بأشكال مختلفة، فهذا ردّ للنصوص الكثيرة، كقصّة الحيّة المذكورة، وقصّة أسير أبي هريرة حينما كان يحفظ تمرة الصدقة، وهو في الصحيح، وغير ذلك كثير وكثير، فليُتأمّل كلامه، واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أنه دليلٌ على إباحة ربط الأسير في المسجد، وعلى هذا بَوّب الإمام البخاريّ في "الصحيح"، فقال:"باب الأسير، أو الغريم يُربط في المسجد"، ومن هذا قال المهلَّب: إن في الحديث جواز ربط مَن خُشِي هُروبه بحق عليه، أو ديني، والتوثُّق منه في المسجد، أو غيره.

ص: 293

[فإن قلت]: كيف قال: قوله: "فلقد هممت أن أربطه"، وهو في الصلاة؟.

[أجيب]: بأنه يَحْتِمِل أن يكون ربطه بعد تمام الصلاة، أو يربطه بوجه كان شغلًا يسيرًا، فلا تَفْسُد به الصلاة، قاله في "العمدة".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الثاني هو المعتمد، فهو ربط يسير لا يُنافي الصلاة، فالذي أقدره اللَّه على هذا العفريت القويّ الشديد؛ معجزة له، لا يُستبعد أن يكون ربطه بأيسر وجه، وأسهل طريق، واللَّه تعالى على كلّ شيء قديرٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1215]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ قَوْلُهُ:"فَذَعَتُّهُ"، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ:"فَدَعَتُّهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بندار العبديّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، ويقال: كان اسمه مروان، ثقةٌ حافظ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) الضمير لمحمد بن جعفر، وشبابة.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 294

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء، أي بإسناد شعبة المتقدّم، وهو: عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه، ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(3423)

حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن عفريتًا من الجنّ تَفَلَّت البارحة؛ ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني اللَّه منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إِليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، فرددته خاسئًا". انتهى.

وأما رواية شَبَابة، فساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 467) فقال:

(1729)

حدّثنا عليّ بن سهل البزاز، قال: ثنا شبابة بن سَوّار، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة يقول: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاةً، فقال:"إن الشيطان عَرَضَ لي ففسَهُ على أن يقطع عليّ الصلاةَ، فأمكنني اللَّه منه، فأخذته، فلقد أردت أن أُوثقه إلى سارية، حتى تُصبِحون فتنظرون إليه، فذكرت قول سليمان بن داود: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، فردّه اللَّه خائبًا". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1216]

(542) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوَيَةَ بْنِ صَالِحٍ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَولَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ:"أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ"، ثُمَّ قَالَ:"أَلْعَنُكَ بِلَعْنَة اللَّهِ" ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ

(2)

، كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(2)

وفي نسخة: "يديه".

ص: 295

فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا، لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ، قَالَ

(1)

: "إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ؛ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: "أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مُوثَقًا، يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبث [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْب) المصريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ) بن حُدير الْحَضْرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الحمصيّ، قاضيَ الأندلس، صدوقُ، له أوهامٌ [7](ت 158)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

4 -

(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ) الإياديّ، أبو شعيب الدمشقيّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 أو 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

5 -

(أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) هو: عائذ اللَّه بن عبد اللَّه، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة رضي الله عنهم، ومات بالشام (80)، وكان عالم أهل الشام بعد أبي الدرداء رضي الله عنه (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

6 -

(أَبُو الدَّرْدَاءِ) هو: عُمير بن زيد بن قيس الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه في آخر خلافة عثمان، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ والترمذيّ، ومعاوية بن صالح، فما أخرج له البخاريّ.

(1)

وفي نسخة: "فقال".

ص: 296

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، وابن وهب، فمصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ربيعة، عن أبي إدريس.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد رضي الله عنه، وقيل غير ذلك في اسمه، واسم أبيه، أنه (قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) إلى الصلاة، ولفظ النسائيّ:"قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلي"(فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ") أي أعتصم، وأتحصّن من شرّك باللَّه الذي بيده ناصية كلّ شيء (ثُمَّ قَالَ:"أَلْعَنُكَ بِلَعْنَة اللَّهِ") أي أدعو عليك بأن يَطرُدك اللَّه تعالى من رحمته، ويُبعدك من خيراته (ثَلَاثًا) أي قال ذلك ثلاث مرّات (وَبَسَطَ يَدَهُ) أي مَدَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يده الشريفة، وفي نسخة:"يديه"(كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا) أي كأنه يتعاطى شيئًا أمامه (فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ) أي انتهى منها، وسلّم (قُلْنَا) أي الصحابة الحاضرون تلك الصلاة، والسامعون ما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمشاهدون ما فعله من الأمور الغريبة (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا) من القول الغريب الذي (لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ) الوقت (وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ) الجملة حاليّة من المفعول، إن كانت "رأى" بصريّةً؛ لأنها لا تتعدّى إلا إلى مفعول واحد، أي أبصرناك حال كونك باسطًا يدك كأنك تتناول شيئًا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة:"فقال"("إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ) بالنصب على البدليّة، وهو بكسر الهمزة: اسم أعجميّ، ولهذا لم يُصرف؛ للعلميّة والعُجمة، وقيل: عربيّ مشتقّ من الإبلاس، وهو اليأس، ورُدّ بأنه لو كان عربيًّا لانصرف، كما في نظائره، نحو إجفيل

(1)

، وإخريط

(2)

، قاله الفيّوميّ

(3)

.

(جَاءَ بِشِهَابٍ) بكسر الشين المعجمة: شُعلة نار ساطعة، والجمع: شُهُبٌ، ككتاب وكُتُب، وشِهْبانٌ بالضمّ والكسر، وأَشهُبٌ، أفاده في "القاموس".

وفي التنزيل العزيز: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7]، قال الفرّاء: نوّن

(1)

"الإجفيل" بالكسر: الجبان. "ق".

(2)

"الأخريط" بالكسر: "نباتٌ من الْحَمَض". "ق".

(3)

"المصباح المنير" 1/ 60.

ص: 297

عاصم والأعمش فيها، قال: وأضافه أهل المدينة {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} ، قال: وهذا من إضافة الشيء إلى نفسه، كما قالوا: حبّة الخضراء، ومسجد الجامع، يُضاف الشيء إلى نفسه، ويضاف أوائلها إلى ثوانيها، وهي هي في المعنى، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)} [الواقعة: 95]، وروى الأزهريّ عن ابن السِّكِّيت، قال: الشهاب: الْعُود الذي فيه نارٌ، قال: وقال أبو الهيثم: الشهاب: أصل خشبة، أو عُود فيها نارٌ ساطعةٌ، قاله في "اللسان".

وقوله: (مِنْ نَارٍ) متعلّق بصفة لـ "شهاب"، كما تقدّم آنفًا في عبارة "اللسان".

(لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي) أي ليجعل ذلك الشهاب في وجهه صلى الله عليه وسلم حتى يُحرقه به (فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي قلت هذا الدعاء؛ تحصّنًا باللَّه تعالى الذي قاله حين قال حسدًا، وتجبّرًا وَتكبّرًا:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، فقال له:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65](ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ) قال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل تسميتها تامّةً، أي لا نقص فيها، ويَحْتَمِل الواجبة له المستحقّة عليه، أو الموجبة عليه العذاب سرمدًا.

قال: وفيه دليل على جواز الدعاء لغيره وعلى غيره بصيغة المخاطبة؛ خلافًا لابن شعبان من أصحاب مالك في قوله: إن الصلاة تَبْطُل بذاك.

قال النووي: وكذا قال أصحابنا: تبطل الصلاة بالدعاء لغيره بصيغة المخاطبة، كقوله للعاطس: رحمك اللَّه، أو يرحمك اللَّه، ولمن سَلَّم عليه: وعليك السلام، وأشباهه، والأحاديث السابقة في الباب الذي قبله في السلام على المصلي تؤيد ما قاله أصحابنا، فيُتَأَوّل هذا الحديث، أو يُحْمَل على أنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو غير ذلك.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن هذا الدعاء على إبليس بالخطاب خاصّ، فيُقتَصَر عليه، فيكون مخصوصًا من عموم النهي عن الدعاء بالخطاب، كالسلام، وتشميت العاطس، وأما حمله على أنه كان قبل تحريم الكلام، ففيه نظر؛ لعدم معرفة التاريخ، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 298

(فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ) أي لم يتأخّر إبليس عما أراده من إلحاق الضرر به صلى الله عليه وسلم، بل تمادى عليه، وقوله:(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ظرف لما قبله، ويَحْتَمل أن يكون ظرفًا لـ "قلت" من قوله:"قلت: ألعنك بلعنة اللَّه"، أي قلت هذا الدعاء ثلاث مرّات (ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ) يعني أنه لَمّا تمادى على غيّه، ولم يتراجع أراد صلى الله عليه وسلم أن يمسكه، ويعاقبه، وفيه أن اللَّه تعالى أقدره على ذلك، وأمكنه منه، ويؤيّد ذلك ما تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وإن اللَّه أمكنني منه، فذعته"(وَاللَّهِ) فيه جواز الحلف من غير استحلاف؛ لتفخيم ما يخبر به الإنسان وتعظيمه، والمبالغة في صحّته وصدقه، وقد كثرت الأحاديث بمثل هذا، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

(لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ) عليه السلام بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35].

قال القاضي عياض رحمه الله: معناه أنه مُخْتَصّ بهذا، فامتنع نبينا صلى الله عليه وسلم من ربطه، إما لأنه لم يَقْدِر عليه لذلك، وإما لكونه لَمّا تذكّر ذلك لم يتعاط ذلك؛ لظنه أنه لم يَقْدِر عليه، أو تواضعًا وتأدبًا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كونه تركه تواضعًا وتأدّبًا هو الحقّ؛ وأما تركه لعدم القوة عليه فيردّه قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن اللَّه أمكنني منه"، فقد أخبر أنه ممكَّنٌ من أخذه، وعقابه، وقادر عليه؛ إلا أنه لَمّا تذكّر دعوة سليمان عليه السلام تأدب معه، فتركه؛ تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.

(لَأَصْبَحَ مُوثَقًا) اسم مفعول، من أوثقه: إذا شدّه، وربطه، أي مربوطًا.

والظاهر أن هذه الواقعة كانت بالليل، فلذلك قال:"لأصبح"، ويَحْتَمل أن يكون "أصبح" بمعنى "صار"، أي لصار موثقًا.

وأما قصّة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضية، فقد صُرِّح فيها بأنها كانت ليلًا، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن عفريتًا من الجنّ جعل يَفْتِك عليّ البارحة"، فالبارحة لا تُطلق إلا على الليلة الماضية، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ")"الوِلدان": بكسر الواو جمع وَليد بمعنى

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 31.

ص: 299

الصبيّ، والجملة حال من فاعل "أصبح"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 1216](542)، و (النسائيّ) في "السهو"(3/ 13)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1979)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1732)، و (أبو نعيم) في "مسنده"(1192)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 263 - 264)، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه قبله.

[تنبيه]: قد ذكرت في "شرح النسائيّ" بحثًا نفيسًا فيما يتعلّق بالجنّ، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ جَوَازِ حَمْلِ الصِّبْيَانِ فِي الصَّلَاةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1217]

(543) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: حَدَّثَكَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا؟ قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن

ص: 300

البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب أيضًا.

4 -

(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

5 -

(عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، أبو الحارث المدنيّ، وأمه حَنْتَمَةُ بنت عبد الرحمن بن هشام، ثقة عابدٌ [4].

رَوَى عن أبيه، وخاله أبي بكر بن عبد الرحمن، وأنس، وعمرو بن سُلَيم الزُّرَقيّ، وعوف بن الحارث رضيع عائشة، وصالح بن خَوّات بن جبير.

ورَوَى عنه أخوه عمر، وابن أخيه مصعب بن ثابت، وابن ابن عمه عمر بن عبد اللَّه بن عروة بن الزبير، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه: ثقة من أوثق الناس. وقال ابن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح. وقال مالك: كان يغتسل كل يوم، ويواصل صوم سبع عشرة يومين وليلة. وقال ابن سعد: كان عابدًا فاضلًا، وكان ثقة مأمونًا، وله أحاديث يسيرة. وقال الخليلي: أحاديثه كلها يُحتَجّ بها. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان عالمًا فاضلًا، مات سنة (121). وقال الواقدي: مات قبل هشام أو بعده بقليل، قال: ومات هشام سنة أربع وعشرين ومائة. والصحيح أنه مات سنة (5).

أخرج له الجماعة، وله عند الترمذيّ حديث واحد في الأمر بتحية المسجد، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (543) وأعاده بعده، و (579) وأعاده بعده، و (714).

6 -

(عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيُّ) -بضمّ الزاي، وفتح الراء، بعدها قاف- هو: عمرو بن سُليم بن خَلْدة الأنصاريّ، ثقةٌ، من كبار التابعين [2](ت 104)(ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.

7 -

(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ الحارث، أو عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمَةَ السَّلَميّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

ص: 301

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، فرّق بينهم بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة الأداء، فعبد اللَّه بن مسلمة، وقتيبة قالا: حدّثنا مالك، عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير، فبيّنا أنهما أخذاه عن طريق التحديث، وأما يحيى بن يحيى، فقال: قلت لمالك: أحدّثك عامر بن عبد اللَّه بن الزبير؟، فبيّن أنه أخذه عن طريق العرض، فتنبّه لهذه الدقائق الإسناديّة، وباللَّه تعالى التوفيق.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه القعنبي، فما أخرج له ابن ماجه، ويحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، ويحيى وقتيبة دخلا المدينة أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عامر، عن عمرو.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، شهِد أحدًا وما بعدها، وكان يقال له: فارس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

6 -

(ومنها): أن رواية شيخه يحيى بن يحيى خرجت مخرج السؤال والجواب؛ لأنه قال: قلت لمالك: حدّثك عامر بن عبد اللَّه بن الزبير، فساق الحديث، فأجابه مالك بقوله:"نعم"، وهذا هو النوع المسمّى في مصطلح أهل الحديث بالعرض، ويقال له أيضًا: القراءة، وهو صحيح عند جمهور المحدّثين، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بعد ذكره النوع المسمّى بالسماع، فقال:

وَبَعْدَ ذَا قِرَاءَةٌ عَرْضًا دَعَوْا

قَرَأْتَهَا مِنْ حِفْظٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ

سَمِعْتَ مِنْ قَارٍ لَهُ وَالْمُسْمِعُ

يَحْفَظُهُ أَوْ ثِقَةٌ مُسْتَمِعُ

أَوْ أَمْسَكَ الْمُسْمِعُ أَصْلًا أَوْ جَرَى

عَلَى الصَّحِيحِ ثِقَةٌ أَوْ مَنْ قَرَا

وَالأَكْثَرُونَ حَكَوُا الإِجْمَاعَا

أَخْذًا بِهَا وَأَلْغَوُا النِّزَاعَا

وَكَوْنُهَا أَرْجَحَ مِمَّا قَبْلُ أَوْ

سَاوَتْهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ خُلْفٌ حَكَوْا

واللَّه تعالى أعلم.

ص: 302

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ) -بضم الزاي، وفتح الراء-: نسبة إلى زُرَيق ابن عامر بن زُرَيق بن عبدَ حارثة بن مالك بن عصب بن جشم بن الخزرج.

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه، وفي رواية بكير بن الأشجّ، عن عمرو بن سُليم الآتية:"قال: سمعت أبا قتادة"، فصرّح بالسماع (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي) وفي الرواية التالية:"يؤمّ الناس"(وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ) جملة اسمية في محل النصب على الحال، ولفظ "حاملٌ" بالتنوين، و"أمامةَ" بالنصب، وهو المشهور، ويروى بالإضافة، كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] بالوجهين في القراءة.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: فإن قلت: قال النحاة: إذا كان اسم الفاعل للماضي وجبت الإضافة، فما وجه عمله؟.

قلت: إذا أريد به حكاية الحال الماضية جاز إعماله، كما في قوله تعالى:{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} الآية [الكهف: 18]

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه الكرمانيّ: أن نصب "حامل" لـ "أمامة" هنا، وإن كان بمعنى الماضي؛ لأجل حكاية الحال الماضية، كالآية المذكورة، وإلى عمل اسم الفاعل، وشروطه أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

كَفِعْلِهِ اسْمُ فَاعِلٍ فِي الْعَمَلِ

إِنْ كَانَ عَنْ مُضِيِّهِ بِمَعْزِلِ

وَوَلِيَ اسْتِفَهَامًا أَوْ حَرْفَ نَدَا

أَوْ نَفْيًا أَوْ جَا صِفَةً أَوْ مُسْنَدَا

(أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) و"أمامة" -بضم الهمزة، وتخفيف الميمين- بنت زينب رضي الله عنها، قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: تزوجها عليّ بعد موت فاطمة رضي الله عنها، زَوّجها منه الزبير بن العوام، وكان أبوها قد أوصى بها إلى الزبير، فلما قتل عليّ، وآمَتْ منه أُمامة، قالت أم الهيثم النخعية [من الوافر]:

أَشَابَ ذَوَائِبِي وَأَذَلَّ رَكْبِي

أُمَامَةُ حِينَ فَارَقَتِ الْقَرِينَا

تُطِيفُ بِهِ لِحَاجَتِهَا إِلَيْهِ

فَلَمَّا اسْتَيْأَسَتْ رَفَعَتْ رَنِينَا

(1)

"عمدة القاري" 4/ 441.

ص: 303

وكان عليّ رضي الله عنه قد أمر المغيرة بن نوفل بن الحارث أن يتزوج أمامة بنت أبي العاص، فتزوجها المغيرة، فولدت له يحيى، وبه كان يُكنى، وهلكت عند المغيرة.

وقيل: إنها لم تلد لعلي، ولا للمغيرة، وقال الزبير بن بكار: ليس لزينب عقب

(1)

.

وقال في "الفتح": كانت صغيرة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتزوجها عليّ بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها بوصية منها، ولم تُعْقِب. انتهى

(2)

.

(وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ) قال الكرمانيّ رحمه الله: الإضافة في قوله: "بنت زينب" بمعنى اللام، فأظهر في المعطوف، وهو قوله:"ولأبي العاص" ما هو مقدَّرٌ في المعطوف عليه. انتهى.

وأشار ابن العطار إلى أن الحكمة في ذلك كون والد أمامة كان إذ ذاك مشركًا، فنُسبت إلى أمها؛ تنبيهًا على أن الولد يُنْسَب إلى أشرف أبويه دينًا ونسبًا، ثم بَيَّنَ أنها من أبي العاص تبيينًا لحقيقة نسبها. انتهى.

وهذا السياق لمالك وحده، وقد رواه غيره عن عامر بن عبد اللَّه، فنسبوها إلى أبيها، ثم بَيَّنُوا أنها بنت زينب، ففي الرواية التالية:"وأمامةُ بنت أبي العاص، وهي ابنة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم على عاتقه"، ولأحمد من طريق المقبريّ، عن عمرو بن سُليم:"يَحْمِل أمامة بنت أبي العاص، وأمها زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عاتقه"، قاله في "الفتح".

ووقع عند البخاريّ: "ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس" فقال في "العمدة": قوله: ولأبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وفي أحاديث "الموطأ" للدارقطنيّ: قال ابن نافع، وعبد اللَّه بن يوسف، والقعنبيّ في رواية إسحاق عنه، وابن وهب، وابن بُكير، وابن القاسم، وأيوب بن صالح، عن مالك:"ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس"، وقال محمد بن الحسن:"ولأبي العاص بن الربيع" مثل قول مَعْن، وأبي مُصْعَب.

وفي "التمهيد": رواه يحيى: "ولأبي العاص بن ربيعة" بهاء التأنيث،

(1)

راجع: "الإصابة" 12/ 128 - 129.

(2)

"الفتح" 1/ 703.

ص: 304

وتابعه الشافعيّ، ومُطَرِّف، وابن نافع، والصواب "ابن الربيع"، وكذا أصلحه ابن وضاح في رواية يحيى.

وقال عياض: وقال الأصيليّ: هو ابن ربيع بن ربيعة، فنسبه مالك إلى جدّه، قال عياض: وهذا غير معروف، ونسبه عند أهل الأخبار باتفاقهم: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف.

وقال الكرمانيّ: البخاري نسبه مخالفًا للقوم من جهتين، قال: ربيعة بحرف التأنيث، وعندهم الربيع بدونه، وقال: ربيعة بن عبد شمس، وهم قالوا: ربيع بن عبد العزى بن عبد شمس.

قال العينيّ: لو اظلع الكرمانيّ على كلام القوم لما قال: نسبه البخاريّ مخالفًا للقوم من جهتين، على أن الذي عندنا في نسختنا: الربيع بن عبد شمس بالنسبة إلى جدّه. انتهى

(1)

.

واختُلِف في اسم أبي العاص، فقيل: ياسر، وقيل: لَقِيط، وقيل: مِهْشَم، وقال الزبير، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه: اسمه القاسم، وهو أكثر في اسمه، وقال أبو عمر: والأكثر لَقِيط، وهو مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وهاجر، وردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنته زينب، وماتت معه، وأثنى عليه في مصاهرته، وكانت وفاته في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

(2)

.

[تنبيه]: كانت زينب رضي الله عنها أكبر بنات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت فاطمة أصغرهنّ وأحبهنّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان أولاد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة رضي الله عنها، سوى إبراهيم، فإنه من مارية القبطية رضي الله عنها، تزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها قبل البعثة، قال الزهريّ: وكان عمره يومئذ إحدى وعشرين سنة، وقيل: خمسًا وعشرين سنة، زمانَ بُنِيَتِ الكعبة، قاله الواقديّ، وزاد: ولها من العمر خمس وأربعون سنة، وقيل: كان عمره ثلاثين سنةً، وعمرها أربعين سنةً، فولدت له القاسم، وبه كان يكنى، والطاهر، وزينب، ورُقَيَّة، وأم كلثوم، وفاطمةُ وتزوج بزينب أبو العاص بن الربيع، فولدت منه عليًّا وأُمامة هذه

(1)

"عمدة القاري" 4/ 441.

(2)

"الفتح" 1/ 704، و"عمدة القاري" 4/ 441.

ص: 305

المذكورة في هذا الحديث، تزوجها عليّ بن أبي طالب بعد موت فاطمة، فولدت منه محمدًا، وكانت وفاة زينب في ثمانٍ، قاله الواقديّ، وقال قتادة: في أول سنة ثمان

(1)

.

(فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا) وفي الرواية التالية: "فاذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها"، وفي رواية بُكير الآتية:"فإذا سجد وضعها"، وهذه رواية البخاريّ، قال في "الفتح": قوله: "فإذا سجد وضعها" كذا لمالك أيضًا.

ورواه مسلم أيضًا من طريق عثمان بن أبي سليمان، ومحمد بن عجلان، والنسائيّ من طريق الزُّبَيديّ، وأحمد من طريق ابن جريج، وابن حبان من طريق أبي العُمَيس، كلهم عن عامر بن عبد اللَّه، شيخ مالك، فقالوا:"إذا ركع وضعها".

ولأبي داود من طريق المقبريّ، عن عمرو بن سُليم:"حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده قام وأخذها، فردّها في مكانها"، وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه صلى الله عليه وسلم، لا منها، بخلاف ما أوّله الخطابيّ، حيث قال: يُشبه أن تكون الصبية كانت قد أَلِفَته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته، فيَنْهَض من سجوده، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها، قال: هذا وجهه عندي.

وقال ابن دقيق العيد: من المعلوم أن لفظ "حَمَلَ" لا يساوي لفظ "وضع" في اقتضاء فعل الفاعل؛ لأنا نقول: فلان حَمَل كذا، ولو كان غيره حَمَّله، بخلاف وضَعَ، فَعلى هذا فالفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم هو الوضع، لا الرفع، فَيَقِلّ العمل، قال: وقد كنت أحسب هذا حسنًا إلى أن رأيت في بعض طرقه الصحيحة: "فإذا قام أعادها".

وهذه هي رواية مسلم الآتية، ورواية أبي داود التي قدّمناها أصرح في ذلك، وهي:"ثم أخذها فردّها في مكانها"، ولأحمد من طريق ابن جريج:"وإذا قام حملها، فوضعها على رقبته".

(1)

"عمدة القاري" 4/ 441.

ص: 306

(وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا؟) أي إذا أراد أن يسجد وضع أمامة على الأرض حتى يتمكنّ من أداء السجود على وجهه.

(قَالَ يَحْيَى) بن يحيى في روايته (قَالَ مَالِكٌ: نَعَمْ) أي حدّثني عامر بن عبد اللَّه بن الزبير بهذا الحديث.

وزاد في رواية النسائيّ: "حتى قضى صلاته، وهو يفعل ذلك بها"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 1217 و 1218 و 1219 و 1220](543)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(516)، و"الأدب"(5996)، و (أبو داود) في "الصلاة"(917 و 918 و 919 و 920)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 45)، و"السهو"(3/ 10)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 170)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 96)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 109)، و (الحميديّ) في "مسنده"(422)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 295 و 296 و 297 و 304 و 310 و 311)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 316)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1109 و 1110)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(214)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 1066 و 1067 و 1068 و 1069 و 1070 و 1071)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1734 و 1735 و 1736 و 1737 و 1738 و 1739 و 1740)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1193 و 1194 و 1195 و 1196)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 127)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز حمل الصبيان في الصلاة.

2 -

(ومنها): بيان أن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة حتى تتحقّق نجاستها.

ص: 307

3 -

(ومنها): صحّة صلاة من حمل آدميًّا، أو حيوانًا طاهرًا، من طير، أو شاة، أو غيرهما.

قال في "الفتح": وللشافعية تفصيل بين المستجْمِر وغيره، وقد يجاب عن هذه القصة بأنها واقعة حال، فيَحْتَمِلُ أن تكون أُمامة كانت حينئذ قد غسلت.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا فيه نظرٌ، بل الظاهر أن الحمل جائز إلى أن تُتَحَقَّق النجاسة، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن الفعل القليل لا يُبطل الصلاة، وأن الأفعال إذا تعدّدت، ولم تتوال، بل تفرّقت لا تُبطل الصلاة.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع مع الصبيان، وسائر الضَّعَفَة، ورحمته، وملاطفته لهم.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز إدخال الصبيان المساجد، وقد بوّب عليه النسائيّ في "سننه"، واْما ما أخرجه الطبرانيّ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "جَنِّبُوا مساجدكم صبيانكم، وخصوماتكم، وحدودكم، وشراءكم، وبيعكم، وجَمِّروها يوم جُمَعِكم، واجعلوا على أبوابها مطاهركم"؛ فهو منقطع؛ لأن الراوي عن معاذ مكحول، وهو لم يسمع منه.

وكذا ما أخرجه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسَلَّ سيوفكم، واتِّخِذوا على أبوابها المطاهر، وجَمِّروها في الْجُمَع"، فهو ضعيف؛ لأن في سنده الحارث بن شهاب، وهو ضعيف.

وقد عارضهما حديث أبي قتادة رضي الله عنه المذكور في الباب، وهو متفق عليه، وحديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه أيضًا: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأسمع بكاء الصبي، وأنا في الصلاة، فأخفف مخافة أن تُفْتَن أمه".

وعلى تقدير الصحة، فيجمع بين الأحاديث بِحَمل الأمر بالتجنيب على الندب، كما قال العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، أو بأنه تُنَزَّه المساجد عمن لا يؤمن حَدَثه فيها، واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): أن بعضهم استدلّ به على أن لمس المحارم، أو من لا

ص: 308

تُشْتَهَى غير ناقض للطهارة، قال ابن دقيق العيد: وأجيب عنه بأنه يَحْتَمِل أن يكون من وراء حائل، وهذا يُسْتَمَدّ من أن حكايات الحال لا عموم لها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: مسألة نقض الطهارة بلمس المرأة قد قدمنا تحقيقها في "كتاب الطهارة"، وأن الراجح من أقوال أهل العلم فيها القول بعدم النقض مطلقًا، لرجحان أدلتّه، راجع المسألة في محلّها، وباللَّه تعالى التوفيق.

8 -

(ومنها): ما قاله الفاكهيّ رحمه الله: وكأن السر في حمله صلى الله عليه وسلم أمامة رضي الله عنها في الصلاة دفع ما كانت العرب تَأْلَفُه من كراهة البنات، وحملهنّ، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة، للمبالغة في رَدْعهم، والبيانُ بالفعل قد يكون أقوى من القول، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم حمل الصبيّ في الصلاة:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: وللمرء أن يَحْمِلَ الصبيّ في الصلاة المكتوبة والتطوّع، ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَمَلَ أُمامة ابنة أبي العاص في الصلاة، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو ثور، وحَكَى أبو ثور عن الكوفيّ أنه قال: المصلّي يَحْمل في الصلاة، أو يَفتح بابًا، أو مَضَى خلف دابّة، قال: صلاته فاسدة، قال ابن المنذر رحمه الله: والسنّة مُستغنًى بها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلى ذلك أنه عَمَلٌ كثيرٌ، فروى ابن القاسم، عن مالك، أنه كان في النافلة، وهو تأويل بعيدٌ، فإن ظاهر الأحاديث أنه كان في فريضة، وسبقه إلى استبعاد ذلك المازريّ وعياض؛ لما ثبت في مسلم:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤم الناس، وأُمامة على عاتقه"، قال المازريّ: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة.

وأصرح من هذا ما أخرجه أبو داود بلفظ: "بينما نحن ننتظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الظهر، أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج علينا وأمامةُ على

(1)

"الأوسط" 3/ 277 - 278.

ص: 309

عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبّر فكبّرنا، وهي في مكانها".

وعند الزبير بن بكّار، وتبعه السُّهَيليّ:"الصبح"، ووَهِمَ من عزاه لـ "الصحيحين".

قال القرطبيّ: ورَوَى أشهب، وعبد اللَّه بن نافع، عن مالك: أن ذلك للضرورة، حيث لم يَجِد من يكفيه أمرها. انتهى.

وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبَكَت، وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها.

وفَرَّقَ بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة، وقال الباجيّ: إن وَجَد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما.

قال القرطبيّ: ورَوَى عبد اللَّه بن يوسف التنيسيّ، عن مالك: أن الحديث منسوخ.

قال الحافظ: رَوَى ذلك الإسماعيليّ عَقِبَ روايته للحديث من طريقه، لكنه غير صريح، ولفظه: قال التنيسيّ: قال مالك: من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا.

وقال ابن عبد البر: لعله نُسِخ بتحريم العمل في الصلاة.

وتُعُقّب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الصلاة لَشُغْلًا"؛ لأن ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة قطعًا بمدّة مديدة.

وذَكَرَ عياض عن بعضهم أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لكونه كان معصومًا من أن تبول وهو حاملها، ورُدّ بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مَدْخَل للقياس في مثل ذلك.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لكونه معصومًا من أن تبول. . . إلخ، منقوض ببول الحسن أو الحسين رضي الله عنهما على بطنه صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصبيّ الذي جاءت به أم قيس، كما تقدّم في "الطهارة"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير مُتَوَالٍ؛ لوجود الطمأنينة في أركان صلاته صلى الله عليه وسلم.

ص: 310

وقال النوويّ رحمه الله: ادَّعَى بعض المالكية أن هذا الحديث منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكل ذلك دعاوي باطلة مردودة، لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع؛ لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفوّ عنه، وثياب الأطفال، وأجسادهم محمولة على الطهارة، حتى تَتَبَيَّن النجاسة، والأعمال في الصلاة لا تُبطلها إذا قَلّت، أو تفرّقت، ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك، وفَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا بيانًا للجواز، وتنبيهًا به على هذه القواعد التي ذكرتها.

قال: وهذا يَرُدّ ما ادّعاه الإمام أبو سليمان الخطابيّ أن هذا الفعل يُشبه أن يكون كان بغير تعمد، فحَمَلها في الصلاة؛ لكونها كانت تتعلق به صلى الله عليه وسلم فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قال: ولا يُتَوَهَّم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى عمدًا؛ لأنه عمل كثير، ويَشْغَل القلب، وإذا كانت الخميصة شغلته فكيف لا يشغله هذا؟. انتهى كلام الخطابيّ رحمه الله.

قال النوويّ: وهو باطلٌ ودعوى مجردةٌ، ومما يرُدُّها قوله في "صحيح مسلم":"فإذا قام حملها"، وقوله:"فإذا رفع من السجود أعادها"، وقوله في رواية غير مسلم:"خرج علينا حاملًا أمامة، فصلى. . . " فذكر الحديث.

قال: وأما قضية الخميصة، فلأنها تَشْغَل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلِّم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد، مما ذكرناه وغيره، فأُحِلّ ذلك الشغلُ لهذه الفوائد، بخلاف الخميصة.

فالصواب الذي لا مَعْدِلَ عنه أن الحديث كان لبيان الجواز، والتنبيه على هذه الفوائد، فهو جائز لنا، وشرع مُستَمِرّ للمسلمين إلى يوم الدين، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد النوويّ في تحقيق هذه المسألة، وأفاد.

وحاصله جواز حمل الصبيان في الصلاة فرضًا كانت أو نفلًا، وأن ذلك ليس بعمل كثير يُبطل الصلاة؛ لعدم تواليه، وإنما يُبطل الصلاة العمل الكثير، أو المتوالي، وبهذا يحصل الجمع بين حديث الباب، وحديث:"إن في الصلاة لشُغلًا"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 311

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1218]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَابْنِ عَجْلَانَ، سَمِعَا عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

يَؤُمُّ النَّاسَ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، وَهِيَ ابْنَةُ

(2)

زينَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ أَعَادَهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) بن جُبير بن مُطْعِم بن عديّ بن نوفل النوفليّ المكيّ قاضيها، ثقةٌ [6].

رَوَى عن عمه نافع بن جبير، وابن عمه سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، وعامر بن عبد اللَّه بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن جبير، وحمزة بن عبد اللَّه بن عمر، وغيرهم.

ورَوَى عنه إسماعيل بن أمية، وابن جريج، وابن إسحاق، وابن عيينة، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، وابن سعد، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان قاضيًا على مكة، وزعم ابن سعد أن اسم أبي سليمان محمد، وقال أبو مسلم المستملي في "تاريخه": أخبرني عبد اللَّه بن رجاء أنه كان قاضيًا على مكة، وقال العجليّ: مكيّ ثقةٌ.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم

(1)

وفي نسخة: "رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم".

(2)

وفي نسخة: "وهي بنت".

ص: 312

(543)

، وحديث (732):"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان كثير من صلاته، وهو جالس".

5 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد بن عجلان القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

والباقون تقدّموا قبله، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1219]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمِ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ، يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لِلنَّاسِ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عُنُقِهِ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه المذكور في الباب الماضي.

3 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) نزيل مصر، تقدّم قريبًا.

4 -

(مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْر) بن عبد اللَّه بن الأشجّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، صدوقٌ، سمع من أبيه قليلًا [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

5 -

(أَبُوهُ) بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 313

وقوله: (يُصَلِّي لِلنَّاسِ) أي إمامًا بهم، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1220]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، جَمِيعًا عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، سَمِعَ أَبا قَتَادَةَ، يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ جُلُوسٌ، خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَمَّ النَّاسَ في تِلْكَ الصَّلَاةِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(لَيْث) بن سعد تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو بَكْرِ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عُبيد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الصلاة" 49/ 1136.

5 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ) الأنصاريّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ) هو: سعيد بن أبي سعيد كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، ثقة ثبتٌ تغيّر قبل موته بأربع سنين، مات في حدود (120)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (جَمِيعًا) يعني أن الليث بن سعد، وأبا بكر الحنفيّ حدّثا عن سعيد المقبريّ.

وقوله: (بَيْنَا) هي بين الظرفيّة أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، وهي مضافة إلى الجملة الاسميّة بعدها، وقد تقدّم البحث فيها مستوفى غير مرّة.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ) يعني أن سعيدًا المقبريّ حدّث عن عمرو بن سليم بمعنى حديث عامر بن عبد اللَّه بن الزبير، وبكير بن عبد اللَّه كلاهما عنه،

ص: 314

والظاهر أن جمعه الضمير على مذهب من يرى أن أقل الجمع اثنان، وهو قول مالك رحمه الله، والمحقّقين، وقد استوفيت بحثه في "التحفة المرضيّة"، وشرحها، فراجعه تستفد.

ويَحْتَمل أن يكون الضمير يعود إلى مشايخه، يعني أن قتيبة، ومحمد بن المثنى حدّثاني بنحو ما حدّثني المشايخ الذين قبلهما، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية سعيد المقبريّ هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 142) فقال:

(1196)

حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوريّ، ثنا أبو العباس السّراج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث بن سعد، وحدّثنا حبيب، ثنا أبو مسلم الكشيّ، ثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، كلاهما عن سعيد المقبريّ، عن عمرو بن سُلَيم الزُّرَقيّ، أنه سمع أبا قتادة يقول: بينا نحن في المسجد جلوس، خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَحْمِل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهي على عاتقه، يضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته، يفعل ذلك بها. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ جَوَازِ كَوْنِ الإِمَامِ عَلَى مَكَانٍ أَرْفَعَ مِنَ الْمَأْمُومِينَ، وَجَوَازِ النُّزُولِ وَالصُّعُودِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِلْحَاجَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1221]

(544) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ نَفَرًا جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَدْ تَمَارَوْا فِي الْمِنْبَرِ، مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 315

إِنِّي لَأَعْرِفُ مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟ وَمَنْ عَمِلَهُ؟، وَرَأَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ يَوْم جَلَسَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، فَحَدِّثْنَا، قَالَ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى امْرَأَةٍ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّهُ لَيُسَمِّهَا يَوْمَئِذٍ: "انْظُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ، يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا، أُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا"، فَعَمِلَ هَذِهِ الثَّلَاثَ دَرَجَاتٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوُضِعَتْ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَهِيَ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَفَعَ

(1)

، فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا؛ لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ [8] (ت 184) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

2 -

(أَبُوهُ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سُفيان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

3 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْد) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الْخَزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) أو بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالإسنادين التاليين، وهو (72) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

(1)

وفي نسخة: "ثم رجع القهقرى، ثم سجد".

ص: 316

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، فالأول نيسابوريّ، والثاني بغلانيّ، وقد دخلا المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار (أَنَّ نَفَرًا) لم تعرف أسماؤهم (جَاءُوا إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) رضي الله عنهما (قَدْ تَمَارَوْا) جملة حاليّة من الفاعل، أي تجادلوا، وتنازعوا، يقال: ماريته أُماريه مماراةً ومِرَاءً: إذا جادلته، ويقال: ماريته أيضًا: إذا طعنتَ في قوله تزييفًا، وتصغيرًا للقائل، ولا يكون المراء إلا اعتراضًا بخلاف الجدال، فإنه يكون ابتداءً واعتراضًا، قاله الفيّوميّ

(1)

.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "وقد امتروا"، وهو افتعال، من المِرْيَة، قال الراغب الأصفهانيّ في "مفردات القرآن": المِرْية: التردد في الأمر، وهي أخصّ من الشك، قال تعالى:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج: 55] والامتراء، والمماراة: المجادلة فيما فيه مِرْيَةٌ، قال تعالى:{قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34]. وأصله من مَرَيْتُ الناقة: إذا مَسَحْت ضرعها. اهـ كلام الراغب باختصار

(2)

.

وقال ابن منظور: والامتراء في الشيء: الشك فيه، وكذلك التماري. والمراء: المماراة، والجدَلُ، والمراء أيضًا: من الامتراء، والشكّ، وفي التنزيل العزيز:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22]؛ قال: وأصله في اللغة: الْجِدال، وأن يستخرج الرجل من مُنَاظِرِه كلامًا، ومعاني الخصومة، وغيرها من مَرَيت الشاة: إذا حلبتها، واستخرجت لبنها، وقد ماراه مماراةً، وميراءً، وامترى فيه، وتمارى: شك؛ قال سيبويه: وهذا من الأفعال التي تكون للواحد. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 570.

(2)

"مفردات القرآن"(ص 766).

(3)

"لسان العرب"4190.

ص: 317

(فِي الْمِنْبَرِ) متعلّق بـ "تماروا"، وهو بكسر الميم، وسكون النون، وفتح الموحّدة آخره راء: مِرْقاة الخاطب، سُمِّي منبرًا؛ لارتفاعه وعُلُوّه، وانتبر الأمير: ارتفع فوق المنبر، قاله في "اللسان"

(1)

.

وقال في "المصباح": وكلُّ شيء رُفِعَ فقد نُبِرَ، ومنه المنبر؛ لارتفاعه، وكُسرت الميم على التشبيه بالآلة. انتهى

(2)

.

(مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟) مبتدأ، خبره الجارّ والمجرور قبله، وفي رواية البخاريّ:"وقد امتروا في المنبر ممّ عوده؟ "، أي من أيّ شيء عود ذلك المنبر؟ (فَقَالَ) سهل رضي الله عنه (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا"(وَاللَّهِ إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في جواب القسم، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(لَأَعْرِفُ) اللام هي لام الابتداء المزحلقة من اسم "إنّ" إلى خبرها؛ لئلا يتوالى حرفا تأكيد، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ ذَاتِ الْكَسْرِ تَصْحَبُ الْخَبَرْ

لَامُ ابْتِدَاءٍ نَحْوُ "إِنّي لَوَزَرْ"

وإنما أتى بالقسم مؤكّدًا بالجملة الاسميّة، وبكلمة "إنّ" التي هي للتحقيق، وبلام التأكيد في الخبر؛ لإرادة التأكيد فيما قاله للسامع، قاله في "العمدة"

(3)

.

(مِنْ أَيِّ عُودٍ هُوَ؟) جملة اسميّة كنظيره الماضي، مفعول "أعرف" معلّق عنها العامل للاستفهام، وقوله:(وَمَنْ عَمِلَهُ؟)"من" استفهاميّة مبتدأ خبرها جملة "عَمِله" وهو بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب تَعِبَ، والجملة معطوفة على جملة الاستفهام قبله، أي أعرف أيُّ شخص عمله، ويَحْتَمِل أن تكون "من" موصولة معطوفة على المفعول، أي وأعرف الشخص الذي عمله (وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ يَوْمٍ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "رأيتُ"، أي رأيته في أول يوم، وقوله:(جَلَسَ عَلَيْهِ) صفة لـ "يوم" بتقدير عائد، أي فيه، فقوله:"ورأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ" زيادة على السؤال.

(1)

"لسان العرب" 5/ 189.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 590.

(3)

"عمدة القاري" 6/ 309.

ص: 318

وفي رواية البخاريّ: "ولقد رأيته أوّل يوم وُضِعَ، وأوّل يوم جلس عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

قال في "العمدة": وفائدة هذه الزيادة المؤكدة باللام، وكلمة "قد" الإعلام بقوة معرفته بما سألوه.

(قَالَ) أبو حازم (فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ) كنية سهل بن سعد رضي الله عنهما (فَحَدِّثْنَا) أمر من التحديث، والفاء فيه فاء الفصيحة، أي إذا كنت تعرف هذا المنبر الذي تمارينا فيه هذه المعرفة المتميّزة، حيث عرفت من أي شيء عوده؟، ومن عَمِله؟، وأول يوم جلس عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فحدّثنا بهذا كلّه حتى ينقطع عنا النزاع والجدال.

(قَالَ) سعد رضي الله عنه (أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى امْرَأَةٍ) قال في "الفتح": لا يعرف اسمها، لكنها أنصارية.

(قَالَ أَبُو حَازِمِ: إِنَّهُ) أي سهلًا (لَيُسَمِّهَا يَوْمَئِذٍ) أي يوم أن أخبرنا بهذا الخبر.

وفي رواية البخاريّ: "أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سمّاها سهلٌ"، فقوله:"إلى فلانة" كناية عن اسم المرأة، ممنوع من الصرف لوجود علتين فيه، العلمية، والتأنيث، وقوله:"امرأة" بالجر بدل عن "فلانة"، ويحتمل الرفعَ على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي امرأة، والنصبَ على أنه مفعول لفعل محذوف، أعني امرأة.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى امرأة انظري غلامك النجار. . . إلخ" هكذا رواه لسَهْل بن سعد رضي الله عنهما، وفي رواية جابر رضي الله عنه في "صحيح البخاريّ" وغيره:"أن المرأة قالت: يا رسول اللَّه، ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟؛ فإن لي غلامًا نَجّارًا، قال: إن شئتِ، فعملت المنبر"، وهذه الرواية في ظاهرها مخالفة لرواية سهل، والجمع بينهما أن المرأة عَرَضت هذا أوّلًا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم بَعَث إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلُب تنجيز ذلك. انتهى

(1)

، وهو جمع حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 34.

ص: 319

("انْظُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ) بالنصب؛ لأنه صفة لـ "غلام".

قال الفيوميّ رحمه الله: نَجَرْتُ الخشبة، نَجْرًا، من باب قتل، والفاعل نَجَّار، والنِّجارة، مثلُ الصِّنَاعة. انتهى. وفي "اللسان": النَّجْرُ: نَحْتُ الخشبة، نَجَرَهَا، ينجُرها، نَجْرًا: نَحَتَها، ونُجَارةُ العُودِ: ما انتُحِتَ منه عند النَّجْر. انتهى.

[تنبيه]: أشبه الأقوال بالصواب في اسم الغلام قول من قال: إنه ميمون، قال في "الفتح": وسماه عباسُ بن سهل، عن أبيه، فيما أخرجه قاسم بن أصبغ، وأبو سعد في "شرف المصطفى" جميعًا من طريق يحيى بن بكير، عن ابن لهيعة: حدثني عُمَارة بن غَزِيَّةَ، عنه، ولفظه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب إلى خشبة، فلما كثر الناس قيل له: لو كنت جعلت منبرًا. . .، قال: وكان بالمدينة نَجَّار واحد، يقال له: ميمون"، فذكر الحديث. وأخرجه ابن سعد من رواية سعيد بن سعد الأنصاري، عن ابن عباس، نحو هذا السياق، ولكن لم يسمه. وفي الطبراني من طريق أبي عبد اللَّه الغفاري: سمعت سهل بن سعد، يقول: كنت جالسًا مع خال لي من الأنصار، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اخرج إلى الغابة، وائتني من خشبها، فاعمل لي منبرًا" الحديث.

وجاء في صانع المنبر أقوال أخرى:

أحدها: أن اسمه إبراهيم. أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق أبي نضرة، عن جابر، وفي إسناده العلاء بن مسلمة الرَّوَّاس، وهو متروك.

ثانيها: بَاقُول -بموحدة، وقاف مضمومة- رواه عبد الرزاق بإسناد ضعيف منقطع، ووصله أبو نعيم في "المعرفة"، لكن قال: باقوم -آخره ميم- وإسناده ضعيف أيضًا.

ثالثها: صُبَاح -بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة، وآخره مهملة أيضًا- ذكره ابن بشكوال بإسناد مرسل.

رابعها: كلاب مولى العباس، روى ابن سعد في "الطبقات" من حديث أبي هريرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب، وهو مُستَنِد إلى جِذْع، فقال:"إن القيام قد شق علي"، فقال له تميم الداريّ: ألا أعمل لك منبرًا، كما رأيتُ

ص: 320

يُصْنَع بالشام؟ فشاور النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فَرَأَوْا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلامًا يقال له: كلاب أعْمَلُ الناسِ، فقال:"مره أن يعمل"، الحديث، ورجاله ثقات إلا الواقدي.

خامسها: تميم الداري، رواه أبو داود مختصرًا، والحسن بن سفيان، والبيهقي، من طريق أبي عاصم، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن نافع، عن ابن عمر: أن تميمًا الداري قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمّا كثر لحمه: ألا نتخذ لك منبرًا يحمل عظامك؟، قال:"بلى"، فاتخذ له منبرًا، الحديث، وإسناده جيد.

سادسها: ميناء، ذكره ابن بشكوال عن الزبير بن بكار: حدثني إسماعيل، هو ابن أبي أويس، عن أبيه، قال: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار، من بني سَلِمَةَ، أو من بني ساعدة، أو امرأة لرجل منهم، يقال له: ميناء. انتهى.

قال الحافظ: وهذا يَحْتَمِل أن يعود الضمير فيه على الأقرب، فيكون ميناء اسم زوج المرأة، وهو بخلاف ما حكيناه عن ابن التين أن المنبر عمله غلام سعد بن عبادة، وجوّزنا أن تكون المرأة زوج سعد.

قال: وليس في جميع الروايات التي سُمِّيَ فيها النجارُ شيء قويّ السند، إلا حديث ابن عمر، وليس فيه التصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم الداريّ، بل قد تبيّن من رواية ابن سعد أن تميمًا لم يعمله.

قال: وأشبه الأقوال بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضًا، وأما الأقوال الأخرى فلا اعتداد بها لِوَهَائها، ويَبْعُد جدًّا أن يُجْمَع بينها بأن النجّار كانت له أسماء متعددة، وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله، فيَمْنَع منه قوله في كثير من الروايات:"لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد"، إلا إن كان يُحْمَل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه، فيمكن، واللَّه تعالى أعلم.

ووقع عند الترمذيّ، وابن خزيمة، وصححاه من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة، فيسند ظهره إلى جِذْع منصوب في المسجد، يخطب، فجاء إليه رُومِيّ، فقال: ألا نصنع لك منبرًا"، الحديث، ولم يسمّه، فيَحْتَمِل أن يكون المراد بالرومي تميم الداري؛ لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم، وقد عرفت مما تقدم سبب عمل المنبر.

ص: 321

وجزم ابن سعد بأن ذلك كان في السنة السابعة، وفيه نظر؛ لذكر العباس، وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع، وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان، وفيه نظر أيضًا؛ لما ورد في حديث الإفك في "الصحيحين" عن عائشة، قالت:"فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل، فخفَّضهم، حتى سكتوا"، فإن حُمِل على التجوز في ذكر المنبر، وإلا فهو أصحّ مما مضى.

وحَكَى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يُتَّخذ المنبر من خشب، ويعكُر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب.

ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ستّ درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث معاوية إلى مروان، وهو عامله على المدينة أن يَحْمِل إليه المنبر، فأمر به، فقُلِعَ، فأظلمت المدينة، فخرج مروان، فخطب، وقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نَجّارًا، وكان ثلاث درجات، فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم، ورواه من وجه آخر، قال:"فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم، وقال: فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس".

قال ابن النجّار، وغيره: استَمَرّ على ذلك إلا ما أصْلِحَ منه إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فاحتَرَق، ثم جَدَّد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرًا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرًا، فأزيل منبر المظفَّر، فلم يزل إلى هذا العصر، فأرسل الملك المؤيد سنة عشرين وثمانمائة منبرًا جديدًا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرًا جديدًا إلى مكة أيضًا، شكر اللَّه له صالح عمله آمين، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 2/ 462 - 464.

ص: 322

وقال في "العمدة": فإن قلت: رَوَى أبو داود عن ابن عمر: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بَدَّنَ قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول اللَّه، يَجْمَع -أو يَحْمِل- عظامك؟، قال: "بلى" فاتخذ له منبرًا مِرْقاتين". أي اتخذ له منبرًا درجتين، فبينه وبين ما ثبت في الصحيح أنه ثلاث درجات منافاة.

قلت: الذي قال: مرقاتين لم يَعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(يَعْمَلْ لِي) بجزم الفعل في جواب الأمر، وهو "انظري"، ويَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا على الاستئناف البيانيّ، كما مرّ نظيره غير مرّة.

(أَعْوَادًا) بالنصب على المفعوليّة، وهو بالفتح: جمع عُود بالضمّ، وهو الخشب، ويُجمع أيضًا على عِيدان، والمراد أن يجمع الأعواد، ويرتّبها، ويصنعها على وجه يُمكن الجلوس عليها.

وفي رواية البخاريّ: "مُري غلامك النجّار أن يَعمل لي أعوادًا أجلس عليهنّ إذا كلّمت الناس".

(أُكُلِّمُ النَّاسَ عَلَيْهَا") جملة في محلّ نصب صفة لـ "أعوادًا"، أي أخطب الناس على تلك الأعواد، أي على المنبر المصنوع منها، ويَحتمل أن تكون الجملة مستأنفةً استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل له: ما تصنع بالأعواد؟ فقال: أكلّم الناس عليها.

(فَعَمِلَ هَذ الثَّلَاثَ دَرَجَاتٍ) هكذا الرواية في "صحيح مسلم"، بتنكير "درجات"، قال النوويّ رحمه الله: هذا مما يُنكره أهل العربيّة، والمعروف عندهم أن يقول:"ثلاث الدرجات"، أو "الدرجات الثلاث"، وهذا الحديث دليلٌ لكونه لغةً قليلةً. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القاعدة في هذه المسألة أن العدد إذا كان مضافًا، وأردت تعريفه عرّفت الآخر، وهو المضاف إليه، فيصير الأول مضافًا إلى معرفة، فتقول:"ثلاثة الأثواب"، و"مائة الدرهم"، و"ألف الدينار"، وأجاز الكوفيّون الثلاث الأثواب بتعريف الجزأين.

(1)

"عمدة القاري" 6/ 311.

(2)

"شرح النووي" 5/ 34 - 35.

ص: 323

وأما ما وقع هنا فقد عرّف المضاف، ونكَر المضاف إليه، ونظيره ما وقع في "صحيح البخاريّ" في قصّة الرجل الذي استسلف ألف دينار، فقال:"ثم قَدِمَ الذي كان أسلفه، وأتى بالألف دينار"، وأوّله الدمامينيّ بتقدير مضاف من المعرّف، أي بالألف ألف دينار، قال: ولا يقال: إن "أل" زائدة؛ لأن ذلك لا ينقاس. انتهى.

وقد تقدّم البحث في هذه المسألة في هذا الشرح مستوفى، في "كتاب الإيمان" برقم (71/ 388)، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.

(ثُمَّ أَمَرَ بِهَا) أي بتلك الأعواد المصنوع منها المنبر (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوُضِعَتْ) بالبناء للمفعول (هَذَا الْمَوْضِعَ) منصوب على الظرفيّة لـ "وُضعت"، وهو مقيسٌ؛ لوجود شرطه، وهو كونه من مادَّته، كما قال في "الخلاصة":

وَكُلُّ وَقْتٍ قَابِلٌ ذَاكَ وَمَا

يَقْبَلُهُ الْمَكَانُ إِلَّا مُبْهَمَا

نَحْوُ الْجِهَاتِ وَالْمَقَادِيرِ وَمَا

صِيغَ مِنَ الْفِعْلِ كَمَرْمًى مِنْ رَمَى

وَشَرْطُ كَوْنِ ذَا مَقِيسًا أَنْ يَقَعْ

ظَرْفًا لِمَا فِي أَصْلِهِ مَعْهُ اجْتَمَعْ

والمعنى: أن تلك الأعواد وُضِعت في محلّها التي هي فيه حينما حدّثهم سهل رضي الله عنه بالحديث، ولا زال موضعها إلى الآن.

(فَهِيَ) أي تلك الأعواد المصنوع منها المنبر (مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ) وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن عيَينة، عن أبي حازم:"هو من أثل الغابة".

و"الطَّرْفَاء" -بفتح الطاءَ، وسكون الراء المهملتين، وبعد الراء فاء ممدودة- قال سيبويه: الطرْفاء: واحدٌ، وجمعٌ، والطرفاء: اسم للجمع، وقيل: واحدتها: طرْفَاءة، وقال ابن سِيدَه: والطرَفَة: شجرة، وهي الطَّرَف، والطرْفاء: جماعة الطَّرَفَة، وبها سمي طَرَفَة بن العبد، والطَّرَفُ -بفتحتين-: اسم يُجْمَعُ على طَرْفَاء، وقَلّمَا يُسْتَعمَل في الكلام إلا في الشعر، والواحدة طَرَفَة، وقياسه قَصَبَة، وقَصَب، وقَصْبَاء وشجَرَة، وشَجَرٌ، وشَجْراء، أفاده في "اللسان".

و"الأثْلُ" -بفتح، فسكون-: شَجَرٌ يُشْبِهُ الطَّرفاء، إلا أنه أعظم منه، وأكرم، وأجود عُودًا، تُسَوَّى به الأَقْداح الصُّفْر الجِيَاد، وفي "الصحاح": هو نوع من الطرفاء، والأثْلُ: أصول غليظة، يُسَوَّى منها الأبواب، وغيرها، ووَرَقُهُ عَبْلٌ كوَرَق الطرْفَاء.

ص: 324

وقال أبو حنيفة -الدّينَوَريّ-: قال أبو زياد: من العِضَاة: الأثْلُ، وهو طُوَال في السماء، مستطيل الخشب، وخشبه جيد يُحمَل إلى القرى، فتُبْنى عليه بيوتُ المَدَر، وورَقُه هَدَبٌ طوال دُقَاق، وليس له شوك، ومنه تُصنع القِصَاع والجِفَان، وله ثمر حمراء، كأنها أُبْنَة -يعني عُقْدة الرِّشاء- واحدته أثْلَة، وجمعه: أُثُول، كتَمْر، وتُمُور، قاله في "اللسان"

(1)

.

و"الغابة" -بالغين المعجمة، وبعد الألف باء موحدة-: هي أرض عَلَى تسعة أميال من المدينة، كانت بها إبل النبيّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمة بها للمَرْعَى، وبها وقعت قِصّةُ العُرَنيين الذين أغاروا على سَرْحِه. وقال ياقوت: بينها وبين المدينة أربعة أميال، وقال الزمخشري: الغابة بَرِيد من المدينة، من طريق الشام. وفي "الجامع": كل شجر مُلْتَفٍّ فهو غابة، وفي "المحكم": الغابة: الأجَمَةُ التي طالت، ولها أطراف مرتفعة باسقة، وقال أبو حنيفة الدينوريّ: هي أجَمَة القصب، قال: وقد جُعِلَت جماعة الشجر غابًا، مأخوذًا من الغيابة، والجمع غابات، وغاب، ذكره في "العمدة"

(2)

.

و"الأجَم": الشجر المُلْتَفُّ، جمعه أَجَمٌ، كقصبة، وقصب، والآجام جمع الجمع. قاله في "المصباح".

(وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَيْهِ) أي على المنبر المصنوع من تلك الأعواد (فَكَبَّرَ) أي تكبيرة الإحرام (وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) جملة حاليّة من الفاعل (ثُمَّ رَفَعَ) هكذا الرواية هنا "رَفَع" بالفاء مبنيًّا للفاعل، أي رفع صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع، وفي رواية البخاريّ:"ثم رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى عليها، وكبّر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسجد في أصل المنبر".

قال الحافظ رحمه الله: لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية، وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبيرة، وقد تَبَيَّن ذلك في رواية سفيان، عن أبي حازم، ولفظه:"كبر، فقرأ، وركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى"، وفي رواية هشام بن سعد، عن أبي حازم، عند الطبرانيّ: "فخطب الناس عليه، ثم أقيمت

(1)

"لسان العرب" 1/ 28.

(2)

"عمدة القاري" 6/ 216.

ص: 325

الصلاة، فكبر، وهو على المنبر"، فأفادت هذه الرواية تقدُّم الخطبة على الصلاة. انتهى

(1)

.

(فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى) أي نزل من المنبر نزولًا إلى جهة ورائه؛ لئلا يستدبر القبلة.

و"القَهْقَرى": الرجوعُ إلى خَلْفُ، فإذا قلت: رَجَعتُ القَهْقَرى، فكأنك قلت: رجعت الرجوعَ الذي يُعرفُ بهذا الاسم؛ لأن القهقرى ضرب من الرجوع، وقَهْقَرَ الرجلُ في مِشيته: فَعَلَ ذلك. وتقهقر: تراجع على قفاه، والقَهْقرى: مصدر قَهْقَرَ: إذا رجع على عقبيه. قاله في "اللسان"

(2)

.

وقال في "العمدة": قيل: يقال: رجع القهقرى، ولا يقال: نزل القهقرى؛ لأنه نوع من الرجوع، لا من النزول.

وأجيب بأنه لما كان النزول رجوعًا من فوق إلى تحت صحّ ذلك

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره العينيّ لا حاجة إليه؛ لأن معنى القهقرى موجود في حال النزول، إذ هو الرجوع إلى خلفُ، ونزول النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إلى جهة خلفه، وإنما فعل ذلك محافظة على استقبال القبلة، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.

(حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه (ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ فِيْ آخِرِ صَلَاِتِهِ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى درجات المنبر بعد القيام من السجدة الثانية، ثم فعل هكذا إلى أن انتهى من تلك الصلاة.

قال السنديّ رحمه الله: وهذا العمل القليل لا يبطل الصلاة، وقد فعله صلى الله عليه وسلم لبيان كيفية الصلاة، وجواز هذا العمل، فلا إشكال، ويُفْهَم منه أن نظر المقتدي إلى إمامه جائز. انتهى.

(ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ) وفي رواية البخاريّ: "فلَمّا فرغ أقبل على الناس"(فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا) وفي رواية البخاريّ: "إنما صنعت هذا" بدون "إنّي"(لِتَأْتَمُّوا بِي) -بكسر اللام-: أي لتقتدوا بأفعالي (وَلِتَعَلَّمُوا

(1)

"الفتح" 2/ 464.

(2)

"لسان العرب" 5/ 3765.

(3)

"عمدة القاري" 6/ 216.

ص: 326

صَلَاِتِي") -بكسر اللام، وفتح التاء المثناة من فوقُ، وتشديد اللام- وأصله لتتعلموا، فحذفت إحدى التاءين، تخفيفًا لتوالي المثلين، كما قال ابن مالك:

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ

وعطف جملة "لتعلَّمُوا" على ما قبلها للتأكيد.

يعني أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى على المنبر على هذه الكيفية؛ للتعليم، حتى يَرَى جميعهم أفعاله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما إذا صلى على الأرض، فإنه لا يراه إلا مَن قرب منه.

قال ابن حزم رحمه الله: وبكيفية هذه الصلاة قال أحمد، والشافعي، والليث، وأهل الظاهر، ومالك، وأبو حنيفة لا يجيزانها.

وقد ردّ العيني هذا على ابن حزم، وقال: هذا غير صحيح، بل مذهب أبي حنيفة الجواز مع الكراهة.

وقال ابن التين: الأشبه أن ذلك كان صلى الله عليه وسلم خاصة

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: دعوى الخصوصية غير صحيحة، فالصواب جواز ذلك لكل من احتاج للتعليم بهذا الطريق لمن لا يعلم كيفية الصلاة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إنما صنعت هذا لتأتمّوا بي، ولتعلّموا صلاتي"، فأطلقه، فلو كان خاصًّا به، لبيّنه بأنه لا يحلّ ذلك لغيره، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 1221 و 1222](544)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(377)، و"الجمعة"(917)، و"البيوع"(2094)، و"الهبة"(2569)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1080)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(739)، و"الكبرى"(818)، و (ابن ماجه) فيها (1416)، و (الشافعيّ) في

(1)

"عمدة القاري" 6/ 312.

ص: 327

"مسنده"(1/ 138)، و (الحميدي) في "مسنده"(926)، و (أحمد)(5/ 330 و 339)، و (الدارميّ) في "سننه"(1261)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(311 و 312)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1779)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2142)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1744 و 1745 و 1746)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1197 و 1198)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 108)، و"دلائل النبوّة"(2/ 554 - 555)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5752 و 5790 و 5881 و 5977 و 5992)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(497)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز اتخاذ المنبر، واستحباب كون الخطيب ونحوه على مرتفع كمنبر، أو غيره.

2 -

(ومنها): جواز الصلاة على المنبر، وقد عَلّل النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته عليه، وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له، والتعليم، فإذا ارتفع الإمام على المأموم لغير حاجة كمثل هذا كُرِه، وبه قال الشافعىّ، وأحمد، والليث، وعن مالك، والشافعيّ، المنع، وبه قال الأوزاعيّ.

3 -

(ومنها): جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، قال البخاري في "صحيحه": قال علي بن عبد اللَّه -يعني ابن المديني-: سألني أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ قال: إنما أردتّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس، فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث؟ قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يُسأل عن هذا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا. انتهى.

ولابن دقيق العيد في ذلك بحث، فإنه قال: من أراد أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم؛ لأن اللفظ لا يتناوله، ولانفراد الأصل بوصف معتبر، تقتضي المناسبةُ اعتبارَه، فلا بد منه.

وقال النوويّ رحمه الله: وفيه جواز صلاة الإمام على موضع أعلى من موضع المأمومين، ولكنه يكره ارتفاع الإمام على الماموم، وارتفاع المأموم على الإمام لغير حاجة، فإن كان لحاجة بأن أراد تعليمهم أفعال الصلاة لم يكره، بل يُسْتَحَبّ لهذا الحديث، وكذا إن أراد المأموم إعلام المأمومين بصلاة الإمام،

ص: 328

واحتاج إلى الارتفاع. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): جواز العمل اليسير في الصلاة، فإن الخطوتين لا تبطل بهما الصلاة، ولكن الأولى تركه إلا لحاجة، فإن كان لحاجة فلا كراهة فيه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا الفعل الكثير كالخطوات وغيرها إذا تفرقت لا تبطل الصلاة؛ لأن النزول والصعود قد تكرر، وجملته كثيرة، ولكن أفراده المتفرّقة كلّ واحد منها قليلٌ.

5 -

(ومنها): جواز الصلاة على الخشب، وكَرِهَ ذلك الحسن، وابن سيرين. أخرجه ابن أبي شيبة عنهما، وأخرج أيضًا عن ابن مسعود، وابن عمر نحوه، وعن مسروق أنه كان يَحْمِل لَبِنةً ليسجد عليها إذا رَكِب السفينة، وعن ابن سيرين نحوه، قال الحافظ: والقول بالجواز هو المعتمد.

6 -

(ومنها): جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وأن ذلك لا يَقْدَح في صلاته، ولا يكون من باب التشريك في العبادة، بل هو كرفع الصوت بالتكبير؛ ليُسمعهم.

7 -

(ومنها): أن مَن فَعَلَ شيئًا يخالف العادة يُبَيِّن حكمته لأصحابه.

8 -

(ومنها): استحباب اتّخاذ المنبر لكل خطيب خليفةً كان، أو غيره؛ لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب، والسماع منه.

وقال ابن بطال: إن كان الخطيب هو الخليفة، فسنته أن يخطب على المنبر، وإن كان غيره يُخَيَّر بين أن يقوم على المنبر، أو على الأرض.

وتعقبه الزين ابن الْمُنَيِّر بان هذا خارج عن مقصود الترجمة

(2)

، ولأنه إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء، فإن كان من الخلفاء الراشدين، فهو سنة متبعة، وإن كان من غيرهم، فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة.

قال الحافظ: ولعل هذا هو حكمة هذه الترجمة -يعني ترجمة البخاري بقوله: "باب الخطبة على المنبر"- أشار بها إلى أن هذا التفصيل غير مستحبّ، ولعل مراد من استحبّه أن الأصل أن لا يرتفع الإمام عن المأمومين، ولا يلزم

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 34.

(2)

يعني ترجمة البخاريّ في "صحيحه" بقوله: "باب الخطبة على المنبر".

ص: 329

من مشروعية ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ئم لمن ولي الخلافة أن يُشْرَع لمن جاء بعدهم، وحجة الجمهور وجود الاشتراك في وعظ السامعين، وتعليمهم بعض أمور الدين.

9 -

(ومنها): استحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد، إما شكرًا، وإما تبركًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ذكر في "الفتح"، وفي هذا الاستنباط نظر لا يخفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بَيّن سبب صلاته على المنبر، وهو أن يتعلّم الناس صلاته، ولم يقل: إنه افتتح به للتبرّك، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): جواز نظر المأموم إلى إمامه في الصلاة؛ ليتعلم منه، وأن ذلك لا ينافي الخشوع.

11 -

(ومنها): أن فيه التصريح بأن منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1222]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، أَنَّ رِجَالًا أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ

(1)

الْقُرَشِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حَلِيف بني زُهرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

والإسناد أيضًا من الرباعيّات، كسابقه، ولاحقه، وهو (73) من رباعيّات الكتاب.

(1)

بتخفيف الراء، وتشديد الياء التحتانيّة: نسبة إلى قارة قبيلة معروفة بجودة الرمي.

ص: 330

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[. . .](. . .) - (قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، فَسَأَلُوهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ مِنْبَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقُوا الْحَدَيثَ نَحْوَ

(1)

حَدِيثِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كان ينبغي أن أجعل لهذا السند رقمًا مستقلّا، إلا أني لَمّا رأيت المصنّف جمع بينهم بالتحويل، وجعل الضمير في قوله:"وساقوا الحديث" في الأخير راجعًا إليهم معًا جعلت لهما رقمًا واحدًا، فتنبّه.

وقوله: "قال" من كلام الراوي عن المصنّف، وفاعله ضمير يعود إلى المصنف.

ورجال الإسناد: أربعة أيضًا، وكلّهم تقدّموا قريبًا، فأبو بكر تقدّم قبل باب، وزُهير قبل بابين، وابن أبي عمر، وهو محمد بن يحيى العدنيّ، وسفيان في الباب الماضي، والباقيان في هذا الباب.

والسند أيضًا من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (74) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (وَسَاقُوا الْحَدِيثَ) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وساقوا الحديث نحو حديث ابن أبي حازم" هكذا هو في النسخ: "وساقوا" بضمير الجمع، وكان ينبغي أن يقول: وساقا؛ لأن المراد بيان رواية يعقوب بن عبد الرحمن، وسفيان بن عيينة، عن أبي حازم، فهما شريكا ابن أبي حازم في الرواية، عن أبي حازم، ولعله أتى بلفظ الجمع، ومراده الاثنان، وإطلاق الجمع على الاثنين جائز بلا شكّ، لكن هل هو حقيقة، أم مجاز؟ فيه خلاف مشهور، والأكثرون أنه مجاز.

(1)

وفي نسخة: "بنحو".

ص: 331

قال: ويَحْتَمِل أن مسلمًا أراد بقوله: "وساقوا" الرواةَ عن يعقوب، وعن سفيان، وهم كثيرون، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم نظير هذا البحث في الباب الماضي عند قوله بعد سوقه رواية سعيد المقبريّ: "بنحو حديثهم"، وهو يرجع إلى اثنين، وهما: عامر بن عبد اللَّه بن الزبير، وبكير بن الأشج، فتفطّن لدقائق الإسناد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ) وفي بعض النسخ: "بنحو حديث ابن أبي حازم".

[تنبيه]: رواية يعقوب بن عبد الرحمن هذه ساقها أبو داود في "سننه" بسند المصنّف رحمه الله، فقال:

(1080)

حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللَّه بن عبد القاريّ القرشيّ، حدَّثني أبو حازم بن دينار، أن رجالًا أَتَوْا سهل بن سعد الساعديّ، وقد امْتَرَوا في المنبر مِمَّ عوده؟، فسألوه عن ذلك؟ فقال: واللَّه إني لأعرف مما هو؟ ولقد رأيته أوَّلَ يومٍ وُضِعَ، وأوّلَ يومٍ جلس عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى فلانة، امرأة قد سماها سهل، أَنْ مُرِي غلامك النجّار، أن يَعْمَل لي أعوادًا أجلس عليهنّ، إذا كلمتُ الناس، فأمرته، فعملها من طَرْفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأَمَرَ بها، فَوُضِعَتْ ها هنا، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى عليها، وكَبّر عليها، ثم ركع، وهو عليها، ثم نزل القهقرى، فسَجَدَ في أصل المنبر، ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال:"أيها الناس، إنما صنعت هذا؛ لتأتموا بي، ولتَعَلَّمُوا صلاتي". انتهى.

وأما رواية سفيان بن عُيينة رحمه الله، فساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 470) فقال:

(1744)

حدّثنا بشر بن موسى، قال: ثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو حازم، قال: سألوا سهل بن سعد من أيِّ شيء المنبر؟ قال: ما بقي في الناس أعلم مني، من أَثْل الغابة، عَمِله فلان، مولى فلانة، لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين عُمِلَ، ووُضِعَ، فاستقبل القبلة،

ص: 332

وكَبّر، وقام الناس خلفه، فقرأ، وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع، فرجع القهقرى، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى، حتى سجد بالأرض، فهذا شأنه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ النَّهْي عَنِ الاخْتِصَارِ في الصَّلَاةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1223]

(545) - (وَحَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ جَمِيعًا، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ

(1)

صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ) هو: الحكم بن موسى بن أبي زُهير البغداديّ القَنْطَرىِّ، ثقةٌ [10](232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

[تنبيه]: "الْقَنْطَريّ" -بفتح القاف-: منسوب إلى مَحِلّة من مَحَالِّ بغداد، تُعْرَف بقنطرة الْبُرّ، ويُنْسَب إليها جماعات كثيرون، منهم الحكم بن موسى هذا، ولهم جماعات يقال فيهم الْقَنْطَريّ، يُنْسَبون إلى مَحِلّة من مَحَالّ نيسابور، تُعْرَف برأس القنطرة، وقد أوضح القسمين الحافظ أبو الفضل، محمد بن طاهر المقدسيّ، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) بن واضح الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عالمٌ جَوَادٌ مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181) عن (63) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

(1)

وفي نسخة: "نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم".

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 36.

ص: 333

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(أَبُو خَالِدٍ) الأحمر سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها عن بضع وسبعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

5 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبت، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

6 -

(هِشَام) بن حسّان الأزديّ القردوسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

7 -

(مُحَمَّد) بن سيرين الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القَدْر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابي الشهير رضي الله عنه، مات سنة (59) عن (78) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الاسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف صيغ الأداء بسبب اختلاف كيفيّة التحمّل، فكان أخذه عن الحكم بن موسى وحده، ولذا قال:"وحدّثني الحكم"، وكان أخذه عن أبي بكر مع جماعة، ولذا قال:"وحدثنا أبو بكر"، وأيضًا فالحكم روى عن ابن المبارك وحده، وأبو بكر روى عن أبي خالد، وأبي أسامة، فتنبّه لهذه الدقائق، وباللَّه تعالى التوفيق.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني علق له البخاريّ، وأخرج له أبو داود في "مسند مالك"، ولم يُخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنهم ما بين مدنيّ، وهو الصحابيّ، ومروزيّ، وهو ابن المبارك، وبغداديّ، وهو الحكم، وبصريينِ، وهما: محمد، وهشام، وكوفيين، وهم الباقون.

ص: 334

4 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا) منصوب على الحال من "الرجل"، وهو اسم فاعل، من الاختصار، ووقع في بعض الرواية:"متخصِّرًا"، اسم فاعل من التَّخَصُّر، وهو وضع اليد على الخاصرة، فسّره بذلك الترمذيّ في "جامعه"، وأبو داود في "سننه"، وفسّره بذلك أيضًا محمد بن سيرين، رَوَى ذلك عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه". وكذلك فسّره هشام بن حسّان، رواه عنه البيهقي في "سننه"، قال: ورَوَى سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه معنى هذا التفسير.

وحَكَى الخطابيّ وغيره قولًا آخر في تفسير الاختصار، فقال: وزعم بعضهم أن معنى الاختصار هو أن يُمسِك بيده مِخْصَرَة، أي عصًا يتوكأ عليها، قال ابن العربي: ومن قال: إنه الصلاة على المِخْصَرَة لا معنى له.

وفيه قول ثالث، حكاه الهرويّ في "الغريبين"، وابن الأثير في "النهاية"، وهو أن يَخْتَصِر السورة، فيقرأ من آخرها آية، أو آيتين.

وفيه قول رابع، حكاه الهرويّ، وهو أن يَحذِف من الصلاة، فلا يمدّ قيامها وركوعها وسجودها.

قال العراقيّ رحمه الله: والقول الأول هو الصحيح الذي عليه المحققون، والأكثرون من أهل اللغة، والحديث، والفقه، هذا ما ذكره العلامة الشوكانيّ في شرح "منتقى الأخبار"

(1)

.

وذكر ابن منظور في "اللسان" نحو ما تقدم، أحببت إيراده، وإن كان فيه تكرار لما سبق، زيادةً في الإيضاح، قال رحمه الله:

(1)

"نيل الأوطار" 3/ 231 - 232.

ص: 335

والاختصار، والتخاصر: أن يَضْرِب الرجل يده إلى خَصْرِهِ

(1)

في الصلاة، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه "نَهَى أن يصلي الرجل مُخْتصِرًا"، وقيل:"مُتَخَصِّرًا"، قيل: هو من الْمِخْصَرَة، وقيل: معناه أن يصلي الرجل، وهو واضح يده على خَصْرِهِ، وجاء في الحديث:"الاختصار في الصلاة راحة أهل النار"

(2)

، أي أنه فعل اليهود في صلاتهم، وهم أهل النار، على أنه ليس لأهل النار الذين هم خالدون فيها راحة، هذا قول ابن الأثير.

قال ابن منظور: ليس الراحة المنسوبة لأهل النار هي راحتهم في النار، وإنما هي راحتهم في صلاتهم في الدنيا، يعني أنه إذا وَضَعَ يده على خَصْرِهِ كأنه استراح بذلك، وسماهم أهل النار لمصيرهم إليها، لا لأن ذلك راحتهم في النار.

وقال الأزهري في الحديث الأول: لا أدري أرُوي "مُخْتصِرًا"، أو "مُتَخَصرًا"؟

(3)

، ورواه ابن سيرين، عن أبي هريرة "مُخْتَصِرًا"، وكذا رواه أبو عبيد؛ قال: هو أن يصلي، وهو واضع يده على خَصْرِهِ، قال: ويروى في كراهيته حديث مرفوع، قال: ويروى فيه الكراهة عن عائشة، وأبي هريرة، وقال الأزهري: معناه أن ياخذ بيده عصًا يتكئ عليها.

وفيه وجه آخر، وهو أن يقرأ آية من آخر السورة، أو آيتين، ولا يقرأ سورة بكمالها في فرضه، قال ابن الأثير: هكذا رواه ابن سيرين عن أبي هريرة. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: القول الأول، وهو وضع اليد على الخاصرة، هو الراجح.

(1)

"الْخَصْر": من الإنسان وسطه، وهو المستدقّ فوق الْوَرِكَين، والجمع: خُصُورٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، قاله في "المصباح" 1/ 170.

(2)

أخرجه ابن خزيمة وابن حبّان في "صحيحيهما" إلا أن فيه علّة، وهي الانقطاع في سنده، وسيأتي بيانه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

(3)

وقع في بعض نسخ النسائيّ بلفظ: "مُختصرًا"، وفي بعضها:"متخصِّرًا".

(4)

"لسان العرب" 4/ 240.

ص: 336

قال النوويّ رحمه الله: الصحيح الذي عليه المحققون، والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين، وبه قال أصحابنا في كتب المذهب أن المختَصِر هو الذي يصلي، ويده على خاصرته. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ويؤيده ما رواه أبو داود، والنسائيّ من طريق سعيد بن زياد، عن زياد بن صُبَيح، قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلى، قال: هذا الصَّلْب في الصلاة، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عنه. انتهى. وسيأتي ما قاله أهل العلم في سبب النهي في المسألة الرابعة، إن شاء اللَّه تعالى.

والحديث دليل على تحريم الاختصار في الصلاة، وبه يقول أهل الظاهر، وهو الظاهر؛ إذ لا صارف للنهي عنه، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ) هو ابن أبي شيبة شيخه الثاني (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أنه صرّح برفع الحديث، فإن رواية الحكم كانت صورتها صورة الموقوف، وإن كان لها حكم الرفع؛ لأن قول الصحابيّ:"نُهِيَ عن كذا" يعطى حكم الرفع، كما هو مذهب جمهور المحدثون، وإن خالف في ذلك بعضهم، قال الحافظ السيوطيّ في "ألفية الحديث":

وَليُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوابِ

نَحْوُ "مِنَ السُّنَّةِ" مِنْ صَحَابِي

كَذَا "أُمِرْنَا" وَكَذَا "كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ" أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

ثَالِثُهَا إنْ كَانَ لا يَخْفَى وَفِي

تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي

وأخرج الحديث الإمام أحمد في "مسنده"(2/ 290) عن يزيد بن هارون عن هشام موقوفًا، بلفظ:"نُهِيَ عن الاختصار في الصلاة". وزاد بعده: قال: قلنا لهشام: ما الاختصار؟ قال: يَضَع يده على خَصْره، وهو يصلي. قال يزيد: قلنا لهشام: ذكره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال برأسه: نعم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.

ص: 337

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 1223](545)، و (البخاريّ) في "العمل في الصلاة"(1219 و 1220)، و (أبو داود) في "الصلاة"(947)، و (الترمذيّ) فيها (383)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(890) وفي "الكبرى"(964)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2500)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 47 - 48)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 232 و 290 و 295 و 331 و 399)، و (الدارميّ) في "سننه"(1435)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(908)، (وابن حبّان) في "صحيحه"(2285)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(220)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1546 و 1547 و 1548 و 1549)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1199)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 287 و 288)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(730)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): اختلف العلماء -رحمهم اللَّه تعالى- في المعنى الذي نُهِيَ عن الاختصار في الصلاة لأجله على أقوال:

(الأول): أن اليهود تُكثر من فعله، فنُهِي عنه؛ كراهة للتشبه بهم، أخرجه البخاري في "صحيحه" في ذكر بني إسرائيل عن عائشة رضي الله عنها، زاد ابن أبي شيبة فيه:"في الصلاة"، وفي رواية:"لا تشبهوا باليهود".

(الثاني): أنه تَشَبُّهٌ بإبليس، قال الترمذيّ في "جامعه": وُيرْوَى أن إبليس إذا مشى يمشي مختصرًا، ولأنه أهبط مُتَخَصِّرًا، أخرجه ابن أبي شيبة، عن حميد بن هلال موقوفًا، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، حكاه عنه ابن أبي شيبة.

(الثالث): أنه راحة أهل النار، رَوَى ذلك ابن أبي شيبة عن مجاهد، قال:"وضع اليد على الْحِقْو استراحة أهل النار"، ورواه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها، ورَوَى البيهقيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الاختصار في الصلاة راحة أهل النار"، قال العراقي: وظاهر إسناده الصحة

(1)

، ورواه أيضًا الطبرانيّ.

(1)

لكن في سنده علّة قادحة، وهي سقوط راو من إسناده بين عيسى بن يونس، وهشام بن حسّان، وهو عبد اللَّه بن الأزور.

فقد أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"(1/ 45/ 1) من طريق محمد بن سلّام المنبجيّ، عن عيسى بن يونس، عن عبد اللَّه بن الأزور، عن هشام الْقُردوسيّ، وهو ابن

ص: 338

(الرابع): أنه فعل المختالين والمتكبرين، قاله المهلب بن أبي صفرة رحمه الله.

(الخامس): أنه شَكْلٌ من أشكال أهل المصائب، يصفّون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المآتم، قاله الخطابيّ رحمه الله.

(السادس): أنه صفة الراجز حين ينشد، رواه سعيد بن منصور من طريق قيس بن عباد بإسناد حسن.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أقرب الأقوال في ذلك هو الأول، فقد أخرجه البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها، ولكن لا منافاة بين الجميع، كما قاله الحافظ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): حديث الباب يدل على تحريم الاختصار في الصلاة، وإليه ذهب أهل الظاهرية، قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله: ومن تعمّد في الصلاة وضع يده على خاصرته بطلت صلاته. انتهى.

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: وممن كَرِهَ الاختصار في الصلاة: ابن عباس، وعائشة أم المؤمنين، ومجاهد، وأبو مِجْلَز، والنخعيّ، ومالك، والأوزاعيّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: كون النهي للتحريم كما قال أهل الظاهر

= حسّان عن محمد -هو ابن سيرين- عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال: لم يروه عن هشام إلا ابن الأزور، تفرّد به عيسى.

وقال الذهبيّ في "الميزان"(2/ 391): عبد اللَّه بن الأزور، عن هشام بن حسّان بخبر منكر، قال الأزديّ: ضعيف جدًّا، له عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"الاختصار في الصلاة استراحة أهل النار"، والمنبجيّ ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربّما أغرب، وقال ابن منده: له غرائب. انتهى.

وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 47)، وعبد الرزاق (3342) من طريق سفيان الثوريّ، عن ابن جريج، عن إسحاق بن عُويمر، عن مجاهد أنه قال. . . فذكره موقوفًا عليه، وإسحاق بن عُويمر مجهولٌ، أورده ابن أبي حاتم (2/ 231) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

فتبيّن بهذا أن الحديث ضعيف، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 339

هو الظاهر؛ لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحقيقي، كما هو مذهب الجمهور أن الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، ما لم يصرفه صارفٌ، وقد صَرّح بهذا العلامة الشوكانيّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ النَّهْي عَنْ مَسِّ الْحَصَى، وَتَسْوِيَةِ التُّرَابِ فِي الصَّلَاةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1224]

(546) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَيْقِيبٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْحَ فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي الْحَصَى، قَالَ: "إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(وَكِيع) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

3 -

(هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ) هو: هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، ورُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) عن (78) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

6 -

(مُعَيْقِيب) -بقاف، وآخره موحّدة، مصغّرًا- ابن أبي فاطمة الدَّوْسيّ، حَلِيف بني عبد شمس، أسلم قَديمًا بمكة، وهاجر الهجرتين، وشهد

ص: 340

بدرًا، وكان على خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستعمله أبو بكر وعمر على بيت المال.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه محمد، وابن ابنه إياس بن الحارث بن معيقيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.

قال ابن عبد البرّ: كان قد نزل به داء الجذام، فعولج منه بأمر عمر بن الخطاب بالحنظل فتوقف، وتُوُفّي في خلافة عثمان، وقيل: بل في خلافة عليّ سنة أربعين.

أخرج له الستّة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط، كرّره ثلاث مرات.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: يحيى، عن أبي سلمة.

4 -

(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا هذا الحديث، وله حديث آخر عن أبي داود والنسائيّ، من رواية إياس بن الحارث بن المعيقيب، عن جدّه معيقيب، أنه قال:"كان خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم حَدِيدًا مَلْويًّا، عليه فضةٌ. . . " الحديث.

6 -

(ومنها): أنه ليس في الكتب الستة من يسمّى معيقيب غير هذا الصحابيّ رضي الله عنه، وذكر ابن التين أنه ليس في الصحابة رضي الله عنهم أحدٌ أجذم غيره، قاله في "العمدة"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُعَيْقِيبٍ) رضي الله عنه وفي رواية شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة الآتية:

(1)

"عمدة القاري" 7/ 415.

ص: 341

"قال: حدّثني معيقيبٌ"، وفي رواية الترمذيّ من طريق الأوزاعيّ، عن يحيى: حدّثني أبو سلمة"، فوقع التصريح بالتحديث من كلّ من يحيى، وأبي سلمة (قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْحَ فِي الْمَسْجِدِ، يَعْنِي الْحَصَى) أي يقصد بقوله: "ذَكَر المسح" أي مسح الحصى في المسجد، والعناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن من هو؟، وفي رواية يحيى بن سعيد التالية: "أنهم سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المسح في الصلاة"، وفي رواية شيبان: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يُسوّي التراب حيث يسجد" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ) بكسر الهمزة شرطيّة (كُنْتَ لَا بُدَّ)"لا" نافيةٌ للجنس، و"بُدّ" بضمّ الباء، وتشديد الدال اسمها في محلّ نصب مبنيّ على الفتح؛ لتركّبه معها تركيب خمسة عشر.

قال في "اللسان": "ولا بُدّ منه": أي لا مَحالةَ، وليس لهذا الأمر بُدّ، أي لا مَحالةَ، و"البُدّ": الفراق، تقول: لا بدّ اليوم من قضاء حاجتي، أي لا فِراق منه. انتهى

(1)

.

والجملة معترضة بين "كان" وخبرها.

(فَاعِلًا) أي مسوّيًا للتراب، ولفظ الفعل أعمّ الأفعال، ولهذا جاء لفظ {فَاعِلُونَ} في موضع مؤدّون، في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)} [المؤمنون: 4](فَوَاحِدَةً") الفاء رابطة لجواب الشرط، و"واحدةً" منصوب على إضمار ناصب، تقديره: فامسح واحدة، ويجوز أن تكون منصوبة على أنها صفة لمصدر محذوف، والتقدير: إن كنت فاعلًا فافعل فَعْلَةً واحدةً، يعني مرّةً واحدة، وكذا هو في رواية الترمذيّ:"إن كنت فاعلًا فمرّةً واحدةً"، ويجوز رفعها على الابتداء، وخبرها محذوف، أي ففَعلةٌ واحدة تكفي، ويجوز أن تكون خبرًا لمحذوف، أي المشروع فَعْلةٌ واحدة، أفاده في "العمدة"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كنت لا بُدّ فاعلًا فواحدةً": معناه: لا تفعل، وإن فعلتَ فافعل واحدةً لا تزد، قال: واتَّفق العلماء على كراهة المسح؛ لأنه ينافي التواضع، ولأنه يَشْغَل المصلي، قال القاضي: وكره السلف

(1)

"لسان العرب" 3/ 81.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 7/ 415.

ص: 342

مسح الجبهة في الصلاة، وقبل الانصراف، يعني من المسجد مما يتعلق بها من تراب ونحوه. انتهى

(1)

.

وأخرج الإمام أحمد، من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كل شيء، حتى عن مسح الحصى، فقال:"واحدةً، أو دَعْ"، وأخرج أصحاب "السنن" من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى".

وأخرج أحمد بسند ضعيف عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى؟ فقال: "واحدةً، ولئن تُمْسِكْ عنها خير لك من مائة بدنة كلها سُودُ الْحَدَقَة"

(2)

.

وقوله: "إذا قام" المراد به الدخول في الصلاة؛ ليوافق حديث الباب، فلا يكون منهيًّا عن المسح قبل الدخوك فيها، بل الأولى أن يَفْعَل ذلك حتى لا يَشتغل باله، وهو في الصلاة به، قاله في "الفتح"

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معيقيب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 1224 و 1225 و 1226](546)، و (البخاري) في "كتاب العمل في الصلاة"(1207)، و (أبو داود) في "الصلاة"(946)، و (الترمذيّ) فيها (380)، و (ابن ماجه) فيها (1026)، و (النسائيّ) في "السهو"(1192) و"الكبرى"(1115)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1187)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 411)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 426 و 5/ 425)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(218 و 1394)، و (أبو عوانة) في

(1)

"شرح النووي" 5/ 37.

(2)

أخرجه أحمد في "المسند" برقم (13792)، وفي سنده شُرَحبيل بن سعد ضعّفه مالك، وابن عيينة، وابن سعد، وابن معين، وغيره.

(3)

"الفتح" 3/ 95.

ص: 343

"مسنده"(1894 و 1895 و 1896 و 1897 و 1898)، و (أبو نعيم) في (1200 و 1201 و 1202)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(895 و 896)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2275)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(664)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم مسح الحصى في الصلاة:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، فرخصّت فيه طائفة.

وممن رَخَّص في ذلك: أبو ذرّ، وأبو هريرة، وحذيفة، وكان ابن مسعود، وابن عمر يفعلانه في الصلاة، وبه قال من التابعين إبراهيم النخعيّ، وأبو صالح.

وحَكَى الخطابيّ في "المعالم" كراهته عن كثير من العلماء.

وممن كرهه من الصحابة: عمر بن الخطاب، وجابر، ومن التابعين الحسن البصريّ وجمهور العلماء بعدهم.

وحَكَى النوويّ في "شرحه" اتفاق العلماء على كراهته؛ لأنه ينافي التواضع، ولأنه يشغل المصلي.

وتُعُقّب في حكايته الاتفاق؛ فإن مالكًا لم ير به بأسًا، وكان يفعله في الصلاة، ولعلّه لم يبلغه الخبر.

وفي "التلويح": رُوي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمسحون الحصى لموضع سجودهم مرةً واحدةً، وكَرِهوا ما زاد عليها.

وذهب أهل الظاهر إلى تحريم ما زاد على المرة الواحدة، وقال ابن حزم: فرض عليه أن لا يمسح الحصى، وما يسجد عليه إلا مرةً واحدةً، وتركها أفضل، لكن يسوي موضع سجوده قبل دخوله في الصلاة.

وأخرجه الترمذيّ عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه"، ورواه أيضًا بقية الأربعة، وقال الترمذيّ: حديث أبي ذرّ حديث حسن، وتعليل النهي عن مسح الحصى بكون الرحمة تواجهه يدلّ على أن النهي حكمته أن لا يشتغل خاطره

ص: 344

بشيء يلهيه عن الرحمة المواجهة له، فيفوته حظه، وفي معنى مسح الحصى مسح الجبهة من التراب والطين والحصى في الصلاة.

وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "ما أحب أن لي حمر النعم، وأني مسحت مكان جبيني من الحصى، إلا أن يغلبني، فأمسح مسحةً"، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المتفق عليه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم انصرف عن الصلاة، وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين".

قال القاضي عياض: وكَرِه السلف مسح الجبهة في الصلاة، وقبل الانصراف يعني من المسجد، مما يتعلق بها من تراب ونحوه.

وحَكَى ابنُ عبد البرّ عن سعيد بن جبير، والشعبيّ، والحسن البصريّ أنهم كانوا يَكرَهون أن يمسح الرجل جبهته قبل أن ينصرف، ويقولون: هو من الجفاء، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"أربع من الجفاء: أن تصلي إلى غير سترة، أو تمسح جبهتك قبل أن تنصرف، أو تبول قائمًا، أو تسمع المنادي ثم لا تجيبه"، ذكر هذا كلّه في "العمدة"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح عدم مسح الحصى في الصلاة، إلا أن يضطرّ إلى ذلك، فيمسح مرّة واحدة، كما نصّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:"إن كنت لا بدّ فاعلًا، فواحدة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1225]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَيْقِيبٍ، أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَسْحِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ:"وَاحِدَةً")

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِنُ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

(1)

"عمدة القاري" 7/ 415 - 416.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 345

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، الإمام الحجة الثبت الناقد [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

والباقون تقدّموا قبله، وكذا شرح الحديث، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1226]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ فِيهِ: حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ، وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(خَالِدُ بْنَ الْحَارِثِ) الْهُجَميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني إسناد هشام الماضي، وهو: عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب.

وقوله: (وَقَالَ فِيهِ: حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ) فاعل "قال" ضمير خالد بن الحارث.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث هذه لم أجد من ساقها تامّة، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[. . .](. . .) - (ح)(وَحَدَّثَنَاه، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قَالَ: "إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب، أبو عليّ البغداديّ، قاضي الْمَوْصِل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.

ص: 346

2 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (فِي الرَّجُلِ) أي في حكم الرجل، وذكر الرجل للغالب، وإلا فالحكم جار في النساء أيضًا.

وقوله: (يُسَوِّي التُّرَابَ) أي يُعدّله.

(حَيْثُ يَسْجُدُ) أي في مكان السجود، وهل يتناول العضو الساجد؟، لا يبعد ذلك، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابُ النَّهْي عَنِ الْبُصَاقِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَنَهْي الْمُصَلِّي أَنْ يَبْصُقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1227]

(547) - (حَدَّثَنَا

(2)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:"إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد اللَّه الأصبحيّ، رأس المتثبّتين، وكبير المتقنين، الإمام المشهور [7](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

(1)

"الفتح" 3/ 99.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 347

3 -

(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب العدوي، أبو عبد الرحمن المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (75) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه وإن كان نيسابوريًّا إلا أنه دخل المدينة؛ للأخذ عن مالك.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصح الأسانيد على الإطلاق كما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله، قال يحيى بن بُكير لأبي زرعة الرازيّ: ليس ذا زَعْزَعَة عن زَوْبَعة

(1)

، وإنما ترفع السترة، فتنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه: مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما

(2)

، وإذا زيد قبله أحمد، عن الشافعيّ، سُمّي سلسلة الذهب، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:

فَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَيِّدِهْ

وَزِيدَ مَا لِلشَّفِعِي فَأَحْمَدِهْ

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا) بضمّ الموحّدة، وبالصاد المهملة: لغة في الْبُزاق -بالزاي- يقال: بَصَقَ يَبْصُقُ

(1)

"الزعزعة": الاضطراب، والتحريك الشديد، و"الزَّوْبَعة": الإعصار التي ترفع التراب إلى الهواء.

(2)

"تدريب الراوي" 1/ 78.

ص: 348

بَصْقًا، من باب نصر، قال في "القاموس": الْبُصَاق كغُرَاب، والْبُسَاقُ، والْبُزَاق: ماء الْفَمِ إذا خرج منه، وما دام فيه فهو ريقٌ. انتهى.

(فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ) متعلّق بـ "رأى"، وفي الرواية التالية:"رأى نُخامة في قبلة المسجد"، وفي رواية البخاريّ:"في جدار المسجد"(فَحَكَّهُ) أي قَشَرَهُ، يقال: حَكَكت الشيءَ حكًّا، من باب قتل: قَشَرْتُهُ. قاله في "المصباح".

ولم يُبَيِّن في هذه الرواية بأي شيء حَكَّه، وسيأتي في حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في المسجد فحكها بحصاة"، وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في المسجد فحكه بيده"، وفي حديث جابر رضي الله عنه عند أبي داود "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في المسجد فحكها بعُرْجُون".

فالظاهر حمل المطلق هنا على المقيد في هذه الروايات، وأما اختلافها في كون الحكّ باليد، أو الحصى، أو العُرْجون، فيحمل على تعدد الواقعة، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ) بكسر القاف، وفتح الباء: أي جهة قُدّامه.

وفيه تعظيم المساجد عن أثْفَال البدن، وعن القاذورات بالطريق الأولى، وفيه احترام جهة القبلة، وقد بيّن علة النهي بقوله:(فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ) هذا وأمثاله من أحاديث الصفات مما يجب الإيمان به، وإثباته كما صح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بلا تأويل، ولا تشبيه، ولا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في جملة كلامه في آيات الصفات وأحاديثها ما نصه: وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن اللَّه قِبَلَ وجهه، فلا يبصق قبل وجهه. . . " الحديث حقّ على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قِبَل وجه المصلي.

بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء، أو

ص: 349

يناجي الشمس والقمر، لكانت السماء، والشمس، والقمر فوقه، وكان أيضًا قبل وجهه.

وقد ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم المثل بذلك -وللَّه المثل الأعلى- ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه؛ لا تشبيه الخالق بالمخلوق، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليًا به. . . "، فقال له أبو رَزِين الْعُقَيليّ رضي الله عنه: كيف يا رسول اللَّه، وهو واحد ونحن جميع؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"سأنبيك بمثل ذلك في آلاء اللَّه، هذا القمر كلُّكم يراه مُخليًا به، وهو آية من آيات اللَّه، فاللَّه أكبر". انتهى كلامه باختصار، فإن أردت تمام كلامه فارجع إلى "مجموع الفتاوى"، فقد حقق هذا الموضوع فيه تحقيقًا بالغًا لا تجده عند غيره ممن تكلم فيه

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الخطابي: معناه أنَّ توجهه إلى القبلة مُفْضٍ بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير: فإن مقصوده بينه وبين قبلته، وقيل: هو على حذف مضاف، أي عظمة اللَّه، أو ثواب اللَّه.

وقال ابن عبد البر: هو كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة، وقد نَزَعَ به بعض المعتزلة القائلين بأن اللَّه في كل مكان، وهو جهل واضح؛ لأن في الحديث أنه يبزق تحت قدمه، وفيه نقض ما أصّلُوه، وفيه الردّ على من زعم أنه على العرش بذاته، ومهما تُؤُوّل به هذا جاز أن يتأول به ذاك، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.

وقد رد على ما ذكره صاحب "الفتح" هنا العلّامة المحقّق عبد العزيز بن باز رحمه الله، فقال: ليس في الحديث المذكور ردّ على من أثبت استواء الرب سبحانه على العرش بذاته؛ لأن النصوص من الآيات، والأحاديث في إثبات استواء الرب على العرش بذاته محكمة قطعية واضحة لا تحتمل أدنى تأويل.

وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها، والإيمان بما دلّت عليه على الوجه الذي يليق باللَّه سبحانه من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته.

وأما قوله في هذا الحديث: "فإن اللَّه قبل وجهه إذا صلى"، وفي لفظ:

(1)

راجع: "مجموع الفتاوى" 5/ 107.

ص: 350

"فإن ربه بينه وبين القبلة" فهذا لفظ مُحْتَمِلٌ أن يفسر بما يوافق النصوص المحكمة، كما أشار الإمام ابن عبد البر إلى ذلك، ولا يجوز حمل هذا اللفظ وأشباهه على ما يناقض نصوص الاستواء الذي أثبتته النصوص القطعية المحكمة الصريحة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلامه رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الردّ حسنٌ جدًّا، إلا قوله:"بذاته" فإنها وإن وُجِدت في عبارة بعض العلماء لإيضاح المعنى، فلا ينبغي ذكرها؛ لئلا يكون زيادة على النصّ، وقد أنكر الحافظ الذهبيّ رحمه الله في كتابه "العلو للعلي الغفار" على من قال:"هو تعالى فوق عرشه بذاته"؛ لعدم ورودها عن السلف، واعتبرها من فضول الكلام

(1)

.

وأما ما نقله في "الفتح" عن الخطابيّ، وكذا قول السنديّ: إنه يناجيه، ويقبل عليه تعالى في تلك الجهة، وهو تعالى من هذه الحيثية كأنه في تلك الجهة، فلا يليق إلقاء البصاق فيها. انتهى، ففيه نظر لا يخفى.

والحاصل أن الصواب في هذا الباب إثبات النصوص كما وردت على ظاهر معناها على الوجه الذي أراده اللَّه تعالى مع اعتقاد تنزيه اللَّه تعالى عن مشابهة الخلق، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، واللَّه تعالى أعلم.

(إِذَا صَلَّى) أي دخل في الصلاة، ونصّ في الحديث على النهي عن البصاق قبل وجهه حال الصلاة، لفضيلة تلك الحال على سائر الأحوال، وإلا فالبصاق إلى جهة القبلة ممنوع مطلقًا، في الصلاة وغيرها، وفي المسجد وغيره، كما يأتي قريبًا، خلافًا لمن خَصّه بقبلة المسجد، أو حال الصلاة.

وقال الباجيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون خَصّ بذلك حال الصلاة؛ لأنه حينئذ يكون مستقبل القبلة، وفي سائر الأحوال قد تكون عن يساره، وهي الجهة التي أمر بالبصاق إليها. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

انظر: "مختصر العلو" للعلامة الألباني رحمه الله (ص 255 - 256).

(2)

ذكره في: "المنهل العذب المورود" 4/ 99.

ص: 351

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 1227 و 1228](547)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(406 و 753 و 1213 و 6111)، و (أبو داود) في "الصلاة"(479)، و (النسائيّ) في "المساجد"(724)، و"الكبرى"(803)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(743)، و (أحمد) في "مسنده"(5334)، (وأبو نعيم) في "مستخرجه"(1203 و 1204)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1200 و 1201 و 1202)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(923)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن البصاق في الصلاة؛ لمنافاته التعظيم للَّه عز وجل؛ إذ المصلي يناجي ربّه عز وجل.

2 -

(ومنها): مشروعية إنكار المنكر لمن راَه، وإزالته باليد، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". أخرجه مسلم وأصحاب السنن.

3 -

(ومنها): غضب الإمام على رعيته وزجرهم إذا رأى منهم إخلالًا بأمر من أمور الشرع، فعند أبي داود:"فتغيّظ على الناس"، وفي حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح:"فشق ذلك عليه، حتى رئي في وجهه".

4 -

(ومنها): وجوب احترام القبلة وتعظيمها، وقد عَلَّل ذلك بقوله:"فإن اللَّه عز وجل قِبل وجهه".

قال في "الفتح": وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام، سواء كان في المسجد أو لا، ولا سيما من المصلي، فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم؟.

وفي "صحيح ابن خزيمة"، و"ابن حبان" من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا:"من تَفَلَ تُجَاه القبلة جاء يوم القيامة، وتَفْلُهُ بين عينيه"، وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "يبعث صاحب النخامة في القبلة

ص: 352

يوم القيامة، وهي في وجهه"، ولأبي داود، وابن حبان، واللفظ لأبي داود من حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه: "أن رجلًا أمَّ قومًا، فبصق في القبلة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين فرغ:"لا يصلي لكم" فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه وأخبروه بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"نعم"، وحسبت أنه قال:"إنك آذيت اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): ذكر ابن عبد البرّ رضي الله عنه في "التمهيد" عند هذا الحديث إجماع العلماء على أن العمل القليل في الصلاة لا يضرها.

قال العراقيّ رحمه الله: فما أدري هل أراد بالعمل القليل نفس البصاق، أو أراد ما ورد في حديث آخر من كونه يبصق في ثوبه، أو أراد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حكّه من القبلة، وهو في الصلاة؟ وهو الظاهر، فقد روى البخاريّ من رواية الليث، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد، وهو يصلي، فحتها، ثم قال حين انصرف. . . " الحديث.

وفي بعض طرقه أنه كان لِخطب، كما رواه أبو داود بإسناد صحيح من رواية أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب يومًا إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيّظ على الناس، ثم حكها، قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران، فلطخه به". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: اختَلَفت الأحاديث في البصاق الذي وجده النبيّ صلى الله عليه وسلم في القبلة، هل كان ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم، أو في مسجدآخر؟.

فقيل: إنه كان في مسجد الأنصار، بدليل ما رواه مسلم، وأبو داود من رواية عبادة بن الوليد، قال: أتينا جابرًا، وهو في مسجده، فقال: أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا، وفي يده عُرجون ابن طاب، فنظر، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها، فحتها بالعرجون. . . " الحديث. لفظ أبي داود.

(1)

حديث حسن، راجع:"صحيح أبي داود" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 95.

ص: 353

وظاهر ما تقدم من كونه كان في الخطبة أنه كان في مسجد المدينة، والظاهر أنهما واقعتان، أو وقائع، ففي قصة مسجد الأنصار أنه حتّها بالعرجون، وفي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نخامة في المسجد فحكها بحصاة، وفي قصة مسجد الأنصار:"أروني عبيرًا"، فقام فتى من الحيّ يشتد إلى أهله، فجاء بخَلُوق في راحته، فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعله على رأس العرجون، ثم لطخ به على أثر النخامة.

وعند النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه أنه رأى نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها، وجعلت مكانها خَلُوقًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما أحسن هذا".

وفي بعضها أنه كان في الصلاة، وفي بعضها أنه كان يخطب، كما تقدم، فهذا يدلّ على اختلاف واقعتين، أو وقائع من غير تعارض. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1228]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ

(2)

، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ- عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا

(3)

ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ- (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، إِلَّا الضَّحَّاكَ، فَإِن فِي حَدِيثِهِ نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ).

(1)

"طرح التثريب" 2/ 386 - 387.

(2)

وفي نسخة: "قتيبة بن سعيد".

(3)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 354

رجال هذا الإسناد: عشرون:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة تقدّم قبل باب.

4 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قريبًا.

5 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [5] مات سنة بضع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

6 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد المذكور قبل بابين.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر المذكور قريبًا.

8 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمام المشهور المذكور قريبًا أيضًا.

9 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) ذُكر قبل بابين.

10 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنَ عُلَيَّةَ) تقدّم قريبًا.

11 -

(أَيُّوبَ) بن أبي تميمة السختيانيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

12 -

(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد بن رافع، تقدّم قريبًا أيضًا.

13 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

14 -

(الضَّحَّاكُ بْنَ عُثْمَانَ) بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام الأسديّ الحِزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

15 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

16 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصة، ثقةٌ ثقةٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

17 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ

ص: 355

مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضل، لكنه يدلّس ويُرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

18 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي [5](ت 141) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (جَمِيعًا) يعني أن عبد اللَّه بن نمير، وأبا أسامة معًا رويا عن عبيد اللَّه بن عمر العمريّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) أي كلّ هؤلاء الخمسة: عُبيد اللَّه، والليث بن سعد، وأيوب، والضحّاك بن عثمان، وموسى بن عقبة رووا عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ) يعني أن حديث هؤلاء الخمسة عن نافع يوافق معنى حديث مالك عنه.

[تنبيه]: رواية عبيد اللَّه بن عمر هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(5130)

حدّثنا يحيى، عن عبيد اللَّه، أخبرنا نافع، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى نُخامة في قبلة المسجد فحَتّها، ثم قال:"إذا كان أحدكم في الصلاة، فلا يتنخم، فإن اللَّه تعالى قِبَل وجه أحدكم في الصلاة". انتهى.

وأما رواية الليث بن سعد، فساقها أيضًا الإمام أحمد رحمه الله، فقال:

(5385)

حدثنا أبو سلمة

(1)

، أخبرنا ليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، وهو يصلي بين يدي الناس، فحتّها، ثم قال حين انصرف من الصلاة:"إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن اللَّه عز وجل قِبَل وجهه، فلا يَتَنَخّمنّ أحد قِبَل وجهه في الصلاة". انتهى.

وأما رواية أيوب، فقد ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله، فقال:

(1213)

حدّثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيّظ على أهل المسجد، وقال: إن اللَّه قِبَل أحدكم، فإذا كان في صلاته، فلا يبزقنّ، أو قال:

(1)

هو منصور بن سلمة الخزاعيّ.

ص: 356

لا يتنخمنّ، ثم نزل، فحتّها بيده، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا بزق أحدكم فليبزق على يساره. انتهى.

وأما رواية الضحّاك بن عثمان، وموسى بن عقبة، فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1229]

(548) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(2)

رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَهَا بِحَصَاةٍ، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ أَمَامَهُ، وَلَكِنْ يَبْزُقُ

(3)

عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم أول الباب.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي

3 -

(عَمْرو الناقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](تخ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل بابين.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.

6 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3

(4)

] (ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

7 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الصحابيّ ابن

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

(2)

وفي نسخة: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(3)

وفي نسخة: "ليبزُق".

(4)

جعله في التقريب من الثانية، والذي يظهر لي أنه من الثالثة، فتأمل.

ص: 357

الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل، فقال: قال يحيى: "أخبرنا سفيان بن عيينة" إيضاحًا بأنه صرّح بالإخبار، ونسب شيخه إلى أبيه، بخلاف الآخرين.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول ما أخرج له أبو داود وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، والثالث ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وابن عيينة مكيّ، ويحيى نيسابوريّ، وأبو بكر كوفيّ، وعمرو بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الزهريّ، عن حميد.

5 -

(ومنها): أن أبا سعيد صحابيّ ابن صحابيّ، أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(رَأَى نُخَامَةً) بضم النون، وتخفيف الخاء المعجمة كالنُّخَاعة وزنًا ومعنى، يقال: تنخّم الرجل: إذا تنخع، وفي "المطالع": النُّخَامة: ما يخرج من الصدر، وهو البلغم اللَّزِج، وفي "النهاية": النخامة: البَزْقَة التي تخرج من الرأس، ويقال: النخامة: ما يخرج من الصدر، والبصاقُ: ما يخرج من الفم، والمخاط: ما يسيل من الأنف. قاله في "العمدة"

(1)

.

(فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ) متعلق بـ "رأى"، أو بمحذوفٍ صفةٍ لـ "نخامة"، أي نخامةً كائنةً في حائط قبلة المسجد النبويّ.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 149.

ص: 358

(فَحَكَّهَا) أي قَشَرَ تلك النخامة (بِحَصَاةٍ) هي واحدة الحصى، وهي صغار الحجارة.

[فإن قيل]: ظاهر هذا الحديث كحديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي يدلّ على أن الذي تولى إزالتها هو النبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، ورواية أنس عند النسائيّ بلفظ:"فقامت امرأة من الأنصار، فحكّتها، وجعلت مكانها خَلُوقًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا! " يدلّ على أن الذي باشر ذلك امرأة من الأنصار، فكيف التوفيق بينهما؟.

[أجيب]: بحمل الاختلاف على تعدد الواقعة، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ نَهَى) بالبناء للفاعل، أي منع النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ) وعلة النهي عنه كونه محل ملَك، فعند أبي داود من طريق ابن عجلان، وصححه الحاكم على شرط مسلم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُحِبّ العَرَاجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد، فرأى نُخامة في قبلة المسجد، فحَكّها، ثم أقبل على الناس مُغْضَبًا، فقال:"أَيَسُرُّ أحدكم أن يُبصَقَ في وجهه؟، إن أحدكم إذا استقبل القبلة، فإنما يستقبل ربه عز وجل، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه، ولا في قبلته، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه، فإن عجل به أمر فليقل هكذا"، ووصف لنا ابن عجلان ذلك أن يتفل في ثوبه، ثم يرد بعضه على بعض.

(أَوْ أَمَامَهُ) وعلة النهي هو قوله في حديث أبى داود المذكور: "فإنما يستقبل ربّه عز وجل"، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي:"فإن اللَّه قبل وجهه"(وَلَكِنْ يَبْزُقُ) وفي نسخة: "لِيَبْزُق"، وهو بضمّ الزاي، يقال: بزق يَبْزُق من باب نصر بُزَاقًا: بَصَقَ، وهو إبدال منه (عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) ووقع عند البخاريّ في رواية أبي الوقت: "وتحت قدمه"، بالواو، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي للمصنّف من طريق أبي رافع، عنه:"ولكن عن يساره تحت قدمه" بحذف "أو"، وفي حديث أنس رضي الله عنه:"ولكن عن شماله تحت قدمه".

قال في "الفتح": والروايات التي فيها "أو" أعم؛ لكونها تَشْمَل ما تحت القدم، وغير ذلك. انتهى.

وقال صاحب "المفهم": وظاهر "أو" الإباحة، أو التخيير ففي أيهما بصق

ص: 359

لم يكن به بأس، قال: وإليه يرجع معنى قوله: "عن شماله تحت قدمه"، فقد سمعنا من بعض مشايخنا أن ذلك إنما يجوز إذا لم يكن في المسجد إلا التراب، أو الرمل، كما كانت مساجدهم في الصدر الأول، فأما إن كان في المسجد بُسُط، وما له بالٌ من الْحُصُر مما يُفسده البصاق، ويقذّره، فلا يجوز؛ احترامًا للماليّة. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 1229 و 1230](548)، و (البخاريّ)(408 و 409 و 410 و 411 و 414)، و (النسائيّ) في "المساجد"(725)، و"السنن الكبرى"(804)، (وابن ماجه) في "الصلاة"(761)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1681)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2227)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 364)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 6 و 58 و 88 و 93)، و (الحميديّ) في "مسنده"(728)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(975)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(874)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 3255)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2268 و 2269)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1195 و 1196)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1205 و 1206 و 1207)، و (البيهقيّ)(2/ 293)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(493)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن البزاق في المسجد في الصلاة أو غيرها.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن البزاق بين المصلّي وقبلته؛ لأنه يناجي ربّه.

3 -

(ومنها): النهي عن البزاق عن يمين المصلّي؛ لأنه مكان الملك.

4 -

(ومنها): بيان طهارة البصاق والنخامة؛ إذ لو لم يكن طاهرًا لما أمر

(1)

"المفهم" 2/ 160.

ص: 360

بدفنه في المسجد، ولا بأن يبصق في ثوبه ويدلكه، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وهو كذلك.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: ولا أعلم خلافًا في طهارة البصاق، إلا شيئًا يُرْوَى عن سلمان رضي الله عنه، والسنن الثابتة ترده، وحكاه الزكيّ عبد العظيم في "حواشيه" على "السنن" عن النخعيّ أيضًا.

5 -

(ومنها): تفقُّد الإمام أحوال المساجد، وتعظيمها، وصيانتها.

6 -

(ومنها): أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة، ولا تفسد صلاته.

7 -

(ومنها): أن البصاق طاهرٌ، وكذا النخامة والمخاط، خلافًا لمن يقول: كلُّ ما تستقذره النفس حرام.

8 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع، فان جهة اليمين مفضَّلة على اليسار، وأن اليد مفضلة على القدم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قصر في "الفتح" التحسين والتقبيح على الشرع فقط، وهو مذهب الأشاعرة، والحقّ أن التحسين والتقبيح بالشرع والعقل، وإنما الذي يختصّ بالشرع هي الأحكام الشرعيّة، من الإيجاب والتحريم، ومقدار الثواب والعقاب، ونحو ذلك، وقد حقّقت المسألة في "التحفة المرضيّة" و"شرحها"، فراجعهما تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

9 -

(ومنها): الحث على الاستكثار من الحسنات، وإن كان صاحبها مليًّا؛ لكونه صلى الله عليه وسلم باشر الحك بنفسه، وهو دالّ على عِظَم تواضعه صلى الله عليه وسلم، زاده اللَّه تشريفًا وتعظيمًا صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): أن في أمره صلى الله عليه وسلم بدفن النخامة في المسجد دليل على تنظيف المسجد وتنزيهه عما يستقذر، ورَوَى أبو داود وابن ماجه من حديث عائشة لقالت:"أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تُنَظّف، وتُطَيَّب"

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي حكم البصاق في المسجد تنزيهه عن أن

(1)

حديث صحيح.

ص: 361

يؤكل فيه مثل البَلُّوط نوع من الشجر والزبيب لعَجَمِه -أي نواه- وما له دسم وتلويث، وحَبّ رقيق، وما يَكْنُسُه المرء من بيته.

11 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: فيه أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة إذا لم يبصق قبل وجهه، ولا يقطع ذلك صلاته، ولا يفسدها إذا غلبه ذلك، واحتاج إليه، ولا يبصق قبل وجهه الْبَتَّةَ.

12 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ: أيضًا في إباحة البصاق في المسجد لمن غلبه ذلك دليل على أن النفخ، والتنحنح في الصلاة إذا لم يقصد به صاحبه اللعب والعبث، وكان يسيرًا، لا يضر المصلي في صلاته، ولا يفسد شيئًا منها؛ لأنه قلما يكون بصاق، إلا ومعه شيء من النفخ، والنحنحة، والبصاق، والنخاعة، والنخامة كل ذلك متقارب.

قال: والتنخم، والتنخع ضرب من التنحنح، ومعلوم أن للتنخم صوتًا كالتنحنح، وربما كان معه ضرب من النفخ عند القذف بالبصاق، فإن قصد النافخ أو المتنحنح في الصلاة بفعله ذلك اللعب، أو شيئًا من العبث أفسد صلاته، وأما إذا كان نفخه تأوُّهًا من ذكر النار إذا مرّ به ذكرها في القرآن، وهو في الصلاة فلا شيء عليه.

ثم ذكر اختلاف العلماء في ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك أنه يقطع الصلاة النفخ والتنحنح، وروى ابن عبد الحكم، وابن وهب أنه لا يقطع الصلاة النفخ، والتنحنح، وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن: يقطع النفخ إن سمع، وقال أحمد وإسحاق: لا يقطع، وقال الشافعي: ما لا يُفْهِم منه حروف الهجاء فليس بكلام.

قال ابن عبد البر: وقول مَن راعى حروف الهجاء، وما يُفْهَم من الكلام أصحّ الأقاويل، إن شاء اللَّه. انتهى.

ومذهب الشافعي في النحنحة، والضحك، والبكاء، والنفخ، والأنين أنه إن بان منه حرفان بطلت ما لم يكن معذورًا بغلبة، أو تعذر قراءة الفاتحة ما لم يكثر الضحك، وإن كان مغلوبًا فإنه يضر. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "طرح التثريب" 2/ 380 - 386.

ص: 362

(المسألة الرابعة): هل المراد بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري: ". . . فإنه مُنَاجٍ للَّه عز وجل ما دام في مصلاه"، أي المكان الذي صلى فيه، أو المسجد الذي صلى فيه، أو المراد بالمصلَّى نفس الصلاة؟ والأول هو الحقيقة، فحمله عليه أولى، ويدل على الثاني قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"فإن اللَّه قِبَل وجهه إذا صلى"، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "ما دام في مصلاه" يقتضي تخصيص المنع بما إذا كان في الصلاة، لكن التعليل المتقدم بأذى المسلم يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقًا، ولو لم يكن في صلاة، فيُجْمَع بأن يقال: كونه في الصلاة أشدّ إثمًا مطلقًا، وكونه في جدار القبلة أشدّ إثمًا من كونه في غيرها من جدار المسجد، فهي مراتب متفاوتة مع الاشتراك في المنع. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): ثبت في رواية أبي داود تعليل النهي عن البصاق في اليمين بأن فيه ملكًا، قال الحافظ رحمه الله: فإن قلنا: المراد بالملك الكاتب، فقد يُسْتَشْكَل اختصاصه بالمنع مع أن عن يساره ملكًا آخر.

وأجيب باحتمال اختصاص ذلك بملك اليمين تشريفًا له وتكريمًا، هكذا قال جماعة من القدماء، ولا يخفى ما فيه.

وأجاب بعض المتأخرين بأن الصلاة أمّ الحسنات البدنية، فلا دخل لكاتب السيئات فيها، ويَشهَد له ما رواه ابن أبي شيبة من حديث أبي أمامة في هذا الحديث:"فإنه يقوم بين يدي اللَّه، وملكه عن يمينه، وقرينه عن يساره". انتهى.

فالتفل حينئذ إنما يقع على القرين، وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحوّل في الصلاة إلى اليمين، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

، وهو توجيه حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): أَطْلق في هذا الحديث الإذن في أن يبصق عن

(1)

"الفتح" 2/ 73 - 74.

(2)

"الفتح" 2/ 74.

ص: 363

يساره، وهو محمول على ما إذا كان جهة يساره فارغًا من المصلين، بدليل ما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ من حديث طارق بن عبد اللَّه المحاربيّ رضي الله عنه وفيه:". . . ولكن تلقاء يساره، إن كان فارغًا، أو تحت قدمه اليسرى".

قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذا يدل عليه قوله في بعض طرق حديث أبي هريرة الآتي للمصنّف، بلفظ:"فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا" أي فإن لم يجد جهة شماله فارغًا، قاله العراقيّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): قد ذكر العراقيّ في "طرح التثريب" فوائد تتعلق بحديث الباب، أحببت إيرادها هنا، مع المناقشة لبعضها، وإن كان بعضها تقدم تكميلًا للفوائد، وتكثيرًا للعوائد، قال رحمه الله:

[الأولى]: هذا النهي في البصاق أمامه، أو عن يمينه، هل يفيد كونه في المسجد أو عام في المصلين في أيّ موضع كانوا؟.

الظاهر أن المراد العموم؛ لأن المصلي مُنَاجٍ للَّه تعالى في أي موضع صلى، والملك الذي عن يمينه معه، أيّ موضع صلى، ولكن البخاريّ بوّب على هذا الحديث:"باب دفن النخامة في المسجد"، وإنما قيّده البخاريّ بالمسجد؛ لأنه لم يأمر بدفن النخامة في غير المسجد.

ويدل عليه ما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة، فحَكّها، فقال:"إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمنّ قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى". لفظ البخاريّ، ولم يَسُق مسلم لفظه.

[الثانية]: هل المراد بالقيام للصلاة يعني قوله: "إذا قام أحدكم للصلاة فلا يبصق أمامه" الدخول فيها، أو النهوض، والانتصاب لها ولو قبل الإحرام؟.

والجواب: أنه إن كان في غير المسجد، أو غيره، فلا حرج في ذلك قبل الشروع في الصلاة إذا كان في غير المسجد، وإن كان المراد بذلك تقييد كونه في المسجد، فسواء في ذلك بعد الإحرام، أو قبله، بل دخول المسجد كان في

ص: 364

النهي عن البزاق فيه، وإن لم يكن قام إلى الصلاة، كما ثبت في حديث أنس المتفق عليه:"البزاق في المسجد خطيئة".

[الثالثة]: هذا النهي عن بصاق المصلي أمامه، أو عن يمينه، هل هو على التحريم، أو التنزيه؟.

قال القرطبيّ رحمه الله: إن إقباله صلى الله عليه وسلم على الناس مُغْضبًا يدل على تحريم البصاق في جدار القبلة، وعلى أنه لا يُكَفَّر بدفنه، ولا بحكه، كما قال في جملة المسجد:"البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها".

قال العراقيّ رحمه الله: ويدل على تحريم البصاق في القبلة ما رواه أبو داود بإسناد جيِّد من حديث السائب بن خلاد رضي الله عنه: أن رجلًا أمَّ قومًا، فبصق في القبلة، ورسول اللَّه كليم ينظر إليه، فقال حين فرغ:"لا يصلي لكم. . . " الحديث. وفيه أنه قال له: "إنك آذيت اللَّه ورسوله".

وأطلق جماعة من الشافعيين كراهية البصاق في المسجد، منهم المحامليّ، وسُلَيم الرازيّ، والرويانيّ، وأبو العباس الجرجانيّ، وصاحب "البيان" رحمهم الله، وجزم النوويّ رحمه الله في "شرح المهذَّب"، و"التحقيقِ" بتحريمه، وكأنه تمسك بقوله في الحديث الصحيح:"إنه خطيئة".

وقال أبو الوليد الباجيّ رحمه الله: فأما من بصق في المسجد، وستر بصاقه، فلا إثم عليه، وحكى القرطبيّ رحمه الله أيضًا عن ابن مكيّ إنه إنما يكون خطيئة لمن تفل فيه ولم يدفنه، قال القرطبيّ: وقد دل على صحة هذا قوله في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند مسلم: "ووجدت في مساوي أعمالها: النخامة تكون في المسجد، لا تدفن"، فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل بذلك، وببقائها غير مدفونة.

قال العراقيّ رحمه الله: ويدل عليه أيضًا إذنه صلى الله عليه وسلم في ذلك في حديث الباب بقوله: "أو تحت رجليه، فيدفنه"، إن حملنا الحديث على إرادة كونه في المسجد، كما تقدم، وهو مصرح به في حديث أبي سعيد، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا التفصيل عندي هو الأولى جمعًا بين الأحاديث.

ص: 365

والحاصل أن البصاق في المسجد محرَّم إذا لم يدفن، واللَّه تعالى أعلم.

[الرابعة]: علَّل النهي عن البصاق أمامه بكونه مناجيًا للَّه تعالى، وفي حديث ابن عمر بأن اللَّه قِبَل وجهه إذا صلى، وفي حديث أبي هريرة الآتي:"ما بال أحدكم يقوم مستقبلًا ربه، فيتنخع أمامه".

ولا منافاة بين ذلك، فإن المراد إقبال اللَّه تعالى عليه، كما سيأتي.

وقال ابن عبد البر رحمه الله: وهذا كلام خرج على التعظيم لشأن القبلة، وإكرامها، قال: وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة إلى أن اللَّه تعالى في كل مكان، وليس على العرش، قال: وهذا جهل من قائله، لأن قوله في الحديث:"يبصق تحت قدمه، وعن يساره" ينقض ما أصَّلُوه في أنه في كل مكان.

قال العراقي: هذا كلام ابن عبد البر، وهو أحد القائلين بالجهة، فاحذره، وإنما ذكرته لأنّبه عليه؛ لئلا يُغْتَرّ به، والصواب ما قدمناه بدليل ما أخرجه القاضي إسماعيل بإسناد صحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا قام الرجل في صلاته أقبل اللَّه تعالى عليه بوجهه، فلا يبزقن أحدكم في قبلته. . . " الحديث.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله العراقيّ ردًّا على ابن عبد البر، وصوّبه غير صواب؛ بل الصواب مع ابن عبد البر، وهو الذي عليه أهل الحديث، وهو مذهب سلف هذه الأمة، وذلك أن ابن عبد البرّ من كبار المحدثين، ومن محققي الفقهاء والأصوليين، ومذهب هؤلاء: الإيمان بما وصف اللَّه تعالى به نفسه في كتابه، أو صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصفُهُ به، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل.

فيا أيها العقلاء، ويا أصحاب الألباب، فهل من يؤمن بقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] الآية، بأن اللَّه تعالى استوى على العرش على معناه اللغويّ العربيّ، استواء يليق بجلاله، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي اتفقت الأمة على صحته وقبوله:"ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا. . . " الحديث، بأن اللَّه تعالى ينزل نزولًا حقيقيًّا يليق بجلاله من غير

ص: 366

تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تشبيه، ولا تمثيل، فهل هو على الصواب؟ أم من يعتقد أن معنى استوى: استولى، وأن معنى ينزل: ينزل ملكه، ويسلك مسلك التحريف والتأويل هو الذي على الصواب؟! فباللَّه أنصفوا، وقولوا الحق، أيهما على الصواب؟، وأيهما معه الحق؟! {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].

اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمواتِ والأرضِ عالِمَ الغَيْب والشَّهادَة، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفون، اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ، إنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

وقال صاحب "المفهم": إنه لما كان المصلي يتوجه بوجهه وقصده وكلّيته إلى هذه الجهة؛ نزّلها في حقه وجود منزلة اللَّه تعالى، فيكون هذا من باب الاستعارة، كما قال:"الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض"، أي بمنزلة يمين اللَّه.

قلت: وقد أوّل الإمام أحمد هذا الحديث. قال القرطبي: وقد يجوز أن يكون من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأنه قال: مستقبل قبلة ربه، أو رحمة ربه، كما قال في الحديث الآخر:"فلا يبصق قبل القبلة، فإن الرحمة تواجهه".

قال العراقي: ولا أحفظ هذا اللفظ في البصاق، وإنما هو في مسح الحصى، كما رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصا فإن الرحمة تواجهه". انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: كلام صاحب "المفهم" هو عين ما قاله العراقي فتنبه.

وأما قوله: وقد أوَّل الإمام أحمد هذا الحديث، فقد ردّه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (5/ 398). قال رحمه الله: وأما ما حكاه أبو حامد الغزاليّ عن بعض الحنابلة: أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء: "الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض"، و"قلوب العباد بين أصبعين من أصابع

ص: 367

الرحمن"، و"إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمين"، فهذه الحكاية كَذِبٌ على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد؛ ولا يُعرَف أحد من أصحابه نَقَل ذلك عنه، وهذا الحنبليّ الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يُعْرَف، لا علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال. انتهى كلام شيخ الإسلام، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، فتمسّك به تسلم من التدليس والتلبيس، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1230]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ

(2)

، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، عَنْ يُونُسَ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ، أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً، بِمِثْلِ

(3)

حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَرْمَلَةُ) بن يحيى التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه المصريّ الحافظ الفقيه، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

5 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

6 -

(أبوه) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(2)

وفي نسخة: "وحرملة بن يحيى".

(3)

وفي نسخة: "مثلَ".

ص: 368

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (كِلَاهُمَا) يعني يونس، وإبراهيم بن سعد.

[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد هذه، ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 335) فقال:

(1195)

حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: حدّثني حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد الخدريّ يقولان: رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نُخامةً في القبلة، فتناول حصاةً فحَكّها، ثم قال:"لا يتنخم أحدكم في القبلة، ولا عن يمينه، وليبصُقْ عن يساره، أو تحت رجله". انتهى.

وأما رواية إبراهيم بن سعد هذه فساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(409)

حدّثنا موسى بن إسماعيل، قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد، أخبرنا ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاةً، فحكها، فقال:"إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1231]

(549) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ، أَوْ مُخَاطًا، أَوْ نُخَامَةً، فَحَكَّهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

ص: 369

2 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [3](94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

3 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، توُفيت سنة (57) أو بعدها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، وقُتيبة، وإن كان بَغْلانيًّا إلا أنه دخل المدينة.

3 -

(ومنها): أن رواته كلهم رواة الجماعة.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210).

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى بُصَاقًا) بالضمّ: هو البزاق، قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: المخاط من الأنف، والبصاق والبزاق من الفم، والنخامة، وهي النُّخاعة من الرأس أيضًا، ومن الصدر، ويقال: تنخَّم، وتنخَّع. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: النُّخاعة، والنّخامة: ما يخرُج من الصدر، يقال: تنخّم، وتنخّع بمعنى واحد، والبُصاق بالصاد والزاي: ما يخرُج من الفم، والمخاط: ما يخرُج من الأنف، ويقال: بَصَقَ الرجل يبصُقُ، وبزَقَ كذلك، وتَفَلَ بفتح العين يَتْفِلُ بكسرها، وبالتاء المثنّاة، ونفث ينفُث، قال ابن مكيّ في "تثقيف اللسان": التَّفَل بفتح الفاء: نفخٌ لا بُصاق معه، والنفثُ: لا بدّ أن

(1)

"شرح النووي" 5/ 38 - 39.

ص: 370

يكون معه شيء من الريق، قاله أبو عُبيد، وقال الثعالبيّ: الْمَجّ: الرمي بالريق، والتفلُ أقلُّ منه، والنفث أقلّ منه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "يَتْفُل بكسر التاء" فيه قصور، فإن فيه الضم أيضًا، قال في "المصباح": تَفَلَ تَفْلًا، من بابي ضَرَبَ وقَتَلَ، من البُزاق، يقال: بَزَقَ، ثم تَفَلَ، ثم نَفَثَ، ثم نفَخَ. انتهى

(2)

.

(فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ) متعلّق بصفة لـ "بُصاقًا"، أي كائنًا في جدار المسجد من جهة القبلة (أَوْ مُخَاطًا، أَوْ نُخَامَةً) وفي رواية البخاريّ: "رأى في جدار القبلة مُخاطًا، أو بُصاقًا، أو نُخامةً"، قال في "الفتح": كذا هو في "الموطّأ" بالشكّ، وللإسماعيلي من طريق مَعْن، عن مالك:"أو نُخاعًا"، بدل "مُخاطًا"، وهو أشبه، قال: والفرق بينهم أن النخاعة ما يخرُج من الصدر، وقيل: النخاعة بالعين من الصدر، وبالميم من الرأس. انتهى

(3)

.

(فَحَكَهُ) وفي رواية: "فحتّها" وهما بمعنى واحد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 1231](549)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(407)، و (ابن ماجه) فيها (764)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 195)، و (أحمد) في "مسنده"(25209)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1208)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المفهم" 2/ 157.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 76.

(3)

"الفتح" 1/ 605 و 607.

ص: 371

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1232]

(550) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَة فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ، فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ، فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا"، وَوَصَفَ الْقَاسِمُ، فَتَفَلَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ مِهْرَانَ) الْقَيسيّ، مولى بني قيس بن ثَعْلَبة، خال هُشيم، ثقةٌ

(1)

[6].

رَوَى عن أبي رافع الصائغ، وعنه شعبة، وعبد الوارث، وهُشيم، وعبد اللَّه بن دُكين الكوفيّ، وإسماعيل ابن علية.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس عندهم إلا هذا الحديث فقط.

2 -

(أَبُو رَافِع) نُفَيعٌ الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [2] تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لاختلاف صيغ الأداء.

(1)

قال عنه في "التقريب": صدوقٌ، وعندي أنه ثقة؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن معين، وأخرج له المصنّف رحمه الله، وقال أبو حاتم: صالح، ولم يتكلّم فيه، فهو ثقة، فتنبّه.

ص: 372

2 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً) تقدّم أنها ما يكون من الرأس كالنخاعة (فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ) أي في الجهة التي هي قبلة المسجد النبويّ (فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ أَحَدِكُمْ)"ما" استفهاميّة"، والاستفهام إنكاريّ، أي ما شأنه، وما حاله، وقوله: (يَقُومُ) جملة حالية من "أحدكم"، وقوله: (مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ) منصوب على الحال من فاعل "يقوم" (فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ) أي جهة قُدّامه (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ) بالبناء للمفعول، أي يستقبله أحد من الناس (فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ؟) بالبناء للمفعول أيضًا، والمعنى: أنه كما يكره، أن يقابله أحد، ثم يتنخّع في وجهه، كذلك ينبغي له أن يعظمّ ربّه، ويعظم القبلة التي يواجه فيها ربّه (فَإِذَا تَنَخَّعَ) أي أراد أن يتنخّع (أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه نهي المصلي عن البصاق بين يديه، وعن يمينه، وهذا عامّ في المسجد وغيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وليبزق تحت قدمه وعن يساره" هذا في غير المسجد، أما المصلي في المسجد فلا يبزق إلا في ثوبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"البزاق في المسجد خطيئة"، فكيف يأذن فيه صلى الله عليه وسلم؟.

وإنما نُهِي عن البصاق عن اليمين؛ تشريفًا لها، وفي رواية البخاريّ:"فلا يبصق أمامه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكًا".

قال القاضي عياض: والنهي عن البزاق عن يمينه هو مع إمكان غير اليمين، فإن تعذر غير اليمين بأن يكون عن يساره مصل، فله البصاق عن يمينه، لكن الأولى تنزيه اليمين عن ذلك ما أمكن. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول القاضي: فله البصاق عن يمينه، فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرشد فيما إذا لم يمكن البصاق عن اليسار بأن يتنخّع في ثوبه، ثم يدلُكه، ولم يبح التفل في يمينه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 39.

ص: 373

(فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا") أي فليتفُل، ففيه إطلاق القول على الفعل، وهو شائع، وقد سبق تحقيقه غير مرّة.

ولفظ أبي نعيم في "مستخرجه" من طريق هشيم، عن القاسم بن مِهْران:"فإن لم يستطع فليبزُق في ناحية ثوبه، ثم ليردّ بعضه على بعض".

(وَوَصَفَ الْقَاسِمُ) بن مِهْران كيفيّة ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "فليقل هكذا"(فَتَفَلَ) تقدّم أنه من بابي ضرب، وقَتَل (فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ) يعني أنه دلك ذلك التفل حتى يتلاشى، ويذهب أثره، فلا يظهر عليه قبح المنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 1232 و 1233](550)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 415)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1197)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1209 و 1210)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 291 و 292)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1233]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ هُشَيْمٍ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد، تقدم قريبًا أيضًا.

ص: 374

والباقون تقدّموا قريبًا، فمن قبل القاسم تقدّموا قبل أربعة أبواب، ومنه ذُكروا في هذا الباب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مِهْرَانَ) الضمير لعبد الوارث، وهُشيم، وشعبة.

[تنبيه]: رواية عبد الوارث، وشعبة ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 336) فقال:

(1197)

حدّثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة وأبيه، عن القاسم بن مِهْران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى نخامة، أو بزاقًا في القبلة، فحكّها، وقال:"أيسُرُّ أحدكم إذا قام يصلي أن يأتيه رجل، فيتنخع في وجهه؟ فإذا قام أحدكم فلا يتنخعنّ، أو يبزقنّ بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره تحت قدمه، فإذا لم يجد فليفعل هكذا"، وبزق في ثوبه، ثم دلكه.

وأما رواية هشيم، فساقها أبو عوانة أيضًا (1/ 337) فقال:

(1199)

حدّثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا هشيم، عن القاسم بن مِهْران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بزق في ثوبه، وهو في الصلاة، فلقد رأيته يرُدّ بعضه على بعض. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1234]

(551) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ"). رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ الزَّمِنُ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

ص: 375

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحجة الناقد البصير [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبت، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

6 -

(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) بن سِنان الصحابيّ الشهير، مات سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والسماع، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخيه أحد المشايخ التسعة الذين اشترك أصحاب الكتب الستّة بالرواية عنهم بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، أحد المكثرين السبعة (2286) حديثًا، وخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وهو من المعمّرين، قد جاوز المائة، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ) وفي رواية البخاريّ من طريق حميد، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى نُخامة في القبلة، فشقّ ذلك عليه حتى رُؤي في وجهه، فقام. فحكّه بيده، فقال: "إن أحدكم إذا قام في صلاته. . . " (فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ) أي يُسارّه، تقول: ناجيته: إذا ساررته، والاسم النجوى، وتناجى القومُ: ناجى بعضهم بعضًا (فَلَا يَبْزُقَنَّ)

ص: 376

بضم الزاي، من باب نصر (بَيْنَ يَدَيْهِ) أي قُدّامه؛ لأن اللَّه قِبَل وجهه، وفي رواية البخاريّ:"فلا يبزقنّ قِبَل قبلته"(وَلَا عَنْ يَمِينِهِ) لأن الملك عن يمينه (وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ) أي ليبزُق من جهة شماله؛ لكونها مكان قرينه من الشيطان (تَحْتَ قَدَمِهِ") وتقدّم أن أكثر الروايات "أو تحت قدمه" بـ "أو"، وهي أعمّ؛ لكونها تشمل من تحت القدم وغير ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 1234](551)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(405 و 412 و 413 و 417) و"المواقيت"(531 و 532) و"العمل في الصلاة"(1214)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1692)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 364)، و (الحميديّ) في "مسنده"(12319)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 176 و 273 و 278 و 291)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 324)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1203 و 1204)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1211)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2267)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 255 و 2/ 292)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(491 و 492)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1235]

(552) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا").

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 377

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقة ثبتٌ [7](ت 175)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون تقدّموا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (76) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبُزَاقُ) مبتدأ (فِي الْمَسْجِدِ) متعلّق بـ "البُزاق"، وفيه بيان أنه لا يشترط كون الفاعل في المسجد، وإنما الشرط كون الفعل فيه، حتى لو بصق مَن هو خارج المسجد فيه تناوله النهي، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (خَطِيئَةٌ) خبر المبتدأ، أي ذنب ومعصيةٌ.

قال القاضي عياض رحمه الله: كونه خطيئة إنما هو لمن تَفَل فيه، ولم يَدفِن؛ لأنه يُقذِّر المسجد، ويتأذّى به من يَعْلَق به، أو رآه، كما جاء في الحديث الآخر:"لئلا تُصيب جلد مؤمن، أو ثوبه، فتؤذيه"

(2)

، فأما من اضطرّ إلى ذلك، فدَفَنَ، وفَعَل ما أمر به، فلم يأت خطيئةً، فكأن بدفنه لها أزال عنه الخطيئة وكفّرها، لو قدّرنا بصاقه فيه، ولم يَدفنه، وأصل التكفير: التغطية، فكأن دفنها غطاء لما يُتصوّر عليه من الذّمّ، والإثم لو لم يَفعل، وهذا كما سُمّيت تَحِلّةُ

(1)

1/ 610.

(2)

هو ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"(1546) بسند صحيح، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه سعد رضي الله عنه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تنخم أحدكم في المسجد، فليغيّب نخامته، أن تصيب جلد مؤمن، أو ثوبه فتؤذيه".

ص: 378

اليمين كفّارةً، وليست اليمين بمأثم فتُكفَّرَ، ولكن لَمَّا جعلها اللَّه تعالى فُسحةً لعباده في حَلّ ما عقده من أيمانهم، ورفعًا لحكمها سمّاها كفّارةً، ولهذا جاز إخراجها قبل الحنث، وسقوط حكم اليمين بها عند جماعة من العلماء، وهو الأصحّ، هذا هو تأويل لفظها إلا على قول من أثبتها خطيئةً، وإن اضطرّ إليها، لكن تُكفّرها التغطيةُ. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ مفيدٌ.

وقال النوويّ: رحمه الله: اعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقًا، سواء احتاج إلى البزاق، أو لم يحتج، بل يبزق في ثوبه، فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة، وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق، هذا هو الصواب أن البزاق خطيئة، كما صرح به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقاله العلماء، وللقاضي عياض فيه كلام باطل، حاصله أن البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة، واستَدَلّ له بأشياء باطلة، فقوله هذا غلطٌ صريحٌ مخالف لنصّ الحديث، ولما قاله العلماء، نبهت عليه؛ لئلا يُغْتَرَّ به. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ردّ النوويّ على القاضي غير مسلَّم، بل ما قاله هو الحقّ، كما يتبيّن تحقيقه، بعدُ، فتنبّه.

وقال في "الفتح": قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا، ورَدّه النوويّ، فقال: هو خلاف صريح الحديث.

قلت: وحاصل النزاع أن هنا عمومين تعارضا، وهما قوله:"البزاق في المسجد خطيئة"، وقوله:"وليبصُق عن يساره، أو تحت قدمه"، فالنوويّ يجعل الأول عامًّا، ويخُصّ الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عامًّا، ويخص الأول بمن لم يُرِد دفنها.

وقد وافق القاضي جماعة، منهم ابن مكيّ في "التنقيب"، والقرطبيّ في "المفهم"، وغيرهما، ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسناد حسن، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعًا قال:"مَن تنخّم في المسجد، فَلْيُغَيِّب نخامته، أن تصيب جِلْدَ مؤمن، أو ثوبه فتؤذيه".

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 2/ 487.

ص: 379

وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضًا، والطبرانيّ بإسناد حسن، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا قال:"من تنخع في المسجد، فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة"، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديثُ أبي ذرّ رضي الله عنه الآتي للمصنّف بعد حديث مرفوعًا قال:"ووجدت في مساوي أعمال أمتي النخاعةَ، تكون في المسجد لا تُدْفَنُ".

قال القرطبيّ: فلم يُثبِت لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد، بل به وبتركها غير مدفونة. انتهى.

ورَوَى سعيد بن منصور عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه تنخَّم في المسجد ليلةً، فنَسِيَ أن يَدْفِنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شُعْلةً من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد للَّه الذي لم يكتب عليّ خطيئة الليلة.

فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها، لا بمن دفنها، وعلة النهي ترشد إليه، وهي تأذِّي المؤمن بها.

ومما يدل على أن عمومه مخصوصٌ جواز ذلك في الثوب، ولو كان في المسجد بلا خلاف.

وعند أبي داود من حديث عبد اللَّه بن الشِّخِّير رضي الله عنه أنه صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبصق تحت قدمه اليسرى، ثم دلكه بنعله رحمه الله، وإسناده صحيحٌ، وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد، فيؤيِّد ما تقدم.

وتوسط بعضهم، فحَمَل الجواز على ما إذا كان له عذر، كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنعَ على ما إذا لم يكن له عذر، وهو تفصيل حسنٌ واللَّه أعلم.

وينبغي أن يُفَصَّل أيضًا بين من بدأ بمعالجة الدفن قبل الفعل، كمن حَفَر أوّلًا ثم بصق، ووارى، وبين من بصق أوّلًا بنية أن يدفن مثلًا، فيجري فيه الخلاف، بخلاف الذي قبله؛ لأنه إذا كان المكفِّر إثم إبرازها هو دفنها، فكيف يأثم من دفنها ابتداء؟. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن قول القاضي

(1)

"الفتح" 1/ 609 - 610.

ص: 380

عياض، ومن قال بقوله من أن كون البزاق في المسجد خطيئةً خاصّ بمن لا يُريد دفنها هو الأرجح؛ لقوّة أدلّته، وأن قول النوويّ:"إنه باطلٌ" غير مقبول، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

(وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا") مبتدأ وخبر، وأنّث الضمير مع أن البُزاق مذكّر؛ نظرًا لمعنى الخطيئة، أي مُزيل هذه الخطيئة سترها ذلك البُزاق بالدفن.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أن من ارتكب هذه الخطيئة، فعليه تكفيرها، كما أن الزنى والخمر وقتل الصيد في الإحرام محرَّمات وخطايا، واذا ارتكبها فعليه عقوبتها.

واختَلَف العلماء في المراد بدفنها، فالجمهور قالوا: المراد دفنها في تراب المسجد ورمله وحصاته، إن كان فيه تراب أو رمل أو حصاة ونحوها، وإلا فيُخرِجها، وحَكَى الرويانيّ من أصحابنا قولًا أن المراد إخراجها مطلقًا، واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول الرويانيّ بإخراجها مطلقًا مبنيّ على تصويب النووي كون البزاق في المسجد خطيئة مطلقًا، أراد دفنها أم لا، وقد عرفت ما فيه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 1235 و 1236](552)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(415)، و (أبو داود) في "الصلاة"(474 و 475 و 476 و 477)، و (الترمذيّ) فيها (572)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 50 - 51)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1697)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1988)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 365)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 173 و 232 و 274 و 277 و 289)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 324)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1309)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1635 و 1637)،

ص: 381

و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 291)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 40)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1203 و 1204 و 1205 و 1206 و 1207 و 1208)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1212 و 1213)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(488)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1236]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ- حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَال: سَأَلْتُ قَتَادَة، عَنِ التَّفْلِ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "التَّفْلُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) قال النوويّ رحمه الله: فيه تنبيه على أن قتادة سمعه من أنس؛ لأن قتادة مُدَلِّس، فإذا قال:"عن" لم يَتَحَقَّق اتصاله، فإذا جاء في طريق آخر سماعه تحققنا به اتصال الأول. انتهى

(1)

.

وقوله: (التَّفْلُ) -بفتح التاء المثناة فوقُ، وإسكان الفاء-: هو البُصاق كما في الحديث الآخر: "البزاق في المسجد خطيئة"، قاله النوويّ.

وقال في "الفتح": التَّفْلُ -بالمثناة من فوقُ- أخفُّ من البزاق، والنفثُ بمثلثة آخره أخفّ منه. انتهى.

وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: قوله: "التفل في المسجد خطيئة" بفتح التاء

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 41 - 42.

ص: 382

المثنّاة، وسكون الفاء: هو البزاق، كما جاء بهذا اللفظ في الحديث الآخر، قال ابن مكيّ في "تثقيف اللسان": قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتفل عن يساره"، وقوله:"التفل في المسجد" هذا مما يَغْلَط فيه الناس، فيجعلونه بالثاء، ويضمّون الفعل في المستقبل يقولونه: ثَفَل الرجل: إذا بصق، والصواب تَفَلَ بالتاء يَتْفِل بالكسر في المستقبل لا غير، وأما النفث بالثاء المثلّثة، فهو كالتفل إلا أن التفل نفخٌ لا بُصاق معه، والنفث لا بدّ أن يكون معه شيء من الريق، هذا قول أبي عُبيد. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، شرحه، ومسائله تقدّمت قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1237]

(553) - (حَدَّثَنَا

(2)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ

(3)

، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ، تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

2 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](6 أو 235) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

3 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَليّ، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 486.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "الدُّؤَلِيّ".

ص: 383

4 -

(وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ) -بتحتانيّة مصغَّرًا- ابن المهلَّب بن أبي صُفْرة الأزديّ البصريّ، صدوقٌ عابدٌ [6].

رَوَى عن يحيى بن عُقَيل الْخُزاعي، والحسن بن أبي الحسن، ورجاء بن حَيْوة، وأبي الزبير المكيّ، وعدّة.

وروى عنه هشام بن حسان، وهو من أقرانه، ومهديّ بن ميمون، وحماد بن زيد، وشعبة، وعبد الوارث، وخالد بن عبد اللَّه، وعباد بن عباد، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ، وكذا قال إسحاق، عن ابن معين، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البزار: ليس بالقويّ، وقد احتُمِل حديثه، وقال العجليّ: بصريّ ثقةٌ، ورَوَى محمد بن نصر في "قيام الليل" من طريق ابن مهديّ: كان واصل لا ينام من الليل إلا يسيرًا، فغاب غيبة إلى مكة، فكنت أسمع القراءة من غرفته على نحو صوته، فلما جاء ذَكَرت له، فقال: هؤلاء سكان الدار.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (553) و (720) و (1006) و (2877).

5 -

(يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ) -بالتصغير- الْخُزاعيّ البصريّ، نزيل مَرْوَ، صدوقٌ [3].

رَوَى عن عمران بن حصين، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وأنس بن مالك، ويحيى بن يعمر، وعدّة.

وروى عنه سليمان التيميّ، وعَزْرَة بن ثابت، وعبد اللَّه بن كيسان المروزيّ، وواصل مولى أبي عُيينة، والحسين بن واقد، وغيرهم.

قال ابن معين: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (553) و (720) و (1006) و (2650).

6 -

(يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ) -بفتح التحتانيّة، والميم، ويجوز ضمّها، بينهما

ص: 384

مهملة ساكنة- البصريّ، نزيل مرو وقاضيها، ثقةٌ فصيحٌ، وكان يُرسل [3] مات قبل المائتين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

7 -

(أَبُو الْأَسْوَدِ الدِّيلِيُّ) اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عثمان، أو عثمان بن عمرو البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ مخضرم [2](ت 69)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

8 -

(أَبوُ ذَرٍّ) جُنْدَب بن جُنَادة على الأصحّ، وقيل غير ذلك في اسمه واسم أبيه، الصحابيّ الشهير، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه (32) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ) -بكسر الدال المهملة، وسكون التحتانيّة، ويقال: الدُّؤَليّ بالضمّ، بعدها همزة مفتوحة- كما وقع في بعض النسخ هنا، وهو نسبة إلى الدُّئِل بن كنانة

(1)

. (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب جُنادة الغفاريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله (أَعْمَالُ أُمَّتِي) وقوله:(حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا) بدل من "أعمالُ"(فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى) بفتحتين، قال في "المصباح": أَذِيَ الشيءُ أَذًى، من باب تَعِبَ: بمعنى قَذِرَ، قال اللَّه تعالى:{قُلْ هُوَ أَذًى} : أي مستقذَرٌ، وأَذِي الرجلُ أذًى: وَصَلَ إليه المكروه، فهو أَذٍ، مثلُ عَمٍ، ويُعدّى بالهمزة، فيقال: آذيته إيذاءً، والأَذِيّة: اسم منه، فتأذَّى هو. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الأذى": هو كلّ ما يُتأذَّى به، من عظم، أو حجر، أو نجاسة، أو قَذَر، أو غير ذلك. انتهى

(3)

.

(1)

"اللباب" 1/ 347.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 10.

(3)

"المفهم" 2/ 161.

ص: 385

وقوله: (يُمَاطُ عَنِ الطَرِيقِ) بالبناء للمفعول، أي يُزال، ويُنحَّى ذلك الأذى عن طريق المسلمين، والجملة حال من "الأذى"(وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ) بالنصب على المفعوليّة، وتقدّم قريبًا أن النخاعة هي النخامة ما نزل من الرأس (تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ) اسم "تكون" ضمير "النخاعة"، وخبرها الجارّ والمجرور، ويَحْتَمِل أن تكون "تكون" تاقة، أي توجد تلك النخاعة في المسجد، والجملة حال من "النخاعة"، وكذا قوله:(لَا تُدْفَنُ") بالبناء للمفعول، قال النوويّ رحمه الله: هذا ظاهره أن هذا القبح والذم لا يختص بصاحب النخاعة، بل يدخل فيه هو وكلُّ من رآها، ولا يزيلها بدفن، أو حَكّ، ونحوه. انتهى، وهو بحثٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 1237](553)، و (ابن ماجه) في (3683)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(230)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(483)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 178 و 180)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1211)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(1214)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1640 و 1641)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 291)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(489)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قبح النخاعة في المسجد.

2 -

(ومنها): أن قوله: "لا تُدْفَن" يؤيّد ما سبق من ترجيح قول القاضي: أن كون النخاعة في المسجد خطيئة لمن لا يُريد دفنها، وإلا فلا، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على صحّة التأويل المذكور؛ لأنه لم يُبت لها حكم السيّئة لمجرّد إيقاعها في المسجد، بل بذلك، وببقائها غير مدفونة. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "المفهم" 2/ 161.

ص: 386

3 -

(ومنها): بيان فضل إماطة الأذى عن الطريق، وقد سبق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبةً، فأفضلها قول: لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، وأخرج الشيخان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"بينما رجل يمشي بطريق، وَجَدَ غُصْن شوك على الطريق، فأخّره، فشكر اللَّه له، فغفر له".

4 -

(ومنها): بيان فضل اللَّه تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث يُطلعه على المغتبات من أحوال أمته، وغير ذلك، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1238]

(554) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُهُ تَنَخَّعَ، فَدَلَكَهَا بِنَعْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاد بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(كَهْمَس) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ [5](ت 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) -بكسر الشين، وتشديد الخاء المعجمتين- العامريّ، أبو العلاء البصريّ، ثقةٌ [2](ت 101)(ع) تقدم في "الحيض" 20/ 783.

5 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن الشخّير بن عوف بن كعب بن وَقْدان بن الْحَرِيش الْحَرَشِيّ العامريّ، له صحبة، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه بنوه: مُطَرِّف، وهانئ، ويزيد، وعِداده في أهل البصرة، وذكره ابن سعد في طبقة مسلمة الفتح، وقال ابن منده: وفدَ في وفدِ بني عامر.

ص: 387

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (554)، وأعاده بعده، و (2958).

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

4 -

(ومنها): أنه ليس في الكتب الستّة من يُسمّى بكهمس، إلا هذا عندهم، وإلا كهمس بن المنهال السّدوسيّ البصريّ، عند البخاريّ، له عنده حديث واحد فقط.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا تسعة أحاديث فقط، راجع:"تحفة الأشراف"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُهُ تَنَخَّعَ) أي أخرج النُّخاعة (فَدَلَكَهَا) بتخفيف اللام: أي مَرَسها، يقال: دَلَكتُ الشيءَ دَلْكًا، من باب نصر: إذا مَرَسْتَه بيدك، ودلكتُ النعل بالأرض: إذا مسحتها بها

(2)

، ويَحْتَمِل أن يكون بتشديد اللام؛ للمبالغة (بِنَعْلِهِ) وفي الرواية التالية:"فدلكها بنعله اليُسرى"، فتبيّن بها أن السنّة دلكها بالنعل اليُسرى، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده" من طريق أبي العلاء بن الشِّخِّير، عن أبيه، قال:"رأيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلي، ثم تَفَلَ تحت قدمه اليسرى، فحكِّها بنعله في الصلاة"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن الشِّخِّير رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"تحفة الأشراف" 4/ 252 - 257.

(2)

راجع: "المصباح" 1/ 199.

ص: 388

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 1238 و 1239](554)، و (أبو داود) في "الصلاة"(482 و 483)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(1687)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 25 - 26)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2272)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1209 و 1210)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(1215)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1239]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا

(1)

يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَتَنَخَّعَ، فَدَلَكَهَا بِنَعْلِهِ الْيُسْرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(الْجُرَيْرِيُّ) -بضمّ الجيم- سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

3 -

(أَبُو الْعَلَاءِ، يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) العامريّ البصريّ، ثقةٌ [2](ت 111)(ع) تقدم في "الحيض" 20/ 783.

والباقيان ذُكرا في الباب، وشرح الحديث، ومسائله تقدمت قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابُ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1240]

(555) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا بِشْر بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي في النَّعْلَيْنِ؟ قَالَ؟ نَعَمْ).

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 389

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

2 -

(أَبُو مَسْلَمَةَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ) بن مَسْلمة الأزديّ، ثمّ الطاحيّ

(1)

البصريّ القصير، ثقة [4](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 466.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كتاليه، وهو (77) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل البصرة.

3 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه، وقد سبق الكلام فيه في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ) بفتح الميم، وسكون السين المهملة، وفتح اللام، وقوله:(سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ) بدل مما قبله، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الهمزة للاستفهام، وهو استفهام على سبيل الاستفسار (يُصَلِّي فِي النَّعْلَيْنِ؟) وفي رواية البخاريّ:"يصلي في نعليه"، قال العينيّ رحمه الله: أي على نعليه، أو بنعليه؛ لأن الظرفية غير صحيحة، والنعلُ: الحذاء، وهي مؤنثة، وتصغيرها نُعيلة. انتهى. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (نَعَمْ) أي كان يصلي فيهما.

قال ابن بطال رحمه الله: معنى هذا الحديث عند العلماء إذا لَمْ يكن في النعلين نجاسة، فلا بأس بالصلاة فيهما، وإن كان فيهما نجاسة فليمسحهما، ويصلي فيهما.

واختلفوا في تطهير النعال من النجاسات؛ فقالت طائفة: إذا وطئ القَذَر الرطب يجزيه أن يمسحهما بالتراب، ويصلي فيه.

وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يجزيه أن يُطَهّر الرطب إلَّا بالماء، وإن كان يابسًا أجزأه حكه.

(1)

الطاحي: نسبة إلى الطاحية بن سود بن الحجر بن عمران، بطن من الأزد، قاله في "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 66.

ص: 390

وقال الشافعي؛ لا يُطَهِّر النجاسات إلَّا الماء في الخفّ والنعل وغيرهما.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الراجح هو المذهب الأول؛ لما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطئ أحدكم بنعله الأذي، فإن التراب له طهور"، وفي لفظ:"إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب"، وهو حديث صحيح. ولم يُفَرِّق بين الرطب واليابس، فدلّ على أن النعل تطهر بالتراب. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 1240 و 1241](555)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(386 و 5850)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(400)، و (النسائيّ) في "القبلة"(775)، وفي "الكبرى"(851)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100 و 189)، و (الدارميّ) في "سننه"(1384)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1010)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1467 و 1468)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(1216)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): دلّ حديث الباب على مشروعية الصلاة في النعال:

قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد اختَلَف نظر الصحابة والتابعين في ذلك، هل هو مستحب، أو مباح، أو مكروه؟.

فرُوِي عن عمر رضي الله عنه بإسناد ضعيف أنه كان يَكْرَه خلع النعال، ويشتدّ على الناس في ذلك، وكذا عن ابن مسعود، وكان أبو عمرو الشيبانيّ يضرب الناس إذا خلعوا نعالهم، وروي عن إبراهيم أنه كان يكره خلع النعال، وهذا يشعر بأنه مستحب عند هؤلاء.

قال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": وممن كان يفعل ذلك -يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن مسعود، وعويمر بن ساعدة، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، وأوس الثقفيّ رضي الله عنهم.

ص: 391

ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد اللَّه، وعطاء بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وطاوس، وشريح القاضي، وأبو مِجْلَز، وأبو عمرو الشيباني، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي، وعلي بن الحسين، وابنه أبو جعفر.

وممن كان لا يصلي فيهما: عبد اللَّه بن عمر، وأبو موسى الأشعريّ.

وقال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله: الحديث دليل على جواز الصلاة في النعال، ولا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة. ثم أطال البحث في ذلك.

قال الشوكانيّ رحمه الله: إلا أن حديث: "خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا في خفافهم" أقلُّ أحواله الدلالة على الاستحباب، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر؛ فإن رأى في نعليه قذرًا، أو أذًى فليمسحه، وليصل فيهما".

ويمكن الاستدلال لعدم الاستحباب بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى أحدكم، فخَلَع نعليه فلا يؤذ بهما أحدًا، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصلِّ فيهما"، وهو كما قال العراقيّ صحيح الإسناد.

وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، قال:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي حافيًا ومنتعلًا"، أخرجة أبو داود، وابن ماجه.

وروى ابن أبي شيبة باسناده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نعليه، فصلى الناس في نعالهم، فخلع نعليه، فخلعوا، فلما صلى قال:"من شاء أن يصلي في نعليه فليصلِّ، ومن شاء أن يخلع فليخلع"، قال العراقيّ رحمه الله: وهذا مرسل صحيح الإسناد.

قال الشوكانيّ رحمه الله: ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة رضي الله عنه وما بعده صارفًا للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى الندب؛ لأن التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الأوامر

ص: 392

لا ينافي الاستحباب، كما في حديث:"بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء"، وهذا أعدل المذاهب، وأقواها عندي.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا التحقيق الذي قرره الشوكانيّ رحمه الله، واختاره هو المختار عندي؛ لظهور حجته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1241]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، أَبُو مَسْلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا

(1)

، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بن عُمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقةٌ [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 439.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية عبّاد بن العوّام هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابُ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1242]

(556) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: (ح) وحَدَّثَني

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،

(1)

وفي نسخة: "أنس بن مالك".

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 393

عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّي فِي خَمِيصَةٍ، لَهَا أَعْلَامٌ، وَقَالَ

(1)

: "شَغَلَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ، فَاذْهَبُوا بِهَا، إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيِّهِ

(2)

").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا قبل باب، وكذا لطائف الإسناد.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ) -بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم، بعدها صاد مهملة-: كساء أسود مُعْلَمُ الطرفين، ويكون من خَزّ، أو صوف، فإن لَمْ يكن معلمًا فليس بخميصة، قاله الفيوميّ رحمه الله.

وقال العينيّ رحمه الله: كساءٌ أسود مُرَبَّعٌ، له علمان، أو أعلام، ويكون من خزّ، أو صوف، ولا تسمى خَمِيصة إلَّا أن تكون سوداء مُعْلَمَة، سميت بذلك للينها ورقّتها وصِغَر حجمها إذا طُوِيت، ومأخوذ من الخَمَص، وهو ضمور البطن.

وقال ابن حبيب في "شرح الموطأ": الخميصة كساء صوف، أو مِرْعِزَّى معلم الصنعة.

و"الأعلام" -بالفتح-: جمع عَلَم -بفتحتين- مثل سبب وأسباب، يقال: أعلمت الثوب: جعلتُ له علَمًا من طِراز وغيره (لَهَا أَعْلَامٌ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "خَمِيصة"، وهي صفة مؤكّدة؛ لأن الخميصة كما سبق لا تسمّى بها إلَّا إذا كان لها أعلام (وَقَالَ) وفي نسخة:"ثمّ قال"("شَغَلَتْنِي) يقال: شغله الأمر شَغْلًا، من باب نَفَعَ، فالأمر شاغلٌ، وهو مشغولٌ، والاسم الشُّغْل بضمّ الشين، وتُضمّ الغين، وتسكن للتخفيف، وقد سبق أنه لا يقال: أشغله بالألف، فإنه من لحن العوامّ، وإن ذكر صاحب "القاموس" أنَّها لغة، فقد ردّ عليه الشارح، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(أَعْلَامُ هَذِهِ) أي كادت تَشْغَلني، وتُلْهِيني عن كمال الحضور في الصلاة،

(1)

وفي نسخة: "ثم قال".

(2)

وفي نسخة: "بأنبجانيّته".

ص: 394

وليس المراد أنَّها شَغَلته بالفعل؛ ففي رواية البخاري: "كنت انظر إلى عَلَمِها، وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني"، وفي رواية مالك في "الموطأ":"فإني نظرت إلى علمها في الصلاة، فكاد يفتنني".

فإطلاق رواية الباب للمبالغة في القرب، لا لتحقق وقوع الشَّغْل، وعلى تقدير وقوعه له صلى الله عليه وسلم، فليس فيه نقص في حقّه؛ لأنه بشر يؤثِّر فيه ما يؤثِّر في البشر من الأمور التي لا تُؤَدِّي إلى نقص في مرتبته الشريفة صلى الله عليه وسلم، أفاده في "المنهل".

وقال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: أثبت في هذه الرواية -يعني رواية الشيخين- إِلْهَاءَ الخميصة له بقوله: "فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي"، وقال في رواية مالك:"نظرت إلى علمها في الصلاة، فكاد يفتنني"، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: فيه دليل على أن الفتنة لَمْ تقع، قال: والفتنة هنا الشُّغْل عن خشوع الصلاة. انتهى.

فيَحْتَمِل أن يقال: الفتنة فوق الإلهاء، فلهذا أثبته، ولم يُثْبِت الفتنة، ويَحْتَمِل أن يقال: هما واحد، ويكون قوله:"ألهتني" أي كادت، وقاربت، كما يقول المؤذن في الإقامة:"قد قامت الصلاة" أي قد قرب إقامتها، واللَّه تعالى أعلم.

وقال السندي في "شرح النسائيّ": قوله: "شغلتني أعلام هذه" هذا مَبْنِيّ على أن القلب قد بلغ من الصفاء عن الأغيار الغايةَ حتى يظهر فيه أدنى شيء، يظهر لك ذلك إذا نظرت إلى ثوب بلغ في البياض الغاية، وإلى ما دون ذلك، فيظهر في الأول من أثر الوسخ ما لا يظهر في الثاني، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.

(فَاذْهَبُوا بِهَا) أي بهذه الخميصة (إِلَى أَبِي جَهْمٍ) -بفتح الجيم، وسكون الهاء- ابن حُذيفة بن غانم بن عامر بن عبد اللَّه بن عَبيد بن عُويج بن عديّ بن كعب القرشي العدويّ، قال البخاريّ وجماعة: اسمه عامر، وقيل: اسمه عبيد -بالضم- قاله الزبير بن بكار، وابن سعد، وقالا: إنه من مسلمة الفتح. وقال البغويّ، عن مصعب: كان من مُعَمّري قريش، ومن مشيختهم.

وحَكَى ابن منده أن أبا عاصم فرَّق بين أبي جهم بن حذيفة، وعُبيد بن

ص: 395

حُذيفة، قال الزبير: كان من مشيخة قريش، وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب، قال: وقال عمي: كان من المعمَّرين، حضر بناء الكعبة مرتين؛ حين بنتها قريش، وحين بناها ابن الزبير، وهو أحد الأربعة الذين تَوَلَّوا دفن عثمان.

وأخرج البغويّ من طريق حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما أصيب عثمان أرادوا الصلاة عليه، فَمُنِعُوا، فقال أبو جَهْم: دعوه؛ فقد صلى اللَّه عليه ورسوله.

وأخرج ابن أبي عاصم في "كتاب الحكماء" من طريق عبد اللَّه بن الوليد، عن أبي بكر بن عبيد اللَّه بن أبي الجهم، قال: سمعت أبا الجهم يقول: لقد تركت الخمر في الجاهلية، وما تركتُها إلا خشية على عقلي، وما فيها من الفساد.

مات في آخر خلافة معاوية، قاله ابن سعد، ويقال: إنه وَفَد على معاوية، ثم على ابنه يزيد، وهذا يدلّ على أنه تأخرت وفاته، واللَّه تعالى أعلم. انتهى ملخصًا من "الإصابة".

قال في "الفتح": وإنما خصه صلى الله عليه وسلم بإرسال الخميصة إليه لأنه كان أهداها له صلى الله عليه وسلم، كما رواه مالك في "الموطأ" من طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها قالت: أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خميصة لها علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال:"رُدِّي هذه الخميصة إلى أبي جهم".

ووقع عند الزبير بن بكار ما يخالف ذلك، فأخرج من وجه مرسل "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِي بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما، وبعث الأخرى إلى أبي جهم"، ولأبي داود من طريق أخرى:"وأخذ كُرديًّا لأبي جهم، فقيل: يا رسول اللَّه، الخميصة كانت خيرًا من الكردي".

وقال ابن بطال رحمه الله: إنما طلب منه ثوبًا غيرها ليُعلِمه أنه لَمْ يَرُدّ عليه هديته استخفافًا به، قال: وفيه أن الواهب إذا رُدَّت عليه عطيته من غير أن يكون هو الراجع فيها فله أن يقبلها من غير كراهة. قال الحافظ رحمه الله: وهذا مبني على أنها واحدة، ورواية الزبير والتي بعدها تصرح بالتعدد. انتهى.

(وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيِّهِ) قال في "النهاية": المحفوظ بكسر الباء، ويروى

ص: 396

بفتحها، يقال: كساء أنْبَجَاني منسوب إلى مَنْبج المدينة المعروفة، وهي مكسورة الباء، ففتحت في النسب، وأبدلت همزة، وقيل: إنها منسوبة إلى موضع اسمه أنبجان، وهو أشبه، والأول فيه تعسف.

وهو كساء يُتَّخَذ من الصوف، وله خَمْلٌ، ولا عَلَمَ له، وهو من أدون الثياب الغليظة، قال: وإنما بعث الخميصة إلى أبي جهم؛ لأنه هو الذي أهداها له، وإنما طلب منه الأنبجانيّ لئلا يؤثّر رَدّ الهدية في قلبه. والهمزة زائدة في قول.

وقال القاضي عياض: يُرْوَى بفتح الهمزة، وكسرها، وبفتح الباء وكسرها، وبتشديد الياء وتخفيفها.

وقال في "العمدة": قد اختلفوا في ضبط هذا اللفظ، ومعناه؛ فقيل: بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر الباء الموحدة، وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء النسبة، وقال ثعلب: يقال: كبش أنبجانيّ -بكسر الباء، وفتحها-: إذا كان مُلْتفًّا كثير الصوف، وكساء أنبجانيّ كذلك.

وقال الجوهري: إذا نسبت إلى مَنْبج فتحت الباء، فقلت: كساء مَنَبجاني، أخرجوه مخرج مَخْبَراني، ومَنْظَرَاني.

وقال أبو حاتم في لحن العامة: لا يقال: كساء أنبجاني، وهذا مما تخطئ فيه العامة، وإنما يقول: مَنْبَجَاني -بفتح الميم والباء-، قال: وقلت للأصمعي: لِمَ فتحت الباء، وإنما نسب إلى مَنبج -بالكسر-؟، قال: خرج مخرج منظراني، ومخبراني، قال: والنسب مما يُغَيِّرُ البناءَ.

وقال القزاز في "الجامع": والنِّبَاج موضع تنسب إليه الثياب المنبجانية. وفي "الجمهرة": ومَنْبج موضع أعجمي، وقد تكلمت به العرب، ونسبوا إليه الثياب المنبجانية. وفي "المحكم": إن منبج موضع.

قال سيبويه: الميم فيه زائدة بمنزلة الألف؛ لأنها إنما كثرت مزيدة أَوّلًا فموضع زيادتها كموضع الألف، وكثرتها ككثرتها إذا كانت أَوّلًا في الاسم والصفة، وكذلك النِّبَاج، وهما نِبَاجان؛ نباج ثَيْتَل، ونباج ابن عامر، وكساء منبجاني منسوب إليه على غير قياس.

ص: 397

وفي "المغيث": المحفوظ كسر باء الأنبجاني. وقال ابن الحصار في "تقريب المدارك": مَن زعم أنه منسوب إلى منبج فقد وَهِمَ.

ومَنْبِج -بفتح الميم، وسكون النون، وكسر الباء الموحدة، وفي آخره جيم-: بلدة من كور قِنِّسْرِين، بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام، وسمّاها منبه، وبنى بها بيت نار، ووَكَّل بها رجلًا، فعُرِّبت، فقيل: منبج، والنسبة إليها مَنْبَجيّ على الأصل، ومَنْبَجانيّ على غير قياس، والباء تفتح في النسبة، كما يقال في النسبة إلى صَدِف -بكسر الدال- صَدَفي -بفتحها- ومَن هذا قال ابن قرقول: نسبة إلى مَنْبج -بفتح الميم، وكسر الباء- ويقال: نسبة إلى موضع، يقال له: أنبجان، وعن هذا قال ثعلب: يقال: كساء أنبجانيّ، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث.

وأما تفسيرها، فقال عبد الملك بن حبيب في "شرح الموطأ": هي كساء غليظ، يُشْبِه الشَّمْلة، يكون سَدَاه قُطنًا غليظًا، أو كَتّانًا غليظًا، ولُحْمته صُوف، ليس بالْمُبْرَم في فَتْله لَيِّن غليظ، يُلْتَحَف به في الفِرَاش، وقد يُشْتَمَل به في شدة البرد.

وقيل: هي من أدون الثياب الغليظة تُتَخَّذ من الصوف، ويقال: هو كساء غليظ لا عَلَمَ له، فإذا كان للكساء علم فهو خميصة، وإن لم يكن فهو أنبجانية. انتهى ما في "العمدة"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 1242 و 1243 و 1244](556)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(373 و 752 و 5817)، و (أبو داود) في "الصلاة"(914) و"اللباس"(4052 و 4053)، و (النسائيّ)(771)، وفي "الكبرى"(847)، و (ابن ماجه)(3550)، و (مالك) في "الموطّأ" (1/ 97 -

(1)

"عمدة القاري" 4/ 137 - 138.

ص: 398

98)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1389)، و (الحميديّ) في "مسنده"(172)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 37 و 46 و 199 و 208 و 300)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(928 و 929)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2337)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1470 و 1471 و 1472 و 1473 و 1474 و 1475)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1217 و 1218 و 1219)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 423)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(523 و 738)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كراهة لبس ما يشتغل القلب به عن كمال الحضور في الصلاة، وتدبّر أذكارها، وتلاوتها، ومقاصدها، من الانقياد والخضوع.

2 -

(ومنها): أن فيه الحثَّ على حضور القلب في الصلاة، وتدبر ما ذكرناه، ومنع النظر من الامتداد إلى ما يَشْغَل، وإزالة ما يُخاف اشتغال القلب به.

3 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه كراهية تزويق محراب المسجد، وحائطه، ونقشه، وغير ذلك من الشاغلات؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جَعَل العلة في إزالة الخميصة هذا المعنى.

4 -

(ومنها): أن الصلاة تصحّ، وإن حصل فيها فكر في شاغل ونحوه، مما ليس متعلقًا بالصلاة، قال النوويّ رحمه الله: وهذا بإجماع الفقهاء، وحُكِي عن بعض السلف والزُّهّاد ما لا يصحّ عمن يُعْتَدّ به في الإجماع.

قال أصحابنا -يعني الشافعيّة-: يُستَحَبّ له النظر إلى موضع سجوده، ولا يَتَجاوزه، قال بعضهم: يكره تغميض عينيه، وعندي لا يُكره إلَّا أن يخاف ضررًا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كيف يقول النووي: وعندي لا يُكره؟ فمن أين له هذا؟ فهل ثبت في السنّة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي مغمّض المعينين؟، بل الأمر بالعكس، فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر في الصلاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"صلُّوا كما رأيتموني أصلي"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): صحة الصلاة في ثوب له أعلام، وأن غيره أولى؛ وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ولم يُعِد تلك الصلاة، بل أمر بإبعادها عنه خوفَ الافتتان بها؛ فدلّ على صحتها، وأن تركه ذلك هو الأولى، فتنبّه.

وأما بعثه صلى الله عليه وسلم بالخميصة إلى أبي جَهْم، وطلب أنبجانيِّه، فهو من باب الإدلال

ص: 399

عليه؛ لعلمه بأنه يُؤثر هذا، وَيفْرَح به، واللَّه تعالى أعلم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): أنه استدل به بعض المالكية على كراهة غرس الأشجار في المساجد؛ لما فيه من شغل المصلي بذلك.

7 -

(ومنها): جواز لبس الثوب الذي له عَلَمٌ، وكذلك الكساء ونحوه.

8 -

(ومنها): أن اشتغال الفكر في الصلاة يسيرًا غير قادح في صحتها.

9 -

(ومنها): ما قال صاحب "المفهم": فيه سدُّ الذرائع، والانتزاع عما يَشْغَل الإنسان عن أمور دينه.

10 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم آنس أبا جهم حين ردّها إليه بأن سأله ثوبًا مكانها؛ لِيُعْلِمه أنه لَمْ يَرُدّ عليه هديته استخفافًا به، ولا كراهة للبسه، وقال صاحب "المفهم": وفيه قبول الهدايا من الأصحاب، واستدعاؤه صلى الله عليه وسلم أنبجانية أبي جهم تطييب لقلبه، ومباسطة معه، وهذا مع من يُعْلَم طيب نفسه، وصفاء ودّه جائز.

11 -

(ومنها): أن الواهب والمهدي إذا رُدّت إليه عطيته، من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها، إذ لا عار عليه في قبولها، قاله ابن بطال، وابن عبد البرّ.

12 -

(ومنها): أن للإنسان أن يشتري ما أهداه بخلاف الصدقة، قاله أبو الوليد الباجيّ رحمه الله.

13 -

(ومنها): ما قاله الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: جرت عادة الأنبياء عليهم السلام والصالحين بإخراج ما شَغَلهم عن بعض العبادات عن ملكهم رأسًا، وكذلك ما أعجبهم من ملكهم، كما قال اللَّه تعالى في حق سليمان عليه السلام:{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} [ص: 32 - 33].

وأخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم الخميصة عن ملكه، ورَمَى بالخاتم أيضًا لما شغله، كما رواه النسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا، ولبسه، قال:"شَغَلني هذا عنكم منذ اليوم، إليه نظرة، وإليكم نظرة، ثم ألقاه".

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 43 - 44.

ص: 400

وأما نزعه خاتم الذهب عند التحريم فهو مُتَّفَقٌ عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وفي "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه أنه كان من فضة، وقال القرطبيّ رحمه الله: إنه وَهَمٌ، قال وليّ الدين رحمه الله: ولعله كان لما شَغَله عنهم، وإن كان فضة، فيكون لا لحرمته، ولكن لاشتغاله به عنهم، ولا حاجة حينئذ إلى الحكم عليه بالوهم، واللَّه تعالى أعلم.

قال: ورَوَينا في "الزهد" لابن المبارك عن مالك، عن أبي النضر، قال: انقطع شراك نعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوصله بشيء جديد، فجعل ينظر إليه، وهو يصلي، فلما قضى صلاته قال: انزِعُوا هذا، واجعلوا الأول مكانه، فقيل: كيف يا رسول اللَّه؟ قال: إني كنت انظر إليه وأنا أصلي.

ورَوَى محمد بن خفيف الشيرازي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم احتَذَى نعلًا، فأعجبه حسنها، ثم خرج بها، فدفعها إلى أول مسكين لقيه، ثم قال:"اشتر لي نعلين مخصوفتين".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث، والذي قبله يحتاج إلى النظر في سنده، واللَّه تعالى أعلم.

ورَوَى مالك في "الموطأ" عن عبد اللَّه بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائطه، فطار دُبْسِيّ

(1)

، فطَفَق يتردد يلتمس مخرجًا، فأعجبه ذلك، فجعل يُتبعه ببصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلي، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول اللَّه، هو صدقة لك، فضعه حيث شئت. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في الأسئلة والأجوبة:

(1)

"الدُّبْسيّ" بالضمّ: ضربٌ من الفواخيت، قيل: نسبة إلى طير دُبْس، وهو الذي لونه بين السواد والحمرة، قاله في "المصباح" 1/ 189، و"الفواخيت": جمع فاختة: طائر معروف، قاله في "القاموس" 1/ 154.

(2)

راجع: "طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 379.

ص: 401

[فإن قيل]: كيف بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخميصة إلى أبي جهم، وقد أخبر عن نفسه بأنها ألهته في صلاته مع قُوّته صلى الله عليه وسلم، فكيف لا تَشْغَل أبا جهم عن صلاته؟.

[أجيب]: بأنه لَمْ يَبْعَث بها إليه ليلبسها في الصلاة، بل لينتفع بها في غير، الصلاة، كما قال في حلة عُطارد:"إني لَمْ أبعث بها إليك لتلبسها. . . " الحديث، قاله ولي الدين العراقيّ رحمه الله.

وقال في "الفتح": ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من جنس قوله: "كُلْ فإني أُناجي من لا تناجي". انتهى.

[فإن قيل]: كيف يَخاف الافتتان مَن لا يلتفت إلى الأكوان {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17]؟.

[أجيب]: بأنه كان في تلك الليلة خارجًا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من ورائه، فأما إذا رُدّ إلى طبعه البشري، فإنه يؤثّر فيه ما يؤثّر في البشر.

[فإن قيل]: إن المراقبة شَغَلت خلقًا من أتباعه حتى وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار، ولم يَعْلَم به.

[أجيب]: بأن أولئك يؤخذون عن طباعهم، فيَغِيبون عن وجودهم، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَسْلُك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص قال:"لست كأحدكم"، وإذا سلك طريق غيرهم قال:"إنما أنا بشر"؛ فنَزْعُ الخميصة يكون من الثاني

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1243]

(. . .) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيَ فِي خَمِيصَةٍ، ذَاتِ أَعْلَامٍ، فَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ: "اذْهَبُوا بِهَذِهِ

(2)

الْخَمِيصَةِ إِلَى أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ، وَأْتُونِي

(1)

راجع: "طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 378.

(2)

وفي نسخة: "اذهبوا بها إلى أبي جهم".

ص: 402

بِأَنْبِجَانِيِّهِ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا فِي صَلَاتِي

(1)

").

رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، والذي قبله.

وقوله: (في خَمِيصَةٍ) تقدّم أنَّها كساء مربّع من صوف.

وقوله: (وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيِّهِ) قال القاضي عياض رحمه الله: رَوَيناه بفتح الهمزة وكسرها، وبفتح الباء وكسرها أيضًا في غير مسلم، وبالوجهين ذكرها ثعلب، قال: ورويناه بتشديد الياء في آخره وبتخفيفها معًا في غير مسلم؛ اذ هو في رواية لمسلم بأنبجانيه مشدَّدٌ مكسورٌ على الإضافة إلى أبي جهم، وعلى التذكير كما جاء في الرواية الأخرى:"كساءً له أنبجانيًّا".

قال ثعلب: هو كلُّ ما كَثُفَ، وقال غيره: هو كساءٌ غليظٌ، لا عَلَم له، فإذا كان للكساء عَلَمٌ، فهو خميصةٌ، فإن لم يكن فهو أنبجانية.

وقال الداوديّ: هو كساءٌ غليظٌ بين الكساء والعَبَاءة.

وقال القاضي أبو عبد اللَّه: هو كساءٌ سَدَاه قُطنٌ، أو كَتّانٌ، ولُحْمَته صُوفٌ.

وقال ابن قتيبة: إنما هو منبجانيّ، ولا يقال: أنبجانيّ، منسوب إلى مَنْبِج، وفُتِحَ الباء في النسب؛ لأنه خرج مخرج الشذوذ، وهو قول الأصمعيّ، قال الباجيّ: ما قاله ثعلب أظهر، والنسب إلى مَنِبج منبجيّ. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَإِنَّهَا أَلْهَتْنى) أي شَغَلتني، وهو من الإلهاء، وثلاثيّه: لَهِي الرجل عن الشيء بالكسر يَلْهَي، من باب تَعِب: إذا غَفَلَ، وأما لَهَا يلهو: إذا لَعِبَ، فهو من باب نصر ينصر.

وقوله: (آنِفًا) أي قريبًا، وهو مأخوذ من ائتناف الشيء: أي ابتدائه، وكذا الاستئناف، ومنه أنف كلّ شيءٍ، وهو أوّله، ويقال: قلت آنفًا وسالفًا، وانتصابه على الظرفيّة، قال الأزهريّ: استأنفت الشيءَ: إذا ابتدأته، وفعلت الشيء آنفًا، أي في أول وقت يقرب مني

(3)

.

وقوله: (فِي صَلَاتِي) وفي نسخة: "عن صلاتي"، قال في "الفتح": قوله:

(1)

وفي نسخة: "عن صلاتي".

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 43.

(3)

راجع: "النهاية" لابن الأثير 1/ 76، و"عمدة القاري" 4/ 138 - 139.

ص: 403

"عن صلاتي": أي عن كمال الحضور فيها، كذا قيل، والطريق الآتية المعلقة -يعني قوله:"كنت انظر إلى علمها، وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني"- تدلّ على أنه لم يقع له شيء من ذلك، وإنما خَشِي أن يقع لقوله:"فأخاف"، وكذا في رواية مالك:"فكاد"، فلتؤوَّل الرواية الأولى.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: فيه مبادرة الرسول إلى مصالح الصلاة، ونفيُ ما لعله يخدُش فيها، وأما بعثه بالخميصة إلى أبي جهم فلا يلزم منه أن يستعملها في الصلاة، ومثله قوله في حُلّة عطارد، حيث بَعَث بها إلى عمر:"إني لم أبعث بها إليك لتلبسها".

ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من جنس قوله: "كُلْ، فاني أناجي من لا تناجي".

ويُستنبط منه كراهية كلِّ ما يَشْغَل عن الصلاة، من الأصباغ، والنقوش، ونحوها.

وفيه قبول الهدية من الأصحاب، والإرسال إليهم، والطلب منهم.

واستدلّ به الباجي على صحة المعاطاة؛ لعدم ذكر الصيغة.

وقال الطيبيّ: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة، والنفوس الزكية، يعني فضلًا عمن دونها. انتهى

(1)

، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1244]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ خَمِيصَةٌ، لَهَا عَلَمٌ، فَكَانَ يَتَشَاغَلُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَأَعْطَاهَا أَبَا جَهْمٍ، وَأَخَذَ كِسَاءً لَهُ أُنْبِجَانِيًّا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَكِيع) بن الجرّاح تقدّم قريبًا.

2 -

(هِشَام) بن عروة، تقدّم قبل باب.

(1)

"الفتح" 1/ 576 - 577.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 404

والباقون ذكروا في الباب، وكذا شرح الحديث، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(16) - (بَابُ النَّهْي عَنِ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَعَنِ الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الْحَدَثِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1245]

(557) - (أَخْبَرَنِي

(1)

عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقة حافظ [10](232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، ثقة حافظ فقيه إمامٌ حجةُ، من رؤوس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب بن

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 405

عبد اللَّه بن الحارث القرشيّ، أبو بكر المدنيّ، الفقيه الحافظ، متّفقٌ على جلالته وإتقانه، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.

6 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِك) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور الخادم، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (80) من رباعيّات الكتاب، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه، والآخران ما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن عمرًا وزهيرًا بغداديّان، وأبو بكر كوفيّ، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ، والزهريّ، مدنيّ، وأنس مدنيّ، ثم بصريّ.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، ومن المعمّرين، فقد جاوز عمره مائة سنة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ) بالفتح والمدّ: الطعام يُتَعَشَّى به وقت العشاء، قاله في "المصباح"، وفي "القاموس": هو طعام الْعَشِيّ، وهو ممدود كسَمَاءٍ. انتهى.

قال العراقيّ رحمه الله: المراد بحضوره: وَضْعُهُ بين يدي الآكل، لا استواؤه، ولا غَرْفه في الأوعية؛ لحديث ابن عمر المتفق عليه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا وُضِعَ عشاءُ أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدأوا بالعشاء، ولا يَعْجَل حتى

ص: 406

يَفْرُغ منه"، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتها حتى يَفْرُغ منه، وإنه لَيَسْمَعُ قراءة الإمام. انتهى

(1)

.

ويؤيِّد ما قاله العراقيّ رحمه الله من أن المراد بحضوره: وَضْعُهُ بين يدي الآكل، حديث أنس رضي الله عنه، عند البخاريّ بلفظ:"إذا قُدِّم العشاء"، ولمسلم:"إذا قُرِّب العشاء"، وعلى هذا، فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء، لكنه لم يُقَرَّب للآكل، كما لو لَمْ يقرَّب، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) قال ابن دقيق العيد رحمه الله: الألف واللام في "الصلاة" لا ينبغي أن تُحْمَل على الاستغراق، ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تحمل على المغرب؛ لقوله:"فابدءوا بالعَشَاء"، ويترجح حمله على المغرب، لقوله في الرواية الأخرى:"فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب"، والحديث يفسر بعضه بعضًا، وفي رواية صحيحة:"إذا أقيمت الصلاة، وأحدكم صائم، فليبدأ بالعَشَاء قبل صلاة المغرب،. . . ولا تُعْجَلُوا عن عشائكم"، رواه ابن حبان. انتهى.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: وأنت خبير بأن التنصيص على المغرب لا يقتضي تخصيص عموم الصلاة؛ لما تقرر في الأصول من أن مُوَافِقَ العامّ لا يُخَصَّص به، فلا يصلح جعله قرينة لحمل اللام على ما لا عموم فيه، ولو سُلِّم عدنم العموم، لم يُسَلَّم عدم الإطلاق، وقد تقرر أيضًا في الأصول أن مُوَافِق المطلق لا يقتضي التقييد، ولو سَلَّمنا ما ذكره باعتبار أحاديث الباب؛ لتأييده بأن لفظ العشاء يُخْرِج صلاة النهار، وذلك مانع من حمل اللام على العموم، لم يتمّ له باعتبار حديث:"لا صلاة بحضرة طعام" عند مسلم وغيره، ولفظ:"صلاة" نكرة في سياق النفي، ولا شكّ أنها من صيغ العموم، ولإطلاق الطعام، وعدم تقييده بالعَشَاء، فذِكْرُ المغرب من التنصيص على بعض أفراد العامّ، وليس بتخصيص، على أن العلة التي ذكرها شُرّاح الحديث للأمر بتقديم العشاء، كالنوويّ وغيره لعدم الاختصاص ببعض الصلوات، فإنهم قالوا: إنها اشتغال

(1)

راجع: "تحفة الأحوذي" 2/ 334.

(2)

"الفتح" 2/ 187.

ص: 407

القلب بالطعام، وذهاب كمال الخشوع عند حضوره، والصلوات متساوية الإقدام في هذا.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي حقّقه الشوكانيّ رحمه الله من حمل الحديث على العموم هو الراجح عندي؛ لقوّة حجّته، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وظاهر الأحاديث أنه يُقَدِّم العَشَاء مطلقًا، سواء كان محتاجًا إليه، أم لا، وسواء كان خفيفًا أم لا، وسواء خَشِي فساد الطعام أم لا، وخالف الغزالي، فزاد قيد خشية فساد الطعام، والشافعية، فزادوا قيدَ الاحتياج، ومالك، فزاد قيد أن يكون الطعام خفيفًا.

وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر الأحاديث ابن حزم والظاهرية، ورواه الترمذي عن أبي بكر، وعمر، وابن عمر، وإسحاق، والعراقيّ عن الثوريّ، فقال: يجب تقديم الطعام، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قُدِّمت.

وذهب الجمهور إلى الكراهة. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ادَّعَى أبو عمر بن عبد البرّ: الإجماع على صحة صلاة مَن صلّى بحضرة الطعام، ومن صلّى حاقنًا، إذا لم يترك شيئًا من فرائض الصلاة

(2)

.

فإن صحّ دعوى الإجماع، فذاك، وإلا في قاله الأولون هو الظاهر؛ لأن حديث مسلم:"لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان" نص في انتفاء الصلاة، وعدم الاعتداد بها مع حضور الطعام، ومدافعة الأخبثين، واللَّه تعالى أعلم.

(فَابْدَءُوا بالْعَشَاءِ") أي بأكل العَشَاء، وهو بفتح العين المهملة.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: في درجته:

حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 57.

(2)

"التمهيد" 22/ 206.

ص: 408

المسألة الثانية: في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 1245 و 1246](557)، و (البخاريّ) في "الأذان"(672) وفي "الأطعمة"(5463)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(353)، و (النسائي) في "الإمامة"(853) وفي "الكبرى"(926)، و (ابن ماجه) فيها (933)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 125)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(2183)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1181)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(2/ 420)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100 و 110 و 162 و 249 و 283)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 293)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 401 و 402)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(223)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(934 و 1651)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2566)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 286 و 1287 و 1288 و 1289 و 1290)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1220 و 1221)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 72 - 73)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(800)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن الصلاة بحضرة الطعام، قال الترمذيّ رحمه الله بعد إخراج الحديث: وعليه العمل عند بعض أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وبه يقول أحمد، وإسحاق يقولان: يبدأ بالعَشَاء، وإن فاتته الصلاة في الجماعة، قال: سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعًا يقول في هذا الحديث: يبدأ بالعشاء إذا كان طعامًا يُخاف فساده، قال الترمذيّ: والذي ذهب إليه بعض أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم أشبه بالاتباع، وإنما أرادوا أن لا يقوم الرجل إلى الصلاة، وقلبه مشغول بسبب شيء، وقد رُوي عن ابن عباس بأنه قال: لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله.

2 -

(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث -يعني أحاديث الباب- كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله؛ لما فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويَلْتَحِق به ما في معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن ضاق صَلَّى على حاله؛ محافظةً على حرمة الوقت، ولا يجوز

ص: 409

التأخير، وحَكَى المتولي وجهًا أنه يبدأ بالأكل، وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع، فلا يفوته. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، ثم فيه نظر؛ لأن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، وخروج الوقت أشدّ من ترك "الخشوع بدليل صلاة الخوف والغَرِيق وغير ذلك، وإذا صلّى لمحافظة الوقت صحّت مع الكراهة، وتستحب الإعادة عند الجمهور.

وادعى ابن حزم: أن في الحديث دلالةً على امتداد الوقت في حقّ من وُضِع له الطعام، ولو خرج الوقت المحدود، وقال مثل ذلك في حق النائم والناسي.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: النصوص المذكورة لا تدلّ على ما ادعاه، فتأملها بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن النووي وغيره استَدَلُّوا بحديث أنس رضي الله عنه على امتداد وقت المغرب.

وتعقّبه ابن دقيق العيد: بأنه إن أريد بذلك التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر، وإن أريد به مطلق التوسعة، فمسلَّم، ولكن ليس محلَّ الخلاف المشهور، فإن بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله مُقَدَّرًا بزمن يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سَوْرة الجوع.

وقال ابن رجب رحمه الله: وفي أحاديث الباب دليلٌ على أن وقت المغرب متّسع، وأنه لا يفوت بتأخير الصلاة فيه عن أول الوقت، ولولا ذلك لَمْ يأمر بتقديم الْعَشَاء على صلاة المغرب من غير بيانٍ لحدّ التأخير، فإن هذا وقت حاجة إلى البيان، فلا يجوز تأخيره عنه، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): أنه استدلّ به القرطبيّ على أن شهود صلاة الجماعة ليس بواجب؛ لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل، وإن فاتته الصلاة في الجماعة.

وتُعُقّب بأن من ذهب إلى وجوب الجماعة -وهو الحقّ- جعل حضور

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 46.

(2)

"شرح البخاري" لابن رجب 6/ 105.

ص: 410

الطعام عذرًا يُبيح ترك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقًا.

5 -

(ومنها): أن فيه تفضيلَ الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت.

6 -

(ومنها): أنه استدَلَّ بعض الشافعية والحنابلة بقوله: "فابدؤوا" على تخصيص ذلك بمن لم يَشْرَع في الأكل، وأما مَن شرع، ثم أقيمت الصلاة، فلا يتمادي، بل يقوم إلى الصلاة.

قال النووي رحمه الله: وصنيع ابن عمر رضي الله عنهما يبطل ذلك، وهو الصواب.

وتُعُقّب بأن صنيع ابن عمر رضي الله عنهما اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه؛ لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما دَفَعَ شغل البال به، ويؤيِّد ذلك حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه، قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأكل ذراعًا يَحْتَزُّ منها، فدُعي إلى الصلاة، فقام، فطرح السكين، فصلّي، ولم يتوضأ.

لكن قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: لعله صلى الله عليه وسلم أخذ في خاصة نفسه بالعزيمة، فقدَّم الصلاة على الطعام، وأمر غيره بالرخصة؛ لأنه لا يَقْوَى على مدافعة الشهوة قوته، "وأيكم يملك أربه". انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي حمل حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه على الإمام، وهو رأي الإمام البخاريّ رحمه الله، وهو الظاهر؛ لأنه يُنتظر ممن في المسجد، ويتضرّرون بتأخره بخلاف المأموم، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

ورَوَى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة بإسناد حسن، عن أبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم:"أنهما كانا يأكلان طعامًا، وفي التنور شواء، فأراد المؤذِّن أن يقيم، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: لا تَعْجَل؛ لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء"، وفي رواية ابن أبي شيبة:"لئلا يَعْرِض لنا في صلاتنا"، وله عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، قال:"العَشَاء قبل الصلاة يُذهب النفس اللوامة".

وفي هذا كله إشارةٌ إلى أن العلة في ذلك تشوُّف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودًا وعدمًا، ولا يتقيد بكل، ولا بعض، ويُستثنى من ذلك الصائم، فلا تُكرَه صلاته بحضرة الطعام؛ إذ الممتنع بالشرع لا يَشغَل العاقل نفسه به، لكن إذا غَلَب استُحِبّ له التحول من ذلك المكان،

ص: 411

أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الأرجح تعميم الحكم فيمن بدأ بالأكل، ومن لم يبدأ به، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا وُضِع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا يُعْجَل حتى يَفْرُغ منه"، متّفقٌ عليه، وقوله:"إذا كان أحدكم على الطعام، فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه، وإن أقيمت الصلاة"، متّفقٌ عليه أيضًا، فهذا نصّ يشمل من بدأ بالأكل، ومن لم يبدأ، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.

[فائدتان]:

(الأولى): قال ابن الجوزيّ رحمه الله: ظَنّ قوم أن هذا من باب تقديم حقّ العبد على حق اللَّه تعالى، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحقّ الحقّ؛ ليدخل في عبادته بقلوب مُقبِلة، ثم إن طعام القوم كان شيئًا يسيرًا لا يقطع عن لَحاق الجماعة غالبًا.

(الثانية): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": ما يقع في بعض كتب الفقه: "إذا حَضَر العَشَاء والعِشَاء، فابدؤوا بالعَشَاء" لا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين أن ابن أبي شيبة أخرج عن إسماعيل، وهو ابن عُلَيّة، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني عبد اللَّه بن رافع، عن أم سلمة مرفوعًا:"إذا حضر العَشَاء، وحضرت العِشَاء، فابدأوا بالعَشَاء"، فإن كان ضبطه، فذاك، وإلا فقد رواه أحمد في "مسنده" عن إسماعيل بلفظ:"وحَضَرت الصلاة"، قال: ثم راجعت "مصنف ابن أبي شيبة"، فرأيت الحديث فيه كما أخرجه أحمد، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): رأيت للحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ" كلامًا مفيدًا في بيان مذاهب العلماء في هذه المسألة، وتحقيقها بما لها وما عليها، فأحببت إيراده هنا، وإن كان تقدّم معظمه، إلا أن في كلامه فوائد وزوائد مهمّة، ودونك خلاصة تحقيقه، قال رحمه الله:

(1)

"الفتح" 2/ 189 - 190.

(2)

"الفتح" 2/ 190.

ص: 412

فهذه الأحاديث كلّها تدلّ على أنه إذا أقيمت الصلاة، وحضر العَشاءُ، فإنه يبدأ بالعشاء، سواء كان قد أكل منه شيئًا، أو لا، وأنه لا يقوم حتى يقضي حاجته من عَشائه، ويفرغ منه.

وممن يروى عنه تقديم العشاء على الصلاة: أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وابن عبّاس، وأنس، وغيرهم.

ورَوى معمر، عن ثابت، عن أنس قال: إني لمع أُبيّ بن كعب، وأبي طلحة، وغيرهما من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم على طعام إذ نُودي بالصلاة، فذهبت أقوم، فأقعدوني، وعابوا عليّ حين أردت أن أقوم، وأَدَع الطعام، خرّجه عبد اللَّه بن أحمد في "مسائله".

وإلى هذا القول ذهب الثوريّ، وأحمد في المشهور عنه، وإسحاق، وابن المنذر، وقال أحمد: لا يقوم حتى يفرغ من جميع عشائه، وإن خاف أن تفوته الصلاة ما دام في الوقت، قال: لأنه إذا تناول منه شيئًا، ثم تركه كان في نفسه شغل من تركه الطعام إذا لم يَنَلْ منه حاجته.

وحاصل الأمر أنه إذا حضر الطعام كان عُذرًا في ترك صلاة الجماعة، فيقدّم تناول الطعام، وإن خشي فوات الجماعة، ولكن لا بدّ أن يكون له ميلٌ إلى الطعام، ولو كان ميلًا يسيرًا، صرّح بذلك أصحابنا وغيرهم، وعلى ذلك دلّ تعليل ابن عبّاس، والحسن، وغيرهما، وكذلك ما ذكره البخاريّ عن أبي الدرداء

(1)

.

فأما إذا لم يكن له ميلٌ بالكلّيّة إلى الطعام، فلا معنى لتقديم الأكل على الصلاة.

وقالت طائفةٌ أخرى: يبدأ بالصلاة قبل الأكل، إلَّا أن تكون نفسه شديدة التوقان إلى الطعام، وهذا مذهب الشافعيّ، وقول ابن حبيب المالكيّ، واستدلّ له ابن حبّان بالحديث الذي فيه التقييد بالصائم، والحق به كلّ من كان شديد التوقان إلى الطعام في الصلاة يَمنع من كمال الخشوع بخلاف اليسير.

(1)

هو قوله في "صحيحه": "وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته، وقلبُهُ فارغ". انتهى.

ص: 413

وقالت طائفة أخرى: يبدأ بالصلاة إلَّا أن يكون الطعام خفيفًا، حكاه ابن المنذر عن مالك.

وهذا يَحْتَمِلُ أنه أراد أن الخفيف من الطعام يُطمَع في إدراك الجماعة بخلاف الطعام الكثير، فيَختصّ هذا بالعشاء.

وهذا بناء على أن وقت المغرب وقتٌ واحدٌ، كما هو قول مالك والشافعيّ في أحد قوليه.

ونَقَل حربٌ عن إسحاق أنه يبدأ بالصلاة إلا في حالين: أحدهما أن يكون الطعام خفيفًا، والثاني: أن يكون مع جماعة، فيشقّ عليهم قيامه إلى الصلاة.

وهؤلاء قالوا: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بتقديم العَشاء على الصلاة حيث كان عَشاؤهم خفيفًا كما كانت عادة الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يتناول أمره غير ما هو معهود في زمنه.

وروى أبو داود بإسناده عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير، قال: كنت مع أبي في زمان ابن الزبير إلى جنب عبد اللَّه بن عمر، فقال عباد بن عبد اللَّه بن الزبير: إنا سمعنا أنه يُبدأ بالعشاء قبل الصلاة، فقال عبد اللَّه بن عمر: ويحك ما كان عشاؤهم؟، أتُراه كان مثل عشاء أبيك؟

(1)

.

وأخرج البيهقيّ من حديث حُميد قال: كنّا عند أنس بن مالك، فأذّن المؤذّن بالمغرب، وقد حضر الْعَشاء، فقال أنس: ابدؤوا بالعشاء، فتعشّينا معه، ثم صلّينا، فكان عشاء خفيفًا.

وقالت طائفة: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون الطعام يُخاف فساده؛ لما في تأخيره من إفساد الطعام، وهذا قول وكيع، رواه الترمذيّ في "جامعه" عنه.

قال ابن رجب: وفي هذا القول بُعد، وهو مخالف ظاهر الأحاديث الكثيرة.

قال: وللإمام أحمد رحمه الله في المسألة ثلاثة أقوال:

[أحدها]: أنه قال في رواية أبي الحارث، وسُئل عن العشاء إذا وُضع،

(1)

رواه أبو داود بإسناد حسن برقم (3759).

ص: 414

وأقيمت الصلاة؛ فقال: قد جاءت أحاديث، وكان القوم في مجاعة، فأما اليوم فلو قام رجوت.

وهذه الرواية تدلّ على أن تقديم الأكل على الصلاة مختصّ بحال مجاعة الناس عمومًا، وشدّة توقانهم بأجمعهم إلى الطعام، وفي هذا نظر، وقد يُستدلّ له بما رواه أبو داود بسنده عن محمد بن ميمون الزعفرانيّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُؤَخَّر الصلاةُ لطعام ولا لغيره"

(1)

.

وأخرجه الطبرانيّ، ولفظه: لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤخّر صلاة المغرب لِعَشَاء ولا غيره

(2)

.

وهذا حديث ضعيف لا يثبت، ومحمد بن ميمون هذا وثّقه ابن معين، وغيره، وقال البخاريّ، والنسائيّ: منكر الحديث.

وروى سلام بن سلام المدائنيّ: ثنا ورقاء بن عمر، عن ليث بن أبي سُليم، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا حضر العَشاء، والصلاةُ، فابدءوا بالصلاة"، أخرجه تمّام الرازيّ في "فوائده"، وقال: هكذا وقع في كتابي، وهو خطأٌ، وليث بن أبي سُليم ليس بالحافظ، فلا تُقبل مخالفته لثقات أصحاب نافع، فإنهم رووه:"فابدءوا بالعَشاء" كما تقدّم، وسلام المدائنيّ ضعيفٌ جدًّا.

[والقول الثاني]: نَقَل حرث عن أحمد قال: إن كان أخذ من طعامه لقمة، أو نحو ذلك فلا بأس أن يقوم إلى الصلاة فيصلّي، ثم يرجع إلى العَشاء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَحتزّ من كتف الشاة، فألقى السكين، وقام، وكذا نَقَل عنه ابنه عبد اللَّه، والأثرم.

وحاصل هذا القول: إن كان أكل شيئًا من الطعام، ثم أقيمت الصلاة قام إليها، وترك الأكل، وإن لم يكن أكل شيئًا أكل ما تسكن به نفسه، ثم قام إلى الصلاة، ثم عاد إلى تتمّة طعامه.

وصرّح بذلك الأثرم في كتاب "الناسخ والمنسوخ"، واستدلّ بحديث

(1)

رواه أبو داود (3758).

(2)

"الأوسط" للطبرانيّ (5889).

ص: 415

عمرو بن أُميّة الضمريّ رضي الله عنه، وقد أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، ورُوي نحوُه من حديث المغيرة بن شُعبة، وجابر بن عبد اللَّه.

وفي هذه الأحاديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَحتزّ من كتف شاة، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى السكين، ثم قام إلى الصلاة.

وقد ذهبت طائفة من الفقهاء من الشافعيّة وغيرهم إلى أنه إذا سمع الإقامة لم يشبع من طعامه، بل يأكل ما يَكسر به سَوْرة جوعه، وحديث ابن عمر صريح في ردّ ذلك، وأنه لا يعجل حتى يفرغ من عشائه.

[والقول الثالث]: عكس الثاني، نقله حربٌ عن أحمد، قال: إن كان قد أكل بعض طعامه، فاُقيمت الصلاة، فإنه يُتمّ أكله، وإن لَمْ يأكل شيئًا، فأُحبّ أن يصلي.

وقد يُعلّل هذا بأنه إذا تناول شيئًا من طعامه، فإن نفسه تتوق إلى تمامه، بخلاف من لم يذُق منه شيئًا، فإن تَوَقَان نفسه إليه أيسر.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا خلاف النصوص الكثيرة، فإنها عامّة، فلا ينبغي استثناء بعض الأحوال دون بعض، فتبصّر.

قال: وفي المسألة قول آخر، وهو الجمع بين أحاديث هذا الباب، وبين حديث عمرو بن أُميّة، وما في معناه من طرح النبيّ صلى الله عليه وسلم السكّين من يده، وقيامه إلى الصلاة بالفرق بين الإمام والمأمومين، فإذا دُعي الإمام إلى الصلاة قام، وترك بقيّة طعامه؛ لأنه يُنتظر، وَيشُقّ على الناس عند اجتماعهم تأخّره عنهم بخلاف آحاد المأمومين، وهذا مسلك البخاريّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الجمع حسنٌ جدًّا، وحاصله أن الأمر بالبدء بالعشاء محمول على مَن غير الإمام؛ لعدم من يتضرر بتأخّره، وأما هو فلا يبدأ بالعشاء، بل يذهب إلى الصلاة؛ لئلا يتضرّر بتأخره من ينتظره في المسجد، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وبكلّ حال فلا يُرخّص مع حضور الطعام في غير ترك الجماعة، فأما الوقت فلا يُرخص بذلك في تفويته عند جمهور العلماء، ونصّ عليه أحمد وغيره.

وشذّت طائفة، فرخّصت في تأخير الصلاة عن الوقت بحضور الطعام

ص: 416

أيضًا، وهو قول بعض الظاهريّة، ووجه ضعيفٌ للشافعيّة، حكاه المتولّي وغيره.

قال: ومتى خالف وصلّى بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، فصلاته مجزئة عند جميع العلماء المعتبرين، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البرّ وغيره.

وإنما خالف فيه شُذوذ من متأخري الظاهريّة، لا يُعبأ بخلافهم الإجماع القديم. انتهى خلاصة ما كتبه ابن رجب رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: إن صحّ الإجماع المزعوم فذاك، وإلا في ذهب إليه الظاهريّة من بطلان الصلاة بحضرة الطعام هو الظاهر، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): ذكر الإمام الحافظ أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" الأعذارَ التي تُسقِط فرض الجماعة، فقال: وأما العذر الذي يكون المتخلِّف عن إتيان الجماعات به معذورًا، فقد تتبعته في السنن كلِّها، فوجدتها تدل على أن العذر عشرة أشياء. انتهى. وهاك خلاصة ما قاله رحمه الله:

[الأول]: المرض الذي لا يَقدِر المرء معه أن يأتي الجماعات؛ لحديث أنس رضي الله عنه في كونه صلى الله عليه وسلم كشَفَ الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه، فأراد أبو بكر أن يرتدّ، فأشار إليهم أن امكثوا، وألقى السِّجْف. . . الحديث

(2)

.

[الثاني]: حضور الطعام، لحديث الباب.

[الثالث]: النسيان الذي يَعْرض في بعض الأحوال؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه في نومهم عن صلاة الصبح

(3)

.

[الرابع]: السِّمَن الْمُفْرِط الذي يمنع المرء من حضور الجماعات؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رجل من الأنصار -وكان ضَخْمًا- للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني لا أستطيع الصلاة معك، فلو أتيت منزلي، فصليت فيه، فأقتدي بك؟،

(1)

"شرح البخاري" لابن رجب 6/ 98 - 105.

(2)

متّفقٌ عليه.

(3)

متّفقٌ عليه.

ص: 417

فصنع له الرجل طعامًا، ودعاه إلى بيته، فبَسَطَ له طرف حصير لهم، فصلّى عليه ركعتين

(1)

.

[الخامس]: وجود المرء حاجةَ الإنسان في نفسه -يعني البول والغائط- لما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد اللَّه بن الأرقم رضي الله عنه أنه كان يؤمّ أصحابه، فحضرت الصلاة يومًا فذهب لحاجته، ثم رجع، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا وَجَد أحدكم الغائط، فليبدأ به قبل الصلاة"

(2)

.

والمراد أن يؤذيه ذلك بحيث يَشْغله عن الصلاة، لا ما لا يتأذى به؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يُصَلِّ أحدكم، وهو يدافعه الأخبثان"

(3)

.

[السادس]: خوف الإنسان على نفسه وماله في طريقه إلى المسجد؛ لحديث عتبان بن مالك رضي الله عنه

(4)

.

[السابع]: وجود البرد الشديد المؤلم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه وَجَد ذات ليلة بردًا شديدًا، فأَذَّن من معه، فصلَّوا في رحالهم، وقال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان مثلُ هذا أمر الناس أن يصلُّوا في رحالهم

(5)

.

[الثامن]: وجود المطر المؤذي؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا، قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلةٌ ذاتُ برد ومطر يقول: "ألا صلُّوا في الرحال"

(6)

.

[التاسع]: وجود العلة التي يَخاف المرء على نفسه الْعَثْر منها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا، قال: كنا إذا كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانت ليلة ظَلْماءُ، أو ليلة مطيرة، أَذَّن مؤذِّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو نادى مناديه: أن صَلُّوا في رحالكم

(7)

.

(1)

أخرجه ابن حبّان في "صحيحه"، وأخرج البخاريّ نحوه.

(2)

حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن.

(3)

أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" بسند قويّ.

(4)

متّفقٌ عليه.

(5)

رواه ابن حبّان في "صحيحه".

(6)

متّفقٌ عليه.

(7)

رواه ابن حبّان في "صحيحه".

ص: 418

[العاشر]: أكل الثُّوم والبصل إلى أن يذهب ريحها؛ لحديثِ: "مَن أكل من هذه الشجرة الخبيثة، فلا يَقْرَبَنَّ مصلانا حتى يذهب ريحها"

(1)

.

انتهى ما ذكره ابن حبان من أعذار سقوط فرض الجماعة حسبما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة بالاختصار

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1246]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(3)

هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197) عن (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَمْرو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظ فقيه [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (إِذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ) بضمّ القاف، وتشديد الراء المكسورة مبنيًّا للمفعول، من التقريب.

وقوله: (وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) بالبناء للفاعل، وتقدّم الخلاف في كون "أل"

(1)

أخرجه أحمد، وأبو داود بسند صحيح.

(2)

"صحيح ابن حبّان" 5/ 417 - 439.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 419

للعهد، والمراد صلاة المغرب، أو لتعريف الماهيّة، وهذا هو الأرجح، والمراد حقيقة الصلاة، قال الفاكهانيّ: ينبغي حمله على العموم؛ نظرًا إلى العلّة، وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي الحصر؛ لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَابْدَءُوا بِهِ) أي بأكل العشاء.

وقوله: (وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ) بفتح حرف المضارعة، والجيم، مضارع عَجِلَ، من باب تَعِبَ، ويُروى بضمّ التاء، وكسر الجيم من الإعجال رباعيًّا، وقال في "الفتح": هو: بضمّ المثنّاة وبفتحها، والجيم مفتوحةٌ فيهما، ويُروى بضمّ أوله، وكسر الجيم. انتهى

(2)

.

والحديث متَّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[247]

(558) - (حَدَّثَنَا

(3)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَحَفْصٌ، وَوَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(حَفْص) بن غياث بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغير قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

(1)

راجع: "المرعاة" 3/ 490.

(2)

"الفتح" 2/ 188.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 420

4 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) عن (70)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

5 -

(هِشَام) بن عروة الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [5](ت 5 أو 146) عن (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 350.

6 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ مشهورٌ [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 407.

7 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57) على الصحيح، تقدّمت في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 315.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ إلخ) يعني أن هؤلاء الثلاثة: عبد اللَّه بن نُمير، وحفص بن غياث، ووكيع بن الجرّاح حدّثوا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها بمثل ما حَدّث به سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن أنس رضي الله عنه.

[تنبيه]: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه، أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 1247](558)، و (البخاريّ) في "الأذان"(671) وفي "الأطعمة"(5465).

[تنبيه آخر]: حديث عائشة رضي الله عنها هذا الذي أحاله المصنّف على حديث أنس رضي الله عنه ساقه البخاريّ في "صحيحه" من طريق يحيى القطّان، عن هشام، فقال:

(671)

حدّثنا مسدد، قال: حدّثنا يحيى، عن هشام، قال: حدّثني أبي، قال: سمعت عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا وُضِع العشاء، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء". انتهى.

وأخرجه أيضًا ابن ماجه: من طريق ابن عيينة، ووكيع، كلاهما عن هشام، فقال:

(935)

حدّثنا سهل بن أبي سهل، حدّثنا سفيان بن عيينة (ع) وحدّثنا علي بن محمد، حدّثنا وكيع جميعًا، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاثشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حَضَر العشاء، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو

ص: 421

حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1248]

(559) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: (ع) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلَنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعةٌ:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرِ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [101](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم في السند الماضي.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القُرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

5 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت سنة بضع و 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

6 -

(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

7 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه الصحابيّ ابن الصحابيّ، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف شيخيهما، وفيه التحديث، والعنعنة، والقول.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

ص: 422

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عبيد اللَّه، والباقون كلهم كوفيّون.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وقد تقدّموا غير مرّة، ومن المشهورين بالفتوى.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهم، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ) ببناء الفعل للمفعول، و"العشاء" بفتح العين المهملة، والمدّ في الموضعين: بمعنى طعام آخر النهار.

قال في "الفتح": هذا أخصّ من الرواية الماضية -يعني قوله: "إذا قُدِّم العَشَاءُ"- فيُحمَل"العشاء" في تلك الرواية على عشاء من يُريد الصلاة، فلو وُضع عشاء غيره لَمْ يدخل في ذلك، ويَحْتَمِل أن يقال بالنظر إلى المعنى: لو كان جائعًا، واشتَغَل خاطره بطعام غيره كان كذلك، وسبيله أن ينتقل عن ذلك المكان، أو يتناول مأكولًا يزيل شُغل باله؛ ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ، ويؤيّد هذا الاحتمال عموم قوله في رواية مسلم من حديث عائشة رضي الله عنهما:"لا صلاة بحضرة طعام. . . " الحديث، وقول أبي الدرداء رضي الله عنه:"من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته وقلبه فارغٌ"

(1)

. انتهى

(2)

.

(وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) تقدّم قريبًا أن الأرجح كون "أل" هنا للاستغراق، فيشمل المغرب وغيرها (فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ) بفتح العين المهملة، أي بأكله (وَلَا) ناهية (يَعْجَلَنَّ) من باب تَعِبَ، ويَحْتَمِل أن يكون من الإعجال، والمعنى: لا يُسرِع في الأكل، بل يأكل على تمهّل (حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ") بالبناء للفاعل، يقال: فَرَغ من الشُّغْل فُرُوغًا، من باب قَعَد، وفَرخَ يَفْرَغ، من باب تَعِبَ لغة لبني تميم، والاسم: الْفَرَاغُ، قاله الفيّوميّ.

(1)

أثر أبي الدرداء رضي الله عنه هذا علّقه البخاريّ في "صحيحه" بصيغة الجزم، وأخرجه ابن المبارك في "كتاب الزهد"، وأخرجه محمد بن نصر المروزيّ في "كتاب تعظيم قدر الصلاة" من طريق ابن المبارك، أفاده في "الفتح" 2/ 187.

(2)

"الفتح" 2/ 188.

ص: 423

قال الطيبيّ رحمه الله: أفرد قوله: "يَعْجلنّ" نظرًا إلى لفظ "أحد"، وجمع قوله:"فابدءوا" نظرًا إلى لفظ "كُمْ"، قال: والمعنى: إذا وُضع عشاءُ أحدكم، فابدءوا أنتم بالعشاء، ولا يعجلنّ هو حتى يفرغ معكم منه. انتهى

(1)

.

وأجاب البرماويّ بأن النكرة في الشرط تعُمّ، فيَحْتَمِل أن الجمع لأجل عموم "أحد". انتهى.

وقال القاري: الظاهر أن الخطاب بالجمع لإفادة عموم الحكم، وأنه غير مختصّ بأحد دون أحد، أو المراد به الموافقة معه، ثم أداء الصلاة جماعةً؛ لينال الفضيلة، والحديث دليلٌ على أن تقريب الطعام، ووضعه بين يدي الآكل من أعذار ترك الجماعة. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "حتى يفرغ منه" دليل على أنه يأكل حاجته من الأكل بكماله، وهذا هو الصواب، وأما ما تأوّله بعض أصحابنا على أنه يأكل لُقيمات يَكسِر بها شدّة الجوع، فليس بصحيح، وهذا الحديث صريحٌ في إبطاله. انتهى

(3)

. وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ رحمه الله ما نصّه: "وكان ابن عمر يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "وكان ابن عمر" هو موصول عطفًا على المرفوع، وقد رواه السَّرّاج من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد اللَّه، عن نافع، فذكر المرفوع، ثم قال: قال نافع: وكان ابن عمر إذا حضر عشاؤه، وسمع الإقامة، وقراءةَ الإمام لم يَقُم حتى يَفرُغ، ورواه ابن حبان من طريق ابن جريج، عن نافع، أن ابن عمر كان يصلِّي المغرب إذا غابت الشمس، وكان أحيانًا يَلْقاه وهو صائم، فَيُقَدَّم له عَشاؤه، وقد نودي للصلاة، ثم تقام، وهو يسمع، فلا يترك عَشاءه، ولا يَعْجَل حتى يَقضِيَ عشاءه، ثم يخرج فيصلِّي.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1129.

(2)

"المرعاة" 3/ 491.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 46.

ص: 424

انتهى. وهذا أصرح ما ورد عنه في ذلك. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى)؛ حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 1248 و 1249](559)، و (البخاريّ) في "الأذان"(673) وعلّقه فيه (674) وأخرجه في "الأطعمة"(5463)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3757)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(354)، و (ابن ماجه) فيها (934)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2189)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 420)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 148)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(935 و 936)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2067)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1291 و 1292 و 1293 و 1294 و 1294)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1223 و 1224)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 73)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1249]

(. . .) - (وحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِي، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ (ع) وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ:(ع) وَحَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَيُّوبَ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيّ) من ولد المسيَّب بن عابد المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ [10](ت 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

(1)

"الفتح" 2/ 188 - 189.

ص: 425

2 -

(أَنَسُ بْنُ عِيَاض) بن ضَمْرة الليثيّ، أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

3 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ، مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

4 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن مروان الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

5 -

(حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ) التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 202)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

6 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأُمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضل، كان يدلّس ويُرسل [6](ت 150) أو بعدها، وقد جاوز السبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

7 -

(الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُود) بن طَرِيف الْجَحْدريّ، أبو بكر، ويقال: أبو محمد البصريّ القاضي، وَلِيَ قضاء سُرَّ مَن رَأَي، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [10].

رَوَى عن سفيان بن موسى البصريّ، وسُليم بن أخضر، وعباد بن عباد المهلبيّ، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وهشيم، ومحمد بن عبد الرحمن الطُّفَاويّ، وخلق.

ورَوَى عنه مسلم حديث الباب فقط، وإبراهيم بن الجنيد، وبَقِيّ بن مخلد، وعبد اللَّه بن أحمد، وأبو زرعة الرازيّ، والحسن بن عليّ بن شَبِيب المعمريّ، وزكرياء بن يحيى الساجيّ، وعبدان بن أحمد الأهوازيّ، وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى الموصليّ، وأبو القاسم البغويّ، وغيرهم.

قال صالح بن محمد البغداديّ: ثقةٌ، وقال ابن عديّ: سمعت عَبدان يقول: نظر عباس بن عبد العظيم العنبريّ في جزء لي، فقال: عن الصَّلْت بن مسعود؟ فقال: يا بنيّ اتّقِهِ، قال ابن عديّ: لَمْ يبلغني عن أحد في الصلت كلامٌ إلَّا هذا، وقد اعتبرتُ حديثه، فلم أجد فيه ما يجوز أن أُنكره عليه، وهو عندي لا بأس به، وقال العُقيليّ: له أحاديث وَهِمَ فيها، إلا أنه ثقةٌ، وكذا قال مسلمة في "تاريخه"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات قبل الأربعين، وقال محمد بن عبد اللَّه الحضرميّ: مات سنة تسع وثلاثين ومائتين.

ص: 426

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

8 -

(سُفْيَانُ بْنُ مُوسَى) البصريّ، صدوقٌ [8].

رَوَى عن أيوب، وسَيّار أبي الحكم، وعنه الصلت بن مسعود الجحدريّ، وعمرو بن عليّ الفلاس، ومحمد بن عُبيد بن خَشّاب، ومحمد بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، وعبد الرحمن بن المبارك العيشيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: مجهولٌ، ووثّقه الدارقطنيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال النوويّ في "شرحه": سفيان هذا بصريّ ثقةٌ معروفٌ، قال الدارقطنيّ: هو ثقةٌ مأمونٌ، وقال أبو عليّ الغسّانيّ: هو ثقةٌ، وأنكروا على من زعم أنه مجهول. انتهى

(1)

.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط متابعةً.

9 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تَمِيمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة، من كبار الفقهاء العُبّاد [5](ت 131) وله (65) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّاني الغسّانيّ رحمه الله: هكذا في نسخة أبي العلاء بن ماهان: "سفيان، عن أيّوب" غير منسوبين، وفي روايتنا عن أبي أحمد الْجُلُوديّ من طريق السِّجْزيّ عنه:"نا الصَّلْتُ بن مسعود، نا سفيان بن موسي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر".

قال أبو عليّ رحمه الله: وسفيان بن موسى هذا رجلٌ من أهل البصرة، يروي عن أيوب، وهو ثقةٌ، وكذلك نَسَبَهُ أبو مسعود الدمشقيّ في "كتاب الأطراف" عن مسلم، عن الصَّلْت بن مسعود، عن سفيان بن موسي، عن أيوب.

ومن حديثه ما أخبرنا أبو عمر النَّمَريّ، نا خَلَف بن القاسم، نا أبو على بن السكن، نا عبد اللَّه بن محمد البغويّ، نا الصَّلْتُ بن مسعود، نا سفيان بن موسي، نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 46.

ص: 427

"من استطاع أن يموت بالمدينة فليمُت، فإنه من مات بها شَفَعتُ له يوم القيامة".

قال ابن السكن: نا عبد اللَّه بن محمد بن سعيد الجمال، نا محمد بن إسماعيل، أبو إسماعيل، نا محمد بن عبد اللَّه الرَّقَاشيّ، نا سفيان بن موسى، عن أيوب بإسناده مثله.

وذكر أبو عبد اللَّه الحاكم النيسابوريّ قال: انفرد مسلم بن الحجاج بالرواية لسفيان بن موسى، عن أيوب، قال: وسمعت عليّ بن عمر الدارقطنيّ يقول: ذُكر لبعض أصحابنا ممن يدّعي الحفظ -ونحن بمصر- حديثٌ لسفيان بن موسى، عن أيوب، فقال: هذا خطأ، إنما هو عن سفيان بن عيينة، عن أيوب، قال: ولم يعرف سفيان بن موسى البصريّ، وهو ثقة مأمونٌ.

قال أبو عليّ رحمه الله: ورأيت في بعض النسخ من كتاب مسلم قد غُيِّر هذا الإسناد، وَرُدّ:"سفيان، عن أيوب بن موسى"، وهو خطأٌ. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله

(1)

.

قال القاضي عياض: أرى أن الناقل عن بعفالرواة غَلِطَ في تخريج نسب سفيان المذكور بعد اسمه حين إلحاقه، فخرّجه بعد أيّوب، فوقع الوهم فيه. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُودٍ) فاعل "قال" ضمير المصنّف، وهو ملحق من الراوي عنه.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) الضمير لموسى بن عُقبة، وابن جريج، وأيوب.

وقوله: (بِنَحْوِهِ) أي بنحو حديث عبيد اللَّه بن عمر المتقدّم.

[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة التي أحالها هنا على رواية عبيد اللَّه، ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 359) فقال:

(1292)

حدَّثنا حمدون بن عباد البغداديّ، قال: ثنا أبو بَدْر شُجَاع بن الوليد، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 813 - 815.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 493.

ص: 428

قال: "إذا كان أحدكم عند الطعام، فلا يَعْجَلنّ عنه حتى يَقضِيَ حاجته، وإن أقيمت الصلاة". انتهى.

وأما رواية ابن جُريج، فساقها أبو عوانة في "مسنده" أيضًا (1/ 359)، فقال:

(1294)

حدّثنا يزيد بن سِنَان، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا ابنُ جريج، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قُرِّب إلى أحدكم العشاء، فلا يَعْجَل عنه". انتهى.

وقال أيضًا (1/ 360):

(1295)

حدّثنا أبو حميد المصيصيّ، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني نافع، أن ابن عمر كان يُقَدَّم إليه الطعام، وقد نودي لصلاة المغرب، ثم تقام، وهو يَسْمَع، فلا يترك عَشاءه، ولا يعجل حتى يقضيَ عَشاءه، ثم يخرج فيصلِّي، وقد كان يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تعجلوا عن عشائكم إذا قُدِّم إليكم". انتهى.

وأما رواية أيوب، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5772)

حدّثنا عَفّان، حدّثنا وُهيبٌ، حدّثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وُضع العَشاء، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء"، قال: ولقد تعشى ابن عمر مرّة، وهو يسمع قراءة الإمام. انتهى.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1250]

(560) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، هُوَ

(1)

ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقِ، قَالَ: تَحَدثْتُ أَنَا وَالْقَاسِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدِيثًا، وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلًا لَحَّانَةً

(2)

، وَكَانَ لِأُمِّ وَلَدٍ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: مَا لَكَ لَا تَحَدَّثُ كَمَا يَتَحدَّثُ ابْنُ أَخِي هَذَا، أَمَا إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ

(1)

وفي نسخة: "وهو".

(2)

وفي نسخة: "لُحْنَةً".

ص: 429

أُتِيتَ؟ هَذَا أَدَّبَتْهُ أُمُّهُ، وَأَنْتَ أَدَّبَتْكَ أُمُّكَ، قَالَ: فَغَضِبَ الْقَاسِمُ، وَأَضَبَّ عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَى مَائِدَةَ عَائِشَةَ قَدْ أُتِيَ بِهَا قَامَ، قَالَتْ: أَيْنَ؟ قَالَ: أُصَلِّي، قَالَت: اجْلِسْ، قَالَ: إِنِّي أُصَلِّي، قَالَت: اجْلِسْ غُدَرُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ

(1)

، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاد) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِم، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

3 -

(يَعْقُوب بْنُ مُجَاهِدٍ) القُرشيّ أبو حَزْرَة -بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي- المدني القاصّ، مولى بني مخزوم، يقال كنيته أبو يوسف، وأبو حَزْرة لقبٌ، صدوقٌ [6].

رَوَى عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وابن عمه الحسن بن عثمان بن عبد الرحمن بن عوف، وعبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، وعبد اللَّه بن أبي عَتِيق بن محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن كعب القُرَظيّ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وغيرهم.

ورَوَى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهو أكبر منه، وحنظلة بن عمرو الرَّقِّيّ، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، ويحيى بن سعيد القطان، وصفوان بن عيسي، وغيرهم.

قال أبو زرعة: لا بأس به، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بالإسكندرية سنة خمسين ومائة، أو سنة تسع وأربعين ومائة، وكان يَقُصّ، وفي سنة تسع أرّخه ابن سعد، وقال: كان قليل الحديث، وقال العُقيليّ: ثنا محمد بن عيسي، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، عن ابن معين، قال: أبو حَزْرة صويلح الحديث، سمع القاسم بن محمد.

(1)

وفي نسخة: "بحضرة طعام".

ص: 430

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (560)، وحديث (3014):"من انظر معسرًا، أو وضع عنه أظلّه اللَّه. . . " الحديث الطويل الآتي في "كتاب الزهد والرقائق".

4 -

(ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق المعروف بابن أبي عَتِيق، أبو بكر المدنيّ، صدوق فيه مِزَاحٌ [3].

رَوَى عن عمة أبيه عائشة، وعن ابن عمر، وعامر بن سعد.

وروى عنه ابناه: عبد الرحمن، ومحمد، وخالد بن سعد، وعمرو بن دينار، ومحمد بن إسحاق، وأبو جَزْرة يعقوب بن مجاهد المدنيّ، وغيرهم.

قال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وقال مصعب الزبيريّ: كان امرءًا صالحًا، وكان فيه دُعابةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الزبير بن بكار: قد سمع من عائشة، ودخل عليها في مرضها الذي ماتت فيه، فقال: كيف أصبحتِ؛؟ جعلني اللَّه فداك، فقالت: أصبحت ذاهبةً، قال: فلا إذًا، قال الزبير: وأخبرني عبد اللَّه بن كثير بن جعفر أن عائشة رَكِبت بغلةً، وخرجت تُصلح بين غلمان لها ولابن عباس، فأدركها ابن أبي عتيق، فقال: يُعتَقُ ما تَمْلِك إن لم ترجعي، فقالت: ما حملك على هذا؟ قال: ما انقضى عنا يومُ الجمل حتى يأتينا يومُ البغلة.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه.

5 -

(عَائِشَةُ) رضي الله عنها تقدّمت قبل حديثين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فمكيّ، ثمّ بغداديّ.

3 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ) بفتح العين المهملة، وكسر المثنّاة التحتانيّة: هو

ص: 431

عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، أنه (قَالَ: تَحَدَّثْتُ أَنَا) أتى بالضمير المنفصل؛ ليمكن عطف الظاهر على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَالْقَاسِمُ) هو: ابن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ الثقة المثبت، أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار الطبقة الثالثة، مات سنة (106) على الصحيح، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 3/ 6950 (عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدِيثًا، وَكَانَ الْقَاسِمُ رَجُلًا لَحَّانَةً) بفتح اللام، وتشديد الحاء المهملة: أي كثير اللحن، قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "رَجُلَا لَحّانةً" كذا للسمرقنديّ، وهذا اللفظ استعملته العرب للمبالغة، قالوا: لَحّانةٌ لكثير اللحن، وعلّامةٌ لكثير العلم، ووقع للعذريّ، وابن أبي جعفر:"لُحْنَةً"، بضمّ اللام، وسكون الحاء، وهو بمعناه، أي يَلْحَن في كلامه، ويُلَحِّنه الناس، وباب فُعْلَةٍ -بضمّ الفاء، وسكون العين- للذي يَرَى الناس منه ذلك، كخُدْعَةٍ للذي يُخْدَعُ، وهُزْأَةٍ للذي يُهْزَأ به، وباب فُعَلَةٍ بفتح العين بضدّه، فهو الذي يَفْعَل ذلك بغيره، كما يقال: صُرَعَةٌ للذي يَصْرَعُ الناس، وهُزَأَةٌ للذي يَهْزَأُ بهم، وخُدَعَةٌ للذي يَخْدَعُهُم. انتهى

(1)

.

(وَكَانَ) أي القاسم (لِأُمِّ وَلَدٍ) قال ابن سعد في "الطبقات": أمه أم ولد يقال لها: سَوْدَةُ. انتهى

(2)

.

وجملة "وكان لأم ولد" بيان لسبب كثرة لحنه في كلامه، فكأنه قال: وإنما كان لحّانةً؛ لكون أمه أعجميّة لا تُحسن العربيّة، فتعلّم منها، كما بيّنته عائشة رضي الله عنهما في كلامها الآتي.

(فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (مَا لَكَ)"ما" استفهاميّة، أي أيُّ شيء ثبت لك؟

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 2/ 495، و"المفهم" 2/ 164 - 165.

(2)

"تهذيب التهذيب" 3/ 420.

ص: 432

(لَا) نافية (تَحَدَّثُ) بفتح التاء، أصله تتحدّث بتاءين حُذفت إحداهما تخفيفًا، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

(كَمَا يَتَحَدَّثُ ابْنُ أَخِي هَذَا) تعني ابنَ أبي عتيق، جعلته ابن أخيها مجازًا؛ لأنه ولد محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، فهو حفيد أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه مثل "ألا"(إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء (قَدْ عَلِمْتُ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ؟) أي من أيّ شيء أصابك اللحن وعدم الفصاحة مثله (هَذَا) أي ابن أبي عتيق (أَدَّبَتْهُ) بتشديد الدال؛ للمبالغة، قال الفيّوميّ رحمه الله: أَدَبْتُهُ أَدْبًا، من باب ضَرَبَ: علّمتُهُ رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاريّ: الأدَبُ يقع على كلّ رياضة محمودة، يَتَخَرَّج بها الإنسان في فَضِيلة من الفضائل، وقال الأزهريّ نحوه، فالأدب اسم لذلك، والجمع أَداب، مثلُ سَبَبٍ وأَسباب، وأدّبته تأديبًا مبالغةٌ وتكثيرٌ، ومنه قيل: أدّبته تأديبًا: إذا عاقبته على إساءته؛ لأنه سببٌ يدعو إلى حقيقة الأدب. انتهى

(1)

. (أُمُّهُ) هي رُمَيثةُ بنت الحارث بن حُذيفة بن مالك بن ربيعة، من بني فِرَاس بن غَنْم بن مالك بن كنانة

(2)

، والمعنى: أن كثرة لحنك إنما أتاك من قبل تعليم أمك لك؛ لأنَّها أعجميّة (وَأَنْتَ) تعني القاسم (أَدَّبَتْكَ أمّكَ) أي وهي فصيحة، فأتته الفصاحة منها.

وحاصل ما أشارت إليه عائشة رضي الله عنها في كلامها هذا أن القاسم لَمّا لم تكن أمه عربيّة فصيحةَ، وتربّى عندها لم يكن فصيحًا، بل كان لحّانةً، وأما ابن أبي عتيق فلَمّا كانت أمه عربيّة فصيحة؛ لأنَّها من بني فِرَاس بن غنم كما أسلفناه آنفًا، وربّته على فصاحتها كان فصيحًا، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) ابن أبي عَتيق (فَغَضِبَ) بكسر الضاد المعجمة (الْقَاسِمُ) بن محمد (وَأَضَبَّ عَلَيْهَا) بفتح الهمزة، والضاد المعجمة، وتشديد الباء الموحّدة: أي حَقَد، قال الفيّوميّ: الضبّ: الْحِقْدُ

(3)

، وقال في "القاموس": و"الضَّبّ":

(1)

"المصباح المنير" 1/ 9.

(2)

"تهذيب الكمال" 16/ 65.

(3)

"المصباح" 2/ 357.

ص: 433

الغيظ، والحِقْد، ويُكسر. انتهى

(1)

. فأفاد أن ضاده مفتوحة، ويجوز كسرها، فافهمه (فَلَمَّا رَأَى) أي القاسم (مَائِدَةَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، قال الفيّوميّ رحمه الله:"المائدة": مشتقّة من ماد يَمِيد: إذا أعطي، وهي فاعلةٌ بمعنى مفعولة؛ لأن المالك مادها للناس: أي أعطاهم إيّاها، وقيل: مشتقّةٌ من ماد يَمِيد: إذا تحرّك، فهي اسم فاعل على الباب. انتهى. (قَدْ أُتِيَ) بالبناء للمفعول، أي جيء (بِهَا) أي بالمائدة (قَامَ) أي لئلا يأكل طعامها؛ غضبًا عليها (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (أَيْنَ؟) أي إلى أي مكان تقوم من مكان المائدة؟ (قَالَ) القاسم (أُصَلِّي، قَالَت: اجْلِسْ، قَالَ: إِنِّي أُصَلِّي) كرّره؛ لاشتداد غضبه عليها (قَالَت: اجْلِسْ غُدَرُ) بضمّ الغين المعجمة، وفتح الدال المهملة، وهو بحذف حرف النداء، أي يا غادر، قال أهل اللغة: الغَدْر: ترك الوفاء، ويقال لمن غَدَر: غادرٌ، وغُدَرٌ، وأكثر ما بُسْتَعْمَل في النداء بالشتم، كما قال في "الْخُلاصة":

وَشَاعَ فِي سَبِّ الذُّكُورِ فُعَلُ

وَلَا تَقِسْ وَجُرَّ فِي الشِّعْرِ فُلُ

قال النوويّ رحمه الله: وإنما قالت له: غُدَرُ؛ لأنَّه مأمور باحترامها؛ لأنَّها أم المؤمنين، وعمته، وأكبر منه، وناصحةٌ له، ومؤدِّبةٌ، فكان حقُّهُ أن يَحْتَمِلَها، ولا يَغْضَبَ عليها. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "غُدَرُ" معناه: يا غادر، وعُدِل به عنه؛ لزيادة معنى التكثير، ونسبتُهُ للغدر؛ لما أظهر من أنه إنما ترك طعامها من أجل الصلاة، وما صدر من عائشة رضي الله عنها للقاسم إنما كان منها لإنهاض همّته، وليحرص على التعلّم، وعلى تثقيف لسانه. انتهى

(3)

.

ثم علّلت نهيها له عن الصلاة في ذلك المكان، بقولها:

(إِني) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا) نافية للجنس تعمل عمل "إنَّ"، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 95.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 47.

(3)

"المفهم" 2/ 165.

ص: 434

عَمَلَ "إِنَّ" اجْعَلْ لِـ "لَا" فِي النَّكِرَهْ

مُفْرَدَةً جَاءَتْكَ أَوْ مُكَرَّرَهْ

واسمها قوله: (صَلَاةَ) فهو مبنيّ؛ لتركّبه معها، وهذا مذهب البصريين، وعند الكوفيين منصوبٌ، سقط تنوينه للتخفيف، وقوله:(بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ) متعلّق بـ "لا"، وفي نسخة:"بحضرة طعام" بالتنكير.

وفي رواية أبي داود: "لا يُصَلَّى بحضرة الطعام"، وقال في "المنهل": أي لا صلاة بحضرة طعام تتعلّق به النفس إلَّا بعد الأكل، وأخذ النفس حاجتها من الطعام، والنفي هنا بمعنى النهي للتنزيه عند الجمهور، وللتحريم عند الظاهريّة، وابن حزم، وأبي ثور، وجماعة، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قُدِّمت، والطعام المتيسّر عن قريبٍ كالحاضر.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "والطعام المتيسّر كالحاضر" فيه نظر لا يخفى؛ إذ قوله: "إذا قُرّب"، وكذا "إذا قُدّم" والألفاظ الأخرى تردّه، فالصواب تقييده بما حضر؛ عملًا بظواهر الألفاظ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وهذا ما لم يَضِق الوقتُ بحيث يُخاف خروج وقت الصلاة، وإلا صلّى وجوبًا، ولا يؤخّرها؛ محافظةً على حرمة الوقت، هذا ما ذهب إليه الجمهور؛ لما جاء عن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تؤخّروا الصلاة لطعام ولا لغيره"، رواه البغويّ في "شرح السنّة".

قال ابن الملك: يُحمَلُ هذا الحديث على ما إذا كان متماسكًا في نفسه، لا يُزعجه الجوع، أو كان الوقت ضيّقًا، يُخاف فوته؛ توفيقًا بين الأحاديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث جابر رضي الله عنه المذكور أخرجه أيضًا أبو داود في "سننه"، وهو ضعيفٌ، فلا يُحتجّ به

(2)

، فتنبّه.

(وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ) أي ولا صلاةَ في حالة مدافعة الأخبثين، تثنية الأخبث، أي البول والغائط.

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ولا هو يُدافعه الأخبثان" قال الأشرف: هذا

(1)

"المنهل العذب المورود" 1/ 296.

(2)

راجع: "ضعيف الجامع الصغير" رقم (1071).

ص: 435

التركيب لا أُحقّقه، وأقول: يمكن أن يقال: إن "لا" الأولى لنفي الجنس، و"بحضرة الطعام" خبرها، و"لا" الثانية زائدة للتأكيد، وعُطِفت الجملةُ على الجملة، وقوله:"هو" مبتدأ، و"يُدافعه" خبره، وفيه حذف، تقديره: ولا صلاة حين هو يدافعه الأخبثان فيها، يعني أن الرجل يدفع الأخبثين حتى يؤدّي الصلاة، والأخبثان يدفعانه عن الصلاة، ويجوز أن تُحمَلَ المدافعة على الدفع مبالغةً، ويجوز أن يُحذف اسم "لا" الثانية وخبرها، وقوله:"هو يدافعه" حالٌ، أي ولا صلاةَ للمصلّي، وهو يُدافعه الأخبثان، ويؤيّده رواية:"لا يُصلّي الرجل، وهو يُدافع الأخبثين"

(1)

، ويجوز مثل هذا الحذف. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "المرعاة": والمدافعة إما على حقيقتها، يعني أن الرجل يدفع الأخبثين حتى يؤدّي الصلاة، والأخبثان يدفعانه عن الصلاة، وإما بمعنى الدفع مبالغةً، وهذا مع المدافعة، وأما إذا لم يجد في نفسه ثقل ذلك، وليس هناك مدافعة فلا نهي عن الصلاة معه، ومع المدافعة فهي مكروهة، قيل: تنزيهًا؛ لنقصان الخشوع، فلو خشي خروج الوقت إن قدّم التبرّز، وإخراج الأخبثين قدّم الصلاة، وهي صحيحة مكروهة، وُششحبّ إعادتها، ولا تجب عند الجمهور، كمال قال النوويّ، وعن الظاهريّة أنَّها باطلة. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الظاهريّة لا يخفى رُجحانه؛ لظواهر النصوص، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "المنهل": وما قيل: إن في هذا تقديم حقّ العبد على حقّ اللَّه تعالى مردود بأنه ليس كذلك، وإنما فيه صيانة حقّ اللَّه تعالى؛ ليدخل العبد في العبادة بقلب خاشع غير مشغول

(4)

.

(1)

أخرجه ابن حبّان في "صحيحه"(5/ 428) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يصل أحدكم، وهو يدافعه الأخبثان".

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1129.

(3)

"المرعاة" 3/ 493.

(4)

"المنهل العذب المورود" 1/ 296 - 297.

ص: 436

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا صلاة بحضرة الطعام إلخ" ظاهر هذا النصِّ نفي الصحّة والإجزاء، وإليه ذهب أهل الظاهر في الطعام، فتأوّل بعض أصحابنا حديث مدافعة الأخبثين على أنه شَغَلَهُ حتى لا يدري كيف صلّى؟ فهو الذي يُعيد قبلُ وبعدُ

(1)

، وأما إن شغَلَه شُغْلًا لا يمنعه من إقامة حدودها، وصلّى ضامًّا بين وركيه، فهذا يُعيد في الوقت، وهو ظاهر قول مالك في هذا، وذهب الشافعيّ والحنفيّ في مثل هذا إلى أنه لا إعادة عليه.

قال القاضي أبو الفضل: وكلّهم مجمعون على أن من بلغ به ما لا يَعقِل به صلاته، ولا يضبط حُدودها أنَّها لا تجزئه، ولا يَحلّ له الدخول كذلك في الصلاة، وأنه يقطع الصلاة إن أصابه ذلك فيها. انتهى

(2)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 1250 و 1251](560)، و (أبو داود) في "الطهارة"(89)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 43 و 54 و 73)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(933)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2073 و 2074)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 168)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 404 - 405)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1296)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1225 و 1226)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 71 و 72)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(801 و 802)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): النهي عن الصلاة بحضرة الطعام، قال الخطّابيّ رحمه الله: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالطعام؛ لتأخذ النفس حاجتها منه، فيدخل في صلاته،

(1)

أي قبل خروج الوقت، وبعد خروجه.

(2)

"المفهم" 2/ 165.

ص: 437

وهو ساكن الجأش، لا تنازعه نفسه شهوة الطعام، فيُعجله ذلك عن إتمام ركوعها وسجودها، وإيفاء حقوقها، وكذلك إذا دافعه البول والغائط، فإنه يضيع به نحوُ من هذا، وهذا إذا كان في الوقت متّسعٌ، فإن لم يكن بدأ بالصلاة. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أن هذا الحديث يدلّ على أن حمل الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وُضح عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعَشاء" على العموم أولى؛ لأن لفظ "صلاة" في هذا الحديث نكرة في سياق النفي، ولا شكّ أنها من صيغ العموم؛ ولأن لفظ الطعام مطلقٌ غير مقيّد بالعشاء، فالظاهر أن ذكر المغرب في حديث أنس رضي الله عنه الماضي من التنصيص على بعض أفراد العامّ، وليس بتخصيص، واللَّه تعالى أعلم

(2)

.

3 -

(ومنها): النهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين: البول والغائط، وكذا يُلحق ما في معناه مما يَشغَل القلب، ويُذهب كمال الخشوع في الصلاة، قال الإمام ابن حبّان رحمه الله: المرء مزجور عن الصلاة عند وجود البول والغائط، والعلّة المضمرة في هذا الزجرِ هي أن يستعجله أحدهما حتى لا يتهيّأ له أداء الصلاة على حسب ما يجب من أجله، والدليل على هذا تصريح الخطاب:"ولا هو يدافعه الأخبثان"، ولم يقل: ولا هو يَجِد الأخبثين، والجمع بين الأخبثين قصد به وجودهما معًا، وانفراد كلّ واحد منهما، لا اجتماعهما دون الانفراد. انتهى كلامه رحمه الله

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1251]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(4)

يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو حَزْرَةَ الْقَاصُّ، عَنْ

(1)

"المنهل العذب المورود" 1/ 296 - 297.

(2)

راجع: "المرعاة" 3/ 492.

(3)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 430 - 431.

(4)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 438

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةَ الْقَاسِمِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(ابْنُ حُجْرِ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 115.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"أبو حَزْرَة القاصّ" هو يعقوب بن مجاهد المذكور هناك، ويقال: أبو حَزْرة لقبه، وكنيته أبو يوسف.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث حاتم بن إسماعيل، يعني أن إسماعيل بن جعفر حدّث عن أبي حَزْرَة، يعقوب بن مجاهد بمثل ما حدثّ حاتم بن إسماعيل عنه.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ قِصَّةَ الْقَاسِمِ) ببناء "يَذْكُر" للفاعل، وفاعله ضمير إسماعيل بن جعفر.

[تنبيه]: رواية إسماعيل بن جعفر التي أحالها المصنّف على رواية حاتم بن إسماعيل ساقها الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(2/ 158 - 159) فقال:

(1226)

حدّثنا إبراهيم بن عبد اللَّه، ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا عليّ بن حجر (ع) وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن العباس، ثنا عبد الرحمن بن واقد، قالا: ثنا إسماعيل بن جعفر، ثنا أبو حَزْرَة القاصّ، عن عبد اللَّه بن أبي عتيق، عن عائشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يُصَلِّيَنّ أحدكم، وهو بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 439

(17) - (بَابُ نَهْي مَنْ أَكَلَ ثُومًا، أَوْ بَصَلًا، أَوْ كُرَّاثًا، أَوْ نَحْوَهَا، مِمَّا لَهُ رَائِحَة كَرِيهَةٌ أَنْ يَحْضُرَ الْمَسْجِدَ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1252]

(561) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي

(1)

نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غَزْوةِ خَيْبَرَ:"مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، يَعْنِي الثُّومَ فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ"

(2)

، قَالَ زُهَيْرٌ:"فِي غَزْوَةٍ"، وَلَمْ يَذْكُرْ خَيْبَرَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(يَحْيَى الْقَطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ القطان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوة، من كبار [9](ت 198) عن (78) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 385.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرَن بينهما، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه زُهير، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه ابن المثنّى أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "المسجد".

ص: 440

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عبيد اللَّه، عن نافع.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غَزْو خَيْبَرَ) هي البلدة المعروفة، في جهة الشام تبعد عن مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحو ثلاثة أيّام، وغزوتها كانت في المحرّم سنة سبع من الهجرة، والجارّ والمجرور متعلّق بـ "قال".

وقال في "الفتح": قوله: "قال في غزوة خيبر" قال الداوديّ: أي حين أراد الخروج، أو حين قَدِمَ، وتعقبه ابن التين بأن الصواب أنه قال ذلك، وهو في الغَزَاة نَفْسِها، قال: ولا ضرورة تمنع أن يُخبرهم بذلك في السفر. انتهى.

فكأن الذي حَمَل الداوديّ على ذلك قوله في الحديث: "فلا يقربنّ مسجدنا"؛ لأن الظاهر أن المراد به مسجد المدينة، فلهذا حَمَل الخبر على ابتداء التوجه إلى خيبر، أو الرجوع إلى المدينة، لكن حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم

(1)

دالّ على أن القول المذكور صدر منه صلى الله عليه وسلم عقب فتح خيبر، فعلى هذا فقوله:"مسجدنا" يريد به المكان الذي أُعِدّ ليصليَ فيه مُدّة إقامته هناك، أو المراد بالمسجد الجنس، والإضافة إلى المسلمين، أي فلا يقربنّ مسجد المسلمين، ويؤيِّده رواية أحمد عن يحيى القطان فيه بلفظ:"فلا يقربنّ المساجد"، ونحوه لمسلم -يعني هذا الحديث-.

وهذا يَدْفَع قولَ من خص النهي بمسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، وقد حكاه ابن بطال عن بعض أهل العلم، ووهّاه، وفي "مُصَنَّف عبد الرزاق"، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: هل النهي للمسجد الحرام خاصّة، أو في المساجد؟ قال: لا، بل في المساجد. انتهى.

("مَنْ) شرطيّة جوابها "فلا يأتينّ"(أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) قيل: فيه إطلاق الشجرة على الثوم، وهو مجازٌ؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم، وبهذا فَسَّر ابن عباس وغيره قوله تعالى:

(1)

يعني الحديث الآتي في هذا الباب بعد سبعة أحاديث بلفظ: "لَمْ نَعْدُ أن فُتحت خيبر، فوقعنا أصحابَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم. . . " الحديث.

ص: 441

{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} ، ومن أهل اللغة من قال: كُلُّ ما ثبتت له أرُومة

(1)

أي أصلٌ في الأرض يُخْلِف ما قُطِع منه فهو شجرٌ، وإلا فنجمٌ.

وقال الخطابيّ رحمه الله: في هذا الحديث إطلاق الشجر على الثُّوم، والعامة لا تعرف الشجر إلَّا ما كان له ساق. انتهى.

ومنهم من قال: بين الشجر والنجم عموم وخصوصٌ، فكلُّ نجم شجرٌ، من غير عكس، كالشجر والنخل، فكل نخل شجرٌ، من غير عكس، قاله في "الفتح".

وقال في "المصباح": الشَّجَرُ: ما له ساقٌ صُلْبٌ يقوم به، كالنخل وغيره، الواحدة شجرةٌ، ويُجمع على شجرات، وأشجار. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": الشَّجَر، والشِّجَرُ، والشَّجْراءُ، كجبَلٍ، وعِنَبٍ، وصَحْراء، والشِّيَرُ بالياء، كعِنَبٍ من النبات: ما قام على ساقٍ، أو ما سما بنفسه، دَقَّ أو جلَّ، قاوم الشتاء، أو عجز عنه، الواحدة بهاء. انتهى

(3)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وفي عامّة هذه الأحاديث تسمية الثُّوم شجرةً، قال الخطّابيّ: فيه أنه جعل الثُّوم من جملة الشجر، والعامّة إنما تُسمّي الشجر ما كان له ساقٌ يَحْمِل أغصانه دون غيره، وعند العرب أن كلَّ ما بقيت له أُرومة في الأرض تَخْلُف ما قُطع فهو شجرٌ، وما لا أُرومة له، فهو نجمٌ، فالقطن شجر يبقى في كثير من البلدان سنين، وكذلك الباذنجان، فأما اليقطين والريحان ونحوهما فليس بشجر، فلو حلف رجلٌ على شيء من الأشجار، فالاعتبار من جهة الاسم والحقيقة على ما ذَكرتُ، وفي العرف ما تعارفه الناس. انتهى.

وأما قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)} [الصافات: 146] فلا يَرِد على ما ذكره، فإنها شجرة مقيّدة بكونها من يقطين، وكلامه إنما هو في إطلاق اسم الشجر. انتهى

(4)

.

(1)

"الأَرومة" بفتح الهمزة، وتُضمّ: الأصل، أفاده في "القاموس".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 305.

(3)

"القاموس المحيط" 2/ 56.

(4)

"شرح البخاري" لابن رجب 8/ 9.

ص: 442

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "فلا يرد إلخ" فيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ الآية فيها إطلاق اسم الشجر على اليقطين، فكيف يستقيم قوله:"فأما اليقطين فليس بشجر"، فتأمّله، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (يَعْنِي الثُّومَ) قال الحافظ رحمه الله: لم أعرف القائل: "يعني"، ويَحْتَمِل أن يكون عبيد اللَّه بن عمر، فقد رواه السَّرّاج من رواية يزيد بن الهادي، عن نافع بدونها، ولفظه:"نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم يوم خيبر". انتهى.

وزاد في الرواية التالية من طريق ابن نُمَير، عن عبيد اللَّه:"حتى يَذْهَب ريحُها".

[فائدة]: قال في "القاموس المحيط": "الثُّوم" -بالضم- بُسْتَانيّ، وبَرّيّ، ويُعرَف بثوم الحيَّة، وهو أقوي، وكلاهما مُسَخّن، مُخرِجٌ للنفخ والدود، مُدِرٌّ جِدًّا، وهذا أفضل ما فيه، جَيِّدٌ للنسيان، والرَّبْوِ، والسُّعَال الْمُزْمِن، والطِّحَال، والخاصرة، والْقَوْلَنْج، وعِرْقِ النَّسَا، ووجِعِ الْوَرِك، والنِّقْرِسِ، ولَسْعِ الْهَوَامّ والحيّات والعقارب، والكَلْبِ الْكَلِب، والعطشِ البَلْغَميّ، وتقطيرِ البول، وتصفيةِ الحلق، باهِيٌّ، جَذّابٌ، ومَشْويّه لوجع الأسنان المتأكِّلة، حافظٌ صحَّةَ الْمَبْرُودِينَ والمشايخ، رديءٌ للبواسير، والزَّحِير، والخنازير، وأصحاب الدِّقِّ، والْحَبَالَي، والمرضعات، والصُّداع، إصلاحه سَلْقُه بماء ومِلْح، وتطجينه بدُهْن لَوْز، وإتباعه بِمَصّ رُمّانة مِزَّةٍ، والثُّومَةُ واحدته. انتهى

(1)

.

(فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ") فيه بيان أن النهي عامّ في المساجد كلّها، ففيه ردّ على من خصّه بالمسجدّ النبويّ، ووقع في بعض النسخ:"المسجد"، بالإفراد، وهو بمعناه؛ لأن "أل" فيه للاستغراق، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ) أي ابن حرب شيخه الثاني (فِي غَزْوَةٍ) مقول القول (وَلَمْ يَذْكُرْ خَيْبَرَ) هذا بيان لاختلاف ألفاظ الشيوخ، وهو من ورع المصنّف رحمه الله، واحتياطه، وتحرّيه في أداء الألفاظ، وإن لم يختلف به المعنى، وهذا هو الذي امتاز به على غيره، حتى قدّموه على البخاريّ في هذا، كما أشار إليه بعضهم بقوله [من الطويل]:

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 86.

ص: 443

تَنَازَعَ قَوْمٌ فِي الْبُخَارِي وَمُسْلِمٍ

لأَيِّهِمَا فِي الْفَضْلِ كَانَ التَّقَدُّمُ

فَقُلْتُ لَقَدْ فَاقَ الْبُخَارِيُّ صِحَّةً

كَمَا فَاقَ فِي حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ

وقد تقدّم هذا البحث مستوفًى في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1252 و 1253](561)، و (البخاريّ) في "الأذان"(853) و"المغازي"(4215)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3825)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1016)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 510 و 8/ 302)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 19)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2088)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1221)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1227)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 237)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 75)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن دخول المسجد لمن أكل الثوم، وكذا كلّ ما له رائحة كريهة، حتى يذهب ريحها.

قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربن المساجد" هذا تصريح بنهي مَن أَكَل الثوم ونحوه عن دخول كلّ مسجد، وهذا مذهب العلماء كافّة إلَّا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاصّ في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات مسلم:"فلا يقرَبَنَّ مسجدنا"، وحجة الجمهور:"فلا يَقرَبَنَّ المساجد". انتهى.

2 -

(ومنها): أنه وقع في حديث أنس رضي الله عنه الآتي بعد حديث بلفظ: "من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربنّا، ولا يُصلّي معنا".

قال في "الفتح": وليس في هذا تقييدُ النهي بالمسجد، فيُستَدَلّ بعمومه

ص: 444

على إلحاق المجامع بالمساجد، كمُصَلَّى العيد والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسكُ بهذا العموم أولى، ونظيره قوله:"وليقعد في بيته"، لكن قد عُلِّل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة، وترك أذى المسلمين، فإن كان كلٌّ منهما جزءَ علة اختَصَّ النهي بالمساجد، وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعمَّ النهيُ كلَّ مجمع كالأسواق، ويؤيِّد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد الآتي في الباب:"من أكل من هذه الشجرة شيئًا، فلا يقربنا في المسجد"، قال القاضي ابن العربيّ: ذكر الصفة في الحكم يدلّ على التعليل بها، ومِن ثَمَّ رُدَّ على المازريّ حيث قال: لو أن جماعة مسجد أكلوا كلهم ما له رائحة كريهة لم يمنعوا منه، بخلاف ما إذا أكل بعضهم؛ لأن المنع لم يَختَصّ بهم، بل بهم وبالملائكة، وعلى هذا يتناول المنعُ من تناول شيئًا من ذلك، ودخل المسجد مطلقًا، ولو كان وحده. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن بعضهم استدلّ بأحاديث الباب على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا الحديث صريح في التخلّف عن الجماعة في المساجد بسبب أكل هذه الأمور؛ لأن اللازم من منعه أحدُ أمرين: إما أن يكون أكلُ هذه الأمور مباحًا، فتكون صلاة الجماعة ليست فرض عين، أو حرامًا، فتكون صلاة الجماعة فرضًا، وجمهور الأمة على إباحة أكلها، فيلزم أن لا تكون الجماعة فرض عين.

وتقريرُه أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة، وترك الجماعة في حقّ آكلها جائزٌ، ولازم الجائز جائز، وذلك ينافي الوجوب.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تعقّب هذا التقرير العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله فيما علّقه على "الفتح"، فقال: ليس هذا التقرير بجيّد، والصواب أن أكل هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة لا ينافي كون الجماعة فرض عين،

(1)

"الفتح" 2/ 399.

ص: 445

كما أن حضور الطعام يُسوّغ ترك الجماعة لمن قُدِّم بين يديه مع كون ذلك مباحًا.

وخلاصة الكلام أن اللَّه عز وجل يسّر على عباده، وجعل مثل هذه المباحات عُذرًا في ترك الجماعة لمصلحة شرعيّة، فإذا أراد أحد أن يتخذها حيلةً لترك الجماعة حرُم عليه ذلك. انتهى كلامه رحمه الله، وهو تعقّب حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن ابن دقيق العيد رحمه الله قال: ونُقل عن أهل الظاهر، أو بعضهم تحريم أكل الثُّوم؛ بناءً على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان.

وتقرير هذا أن يقال: صلاة الجماعة واجبةٌ على الأعيان، ولا تتمّ إلَّا بترك أكل الثُّوم؛ لهذا الحديث، وما لا يتمّ الواجب إلَّا به، فهو واجبٌ، فترك أكل الثوم واجب، فيكون حرامًا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا النقل عن أهل الظاهر غير صحيح، فقد صرّح ابن حزم رحمه الله بخلافه، قال في "الفتح" بعد نقل كلام ابن دقيق العيد هذا ما نصّه: وكذا نقله غيره عن أهل الظاهر، لكن صَرّح ابن حزم منهم بأن أكلها حلالٌ، مع قوله بأن الجماعة فرض عين، وانفَصَل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مُخْتَصّ بمن عَلِمَ بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح، لكن يَحْرُم على من أنشأه بعد سماع النداء. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله ابن حزم: هو الصواب؛ لموافقته للنصوص الواردة في هذا الباب.

وحاصله أن صلاة الجماعة فرض، وأن أكل هذه الأشياء مباحٌ، وأنه يُسقط عمن أكلها فرض صلاة الجماعة حتى تزول رائحتها.

ومنه يتبيَّن أن قول الخطّابيّ رحمه الله: توهَّم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلّف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله؛ إذ حُرِم فضل الجماعة. انتهى. غير سديد، بل الصواب أنه عذرٌ في التخلُّف عنها؛ لظاهر النصّ؛ لأن من فعل ما أُبيح له لا يُعِاقب على فعله، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 446

5 -

(ومنها): أنه استَدَلَّ المهلَّب بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإني أناجي من لا تناجي" على أن الملائكة أفضل من الآدميين.

وتُعُقب بأنه لا يلزم من تفضيل بعض الأفراد على بعض تفضيل الجنس على الجنس، وهذه المسألة قد تقدّم البحث فيها مستوفًى، وباللَّه تعالى التوفيق.

6 -

(ومنها): أنه اختُلِف هل كان أكل الثوم ونحوه حرامًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟ والراجح الحلّ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس بمحرَّم"، فقد أخرج ابن خزيمة: عن أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرسل إليه بطعام من خُضْرة، فيه بصل، أو كُرّاث، فلم ير فيه أثر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكله، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما منعك أن تأكل؟ "، فقال: لم أر أثرك فيه يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أستحي من ملائكة اللَّه، وليس بِمُحَرَّم"

7 -

(ومنها): أن ابن التين عن مالك قال: الفُجْل إن كان يَظهَر ريحه فهو كالثوم، وقيَّده عياض بالْجُشَاء.

قال الحافظ: وفي الطبراني الصغير من حديث أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه التنصيص على ذكر الفُجْل في الحديث، لكن في إسناده يحيى بن راشد، وهو ضعيف.

قال: وألحق بعضهم بذلك مَن بفيه بَخَرٌ، أو به جُرْحٌ له رائحة، وزاد بعضهم، فالحق أصحاب الصنائع، كالسمّاك، والعاهات، كالمجذوم، ومَن يُؤدِّيَ الناس بلسانه.

وأشار ابن دقيق العيد: إلى أن ذلك كلَّهُ توسع غير مرضيّ. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد رحمه الله هو الحقّ، فلا ينبغي إلحاق هذه الأشياء بالمنصوص؛ لأنَّها كانت موجودة في ذلك الوقت، ومع ذلك لم يَرِد النصّ بنهي أصحابها عن دخول المسجد مع وجود الحاجة إلى بيان حكمها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": حُكم رَحْبة المسجد وما قَرُب منها حكمه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا وَجَد ريحها في المسجد أمر بإخراج مَن وُجدت منه إلى البقيع، كما سيأتي في حديث عمر رضي الله عنه. انتهى.

[تنبيه آخر]: وقع في حديث حذيفة رضي الله عنه عند ابن خزيمة: "من أكل من

ص: 447

هذه البقلة الخبيثة، فلا يقْرَبَنَّ مسجدنا ثلاثًا"، وبَوَّب عليه: "توقيتُ النهي عن إتيان الجماعة لآكل الثوم".

وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون قوله: "ثلاثًا" يتعلَّق بالقول، أي قال ذلك ثلاثًا، بل هذا هو الظاهر؛ لأن علة المنع وجودُ الرائحة، وهي لا تستمرّ هذه المدة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الحافظ رحمه الله حسنٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1253]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَ: (ع) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا

(1)

، حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا"، يَعْنِي الثُّومَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا، فالثلاثة الأولون تقدّموا في الباب الماضي، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير المذكور بعد التحويل، والثلاثة الباقون في السند الماضي.

وقوله: (مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ) بفتح الموحدة، وسكون القاف: واحد البَقْل، وهو: كلُّ نبات اخضرّت به الأرض، قاله ابن فارس، وأبقلت الأرض: أنبتت البَقْلَ، فهي مُبْقلةٌ على القياس، وجاء باقلةٌ على غير قياس، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

وقوله: (فَلَا يَقْرَبَنَّ) بفتح أوله، وثاللَّه، ويُضمّ أيضًا، قال الفيّوميّ: قَرِبتُ الأمرَ أقرَبه، من باب تَعِبَ، وفي لغة من باب قَتِلَ قِرْبَانًا بالكسر: فَعَلته، أو دانيته، من الأول قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ، ومن الثاني:"لا تقرَبِ الْحِمَى" رحمه الله، أي لا تدنُ منه، وقال أيضًا: قَرُب الشيءُ منَّا قُربًا، وقَرَابَةً،

(1)

وفي نسخة: "مسجدنا".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 58.

ص: 448

وقُربةً، وقُرْبَى: إذا دنا. انتهى بتصرّف

(1)

.

وقال في "القاموس": قَرُبَ منه، ككرُمَ، وقَرِبَهُ، كسَمِعَ قُرْبًا، وقُربانًا -بالضمّ- وقِرْبَانًا -بالكسر-: دنا، فهو قريبٌ للواحد والجمع. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: يُستفاد مما سبق عن "المصباح"، و"القاموس" أن قوله هنا:"فلا يقرُبنّ" يجوز فيه فتح رائه، وضمّها، وهو متعدّ، ولذا نصب قوله:"مساجدنا"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (مَسَاجِدَنَا) وفي نسخة: "مسجدنا" بالإفراد، وهو مفرد مضاف، فيعمّ.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: تعلّق بعضهم برواية: "مسجدنا" بالإفراد في أن النهي مخصوص بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وربّما يتأكّد ذلك بأنه مهبط الملك بالوحي، والصحيح المشهور خلاف ذلك، وأنه عامّ؛ لما جاء في الروايات الآخرى:"مساجدنا"، ويكون قوله"مسجدنا " للجنس، أو لضرب المثال، فإن هذا النهي مُعلَّل إما بتأذّي الآدميين، أو بتأذِّي الملائكة الحاضرين، وذلك يوجد في المساجد كلّها. انتهى

(2)

.

وقوله: (يَعْنِي الثُّومَ) لَمْ يُعرف قائل "يعني" كما تقدّم قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1254]

(562) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنِ الثُّومِ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّا، وَلَا يُصَلِّ

(3)

مَعَنَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل حديث.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 495.

(2)

راجع: "إحكام الإحكام" 2/ 514 بنسخة الحاشية.

(3)

وفي نسخة: "ولا يصلّي" بإثبات الياء.

ص: 449

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنَ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193) عن (83)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) البُنَانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(أَنَس) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (81) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه أيضًا، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وفيه أنس، وقد تقدّم الكلام فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ) لَمْ يقل: "عبد العزيز بن صُهيب" بدون لفظة "وهو" إشارةً إلى أن شيخه لم ينسبه إلى أبيه، فلما أراد أن ينسبه أتى بما يفصل بين ما زاده وبين ما سمعه من شيخه، وقد تقدّم هذا غير مرّة (قَالَ) أي عبد العزيز (سُئِلَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (عَنِ الثُّوم؟) بالضّمّ، أي عن حكم أكله (فَقَالَ) أنس رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّا) بشديد النون، أصله "فلا يقرب"، ثم أدخلت عليه نون التوكيد، فصار "يقربنَّ" ثم أدغم في نون "نا"، وهو ضمير المتكلم ومعه غيره، في محلّ نصب مفعول به لـ "يقرب".

(وَلَا يُصَلِّ مَعَنَا") قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه: "ولا يُصَلِّ" على النهي، ووقع في أكثر الأصول:"ولا يصلي" بإثبات الياء على الخبر الذي يراد به النهيُ، وكلاهما صحيحٌ.

وفيه نَهْيُ مَن أكل الثُّوم ونحوه عن حضور مَجْمَع المصلين، وإن كانوا في غير مسجد، ويؤخذ منه النهي عن سائر مجامع العبادات ونحوها. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النووي" 5/ 49.

ص: 450

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلا يقربنا، ولا يصلّي معنا" يدلّ على أن مُجتمَع الناس حيث كان لصلاة، أو غيرها، كمجالس العلم والولائم، وما أشبهها لا يقربها مَن أكل الثوم وما في معناه، مما له رائحة كريهة، تؤذي الناس، ولذلك جَمَعَ بين الثوم والبصل والكرّاث في حديث جابر رضي الله عنه. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1254](562)، و (البخاريّ) في "الأذان"(856) و"المغازي"(5451)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 393)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 186)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1297 و 1310)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1228)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(2/ 35)، و (الطحاويّ)(4/ 237 - 238)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 107)، وفوائده تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1255]

(563) - (وَحَدَّثَنِي

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، وَلَا يُؤْذِيَنَّا

(3)

بِرِيحِ الثُّومِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقة حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

"المفهم" 2/ 166.

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

(3)

وفي نسخة: "ولا يؤذنا".

ص: 451

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) أبو محمد الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الْحِميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنّف، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [10](ت 211) عن (85) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154) عن (58) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3](ت 95)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

وقوله: (وَلَا يُؤْذِيَنَّا) قال النوويّ رحمه الله: هو بتشديد نون "يُؤْذِيَنَّا"، وإنما نبهت عليه؛ لأني رأيت من خَفّفه، ثم استَشْكَل عليه إثبات الياء، مع أن إثبات الياء المخففة جائز على إرادة الخبر. انتهى

(1)

. وتمام شرح الحديث سبق قريبًا.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1255](563)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 17)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1738)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 264 و 266 و 429)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1225 و 1226)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1229)، و (الطحاويّ)(4/ 238)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1645)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 76)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2/ 386)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النووي" 5/ 49.

ص: 452

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1256]

(564) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ، وَالْكُرَّاثِ، فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا، فَقَالَ: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى

(1)

مِنْهُ الإِنْسُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب.

2 -

(كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ) الكلابيّ، أبو سهل الرّقّيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [7](ت 7 أو 208)(عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

3 -

(هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ) هو: هشام بن أبي عبد اللَّه، واسمه سَنْبَر كجَعْفَر، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) عن (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في الإيمان 4/ 119.

5 -

(جَابِر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وكثير، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أن جابرًا صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

(1)

وفي نسخة: "مما تأذّى".

ص: 453

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه هكذا رواية المصنّف بالعنعنة، وأبو الزبير مدلّسٌ، لكن وقع تصريحه بالسماع عن جابر رضي الله عنه عند أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (1/ 342) قال:

(1223)

حدّثنا يوسف بن مسلم، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا البصَلَ والكُرّاث، فلم ينتهوا، ولم يجدوا من أكلها بُدًّا، فوجد ريحها، فقال:"ألم يُنْهَوْا عن أكل هذه البَقْلَة الخبيثة، أو المنتنة؟ من أكلها فلا يَغْشَنَا في مساجدنا، فإن الملائكة تتأذي، مما يتأذى به الإنسان"، فقيل لجابر: والثُّوم؟ قال: لَمْ يكن عندنا يومئذ ثومٌ. انتهى.

وقال الحميديّ رحمه الله في "مسنده" رقم (1278) قال: حدّثنا سفيان

(1)

، قال: حدّثنا أبو الزبير، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه، سُئل عن الثوم؟ فقال:"ما كان بأرضنا يومئذ ثومٌ، إنما الذي نُهي عنه البصل، والكرّاث"، وبهذا ثبت تصريح أبي الزبير بالسماع، فزالت تُهمة التدليس عنه، فتنبّه.

(قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ) بفتحتين، واحده بصَلَة، كقصب وقَصَبة: نبتٌ معروف (وَالْكُرَّاثِ) بضمّ الكاف، كرُمّان، وبفتحها، ككَتَّانٍ، قاله في "القاموس"

(2)

، وفي "المصباح":"الْكُرَّاثُ: بقلة معروفة، والكُرّاثة أخصّ منه، وهي خبيثة الريح". انتهى

(3)

. (فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ) أي الاحتياج إلى أكل البصل والكرّاث، ففي رواية الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى زمنَ خيبر عن البصل والكُرّاث، فأكلهما قوم، ثم جاءوا إلى المسجد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألم أَنْهَ عن هاتين الشجرتين الْمُنْتِنَتَيْنِ؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، ولكن أجهدنا الجوع، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من أكلهما فلا يحضر مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".

(1)

هو: ابن عيينة.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 172.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 530.

ص: 454

(فَأَكَلْنَا مِنْهَا) هكذا النسخ بالإفراد، وفي روابة أحمد المذكورة:"فأكلهما قوم"، ولما هنا أيضًا وجه، وهو أن يؤوّل بالمذكورة، أو بجنس البَقْلَة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ) اسم فاعل من أنتن الرباعيّ، قال في "القاموس":"النَّتْنُ": ضِدُّ الْفَوْح، نَتُنَ، كَكَرُمَ، وضَرَبَ نَتَانَةً، وأَنْتَنَ، فهو مُنْتِنٌ، ومِنْتِنٌ بكسرتين، وبضمّتين، وكقِنْدِيل. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": نَتُنَ الشيءُ بالضمّ نُتُونَةً، ونَتَانَةً، فهو نَتِيْنٌ، مثلُ قريبٍ، ونَتَنَ نَتْنًا، من باب ضَرَبَ، ونَتِنَ يَنْتَنُ، فهو نَتِنٌ، من باب تَعِبَ، وأنتنَ إنتانًا، فهو مُنْتِنٌ، وقد تُكْسر الميم للإتباع، فيقال: مِنْتِنٌ، وضمُّ التاء إتباعًا للميم قليلٌ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر من عبارة "القاموس"، و"المصباح" أن "الْمُنْتِنة" هنا يجوز ضم ميمها، وهو الأشهر، وكسرها؛ إتباعًا لكسر التاء بعدها، وضمّ التاء إتباعًا لضمّ الميم قبلها، وهو قليلٌ، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَا) ناهية، أو نافية، فعلى الأول يكون قوله:(يَقْرَبَنَّ) في محلّ جزم؛ لكونه مبنيًّا؛ لأجل نون التوكيد، وعلى الثاني، فهو في محلّ رفع خبر بمعنى النهي المؤكّد، وقد تقدّم أنه من بابي تعب، ونصر، وهو متعدّ، ولذا نصب قوله:(مَسْجِدَنَا) تقدّم أن المراد جنس المسجد، فلا يختصّ بالمسجد النبويّ، كما زعمه بعضهم، ويؤيّد ذلك ما تقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"فلا يأتينّ المساجد"، وفي رواية:"فلا يقربنّ مساجدنا"، ثم علّل النهي بقوله:(فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ) الفاء للتعليل؛ أي لأن الملائكة (تَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى

(3)

مِنْهُ الْإِنْسُ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه بتشديد الذال فيهما، وهو ظاهر، ووقع في أكثر الأصول: "تَأَذَى مِمَّا يَأْذَى منه الإنس" بتخفيف الذال فيهما، وهي لغةٌ، يقال: أَذِيَ يَأَذَى، مثلُ عَمِيَ يَعْمَي، ومعناه: تَأَذَّى. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه النوويّ رحمه الله بإيضاح أنه رُوي بوجهين:

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 273.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 592.

(3)

وفي نسخة: "مما تأذّى".

(4)

"شرح النوويّ" 5/ 49.

ص: 455

[أحدهما]: "تَأَذَّى مما يَتَأذّى منه الإنس"، بتشديد الذال فيهما، من التأذِّي، وأصل "تَأَذَّى" تتأذَّى بتاءين، فحُذفت إحداهما تخفيفًا، كما في {تَصَدَّى} ، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} ، و {نَارًا تَلَظَّى} ، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ

[والثاني]: "تَأْذَى مما يَأْذَى منه الإنس"، مضارع أَذِيَ، من باب تَعِبَ، وهو بمعنى الأول، قال في "المصباح": أَذِيَ الشيءُ أَذًى، من باب تَعِبَ: بمعنى قَذِرَ، قال اللَّه تعالى:{قُلْ هُوَ أَذًى} : أي مستقذرٌ، وأَذِيَ الرجلُ أَذًى: وَصَلَ إليه المكروه، فهو أَذٍ، مثلُ عَمٍ، ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: آذيته إيذاءً، والأذيّةُ اسمٌ منه، فتأَذَّى هو. انتهى

(1)

.

والمعنى المناسب هنا وصول المكروه إلى الملائكة، واللَّه تعالى أعلم.

قال العلماء: وفي هذا الحديث دليلٌ على منع آكل الثوم ونحوه، من دخول المسجد، وإن كان خاليًا؛ لأنه محلّ الملائكة، ولعموم الأحاديث، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1256](564)، (وابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(3365)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1278)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 374 و 387 و 397)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1668)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2226)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 245)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1223 و 1646 و 2086 و 2087 و 2090)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1230)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 10.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 49.

ص: 456

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1257]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ

(2)

، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ، وَفِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ: زَعَمَ

(3)

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا، أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ"، وَإِنَّهُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خُضَرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ:"قَرِّبُوهَا" إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ:"كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ) بن يحيى بن حَرْملة بن عمران التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ المذكور قبل حديث.

6 -

(عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

7 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بذكر في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرَنَ بينهما؛ لاتّحاد صيغة أدائهما، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "وحرملة بن يحيى".

(3)

وفي نسخة: "وزعم" بالواو.

ص: 457

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ويونس أيليّ، نزل مصر، والثاني بالمدنيين، سوى عطاء، فمكيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن عطاء، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) بفتح الراء، وتخفيف الموحدة، واسمه أسلِم، كما مرّ آنفًا (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما (قَالَ) وقوله:(وَفِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ: زعَمَ) أشار به إلى الاختلاف الواقع بين شيخيه: أبي الطاهر، وحرملة، فقال أبو الطاهر في روايته:"أن جابر بن عبد اللَّه قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من أكل. . . إلخ"، وقال حرملة:"أن جابر بن عبد اللَّه زعم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال. . . إلخ"، وفي رواية البخاريّ:"عن ابن شهاب، زعم عطاء، أن جابر بن عبد اللَّه زعم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال. . . " الحديث.

قال الخطابيّ رحمه الله: لم يقل: زَعَمَ على وجه التُّهْمَة، لكنه لَمّا كان أمرًا مُختلَفًا فيه، أَتَى بلفظ الزعم؛ لأن هذا اللفظ لا يكاد يُستَعمَل إلَّا في أمر يُرتاب به، أو يُختَلف فيه.

قال الحافظ رحمه الله: وقد يُستَعمَل في القول المحقَّق أيضًا، وكلام الخطابيّ لا ينفي ذلك. انتهى

(1)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا، أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا) شكٌّ من الراوي، وهو الزهريّ، ولم تَختَلف الرواة عنه في ذلك، قاله في "الفتح"(وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ") هكذا رواية المصنّف بالواو، وكذا عند البخاريّ إلَّا في رواية أبي ذرّ، فإنه بلفظ:"أو ليقعد في بيته" بـ "أو" التي للشك أيضًا،

(1)

"الفتح" 2/ 397.

ص: 458

وهذا أخصّ من الاعتزال؛ لأنه أعمّ من أن يكون في البيت أو غيره.

وقوله: (وَإِنَّهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بكسر "إنّ" معطوف على "إِنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال. . . إلخ"، فهو مقول قال، أو بفتح الهمزة عطفًا "أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال. . . إلخ" مفعول به لـ "زَعَمَ".

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي بقدر. . . إلخ" فقال في "الفتح": هذا حديث آخر، وهو معطوف على الإسناد المذكور، والتقدير: وحدّثنا سعيد بن عُفير -يعني شيخ البخاريّ هنا- بإسناده "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِي"، قال: وهذا الحديث الثاني كان مُتَقَدِّمًا على الحديث الأول بستّ سنين؛ لأن الأول تقدَّم في حديث ابن عمر وغيره أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وكانت في سنة سبع، وهذا وقع في السنة الأولى عند قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونزوله في بيت أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه، كما سأبيّنه. انتهى

(1)

.

(أُتِيَ) بالبناء للمفعول (بِقِدْرٍ) بكسر القاف، وهو: ما يُطْبَخ فيه، ويجوز فيه التأنيث والتذكير، والتأنيث أشهر، لكن الضمير في قوله:"فيه خَضِرَات" يعود على الطعام الذي في القِدْر، فالتقدير: أُتِي بقدر من طعام، فيه خَضِراتٌ، ولهذا لما أعاد الضمير على القدر أعاده بالتأنيث، حيث قال:"فأُخبِر بما فيها"، وحيث قال:"قرِّبوها"، قاله في "الفتح"

(2)

.

وتعقّبه العينيّ، فقال: هذا تصرّف فيه تعسّفٌ، فلا تُحتاج إلى تطويل الكلام، ولَمّا جاز في "القدر"التذكير والتأنيث أعاد الضمير إليه تارةً بالتذكير، وتارةً بالتأنيث؛ نظرًا إلى جواز الوجهين. انتهى

(3)

. وهو تعقّبٌ وجيهٌ، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "بقدر" قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في نسخ "صحيح مسلم" كلِّها: "بقدر"، ووقع في "صحيح البخاريّ"، و"سنن أبي داود" وغيرهما من الكتب المعتمدة:"أُتي ببدر" بباءين موحّدتين، قال العلماء: هذا هو الصواب، وفسّر الرواةُ، وأهلُ اللغة والغريب البدر بالطبق، قالوا: سُمّي بدرًا؛

(1)

"الفتح" 2/ 398.

(2)

"الفتح" 2/ 398.

(3)

"عمدة القاري" 6/ 212.

ص: 459

لاستدارته كاستدارة البدر، وهو القمر عند كماله. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقعت هذه اللفظة "ببدر" بالباء الموحدة، وهو الطَّبَقُ، سُمّي بذلك لاستدارته، وقد وقع لبعض الرواة "بقدر" بالقاف، واستُدلّ به على كراهة ما له ريحٌ من البقول، وإن طُبخ، وهذا ليس بصحيح، قالوا: وهو تصحيف، وصوابه:"ببدر"، وقد ورد في كتاب أبي داود:"أُتِي ببدر"، ولو سُلِّم أنه "بقدر"، فيكون معناه أنَّها لم تَمُتْ بالطبخ تلك الرائحة منها، فبقي المعنى المكروه، فكأنها نيئة. انتهى

(2)

.

وقال البخاريّ رحمه الله بعد روايته عن سعيد بن عُفير بلفظ: "أُتي بقدر" بالقاف ما نصّه: وقال أحمد بن صالح، عن ابن وهب:"أُتِيَ بِبَدْر".

قال في "الفتح": مراده أن أحمد بن صالح خالف سعيد بن عُفير في هذه اللفظة فقط، وشاركه في سائر الحديث، عن ابن وهب بإسناده المذكور.

وقد أخرجه البخاريّ في "الاعتصام"، قال: حدّثنا أحمد بن صالح، فذكره بلفظ:"أُتِي ببَدْر"، وفيه قول ابن وهب:"يعني طَبَقًا فيه خضرات".

وكذا أخرجه أبو داود، عن أحمد بن صالح، لكن أَخَّرَ تفسير ابن وهب، فذكره بعد فراغ الحديث.

وأخرجه مسلم عن أبي الطاهر وحرملة كلاهما عن ابن وهب، فقال:"بِقِدر" بالقاف.

ورَجَّح جماعة من الشُّرّاح رواية أحمد بن صالح؛ لكون ابن وهب فَسَّر البَدْر بالطَّبَق، فدَلَّ على أنه حدَّث به كذلك.

وزَعَم بعضهم أن لفظة "بقدر" تصحيفٌ؛ لأنَّها تُشْعِر بالطبخ، وقد ورد الإذن بأكل البقول مطبوخة بخلاف الطَّبَق، فظاهره أن البقول كانت فيه نِيئةً.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن رواية القدر أصحّ؛ لِمَا يأتي من حديث أبي أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما جميعًا، فإن فيه التصريح بالطعام، ولا تعارُض بين امتناعه صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم وغيره مطبوخًا وبين إذنه لهم في أكل ذلك مطبوخًا، فقد عَلَّل ذلك بقوله:"إني لست كأحد منكم"، وترجم ابن خزيمة على حديث

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 50.

(2)

"المفهم" 2/ 167.

ص: 460

أبي أيوب: "ذكرُ ما خَصَّ اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم به من ترك أكل الثوم ونحوه مطبوخًا".

وقد جَمَع القرطبيّ في "المفهم" بين الروايتين بأن الذي في القِدْر لم يَنضِج حتى تَضْمَحِلّ رائحته، فبقي في حكم النيء. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي رجّحه الحافظ رحمه الله من كون رواية "بقِدر" أصحّ هو الظاهر؛ لما ذكره، ولأن فيه السلامة من دعوى التصحيف على الرواة الثقات، ولأن معناه صحيح على التأويل الذي قاله القرطبيّ رحمه الله، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(فِيهِ) أي في ذلك القدر (خُضَرَاتٌ) قال في "الفتح": ضُبِط في رواية أبي ذرّ بضم الخاء، وفتح الضاد المعجمتين، وهو جمع خُضْرَة، ولغيره بفتح أوله، وكسر ثانيه، ويجوز مع ضم أوله ضمُّ الضاد، وتسكينها أيضًا. انتهى.

وقال في "العمدة": قال ابن التين: رَوَيناه بفتح الخاء، وكسر الضاد، وقال ابن قرقول: ضبطه الأصيليّ بضمّ الخاء، وفتح الضاد، والمعروف الأول. انتهى

(2)

.

(مِنْ بُقُولٍ): "من" بيانيّة، ويجوز كونها للتبعيض، قاله في "العمدة"(فَوَجَدَ) النبيُّ صلى الله عليه وسلم (لَهَا) أي لتلك الخضرات (رِيحًا) المراد الريح الكريه (فَسَأَلَ) أي عما فيها (فَأُخْبِرَ) بالبناء للمفعول (بِمَا فِيهَا) أي بما في تلك القدر، وقد تقدّم أنه يؤنّث، وقد يُذكّر (مِنَ الْبُقُولِ) بالضمّ جمع بَقَل، كفلس وفُلُوس، وقد تقدّم أنه كلّ نبت اخضرّت به الأرض (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَرِّبُوهَا") أمرٌ من التقريب، والضمير المنصوب يجوز أن يرجع إلى الخضرات، ويجوز أن يرجع إلى القدر، ويجوز أن يرجع إلى البقول، أفاده في "العمدة"

(3)

. (إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ) صلى الله عليه وسلم، قال الكرمانيّ رحمه الله: فيه النقل بالمعنى؛ إذ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقله بهذا اللفظ، بل قال: قَرِّبوها إلى فلان مثلًا، أو فيه حذفٌ، أي قال: قَرِّبوها مشيرًا، أو أشار إلى بعض أصحابه. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والمراد بالبعض أبو أيوب الأنصاريّ، ففي "صحيح

(1)

"الفتح" 2/ 398 - 399.

(2)

"عمدة القاري" 6/ 212.

(3)

"عمدة القاري" 6/ 212.

ص: 461

مسلم" من حديث أبي أيوب في قصة نزول النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه قال: فكان يصنع للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا، فإذا جيء به إليه -أي بعد أن يأكل النبيّ صلى الله عليه وسلم منه- سأل عن موضع أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصنع ذلك مرّةً، فقيل له: لم يأكل، وكان الطعام فيه ثُومٌ، فقال: أحرام هو يا رسول اللَّه؟ قال: "لا، ولكن أكرهه". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الحافظ رحمه الله من أن ذلك البعض هو أبو أيوب رضي الله عنه هو الظاهر؛ لما ذكره، وقد تعقّبه العينيّ في ذلك، فإن أراد الاعتراض على جزمه بأنه أبو أيوب، فله وجه، وإلا فلا، فتأمّل ما كتبه بالإنصاف

(2)

، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَلَمَّا رَآهُ) أي رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل (كَرِهَ أَكْلَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه كارهًا أكل ما في تلك القدر؛ لكونه صلى الله عليه وسلم ترك أكلها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل ("كُلْ) ثم علّل تركه لها، وأمْرَه بأكلها بقوله:(فَإِنِّي) الفاء فيه للتعليل، أي لأني (أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي") أي أُسارُّ من لا تُسارُّ، وهم الملائكة، قال في "القاموس": وناجاه مناجاةً، ونِجاءً: سارّه، وانتجاه: خصّه بمناجاته، وناجى القومُ: تسارُّوا، كتَنَاجَوْا، قال: ونَجَاه نَجْوًا، ونَجْوَى: سارّه، ونَكَهَهُ، والنَّجْوَى: السِّرُّ، والْمُسَارُّون، اسمٌ، ومصدرٌ. انتهى بتصرّف

(3)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يُشعر بأن هذا الحكم خاصّ به صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو المخصوص بمناجاة الملك، ولكن قد عُلِّلَ هذا الحكم في أول الحديث بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم، حيث قال:"فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم"، وقولِهِ:"ولا تؤذينا بريح الثُّوم". انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "كُلْ، فإني أناجي من لا تناجي" أي الملائكة، وفي حديث أبي أيوب زمنه عند ابن خزيمة، وابن حبان من وجه آخر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أرسل إليه بطعام من خُضْرة، فيه بَصَلٌ، أو كُرّاثٌ، فلم يَرَ فيه أثر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكل، فقال له:"ما منعك؟ "، قال: لَمْ أَرَ أَثَرَ

(1)

"الفتح" 2/ 398.

(2)

"عمدة القاري" 6/ 212 - 213.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 393.

(4)

"المفهم" 2/ 167 - 168.

ص: 462

يدك، قال:"أستحي من ملائكة اللَّه، وليس بمحرَّم"، ولهما من حديث أم أيوب رضي الله عنهما قالت: نزل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتكلَّفنا له طعامًا فيه بعض البقول. . . فذكر الحديث نحوه، وقال فيه:"كلوا، فإني لست كأحد منكم، إني أخاف أُوذي صاحبي"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1257 و 1258 و 1259](564)، و (البخاريّ) في "الأذان"(855) و"الأطعمة"(5452) و"كتاب الاعتصام"(7359)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3822)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1806)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 43)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1736)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 510 و 8/ 303)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 400)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 237)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1664 و 1665)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1644)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(2/ 128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1227 و 1228)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1231 و 1232 و 1234)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 76 و 7/ 50)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(496).

وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1258]

(. . .) - (وحَدَّثَنِي

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 463

"مَنْ أَكَلَ مِنْ هَنِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ -وَقَالَ مَرَّةً-: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّومَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضل ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم أول الباب.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا في السند الماضي.

وقوله: (الثُّومِ) بالجرّ بدل من "الْبَقْلة".

وقوله: (وَقَالَ مَرَّةً إلخ) فاعل "قال" ضمير ابن جُريج، كما بيّنته رواية أبي نعيم في "مستخرجه"، من طريق رَوْح بن عُبادة، عن ابن جُريج، ولفظه:"قال ابن جريج: وقال عطاء في وقت آخر: الثوم والبصل والكراث".

وقوله: (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ) قال القاضي عياض رحمه الله: قال أبو القاسم بن أبي صفرة: فيه دليلٌ على تفضيل الملائكة على بني آدم، قال: ولا دليل في ذلك، ولا سيّما مع قوله:"فإن الملائكة تتأذى بما يتاذّى به الإنس"، فقد سوّاهم. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1259]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: (ع) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَا جَمِيعًا: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: "مَنْ أَكَلَ

(2)

مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يُرِيدُ الثُّومَ-

(1)

"اكمال المعلم" 2/ 499.

(2)

وفي نسخة: "قال: من أكل".

ص: 464

فَلَا يَغْشَنَا

(1)

فِي مَسْجِدِنَا"، وَلَمْ يَذْكُرِ الْبَصَلَ، وَالْكُرَّاثَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الْحَنظليّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْر) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (قَالَا جَمِيعًا) الضمير لمحمد بن بكر، وعبد الرزّاق.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني إسناد ابن جريج الماضي، وهو: عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه.

وقوله: (يُرِيدُ الثُّومَ) قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أعرف الذي فسره، وأظنه ابن جريج، فإن في الرواية التي تلي هذه -يعني عند البخاريّ- عن الزهريّ، عن عطاء الجزم بذكر الثوم، على أنه قد اختُلِف في سياقه عن ابن جريج، فقد رواه مسلم من رواية يحيى القطان، عن ابن جريج بلفظ:"من أكل من هذه البقلةِ الثُّومِ" -يعني الرواية التي قبل هذه- وقال مرةً: "من أكل البَصَلَ، والثومَ، والكُرّاث"، ورواه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق رَوْح بن عُبادة، عن ابن جريج مثله، وعَيَّن الذي قال:"وقال مرةً"، ولفظه: قال ابن جريج: وقال عطاء في وقت آخر: "الثوم والبصل والكراث"، ورواه أبو الزبير عن جابر بلفظ:"نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث"، قال: ولم يكن ببلدنا يومئذ الثوم، هكذا أخرجه ابن خزيمة، من رواية يزيد بن إبراهيم، وعبد الرزاق، عن ابن عيينة كلاهما، عن أبي الزبير.

قال الحافظ: وهذا لا ينافي التفسير المتقدم؛ إذ لا يلزم من كونه لم يكن بأرضهم أن لا يُجْلَب إليهم، حتى لو امتَنَع هذا الحمل لكانت رواية المثبِتِ مقدمة على رواية النافي. انتهى

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "فلا يغشانا في المسجد".

(2)

"الفتح" 2/ 397.

ص: 465

وقوله: (فَلَا يَغْشَنَا فِي مَسْجِدِنَا) وفي نسخة: "فلا يغشانا في المسجد"، قال في "الفتح": قوله: "فلا يغشانا" كذا فيه بصيغة النفي التي يراد بها النهي، قال الكرمانيّ: أو على لغة من يُجرِي المعتلَّ مُجرَى الصحيح، أو أشبع الراوي الفتحة، فظُنّ أنَّها ألف، والمراد بالغشيان: الإتيان، أي فلا يأتينا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه في توجيه إثبات ألف "يغشانا"؛ إذ الأصل أن تُحذف للجازم، إما أن نقول: إن "لا" هنا للنفي، لا للنهي، فليست جازمة، ويكون المراد بالنفي النهيَ المؤكّد، وإما أن نقول: هي ناهية، والفعل مجزوم، وإنما ثبتت الألف على لغة من يُجري المعتلّ مُجرى الصحيح، فيحذف الحركة المقدّرة، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

وَتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ

كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أَسِيرًا يَمَانِيَا

وقوله:

إِذَا الْعَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ

وَلَا تَرَضَّاهَا وَلَا تَمَلَّقِ

وذكر السيوطيّ رحمه الله في "همع الهوامع" أنه لغة، وخرّج عليها قراءة قُنبل:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} بإثبات ياء {يَتَّقِى} ، وجزم {وَيَصْبِرْ} .

ويَحْتَمِل أن تكون الألف تولّدت من إشباع الفتحة، والوجه الثاني هو الأولى؛ لأن تخريج القراءة المذكورة على اللغة أولى، فتبصّر.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تخريجه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1260]

(565) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

(1)

، قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ، فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ، الثُّومِ، وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرِّيحَ، فَقَالَ: "مَنْ أَكَلَ

(1)

وفي نسخة: "عن أبي سعيد الخدريّ".

ص: 466

مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا، فَلَا يَقْرَبَنَّا

(1)

فِي الْمَسْجِدِ"، فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكَرَهُ رِيحَهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم في الباب.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) -بضم الجيم مصغّرًا- هو: سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة، اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَبْديّ الْعَوَفيّ البصريّ، ثقةٌ، مشهور بكُنيته [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وأبو نضرة علّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فبغداديّ، ثم رقّيّ، والصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن الْجُريريّ قد اختلط ثلاث سنين، كما أسلفته آنفًا، إلَّا أن الراوي عنه ابن عُليّة، وهو ممن أخذ عنه قبل اختلاطه، وإلى ذلك أشرت في "عمدة المحتاط" حيث قلتُ:

كَذَا الْجُرَيْرِيُّ سَعِيدٌ اخْتَلَطْ

ثَلَاثَةً سِنِينَ حِفْظُهُ هَبَطْ

(1)

وفي نسخة: "فلا يَقْرَبَنَا" مخففًا.

ص: 467

وَعَنْهُ شُعْبَةُ وُهَيْبٌ نَقَلَا

قَبْلُ وَإِسْمَاعِيلُ سُفْيَانُ تَلَا

وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ وَارِثٍ كَذَا

حَمَّادُ حَمّادٌ وَبِشْرٌ قَدْ حَذَا

وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الأَعْلَى

وَالثَّقَفِيْ وَابْنُ زُريعٍ أَعْلَى

(1)

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الجريريّ، عن أبي نضرة.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، زاد في نسخة:"الْخُدريّ"، أَنه (قَالَ: لَمْ نَعْدُ) بفتح النون، وسكون العين المهملة، مضارع عدا، يقال: عدوتُ الشيء أعدوه، من باب "قال": إذا تجاوزته إلى غيره، وعدّيته وتعدّيته بالتشديد فيهما كذلك

(2)

، وقوله:(أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ)"أن" مصدريّة، والفعل مبنيّ للمفعول، والمصدر المؤوّل مفعول به لـ "نَعْدُ"، أي لم نتجاوز فتح خيبر، ولم يطل زمن فتحها حتى وقعنا في أكل الثوم، وفي نسخة:"لَمْ يَعْدُ" بالياء، وعليها يكون المصدر المؤوّل فاعلًا، أي لم يتجاوز فتحُ خيبر، وقوعنا، ويَحْتَمِل أن يكون الفاعل ضمير الوقوع المفهوم من السياق، والمصدر مفعولًا، أي لم يتجاوز وقوعنا في الأكل فتح خيبر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب أصحاب على الاختصاص، أي أخصّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" حيث قال:

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا". . كَـ "أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"

وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيٍّ" تِلْوَ "أَل"

كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ"

(1)

وقولي "وإسماعيل": هو ابن عليّة، و"سفيان": هو الثوريّ، و"حماد" الأول: هو ابن سلمة، والثاني: ابن زيد، و"بشر": هو ابن المفضّل، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد، و"ابن زُريع": هو يزيد. راجع الشرح "عدة أولي الاعتباط"(ص 32 - 34).

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 397.

ص: 468

(فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ) هي كلّ نبات اخضرّت به الأرض، كما تقدّم، وقوله:(الثُّومِ) بضمّ المثلّثة بدل من "الْبَقْلة"(وَالنَّاسُ جِيَاعٌ) جملة حاليّة من الفاعل، وفيه بيان سبب وقوعهم في أكلها مع خُبث رائحتها (فَأَكَلْنَا مِنْهَا) أي من تلك البقلة (أَكَلًا شَدِيدًا) المراد كثرة أكلهم منها (ثُمَّ رُحْنَا) بضمّ الراء، يقال: راح يروح، كقال يقول رَوَاحًا: إذا سار في وقت الرَّوَاح، وهو الْعَشيّ، أو من الزوال إلى الليل، أفاده في "القاموس"

(1)

. (إِلَى الْمَسْجِدِ) الظاهر أنه المسجد النبويّ (فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرِّيحَ) أي ريح البقلة التي أكلوها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ) أي المستكرَهَة، والْمُنْتِنَ ريحُهَا، قال النوويّ رحمه الله: سمّاها خبيثةً؛ لقبح رائحتها، قال أهل اللغة: الخبيث في كلام العرب المكروه، من قول، أو فعل، أو مال، أو طعام، أو شراب، أو شخص. انتهى

(2)

.

وقوله: (شَيْئًا) نكّره ليعمّ القليل والكثير (فَلَا يَقْرَبَنَّا) بتشديد النون كما تقدّم، وهي نون التوكيد مدغمة في نون "نا" الضمير، ووقع في بعض النسخ بتخفيفها، وعليها يكون الفعل غير مؤكّد بالنون (فِي الْمَسْجِدِ") تقدّم أن "أل" هنا للجنس، فيشمل المسجد النبويّ وغيره، ويؤيّده رواية:"في مساجدنا" بالجمع.

قال القاضي عياض رحمه الله: وفي اختصاصه النهي عن دخول المساجد إباحة دخول الأسواق وغيره بها، وذلك لأنه ليس فيها حرمة المساجد، ولا هي محلّ الملائكة، ولأنه إن آذى به أحدًا في سوقه تنحّى عنه إلى غيره، وجالس سواه، ولا يُمكنه ذلك في المسجد؛ لانتظاره الصلاة، وإن خرج فاتته الصلاة. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ النَّاسُ) أي الصحابة الذين سمعوا منه صلى الله عليه وسلم كلام الكلام (حُرِّمَتْ حُرِّمَتْ) بالبناء للمفعول، وكُرّر للتوكيد، والضمير للبقلة، والمعنى أنهم لَمّا سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى من أكل منها أن يقرب المسجد، ظنّوا أنه يريد تحريمها، ولا سيّما وقد سمّاها الشجرة الخبيثة، وقد قال اللَّه تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الآية [الأعراف: 157].

(1)

راجع: "القاموس المحيط" 1/ 225.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 50.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 499.

ص: 469

وقال القرطبيّ رحمه الله: لَمَّا سَمِع الصحابة رضي الله عنهم هذا الذّمّ ظنّوا أنَّها قد حُرِّمت، فصرَّحوا به، وكأنهم فَهِموا هذا من إطلاق الخبيثة عليها من أنهم قد سَمِعوا من قول اللَّه تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الآية [الأعراف: 157]، فبيَّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن إطلاق الخبيث لا يلزم منه التحريم؛ إذ قد يُراد به ما لا يوافق عادةً واستعمالا، وعند هذا لا يصحّ للشافعيّ الاحتجاج بقوله تعالى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} على تحريم ما يُستَخبَثُ عادةً، كالحشَرَات وغيرهما؛ إذ الخبائث منقسمة إلى مستخبث عادةً، وإلى مستخبث شرعًا، ومراده تعالى في الآية المستخبثات الشرعيّة؛ إذ قد أباح البصل والثوم مع أنَّها مستخبثة، وحرّم الخمر والخنزير، وإن كان قد يُستطاب، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: من هنا يتبيّن أن من يستدلّ على تحريم شرب الدخان (السجارة) بهذه الآية غير مصيب؛ لأن الخبث لا يدلّ على التحريم؛ إذ ليس كلّ خبيث حرامًا، كما بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن خُبْث هذه الشجرة لا يجعلها حرامًا، وإنما يصحّ الاستدلال على النهي عن شرب الدخان من جهة الطبّ؛ إذ هو مناف للصحّة، كما أثبت ذلك الأطبّاء، ففيه إلقاء النفس إلى التهلكة، وقد قال اللَّه تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وأيضًا هو متلف للمال بدون ضرورة.

والحاصل أن كلّ حرام خبيثٌ وليس كلُ خبيث حرامًا، فتنبّه، لهذه الدقائق، فإنها مزلّة أقدام، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي قولهم: "حُرّمت حُرّمت"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي) يعني أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يُحَرِّم شيئًا مما أحلّ اللَّه تعالى له دون أن يأتيه الأمر من اللَّه عز وجل بتحريمه، فإن التحريم والتحليل للَّه عز وجل، وإنما النبيّ صلى الله عليه وسلم مبلّغ عنه (وَلَكِنَّهَا) أي البقلة التي أكلوها (شَجَرَةٌ أَكْرَهُ) بفتح الراء، يقال: كَرِهت الأمرَ أَكْرَهه، من باب تَعِبَ كُرْهًا بضمّ الكاف، أكرهه: ضدّ أحببته، فهو مكروه

(2)

. (رِيحَهَا) يعني أن سبب

(1)

"المفهم" 2/ 168.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 531 - 532.

ص: 470

نهيي مَن أكلها عن قرب المسجد ليس لكونها حرامًا، وإنما هو لكراهتي ريحها، حيث يتأذَّى بها الناس، والملائكة.

قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن الثُّوم ليس بحرام، وهو إجماعُ مَن يُعْتَدُّ به كما سبق، وقد اختَلَفَ أصحابنا في الثوم، هل كان حرامًا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أم كان يتركه تَنَزُّهًا؟، وظاهر هذا الحديث أنه ليس بمحرَّم عليه صلى الله عليه وسلم، ومن قال بالتحريم يقول: المراد ليس لي أن أُحَرّم على أمتي ما أَحَلَّ اللَّه لها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عدم تحريمه على النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الأرجح، كما دلّ عليه ظاهر هذا الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"ليس بي تحريم ما أحلّ اللَّه لي"، فقد بيّن أنه حلال له، فكيف يُقبل تأويلهم بما أحلّ اللَّه لأمته؟ هذا غير صحيح، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1260](565)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3823)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 12)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1667 و 1669)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2085)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 77)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1229 و 1230)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1234)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1261]

(566) - (حَدَّثَنَا

(1)

هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى،

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 471

قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ

(1)

، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى زَرَّاعَةِ بَصَلٍ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَنَزَلَ نَاسٌ مِنْهُمْ، فَأَكَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ آخَرُونَ، فَرُحْنَا إِلَيْهِ، فَدَعَا الَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا الْبَصَلَ، وَأَخَّرَ الْآخَرِينَ حَتَّى ذَهَبَ رِيحُهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ، يُعرَف بابن التستريّ، صدوقٌ، تُكلِّم فيه بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

2 -

(بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ) هو: بكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، نُسب لجدّه المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

3 -

(ابْنُ خَبَّابٍ) هو: عبد اللَّه بن خَبّاب الأنصاريّ النّجّاريّ مولاهم، المدنيّ، ثقةٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 96/ 519.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"أبو سعيد" في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد صيغة أدائهما، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ، والثاني ما أخرج له أبو داود، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى بكير، وهو مدنيّ، ثم مصريّ، والباقيان مدنيان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ خَبَّابٍ) زاد في نسخة: "وهو عبد اللَّه بن خبّاب" (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

(1)

وفي نسخة: "عن ابن خبّاب، وهو عبد اللَّه بن خبّاب".

ص: 472

الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى زَرَّاعَةِ بَصَلٍ) بفتح الزاي، وتشديد الراء: هي الأرض المزروعة، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "اللسان": الْمَزْرَعَةُ، والْمَزْرُعَةُ، والزَّرَّاعَةُ، والْمُزْدَرَعُ: موضع الزَّرْعِ، وقال الشاعر [من البسيط]:

وَاطْلُبْ لَنَا مِنْهُمُ نَخْلًا وَمُزْدَرَعًا

كَمَا لِجِيرَانِنَا نَخْلٌ وَمُزْدَرَعُ

وهو مُفْتَعَلٌ من الزرع، وقال جرير [من الطويل]:

لَقَلَّ غَنَاءٌ عَنْكَ فِي حَرْبِ جَعْفَرٍ

تُغَنّيكَ زَرَّاعَاتَهَا وَقُصُورُهَا

أي قصيدتك التي تقول فيها: زرّاعاتها وقُصُورها. انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على أرض مزروعة بصلًا.

(هُوَ) أتي بالضمير المنفصل، ليمكنه عطف الاسم الظاهر، وهو قوله:"وأصحابُهُ" على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضَعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَأَصْحَابُهُ) رضي الله عنهم مرفوع عطفًا على فاعل "مَرَّ".

[تنبيه]: كان مرور النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تلك الزرّاعة في غزوة خيبر، كما بيّنته رواية أبي عوانة، وأبي نعيم في "مستخرجيهما"، ولفظ أبي عوانة: عن أبي سعيد الخدريّ، قال: غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيبر، فمررنا بِمَبْقَلَة فيها بصلٌ، فأكل منه طائفة منّا، وطائفة وَقَفُوا ولم يأكلوا، وطائفة لَمْ يَرَوَا المبقلة، وكنا نَرُوح إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيَمْسَح رؤوسنا، ويَدْعُو لنا، فرُحْنا إليه، فلما اقتربنا إليه، وجد ريح البصل، فقال:"من أكل الشجرة فلا يقربنا"، أو نحو هذا، وقال بعضهم: حتى يذهب ريحها، وقال أصبغ: فدعا الذين لم يأكلوا، وأخَّر الآخرين حتى ذهب ريحها. انتهى

(3)

.

(فَنَزَلَ نَاسٌ مِنْهُمْ) أي من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأَكَلُوا مِنْهُ) أي من ذلك البصل الذي في تلك الزّرّاعة، والظاهر أن صاحب الزرّاعة أذن لهم، أو أكلوا

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 51.

(2)

"لسان العرب" 8/ 141.

(3)

"مسند أبي عوانة" 1/ 344.

ص: 473

بناءً على جوازه للمحتاج، فقد أخرج الإمام أحمد، وأصحاب السنن، واللفظ لأحمد، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، عبد اللَّه بن عمرو: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الرجل يدخل الحائط؟، قال:"يأكلُ غير مُتَّخِذٍ خُبْنَةً"

(1)

وهو حديثٌ حسنٌ.

ورواه أيضًا الترمذيّ، وابن ماجه من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظ الترمذيّ:"من دخل حائطًا فليأكل، ولا يَتَّخِذ خُبْنةً"، ولفظ ابن ماجه:"إذا مَرّ أحدكم بحائط فليأكل، ولا يتخذ خُبْنةً"، وصحّحه الشيخ الألبانيّ رحمه الله

(2)

.

(وَلَمْ يَأْكُلْ آخَرُونَ) لعلهم سمعوا كراهة النبيّ صلى الله عليه وسلم له، أو لعدم حاجتهم إليه (فَرُحْنَا) بضمّ الراء، كما سبق قريبًا، أي ذهبنا (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَدَعَا الَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا الْبَصَلَ) أي طلبهم أن يتقربوا من مجلسه صلى الله عليه وسلم؛ لعدم ارتكابهم ما يستوجب البعد عنه، فيَمْسَحُ رؤوسهم، ويَدْعُو لهم، كما سبق في رواية أبي عوانة (وَأَخَّرَ الْآخَرِينَ) أي أبعدهم عن مجلسه؛ لارتكابهم أكل ما له رائحة كريهة (حَتَّى ذَهَبَ رِيحُهَا) أي ريح تلك الزرّاعة، والمراد ريح ما زُرع فيها من البصل ونحوه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1261](566)، و (أبو عوانة) في "مسنده"

(1)

"الخُبْنة بضمّ الخاء، وسكون النون: مَعْطِف الإزار، وطرفُ الثوب، أي لا يتّخذ منه في ثوبه، يقال: أخبن الرجل: إذا خَبَأَ شيئًا في خُبْنَة ثوبه، أو سراويله، قاله في "النهاية" 2/ 9.

(2)

رواه الترمذيّ برقم (1208)، وابن ماجه (2301)، وصححه الشيخ الألبانيّ. راجع:"صحيح الترمذيّ" 3/ 583، ولعل تصحيحه لشواهده، وإلا ففي سنده يحيى بن سُليم متكلّم فيه، ولا سيّما في روايته عن عبيد اللَّه بن عمر، وهذا منه، فليُتأمل.

ص: 474

(1230)

، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1235)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4509)، وفوائد الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1262]

(567) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَذَكَرَ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ، قَالَ

(2)

: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي، وَإِنَّ أقوَامًا يَأْمُرُونَنِي

(3)

أَنْ أَسْتَخْلِفَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ، وَلَا خِلَافَتَهُ، وَلَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ، فَالْخِلَافَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَأُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ الضُّلَّالُ، ثُمَّ إِنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلَالَةِ، مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ، مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، فَقَالَ

(4)

: "يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ"، وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا

(5)

مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي

(6)

إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ، وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ، لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ،

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "وقال".

(3)

وفي نسخة: "يأمروني".

(4)

وفي نسخة: "وقال".

(5)

وفي نسخة: "قضى بها".

(6)

وفي نسخة: "فإني".

ص: 475

هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ، لَقَدْ

(1)

رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم أول الباب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان تقدّم أيضًا أول الباب.

3 -

(هِشَام) بن أبي عبد اللَّه الدستوائيّ، تقدّم في الباب أيضًا.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) واسمه رافع الْغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ، يُرسل كثيرًا [3](ت 7 أو 98) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.

6 -

(مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ) ويقال: ابن طلحة، الْيَعْمَريّ الشاميّ، ثقةٌ [2](م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.

7 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفيل بن عبد العُزّى بن رِيَاح بن عبد اللَّه بن قُرط بن رَزَاح بن محمديّ بن كعب القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين، استُشهِد في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى معدان، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى سالم، وهو كوفيّ، ومعدان شاميّ، وعمر رضي الله عنه مدنيّ.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

(1)

وفي نسخة: "هذا البصل، وهذا الثوم، ولقد".

ص: 476

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: قتادة، عن سالم، عن معدان.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد السابقين إلى الإسلام، وكان الشيطان يفرّ منه، وكان من المحدَّثين، جمّ المناقب رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) سيأتي أن الدارقطنيّ انتقد على مسلم ذكر معدان بين سالم، وعمر رضي الله عنه؛ لمخالفة قتادة للحفّاظ فيه، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رحمه الله (خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) وفي رواية أبي عوانة الآتية:"خطبنا عمر بن الخطّاب"، فصرّح معدان بأنه حضر تلك الخطبة.

[تنبيه]: كانت خطبة عمر رضي الله عنه هذه بعد رجوعه من الحجة الأخيرة التي حجها بالناس، وقد ذكر البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" سبب هذه الخطبة مطوّلًا، ودونك نصّه:

(6830)

حدّثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه، حدّثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، قال: كنت أُقرئ رجالًا من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمني، وهو عند عمر بن الخطاب، في آخر حَجّةٍ حجَّها، إذ رجع إليّ عبد الرحمن، فقال: لو رأيت رجلًا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان، يقول: لو قد مات عمر، لقد بايعت فلانًا، فواللَّه ما كانت بيعة أبي بكر إلَّا فَلْتَةً فتمَّت؟ فغَضِب عمر، ثم قال: إني إن شاء اللَّه لقائمٌ العشيةَ في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يَغصِبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين: لا تفعل، فإن الموسم يَجمَع رَعَاع الناس وغَوْغَاءهم

(1)

، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم

(1)

"الرَّعَاع" بالفتح الرذلاء، وقيل: الشباب منهم، و"الْغَوغاء": السفلة المسرعون إلى =

ص: 477

في الناس، وأنا أخشى أن تقوم، فتقول مقالةً يُطِيرها عنك كلّ مُطِير، وأن لا يَعُوها، وأن لا يَضَعوها على مواضعها، فأَمْهِل حتى تَقْدَم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتَخْلُص بأهل الفقه، وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيَعِي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما واللَّه إن شاء اللَّه لأقومنّ بذلك أولَ مَقَامٍ أقومه بالمدينة، قال ابن عباس: فقدِمنا المدينةَ في عقب ذي الحجة، فلما كان يومُ الجمعة عَجَّلت الرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل جالسًا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تَمَسُّ ركبتي ركبته، فلم أَنْشَب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلًا، قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل: ليقولنّ العشيةَ مقالةً لَمْ يقُلها منذ استُخْلِف، فأنكر عليّ، وقال: ما عسيت أن يقول ما لَمْ يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعدُ فإني قائل لكم مقالةً قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عَقَلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خَشِي أن لا يَعقِلها فلا أُحِلُّ لأحد أن يكذب عليّ، إن اللَّه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللَّه آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها، رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللَّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللَّه، فيَضِلُّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، والرجم في كتاب اللَّه حقّ على من زني، إذا أُحْصِن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبَلُ، أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللَّه: أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كُفْر بكم أن ترغبوا عن أَبائكم، أو إن كفرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم، إلا ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُطروني كما أُطرِي عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد اللَّه ورسوله"، ثم إنه بلغني أن قائلًا منكم يقول: واللَّه لو قد مات عمر، بايعت فلانًا، فلا يَغْتَرَّنَّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فَلْتَة وتمَّت، إلا وإنها قد كانت كذلك، ولكن اللَّه وَقَى شَرَّها، وليس منكم من تُقطَع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من

= الشرّ، وأصله صغار الجراد حين يبدأ في الطيران.

ص: 478

بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو، ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أن يُقتَلا

(1)

، وإنه قد كان مِن خبرنا حين توفى اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سَقِيفة بني ساعدة، وخالف عنّا عليّ والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نُريدهم، فلما دنونا منهم لَقِيَنا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تَقْرَبوهم، اقضوا أمركم، فقلت: واللَّه لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مُزَّمَّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عُبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يُوعَك، فلما جلسنا قليلًا تشهّد خطيبهم، فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار اللَّه، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهطٌ، وقد دَفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يَحضُنُونا من الأمر

(2)

فلما سكت، أردت أن أتكلم، وكنت قد زَوَّرت مقالة أعجبتني، أريد أن أُقَدِّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أُداري منه بعض الحدّ، فلما أردت أن أتكلَّم، قال أبو بكر: على رسلك، فكَرِهت أن أُغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني، وأوقر، واللَّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلَّا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها، حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يُعْرَف هذا الأمر إلَّا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رَضِيتُ لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان واللَّه أن أُقَدَّم فتضرب عنقي، لا يقربني ذلك من إثم أحبّ إليّ من أن أتأَمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلَّا أن تُسَوِّل إليّ نفسي عند الموت شيئًا لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار: أنا جُذَيلها الْمُحَكَّك

(3)

، وعُذَيقها

(1)

أي حذرًا من القتل.

(2)

أي يُخرجونا منه.

(3)

هو تصغير جِذل، وهو العود الذي يُنصب للإبل الْجَرْبَى لتحتكّ به، وهو تصغير =

ص: 479

الْمُرَجَّب

(1)

، منا أمير، ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثُرَ اللَّغَط، وارتفعت الأصوات، حتى فَرِقْتُ من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار، ونَزَونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل اللَّه سعد بن عبادة، قال عمر: وإنا واللَّه ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم، ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نَرْضَي، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلًا على غير مَشُورَةٍ من المسلمين، فلا يُتَابَعُ هو، ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أن يُقتَلا. انتهى.

(فَذَكَرَ) عمر رضي الله عنه (نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قد سبق في حديث البخاريّ قوله: "إن اللَّه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب. . . "، وقوله: إلا ثم إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُطروني كما أُطرِي عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد اللَّه ورسوله. . . "(وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ) رضي الله عنه، أي ذكره بالخير وأثنى عليه.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه، وفي نسخة:"وقال"(إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها محكيّة بالقول، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

أَوْ حُكِيَتْ بِالْقَوْلِ أَوْ حَلَّتْ مَحَلْ

حَالٍ كَـ "زُرْتُهُ وَإِنِّي ذُو أَمَلْ"

(رَأَيْتُ) أي في المنام (كَأَنَّ دِيكًا) بكسر الدال: ذكرُ الدَّجَاج، والجمع: دُيُولٌ، ودِيَكَةٌ، وزانُ عِنَبَةٍ، قاله في "المصباح"

(2)

.

= تعظيم، أي أنا ممن يُستشفى برأيه، كما تَستشفِي الإبل الجَربَى بالاحتكاك بهذا العود. انتهى. "النهاية" 1/ 251.

(1)

قال في "النهاية": الرُّجْبة: هو أن تُعْمَد النخلة المكريمة ببناء، من حجارة، أو خشب، إذا خيف عليها؛ لطولها وكثرة حَمْلها أن تقع، ورَجَّبْتُها فهي مُرَجَّبةٌ، والْعُذيق تصغير الْعَذْق بالفتح، وهي النخلة، وهو تصغير تعظيم، وقد يكون ترجيبها بأن يُجعَل حولها شوك؛ لئلا يُرقَى إليها، ومن الترجيب أن تُعْمَد بخشبة ذات شعبتين. انتهى. "النهاية في غريب الأثر" 2/ 197.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 205.

ص: 480

وقال في "القاموس": الدِّيكُ با لكسر معروفٌ، جمعه: دُيُوكٌ، وأَدْيَاكٌ، ودِيَكَةٌ، كَقِرَدَةٍ، وقد يُطلَق على الدَّجَاجة، كقوله [من الرجز]:

وَزَقَّتِ الدِّيكُ بِصَوتٍ زَقَّا

(1)

وقال في "اللسان": الدِّيك: ذكر الدَّجَاج معروفٌ، وقوله [من الرجز]:

وَزَقَّتِ الدِّيكُ بِصَوتٍ زَقَّا

إنما أنّثه على إرادة الدجاجة؛ لأن الديك دَجَاجة أيضًا، والجمع القليل أَدْيَاك، والكثير دُيُوك، ودِيَكَةٌ. انتهى

(2)

.

(نَقَرَنِي) يقال: نقر الطائر الحبّ نَقْرًا، من باب نصر: التقطه، والْمِنْقَار له كالفم للإنسان، ونَقَرَ السهمُ الْهَدَفَ نَقْرًا: أصابه، قاله في "المصباح"

(3)

. (ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ) بفتحات جمع نَقْرَة، بفتح فسكون، ولا يجوز تسكين العين في الجمع؛ لكونه وسطه حرفًا صحيحًا، إلا في الضرورة الشعريّة، كقوله [من الطويل]:

وَحُمِّلْتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأَطَقْتُهَا

وَمَا لِي بِزَفْرَاتِ الْعَشِيِّ يَدَانِ

وقد أشار إلى هذا في "الخلاصة" حيث قال:

وَالسَّالِمَ الْعَيْنِ الثُّلَاثِي اسْمًا أَنِلْ

إِتْبَاعَ عَيْنٍ فَاءَهُ بِمَا شُكِلْ

إِنْ سَاكِنَ الْعَيْنِ مُؤَنَّثًا بَدَا

مُخْتَتَمًا بِالتَّاءِ أَوْ مُجَرَّدَا

وَسَكِّنِ التَّالِيَ غَيْرَ الْفَتْحِ أَوْ

خَفِّفْهُ بِالْفَتْحِ فَكُلًّا قَدْ رَوَوْا

وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن أبي نعيم:"كأن دِيكًا نقرني نقرةً أو نقرتين"، وفي رواية شعبة، عن قتادة عند ابن أبى عوانة:"كأن ديكًا أحمر نقرني نقرة أو نقرتين".

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الديك الذي أُريه عُمر رضي الله عنه مثال لِلْعِلْج الذي قتله، وهو أبو لُؤْلُؤَة، غلام المغيرة بن شُعبة، وكان مجوسيًّا، وكان نَجّارًا حدّادًا نقّاشًا، وكان من شأنه ما ذكره البخاريّ وغيره، وهو أنه وثب على عمر رضي الله عنه، وهو في صلاة الصبح، بعد أن دخل عمر فيها، فطعنه ثلاث طَعَنات، فصاح عمر": قتلني، أو أكلني الكلب ظانًّا منه أنه كلبٌ عضَّه، فتناول

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 303.

(2)

"لسان العرب" 10/ 430.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 621.

ص: 481

عمر عبد الرحمن بن عوف، فكمّل الصلاة بالناس، ثم إن العِلْج وَثَبَ، وفي يده سكِّين ذات طرفين، لا يمرّ على أحد يمينًا ولا شِمالًا إلَّا طعنه، حتى طَعَن ثلاث عشر رجلًا، مات منهم تسعة، وقيل: سبعة، فطَرَح عليه رجلٌ خميصةً كانت عليه، فلما رأى الْعِلْج أنه مأخوذٌ نَحَرَ نفسه، وحزَّ عبد الرحمن بن عوف

(1)

رأسه، وهو الذي كان طرح عليه الخميصة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قصّة قتل عمر رضي الله عنه ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بطولها، وهو من أفراده، وإليك نصّه:

(3700)

حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبو عوانة، عن حُصين

(3)

، عن عمرو بن ميمون، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وَقَف على حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حُنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حَمَّلتما الأرض ما لا تطيق؟

(4)

قالا: حملناها أمرًا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، قال: قالا: لا، فقال عمر: لئن سَلّمني اللَّه لأدَعَنّ أرامل أهل العراق لا يَحتَجن إلى رجل بعدي أبدًا، قال: في أتت عليه إلَّا رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلَّا عبد اللَّه بن عباس غَداةَ أصيب، وكان إذا مَرّ بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لَمْ يَرَ فيهن خللًا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، في هو إلَّا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار الْعِلج بسكين ذات طرفين، لا يَمُرّ على أحد يمينًا ولا شمالا إلَّا طعنه، حتى طَعَن ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من

(1)

هكذا في "المفهم"، والظاهر أنه غلط، وإنما هو عبد اللَّه بن عبد الرحمن الزهري، كما ذكره في "الفتح" 7/ 78 - 79.

(2)

"المفهم" 2/ 169.

(3)

هو: ابن عبد الرحمن.

(4)

المراد أرض السواد من العراق، وكان عمر رضي الله عنه بعثهما يضربان عليها الخراج، وعلى أهلها الجزية.

ص: 482

المسلمين

(1)

، طرَحَ عليه بُرْنُسًا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نَحَر نفسه، وتناول عُمر يد عبد الرحمن بن عوف، فقدّمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أري، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون، غير أنهم قد فَقَدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان اللَّه سبحان اللَّه، فصلّى بهم عبد الرحمن صلاةً خفيفةً، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعةً، ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَعُ؟ قال: نعم، قال: قاتله اللَّه، لقد أمرتُ به معروفًا، الحمد للَّه الذي لَمْ يجعل مِيتتي بيد رجل يَدَّعِي الإسلام، قد كنتَ أنت وأبوك تحبان أن تَكْثُر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئت فعلت، أي إن شئت قتلنا، قال: كذبتَ، بعدَما تكلموا بلسانكم، وصَلَّوا قبلتكم، وحجُّوا حجكم، فاحتُمِل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تُصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه، فخرج من جرحه، فعَلِموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس، فجعلوا يُثنون عليه، وجاء رجل شابّ، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى اللَّه لك، من صحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَقَدَمٍ في الإسلام ما قد علمتَ، ثم وُلِّيتَ فعدلتَ، ثم شهادةٌ، قال: ودِدتُ أن ذلك كفافٌ، لا عليّ، ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يَمَسّ الأرض، قال: رُدُّوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد اللَّه بن عمر انظر ما عليّ من الدين، فحَسَبُوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفًا، أو نحوه، قال: إن وَفَى له مال آل عمر فأدِّه من أموالهم، وإلا فسَلْ في بني عديّ بن كعب، فإن لم تَفِ أموالهم، فسل في قريش، ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، فأدِّ عَنِّي هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يَقْرأ عليكِ عمر السلامَ، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدْفَن مع صاحبيه، فسَلَّم، واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدةً تبكي، فقال: يَقرَأ عليكِ عمر بن الخطاب السلامَ،

(1)

صحّح في "الفتح" أنه حطّان التميميّ اليربوعيّ، وأما ما جاء أنه غيره، فهو بسند ضعيف منقطع، فتنبّه.

ص: 483

ويستأذن أن يُدفَن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرِنّ به اليومَ على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد اللَّه بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تُحِبّ يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد للَّه، ما كان من شيء أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضَيتُ، فاحمِلُوني، ثم سَلِّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي، فأدخلوني، وإن رَدَّتني رُدُّوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فوَلَجَت عليه، فبكت عنده ساعةً، واستأذن الرجال، فولَجَت داخلًا لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أَوْصِ يا أمير المؤمنين، استَخْلِف، قال: ما أجد أحدًا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر، أو الرهط الذين تُوُفِّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، فسَمَّى عليًّا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا، وعبد الرحمن، وقال: يَشْهَدكم عبدُ اللَّه بن عمر، وليس له من الأمر شيءٌ، كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعدًا، فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيُّكم ما أُمِّر، فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقَّهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أن يُقْبَل من محسنهم، وأن يُعْفَى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا، فإنهم رِدْءُ الإسلام، وجُبَاةُ المال، وغيظ العدوّ، وأن لا يؤخذ منهم إلَّا فَضْلُهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنهم أصل العرب، ومادّة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويُرَدَّ على فقرائهم، وأوصيه بذمة اللَّه، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوَفَّى لهم بعهدهم، وأن يُقاتَل من ورائهم، ولا يُكَلَّفوا إلَّا طاقتهم، فلما قُبِض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسَلَّم عبد اللَّه بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأُدخل، فوُضِع هنالك مع صاحبيه، فلما فُرِغ من دفنه، اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى عليّ، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تَبَرَّأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، واللَّهُ عليه والإسلام، لَيَنْظُرنّ أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان،

ص: 484

فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ، واللَّه عليّ أن لا آلُو عن أفضلكم، قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والقِدَم في الإسلام ما قد علمتَ، فاللَّه عليك لئن أَمَّرتُك لتعدِلَنّ، ولئن أمَّرتُ عثمان لتَسمَعَنّ، ولَتُطيعنّ، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايَعَهُ، فبايع له عليّ، ووَلَجَ أهل الدار، فبايعوه. انتهى.

وروى مالك في "الموطّأ" عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، أنه سمعه يقول: لَمّا صَدَر عمر بن الخطاب من مني، أناخ بالأبطح، ثم كَوَّم كُومة بطحاء، ثم طَرَح عليها رداءه، واستلقى، ثم مَدَّ يديه إلى السماء، فقال: اللهم كَبِرت سني، وضَعُفت قُوّتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مُضَيِّع، ولا مُفَرِّط، ثم قَدِم المدينة، فخطب الناس، فقال: أيها الناس قد سُنَّت لكم السُّنَنُ، وفُرِضت لكم الفرائض، وتُرِكتم على الواضحة، إلَّا أن تَضِلُّوا بالناس يمينًا وشمالًا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: إياكم أن تَهْلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل: لا نجد حَدَّين في كتاب اللَّه، فقد رَجَم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورجمنا، والذي نفسي بيده، لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب اللَّه تعالى، لكتبتها:"الشيخُ والشيخةُ فارجموهما البتة"، فإنا قد قرأناها، قال مالك: قال يحيى بن سعيد، قال سعيد بن المسيِّب: في انسلخ ذو الحجة حتى قُتِلَ عمر رحمه الله. انتهى

(1)

.

(وَإِنِّي) بكسر الهمزة عطفًا على "إني" الماضي (لَا أُرَاهُ) بضمّ الهمزة، أي لا أظنّ تفسير ما رأيته من نَقَرات الديك، ويَحْتَمِل أن يكون "أَرَاهُ" بفتح الهمزة، بمعنى أعتقده (إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي) أي إلَّا كونها إشارةً إلى قرب موتي (وِإنَّ) بالكسر أيضًا؛ لما مرّ آنفًا (أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي) بنونين: الأولى نون الرفع، والثانية نون الوقاية، وفي بعض النسخ بنون واحدة، فيحتمل أن يكون بالتخفيف على حذف إحدى النونين، ويَحْتَمِل أن يكون بالتشديد على الإدغام (أَنْ) بالفتح مصدريّة (أَستَخْلِفَ) أي أجعل خليفة يقوم مقامي في أمر الأمة.

(1)

رواه في "الموطّأ" برقم (1297).

ص: 485

قال القرطبيّ رحمه الله: معنى الأمر هنا: الْعَرْضُ، والتحضيض، أو الْفُتيا بأنه يجب عليه أن يستخلف، وأنه مأمورٌ بذلك من جهة اللَّه تعالى، وظاهر هذا الأمر أنه إنما كان من هؤلاء الأقوام لَمّا سَمِعُوا من عمر رضي الله عنه تأوله لمنامه بحضور أجله، وهذا قبل وقوع طعنه.

وَيَحْتَمِلُ أن يكون هذا بعد أن طُعِنَ، ويكون بعض الرواة ضمّ أحد الخبرين إلى الآخر، وعلى هذا يدلّ مساقُ هذا الخبر. انتهى

(1)

.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ) يَحْتَمِلُ أن يكون مضارع ضَيّع بالتشديد، من التضييع، ويَحْتَمِل أن يكون بالتخفيف، من الإضاعة، وبها جاء القرآن، قال اللَّه تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآية [البقرة: 143].

وقوله: (دِينَهُ) منصوب على المفعوليّة، وكذا قوله:(وَلَا خِلَافَتَهُ) وقوله: (وَلَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم) من عطف المؤكِّد على المؤكَّد؛ لأن الذي بُعِثَ به صلى الله عليه وسلم هو دين اللَّه عز وجل.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: إن أستخلف فحسَنٌ، وإن تركتُ الاستخلاف فحسنٌ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يستخلف؛ لأن اللَّه عز وجل لا يضيع دينه، بل يُقيم له من يقوم به. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال ذلك عمر رضي الله عنه؛ لأنه عَلِمَ مما قد فَهِمَه من كتاب اللَّه تعالى، وسَمِعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن اللَّه تعالى يستخلف المؤمنين في الأرض، ويُمكِّنُ لهم دينهم، ويُظهره على الدين كلّه، قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي} [النور: 55] الآية، فقال ذلك ثقةً بوعد اللَّه، وتوكّلًا عليه.

والخلافة هنا: القيام بأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم على نحو ما قام به محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما. انتهى

(3)

.

(فَإِنْ عَجِلَ) بكسر الجيم، يقال: عَجِلَ عَجَلًا، من باب تَعِبَ وعَجَلَةً:

(1)

"المفهم" 2/ 169.

(2)

"شرح النووي" 5/ 52.

(3)

"المفهم" 2/ 170.

ص: 486

أسرع، وحَضَرَ، فهو عاجلٌ، ومنه العاجلة للساعة الحاضرة، قاله الفيّوميّ

(1)

. (بِي أَمْرٌ) يعني إن حلّ بي الموت (فَالْخِلَافَةُ شُورَى) بضمّ الشين المعجمة، والقصور: اسم من التشاور، قال الفيّوميّ رحمه الله: وشاورته في كذا، واستشرته: راجعته لأرى رأيه فيه، فأشار عليّ بكذا أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إشارةً حسنةً، والاسم الْمَشُورة، وفيها لغتان: سكون الشين، وفتح الواو، والثانية ضمّ الشين، وسكون الواو، وزانُ مَعُونةٍ، ويقال: هي من شارَ الدابّةَ: إذا عَرَضَها في الْمِشْوَارِ، ويقال: من شُرْب الْعَسَل، شُبِّهَ حُسْنُ النصيحة بشرب العسَل، وتشاور القوم، واشتوروا، والشُّورَى اسم منه، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مثلُ قولهم: أمرُهُم فَوْضَى بينهم، أي لا يستأثِرُ أحدٌ بشيء دون غيره. انتهى

(2)

.

(بَيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ)"بين" ظرف لـ "شُورَى"، يعني أنهم يتشاورون فيما بينهم بشأن الخلافة، ويتّفقون على واحد منهم، وليس المراد أنهم يحكمون معًا، بدليل قول عمر رضي الله عنه فيما سبق من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عند البخاريّ:"فإن أصابت الإمرة سعدًا، فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيُّكم ما أُمِّر". (الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ) جملة حاليّة، والستّة هم: عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، والزبير بن العوّام، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.

وإنما لم يُدخل سعيد بن زيد معهم، وإنْ كان من العشرة؛ لأنه من أقاربه، فتورّع عن إدخاله، كما تورّع عن إدخال ابنه عبد اللَّه رضي الله عنهم، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

[تنبيه]: هؤلاء الستّة مع الشيخين، وسعيد بن زيد بن نُفيل هم: العشرة المبشرّون بالجنّة في حديث واحد

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 394.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 327.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 52.

(4)

المراد بالعشرة المبشّرين بالجنّة هم الذين ذُكروا في سياق حديث واحد، وإلا فالمبشّرون أكثر من العشرة.

ص: 487

أخرج الإمام أحمد، وأصحاب السنن بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن الأخنس، أنه كان في المسجد، فذكر رجل عليًّا رضي الله عنه، فقام سعيد بن زيد، فقال: أشهد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أني سمعته، وهو يقول:"عشرة في الجنة: النبيّ في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعليّ في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئت سميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت، قال: فقالوا: من هو؟ فقال: هو سعيد بن زيد" هذا لفظ أبي داود.

وأخرجه أحمد في "مسنده"، فقال:

(1632)

حدّثنا يحيى بن سعيد، عن صدقة بن المثنَّي، حدثني جدّي رِيَاح بن الحارث، أن المغيرة بن شعبة، كان في المسجد الأكبر، وعنده أهل الكوفة عن يمينه، وعن يساره، فجاءه رجل يُدْعَى سعيد بن زيد، فحيّاه المغيرة، وأجلسه عند رجليه على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة، فاستقبل المغيرةَ، فسَبَّ ولسَبّ، فقال: من يَسُبّ هذا يا مغيرة؟ قال: يسب عليّ بن أبي طالب، قال: يا مغير بن شُعْبَ، يا مغير بن شُعْبَ ثلاثًا، إلا أسمع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسَبُّون عندك، لا تنكر، ولا تُغَيّر، فأنا أشهد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما سمعت أُذناي، ووعاه قلبي، من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإني لم أكن أَرْوِي عنه كذبًا يسألني عنه إذا لقيته، أنه قال:"أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعليّ في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وتاسع المؤمنين في الجنة"، لو شئت أن أسميه لسميته، قال: فَضَجّ أهل المسجد يناشدونه، يا صاحب رسول اللَّه من التاسع؟ قال: ناشدتموني باللَّه، واللَّهِ العظيم أنا تاسع المؤمنين، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العاشر، ثم أَتْبَع ذلك يمينًا، قال: واللَّه لمشهد شَهِده رجل يُغَبِّر فيه وجهه مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل أحدكم، ولو عُمِّر عمر نوح عليه السلام. انتهى.

وجاء في رواية أخرى أن العاشر هو أبو عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، فقد أخرج النسائيّ في "الفضائل" من "الكبرى" من طريق عبد الرحمن بن حميد،

ص: 488

عن أبيه، أن سعيد بن زيد حدّثه في نفَر أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"عشرة في الجنة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعد بن أبي وقّاص"، قال: فعدّ هؤلاء التسعة، ثم سكت عن العاشر، فقال القوم: ننشُدُك اللَّه يا أبا الأعور، أنت العاشر؟ قال: إذ نشدتُموني باللَّه، أبو الأعور في الجنّة.

وأخرجه الترمذيّ من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنّة، وعمر في الجنّة، وعثمان في الجنّة، وعليّ في الجنّة، وطلحة في الجنّة، والزبير في الجنّة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنّة، وسعد بن أبي وقّاص في الجنّة، وسعيد بن زيد في الجنّة، وأبو عُبيدة بن الجرّاح في الجنّة"

(1)

. واللَّه تعالى أعلم.

(وَإِنِّي) بكسر الهمزة أيضًا عطفًا على "إني" الأول (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أقوَامًا يَطْعَنُونَ) بضمّ العين وفتحها، وهو الأصحّ هنا، قاله النوويّ، وقال الفيّوميّ: طَعَنَهُ بالرُّمْح طَعْنًا، من باب قَتَل، وطَعَنَ في الْمَفَازَة طَعْنًا: ذَهَبَ، وطَعَن في السِّنِّ: كَبِرَ، وطَعَنَ الْغُصن في الدار: مال إليها مُعْتَرِضًا فيها، قال الزمخشريّ: طَعَنْتُ في أمر كذا، وكلُّ ما أخذتَ فيه، ودخلتَ فقد طَعَنْتَ فيه، وعلى هذا فقولهم: طَعَنت المرأة في الحيضة، فيه حَذفٌ، والتقدير: طَعَنَتْ في أيام الحيضة، أي دخلت فيها، وطَعَنتُ فيه بالقول، وطَعَنْتُ عليه، من باب قَتَل أيْضًا، ومن باب نَفَعَ لغةٌ: قَدَحْتُ، وعِبْتُ طَعْنًا، وطَعَنَانًا، وهو طاعن، وطَعّان في أعراض الناس، وأجاز الفراء يَطْعَن في الكل بالفتح؛ لمكان حرف الحلق، والْمَطْعَنُ يكون مصدرًا، ويكون موضعَ الطَّعْن. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيَّن بما ذُكر أن "يَطْعُنُ" هنا يجوز فيه ضم العين، وفتحها، وأن المعنى المراد هنا هو القدح والعيب، أي يقدحون ويَعِيبون (فِي هَذَا الْأَمْرِ) أي الأمر الذي أصدره في وصيّته الآن، وهو جعله أمر

(1)

حديث صحيح. أخرجه الترمذيّ في "المناقب" رقم (6118)، وأحمد في "مسنده" رقم (1675).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 373.

ص: 489

الخلافة شُورَى بين هؤلاء الستّة (أَنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ) أي حاربتهم، وقاتلتهم على أن يدخلوا في الإسلام، والمراد أنهم ليسوا من السابقين الأولين إليه، ولا ممن رسخ قدمه فيه، بل هم قريبو العهد به، فجملة "أنا ضربتهم" صفة لـ "أقوامًا" بعد صفة (فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ) أي الطعن في هذا الأمر، وأرادوا إثارة الفتن (فَاُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ) بفتحات: جمع كافر، كما قال في "الخلاصة":

وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكَمَلَهْ

وقوله: (الضُّلَّالُ) بضمّ الضاد، وتشديد اللام: جمع ضالّ، كما قال في "الخلاصة":

وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا

وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا

قال النوويّ رحمه الله: معناه: إن استحلّوا ذلك فهم كَفَرَةٌ ضُلَّالٌ، وإن لم يستحلّوا ذلك، ففعلهم كفعل الكفرة، أي فُخُذوا على أيديهم. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن فعلوا ذلك" أي إن أفشوا الطعن، وعَمِلوا على الخلاف في ذلك والمشاقّة، ولم يَرْضَوا بالذين اخترتهم، فأولئك عند اللَّه الْكَفَرَة الضُّلّال، وظاهر هذا أنه حَكَم بكفرهم، وكأنه عَلِمَ أفهم منافقون، وعلى هذا يدلّ قوله:"أنا ضربتهم بيدي على الإسلام"، يعني أنهم إنما دخلوا في الإسلام على تلك الحال، لم تنشرح صدورهم للإسلام، إنما تستّروا بالإسلام، وذلك حال المنافقين.

ويَحْتَمِل أنهم لَمّا فَعَلوا فعل الكفّار من الخلاف، وموافقة أهل الأهواء، ومُشاقّة المسلمين، أَطْلَقَ عليهم ما يُطلَق على الكفّار، وعلى هذا فيكون هذا الكفر من باب كُفْرِان النِّعَم والحقوق. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ إِنِّي لَا أَدَعُ) أي لا أترك (بَعْدِي) أي بعد موتي (شَيْئًا أهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلَالَةِ) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الكلالة مُشْتَقَّةٌ من الإكليل، وهو الذي يُحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا مَن يرثه من حواشيه، لا أصوله، ولا فروعه، كما رَوَى الشعبيُّ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة؟

(1)

"المفهم" 2/ 170.

ص: 490

فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بريئان منه، الكلالة: من لا ولد له ولا والد، فلما وُلِّيَ عمر رضي الله عنه قال: إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه، كذا رواه ابن جرير وغيره، وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدَّثنا محمد بن يزيد، عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كنت آخر الناس عهدًا بعمر رضي الله عنه، فسمعته يقول: القول ما قلت، وما قلت، وما قلت، قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد، وهكذا قال عليّ، وابن مسعود، وصَحّ عن غير واحد، عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبيّ، والنخعيّ، والحسن، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم، وبه يقول أهل المدينة، وأهل الكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف، بل جميعهم، وقد حَكَى الإجماع عليه غيرُ واحد، وورد فيه حديثٌ مرفوعٌ

(1)

، قال أبو الحسين بن اللَّبّان: وقد رُوي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه من لا ولد له، والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فَهِمَ عنه ما أراد. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(2)

.

وقال في موضع آخر بعد ذكره تفسير الصدّيق رضي الله عنه للكلالة الماضي ما نصّه: وهذا الذي قاله الصدِّيق رضي الله عنه عليه جمهور الصحابة، والتابعين، والأئمة في قديم الزمان وحديثه، وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، وقول علماء الأمصار قاطبةً، وهو الذي يدُلُّ عليه القرآن، كما أرشد اللَّه أنه قد بَيَّنَ ذلك، ووَضَّحَهُ في قوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله

(3)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": الكلالة مصدرٌ من تكلَّله النسبُ: أي أحاط به، وبه سُمِّي الإكليل، وهي منزلة من منازل القمر؛

(1)

الحديث المرفوع ضعيف، ولفظه:"من لم ينرك مالًا ولا والدًا، فورثته كلالةٌ"، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رقم (4653).

(2)

"تفسير ابن كثير" 1/ 461.

(3)

"تفسير ابن كثير" 1/ 596.

ص: 491

لإحاطتها بالقمر إذا احْتَلّ بها، ومنه الإكليل أيضًا، وهو التاج، والعصابة المحيطة بالرأس، فإذا مات الرجل، وليس له وَلَدٌ ولا والد، فورثته كلالةٌ، هذا قول أبي بكر الصديق، وعمر، وعليّ، وجمهور أهل العلم، وذكر يحيى بن آدم، عن شَرِيك، وزهير، وأبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن عبد، قال: ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا، وأجمعوا على أن الكلالة مَن مات ليس له ولد ولا والد، وهكذا قال صاحب "كتاب العين"، وأبو منصور اللغوي، وابن عرفة، والْقُتَبيّ، وأبو عبيد، وابن الأنباريّ، فالأب والابن طرفان للرجل، فإذا ذهبا تكلَّله النسب، ومنه قيل: رَوْضَةُ مُكَلَّلةُ: إذا حُفَّت بالنَّوْر، وأنشدوا:

مَسْكَنُهُ رَوْضَةٌ مُكَلَّلَةٌ

عَمَّ بِهَا الأَيْهُقَانُ وَالذُّرَقُ

(1)

يعني نَبْتَيْن، وقال امرؤ القيس [من الطويل]:

أَصَاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ

كَلَمْعِ الْيَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّلِ

(2)

فَسَمُّوا القرابة كلالةً؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه، وليسوا منه، ولا هو منهم، وإحاطتهم به أنهم يَنْتَسِبون معه، كما قال أعرابيّ: مالي كثير، ويرثني كلالةٌ مُتَرَاخٍ نسبهم، وقال الفرزدق [من الطويل]:

وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لَا عَنْ كَلَالَةٍ

عَنِ ابْنَي مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ

وقال آخر [من المتقارب]:

وَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحْمَى لَهُ

وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ

وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكَلال، وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بُعْدٍ وإعياء، قال الأعشى [من الطويل]:

فَآلَيْتُ لَا أَرْثي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ

وَلَا مِنْ وَجًى

(3)

حَتَّى تُلَاقِي مُحَمَّدَا

وذكر أبو حاتم، والأثرم، عن أبي عبيدة، قال: الكلالة كلُّ من لم يرثه أبٌ، أو ابنٌ، أو أخٌ، فهو عند العرب كلالةٌ.

(1)

"الأَيهُقان": الجرجير البريّ، و"الذُّرَقُ" كصُرَدٍ: بقلة وحشيشة كالقتّ الرطب.

(2)

وَمضَ البرق: لَمَعَ، و"الْحَبيّ": السحاب المعترض، و"المكلَّل": الذي في جوانبه البرق مثل الإكليل.

(3)

الوجَى: الْحَفَى.

ص: 492

قال أبو عُمر: ذِكْر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلطٌ، لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره.

ورَوَى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الكلالة من لا وَلَدَ له خاصّةً، ورُوي عن أبي بكر ثم رجعا عنه، وقال ابن زيد: الكلالة الحيّ والميت جميعًا، وعن عطاء: الكلالةُ المال، قال ابن العربيّ: وهذا قول طريف لا وجه له.

قال القرطبيّ: له وجه يتبيّن بالإعراب آنفًا.

ورُوي عن ابن الأعرابيّ: أن الكلالة بنو العم الأباعد، وعن السُّديّ: أن الكلالة الميت، وعنه مثل قول الجمهور.

وهذه الأقوال تتبيّن وجوهها بالإعراب، فقرأ بعض الكوفيين:"يُوَرِّث كلالةً" بكسر الراء وتشديدها، وقرأ الحسن، وأيوب:"يُورِثُ" بكسر الراء وتخفيفها، على اختلاف عنهما، وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالةُ إلا الوَرَثَةَ، أو المال، كذلك حَكَى أصحاب المعاني، فالأول مِن وَرَّثَ، والثاني من أَوْرَثَ، و"كلالةً" مفعوله، و"كان" بمعنى وَقَعَ، ومن قرأ "يُورَثُ" بفتح الراء احتَمَلَ أن تكون الكلالة المالَ، والتقدير: يُورَثُ وِراثةَ كلالةٍ، فتكون نعتًا لمصدر محذوف، ويجوز أن تكون الكلالة اسمًا للورثة، وهي خبر "كان"، فالتقدير: ذا وَرَثَةٍ، ويجوز أن تكون تامّة بمعنى وقع، و"يورَثُ" نعت لـ "رجلٌ"، و"رجلٌ" رُفِعَ بـ "كان"، و"كلالةً" نُصِب على التفسير، أو الحال على أن الكلالة هو الميت، والتقدير: وإن كان رجلٌ يورَث مُتَكَلِّل النسب إلى الميت. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: ذكر اللَّه عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين: في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} الآية [النساء: 12]، وقوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، ولم يذكر في الموضعين وارثًا غير الإخوة، فأما في الآية الأولى فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عُنِي بها الإخوة للأم؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 5/ 76 - 77.

ص: 493

فِي الثُّلُثِ}، وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ:"وله أخ أو أخت من أمه"، ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم، أو للأب ليس ميراثهم كهذا، فدلَّ إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة الْمُتَوَفَّى لأبيه وأمه، أو لأبيه؛ لقوله عز وجل:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، ولم يَختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا، فدَلَّت الآيتان أن الإخوة كُلَّهم جميعًا كلالةٌ.

وقال الشعبيّ: الكلالة ما كان سوى الولد والوالد، من الورثة إخوةً أو غيرهم من العصبة، كذلك قال عليّ، وابن مسعود، وزيد، وابن عباس رضي الله عنهم، قال الطبريّ: والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت مَن عدا ولده ووالده؛ لصحة خبر جابر رضي الله عنه، فقلت: يا رسول اللَّه إنما يرثني كلالةٌ، أَفأُوصي بمالي كلِّه؟ قال:"لا. . ." الحديث، متّفقٌ عليه

(1)

.

[فائدة]: قال أهل اللغة: يقال: رجلٌ كلالةٌ، وامرأةٌ كلالةٌ، ولا يثنَّى، ولا يُجمَعُ؛ لأنه مصدرٌ، كالوكالة، والدلالة، والسَّمَاحة، والشَّجَاعة، وأعاد ضمير مفرد في قوله:{وَلَهُ أَخٌ} ، ولم يقل: لهما، وقد سبق ذكر الرجل والمرأة، على عادة العرب، إذا ذَكَرت اسمين، ثم أَخبَرَت عنهما، وكانا في الحكم سواءً، ربما أضافت إلى أحدهما، وربما أضافت إليهما جميعًا، تقول: من كان عنده غلام وجارية، فليحسن إليه، وإليها، وإليهما، وإليهم، قال اللَّه تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} الآية، وقال تعالى:{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} الآية، ويجوز أولى بهم، قاله الفراء وغيره

(2)

.

(مَا) نافيةٌ (رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ) أي من أحكام الدين (مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ) أي بيان حكمها، و"ما" مصدريّةٌ، والمصدر المؤّول نعت لمصدر مفعول مطلقٌ لـ "راجعتُ"، أي مثل مراجعتي في الكلالة (وَمَا أَغْلَظَ) صلى الله عليه وسلم، وهو بالبناء للفاعل (لِي فِي شَيْءٍ) أي مما سأله من الأحكام (مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ) أي مثل إغلاظه في سؤالي عن الكلالة (حَتَّى طَعَنَ) بالبناء للفاعل

(1)

راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 78.

(2)

راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 78.

ص: 494

أيضًا (بِإِصْبَعِهِ) تقدّم أن فيها عشر لغات، تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصبوع بالضمّ، وزانُ أُسْبُوع، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة (فِي صَدْرِي) أي تأديبًا له لتشدّدة في السؤال.

قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: مقتضى الآية الأولى أن كلَّ واحد من الأخوين له السدس، سواء كان أحدهما ذكرًا أو أُنثى، فإن كانوا أكثر اشتركوا في الثلث، ومقتضى الآية الثانية أن للأخت النصف، وللاثنين الثلثين، ولم يُبيَّن في واحدة من الآتين الإخوة، هل هي لأمّ، أو لأب، أو لهما؟ ثم إذا تنزّلنا على أن الإخوة في الأولى للأم، وفي الثانية للأب، أو أشقّاءُ، فهل ذلك فرضهم إذا انفردوا؟ أو يكون ذلك فرضهم، وإن كان معهم بعض الورثة؟ كلُّ ذلك أمورٌ مطلوبة، والوصول إلى تحقيق تلك المطالب عَسِيرٌ، كما سنبيّن الصحيح من ذلك كلّه في "الفرائض" -إن شاء اللَّه تعالى-.

فلَمّا استُشكلت على عمر رضي الله عنه هذه الوجوه تشوّف إلى معرفتها بطريق يُزيح له الإشكال، فأَلَحّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسؤال عن ذلك، حتى ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدره، وأغلظ عليه في ذلك؛ رَدْعًا له عن الإلحاح؛ إذ كان قد نُهي عن كثرة السؤال، وتنبيهًا له على الاكتفاء بالبحث عمّا في الكتاب من ذلك، وعلى أن الكتاب يُبيِّنُ بعضه بعضًا.

وقال الخطّابيّ رحمه الله: يُشبه أن يكون لم يُفْتِهِ، ووكل الأمر إلى بيان الآية؛ اعتمادًا على علمه وفهمه؛ ليتوضَلَ إلى معرفتها بالاجتهاد، ولو كان السائل ممن لا فَهْمَ له لَبَيَّنَ له البيان الشافي.

قال: وإن اللَّه تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول "سورة النساء"، وفيها إجمالٌ، وإبهامٌ لا يكاد يتبيّن المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية التي في آخر "النساء" في الصيف، وفيها زيادة بيان. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة:"وقال"("يَا عُمَرُ أَلَا) أداة تحضيض (يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ) أي الآية التي نزلت في فصل الصيف، وهو أحد الفصول الأربعة

(1)

"المفهم" 2/ 172.

ص: 495

المشهورة، قال الفيّوميّ رحمه الله: السنة: أربعة أزمنة، وهي الفُصول أيضًا:

[فالأول]: الرَّبِيع، وهو عند الناس الخَرِيف، سَمَّته العرب رَبيعًا؛ لأن أوّل المطر يكون فيه، وبه يَنبُت الربيع، وسمّاه الناس خَرِيفًا؛ لأَن الثمار تُخْتَرَف فيه، أي تُقْطَع، ودخوله عند حلول الشمس رأس الميزان.

[والثاني]: الشتاء، ودخوله عند حلول الشمس رأس الْجَدْي.

[والثالث]: الصيف، ودخوله عند حلول الشمس رأس الحمل، وهو عند الناس الربيع.

[والرابع]: الْقَيْظُ، وهو عند الناس الصيف، ودخوله عند حلول الشمس رأس السَّرَطَان. انتهى

(1)

.

(الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ") يعني قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} الآية [النساء: 176].

(وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ) بفتح أوله، وكسر ثانيه، من عاش يعيش، يقال: عاش يَعيش عيَشًا، كسار يسير سيرًا: صار ذا حياة، فهو عائشٌ، والأنثى عائشة، وعيّاشٌ أيضًا مبالغةٌ

(2)

، وقوله:(أقضِ) مجزوم على أنه جواب الشرط، أي أحكم، يقال: قضيتُ بين الخصمين، وعليهما: أي حكمت

(3)

. (فِيهَا) أي في الكلالة، أي في معرفة أحكامها (بِقَضِيَّةٍ) أي بقضاء، فالمراد بالقضيّة هنا معناها المصدريّ، قال في "القاموس":"القضاءُ"، ويُقصر: الحكم، قَضَى عليه يَقْضي قَضْيًا، وقَضَاءً، وقَضِيَّةً، وهي الاسم أيضًا. انتهى

(4)

. (يَقْضِي بِهَا) أي بتلك القضية (مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) يعني أنه يستوي في فهم تلك القضيّة الخاصّ والعامّ؛ لوضوحها وبيانها.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنه كان اتّضح له وجهُ الصواب فيها، وأنه كان قد استعمل فِكْرَه فيها حتى فَهِمَ ذلك، وأنه أراد أن يوضِّح ذلك على غاية الإيضاح، ولم يتمكّن من ذلك في ذلك الوقت الحاضر للعوائق والموانع، ثم فاجأته المنيّة رضي الله عنه، ولم يُرْوَ عنه فيها شيءٌ من ذلك.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 256.

(2)

"المصباح" 2/ 440.

(3)

"المصباح" 2/ 507.

(4)

"القاموس المحيط" 4/ 378.

ص: 496

لكن قد اهتدى علماء السلف لفهم الآيتين، وأوضحوا ذلك، فتبيَّن الصبح لذي العينين، وسيأتي ذلك في موضعه - إن شاء اللَّه تعالى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ) عمر رضي الله عنه (اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ) أي الذين ولّاهم على أمصار المسلمين النائية من المدينة (وَإِنِّي) وفي نسخة: "فإني"(إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ) أي على أهل الأمصار (لِيَعْدِلُوا) بكسر الدال، من العَدْل -بفتح، فسكون- وهو خلاف الْجَوْر، قال الفيّومي رحمه الله: العَدْلُ: القَصْدُ في الأمور، وهو خلاف الْجَورِ، يقال: عَدَلَ في أمره عَدْلًا، من باب ضَرَبَ، وعدل على القوم عَدْلًا أيضًا، ومَعْدِلَةً بكسر الدال وفتحها، وأما عَدَلَ يَعْدَل بكسر الدال في الماضي، وفتحها في المضارع، من باب تَعِبَ، فهو بمعنى جار وظَلَم. انتهى بتصرّف

(2)

. (عَلَيْهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا) بتشديد اللام، من التعليم (النَّاسَ دِينَهُمْ) وقوله:(وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم) عطف تفسير وبيان لـ "دينهم"؛ لأن دينهم هو سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام، قال اللَّه عز وجل:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، وهو الذي أكمله اللَّه تعالى، ورضيه لنا، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3](وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ) بفتح الفاء، وسكون التحتانيّة، وهو: ما أصيب من أموال الكفّار بعد أن تضع الحرب أوزارها، وأما ما أُصيب منهم عَنْوَةً، والحرب قائمةٌ، فهو الغنيمة.

قال ابن الأثير رحمه الله: "الْفيءُ": هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفّار من غير حرب، ولا جهاد، وأصل الفيء: الرجوع، يقال: فاء يفيء فِئَةً، وفُيُوءًا، كأنه كان أصله لهم، فرجع إليهم، ومنه قيل للظلّ الذي يكون بعد الزوال: فيءٌ؛ لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق.

قال: والغَنِيمة: ما أصيب من أموال أهل الحرب، وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب. انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد صدق في قوله: "كأنه كان أصله لهم إلخ"؛

(1)

"المفهم" 2/ 173.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 396.

(3)

"النهاية" 3/ 389 و 482.

ص: 497

لأن منافع الدنيا من المال وغيره خُلقت؛ ليستعين بها المؤمنون على طاعة اللَّه تعالى، قال اللَّه تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] الآية، فاستولى عليها الكفّار، واغتصبوها منهم، فلما أقام المؤمنون الجهاد، وغلبوا عليهم، وأخذوا أموالهم، فقد رجع إليهم ما اغتصبوه منهم، فلهذا سمّاه اللَّه تعالى فيئًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(وَيَرْفَعُوا) أي أمراء الأمصار (إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي أمر أهل الأمصار الذي لا يستطيعون حلّه، ولا يقدرون على أن يقيموه على الوجه المطلوب، فيرفعوه إلى وليّ الأمر حتى يقوم بحلّ ما أشكل منه، ويُعينهم على إقامته على الوجه المطلوب.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ) تقدّم أن إطلاق الشجر على ما لا ساق له، مثل البصل والثوم جائز لغةً، وهو الراجح؛ لأحاديث هذا الباب الصحيحة، وإن كان أكثر أهل اللغة لا يُطلقونه إلا على ما له ساق، وأما ما لا ساق له، فهو النَّجْم، فتنبّه.

وقوله: (لَا أَرَاهُمَا) بالبناء للفاعل: أي لا أعتقدهما (إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ) جملة في محل نصب على الحال، سُمِّيَا خبيثتين؛ لقبح رائحتهما، وتقدّم أن الخبيث في اللغة: هو المكروه من قول، أو فعل، أو غير ذلك، وقوله:(هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ) يَحْتَمِل النصب على البدليّة من "شجرتين"، ويَحْتَمِل الرفع، على أنه مبتدأ وخبره، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيّا، كأنه قيل له: ما هاتان الشجرتان؟، فأجاب بقوله: هذا البصلُ والثُّومُ.

(لَقَدْ) وفي نسخة: "ولقد" بالواو (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا) أي ريح البصل والثوم (مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ) النبويّ (أَمَرَ بِهِ) أي بإخراجه من المسجد (فَأُخْرِجَ) بالبناء للمفعول (إِلَى الْبَقِيعِ) بفتح الموحّدة، وكسر القاف: مقبرة المدينة، وإنما أُخرج إلى ذلك المكان البعيد، ولم يُترك خارج المسجد؛ تشديدًا في تأديبه حتى لا يعود مرّةً أخرى.

(فَمَنْ أَكَلَهُمَا) أي من أراد أكل البصل والثُّوم (فَلْيُمِتْهُمَا) بضمّ حرف المضارعة، من الإماتة، أي ليُزل رائحتهما الكريهة (طَبْخًا) منصوب بنزع

ص: 498

الخافض، أي بالطبخ، وإماتة الشيء: كسرُ حِدّته، ومنه قولهم: قتلت الخمر: إذا مزجتها بالماء، وكسرت حِدّتها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 1262 و 1263](567) وسيأتي في "كتاب الفرائض"(1617)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 43) وفي "الكبرى"(787) و"التفسير" من "الكبرى"(11135) و"الأطعمة" منها (6673 و 6682 و 6684)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1014) و (الأطعمة" (3363)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(ص 11)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 510 - 511 و 8/ 304)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 335 - 336)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 15 و 26 و 48 - 49)، و (الحميديّ) في "مسنده"(10 و 29)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1666)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2091)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 238)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1217 و 1218 و 1219)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1236 و 1237 و 1238)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(10877)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 224)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في انتقاد الحافظ أبي الحسن الدارقطنيّ رحمه الله على المصنّف هذا الحديث:

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، وقال: خالف قتادة في هذا الحديث ثلاثة حفاظ، وهم منصور بن المعتمر، وحصين بن عبد الرحمن، وعَمْرو بن مُرّة، فرووه عن سالم، عن عمر منقطعًا، لم يذكروا فيه معدان، قال الدارقطنيّ: وقتادة وإن كان ثقةً، وزيادة الثقة مقبولة عندنا، فإنه مُدَلِّس، ولم يَذكُر فيه سماعَهُ من سالم، فأشبه أن يكون بَلَغه عن سالم، فرواه عنه.

ص: 499

قال النوويّ: هذا الاستدراك مردودٌ؛ لأن قتادة، وإن كان مُدَلِّسًا، فقد قدمنا في مواضع من هذا الشرح أن ما رواه البخاريّ ومسلم عن المدلسين، وعنعنوه، فهو محمولٌ على أنه ثبت من طريق آخر سماع ذلك المدلِّس هذا الحديثَ ممن عنعنه عنه، وأكثر هذا، أو كثير منه يَذكُر مسلم وغيره سماعه من طريق آخر، متصلًا به، وقد اتفقوا على أن المدلِّس لا يُحتَجُّ بعنعنته، كما سبق بيانه في الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح، ولا شك عندنا في أن مسلمًا رحمه الله يَعْلَم هذه القاعدة، ويعلم تدليس قتادة، فلولا ثبوت سماعه عنده لم يَحتَجَّ به، ومع هذا كله فتدليسه لا يلزم منه أن يَذكُر معدانًا، من غير أن يكون له ذكر، والذي يُخاف من المدلِّس أن يَحذِف بعض الرواة، أما زيادة من لم يكن فهذا لا يفعله المدلِّس، وإنما هذا فعل الكاذب المجاهر بكذبه، وإنما ذِكْرُ معدان زيادة ثقة، فيجب قبولها.

والعجب من الدارقطني: في كونه جعل التدليس موجِبًا لاختراع ذكر رجل لا ذكر له، ونسبه إلى مثل قتادة الذي محلُّهُ من العدالة والحفظ والعلم بالغاية العالية، وباللَّه التوفيق. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما ردّ به النوويّ على الدارقطنيّ أمران:

أحدهما: أن ما كان في "الصحيحين" معنعنًا عن طريق المدلّسين محمول على السماع.

والثاني: أن هذا ليس من نوع التدليس؛ لأن التدليس إنما يُخاف فيه من الإسقاط، وهذا زيادة، لا إسقاط، بل هو من زيادة الثقة، فيجب قبولها، هذا ملخّص ردّه رحمه الله.

وعندي أن قتادة وإن كان معروفًا بالتدليس، فهذا ليس مما دلّسه قطعًا؛ لأنه رواه شعبة عنه كما في الرواية التالية، وقد ثبت وعُرف أن شعبة لا يروي عن قتادة إلا ما صرّح فيه بالسماع، نُقل عنه أنه قال: كنت أتفقّد فم قتادة، فإذا قال:"حدّثنا"، و"سمعتُ" حفظته، وإذا قال: حدّث فلان تركته، وقال أيضًا: كَفَيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 51 - 52.

ص: 500

والظاهر أن المصنّف: أتبع روايته لهذا الغرض، واللَّه تعالى أعلم.

وقد نظمت القاعدة المذكورة مع زيادة يحيى القطّان، والليث بن سعد إذا روى عن أبي الزبير المكيّ بقولي:

شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنِ الْمُدَلِّسِ

إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ

لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعْمَشِ أَوَ

قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِي مَا رَوَوْا

مُعَنْعَنًا لَا تَخْشَ تَدْلِيسًا فَقَدْ

كَفَاكَهُ هَذَا الإِمَامُ الْمُعْتَمَدْ

كَذَلِكَ الْقَطَّانُ لَا يَرْوِي لِمَنْ

دَلَّسَ مَا لَيْسَ شَمَاعًا يُؤْتَمَنْ

كَذَاكَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ اللَّيْثُ إِنْ

رَوَى فَلَا تَدْلِيسَ يُخْشَى يَا فَطِنْ

فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرَ مَا

سَمِعَهُ مِنْ جَابِر فَلْتَعْلَمَا

هَذِي فَوَائِدُ عَزِيزَةُ الْمَنَالْ

يَصبُو لَهَا مَنْ هَمُّهُ ضَبْطُ الرِّجَالْ

والحاصل أن الحديث صحيح من الطريق الذي أخرجه المصنّف رحمه الله، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل عمر رضي الله عنه، وعلمه بتعبير الرؤيا، فقد وقع ما فسّر به رؤياه نقر الديك له ثلاث نَقَرات مطابقًا، حيث طعنه العلج ثلاث طعنات، فمات منها، وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه من الْمُحَدّثين، فقد أخرج البخاريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثون، فإن يكُ في أمتي أحد، فإنه عمر"، وفي لفظ:"لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل، رجال يُكَلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر".

وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"قد كان يكون في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ، فإن عمر بن الخطاب منهم"، قال ابن وهب: تفسير مُحَدَّثون: مُلْهَمُون.

2 -

(ومنها): أنه حجة للإلحاح في سؤال العالم، ومباحثته، وجواز تأديب المعلِّم للمتعلّم إذا رآه أسرف في ذلك.

3 -

(ومنها): أن قوله: "إن اللَّه لا يضيع دينه ولا خلافته" فيه حجة لما

ص: 501

وقع عليه إجماع المسلمين من إقامة الخليفة لهم، قاله القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): جواز قول "سورة النساء"، و"سورة البقرة"، و"سورة العنكبوت"، ونحوها، وهذا مذهب مَن يُعْتَدُّ به من العلماء، والإجماع اليوم منعقد عليه، وكان فيه نزاع في العصر الأول، وكان بعضهم يقول: لا يقال: سورة كذا، وإنما يقال: السورة التي يُذْكَر فيها كذا، وهذا باطل مردودٌ بالأحاديث الصحيحة، واستعمالِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، فمن بعدهم، من علماء المسلمين، ولا مَفْسَدَة فيه؛ لأن المعنى مفهوم، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

5 -

(ومنها): أن فيه إخراج من وُجد منه ريح الثُّوم والبصل، ونحوهما من المسجد.

6 -

(ومنها): أن رحبة المسجد له حكمه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بإخراجه إليه، بل أبعده إلى البقيع.

7 -

(ومنها): أن من أراد أكل البصل والثوم ونحوهما بينبغي له أن يُميتها بالطبخ.

8 -

(ومنها): إزالة المنكر باليد لمن أمكنه، وهو أول ما جاء الأمر بإزالة المنكر به في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، رواه مسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1263]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(3)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 501.

(2)

"شرح النووي" 5/ 53.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 502

إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقة حافظ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

2 -

(شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ) المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمه مروان الفزاريّ مولاهم ثقة حافظٌ، ورمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت الحافظ الناقد الواسطيّ، ثم البصري [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (جَمِيعًا) يعني أن سعيد بن أبي عروبة، وشعبة كلاهما حدّثا به عن قتادة.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة الماضي، فـ "في" بمعنى الباء.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل الحديث الماضي.

[تنبيه]: أما رواية سعيد بن أبي عروبة، فقد ساقها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 162) فقال:

(1236)

حدّثنا ابن

(1)

يوسف بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا عبد اللَّه بن بكر، ثنا سعيد بن أبي عروبة (ح) وحدّثنا أبو بكر الطَّلْحيّ، ثنا غُندر بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا إسماعيل ابن عُلَيّة، عن سعيد بن أبي عروبة، وحدّثنا محمد بن عبد اللَّه بن سعيد، ثنا عبدان بن أحمد، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا إسماعيل ابن علية، عن سعيد بن عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، أن عمر بن الخطاب، صَعِدَ المنبر، فحمد اللَّه، وأثنى عليه،

(1)

هو أحمد بن يوسف بن خلاد النصيبي المتوفى سنة (351 هـ).

ص: 503

ثم ذكر نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، ثم قال: يا أيها الناس، إني رأيت أن ديكًا نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أرى ذلك إلا لحضور أجلي، وأن ناسًا يأمروني أني

(1)

أستخلف، وأن اللَّه تعالى لم يكن ليضيع دينه، ولا خلافته، وما بَعَثَ به رسوله، فإن عَجِل أمرٌ، فالشورى في هؤلاء الستة الذين تُوُفّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، فمن بايعهم فاسمعوا له وأطيعوا، فإن رجالًا سيطعنون في ذلك، أنا قاتلتهم بيدي على الإسلام، فإن فعلوا فأولئك أعداء اللَّه الكَفَرة الضُّلال، وإني لا أَدَعُ شيئًا أهم عندي من أمر الكلالة، وما أغلظ لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طَعَن بإصبَعه في صدري، أو في جنبي، ثم قال: يا عمر يكفيكها آية الصيف التي أُنزلت في آخر سورة النساء، وإني إن أعتبر

(2)

أقض بقضاء لا يَختلف فيه أحد، يقرأ القرآن ومن لا يقرأ، وإني أشهد اللَّه على أمراء الأمصار، فإني إنما بعثتهم ليعلِّموا الناس دينهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويَعْدِلوا عليهم، ويَقْسِموا فيهم

(3)

، ويرفعوا إلينا ما أشكل علينا

(4)

، وإنكم يا أيها الناس تأكلون من شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين، قد كنت أرى الرجل على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوجد ريحها منه، فيؤخذ بيده، فيُخْرَج إلى البقيع، فمن كان أكلهما لا بُدّ فليمتهما طبخًا: الثوم، والبصل. انتهى.

زاد في رواية ابن شيبة في "مصنفه"(7/ 437) قال: فخطب بها عمر يوم الجمعة، وأصيب يوم الأربعاء، لأربع بقين لذي الحجة. انتهى.

وأما رواية شَبَابة بن سَوّار، فساقها الحافظ أبو عوانة في "مسنده" (1/ 341) فقال:

(1218)

حدّثنا أبو عليّ الزعفرانيّ، والدُّوريّ، وابن المنادي، قالوا: ثنا

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب "أن أستخلف"، كما هو في الروايات الأخرى.

(2)

هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من قوله:"إن أُعمّر"، ولفظ مسلم:"إن أَعِشْ"، فتأمل.

(3)

هكذا النسخة، وفي رواية مسلم وغيره:"ويَقسموا فيهم فيأهم"، فتأمل.

(4)

هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من "عليهم"، كما هو عند مسلم وغيره، فتأمّل.

ص: 504

شَبَابة، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمَريّ، قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: رأيت كأن ديكًا أحمر نَقَرني نقرة أو نقرتين، فلا أرى ذلك إلا لحضور أجلي، فإن عَجِل بي أمرٌ، فإن الشُّورَى إلى هؤلاء الستة الذين تُوُفِّي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، وإني أعلم أن أُناسًا سيطعنون في هذا الأمر بعدي، فإن فعلوا فأولئك أعداء اللَّه الكُفّار الضُّلال، أنا جاهدتهم بيدي هذه على الإسلام، إني أشهد اللَّه على أمراء الأمصار، فإني إنما بعثتهم ليعلِّموا الناس دينهم، وسنة نبيهم، وليَقْسِموا فيهم فيأهم، قال: وما أغلظ لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو ما نازلت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي في آية الكلالة، حتى ضَرَب في صدري، وقال: تكفيك آية الصيف: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} إلى آخر الآية [النساء: 176]، وسأقضي فيها بقضاء، يعلمه من يقرأ، ومن لا يقرأ، هو مما خلا الأبَ أحسِبُ، ألا أيها الناس إنكم تأكلون من شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين: الثوم والبصل، وإن كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَيَأْمُر بالرجل يوجد منه ريحهما، أن يُخْرَج إلى البقيع، فمن كان منكم آكلهما، فليمتهما طَبْخًا. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابُ النَّهْي عَنْ نِشْدَةِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا يَقُولُهُ مَنْ سَمِعَ النَّاشِدَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1264]

(568) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو الطَّاهِرِ، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ حَيْوَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ

(2)

، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ

(1)

وفي نسخة: "وحدثنا".

(2)

وفي نسخة: "ابن الهادي".

ص: 505

ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صفوان التُّجِيبيّ، أبو زُرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن نوفل الأسديّ المدنيّ، يتيم عروة، ثقةٌ [6](ت سنة بضع 130)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.

3 -

(أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ) هو: سالم بن عبد اللَّه النَّصْريّ -بالنون- أبو عبد اللَّه المدنيّ، ويقال له: مولى النصريين، مولى مالك بن أوس، ومولى دوس، ومولى الْمَهْريّ، ومولى شدّاد، والدُّوْسيّ، وسالم سَبَلَان، صدوقٌ [3](ت 110)(م د س ق) تقدم في "الطهارة" 9/ 572.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة، والسماع.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، ومولى شدّاد، فما أخرج لهما البخاريّ والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ) ووقع في نسخة: ابن الهادي بالياء، وهو الأفصح في الاستعمال، قال في "الخلاصة":

وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا

لَمْ يُنْصَبَ اوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا

وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ وَفِي

نَحْوِ "مُرٍ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِي

وقد تقدّم البحث في هذا في ترجمة عمرو بن العاص، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

ص: 506

(أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً) أي يطلبها برفع الصوت، و"يَنْشُد" بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: نَشَدَ الضَّالَّةَ يَنْشُدُها، من باب قتل: إذا طلبها، وكذا إذا عرّفها، والاسم نِشْدة، ونِشْدانٌ بكسرهما، وأنشدها: عَرَّفَها، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: يقال: نَشَدتُ الدابّة: إذا طلبتها، وأنشدتها: إذا عرَّفتها، ورواية هذا الحديث "يَنْشُدُ" بفتح الياء، وضمّ الشين، من نَشَدت: إذا طَلَبتَ. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: يقال: نشَدت الضّالّة، فأنا ناشدٌ: إذا طلبتها، وأنشدتها: إذا عرّفتها، وهو من النَّشِيد، وهو رفع الصوت. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن نَشَد الثلاثيّ يُستعمل للطلب، وللتعريف، وأما أنشد الرباعيّ فيُستعمل للتعريف فقط، وأن الرواية في هذا الحديث "يَنْشُدُ" الثلاثيّ، كما أفاده النوويّ رحمه الله.

و"الضّالّة": الحيَوَان الضائع، قال ابن الأثير رحمه الله: الضالة: هي الضائعة من كل ما يُقْتَنَى من الحيوان وغيره، يقال: ضَلَّ الشيءُ: إذا ضاع، وضَلَّ عن الطريق: إذا حار، وهي في الأصل فاعلةٌ، ثم اتُّسِعَ فيها، فصارت من الصفات الغالبة، وتقع على الذكر والأنثى، والاثنين والجمع، وتُجْمَع على ضَوَالّ، قال: وقد تُطْلَق الضالة على المعاني، ومنه الحديث:"الكلمة الحكيمة ضالةُ المؤمن"، وفي رواية "ضالةُ كل حكيم"

(4)

، أي لا يزال يَتَطَلَّبُها كما يتطلب الرجل ضالته. انتهى

(5)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الضَّلالُ: الْغَيْبَةُ، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضالّةٌ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 605.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 54.

(3)

"النهاية" 5/ 53.

(4)

هذا الحديث ضعيف جدًّا، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الكلمةُ الحكمةُ ضالّةُ المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ بها"، وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي متروك الحديث.

(5)

"النهاية" 3/ 98.

ص: 507

بالهاء، للذكر والأنثى، والجمع: الضّوَالّ، مثل دابّة ودوابّ، ويقال لغير الحيوان: ضائعٌ ولُقَطَةٌ، وضَلَّ البعير: غاب، وخَفِيَ موضعه، وأضللته بالألف: فَقَدتُهُ، قال الأزهريّ: وأضللتُ الشيءَ بالألف: إذا ضاع منك، فلم تعرف موضعه، كالدابّة، والناقة، وما أشبههما، فإن أخطأت موضع الشيء الثابت كالدار قلت: ضَلَلْتُهُ، وضَلِلْتُهُ، ولا تقل: أضللته بالألف، وقال ابن الأعرابيّ: أضلَّني كذا بالألف: إذا عَجَزت عنه، فلم تَقْدِر عليه، وقال في "البارع": ضَلَّني فلان، وكذا في غير الإنسان يَضِلُّني: إذا ذهب عنك، وعجزت عنه، وإذا طلبت حَيَوَانًا، فأخطأت مكانه، ولم تَهْتَدِ إليه، فهو بمنزلة الثوابت، فتقول: ضللته، وقال الفارابيّ: أضللته بالألف: أضعته.

قال: وقوله: لا يجوز بيع الآبق، والضالِّ، إن كان المراد الإنسان فاللفظ صحيحٌ، وإن كان المراد غيره، فينبغي أن يقال: والضالة بالهاء، فإن الضالّ، هو الإنسان، والضالّة: الحيوان الضائع. انتهى

(1)

.

(فِي الْمَسْجِدِ) متعلّقٌ بـ "يَنْشُدُ"(فَلْيَقُل) أي السامع، يعني عقوبة له؛ لارتكابه في المسجد ما لا يجوز فيه، وظاهره أنه يقوله جهرًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قاله جهرًا، حتى سمع الصحابة منه، ونقلوه إلينا (لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ) هذا دعاء عليه بعدم وجود ضالّته، وفي الرواية الآتية:"لا وجدتَّ"، وفي رواية أبي داود:"لا أدّاها اللَّه إليك".

فكلمة "لا" لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار جائز في الدعاء، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار، كقوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31].

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا هو الصواب في معنى الحديث، وأما ما ذكره بعض الشرّاح كالسنوسيّ، فإنه قد طوّل نفسه بما لا فائدة فيه، واستحسن كون الحديث دعاء له، لا دعاء عليه، وأن "لا" ناهيةً، أي لا تَنْشُدْ، وقوله:"ردّها اللَّه عليك" دعاءً له بردّ ضالّته عليه، فغير صحيح، ويبطله قوله:"فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا"، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 363 - 364.

ص: 508

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا ردّها اللَّه عليك" دعاءٌ على الناشد في المسجد بعدم الوجدان، فهو معاقبة له في ماله على نقيض مقصوده، فليُلحق به ما في معناه، فمن رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته، دُعي عليه على نقيض مقصوده ذلك بسبب جريمة رفع الصوت في المسجد، وإليه ذهب مالك في جماعة، حتى كرهوا رفعَ الصوت في المسجد في العلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت فيه في الخصومة والعلم، قالوا: لأنه لا بُدّ لهم من ذلك، وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم: لا بدّ لهم من ذلك ممنوعٌ، بل لهم بُدّ من ذلك بوجهين:

أحدهما: ملازمة الوقار والحرمة بإخطار ذلك بالبال، والتحرّز من نقيضه، ومن خاف ما يقع فيه تحرّز منه.

والثاني: أنه إذا لم يتمكّن من ذلك، فليَتَّخِذ لذلك موضعًا يخصّه، كما فعل عمر رضي الله عنه، وقال: من أراد يَلْغَط، أو يُنشد شعرًا، فليُخرج من المسجد. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح قول من قال بجواز رفع الصوت في المسجد بالعلم ونحوه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم عما يحتاجون إليه في المسجد رافعين أصواتهم، ولم يمنع أحدًا منهم عن رفع صوته بالسؤال، وكذا كان هو يُجيبهم رافعًا صوته، وهذا مما لا يخفى على من له إلمام بدواوين السنّة، فالقول بالكراهة مما لا دليل عليه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَإنَّ الْمَسَاجِدَ) الفاء للتعليل، أي لأن المساجد (لَمْ تُبْنَ) بالبناء للمفعول (لِهَذَا") أَي لنشد الضالّة، وفي الرواية الآتية:"إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له"، أي وهو الصلاة، وذكر اللَّه تعالى، وقراءة القرآن، والعلم، ونحوها.

وروى ابن أبي شيبة بسند جيّد عن عاصم بن عُمر بن قتادة، أن عمر رضي الله عنه سمع ناسًا من التجّار يذكرون تجاراتهم والدنيا في المسجد، فقال: "إنما بُنيت

(1)

"المفهم" 2/ 174 - 175.

ص: 509

هذه المساجد لذكر اللَّه، فإذا ذَكَرتم تجاراتكم ودنياكم، فاخرجوا إلى البقيع"

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "فإن المساجد لم تُبْن لهذا" يَحْتَمِل أن يكون داخلًا في حيّز القول، فيذكره قائل "لا ردّها اللَّه عليك"؛ تعليلًا لقوله، ويؤيّد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التالية:"لا وجدت، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له".

ويَحْتَمِلُ أنه تعليل لقوله: "فليقل"، فلا حاجة إلى أن يقوله، والاحتمال الأول هو الأرجح، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 1264 و 1265](568)، و (أبو داود) في "الصلاة"(473)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(767)، (وأحمد) في "مسنده"(2/ 349 و 420)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1302)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1651)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1212 و 1213)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1239 و 1240)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 447 و 6196 و 10/ 102)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن نَشْدِ الضالّة في المسجد، ويُلْحَق به ما في معناه، من البيع والشراء والإجارة، ونحوها، من العقود.

2 -

(ومنها): كراهة رفع الصوت في المسجد، قال القاضي عياض: قال مالكٌ وجماعة من العلماء: يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره، وأجاز أبو حنيفة، ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمهم اللَّه تعالى رفع الصوت

(1)

"المنهل العذب المورود" 4/ 88.

ص: 510

فيه بالعلم، والخصومة، وغير ذلك، مما يَحْتاج إليه الناس؛ لأنه مَجمَعُهم، ولا بُدّ لهم منه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا القول هو الحقّ؛ لأنه المتعارف في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، أرأيت رجلًا وَجَدَ مع امرأته رجلًا، أيقتله؟ فتلاعنا في المسجد، وأنا شاهد.

وأخرج البخاريّ عن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟، والنبيّ صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قد أجبتك"، فقال الرجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليّ في نفسك، فقال:"سل عما بدا لك. . ." الحديث في قصّة ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه الطويلة، فقد وقع هذا كلّه في المسجد برفع الصوت.

وأخرج أيضًا عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا قام في المسجد، فقال: يا رسول اللَّه، من أين تأمرنا أن نُهِلّ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يُهِلّ أهل المدينة من ذي الحليفة. . . " الحديث، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي جاء فيها التصريح أن الصحابة كانوا يرفعون أصواتهم بالعلم في المسجد، فلم ينه النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدًا منهم عن ذلك، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

3 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: فيه دليلٌ على منع عمل الصانع في المسجد، كالخياطة، وشبهها، قال: وقد مَنَعَ بعض العلماء من تعليم الصبيان في المسجد، قال: قال بعض شيوخنا: إنما يُمنَع في المسجد من عمل الصنائع التي يَختصّ بنفعها آحاد الناس، ويكتسب به، فلا يَتَّخِذ المسجد مَتْجَرًا، فأما الصنائع التي يَشْمَل نفعها المسلمين في دينهم، كالمثاقفة، وإصلاح آلات الجهاد، مما لا امتهان للمسجد في عمله، فلا بأس به

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: يؤيِّد هذا ما أخرجه المصنّف عن عائشة رضي الله عنهما

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 503.

ص: 511

قالت: "جاء حَبَشٌ يَزْفِنُون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضعت رأسي على منكبه، فجعلت انظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم".

قولها: "يَزْفنون" من باب ضرب: أي يَثِبُون، ويلعبون بحرابهم، كهيئة الرَّقْص.

4 -

(ومنها): ما قاله القاضي رحمه الله: وقد منع بعض أهل العلم تعليم الصبيان في المساجد، فإن كان منعهم ذلك لأجل أخذ الأجرة على ذلك التعليم، فيكون ضربًا من البيع في المسجد، ويجري ذلك أيضًا في غير الصبيان إذا كان بأجرة، وإن كان لمضرّة المسجد بالصبيان لم يَشْرَكهم في ذلك إلا من شاركهم في هذه العلة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بمنع تعليم الصبيان في المسجد إذا لم يترتّب عليه ضرر، غير صحيح؛ لأن تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم للكبار والصغار كان في المسجد، وكذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولم تُبْنَ المدارس المعروفة إلا متأخّرة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه دلالة على النهي من رفع الصوت في المسجد بأمر دنيويّ، كالبيع والشراء، فقد أخرج الترمذيّ بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح اللَّه تجارتك، وإذا رأيتم من يَنْشُد فيه ضالّةً، فقولوا: لا رد اللَّه عليك".

6 -

(ومنها): أن نشد الضالّة في المسجد جريمة يستحقّ صاحبها أن يُدعى عليه بعدم وجدان مطلوبه؛ عقوبةً له على مخالفته، وعصيانه، فينبغي لسامعه أن يقول له:"لا ردّها اللَّه عليه"، أو "لا وجدت، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا"، كما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): أن المازريّ استنبط من الحديث منع السؤال في المسجد.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: السائل في المسجد، قيل: يحرم إعطاؤه، وقيل: لا، وقيل: إن كان يتضرّر به أهل المسجد، بأن يرفع صوته، ويُشوّش

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 503.

ص: 512

على المصلّين، أو يمرّ بين يدي مصلّ، أو يسأل بإلحاف، حرم إعطاؤه؛ لكونه إعانةً على ممنوع، وإلا جاز إعطاؤه، وهذا التفصيل هو الصواب؛ لثبوت أدلّته في الأحاديث الصحيحة.

فقد أخرج أبو داود في "سننه" بسند صحيح، عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هل منكم أحدٌ أطعم اليومَ مسكينًا؟ "، فقال أبو بكر رضي الله عنه: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كِسْرَة خُبْز في يد عبد الرحمن، فأخذتها منه، فدفعتها إليه".

فهذا يدلّ على جواز السؤال في المسجد، حيث أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر في إعطائه السائل في المسجد.

والحديث أخرجه مسلم مطوّلًا دون ذكر المسجد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ "، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال:"فمن تبع منكم اليوم جنازةً؟ "، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا قال: "فمن أطعم منكم اليومَ مسكينًا؟ "، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال:"فمن عاد منكم اليومَ مريضًا؟ "، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما اجتمعن في امرئ، إلا دخل الجنة".

وأخرج مسلم عن المنذر بن جرير، عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفَاةٌ، عُرَاةٌ، مُجْتَابِي النِّمَار، أو العباء، مُتَقَلِّدي السيوف، عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فَتَمَعَّر وجِه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمَا رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالًا، فأَذَّن وأقام، فصلّى، ثم خطب. . . الحديث، وفيه:"تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. . ." الحديث.

وروى البيهقيّ أنه صلى الله عليه وسلم أمر سُليكًا الغطفانيّ بالصلاة يوم الجمعة في حال الخطبة؛ ليراه الناس، فيتصدّقوا عليه، وأمرهم بالصدقة، وهو على المنبر

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المنهل العذب المورود" 4/ 88.

ص: 513

(المسألة الرابعة): لا يجوز رفع الصوت في المسجد بقراءة القرآن، أو الذكر؛ فقد أخرج أحمد، وأبو داود، واللفظ له، بإسناد صحيح، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: اعتكف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يَجهَرون بالقراءة، فكَشَف السِّترَ، وقال:"ألا إن كلكم مُنَاجٍ ربَّهُ، فلا يُؤذيَنَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة"، أو قال:"في الصلاة".

وأخرج أحمد بإسناد صحيح، عن البياضيّ رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج على الناس، وهم يصلّون، وقد عَلَت أصواتهم بالقراءة، فقال:"إن المصلّي يناجي ربه عز وجل، فلينظر ما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن".

وأخرج أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اعتكف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان، فاتُّخِذ له فيه بيتٌ من سَعَفٍ، قال: فأخرج رأسه ذات يوم، فقال:"إن المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر أحدكم بما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة"، وفي سنده محمد بن أبي ليلى متكلّم فيه، لكن يشهد له ما قبله، فهو صحيح.

وقد نصّ العلماء من أصحاب المذاهب المتبوعة على ذلك، فقال في "الدرّ المختار" من كتب الحنفيّة: يحرم في المسجد رفع الصوت بالذكر، إلا للمتفقّهة. انتهى. وقال في "البحر الرائق" من كتبهم أيضًا: إذا جهر الإمام فوق حاجة الناس فقد أساء.

وقال في "مختصر الخليل" من كتب المالكيّة، وشروحه، وحواشيه: يكره رفع الصوت بقراءة القرآن في المسجد؛ خشية التشويش على المصلّين والذاكرين، فإن شوّش حرُم اتّفاقًا. انتهى.

وقال ابن العماد: تحرم القراءة جهرًا على وجه يُشَوِّش على نحو مصلٍّ. انتهى. وذكر مثله في كتب الشافعيّة والحنبليّة، نقل هذه الأقوال في "المنهل"

(1)

.

والحاصل أنه لا يجوز التشويش على المصلّين، والمعتكفين في المسجد

(1)

"المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 4/ 88 - 89.

ص: 514

برفع الصوت بالذكر والتلاوة ونحو ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1265]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا

(1)

حَيْوَةُ، قَالَ: سَمِعْت أَبا الْأَسْوَدِ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى شَدَّادٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الْمُقْرِئُ) هو: عبد اللَّه بن يزيد المكيّ، أبو عبد الرحمن المقرئ، بصريّ الأصل، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنةً [9](ت 213) وقد قارب المائة، وهو من كبار شيوخ البخاريّ (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

[تنبيه]: وقع لأصحاب برنامج الحديث هنا غلظٌ، حيث ترجموا المقرئ بأنه عبد اللَّه بن يزيد المخزوميّ المدنيّ المقرئ الأعور، مولى الأسود بن سفيان، وهو من شيوخ مالك، من الطبقة السادسة، وهذا من تلامذته، ومما يوضّح كونه غلطًا أنه لم يلقه زهير بن حرب الراوي عنه هنا؛ لأنه مات سنة (148) ووُلد زهير -كما في "تهذيب التهذيب"(1/ 636) - سنة (160) أي بعد موت المقرئ المذكور باثنتي عشرة سنة، وقد نبّهت على هذا فيما سبق، فينبغي التنبّه له، فإنه مهمّ جدًّا، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

والباقون تقدّموا في المسند الماضي، و"أبو الأسود": هو محمد بن عبد الرحمن المذكور هناك.

[تنبيه]: روايهَ المقرئ التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية ابن وهب، ساقها الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 164) فقال:

(1239)

حدّثنا أبو عليّ محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى،

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 515

ثنا عبد اللَّه بن يزيد المقرئ، ثنا حيوة، سمعت أبا الأسود، يقول: أخبرني أبو عبد اللَّه، مولى شداد، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن سَمِعَ رجلًا يَنْشُدُ ضالّةً في المسجد، فليقل له: لا أداها اللَّه إليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1266]

(569) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا وَجَدْتَ، إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(الثَّوْرِيُّ) سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمام حجةٌ، ربّما دلّس، من رؤوس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ)

(1)

الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

5 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ المروزيّ القاضي، ثقةٌ [3](ت 105)(م 4) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

6 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصيب، أبو عبد اللَّه، وقيل غير ذلك، الأسلميّ الصحابيّ، أسلم رضي الله عنه قبل بدر، ومات سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

(1)

بفتح الميم، وسكون الراء، وفتح المثلّثة، بعدها دال مهملة.

ص: 516

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو وأبو داود، وسليمان، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه: سليمان بن بُريدة، عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصَيب رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ) تقدّم في الحديث الماضي، من باب نصر: إذا طلب (فِي الْمَسْجِدِ)"أل" فيه للجنس (فَقَالَ: مَنْ) استفهاميّة (دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟) أي من وجد الجمل الأحمر، فدعا إليه، ونادى عليه؟ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا وَجَدْتَ) مفعوله محذوف، والكلام على الدعاء عليه، أي لا وجدت ضالّتك، فهو بمعنى "لا ردّها اللَّه عليك".

[تنبيه]: قال الإمام ابن حبّان البستيّ رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث، من طريق الثوريّ، عن علقمة بن مرثد، مفسِّرًا له ما نصّه: قال أبو حاتم: أُضمر فيه: لا وجدتَ إن عُدت لهذا الفعل بعد نهيي إياك عنه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التأويل فيه نظر لا يخفى، فإن سياق الروايات يدلّ على عدم التقييد، بل هو على إطلاقه، ولا سيّما رواية الإمام أحمد الآتية، فلا داعي إليه، فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

(إِنَّمَا بُنِيَتِ) بالبناء للمفعول (الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ) أي للغرض الذي بُنيت من أجله.

وقد أخرج الحديث الإمام أحمد رحمه الله من طريق سفيان الثوريّ، عن علقمة بن مرثد، ولفظه: أن أعرابيًّا قال في المسجد: من دعا للجمل الأحمر؟ بعد الفجر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا وجدته، لا وجدته، لا وجدته، إنما بُنِيت هذه البيوت" -قال مؤمل

(1)

-: "هذه المساجد لما بُنِيَت له". انتهى.

(1)

هو مؤمّل بن إسماعيل أحد الراويين لهذا الحديث عن الثوريّ في "مسند أحمد"، والحديث برقم (22535).

ص: 517

وقد تقدّم بيان معنى ما بُنيت له في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي تقدّم في "كتاب الطهارة" في قصّة الأعرابيّ الذي بال في المسجد، وفيه: ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له:"إن هذه المساجد لا تصلَح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر اللَّه عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن. . ." الحديث.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إنما بُنِيت المساجدُ لما بُنِيَت له" معناه: لذكر اللَّه تعالى، والصلاة، والعلم، والمذاكرة في الخير، ونحوها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بريدة بن الْحُصَيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 1266 و 1267 و 1268](569)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(174 و 175)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(765)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1721)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 419)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(804)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1301)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1652)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1214 و 1215 و 1216)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1241 و 1242 و 1243)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 196 و 10/ 103 و 447)، وفوائد الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1267]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 518

سِنَانٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

لَمَّا صَلَّى، قَامَ رَجُلٌ، فَيقَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا وَجَدْتَ، إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) عن (70) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(أَبُو سِنَانٍ) هو: سَعِيد بن سِنَان الْبُرْجميّ -بضم الموحّدة، والجيم بينهما راء ساكنة- الشيبانيّ الأصغر الكوفيّ، نزيل الريّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6].

رَوَى عن طاوس، وأبي إسحاق السبيعي، وعمرو بن مرة، وسعيد بن جبير، وعلقمة بن مرثد، وحبيب بن أبي ثابت، ووهب بن خالد الْحِمْصِيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه الثوريّ، وابن المبارك، ووكيع، وجرير بن عبد الحميد، وإسحاق بن سليمان الرازيّ، وأسباط بن محمد القُرَشيّ، وأبو داود الطيالسيّ، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: كان رجلًا صالحًا، ولم يكن يقيم الحديث. وقال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه: ليس بالقوي في الحديث. وقال الدُّوريّ وغيره عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: كوفي جائز الحديث. وقال ابن سعد: كان من أهل الكوفة، ولكنه سكن الرّيّ، وكان سيئ الْخُلُق. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة من رُفَعاء الناس. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان عابدًا فاضلًا. ووثقه يعقوب بن سفيان. وقال ابن عديّ: له غرائب، وأفرادات، وأرجو أنه ممن لا يتعمد الكذب، ولعله إنما يَهِمُ في الشيء بعد الشيء.

(1)

وفي نسخة: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم".

ص: 519

وقال الدارقطني: سعيد بن سنان اثنان: أبو مهدي حِمْصيّ يَضَعُ الحديث، وأبو سِنَان كوفيّ سكن الرّيّ من الثقات.

أخرج له البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

[تنبيه]: كون أبي سنان في هذا المسند هو الأصغر، واسمه سعيد بن سنان، صرّح به الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، ونصّه:

(22542)

حدّثنا وكيع، حدّثنا سعيد بن سِنَان، وهو أبو سِنَان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه، قال: صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام رجل: فقال: من دعا للجمل الأحمر؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا وجدتَ، إنما بُنِيت المساجدُ لما بنيت له". انتهى.

وقوله: (لَمَّا صَلَّى، قَامَ رَجُلٌ) وفي الرواية التالية: قال: "جاء أعرابيّ بعدما صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فأدخل رأسه من باب المسجد"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1268]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ بَعْدَمَا صلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا

(2)

.

قَالَ مُسْلِم: هُوَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ، أَبُو نَعَامَةَ، رَوَى عَنْهُ مِسْعَرٌ، وَهُشَيْمٌ، وَجَرِيرٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "مثل حديثهما".

ص: 520

الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188) عن (71) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ شَيْبَةَ) بن نَعَامة الضبّيّ الكوفيّ، مقبول [7].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وعمرو بن مُرّة، وعلقمة بن مَرْثَد، وزبيد الياميّ، وثابت بن عُبيد.

ورَوَى عنه مِسْعَرٌ، وهُشيم، وخارجة بن مُصْعب، وأبو معاوية، وفُضيل بن عياض، وجَرِير بن عبد الحميد، ومحمد بن عيينة.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن القطّان: لا يُعْرَف حاله، وقال أبو عوانة في "صحيحه": يقال: إنه يُكْنَى أبا نَعَامة.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط، وقال عنه: هُوَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ، أَبُو نَعَامَةَ، رَوَى عَنْهُ مِسْعَرٌ، وَهُشَيْمٌ، وَجَرِيرٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وفيه سقط، كما سأبيّنه قريبًا.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا) فاعل "ذَكَرَ" ضمير محمد بن شيبة، وضمير "حديثهما" لعلقمة بن مَرْثد، وأبي سنان الشيبانيّ الأصغر.

[تنبيه]: رواية محمد بن شيبة هذه، لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر.

وقوله: (قَالَ مُسْلِم) يَحْتَمِل أن يكون من كلام المصنّف نفسه، ويَحْتَمِل أن يكون من الراوي عنه.

وقوله: (هُوَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ، أَبُو نَعَامَةَ) هكذا نسخ الكتاب، والظاهر أن فيه سقطًا، والصواب: "هو محمد بن شيبة بن نَعامة، أبو نعامة؛ لأن أبا نعامة كنية لمحمد، لا لأبيه شيبه، كما سبق في ترجمته، ولم يُنبّه أحد من الشّرّاح على هذا.

وقد وقع أيضًا لأبي عوانة في "مسنده" نحو هذا من الغلط، حيث قال: "يقال: إن محمد بن شيبة هو أبو نعامة بن نعامة، رواه مسعر، وهشام

(1)

، وجرير عنه". انتهى.

والصواب تقديم "ابن نعامة" على قوله: "أبو نعامة"، هكذا: يقال: إن

(1)

ووقع عند مسلم بدله: "وهُشيم".

ص: 521

محمد بن شيبة بن نعامة أبو نعامة، روى مسعر، وهشام، وجرير عنه. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَابُ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَالسُّجُودِ لَهُ)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: (اعلم): أن "السَّهْوَ" -بفتح، فسكون- مصدر "سها""يسهو"، يقال: سها عن الشيء يسْهُوُ سهَوًا.

وقال في "اللسان": السَّهْو، والسَّهْوَة: نسيان الشيء، والغفلة عنه، وذهاب القلب عنه إلى غيره، سَهَا يَسْهُو سَهْوًا، وسُهُوًّا، فهو سَاهٍ، وسَهْوَان، وإنه لساه بَيِّن السَّهْو، والسُّهُوّ، والسهو في الصلاة: الغفلة عن شيء منها. وقال ابن الأثير: السَّهْوُ في الشيء: تركه عن غير علم، والسهو عنه: تركه مع العلم، ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 5]. انتهى المقصود من "اللسان"

(1)

.

وقال أبو البقاء الكَفَويّ في "الكليات": السهو: هو غفلة القلب عن الشيء بحيث يحتاج إلى تحصيل جديد. قال بعضهم: النسيان: زوال الصورة عن القوّة المدركة مع بقائها في الحافظة، والسهو زوالها عنهما معا. وقيل: غفلتك عما أنت عليه لتفقده سهو، وغفلتك عما أنت عليه لتفقد غيره نسيان. وقيل: السهو يكون لما علمه الإنسان، ولما لا يعلمه، والنسيان لما غَرُبَ بعد حضوره، والمعتمد أنهما مترادفان. انتهى المقصود من "الكليات"

(2)

.

وقال في "المصباح": سَهَا عن الشيء يَسْهُو سَهْوًا: غَفَلَ، وفرَّقُوا بين الساهي والناسي بأن الناسي إذا ذكّرته تذكّر، والساهي بخلافه، والسهو: الغفلة. انتهى

(3)

.

وقال في "مراقي السعود" مُبَيِّنًا الفرق بينهما:

(1)

"لسان العرب" 14/ 406 - 407.

(2)

"الكليّات"(ص 506).

(3)

"المصباح المنير" 1/ 293.

ص: 522

زَوَالُ مَا عُلِمَ قُلْ نِسْيَانُ

وَالْعِلْمُ فِي السَّهْوِ لَهُ اكْتِنَانُ

قال شارحه: يعني أن النسيان هو زوال المعلوم من القوّة الحافظة، والقوّة المدركة، فيُستأنَفُ تحصيله لأنه غير حاصل لزواله، والسهو هو اكتنان المعلوم، أي غيبته عن القوّة الحافظة مع أنه غير غائب عن القوة المدركة، فهو الذهول عن المعلوم الحاصل، فيتنبه له بأدنى تنبيه. وقيل: النسيان غفلة عن المذكور، والسهو غفلة عن المذكور وغيره. وقيل: هما مترادفان. انتهى

(1)

.

وقال السيوطيّ رحمه الله في "الكوكب الساطع" مشيرًا إلى القول بأن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا:

وَالسَّهْوُ أَنْ يَذْهَلَ عَنْ مَعْلُومِهِ

وَفَارَقَ النِّسْيَانَ فِي عُمُومِهِ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1269]

(389)

(2)

- (حَدَّثَنَا

(3)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي، جَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَلَبَسَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِك) بن أنس بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد اللَّه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

(1)

"شرح الشيخ الشنقيطيّ" 1/ 75.

(2)

هذا الحديث مكرّر في ترقيم محمد فؤاد، تقدّم في "الأذان"، ولذا أعاده بنفس الرقم الذي سبق هناك، فتنبّه.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 523

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، الفقيه الحافظ المتّفق على جلالته وإتقانه، رأس [4](ت 125) أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والقراءة، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخلها.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

7 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ) ومثل الأحد الإحدى، وإنما خص الذكور بالخطاب لعله لكونهم الحاضرين وقت الخطاب، واللَّه تعالى أعلم.

(إِذَا قَامَ يُصَلِّي) المراد إذا دخل في الصلاة، فلا يقتضي أنه لو صلّى جالسًا لا يحصل له ذلك.

ثمَّ إن قوله: "يُصَلِّي" يَشمَل الفرضَ والنفل.

[فإن قلت]: قوله في الرواية التالية: "إذا نودي بالصلاة" قرينة في كون المراد الفريضة، وكذا قوله:"إذا ثُوِّبَ".

ص: 524

[وأجيب]: بأن ذلك لا يَمنع تناول النافلة؛ لأن الإتيان بها حينئذ مطلوب، لقوله صلى الله عليه وسلم:"بين كلّ أذانين صلاة"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(جَاءَهُ الشَّيْطَانُ) الظاهر أن "أل" فيه للعهد الذهنيّ، وهو شيطان الصلاة الذي يُسمّى خَنْزَب، فسيأتي للمصنّف في "كتاب السلام" أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يَلْبِسها عليّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ذاك شيطان يقال له: خَنْزَب، فإذا أحسسته، فتعَوَّذ باللَّه منه، واتفُلْ على يسارك ثلاثًا"، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه اللَّه عني.

(فَلَبَسَ عَلَيْهِ) أي خَلَطَ عليه صلاته، وهو: بفتح الموحّدة المخففة، من الثلاثيّ، يقال: لَبَس عليه يَلْبِسُ، من باب ضرب: إذا خلطه عليه، وجعله مشتبهًا بغيره، خافيًا حتى لا يعرف جهته، والمعنى هنا: خلط عليه أمر صلاته، وشوّش عليه خاطره.

وقال النوويّ رحمه الله: هو بالتخفيف هنا، أي خلط عليه صلاته، وشبّهها عليه، وشكّكه فيها

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: هو بالتخفيف، وربّما شُدّد للتكثير. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يُرْوَى مخفف الباء ومشدَّدها، وهي مفتوحة في الماضي مكسورة في المستقبل، ومعناه: خَلَطَ، يقال: لَبَستُ عليه الأمر أَلْبِسُهُ: أي خَلَطته، ومنه قوله تعالى:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، فأما بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المستقبل: فهو من لِبَاس الثوب، ومنه قوله تعالى:{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف: 31]. انتهى

(4)

.

(حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى؟ فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ) الإشارة إلى التردّد وعدم العلم، ويَحْتَمِل أن يكون للسهو.

(فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) أي ترغيمًا للشيطان حيث لَبَسَ عليه صلاته، وليس

(1)

"المرعاة" 3/ 394.

(2)

"شرح النووي" 5/ 57.

(3)

"النهاية" 4/ 226.

(4)

"المفهم" 2/ 177 - 178.

ص: 525

شيء أثقل عليه من السجود؛ لما لَحِقه ما لحِقه بسبب الامتناع عن السجود لآدم عليه السلام.

وفيه دلالة على أنه لا زيادة على السجدتين، وإن تكرر السهو.

(وَهُوَ جَالِسٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث مقصوده الأمر بالسجود عند السهو، وهل ذلك بعد السلام، أو قبله؟ لم يَتعرَّض له فيه، وقد رُوي عن مالك والليث أنهما حملا هذا الحديث على المستنكح، وهو الذي يغالبه النعاس

(1)

، وليس في الحديث ما يدلّ عليه، وما قالاه ادّعاء تخصيص، ولا بُدّ من دليله، على أنه قد اختَلَفَ قول مالك في المستنكح، هل عليه سجودٌ أم لا؟ بل نقول: إن في الحديث ما يدلّ على نقيض ما قالاه، وهو قوله:"فإذا وَجد أحدكم"، وهذا خطابٌ لعموم المخاطبين، وعمومُهُم السلامة من الاستنكاح، فإنه نادر الوقوع.

وقد ذهب الحسن في طائفة من السلف إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فقالوا: ليس على من لم يَدرِ كم صلّى؟ ولا يدري هل زاد أو نقص؟ غير سجدتين، وهو جالسٌ.

وذُكر عن الشعبيّ، والأوزاعيّ، وجماعة كثيرة من السلف أن من لم يدر كم صلّى؟ أعاد أبدًا حتى يتيقّن، والذي ذهب إليه الأكثر أن يُحْمَلَ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على مُفَصَّل حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي بعد، ويُردّ إليه، ولا سيّما وقد زاد أبو داود في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق صحيحة:"وهو جالسٌ قبل أن يُسلِّم"، فيكون مساويًا لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، فهو هو. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وسيأتي تمام البحث قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه، وقد تقدّم

(1)

يقال: نكح النعاس عينه: غلبها. انتهى. "القاموس" 1/ 254.

(2)

"المفهم" 2/ 178 - 179.

ص: 526

تخريجه، وبقيّة مسائله في كتاب "الصلاة" برقم [8/ 865](389)، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وَجَد ذلك أحدكم، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ":

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماء في المراد به، فقال الحسن البصريّ، وطائفة من السلف بظاهر الحديث، وقالوا: إذا شكّ المصلّي، فلم يَدْرِ، زاد أو نقص؟ فليس عليه إلا سجدتان، وهو جالسٌ؛ عملًا بَظاهر هذا الحديث.

وقال الشعبيّ، والأوزاعيّ، وجماعة كثيرة من السلف: إذا لم يدر كم صلّى، لزمه أن يُعِيد الصلاة مرةَّ بَعد أخرى أبدًا حتى يَسْتَيقِن.

وقال بعضهم: يُعيد ثلاث مرّات، فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه. وقال مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور رحمهم الله: متى شك في صلاته، هل صلى ثلاثًا، أم أربعًا؟ مثلًا، لزمه البناء على اليقين، فيجب أن يأتي برابعة، ويسجد للسهو؛ عملًا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يَدْر كم صلّى، ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشكّ، ولْيَبْنِ على ما استَيْقَنَ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلّى خمسًا شَفَعْنَ له صلاته، وإن كان صلّى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان".

قالوا: فهذا الحديث صريح في وجوب البناء على اليقين، وهو مُفَسِّرٌ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، فيُحْمَل حديث أبي هريرة رضي الله عنه عليه، وهذا متعينٌ، فوجب المصير إليه، مع ما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه من الموافقة لقواعد الشرع في الشكّ في الإحداث، والميراث من المفقود وغير ذلك. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة القول في هذه المسألة أنه ليس في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أكثر من أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بسجدتين عند السهو في الصلاة، وليس فيه بيان ما يصنعه مَنْ وقع له ذلك، والأحاديثُ الأخرى قد اشتَمَلت على زيادةٍ، هي بيانُ ما هو الواجب عليه عند ذلك من غير السجود،

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 57 - 58.

ص: 527

فالمصير إليها واجب

(1)

.

والحاصل أنّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُجْمَل، يجب حمله على الأحاديث الأخرى المبيِّنة للمراد منه، فيكون المعنى: فليسجد سجدتين بعد البناء على غالب الظنّ، إن كان له غلبة ظنّ وميلُ قلب إلى أحد الطرفين، أو البناء على اليقين، إن لم يكن له ذلك، كما هو المذهب الراجح فيما سيأتي بيانه -إن شاء اللَّه تعالى-، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم سجود السهو:

(اعلم): أنهم اختلفوا فيه، هل هو واجب لا بدّ منه، أو سنة؟.

فمذهب الشافعيّ رحمه الله، وكافة أصحابه أنه سنة، وحكاه الشيخ أبو حامد عن جمهور العلماء.

وقال القاضي عبد الوهّاب المالكي: الذي يقتضيه مذهبنا أنه واجب في سهو النقصان.

وقال القرطبي: من أصحابنا من قال: سجود السهو مندوب، وقال بعض أصحابنا: السجود للنقص واجب، وللزيادة فضيلة، ثم اختلفوا هل ذلك في كلّ نقص، أو يختص الوجوب بما كان المسقط فعلًا، ولم يكن قولًا؟ روايتان.

والصحيح من مذهب الحنفية: أن سجود السهو واجب كذلك، قاله في "الهداية"، وكذلك حكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني وغيره عنهم أنه واجب يأثم بتركه، وليس بشرط لصحّة الصلاة، وهو اختيار الكرخي منهم، وبعض أصحابهم قال: إنه سنة كمذهب الشافعي.

وأما مذهب أحمد رحمه الله، فأفعال الصلاة منقسمة عندهم على ثلاثة أنواع:

[أحدها]: أركان يُبطل الصلاةَ الإخلال بها عمدًا، ويجب تداركها إذا تركت سهوًا، كتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع والسجود ونحوها.

[وثانيها]: واجبات، من ترك منها شيئًا عمدًا بطلت صلاته، ومن تركه سهوًا لم تبطل، ولم يتداركه، بل يسجد للسهو، كتكبيرات الانتقالات، والتشهد الأول، والجلوس له، والتسبيح في الركوع، وفي السجود وأشباهها.

(1)

راجع: "نيل الأوطار" في هذا 3/ 141 - 142.

ص: 528

[وثالثها]: سننٌ قوليةٌ، كالاستفتاح، والتعوذ، والتأمين، وقراءة السورة، والجهر، والإسرار، ونحو ذلك، فهل يُشرَع سجود السهو لتداركها؟ فيه روايتان، وليس سجود السهو واجبًا في هذا القسم الأخير قطعًا، وأما في الثاني: فسجود السهو له واجب قطعًا، وكذلك هو أيضًا واجب إذا سها بزيادة فعل في الصلاة، يُبطلها عمدُهُ، كالكلام والسلام، ونحو ذلك، فإن تعمّد ترك سجود عن واجب محله قبل السلام بطلت صلاته عندهم، وإن ترك المشروع بعد السلام لم تبطل، وإذا شكّ في ترك واجب، فهل يلزمه السجود؟ فعلى وجهين، وإن شكّ في زيادة لم يسجد.

واحتجّ أصحاب الشافعيّ على أن سجود السهو سنة، وليس بواجب بما روى أبو داود في "سننه" من حديث ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا شكّ أحدكم في صلاته فَلْيُلْقِ الشكّ، وليبن على اليقين، فإن استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامّةً كانت الركعة نافلةً، والسجدتان، وإن كانت ناقصةً كانت الركعة تمامًا لصلاته، وكانت السجدتان مُرغمتي الشيطان".

قالوا: فهذا الحديث يدلّ على أن السجدتين نافلة، والحديث حسن؛ لأن ابن عجلان روى عنه مالك، وشعبة، ووثقه الجمهور، وأخرج له مسلم في مواضع من كتابه.

قال العلائيّ رحمه الله: لكن يَرِدُ على هذا أن الحديث رواه جماعة عن زيد بن أسلم، لم يذكروا هذه الزيادة، وابن عجلان متكلّم في حفظه، وقد أدخله البخاريّ في "كتاب الضعفاء"، فعلى تقدير قبوله إذا خالف من هو أوثق منه، وأحفظ، وأكثر عددًا في قبوله نظرٌ.

وأما القائلون بوجوب سجود السهو، فلهم ثلاث مسالك:

[الأول]: الأمر بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ليسجد سجدتين"، وهو صحيح ثابتٌ في حديث ابن مسعود، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهما رضي الله عنهم.

[والثاني]: التمسك بفعله صلى الله عليه وسلم، وسجوده له كما ثبت في أحاديث ذي اليدين، وحديث ابن بُحينة.

ص: 529

قال العلائيّ رحمه الله: وهذا إما على القول بأن فعله صلى الله عليه وسلم يدلّ على الوجوب فيما ظهر فيه قصد القربة، وإما على القول بأن فعله صلى الله عليه وسلم وقع هنا بيانًا لأفعال الصلاة الواجبة؛ لأنها مُجمَلة فيما يتعلق بالسهو فيها أيضًا، لم يتبين ذلك إلا بفعله صلى الله عليه وسلم، وبيان الواجب واجب، وهذا فيما إذا كان قبل السلام واضح.

وأما فيما إذا كان بعد السلام فهو على قول من يقول: إن هذا السلام يحصل به التحلل من الصلاة، كالحنفية، وبعض المالكية.

وإما على طريق الجمع بأن يُضمّ إلى سجوده صلى الله عليه وسلم قوله: "صلّوا كما رأيتموني أصلي"، وهو كالذي قبله فيما كان منه قبل السلام أو بعده.

[والمسلك الثالث]: اعتبار سجود السهو بالمقتضي له الذي يُجْبَر به.

وقد ناقش هذه المسالك الحافظ العلائي، فانظر كلامه في "نظم الفرائد" ص 364 - 365.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن قول من قال بالوجوب هو الراجح؛ لوروده بصيغة الأمر، مع مداومته صلى الله عليه وسلم على فعله، كما مر بيانه والأمر للوجوب إلا إذا وُجد ما يصرفه، ولم يذكروا هنا صارفًا، واللَّه تعالى أعلم.

ثم رأيت شيخ الإسلام رحمه الله نصر هذا الذي رجّحته من كون سجود السهو واجبًا، ودونك نصّه:

قال رحمه الله: وأما وجوبه فقد أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لمجرد الشكّ، فقال:"إذا قام أحدكم يصلّي جاءه الشيطان، فلبس عليه صلاته، حتى لا يدري كم صلّى؟ فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين، وهو جالس"، متّفقٌ عليه، وأَمَرَ به فيما إذا طرح الشك، فقال في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"فليطرح الشك، ولْيَبْنِ على ما استيَقَنَ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلّم، فإن كان صلّى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلّى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان"، رواه مسلم.

وكذلك في حديث عبد الرحمن رضي الله عنه: "ثم ليسجد سجدتين، وهو جالس قبل أن يسلّم، ثم يسلّم"، وأَمَر به في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، حديثِ التحري قال:"فليتحرَّ الصواب، فليتمّ عليه، ثم ليسجد سجدتين"، متّفقٌ عليه، وفي لفظ: "هاتان السجدتان لمن لا يدري أزاد في صلاته أم نقص؟، فيتحرى

ص: 530

الصواب، فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين"، وفي الحديث الآخر المتفق عليه لابن مسعود رضي الله عنه: "فقلنا: يا رسول اللَّه، أَحَدَث في الصلاة شيءٌ؟ فقال: لا، فقلنا له الذي صنع، فقال: إذا زاد أو نقص، فليسجد سجدتين، قال: ثم سجد سجدتين"، فقد أَمَر صلى الله عليه وسلم بالسجدتين إذا زاد أو إذا نقص، ومراده إذا زاد ما نُهِي عنه، أو نقص ما أمر به.

ففي هذا إيجاب السجود لكل ما يُتْرَك مما أمر به إذا تركه ساهيًا، ولم يكن تَرْكُهُ ساهيًا موجبًا لإعادته بنفسه، وإذا زاد ما نُهي عنه ساهيًا، فعلى هذا كلُّ مأمور به في الصلاة إذا تركه ساهيًا، فإما أن يعيده إذا ذكره، وإما أن يسجد للسهو لا بدّ من أحدهما.

فالصلاة نفسها إذا نسيها صلاها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وكذلك إذا نسي طهارتها كما أُمر الذي ترك موضع لُمْعَة من قدمه لم يصبها الماء، أن يعيد الوضوء والصلاة، وكذلك إذا نسي ركعةً، كما في حديث ذي اليدين، فإنه لا بدّ من فعل ما نسيه، إما مضمومًا إلى ما صَلَّى، وأما أن يبتدئ الصلاة.

فهذه خمسة أحاديث صحيحة، فيها كلِّها يأمر الساهي بسجدتي السهو، وهو صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَهَى عن التشهد الأول سجدهما بالمسلمين قبل السلام، ولما سلَّم في الصلاة من ركعتين، أو من ثلاث، صلّى ما بقي، وسجدهما بالمسلمين بعد الصلاة، ولَمّا أذكروه أنه صلّى خمسًا سجدهما بعد السلام والكلام.

وهذا يقتضي مداومته صلى الله عليه وسلم عليهما، وتوكيدهما، وأنه لم يَدَعْهما في السهو المقتضي لهما قط، وهذه دلائل بينةٌ واضحةٌ على وجوبهما، وهو قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، وليس مع مَن لم يوجبهما حُجَّةٌ تقارب ذلك. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال أبو عبد اللَّه المازريّ رحمه الله: أحاديث الباب خمسة:

1 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيمن شك فلم يَدْرِ كم صلّى؟، وفيه أنه يسجد سجدتين، ولم يذكر موضعهما.

ص: 531

2 -

وحديث أبي سعيد رضي الله عنه فيمن شك، وفيه أن يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم.

3 -

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه القيام إلى خامسة، وأنه سجد بعد السلام.

4 -

وحديث ذي اليدين، وفيه السلام من اثنتين، والمشي والكلام، وأنه سجد بعد السلام.

5 -

وحديث ابن بُحَينة رضي الله عنه، وفيه القيام من اثنتين، والسجود قبل السلام.

واختَلَف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث، فقال داود رحمه الله: لا يقاس عليها، بل تُسْتَعمل في مواضعها على ما جاءت، وقال أحمد رحمه الله بقول داود في هذه الصلوات خاصّة، وخالفه في غيرها، وقال: يَسجُد فيما سواها قبل السلام لكل سهو.

وأما الذين قالوا بالقياس فاختلفوا، فقال بعضهم: هو مُخَيَّرٌ في كل سهو، إن شاء سجد بعد السلام، وإن شاء قبله في الزيادة والنقص.

وقال أبو حنيفة رحمه الله: الأصل هو السجود بعد السلام، وتأوّل بعضَ الأحاديث عليه.

وقال الشافعيّ رحمه الله: الأصل هو السجود قبل السلام، ورَدَّ بقية الأحاديث إليه.

وقال مالك رحمه الله: إن كان السهو زيادة سجد بعد السلام، وإن كان نقصًا فقبله.

فأما الشافعيّ: فقال في حديث أبي سعيد: "فإن كانت خامسةً شفعها"، ونَصّ على السجود قبل السلام، مع تجويز الزيادة، والمجوَّز كالموجود، ويتأول حديث ابن مسعود رضي الله عنه في القيام إلى خامسة، والسجود بعد السلام على أنه صلى الله عليه وسلم ما عَلِمَ السهو إلا بعد السلام، ولو علمه قبله لسجد قبله، ويتأول حديث ذي اليدين على أنها صلاةٌ جرى فيها سهوٌ، فسها عن السجود وقبل السلام، فتداركه بعده. انتهى.

قال النوويّ رحمه الله بعد نقل كلام المازريّ هذا: هو كلام حسنٌ نفيسٌ،

ص: 532

وأقوى المذاهب هنا مذهب مالك رحمه الله، ثم مذهب الشافعيّ، وللشافعيّ رحمه الله قول كمذهب مالك: يفعل بالتخيير، وعلى القول بمذهب مالك: لو اجتمع في صلاة سهوان: سهوٌ بزيادة، وسهوٌ بنقص، سجد قبل السلام، قال القاضي عياض رحمه الله وجماعة من أصحابنا: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام، أو بعده للزيادة أو النقص أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما اختلافهم في الأفضل، واللَّه أعلم.

قال الجمهور: لو سها سهوين فأكثر كفاه سجدتان للجميع، وبهذا قال الشافعيّ ومالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم اللَّه تعالى، وجمهور التابعين، وعن ابن أبي ليلى: لكل سهو سجدتان، وفيه حديث ضعيف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" ما حاصله: ذهب مالك، والمزنيّ، وأبو ثور من الشافعية إلى التفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو الزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام، وفي الثاني يسجد بعده، قال: وزعم ابن عبد البرّ أنه أولى من غيره؛ للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر؛ لأنه في النقص جَبْرٌ، فينبغي أن يكون من أصل الصلاة، وفي الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها.

وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح، وادّعاءِ النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرةً، وكان الحكم على وفقها كانت علّةً، فيعمّ الحكم جميع محالّها، فلا تخصص إلا بنصّ.

وتُعُقِّب بأن كون السجود في الزيادة ترغيمًا للشيطان فقط ممنوعٌ، بل هو جبرٌ أيضًا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادةً فهو نقص في المعنى، وإنما سَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم سجود السهو ترغيمًا للشيطان في حالة الشك، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم.

وقال الخطابيّ: لم يَرْجِع مَن فَرَّق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح،

(1)

"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 5/ 56.

ص: 533

وأيضًا فقصة ذي اليدين وقع السجود فيها بعد السلام، وهي عن نقصان.

وأما قول النوويّ: أقوى المذاهب فيها قولُ مالك، ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريق أحمد أقوى؛ لأنه قال: يُستَعْمَل كلُّ حديث فيما ورد فيه، وما لم يَرِد فيه شيء يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيته كلَّه قبل السلام؛ لأنه من شأن الصلاة، فيفعله قبل السلام.

وقال إسحاق مثله، إلا أنه قال: ما لم يرد فيه شيء يُفَرَّق فيه بين الزيادة والنقصان، فحرَّر مذهبه من قولي أحمد ومالك، وهو أعدل المذاهب فيما يظهر.

وأما داود فجرى على ظاهريته، فقال: لا يُشرَع سجود السهو إلا في المواضع التي سجد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها فقط، وعند الشافعيّ سجود السهو كلُّه قبل السلام، وعند الحنفية كلُّه بعد السلام.

واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وتُعُقِّب بأنه لم يَعْلَم بزيادة الركعة إلا بعد السلام، حين سألوه، هل زيد في الصلاة؟، وقد اتَّفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام؛ لتعذره قبله؛ لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة رضي الله عنهم لتجويزهم الزيادة في الصلاة؛ لأنه كان زمان توقع النسخ.

وأجاب بعضهم بما وَقَع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه من الزيادة، وهي:"إذا شك أحدكم في صلاته، فليَتَحَرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم لْيُسَلِّم، ثم يسجد سجدتين".

وأجيب بأنه معارَضٌ بحديث أبي سعيد رضي الله عنه عند مسلم، ولفظه:"إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلّى، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم"، وبه تمسك الشافعية.

وجَمَع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورَجَّح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده.

ونَقَل الماورديّ وغيره الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا أطلق النوويّ.

وتُعُقِّب بأن إمام الحرمين نَقَل في "النهاية" الخلاف في الإجزاء عن

ص: 534

المذهب، واستبعد القول بالجواز، وكذا نَقَل القرطبيّ الخلاف في مذهبهم، وهو مخالف لما قاله ابن عبد البرّ: إنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده أن لا شيء عليه، فيُجْمَع بأن الخلاف بين أصحابه.

والخلافُ عند الحنفية، قال القدوريّ: لو سجد للسهو قبل السلام رُوي عن بعض أصحابنا لا يجوز؛ لأنه أداء قبل وقته، وصَرَّح صاحب "الهداية" بأن الخلاف عندهم في الأولوية.

وقال ابن قدامة في "المقنع": مَن تَرَك سجود السهو الذي قبل السلام بطلت صلاته إن تعمد، وإلا فيتداركه ما لم يطل الفصل.

ويمكن أن يقال: الإجماع الذي نقله الماورديّ وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة.

وقال ابن خزيمة: لا حجة للعراقيين في حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنهم خالفوه، فقالوا: إن جلس المصلِّي في الرابعة مقدار التشهد أضاف إلى الخامسة سادسةً، ثم سلَّم، وسجد للسهو، وإن لم يجلس في الرابعة لم تصحّ صلاته، ولم يُنْقَل في حديث ابن مسعود رضي الله عنه إضافة سادسة، ولا إعادةٌ، ولا بُدّ من أحدهما عندهم، قال: ويَحْرُم على العالم أن يخالف السنة بعد علمه بها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد اتّضح مما سبق من عرض آراء العلماء في مسألة كون سجود السهو قبل السلام، أو بعده، وذكر أدلّتهم أن الأرجح هو القول بالتخيير بين السجود قبل السلام أو بعدها فيما لا نصّ فيه.

والحاصل أن ما جاء النصّ فيه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد فيه قبل السلام فهو قبل السلام، وما جاء أنه سجد فيه بعد السلام فهو بعد السلام على موافقة النصّ، وما ليس فيه نصّ فالساهي بالخيار، إن شاء سجد قبل السلام، وإن شاء سجد بعد السلام.

قال الشوكانيّ رحمه الله: وأحسن ما يقال في المقام: إنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب

(1)

"الفتح" 3/ 113 - 114 "كتاب السهو" رقم (1226).

ص: 535

السجود مُقيَّدًا بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيّدًا ببعد السلام سجد له بعده، وما لم يَرِد تقييده بأحدهما كان مخيّرًا بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص؛ لما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا زاد الرجل أو نقص، فليسجد سجدتين". وجميع أسباب السجود لا تكون إلا زيادة أو نقصًا، أو مجموعهما. انتهى كلامه رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ثم بعد أن كتبت ما سبق رأيت لشيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله ترجيح ما رجّحته، أحببت إيراده هنا تكميلًا للفائدة، قال رحمه الله بعد إيراده المذاهب، وأدلتها:

وحينئذ فأظهر الأقوال الفرق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحرِّي، والشكِّ مع البناء على اليقين، وهذا إحدى الروايات عن أحمد، وقول مالك قريب منه، وليس مثله، فإن هذا مع ما فيه من استعمال النصوص كلِّها فيه الفرق المعقول، وذلك أنه إذا كان في نقص، كترك التشهد الأول احتاجت الصلاة إلى جبر، وجابرُها يكون قبل السلام؛ لتتم به الصلاة، فإن السلام هو تحليل من الصلاة، وإذا كان من زيادة كركعة، لم يُجمَع في الصلاة بين زيادتين، بل يكون السجود بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان بمنزلة صلاة مستقلة، جُبِر بها نقص صلاته، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل السجدتين كركعة.

وكذلك إذا شك وتَحَرَّى، فإنه أتم صلاته، وإنما السجدتان لترغيم الشيطان، فيكون بعد السلام، ومالك لا يقول بالتحرِّي، ولا بالسجود بعد السلام فيه.

وكذلك إذا سَلَّم، وقد بقي عليه بعض صلاته، ثم أكملها، فقد أتمها، والسلام منها زيادةٌ، والسجود في ذلك بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان.

وأما إذا شك، ولم يتبين له الراجح، فهنا إما أن يكون صلَّى أربعًا أو خمسًا، فإن كان صلّى خمسًا فالسجدتان يشفعان له صلاته؛ ليكون كأنه قد

(1)

"نيل الأوطار" 3/ 134.

ص: 536

صلّى ستّا لا خمسًا، وهذا إنما يكون قبل السلام، ومالك هنا يقول: يسجد بعد السلام.

فهذا القول الذي نصرناه، هو الذي يُستَعْمَل فيه جميع الأحاديث، لا يُترك منها حديثٌ، مع استعمال القياس الصحيح فيما لم يَرِدْ فيه نَصٌّ، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يُشبهه من المنصوص.

ومما يُوَضِّح هذا أنه إذا كان مع السلام سهوٌ سجد بعد السلام، فيقال: إذا زاد غير السلام من جنس الصلاة، كركعة ساهيًا، أو ركوع، أو سجود ساهيًا، فهذه زيادة لو تعمدها بطلت صلاته كالسلام، فإلحاقها بالسلام أولى من إلحاقها بما إذا ترك التشهد الأول، أو شك وبنى على اليقين.

وقول القائل: إن السجود من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام، يقال له: لو كان هذا صحيحًا لوجب أن يكون كلُّه قبل السلام، فلما ثبت أن بعضه بعد السلام، عُلِم أنه ليس جنسه من شأن الصلاة الذي يقضيه قبل السلام، وهذا معارَضٌ بقول من يقول: السجود ليس من موجب تحريم الصلاة، فإن التحريم إنما أوجب الصلاة السليمة، وهذه الأمور دعاوي لا يقوم عليها في ليل، بل يقال: التحريم أوجب السجود الذي يُجبَر به الصلاة.

ويقال: من السجود ما يكون جبره للصلاة إذا كان بعد السلام؛ لئلا يجتمع فيها زيادتان، ولأنه مع تمام الصلاة إرغام للشيطان، ومعارَضةٌ له بنقيض قصده، فإنه قصد نقص صلاة العبد بما أدخل فيها من الزيادة، فأُمر العبد أن يُرغِمه، فيأتي بسجدتين زائدتين بعد السلام؛ ليكون زيادة في عبادة اللَّه، والسجود للَّه، والتقرب إلى اللَّه الذي أراد الشيطان أن يَنقُصه على العبد، فأراد الشيطان أن ينقص من حسناته، فأمره اللَّه أن يُتِمَّ صلاته، وأن يُرغم الشيطان، وعفا اللَّه للإنسان عما زاده في الصلاة نسيانًا، من سلام، وركعة زائدة، وغير ذلك، فلا يأثم بذلك، لكن قد يكون تقرُّبه ناقصًا لنقصه فيما ينساه، فأمره اللَّه أن يُكَمِّل ذلك بسجدتين زائدتين على الصلاة، واللَّه أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تدارك سجود السهو:

ص: 537

رَوَى ابن أبي شيبة عن سلمة بن نُبيط، قال: قلت للضحّاك بن مُزاحم: إني سهوت، ولم أسجد، قال: ههنا فاسجد، وعن وضّاح، قال: سألت قتادة؟ فقال: يُعيد سجدتي السهو. وعن الحسن، وابن سيرين قالا: إذا صرف وجهه عن القبلة لم يسجد سجدتي السهو. وعن إبراهيم النخعي، قال: هما عليه حتى يخرج، أو يتكلّم. وعن حماد بن أبي سليمان في رجل نسي سجدتي السهو حتى يخرج من المسجد قال: لا يعيد. وقال ابن شُبرُمة: يعيد الصلاة. وعن الحكم أنه لقي ذلك، فأعاد الصلاة.

وروى عبد الرزاق عن الحسن في رجل نسي سجدتي السهو، قال: إذا لم يذكرهما حتى ينصرف لم يسجدهما، وقد مضت صلاته على الصحّة، وإن ذكرهما وهو قاعد لم يقم سَجَدَهما.

وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: نسيت سجدتي السهو، فتحدثتُ أو تكلمت، ولم أقم؟ قال: فاسجدهما، قلت: فإن قمتُ حين فرغت، ولم أتكلم، ثم ذكرت؟ قال: فاجلس فاسجدهما.

وعن علقمة أنه صلّى، فسها، ثم انفتل عن القبلة، فقال له رجل: إنك لم تسجد سجدتي السهو، فقال: كذلك؟ قال: نعم، فانحرف إلى القبلة، فسجدهما.

وأما الأئمة الأربعة ففي مذاهبهم تفاصيل قد استوعبها العلائيّ رحمه الله في كتابه المذكور ص 367 - 370.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يترجح عندي أن المصلِّي يَتدارَك سجود السهو، وإن انحرف عن القبلة، أو تكلم، أو خرج من المسجد، ناسيًا؛ لأنه ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سجد للسهو بعدما انحرف عن القبلة، وتكلم، ودخل حجرته، كما ستأتي الأحاديث المبيِّنة لذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التشهد والسلام بعد سجدتي السهو:

(اعلم): أنهم اختَلَفوا أيضا في سجود السهو، هل يعقبه تشهد وسلام أم لا؟ أم أحدهما؟ وهل يحتاج إذا وقع بعد السلام إلى تكبيرة الإحرام، أم لا؟.

ص: 538

فروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه يتشهد فيها، ويسلّم، وعن حماد بن أبي سليمان، والْحَكَم كذلك، وعن إبراهيم النخعيّ أيضًا، ورواه عبد الرزاق عن قتادة.

وقال آخرون: لا تشهّد بعدها، ولا تسليم، روى ابن أبي شيبة ذلك عن أنس بن مالك، والحسن البصري، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح على خلاف عنه.

وقال آخرون: يُسلّم بعدها، ولا يتشهّد، روي هذا عن سعد بن أبي وقّاص، وعمّار بن ياسر، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعن إبراهيم النخعي، والحسن البصري أيضًا، وحكاه ابن عبد البرّ عن ابن سيرين، وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: أحبّ إليّ أن يتشهّد فيهما. وحكى ابنُ عبد البرّ أيضًا عن يزيد بن قُسيط أنه يتشهّد بعدهما، ولا يسلّم، قال: وهو رواية أيضًا عن الحكم بن عُتيبة، وحماد، والنخعي.

فهذه أقوال المتقدمين.

وأما الأئمة الأربعة، فقال القاضي عياض رحمه الله: مذهب مالك: أنه إذا كانتا -يعني السجدتين- بعد السلام، فيتشهّد لهما، ثم يسلّم، ثم اختُلفَ عنه، هل يجهر بسلامهما الإمام كسائر الصلوات، أم يسرّ، ولا يجهر؟ واختُلف عنه، هل لهما تكبيرة إحرام أم لا؟ واختلف عنه، هل يتشهّد لهما إذا كانتا قبل السلام أم لا؟.

وأشار القرطبي إلى ترجيح القول باشتراط تكبيرة الإحرام إذا كانتا بعد السلام، لكن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام، وما يُتحلل منه بسلام لا بدّ من تكبير يُتَحرّم به كسائر الصلوات.

ومذهب أبي حنيفة أنه يتشهّد بعد سجدتي السهو، ثم يسلّم، ولا يحتاج عندهم إلى تكبيرة إحرام؛ لأنه لم يخرج بالسلام الذي قبل سجود السهو من الصلاة أصلًا.

هذا قول محمد بن الحسن، حتى قال: يجوز للمقتدي أن يأتمّ به ابتداء بعدما سلّم، ويكون كالمسبوق.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن سجد للسهو بعدما سلّم لم يكن خارجًا

ص: 539

من الصلاة بسلامه ذلك، وجاز أن يُؤتمّ به، وإن أعرض عن السجود، وكان بذلك السلام خارجًا من الصلاة، فلم يجز ربط القدوة به.

ويظهر فائدة الخلاف بينهم في انتقاض الطهارة بالقهقهة على أصلهم، واتفقوا على أنه لو سلّم يريد به قطع الصلاة لَغَت هذه الإرادة، وأتى بسجود السهو الذي عليه؛ لأن نيته تغيير للمشروع.

وقال أحمد رحمه الله: متى سجد قبل السلام لم يَحتج إلى تشهّد، وكان سلامه بعد السجود هو الذي يتحلل به من الصلاة، ليس معلّقًا بسجود السهو، وأما إذا سجد بعد السلام، فإنه يتشهد بعده، ثم يسلّم، ولم يذكر تكبيرة إحرام.

وأما مذهب الشافعيّ رحمه الله، فإن سجد قبل السلام، فلا تشهّد، ولا تسليم قطعًا، وإن سجد بعده ففيه تفاصيل لأصحابه قد ذكرها العلائى رحمه الله، وتركتها اختصارًا

(1)

.

وقد ذكر العلائي رحمه الله أدلتهم بعد ذكر أقوالهم، فقال:

أما تكبيرة التحريم فلم يأت ذكرها في حديث صريحًا، إلا أن حمّاد بن زيد روى عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث ذي اليدين أن النبيّ لمّا أتم الصلاة، وسلّم منها كبّر، ثم كبّر، وسجد للسهو. أخرجه أبو داود، وقال: إنها تفرّد بها هشام بن حسّان من رواية حماد بن زيد عنه، وقد رواه حماد بن سلمة، وأبو بكر بن عياش، عن هشام بن حسان لم يذكروا هذه اللفظة -أعني قوله:"كبّر، ثم كبّر"-.

وكذلك رواه عن ابن سيرين جماعة كثيرون فوق العشرة بدونها.

فالحاصل: أن هذه الزيادة شاذّة، وإن كان راويها ثقةً، ولكنه خالف فيها جماعة حُفّاظًا أكثر عددًا منه، فكانت مردودة.

والذي اعتمده القرطبي في اشتراط تكبيرة التحريم ما تكرر في روايات حديث ذي اليدين في "الصحيح" من قول أبي هريرة رضي الله عنه: فصلّى ركعتين، ثم كّبر، ثم سجد، ثم كبّر ورفع، ثم كبّر وسجد، ثم كبّر فرفع.

(1)

راجع: كتابه "نظم الفرائد"(ص 347 - 350).

ص: 540

قال: فعَطَفَ السجود على التكبير الأول بـ "ثم" التي تقتضي التراخي، ولو كان التكبير للسجود لكان معه مصاحبًا له، ولأتى الراوي به بالواو المقتضية للجمع، كما فعل في بقية انتقالات السجود.

قال العلائي: وهذا الاستدلال ليس بالظاهري القويّ، بل هو مُحْتَمِلٌ، أو قريب من الظهور.

وأقوى ما يُستدَل به لذلك ما ثبت عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- من التسليم بعد سجود السهو الذي فعله بعد السلام، كما ثبت هذا من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما عند مسلم.

والقاعدة تقتضي أن السلام لا يُتحلّل به إلا من عَقْد انعقد قبله بتحرّم، فهذا إذا انضمّ إلى ما قاله القرطبي أفاد قوّةً في تكبيرة الإحرام.

ولكن هذا إذا قلنا بأنه ليس في الصلاة الأولى، أما إذا جعلناه عائدًا إليها كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي فيما إذا سلم ناسيًا سجودَ السهو، وكمذهب أبي حنيفة في أن السلام الأول لم يُخرج به من الصلاة، إذ كان عليه سجودُ سهو، فلا معنى هنا لتكبيرة الإحرام، لكن القول بأنه لم يخرج من الصلاة بالتسليم الذي أَتَى به قصدًا بعيدٌ لا وجه له، وقد قال النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-:"وتحليلها التسليم"، فيحتاج من يقول بأنه لا يخرج من الصلاة إذا تعمد التسليم إلى دليل.

وأما التشهّد، فقد روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه جميعًا عن محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، أخبرني أشعث، عن ابن سيرين، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، أن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- صلى بهم، فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلّم، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

قال العلائي: أشعث هذا هو ابن عبد الملك الحُمراني، وثقه يحيى بن سعيد القطان، والنسائي وغيرهما، وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به، وقال يحيى بن معين: خرج حفص بن غياث إلى عَبّادان، فاجتمع إليه البصريون، فقالوا: لا تحدّثنا عن أشعث بن عبد الملك.

ولم يخرّج الشيخان له شيئًا في كتابيهما، لكن البخاري ذكره تعليقًا، وقد

ص: 541

ذكره ابن عديّ في كتابه "الكامل في الضعفاء"، لكنه لم يذكر شيئًا يدلّ على تليينه أكثر من قول أهل البصرة هذا، وفي كونه تضعيفًا نظر، لو انفرد، فكيف به مع توثيق يحيى بن سعيد القطان وغيره؟.

والذي اعتمده البيهقي في ردّ هذا الحديث أنه تفرّد به أشعث هذا، وقد رواه شعبة بن الحجاج، ووهيب بن خالد، وإسماعيل ابن عُلية، وحماد بن زيد، وهُشيم بن بَشير، ويزيد بن زريع، وعبد الوهاب الثقفي، كلهم عن خالد الحذّاء، من حديث عمران بن حُصين مطوّلًا ومختصرًا، ولم يذكر أحد منهم التشهّد بعد سجدتي السهو، فهذه الزيادة شاذّة مخالفة للثقات الحُفّاظ المتقنين، فكانت مردودة، هذا لو كان أشعث مقاومًا لمن ذكر، فكيف، وهو دونهم في الإتقان والحفظ بكثير؟، وقد مُسّ أيضًا، وهذا وحده كاف في ردّ زيادة التشهّد.

ويدلّ عليه أيضًا ما ثبت من طُرُق عديدة عن ابن سيرين في حديث ذي اليدين بعد سياقه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ونُبِّئتُ عن عمران بن حصين أنه قال: ثم سلّم، فلم يذكر مع السلام تشهّدًا، وهو هنا راوي هذا الحديث، فلو كان محفوظًا عنده لذكره ولو مرًّة واحدة.

وفي "صحيح البخاري" عن حماد بن زيد قال سلمة بن علقمة: قلت لمحمد -يعني ابن سيرين-: في سجدتي السهو تشهّد؟ قال: ليس في حديث أبي هريرة، ولفظ الإسماعيلي: لم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئًا، وأحبّ إليّ أن يتشهّد.

وفي سنن البيهقي من حديث محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي ليلى، حدثني الشعبي، عن المغيرة بن شعبة: أن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- تشهّد بعد أن رفع رأسه من سجدتي السهو.

قال البيهقي: وهذا تفرّد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الشعبي، ولا يُفرح بما تفرد به.

ثمّ روى من حديث محمد بن سلمة، عن خُصَيف، عن أبي عُبيدة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث، أو أربع، وأكثر ظنك على أربع تشهّدت، ثم سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلّم، ثم تشهّدت أيضًا، ثم سلّمت".

ص: 542

ثم قال البيهقي: وهذا غير قويّ، ومختلف في رفعه ووقفه.

قال العلائي: خُصيف الجزري تقدم أن أحمد بن حنبل ضعّفه، وقال مرًّة: ليس بقويّ، وقال أبو حاتم: تُكُلّم في سوء حفظه.

وتقدّم أيضًا أن أبا عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود لم يسمع من أبيه شيئًا؛ لأنه كان صغيرًا جدًّا في حياته، قال عمرو بن مرّة: سألت أبا عُبيدة: هل تذكر من عبد اللَّه شيئًا؟، قال: لا.

وأما حديث المغيرة، ففيه ابن أبي ليلى، كما قال البيهقي، وهو القاضي الفقيه محمد بن عبد الرحمن كان يحيى بن سعيد يضعّفه، وقال فيه أحمد بن حنبل: سيئ الحفظ مضطرب الحديث، وفقهه أحبّ إلينا من حديثه، وقال ابن معين: ليس بذاك، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: كان سيئ الحفظ شُغل بالقضاء، فساء حفظه، ومع ذلك فقال فيه: محله الصدق، وكذلك قال فيه العجلي: كان صدوقًا جائز الحديث، وقد أثنى عليه جماعة.

قال العلائي: فقد يقال: إن هذه الأحاديث الثلاثة باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن، وُيحتجّ بها، وهذا ليس ببعيد، ولكن قال ابن عبد البرّ: أما التشهّد في سجدتي السهو فلا أحفظه من وجه صحيح عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، وكذلك قال النووي: إنه لا يثبت في التشهّد حديث، فاللَّه أعلم. انتهى كلام العلائي رحمه اللَّه تعالى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن زيادة التشهّد في أحاديث السهو لا يثبُت؛ لمخالفة من زادها لجماعة الحفّاظ، مع أنهم قد تُكلّم فيهم، وقد كنت رجّحت في "شرح النسائيّ" ثبوتها، لكن الآن ترجّح لي هذا، كما قاله ابن عبد البرّ، والنوويّ، وأقرهما العلائيّ، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[1270]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

(1)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

ص: 543

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبله.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ) بإسناد الزهريّ السابق، نحو حديثه، وهو: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: أما رواية سفيان بن عيينة، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7244)

حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، يبلغ به النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-:"يأتي أحدكم الشيطان، وهو في صلاته، فيُلْبِس عليه، حتى لا يدري كم صلّى؟ فمن وجد من ذلك شيئًا، فليسجد سجدتين، وهو جالس". انتهى.

وأما رواية الليث، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(363)

حدّثنا قتيبة، حدّثنا الليث، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته، فيلبس عليه، حتى لا يدري كم صلّى؟، فإذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين، وهو جالس"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1271]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي

(2)

أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 544

هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا نُودِيَ بِالْأَذَانِ، أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، لَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِيَ الْأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ يَخْطُرُ

(1)

بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصري، سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ. ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِير) الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقة ثبتٌ، يُدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقيان ذكرا قبل حديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة، وقد مرّ ذكرهم غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى يحيى، والباقيان مدنيّان.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: يحيى، عن أبي سلمة.

6 -

(ومنها): أن أبا سلمة ممن اشتَهَر بكنيته، والأصحّ أنها اسمه، وقيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل، وهو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

(1)

وفي نسخة: "أقبل حتى يخطر".

ص: 545

شرح الحديث:

(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ، أنه قال:(حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ) أي حدّث أبا سلمة ومن معه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا نُودِيَ بِالْأَذَانِ) أي بألفاظ الأذان المعهودة (أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ) الإدبار: نقيض الإقبال، يقال: دَبَر النهار دُبُورًا، من باب قَعَد: إذا وَلَّى، وانصرَمَ

(1)

، وأدبر بالألف مثله، والألف واللام في "الشيطان" للعهد، والمراد الشيطان المعهود، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": الظاهر أن المراد بالشيطان إبليس، ويَحْتَمِل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل مُتَمَرِّد من الجنّ والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجنّ خاصة. انتهى

(3)

.

(لَهُ ضُرَاطٌ) جملة في محل نصب على الحال من "الشيطان"، و"الضُّرَاط" -بالضم- اسم من ضَرِطَ يَضْرَطُ، من باب تَعِبَ، ضَرِطًا، مثل كَتِفٍ، فهو ضَرِطٌ، وضَرَطَ، ضَرْطًا، من باب ضَرَب لغةٌ، قاله في "المصباح"، وهو: ريحٌ له صوت، يَخْرُج من دُبُر الإنسان، وغيره. قاله في "المنهل"

(4)

.

ثم إن خروج الضُّرَاط من الشيطان حقيقةٌ، كما قاله القاضي عياض رحمه الله؛ لأنه جسم يأكل ويشرب، كما جاء ذلك في الأخبار الصحيحة.

وقال العينيّ رحمه الله: هذا تمثيل لحال الشيطان عند هُرُوبه من سماع الأذان بحال من خَرَقه أمر عظيم، واعتراه خَطْبٌ جسيم، حتى لم يزل يَحْصُل له الضُّراط من شدّة ما هو فيه؛ لأن الواقع في شدّة عظيمة؛ من خوف، وغيره تسترخي مفاصله، ولا يَقْدِر على أن يَمْلِك نفسه، فينفتح منه مخرج البول والغائط.

ولما كان الشيطان لعنه اللَّه يعتريه شدة عظيمة، وداهية جسيمة عند النداء إلى الصلاة، فيهرُب حتى لا يسمع الأذان؛ شُبِّه حاله بحال ذلك الرجل، وأُثبت له على وجه الادّعاء الضُّراط الذي يَنشأ من كمال الخوف الشديد، وفي

(1)

راجع: "المصباح" 1/ 188 - 189.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 111.

(3)

"الفتح" 2/ 102.

(4)

"المنهل العذب المورود" 4/ 175.

ص: 546

الحقيقة ما ثَمَّ ضُراطٌ، ولكن يجوز أن يكون له ريحٌ؛ لأنه رُوحٌ، ولكن لم تُعْرَف كيفيته.

وقال الطيبيّ رحمه الله: شُبِّهَ شَغْل الشيطان نفسَهُ عند سماع الأذان بالصوت الذي يملؤ السمعَ، ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضُرَاطًا تقبيحًا له انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله العينيّ، ونقله أيضًا عن الطيبيّ، من نفي حقيقة الضراط، وأن الكلام مجازٌ خرج مخرج التمثيل فقط، غير صحيح؛ لأنه من التعسّف، وتأويل النصّ دون حاجة، بل الصواب أن الضراط ثابت حقيقةً، كما أثبته هذا الحديث الصحيح، وأيُّ مانع يَمنع منه؟، حتى يُحرَّف النص الصريح عن ظاهره، فما سبق عن القاضي عياض رحمه الله هو الحقّ، فتبصر بالإنصاف، واللَّه الهادي إلى الصواب.

(حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْأَذَانَ) علّة للضُّراط، أي إنما يفعل ذلك ليَشْغَل نفسه عن سماع الأذان؛ لئلا يَشْهَد للمؤذن يوم القيامة، لما في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يَسْمَع مَدَى صوت المؤذِّن جنّ، ولا إنسٌ، ولا شيءٌ، إلا شَهِدَ له يوم القيامة"، رواه البخاريّ، وهو داخل فيه، وقيل: حتى غاية لإدباره، قاله في "العمدة".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الوجه الأول أقرب إلى المعنى؛ إذ الظاهر في سبب هروبه عن الأذان، مع أنه لا يَهْرُب عن القرآن، وهو أفضل من الأذان: هو الابتعاد عن إلزامه الشهادة للمؤذن، كما دلّ عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه المذكور، فيكون خروج الضُّراط منه حين هروبه من أجل خوفه، وُصُولَ صوت المؤذّن إليه خلال هُرُوبه، ودخوله في أذنه، فظهر كون قوله:"حتى لا يسمع" علة للضراط، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قوله: "حتى لا يسمع الأذان"، ظاهره أنه يتعَمَّد إخراج ذلك، إما لِيَشْتَغِل بسماع الصوت الذي يُخرِجه عن سماع المؤذن، أو يَصْنَع ذلك استخفافًا، كما يفعله السفهاء.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 111.

ص: 547

ويَحْتَمِل أن لا يتعمد ذلك، بل يَحصُل له عند سماع الأذان شدّة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها. ويَحْتَمِل أن يتعمد ذلك، ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث.

واستُدِلَّ به على استحباب رفع الصوت بالأذان؛ لأن قوله: "حتى لا يسمع" ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد وقع بيان الغاية في رواية للمصنّف تقدّمت في "الأذان" من حديث جابر رضي الله عنه، فقال:"حتى يكون مكان الرَّوْحَاء"، وحَكَى الأعمش عن أبي سفيان، راويه عن جابر أن بين المدينة والرَّوْحاء ستة وثلاثين ميلًا.

هذه رواية قتيبة، عن جرير، عند مسلم، وأخرجه عن إسحاق، عن جرير، ولم يسق لفظه، ولفظ إسحاق في مسنده:"حتى يكون بالرَّوْحاء، وهي ثلاثون ميلًا من المدينة"، فأدرجه في الخبر، والمعتمد رواية قتيبة. انتهى

(1)

.

(فَإذَا قُضِيَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(الْأَذَانُ) أي فُرغ منه، والقضاء يأتي لمعان كثيرة، فهو هنا بمعنى الفراغ، يقال: قضيت حاجتي، أي فرغت منها، وانتهيت من أمرها (أَقْبَلَ) أي توجه إلى المصلِّي حتى يُلَبّس عليه صلاته (فَإاذَا ثُوِّبَ بِهَا) -بضم المثلّثة، وتشديد الواو المكسورة، مبنيًّا للمفعول-: أي أُقيم للصلاة، والتثويب هنا بمعنى الإقامة.

ومعنى التثويب في الأصل: الإعلام بالشيء، والإنذار بوقوعه، وأصله أن يُلَوّح الرجل لصاحبه بثوبه، فيديره عند أمر يُرْهِقه من خوف، أو عدوّ، ثم كَثُر استعماله في كل إعلام يُجهَر به، وإنما سميت الإقامة تثويبًا؛ لأنه عَوْد إلى النداء، من ثاب إلى كذا: إذا عاد إليه. أفاده في "العمدة"

(2)

.

(أَدْبَرَ) أي ولّى الشيطان حتى لا يسمع التثويب (فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ، أَقْبَلَ يَخْطُرُ) وفي نسخة: "حتى يَخْطِر"، وهو: -بضم الطاء وكسرها- لغتان، حكاهما القاضي عياض في "المشارق"، قال: ضبطناه عن المتقنين بالكسر، وسمعناه من أكثر الرواة بالضم، قال: والكسر هو الوجه، ومعناه: يوسوس،

(1)

"الفتح" 2/ 102.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 112.

ص: 548

وقد تقدّم تمام البحث فيه في كتاب "الصلاة"

(1)

. (بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ) أي قلبه، يعني أنه يحول بين المرء، وبين ما يريده من إقباله على صلاته، وإخلاصه فيها.

قال في "العمدة": وبهذا التفسير -يعني تفسير النفس بالقلب- يحصل الجواب عما قيل: كيف يُتَصَوَّر خطوره بين المرء ونفسه، وهما عبارتان عن شيء واحد؟ وقد يجاب بأن يكون تمثيلًا لغاية قربه منه. انتهى

(2)

.

(يَقُولُ: اذْكرْ كَذَا، اذْكرْ كَذَا) هو كناية عن أشياء غير متعلّقة بالصلاة، وكرّره للتأكيد (لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ) أي لشيء لم يكن يتذكّره المصلّي قبل دخوله في الصلاة، وزاد في رواية عبد ربه، عن الأعرج التالية:"فَهَنَّاه، ومَنَّاهُ، وذَكَّره من حاجته ما لم يَذْكُرْ".

(حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى) أي كي يصير الرجل لا يعلم كم صلّى، فـ "حتى" غاية لوسوسة الشيطان، و"يظلّ" بالظاء، من باب تَعِب، أي يصير، و"إن" بكسر الهمزة نافية، و"يدري" بمعنى يعلم، أي إنه يوسوس للرجل حتى يصير لا يعلم كم صلّى من الركعات، أثلاثًا، أم أربعًا؟.

(فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) فيه أنه لا زيادة على السجدتين، وإن سها عن أمور متعدّدة.

(وَهُوَ جَالِسٌ") أي حال كونه جالسًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّمت مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1272]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(3)

حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- قَالَ:"إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، وَلَّى وَلَهُ ضُرَاطٌ"، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ:"فَهَنَّاهُ، وَمَنَّاهُ، وَذَكَرَهُ مِنْ حَاجَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ").

(1)

راجع: شرح الحديث رقم [8/ 865](389).

(2)

"عمدة القاري" 5/ 112.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 549

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيد) بن قيس الأنصاريّ النجّاريّ، أخو يحيى المدنيّ، ثقةٌ [5].

رَوَى عن جدّه قيس، وأبي أُمامة بن سهل بن حُنيف، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن المنكدر، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، ومَخْرَمة بن سليمان، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وعبد الرحمن الأعرج، وغيرهم.

ورَوَى عنه عطاء، وهو أكبر منه، وأيوب السختيانيّ، وهو من أقرانه، وعمرو بن الحارث، وما لك، والليث، وشعبة، والسفيانان، والمبارك بن فَضَالة، وحماد بن سلمة، وابن لَهِيعة.

قال ابن المدينيّ، عن يحيى بن سعيد القطان: كان وقّادًا حَيّ الفُؤاد، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقة مدنيّ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة مأمونٌ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: لا بأس به، قلت: يُحْتَجّ بحديثه؟ قال: هو حسن الحديث، ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: هو الذي يقال له: عبد ربه المدنيّ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، دون أخيه يحيى، وقال أبو عوانة: هو أعزّ إخوته حديثًا.

قال عمرو بن عليّ، وغير واحد: مات سنة تسع وثلاثين ومائة، وقال خليفة، وابن قانع، وغيرهما: مات سنة (140).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث، برقم (389) و (763) و (1108) و (1109) وأعاده بعده، و (2194) و (2204) و (2261) وكرّره ثلاث مرات.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقة ثبت فقيهٌ [7](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقون تقدّموا قبل باب، و"عمرو": هو ابن الحارث.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عبد الرحمن الأعرج، أي ذَكَر عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث أبي سلمة، عنه.

وقوله: (فَهَنَّاهُ، وَمنَّاهُ) الأول من التهنئة، خُفِّف لأجل قرينه، وهو منّاه،

ص: 550

وهو من التمنية، أي فذكّره الْمَهَانِئ، والأَمَانِيّ، قال ابن الأثير رحمه الله: والمراد به ما يَعْرِض للإنسان في صلاته من أحاديث النفس، وتسويل الشيطان، يقال: هَنَأَنِي الطَّعَامُ يَهْنَؤُنِي، وَيهْنِئُنِي، وَيهْنَأُنِي، وهَنَأْتُ الطعامَ: أي تَهَنَّأْتُ بِهِ، وكلُّ أمر يأتيك من غير تَعَبٍ فهو هَنِيءٌ، وكذلك الْمَهْنَأُ، والْمُهَنَّأُ، والجمع الْمَهَانِئُ، هذا هو الأصلُ بالهمز، وقد يُخَفَفُ، وهو في هذا الحديث أشبه؛ لأجل "مَنَّاهُ". انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: هَنُؤَ الشيءُ بالضمّ مع الهمز هَنَاءَةً بالفتح والمدّ: تَيَسَّرَ، من غير مشقّة، ولا عَنَاءً، فهو هَنِئٌ، ويجوز الإبدال والإدغام، وهَنَأَنِي الولدُ يَهْنَؤُنِي مهموز، من بابي نَفَعَ وضرَب، وتقول العرب في الدعاء: لِيَهْنِئْكَ الولد بهمزة ساكنة، وبإبدالها ياءً، وحذفُها عاميٌّ، ومعناه: سَرَّنِي، فهو هانِئٌ، وبه سُمِّي، وهَنَاتُهُ هَنْئا باللغتين أعطيته، أو أطعمته، وهَنَأَنِي الطعامُ يَهْنَؤُنِي: ساغ، ولَذَّ، وأكلته هَنِيئًا مَرِيئًا: أي بلا مَشَقَّة، وَيهْنُؤُ بضم المضارع في الكلّ لغةٌ، قال بعضهم: وليس في الكلام يَفْعُل بالضم مهموزًا مما ماضيه بالفتح غيرُ هذا الفعل، وهَنَّأتُهُ بالولد بالتثقيل، وباسم المفعول سُمِّيَ. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: رواية الأعرج التي أحالها المصنّف هنا على رواية أبي سلمة، ساقها الحافظ أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 166) فقال:

(1248)

حدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرة بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان إذا ثُوِّب بالصلاة وَلَّى وله ضُرَاطٌ، فإذا فُرخ منها رجع يلتمس الخلاط، فيأتي الإنسانَ

(3)

فَهَنَّاه ومَنّاه، وذَكَّره من حاجاته ما لم يكن يذكر، حتى لا يدري كم صلّى؟ ". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"النهاية" 5/ 277.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 642.

(3)

وقع في النسخة بلفظ: "الأنساب" بالباء بدل "الإنسان"، وهو تصحيف، فتنبّه.

ص: 551

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1273]

(570) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ، قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ، فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ بُحَيْنَةَ) هو: ابن مالك بن الْقِشْب

(2)

الأزديّ، أبو محمد، حليف بني المطّلب المعروف بابن بُحَينة

(3)

، وهي أمه، صحابيّ معروفٌ، مات رضي الله عنه بعد (50)(ع) تقدم في "الصلاة" 46/ 1110.

[تنبيه]: بُحَينة -بالتصغير- أم عبد اللَّه، وهي: بنت الحارث بن عبد المطّلب بن عبد مناف، فينبغي كتابة "ابن بُحينة" بالألف؛ لئلا يلتبس بالأب، وإذا نُسب إليهما، كما في السند الثالث، كتب: عبد اللَّه بن مالكٍ ابنُ بُحَينة، بتنوين مالكٍ، وبالألف في "ابن بُحينة"؛ ليندفع الوهم، ويُعرَف أن "ابن بُحينة" نعتٌ لعبد اللَّه، لا لمالك، وهكذا ينبغي أن تُحفظ هذه القاعدة، فيما أشبه هذا، مثل محمد ابن الحنفية، وإسماعيل ابن عُليّة، ونحو ذلك، واللَّه تعالى أعلم

(4)

.

والباقون تقدّموا أول الباب، والأعرج في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والقراءة، والعنعنة.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

بكسر القاف، وسكون المعجمة، بعدها موحّدة.

(3)

بضمّ الموحّدة، مصغّرًا.

(4)

راجع: "المرعاة" 3/ 419 - 420.

ص: 552

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخلها.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ) وفي رواية البخاري: حدثني عبد الرحمن بن هُرمز مولى بني عبد المطلب، وقال مرة: مولى ربيعة بن الحارث. انتهى.

قال في "الفتح": ولا تنافي بينهما؛ لأنه مولى ربيعة بن عبد المطلب، فذكره أوّلًا بجدّ مواليه الأعلى، وثانيًا بمولاه الحقيقي. انتهى.

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ) وفي رواية للبخاري: "أن عبد اللَّه ابن بحينة، وهو من أَزْدَ شَنُوءة، وهو حليف لبني عبد مناف، وكان من أصحاب النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- (قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي دخل في الصلاة (رَكْعَتَيْنِ، مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ) هي الظهر، لما في الرواية التالية من طريق الليث، عن ابن شهاب: "قام في صلاة الظهر، وعليه جلوسٌ" (ثُمَّ قَامَ، فَلَمْ يَجْلِسْ) أي في الركعة الثانية، وفي رواية يحيى بن سعيد، عن الأعرج الآتية: "قام في الشفع الذي يُريد أن يَجلِس في صلاته"، وزاد في رواية ابن خزيمة: "فسبّحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته"، وفي حديث معاوية عند النسائيّ، والبيهقيّ، وعقبة بن عامر عند الحاكم والبيهقيّ جميعًا نحو هذه القصّة بهذه الزيادة، وفيه دليلٌ على أن تارك الجلوس الأول إذا قام لا يرجع له.

(فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ) أي إلى الثالثة؛ اتّباعًا لفعله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليلٌ على وجوب متابعة الإمام حيث ترك القعود الأول وتشهُّده (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ) أي فرغ منها وأتمّها، وقد استُدلّ به لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس، وقبل أن يُسلم تمّت صلاته، وهو قول بعض الصحابة والتابعين، وبه قال الحنفيّة، كما سيأتي.

وتُعُقّب بأن السلام لَمّا كان للتحلّل من الصلاة كان المصلّي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته، ويدلّ على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة

ص: 553

من الثقات عن يحيى بن سعيد، عن الأعرج:"حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يُسلّم"، فدلّ على أن بعض الرواة حذف الاستثناء؛ لوضوحه، والزيادة من الثقات الحفاظ مقبولة، كذا في "الفتح".

وقيل: معناه: قارب الفراغ من الصلاة، وقال الباجيّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يُراد بالصلاة الدعاء، والصلاة على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فيكون لفظ "قَضى" على حقيقته. انتهى.

(وَنَظَرْنَا) أي انتظرنا (تَسْلِيمَهُ) لظنّهم أنه لا يسجد للسهو؛ لعدم تقدّم علمهم بذلك (كبَّرَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) أي للسهو بعد التشهّد، وفي رواية الليث التالية:"فلما أتمّ صلاته سجد سجدتين، يُكبّر في كلّ سجدة"، وفي رواية لأحمد:"فكبّر فسجد، ثم كبّر فسجد، ثمّ سلّم"، قال في "الفتح": وفي رواية الأوزاعيّ: "فكبّر ثم سجد، ثم كبّر فرفع رأسه، ثم كبّر فسجد، ثم كبّر فرفع رأسه، ثم سلّم"، أخرجه ابن ماجه، واستُدلّ به على مشروعيّة التكبير في سجدتي السهو والجهر به، كما في غيرهما من سجود الصلاة، وأن بينهمما جلسة فاصلةً. انتهى.

(وَهُوَ جَالِسٌ) جملة حاليّة (قَبْلَ التَّسْلِيمِ) زاد في رواية الليث: "وسجدهما الناس معه مكان ما نَسِيَ من الجلوس"(ثُمَّ سَلَّمَ) وفي رواية البخاريّ: "ثم سلّم بعد ذلك"، أي سلّم للانصراف من الصلاة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه ابن بُحينة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 1273 و 1274 و 1275](570)، و (البخاريّ) في "الأذان"(829) و"السهو"(1224 و 1230) و"الأيمان والنذور"(6670)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1034 و 1035)، و (الترمذيّ) فيها (391)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1206)، و (النسائيّ) في "السهو"(1177 و 1178 و 1222 و 1223 و 1261) وفي "الكبرى" (765 و 766

ص: 554

و 1145 و 1146 و 1184)، و (مالك) في "الموطأ"(81)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3449 و 3450)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 30)، و (الحميدي) في "مسنده"(903)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 99) و (5/ 345 و 346)، و (الدارميّ) في "سننه"(1507 و 1508)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1029 و 1030 و 1031)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1938 و 1939 و 1941)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 438)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1908 و 1909 و 1910 و 1911 و 1912)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1250 و 1251 و 1252)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 333 و 334 و 343)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(757)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة سجود السهو في الصلاة.

2 -

(ومنها): ما قاله ابن القيّم رحمه الله: كان سهوه صلى الله عليه وسلم في الصلاة من تمام نعمة اللَّه على أمته، وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في "الموطّأ":"إنما أَنْسَى، أو أُنَسَّى لأَسُنَّ"

(1)

، وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فيترتّب على سهوه أحكام شرعيّةٌ تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة. انتهى.

3 -

(ومنها): بيان أن ترك التشهّد الأول لا يبطل الصلاة، قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث ما نصّه: في قيام الناس خلف المصطفى صلى الله عليه وسلم عند قيامه من موضع جلسته الأولى، وتركه الإنكار عليه ذلك أبينُ البيان على أن القعدة الأولى في الصلاة غير فرض. انتهى

(2)

. وسيأتي اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

4 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على أن سجود السهو قبل السلام، قال في "الفتح": ولا حجة فيه في كون جميعه كذلك، نعم يُرَدُّ به على من زعم أن

(1)

هذا أحد الأحاديث الأربعة المنقطعة التي لا توجد موصولة لا في "الموطأ"، ولا في غيره، كما قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله.

(2)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 266.

ص: 555

جميعه بعد السلام، كالحنفيّة، وقد تقدّم تحقيق ذلك، فلا تكن من الغافلين.

5 -

(ومنها): أنه استُدلّ بقوله: "مَكَان ما نَسِيَ من الجلوس" على أن السجود خاص بالسهو، فلو تَعَمَّد ترك شيء مما يُجْبَر بسجود السهو لا يسجد، وهو قول الجمهور، ورجّحه الغزالي، وناس من الشافعية.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يَسْهُ المأموم، ونقل ابن حزم فيه الإجماع، لكن استثنَى غيره ما إذا ظن الإمام أنه سها، فسجد، وتحقَّقَ المأموم أن الإمام لم يَسْهُ فيما سجد له، وفي تصويرها عُسْرٌ، وما إذا تبين أن الإمام مُحْدِث، ونقل أبو الطيب الطبري أن ابن سيرين استثنى المأموم أيضًا، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذه الاستثناءات محل نظر، لمن تأمل، واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): أن سجود السهو لا تشهُّد بعده إذا كان قبل السلام.

8 -

(ومنها): أن من سها عن التشهّد الأول حتى قام إلى الثالثة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سَبَّحُوا به صلى الله عليه وسلم، فلم يرجع، فلو تعمَّد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي، خلافًا للجمهور.

9 -

(ومنها): أن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيما طريقه التشريع.

10 -

(ومنها): أن محلّ سجود السهو آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهّد ساهيًا أعاد عند من يوجب التشهُّد الأخير، وهم الجمهور، وهو الحقّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم التشهُّد الأول:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله: "باب من لم يَرَ التشهُّد الأول واجبًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين، ولم يرجع". انتهى.

قال الزين ابن المُنَيّر رحمه الله: ذَكَرَ في هذه الترجمة الحكم ودليله، ولم يَبُتَّ الحكم مع ذلك، كأن يقول: باب لا يجب التشهُّد الأول، وسببه ما يَطْرُق الدليلَ المذكور من الاحتمال. انتهى.

ص: 556

وقال الحافظ رحمه الله: ووجه الدلالة من حديث الباب أنه لو كان واجبًا لرجع إليه لَمّا سَبَّحُوا به بعد أن قام.

وقال ابن بطال رحمه الله: والدليل على أن سجود السهو لا ينوب عن الواجب أنه لو نَسِي تكبيرة الإحرام لم تُجْبَر، فكذلك التشهُّد، ولأنه ذِكْرٌ لا يُجْهَر به بحال، فلم يجب كدعاء الافتتاح.

واحتَجَّ غيره بتقريره صلى الله عليه وسلم الناس على متابعته بعد أن عَلِمَ أنهم تعمدوا تركه، وفيه نظر.

وممن قال بوجوبه الليث، وإسحاق، وأحمد في المشهور، وهو قول للشافعيّ، وفي رواية عند الحنفية.

واحتَجَّ الطبري لوجوبه بأن الصلاة فُرِضت أوّلًا ركعتين، وكان التشهّد فيها واجبًا، فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلةً لذلك الواجب.

وأجيب بأن الزيادة لم تتعين في الأخيرتين، بل يَحْتَمِل أن يكونا هما الفرض الأول، والمزيد هما الركعتان الأولتان بتشهدهما، ويؤيِّده استمرار السلام بعد التشهّد الأخير كما كان.

واحتَجَّ أيضًا بأن من تعمَّد ترك الجلوس الأول بطلت صلاته، وهذا لا يَرِدُ؛ لأن من لا يوجبه لا يبطل الصلاة بتركه. انتهى ما في "الفتح" ملخصًا.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يترجَّح عندي ما ذهب إليه من قال بوجوب التشهّد الأول؛ للأمر به في حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: "فإذا جلست في وسط الصلاة، فاطمئنّ، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهّد"، رواه أبو داود، والأمر للوجوب، ولمواظبته صلى الله عليه وسلم عليه، ؤلحديث ابن مسعود رضي الله عنه:"كنا نقول في الصلاة قبل أن يُفرض التشهّد. . . " الحديث، متّفقٌ عليه.

والحاصل أن التشهُّد الأول واجب كالأخير؛ للأدلّة المذكورة، فتبطل الصلاة بتركه عمدًا، ويسجد للسهو إن تركه سهوًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيمن نَسِيَ التشهد الأول:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله في كتابه "الأوسط":

ص: 557

الذي عليه أكثر أهل العلم اتَّبَاع ظاهر خبر ابن بُحَينة، يقولون: إذا قام المصلِّي من الركعتين الأوليين، فإن ذكر بعد أن يستوي قائمًا لم يرجع إلى الجلوس، ومضى في صلاته، وسجد سجدتي السهو.

وممن روينا عنه أنه فعل ذلك عمر بن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وابن الزبير، والضحّاك بن قيس، والنعمان بن بشير، وابن مسعود رضي الله عنهم.

وقد اختلف أهل العلم فيمن فعل ذلك:

فقالت طائفة: إذا ذَكَرَ، ولم يستتمّ قائمًا جلس، هذا قول علقمة، والضحّاك، وقتادة، والأوزاعي، والشافعيّ، ورُوي ذلك عن مكحول، وعمر بن عبد العزيز، غير أن الشافعيّ يرى إذا رجع إلى الجلوس أن يسجد سجدتي السهو، وفي قول علقمة، والأوزاعيّ: لا يسجد.

وقالت طائفة: إن ذَكَر ساعةَ يقومُ جلس، كذلك قال حمّاد بن أبي سليمان، وقال النخعي: يقعد ما لم يستفتح بالقراءة.

وقالت طائفة: إن المصلِّي إذا فارقت أَلْيَتُهُ الأرضَ، وناء

(1)

للقيام مَضَى كما هو، ولا يرجع حتى يجلس في الرابع، ثمّ يسجد سجدتي السهو قبل السلام، كذلك قال مالك بن أنس، وقال حسّان بن عطيّة: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مَضَى.

وقالت طائفة: يقعد، وإن قرأ ما لم يركع، قال الحسن البصري: يقعد، وإن قرأ ثمانين آية، ما لم يركع. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الراجح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو أن من قام من الركعتين الأوليين، وعليه جلوس لا يرجع إلى الجلوس، بل يمضي في صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام، ثم يسلم؛ لصحة حديث عبد اللَّه ابن بحينة رضي الله عنه المذكور في الباب في ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

قال ابن المنذر رحمه الله: وقد اختُلف فيمن ذَكَرَ، وقد نهض للقيام قبل أن يستوي قائما، فجلس:

فرأت طائفة أن يسجد سجود السهو، رُوي ذلك عن النعمان بن بشير، وأنس بن مالك، وبه قال الثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي.

(1)

يقال: ناء ينوء، كقال يقول: إذا نهض، قاله من "المصباح" 2/ 632.

ص: 558

وأسقطت طائفة عنه سجود السهو، كان علقمة، والنخعي، والأوزاعي لا يرون عليه سجود السهو. انتهى كلام ابن المنذر رحمه اللَّه تعالى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي الراجح المذهب الأول، وهو أنه يسجد للسهو، لحديث معاوية رضي الله عنه مرفوعًا:"من نسي من صلاته شيئًا، فليسجد مثل هاتين السجدتين"، رواه أحمد في "مسنده" 4/ 100 بإسناد حسن.

فقوله: "شيئًا" نكرة في سياق الشرط، فيعمّ قليل السهو وكثيره، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1274]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْأَسْدِيِّ، حَلِيفِ بَني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، يُكَبِّرُ

(1)

فِي كُلِّ سَجْدَةٍ، وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ، وكلهم تقدّموا في الباب.

وقوله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْأَسْدِيِّ) بسكون السين المهملة، ويقال فيه: الأزديّ، كما ذكره في الرواية الأخرى، والأَزْدُ والأَسْدُ بإسكان السين: قبيلة واحدةٌ، وهما اسمان مترادفان لها، وهم أَزْدَ شَنُوءَةَ، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في نسخ صحيح البخاريّ ومسلم، والذي ذكره ابن سعد وغيره من أهل السِّيَر والتواريخ أنه خَلِيِف بني المطَّلِب، وكان جدّه حالف المطلب بن عبد مناف.

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "ويكبر".

(2)

"شرح النووي" 5/ 59.

ص: 559

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1275]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْأَزْدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي الشَّفْعِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَجْلِسَ فِي صَلَاتِهِ، فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ: في آخِرِ الصَّلَاةِ، سَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(حَمَّاد) بن زيد بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) عن (81)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيد) بن قيس الأنصاريّ النجّاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْأَزْدِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: الصواب في هذا أن يُنَوَّن مالكٌ، ويُكْتَب "ابن بُحينة" بالألف؛ لأن عبد اللَّه هو ابن مالك، وابنُ بُحينة، فمالك أبوه، وبُحينة أمه، وهي زوجة مالك، فمالك أبو عبد اللَّه، وبُحينةُ أم عبد اللَّه، فإذا قُرئ كما ذكرناه انتظم على الصواب، ولو قرئ بإضافة مالك إلى "ابن" فَسَدَ المعنى، واقتضى أن يكون مالك ابنًا لبحينة، وهذا غلطٌ، وإنما هو زوجها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو حسنٌ، وقد أسلفت البحث عنه قريبًا، فلا تنس نصيبك، وباللَّه تعالى التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، ومسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1276]

(571) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ،

ص: 560

فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَح الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا، شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ، كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلميّ، أبو عبد اللَّه الْقَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(مُوسَى بْنُ دَاوُدَ) الضبّيّ، الْخلْقَانيّ -بضم الخاء المعجمة، وسكون اللام، بعدها قاف- أبو عبد اللَّه الطّرَسُوسيّ، كوفيّ الأصل، سكن بغداد، صدوقٌ فقيهٌ زاهدٌ، له أوهام، من صغار [9].

ورَوَى عن جرير بن حازم، ومُبارك بن فَضَالة، ونافع بن عمر الْجُمَحيّ، ويزيد بن إبراهيم التستُريّ، ومالك، والثوريّ، وشعبة، وسليمان بن بلال، وقيس بن الربيع، ومحمد بن مسلم الطائفيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه محمد بن أحمد بن أبي خَلَف، وعليّ ابن المدينيّ، وأحمد بن حنبل، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن معمر الْبَحْرانيّ، وزيد بن أخرم الطائيّ ومحمد بن يحيى بن عبد الكريم الأزديّ، وغيرهم.

قال ابن نُمير: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، صاحب حديث، وَلي قضاء طَرَسوس إلى أن مات بها، وقال ابن عمار الموصليّ: كان قاضي الْمِصِّيصة، وكان زاهدًا، صاحب حديث، ثقةً، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخ في حديثه اضطراب، وقال الدارقطنيّ: كان مصنفًا مكثرًا مأمونًا، وولي قضاء الثُّغُور، فحُمِد فيها، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذَكَر الجاحظ أنه كان فصيحًا خطيبًا فاضلًا.

قال ابن سعد: مات سنة سبع عشرة ومائتين، وقال مطين: مات سنة ست عشرة أو سبع عشرة ومائتين.

روى له مسلم حديث أبي سعيد في الشك في الصلاة فقط. قلت: أخرج له المصنّف هذا الحديث فقط، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، واستَشْهَد به الترمذيّ في حديثٍ في صيام التطوع.

ص: 561

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيّوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

4 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدَويّ مولى عُمر، أبو عبد اللَّه، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يُرسل [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) تقدّم قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وشيخ شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من سليمان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ) أي في عدد الركعات التي صلّاها (فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى) وقوله: (ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا) منصوب على التمييز رافع إبهام العدد في "كم"(فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ) وفي رواية النسائيّ: "فليُلغ الشكّ"، من الإلغاء، وفي نسخة منه:"فليُلق الشكّ" من الإلقاء، وكلها بمعنى واحد.

والمراد أنه يَطرَح المشكوك فيه، وهو الزائد، فلا يأخذ به في البناء، يعني الركعة الرابعة (وَلْيَبْنِ) بكسر اللام، وسكونها؛ تخفيفًا (عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ) بالبناء للفاعل، أي عَلِم يقينًا، وهو: استفعال من يَقِنَ الأمرُ يَقَنًا، من باب تَعِبَ: إذا ثبت ووضَحَ، فهو يَقِينٌ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ، ويُستَعمَل مُتعدّيًا أيضًا بنفسه، وبالباء، فيقال: يَقِنتُهُ، ويَقِنتُ به، وأيقنت به، وتيقّنته، واستيقنته: أي

ص: 562

علمته، قاله الفيّوميّ

(1)

.

والمعنى: أنه يُتمّ صلاته على المستَيقَن، أي المعلوم يقينًا، وهو الأقلّ، فلا يقال: إنه لا يقين مع الشكّ؛ لأن المراد باليقين هنا المتيقّن، فإذا شكّ هل صلّى ثلاثًا، أم أربعًا؟ فالمتيقَّن هو الثلاث، فليطرح الرابعة المشكوك فيها، وليبن على الثلاث المتَيَقَّن.

وهذا فيما إذا لم يترجّح له أحد الطرفين، وإلا فليَبْنِ على ما ترجّح له، ثم ليسجد سجدتي السهو بعد السلام، عملًا بالأحاديث الآتية، وبهذا تجتمع الأدلة من غير إلغاء لبعضها، وسياتي تحقيق الخلاف في ذلك قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

(ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) يَحْتَمل أن يكون "يسجد" بالجزم عطفًا على "يَبْنِ"، ويَحْتَمل أن يكون بالرفع خبرًا، وهو بمعنى الأمر، واللَّه تعالى أعلم.

وفي النسائيّ: "فإن استيقن بالتمام، فليسجد سجدتين، وهو قاعد"، أي إن علم بتمام صلاته بإتيانه بالركعة المشكوك فيها، فليسجد سجدتين جالسًا.

وقوله: (قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ) فيه أن محل السجدتين إذا لم يترجّح له أحدُ الطرفين يكون قبل السلام.

[فإن قيل]: هذا يعارضه حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي حيث إنّ فيه أن محلهما بعد السلام.

[أجيب]: بأنه لا تعارُض بينهما؛ لأن هذا فيما إذا لم يكن له ميل إلى أحد الطرفين، وذاك محمول على ما إذا كان له تَحَرّ ومَيْلٌ إلى أحد الطرفين، كما سيأتي تحقيق ذلك، إن شاء اللَّه تعالى.

(فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا) أي أتى بركعة خامسة سهوًا في صلاة رباعيّة، وهو تعليلٌ بالأمر بالسجود، أي فإن كان ما صلّاه في الواقع أربعًا، فصار خمسًا بإضافته إليه ركعةً أخرى (شَفَعْنَ) بتخفيف الفاء، وتشديدها، قاله في "المرعاة"

(2)

، والتشديد محلّ نظر (لَهُ صَلَاتَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: النون في "شَفَعْن" هي نون جماعة المؤنّث، وعادت على معنى فَعَلات السجدتين، مشيرًا

(1)

"المصباح المنير" 2/ 681.

(2)

"المرعاة" 3/ 400.

ص: 563

إلى ما فيها من الأحكام المتعدّدة. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ: الضمير في "شفعن" للركعات الخمس، وفي "له" للمصلّي، يعني شفعت الركعات الخمس صلاةَ أحدكم بالسجدتين، يدلّ عليه قوله في الرواية الأخرى:"شفعها بهاتين السجدتين"، أي شفع المصلّي الركعات الخمس إلى السجدتين.

وقال ابن حجر الهيتميّ: "شفعن" أي الركعة الخامسة والسجدتان، لرواية أبي داود:"كانت الركعة نافلةً والسجدتان"، أي وصارت صلاته شفعًا باقيًا على حاله. انتهى.

وفي رواية النسائيّ: "شفعتا له صلاته"، أي صيّرت السجدتان صلاته شفعًا بعد أن كان وترًا بالخامسة، فكان كأنه صلّى ستّ ركعات.

ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: أنه إن أتمّ صلاته، وزاد ركعة خامسةً سهوًا، فالسجدتان تجعلان تلك الركعة الزائدة شفعًا، فكأنه صلّى ركعتين نافلةً بعد الفريضة، والمعنى الأول أظهر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه لَمّا شكّ هل صلّى ثلاثًا أو أربعًا؟ وبنى على الثلاث، فقد طرح الرابعة، مع إمكان أن يكون فَعَلَها، فإن كان قد فَعَلها فهي خمسٌ، وموضوع تلك الصلاة شفعٌ، فلو لم يسجد لكانت الخامسة لا تناسب أصل المشروعيّة، فلَمّا سَجَدَ سجدتي السهو ارتفعت الوتريّة، وجاءت الشفعيّة المناسبة للأصل، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا) قال الطيبيّ رحمه الله: إما مفعول له، أو حال من الفاعل، أي صلّى ما شكّ فيه حال كونه متمًّا (لِأَرْبَعِ) فيكون قد أدّى ما عليه من غير زيادة، ولا نقص (كَانَتَا) أي السجدتان (تَرْغَيمًا لِلشَّيْطَانِ") أي إغاظةً وإذلالًا له، مأخوذ من الرُّغام بالضمّ، وهو التُّراب، ومنه أرغم اللَّه أنفه.

والمعنى أن الشيطان لَبَسَ عليه صلاته، وتعرّض لإفسادها ونقصِها، فجعل اللَّه تعالى للمصلِّي طريقًا إلى جبر صلاته، وتدارك ما لبسه عليه، وإرغامِ الشيطان، وردّه خاسئًا مُبعَدًا عن مراده، وكَمُلت صلاة ابن آدم لَمّا امتثل أمر اللَّه

(1)

"المفهم" 2/ 182.

(2)

"المفهم" 2/ 182.

ص: 564

تعالى الذي عَصَى به إبليسُ، من امتناعه من السجود، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال القاضي: القياس أن لا يسجد؛ إذ الأصل أنه لم يزد شيئًا، لكن صلاته لا تخلو عن أحد خللين: إما الزيادة، وإما أداء الرابعة على تردّد، فيسجد جبرًا للخلل، والتردّدُ لَمّا كان من تسويل الشيطان وتلبيسه سُمّي جبره ترغيمًا له. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كانتا ترغيمًا للشيطان" معناه: غيظًا للشيطان، ومَذلّةً له؛ لأنه لَمّا فَعَلَ أربع ركعات أتى بما طُلِب منه، ثم لَمّا انفصل زاد سجودًا للَّه تعالى لأجل ما أوقع الشيطان في قلبه من التردّد، فحصل للشيطان نقيض مقصوده؛ إذ كان إبطالَ الصلاة، فقد صحَّت، وعادت وسوسته بزيادة خير وأجر. انتهى

(3)

.

ولأبي داود: "وكانت السجدتان مُرْغِمتي الشيطان"، أي مُغيظتين، ومُذلّتين له، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): فحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 1276 و 1277](571)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1026 و 1027)، و (النسائيّ) في "السهو"(1238 و 1239) وفي "الكبرى"(1161 و 1162)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1210)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 72 و 83 و 84 و 87)، (والدارميّ) في "سننه"(1503)، (وابن خزيمة) في "صحيحه"(1023 و 1024)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2663 و 2669)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(241)،

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 60 - 61.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1080.

(3)

"المفهم" 2/ 182.

ص: 565

و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 433)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1904 و 1905 و 1906 و 1907)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1253 و 1254)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 375)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 331)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(754)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأمر بإتمام المصلِّي صلاته إذا وقع له الشكّ على المستَيْقَن المعلوم، وهو الأقلّ.

2 -

(ومنها): مشروعية سجدتي السهو لمن وقع له الشك في صلاته.

3 -

(ومنها): بيان أن السجدتين تجعلان الصلاة شفعًا لمن زاد، فصلّى خمسًا، ومُرْغِمتان للشيطان لمن صلّى أربعًا، ولم يزد.

4 -

(ومنها): أن الشيطان يَذِلّ بسبب هاتين السجدتين حيث وُفّق لهما ابن آدم، ولم يُوفَّق هو، بل أبى أن يمتثل أمر ربه، واستكبر، وكان من الكافرين.

5 -

(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله: في هذا الحديث بيان فساد قول من ذهب إلى أن من صلّى خمسًا يُضيف إليها سادسةً، إن كان قد قعد في الرابعة، واعتلّوا بأن النافلة لا تكون ركعةً، وقد نصّ على أن تلك الركعة تكون نافلة، ثم لم يأمره بإضافة أخرى إليها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: القائلون بهذا هم الحنفيّة، وقد أجاد الخطابيّ رحمه الله في ردّه؛ لأنه رَأْي محضٌ مقابلة النصّ، فيكون فاسد الاعتبار، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:[من الوافر]

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاح

لكن الخطابيّ رحمه الله وقد نصّ على أن تلك الركعة تكون نافلة، فيه نظر لا يخفى، فإن الحديث نصّ على أن السجدتين تشفعان صلاته، فيكون في حكم من صلّى شفعًا، فليست الركعة وحدها نافلة، بل مع السجدتين، خلاف ما يفيده قول الخطابيّ، فتبصّر.

6 -

(ومنها): أن هذا الحديث فيه تفصيل ما أُجمل في حديث أبي

ص: 566

هريرة رضي الله عنه المتقدِّم، فيكون عليه التعويل، ويجب إرجاع الإجمال إليه، وقد سبق بيان ذلك.

7 -

(ومنها): أن فيه الردّ على من فصّل في الشكّ من كونه أول ما سَهَى، أو ثانيًا؛ لأن الحديث مطلقٌ، وهو أرفق بالناس، والنبيّ صلى الله عليه وسلم أُرسل رحمة، ورأفة لهم.

8 -

(ومنها): أنه احتجّ به الجمهور مالك، والشافعيّ، ومن تبعهما فيما ذهبوا إليه، من وجوب طرح الشكّ، والبناء على المتيَقَّن، أي الأقلّ، وعدم إجزاء التحرّي، لكن سيأتي تعقّبه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف الرواة في حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا بالوصل والإرسال، وترجيح وصله؛ لكثرة من رواه كذلك:

قال الحافظ ابن رجب في "شرح البخاري" ما حاصله: حديث أبي سعيد رضي الله عنه أخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عنه، وأخرجه أيضًا من رواية داود بن قيس، عن زيد بن أسلم به.

وأخرجه الدّارقطنيّ من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وهشام بن سعد، وفُليح بن سليمان، وغيرهم، عن زيد بن أسلم كذلك.

وكذلك رَوَيناه من حديث عبد اللَّه بن صالح، عن الليث، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم بهذا الإسناد، والمعروف من رواية ابن عجلان أنه لم يذكر في حديثه:"قبل السلام".

وكذا رواه أبو غسّان، وغيره عن زيد بن أسلم.

ورواه مالك في "الموطأ"، والثوريّ، ويعقوب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء مرسلًا.

ووصله الوليد بن مسلم وغيره عن مالك، وليس بمعروف عنه وصله.

ووصله بعضهم عن الثوريّ أيضًا. ولعل البخاريّ ترك تخريجه لإرسال مالك والثوريّ له.

وحكم جماعة بصحة وصله، منهم الإمام أحمد، والدارقطنيّ، وقال

ص: 567

أحمد: أذهب إليه، قيل له: يختلفون في إسناده؟ قال: إنما قَصّر به مالك، وقد أسنده عدّة، فذكر منهم ابن عجلان، وعبد العزيز بن أبي سلمة.

ورواه الدراورديّ، وعبد اللَّه بن جعفر، وغيرهما، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، ذكره الدارقطنيّ، وقال: القول قول من قال: "عطاء، عن أبي سعيد".

وله شاهد عن أبي سعيد من وجه آخر من رواية عكرمة بن عمّار، عن يحيى بن أبي كثير: حدّثني هلال بن عياض، حدثني أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلّى أحدكم، فلا يدري زاد أو نقص؟ فليسجد سجدتين، وهو جالس"، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن.

وأخرجه النسائيّ، وزاد في رواية له:"ثم يسلم"، وشيخ يحيى بن أبي كثير مختلف في اسمه وحاله.

ورَوَى ابن إسحاق، عن مكحول، عن كُريب، عن ابن عباس، عن

عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، قال:"إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يَدْرِ واحدةً صلّى، أو اثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلّى، أو ثلاثًا؟ فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلّى أو أربعًا؟ فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلِّم"، أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذيّ، وقال: حسن صحيحٌ، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

وله علّة ذكرها ابن المدينيّ قال: وكان عندي حسنًا حتى وقفت على علته، وذلك أن ابن إسحاق سمعه من مكحول مرسلًا، وسمع إسناده من حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس، عن مكحول، قال: يُضَعَّف الحديث من ههنا -يعني من جهة حسين الذي يرجع الإسناد إليه-.

وأخرجه أحمد عن ابن عُليّة، عن ابن إسحاق كما ذكره ابن المدينيّ، وكذلك رواه عبد اللَّه بن نمير، وعبد الرحمن المحاربيّ، عن ابن إسحاق، عن مكحول مرسلًا، وعن حسين، عن مكحول متصلًا.

ورواه حماد بن سلمة وغيره، عن ابن إسحاق، عن مكحول، مرسلًا، ذكره الدارقطني.

ص: 568

وأخرجه أحمد أيضًا من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-.

وإسماعيل هو المكيّ ضعيف جدًّا، وقد قيل: إنه توبع عليه، ولا يصحّ، وإنما مرجعه إلى إسماعيل، ذكره الدارقطنيّ.

ورَوَى أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن عُمر بن محمد بن زيد، عن سالم، عن أبيه، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، قال:"إذا لم يدر أحدكم كم صلّى، ثلاثًا أو أربعًا؟ فليركع ركعتين، يحسن ركوعهما وسجودهما، ثم ليسجد سجدتين"، أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.

والبخاريّ يخرج من هذه النسخة كثيرًا، لكن هذا رواه مالك في "الموطأ" عن عمر بن محمد، عن سالم، عن أبيه موقوفًا، قال الدارقطنيّ: رفعه غير ثابت، وقال ابن عبد البرّ: لا يصحّ رفعه.

ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه قال: إذا شكّ أحدكم في صلاته، فلم يدر ثلاثًا صلّى أم أربعًا، فليبن على أتمّ ذلك في نفسه، وليس عليه سجود، قال: فكان الزهريّ يقول: يسجد سجدتي السهو، وهو جالس. انتهى ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله ببعض تصرف

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المذكور في الباب صحيحٌ، كما رأي المصنّف، حيث أخرجه في "صحيحه"، ولا يؤثر في صحته رواية من أرسله، كما قال الإمام أحمد، والدارقطنيّ؛ لكثرة من وصله، وأرجحيّتهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في مسألة الشكّ في الصلاة:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في المصلِّي يشكّ في صلاته، فقالت طائفة: يبني على اليقين، ويسجد سجدتي السهو، هذا قول

(1)

راجع: "فتح الباري" لابن رجب 9/ 461 - 467.

ص: 569

عبد اللَّه بن مسعود، وبه قال سالم بن عبد اللَّه، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والأوزاعيّ، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وإسحاق، وأبو ثور.

وقالت طائفة: إذا لم يدر كم صلّى؟، أعاد حتى يَحْفَظ، رُوي هذا القول عن ابن عمر، وابن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وشُريح، والشعبيّ، وعطاء، وسعيد بن جُبير، وميمون، وبه قال الأوزاعيّ في رجل سها في صلاته، فلم يدر كم صلّى؟.

وقالت طائفة: يُعيد المكتوبة، ويسجد سجدتي السهو للتطوّع، رُوي هذا القول عن سعيد بن جُبير، خلاف الرواية التي وافق فيها شُريحًا، والشعبي.

وقالت طائفة رابعة بظاهر الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم، فيلبس عليه صلاته، فلا يدري أزاد، أو نقص، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين، وهو جالس" مُتَّفَقٌ عليه.

وممن قال بهذا القول أبو هريرة رضي الله عنه، فإنه قال: إذا خطر الشيطان بين قلب أحدكم، وبين صلاته، فلم يدر كم صلّى؟ يسجد سجدتي الوهم، وقال أنس بن مالك، والحسن البصريّ: إذا شكّ في ثلاث، أو أربع، فإنه يسجد سجدتي السهو.

وفيه قول خامس: قال عطاء بن أبي رباح، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: إن نسيت المكتوبة، فعُدْ لصلاتك، قال عطاء: لم أسمع منه في ذلك غير ذلك، ولكن بلغني عنه، وعن ابن عمر أنهما قالا: فإن نسيت الثانية فلا تعد لها، وصلّ على أحرز ذلك في نفسك، ثم اسجد سجدتين بعدما تسلِّم، وأفت جالس.

وفيه قول سادس: رَوَينا عن سعيد بن جبير، وعطاء، وميمون بن مهران أنهم كانوا إذا شكّوا في الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يُعيدوا.

وفيه قول سابع: في الإمام لا يدري كم صلّى، قال: ينظر ما يصنع مَنْ وراءه، هذا قول النخعيّ، وقال عطاء: يوشك أن يُعَلِّمَهُ مَنْ وراءه.

وفيه قول ثامن: قاله مكحول فيمن شكّ، فلم يدر ثلاثًا صلّى أم أربعًا؟

ص: 570

قال: فليركع ركعة حتى تكون صلاته إلى الزيادة أقرب منها إلى النقصان، ولا يسجد للسهو، فإنه ليس بسهو.

قال ابن المنذر رحمه الله: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يعني الآتي في هذا الباب-، وأبي سعيد -يعني المذكور هنا- إثبات سجود السهو على الشاكّ في صلاته، وفي حديث ابن عباس

(1)

، وأبي سعيد أَمْرُ النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- الشّاكَّ أن يبني على اليقين، ثم يسجد للسهو، فقبول الزيادة التي زادها أبو سعيد وابن عباس رضي الله عنهم؛ لأنهما حفظا ما لم يحفظه أبو هريرة رضي الله عنه، فوجب قبولُ ما حُفظ من الزيادة مما لم يحفظه أبو هريرة، كما يجب قبول خبر لو تفرّد به كلّ واحد منهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فإذا شكّ المصلي في صلاته، ولم يكن له تحرٍّ، ولم يمل قلبه إلى أحد العددين، فإنه يَنظر إلى ما استيقن أنه صلّى، فيحتسب به، ويُلْقِي الشكّ، وَيبْنِي على اليقين، ويسجد سجدتي السهو قبل التسليم على ما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن مال قلبه إلى أحد العددين، فقد اختُلف في ذلك. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.

وقال عند الكلام على حديث ابن مسعود الآتي بعد هذا ما ملخّصه:

وقد اختلفوا في تأويله -يعني حديثَ ابن مسعود رضي الله عنه فقالت طائفة من أصحاب الحديث: خبر ابن مسعود هذا، وخبر ابن عباس، وأبي سعيد الخدري ثابتة كلها يجب القول بها في مواضعها، فإذا شكّ المصلّي في صلاته، وله تحرٍّ، والتحرّي أن يميل قلبه إلى أحد العددين، وجب عليه

(1)

حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أخرجه ابن المنذر في "الأوسط"، فقال: حدّثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدّثنا ابن قعنب، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عبّاس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر ثلاثًا صلّى أو أربعًا، فليقُم، فليصل ركعةً، ثم ليسجد سجدتين، وهو جالس قبل السلام، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان". انتهى.

والحديث أخرجه مالك في "الموطّأ" 1/ 95 مرسلًا، وأبو داود في "سننه" من طريقه رقم (1026).

ص: 571

استعمال حديث عبد اللَّه بن مسعود، ويبني على العدد الذي مال إليه قلبه، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام، على ما في حديث عبد اللَّه بن مسعود، وإذا لم يكن له تحرٍّ، ولا يميل قلبه إلى أحد العددين بَنَى على اليقين، على ما في حديث ابن عبّاس وأبي سعيد رضي الله عنهما، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا القول هو الراجح عندي، كما سيأتي الكلام عليه، إن شاء اللَّه تعالى.

وقال أصحاب الرأي: إذا صلّى، فسها في صلاته، فلم يدر أثلاثًا صلّى أم أربعًا؟ وذلك أول ما سها، فعليه أن يستقبل الصلاة، فإن لقي ذلك غير مرّة تحرّى الصواب، فإن كان أكبر رأيه أنه قد أتمّ مضى على صلاته، وإن كان أكبر رأيه أنه صلَّى ثلاثًا أتمّ الرابعة، ثم يتشهّد، ويسلّم، ويسجد سجدتي السهو.

وكان أحمد بن حنبل يقول: الشكّ على وجهين: اليقين، والتحرّي، فمن رجع إلى اليقين ألغى الشكّ، وسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث عبد الرحمن بن عوف

(1)

، وأبي سعيد رضي الله عنهما، وإذا رجع إلى التحري، وهو أكبر الوهم سجد سجدتي السهو بعد التسليم على حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وقالت طائفة: معنى التحرّي الرجوع إلى اليقين؛ لأنه أُمِرَ أن يتحرّى الصواب، والصواب هو الرجوع إلى اليقين، وأنما أُمرَ أن يرجع من الشك إلى اليقين، ولم يؤمر أن يرجع من شك إلى شك.

ومن حجة من قال بهذا أن يقول: لَمّا كان عليَّ إذا شككت أصليتُ

(1)

حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، ولفظ الترمذيّ (364): عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أو ثنتين، فَلْيَبْنِ على واحدة، فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثًا، فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا، فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم"، وصحَّحه الترمذيّ، وتبعه الشيخ الألبانيّ في "صحيح الترمذيّ"، لكن الظاهر أنه معلولٌ كما تقدّم بيانه في كلام الإمام عليّ ابن المدينيّ رحمه الله، فراجع المسألة الرابعة، وباللَّه تعالى التوفيق.

ص: 572

الظهر أم لا؟ أن أصليها بتمامها حتى أكون على يقين من أدائها، فكذلك إذا شككت في ركعة منها عليّ أن آتي بها حتى أكون على يقين من أدائها.

ومن قال بخبر أبي سعيد، وابن عباس رضي الله عنهما في موضعهما، وبخبر ابن مسعود رضي الله عنه في موضعه قال: علينا إذا ثبتت الأخبار أن نُمْضيها كلَّها، ونستعمل كلَّ خبر في موضعه، وإذا ثبت الخبر ارتفع النظر، ومعنى خبر ابن مسعود غيرُ خبر أبي سعيد، وإذا كان كذلك لم يجز أن يُترك أحدهما؛ لأن الآخر أشبه بالنظر. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرف.

وقال الإمام ابن حبّان رحمه الله: قد يتوهَّم من لم يُحكم صناعة الأخبار، ولا تفقّه من صحيح الآثار أن التحرّي في الصلاة، والبناء على اليقين واحدٌ، وليس كذلك؛ لأن التحرّي هو أن يشُكّ المرء في صلاته، فلا يدري ما صلّى، فإذا كان كذلك عليه أن يتحرّى الصواب، ولْيَبْنِ على الأغلب عنده، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام على خبر ابن مسعود رضي الله عنه.

والبناء على اليقين هو أن يشكّ المرء في الثنتين والثلاث، أو الثلاث والأربع، فإذا كان كذلك عليه أن يبني على اليقين، وهو الأقلّ، وليُتمّ صلاته، ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام على خبر عبد الرحمن بن عوف، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما، سُنتان غير متضادَّين. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(1)

.

وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدم من الأقوال وأدلتها ما نصّه:

والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الأقلّ، والبناء على اليقين، وتحرّي الصواب، وذلك لأن التحرّي في اللغة هو طلب ما هو أحرى إلى الصواب، وقد أَمَرَ به صلى الله عليه وسلم، وأَمَرَ بالبناء على اليقين، والبناء على الأقلّ عند عروض الشكّ، فإن أمكن الخروج بالتحرّي عن دائرة الشكّ لغةً، ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه قد فعل من الصلاة كذا ركعات، فلا شكّ أنه مقدّم على البناء على الأقلّ؛ لأن الشارع قد شرط في جواز البناء على الأقلّ عدمَ الدراية، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهذا المتحرّي قد

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 6/ 387 - 388.

ص: 573

حصلت له الدراية، وأمر الشاكّ بالبناء على ما استيقن، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ومن بلغ به تحرّيه إلى اليقين قد بَنَى على ما استيقن.

وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين الأحاديث المذكورة، وأن التحرّي المذكور مقدّم على البناء على الأقلّ، وقد أوقع الناس ظنُّ التعارض بين هذه الأحاديث في مضايق، ليس عليها أثارة من علم، كالفرق بين المبتدأ والمُبتلَى، والركن والركعة. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله تحقيقٌ حسن جدًّا.

وخلاصته: أن من شكّ في صلاته لا يخلو إما أن يكون له تحرٍّ وميل إلى أحد العددين، فيبني على العدد الذي مال إليه قلبه، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام، على ما في حديث عبد اللَّه بن مسعود الآتي، وإما أن لا يكون له ميل إلى أحد العددين، فيبني على اليقين، وهو الأقلّ، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام، على حديث أبي سعيد هذا، وابن عباس رضي الله عنهما.

والحاصل أن المذهب الراجح هو الذي فصّل الشكّ على التفصيل المذكور، فإنه يَجمَعُ بين أحاديث الباب من غير تعرّض لإهمال بعضها، وما عداه من الأقوال إما أن يلزم منه حمل بعض الأخبار على بعضها بتكلُّف وتعسُّف، وإما أن يكون رأيًا محضًا لا مُستَنَدَ له، ولا أثارة عليه من العلم، فتبصر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1277]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمِّي، عَبْدُ اللَّهِ

(2)

، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهَذَا الإِسنَادِ، وَفِي

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "عمي عبد اللَّه بن وهب".

ص: 574

مَعْنَاهُ، قَالَ: "يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ

(1)

قَبْلَ السَّلَامِ"، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم المصريّ، لقبه بَحْشَل -بفتح الموحَّدة، وسكون الحاء المهملة، بعدها شين معجمة- أبو عبيد اللَّه ابن أخي عبد اللَّه بن وهب، صدوقٌ تغيّر بآخره [11].

أكثر عن عمّه، ورَوَى عن الشافعيّ، وإسحاق بن الفُرَات، وبشر بن بكر، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وابن خزيمة، وأبو حاتم، وأبو بكر بن أبي داود، وابن جرير، والساجيّ، والباغنديّ، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سألت محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم عنه؟ فقال: ثقةٌ، ما رأينا إلا خيرًا، قلت: سمع من عمّه؟ قال: إي واللَّه، وقال أيضًا: سمعت أبي يقول: سمعت عبد الملك بن شعيب بن الليث يقول: أبو عبيد اللَّه ابن أخي ابن وهب ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: أدركناه، ولم نكتب عنه، قال: وسمعت أبا زرعة، وأتاه بعض رفقائي، فحَكَى عن أبي عبيد اللَّه ابن أخي ابن وهب، أنه رجع عن تلك الأحاديث، فقال أبو زرعة: إن رجوعه مما يُحَسِّن حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان من قبلُ، قال: وسمعت أبي يقول: كتبنا عنه، وأمره مستقيم، ثم خَلَط بعدُ، ثم جاء في خبره أنه رَجَع عن التخليط، وسئل أبي عنه بعد ذلك؟ فقال: كان صدوقًا، وقال ابن الأخرم: سمعت ابن خزيمة، وقيل له: لِمَ رويتَ عن ابن أخي ابن وهب، وتركت سفيان بن وَكِيع؟ فقال: لأن أحمد لَمّا أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها إلى آخرها، إلا حديث مالك، عن الزهريّ، عن أنس:"إذا حضر العشاء. . . "، فإنه ذكر أنه وجده في دُرْجٍ من كتب عمّه في قرطاس، وأما سفيان بن وكيع، فإنّ وَرَّاقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، فكلمناه، فلم يرجع عنها، فاستخرت اللَّه وتركته، وقال ابن عديّ: رأيت شيوخ مصر مُجمعين على

(1)

وفي نسخة: "قال: سجد سجدتين".

ص: 575

ضعفه، ومن كتب عنه من الغرباء لا يمتنعون من الرواية عنه، وسألت عبدان عنه؟ فقال: كان مستقيم الأمر في أيامنا، ومن لم يَلْقَ حرملة اعتَمَدَ عليه في نسخ حديث ابن وهب، وقال ابن عديّ: ومن ضعفه أنكر عليه أحاديث، وكثرة روايته عن عمّه، وكل ما أنكروه عليه مُحْتَمِلٌ، وإن لم يروه غيره عن عمّه، ولعله خَصَّه به.

وذكر أبو علي الجيّاني أن البخاريّ رَوَى في "الجامع" عن أحمد غير منسوب، عن ابن وهب، وأنه أبو عبيد اللَّه هذا، وقد وَهَّمَ الحاكم أبو عبد اللَّه هذا القول.

وقال ابن الأخرم: نحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين، وإنما ابتُلِي بعد خروج مسلم من مصر، وقال الدارقطنيّ: تكلموا فيه.

وأنكرت على أحمد أحاديث

(1)

، وقد صحّ رجوعه عن هذه الأحاديث التي أُنكرت عليه، ولأجل ذلك اعتمده ابن خزيمة من المتقدمين، وابن القطان من المتأخرين.

وقال أبو سعيد بن يونس: تُوُفّي في شهر ربيع الآخر سنة (264)، ولا تقوم بحديثه حجة، وقال هارون بن سعيد الأيليّ: هو الذي كان يَستملي لنا عند عمّه، وهو الذي كان يقرأ لنا.

تفردّ به المصنّف، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط، برقم (571) و (792) و (813) و (1064) و (1709) و (1829) و (1924) و (1977) و (2392).

2 -

(عَمُّهُ، عَبْدُ اللَّهِ) بن وهب، ذُكر في الباب.

3 -

(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) الفرّاء الدبّاغ، أبو سليمان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل [5] مات في خلافة أبي جعفر (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1084.

و"زيد بن أسلم" تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد زيد بن أسلم المتقدّم، وهو: عن

(1)

ذكر تلك الأحاديث في "تهذيب التهذيب" في ترجمته 1/ 34.

ص: 576

عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. وقوله:(وَفِي مَعْنَاهُ) يعني أن معنى حديث داود بن قيس، عن زيد بن أسلم بمعنى حديث سليمان بن بلال، عنه، لا بلفظه.

[تنبيه]: رواية داود بن قيس، عن زيد بن أسلم هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1278]

(572) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ، وَأَبُو بَكْرِ ابْنَا أَبِي شَيْبَةَ

(1)

، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: زَادَ، أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ:"وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ:"إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ، أَنْبَأْتكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ، فَذَكِّرُونِي، وإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ")

(2)

.

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ شهير [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أخو عثمان، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

4 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) عن (71) سنةً تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة".

(2)

وفي نسخة: "ثم يسجد سجدتين".

ص: 577

5 -

(مَنْصُور) بن المعتمر السّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

6 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

7 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس النخعيّ، أبو شِبْل الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابدٌ [2](ت بعد 60)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

8 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، وفيه التحديث، والعنعنة، والقول.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثاني ما أخرج لهما الترمذيّ، والثالث ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، فكلّهم كوفيّون إلا إسحاق، فمروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، على قول من جعل منصورًا منهم، وإلا فتابعيّان.

5 -

(ومنها): أن هذا الإسناد من أصحّ الأسانيد، كما قال في "الفتح"

(1)

، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

كَذَا ابْنُ مِهْرَانَ عَن إِبْرَاهِيمَ عَنْ

عَلْقَمَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ الْحَسَنْ

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، من السابقين الأولين، ومن فقهائهم، وقرّائهم، قد أثنى على قراءته النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيس النخعيّ رحمه الله، أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن

(1)

"الفتح" 1/ 600.

ص: 578

مسعود رضي الله عنهم (صلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية الحكم، عن إبراهيم الآتية:"صلّى الظهر خمسًا"، أي خمس ركعات (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) النخعيّ الراوي عن علقمة (زَادَ، أَوْ نَقَصَ) وفي رواية البخاريّ: "لا أدري، زاد أو نقص؟ " أي النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، والمراد أن إبراهيم شكّ في سبب سجود السهو المذكور، هل كان لأجل الزيادة، أو النقصان؟ لكن سيأتي في الباب من رواية الحكم، عن إبراهيم بإسناده هذا أنه صَلّى خَمْسًا، وهو يقتضي الجزم بالزيادة، فلعله شكّ لَمّا حدّث منصورًا، وتيقن لما حدَّث الحكم، وقد تابع الحكم على ذلك حماد بن أبي سليمان، وطلحة بن مُصَرِّف، وغيرهما، وعَيَّنَ في رواية الحكم أيضًا، وحماد أنها الظهر، ووقع للطبراني من رواية طلحة بن مُصرِّف، عن إبراهيم أنها العصر، وما في "الصحيح" أصح، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ) أي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ) بفتحات، والهمزة للاستفهام الاستخباريّ (فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟) مرادهم السؤال عن حُدُوث شيء من الوحي، يوجب تغيير حكم الصلاة عما عَهِدُوه، ودَلَّ استفهامهم عن ذلك على جواز النسخ عندهم، وأنهم كانوا يتوقعونه.

وفي رواية الحكم الآتية: "فلَمّا سَلَّمَ قيل له: أزيد في الصلاة؟ "، وفي رواية إبراهيم بن سُويد النخعيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"فلما انفتل توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول اللَّه هل زيد في الصلاة؟ قال: لا".

فتبيّن أن سؤالهم كان بعد استفساره لهم عن مساررتهم، وهو دالّ على عظيم أدبهم معه صلى الله عليه وسلم، وقولهم:"هل زيد في الصلاة" يفسّر قولهم هنا: "أحدث في الصلاة شيء؟ "

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَمَا ذَاكَ؟ ") أي ما سبب هذا السؤال؟، وفيه إشعار بأنه لم يكن عنده شعور مما وقع منه من الزيادة، وفيه دليلٌ على جواز وقوع السهو من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في الأفعال، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وهو قول عامّة العلماء والنُّظَّار، وشَذّت طائفةٌ، فقالوا: لا يجوز على النبي السهو،

(1)

"الفتح" 1/ 600 - 601.

(2)

"الفتح" 3/ 114 - 115.

ص: 579

وهذا الحديث يَرُدّ عليهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيه: "أَنْسَى كما تَنْسَوْن"، ولقوله:"فإذا نَسِيتُ فذَكِّروني"، أي بالتسبيح ونحوه، قاله في "الفتح".

(قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا) وفي رواية الحكم الآتية: "قالوا: صلّيت خمسًا"(قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (فَثَنَى رِجْلَيْهِ) يقال: ثَنَى الشيءَ يَثْنيه، من باب رمَى: رَدّ بعضه على بعض، فَتَثَنَّى، وانثنَى، واثْنَونَى: انعطف

(1)

، أي عَطَف صلى الله عليه وسلم رجليه؛ تأهّبًا للسجود (وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ، أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ) أي أخبرتكم بذلك الشيء، وفيه دليلٌ على عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

(وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) وفي الرواية الآتية: "قال: إنما أنا بشرٌ مثلكم"، أي أنا بشر في الأمور البشريّة مثل سائر البشر، إلا أنه يوحى إليّ، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] الآية.

قال الشوكانيّ رحمه الله: هذا حصرٌ له في البشريّة باعتبار من أنكر ثبوت ذلك، ونازع فيه عنادًا وجُحودًا، وأما باعتبار غير ذلك مما هو فيه، ينحصر في وصف البشريّة؛ إذ له صفات أُخَرُ، ككونه جسمًا حيًّا متحرّكًا، نبيًّا رسولًا، بشيرًا نذيرًا، وسراجًا منيرًا، وغير ذلك. انتهى. (أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ) بفتح السين، مضارع نَسِيَ بكسرها، كرضي يَرْضَى، قال الفيّوميّ: نَسِيتُ الشيءَ أَنْسَاه نِسيانًا، مشتَرَك بين معنيين: أحدهما: ترك الشيء على ذهول وغَفْلة، وذلك خلاف الذكر له، والثاني: الترك على تعمّد، وعليه قوله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، أي لا تقصدوا الترك، والإهمالَ، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: المراد هنا المعنى الأول، فتنبّه.

(فَإذَا نَسِيتُ) بكسر النون، وفي الرواية الآتية:"أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون".

(1)

راجع: "القاموس المحيط"، وقوله "كسعى" ردّه الشارح بأن الصواب كرمى، فتنبّه.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 604.

ص: 580

(فَذَكِّرُونِي) بتشديد الكاف، من التذكير، أي من حقّكم أن تذكّروني بالتسبيح عند إرادتي القيام إلى الخامسة.

(وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ) بالحاء المهملة والراء المشدَّدَة، أي فليَقْصِد، قال في "الفتح": المراد البناء على اليقين. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم أن الأرجح كون المراد بالتحرّي هنا هو غلبة الظنّ؛ لظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال الحافظ رحمه الله: كون التحرّي بمعنى الأخذ بغلبة الظنّ هو ظاهر الروايات التي عند مسلم. انتهى.

وقال الطيبيّ رحمه الله: التحرّي: القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تحصيل الشيء بالفعل. انتهى.

(فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ) الضمير إلى ما دلّ عليه قوله: "فليتحرّ"، والمعنى: فليُتمّ على ذلك ما بقي من صلاته بأن يضمّ إليه ركعةً، وفي الرواية الآتية:"فلينظر أحرى ذلك للصواب"، وفي أخرى:"فليتحرّ أقرب ذلك إلى الصواب"، وفي لفظ:"فليتحرّ الذي يرى أنه الصواب".

واستَدلّ به من قال بالعمل بغالب الظنّ، وتقديمه على اليقين، أي الأقلّ، وهم الحنفيّة، قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره يدلّ على ما صار إليه الكوفيّون من عمله على غلبة ظنّه، وقد ذكرنا أن الجمهور ردّوه إلى حديث أبي سعيد رضي الله عنه

(1)

، وهذا لم تُضمّ إليه ضرورة تعارض؛ إذ يمكن أن يُحمل كلّ واحد من الحديثين على حالة غير الأخرى، فيُحمل حديث أبي هريرة فيمن شكّ، ويحمل هذا الحديث على من ظنّ، ولا تعارض بينهما، والتحرّي وإن كان هو القصد، كما قال تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]، فكما يُقْصَد المتيقَّن يُقصد المظنون، واللَّه تعالى أعلم.

[فإن قيل]: الموجِب لتأويل هذا الحديث، وردّه إلى حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن الصلاة في ذمّته بيقين، ولا تبرأ ذمّته إلا بيقين.

[قلنا]: لا نسلِّم، بل تبرأ ذمّته بغلبة الظنّ بدليل أن صحّة الصلاة تتوقّف

(1)

وقع في نسخة "المفهم": "أبو هريرة" بدل أبي سعيد في الموضعين، والظاهر أنه غلط، فليُتنبّه.

ص: 581

على شروط مظنونة باتّفاق، كطهارة النجاسة، وطهارة الحدث باختلاف، والموقوف على المظنون مظنون، فلا يلزم اليقين، وإن كان الأولى هو اليقين، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ بتصرّف

(1)

.

(ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ") وفي رواية البخاريّ: "ثم ليسلِّم، ثم يسجد سجدتين"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [19/ 1278 و 1279 و 1280 و 1281 و 1282 و 1283 و 1284 و 1285 و 1286 و 1287 و 1288 و 1289 و 1290](572)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(401 و 404) و"السهو"(1226) و"الأيمان والنذور"(6671) و"أخبار الآحاد"(7249)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1019 و 1020)، و (الترمذيّ) فيها (392)، و (النسائيّ) في "السهو"(3/ 31)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1211)، و (الحميديّ) في "مسنده"(96)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 419 و 438)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1028)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2656 و 2657 و 2659 و 2660 و 2662)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1927 و 1928 و 1929 و 1930 و 1931 و 1932 و 1933 و 1934 و 1935 و 1936 و 1937 و 1938 و 1939 و 1940 و 1941 و 1942 و 1943 و 1944)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1255 و 1256 و 1257 و 1258 و 1259 و 1260 و 1261 و 1262 و 1263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 14 - 15)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(756)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في بيان الاختلاف الواقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور:

(1)

"المفهم" 2/ 185 - 186.

ص: 582

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح صحيح البخاريّ" ما حاصله: أخرجه -يعني حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا البخاري في "أبواب استقبال القبلة" من رواية جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فذكر الحديث، وقال في آخره:"وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرّ الصواب، فليتمّ عليه، ثم ليسلّم، ثم يسجد سجدتين". وأخرجه مسلم أيضًا، وأخرجه من طرُق أخرى، عن منصور، وفي بعضها:"فلينظر أحرى ذلك للصواب"، وفي رواية:"فليتحرّ أقرب ذلك إلى الصواب"، وفي رواية:"فليتحرّ الذي يرى أنه صواب".

وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وزاد فيه:"ثم يسلم، ثم يسجد سجدتي السهو".

وقد رواه جماعة من ثقات أصحاب منصور، عنه بهذه الزيادة، وأخرجه ابن ماجه، وعنده:"ويسلم، ويسجد سجدتين" بالواو.

وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم: وحديث التحرّي ليس يرويه غير منصور، إلا أن شعبة روَى عن الحكم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، موقوفًا نحوه، قال:"وإذا شك أحدكم فليتحرّ"، وأخرجه النسائي كذلك، وقد رُوي عن الحكم مرفوعًا، قال الدارقطني: الموقوف عن الحكم أصحّ.

وقد رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه التحرّي من وجه آخر مُختلَف فيه، فروَى خُصَيف، عن أبي عُبَيدة، عن عبد اللَّه، عن النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، قال:"إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث، أو أربع، وأكثر ظنك على أربع تشهدت، ثم سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهّدت أيضًا، ثم تسلم"، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وذكر أبو داود أنه اختُلف في رفعه ووقفه، وفي لفظه أيضًا.

وقال أحمد: حديث اليقين أصح في الرواية من التحرّي، وقال في حديث التحرّي: هو صحيح، رُوي من غير وجه.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ويظهر من تصرف البخاريّ: عكس هذا؛ لأنه أخرج حديث التحرّي دون اليقين، وأخرج مسلم الحديثين جميعًا. انتهى

ص: 583

ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله ببعض بتصرف

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة سجود السهو في الصلاة.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن من صلّى خمسًا ساهيًا، ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد، خلافًا للكوفيين، وقولهم: يُحْمَل على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل، بل السياق يُرشد إلى خلافه.

3 -

(ومنها): أنه يدلّ على أن الزيادة في الصلاة على سبيل السهو لا تبطلها، خلافًا لبعض المالكية إذا كثرت، وقيَّد بعضهم الزيادة بما يزيد على نصف الصلاة.

4 -

(ومنها): أنه يدلّ أيضًا على أن من لم يَعْلَم بسهوه إلا بعد السلام يسجد للسهو، فإن طال الفصل فالأصح عند الشافعية أنه يَفُوت محلُّه، واحتَجّ له بعضهم من هذا الحديث بتعقيب إعلامهم لذلك بالفاء، وتعقيبه السجود أيضًا بالفاء، قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر لا يخفى.

5 -

(ومنها): أنه يدلّ على أن الكلام العمد فيما مصلحة الصلاة لا يفسدها، وقد تقدّم الخلاف في ذلك مستوفًى في محلّه، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

6 -

(ومنها): أن من تحول عن القبلة ساهيًا لا إعادة عليه.

7 -

(ومنها): أن فيه إقبالَ الإمام على الجماعة بعد الصلاة.

8 -

(ومنها): أن البيهقيّ: استَدَلّ به على أن عُزُوب النية بعد الإحرام بالصلاة لا يبطلها.

9 -

(ومنها): أن في قبول النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- قولَ المخبِر عمّا وقع له دليلٌ على قبول الإمام قول مَن خلفه في إصلاح الصلاة إذا كان الإمام على شكّ بلا خلاف، وهل يُشترط في المخبِرِ عدد؛ لأنه من باب الشهادة، أو لا يُشترط

(1)

راجع: "فتح الباري" لابن رجب 9/ 467 - 469.

ص: 584

ذلك؛ لأنه من باب قبول الخبر؟ قولان، في مذهب مالك رحمه الله، ذكره القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عدم اشتراط التعدّد أرجح عندي؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا نسيتُ فذكّروني"، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لو حَدَث في الصلاة شيء لأنبأتكم به" يُفهم منه أن الأصل في الأحكام بقاؤها على ما تقرّرت، وإن جُوِّز النسخ.

11 -

(ومنها): أنه يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم المذكور أيضًا أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

12 -

(ومنها): بيان جواز النسيان على النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- في أحكام الشرع، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو ظاهر القرآن والحديث، واتَّفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُقَرُّ عليه، بل يُعْلِمه اللَّه تعالى به، ثم قال الأكثرون: شرطه تَنَبُّهُهُ صلى الله عليه وسلم على الفور مُتَّصِلًا بالحادثة، ولا يقع فيه تأخير، وجَوَّزت طائفة تأخيره مُدّة حياته صلى الله عليه وسلم؛ واختاره إمام الحرمين، ومَنَعت طائفة من العلماء السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأفعال البلاغية والعبادات، كما أجمعوا على منعه، واستحالته عليه صلى الله عليه وسلم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائينيّ، والصحيح الأول، فإن السهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يُقَرّ عليه لم يَحْصُل منه مفسدة، بل تحصل فيه فائدةٌ، وهو بيان أحكام الناسي، وتقرير الأحكام.

قال القاضي عياض رحمه الله: واختَلَفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ، وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته، وأذكار قلبه، فجوَّزه الجمهور، وأما السهو في الأقوال البلاغية، فأجمعوا على منعه، كما أجمعوا على امتناع تعمُّده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية، وفيما ليس سبيله البلاغ، من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام، ولا أخبار القيامة، وما يتعلق بها، ولا يضاف إلى وحي، فجوَّزه قومٌ؛ إذ لا مفسدة فيه، قال القاضي رحمه الله: والحقّ الذي لا شك فيه ترجيح قول مَن مَنَع ذلك على الأنبياء في كل خبر من

(1)

"المفهم" 2/ 184.

ص: 585

الأخبار، كما لا يجوز عليهم خُلْفٌ في خبر لا عمدًا ولا سهوًا لا في صحة، ولا في مرض، ولا رضًا ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وكلامه وأفعاله مجموعةٌ مُعْتَنًى بها على مَرّ الزمان، يتداولها الموافق والمخالف، والمؤمن والمرتاب، فلم يَأتِ في شيء منها استدراكُ غلطٍ في قول، ولا اعترافث بوهم في كلمة، ولو كان لَنُقِل كما نُقِل سهوه في الصلاة، ونومه عنها، واستدراكه رأيه في تلقيح النخل، وفي نزوله بأدنى مِيَاه بدر، وقوله صلى الله عليه وسلم:"واللَّه لا أحلف على يمين، فأَرَى غيرها خيرًا منها، إلا فعلت الذي هو خير، وكَفَّرت عن يميني"، وغير ذلك، وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ بعدما ذكر نحو ما تقدّم: وشذّت الباطنيّة، وطائفة من أرباب علم القلوب، فقالوا: لا يجوز النسيان عليه، وإنما ينسى قصدًا، ويتعمّد صورة النسيان ليَسُنّ، ونحا إلى قولهم عظيم من أئمة التحقيق، وهو أبو المظفّر الإسفرائينيّ في كتابه "الأوسط"، وهذا مَنْحًى غير سديد، وجمع الضدّ مع الضدّ، مستحيل بعيد.

قال: والصحيح أن السهو عليه جائز مطلقًا؛ إذ هو واحد من نوع البشر، فيجوز عليه ما يجوز عليهم إذا لم يَقدَح في حاله، وعليه نَبَّهَ حيث قال:"إنما أنا بشرٌ أنسى كما تنسون"، غير أن ما كان منه فيما طريقه بلاغ الأحكام قولًا أو فعلًا لا يُقرّ على نسيانه، بل يُنَبَّه عليه إذا تعيّنت الحاجة إلى ذلك المبلَّغ، فإن أُقِرّ على نسيانه ذلك فإنما ذلك من باب النسخ، كما قال تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7] انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسق جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1279]

(. . .) - (حَدَّثَنَاه

(3)

أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، قَالَ:(ح)

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 61 - 62.

(2)

"المفهم" 2/ 185.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

ص: 586

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، كِلَاهُمَا عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ بِشْرٍ:"فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ"، وَفي رِوَايَةِ وَكِيعٍ:"فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر العبديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

4 -

(وَكِيع) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

5 -

(مِسْعَر) بن كِدَام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مِسْعَرٍ) الضمير لابن بشر، ووكيع.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) يعني إسناد منصور المتقدّم، وهو: عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: ("فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ"، وَفي رِوَايَةِ وَكِيعٍ: "فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ").

قال في "الفتح": اختُلف في المراد بالتحرّي، فقال الشافعية: هو البناء على اليقين، لا على الأغلب؛ لأن الصلاة في الذمّة بيقين، فلا تسقط إلا بيقين.

وقال ابن حزم: التحرِّي في حديث ابن مسعود رضي الله عنه يُفَسِّره حديث أبي سعيد رضي الله عنه يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ: "وإذا لم يَدْر أصلى ثلاثًا، أو أربعًا، فليطرح الشك، وليبن على ما استَيْقَن"، ورَوَى سفيان في "جامعه" عن

ص: 587

عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إذا شك أحدكم في صلاته، فَلْيَتَوَخَّ حتى يَعْلَم أنه قد أتمَّ. انتهى.

وفي كلام الشافعيّ نحوه، ولفظه: قوله: "فليتحرَّ" أي في الذي يَظُنّ أنه نقصه فليتمه، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وهو كلام عربيّ مطابق لحديث أبي سعيد رضي الله عنه، إلا أن الألفاظ تَخْتَلف.

وقيل: التحرِّي هو: الأخذ بغالب الظنّ، وهو ظاهر الروايات التي عند مسلم.

وقال ابن حبّان في "صحيحه": البناء غير التحرّي، فالبناء أن يشك في الثلاث أو الأربع مثلًا، فعليه أن يُلغي الشك، والتحرِّي أن يشك في صلاته، فلا يدري ما صلى، فعليه أن يبني على الأغلب عنده.

وقال غيره: التحرِّي لمن اعتراه الشك مرةً بعد أخرى، فيبني على غلبة ظنه، وبه قال مالك، وأحمد، وعن أحمد في المشهور: التحري يتعلق بالإمام، فهو الذي يبني على ما غلب على ظنه، وأما المنفرد فيبني على اليقين دائمًا، وعن أحمد رواية أخرى كالشافعية، وأخرى كالحنفية.

وقال أبو حنيفة: إن طرأ الشك أوّلًا استَأنف، وإن كَثُرَ بَنَى على غالب ظنه، وإلا فعلى اليقين.

ونَقَل النوويّ أن الجمهور مع الشافعيّ، وأن التحري هو القصد، قال اللَّه تعالى:{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} ، وحَكَى الأثرم عن أحمد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا غِرَار في صلاة"، قال: أن لا يخرج منها إلا على يقين، فهذا يُقَوِّي قول الشافعي.

وأبعد مَن زَعَم أن لفظ التحرّي في الخبر مُدرَج من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، أو ممن دونه؛ لتفرد منصور بذلك، عن إبراهيم، دون رُفْقته؛ لأن الإدراج لا يَثْبُت بالاحتمال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم قريبًا أن الراجح في تفسير التحرّي هو الأخذ بغالب الظنّ، كما فسّره به ابن حبّان رضي الله عنه في "صحيحه"، وإنما رجّحته؛

(1)

"الفتح" 3/ 115.

ص: 588

لأن به العمل بكلّ من حديثي أبي سعيد، وابن مسعود رضي الله عنهما، دون تأويل مُتكلَّف، بخلاف غيره من الأقوال، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: رواية محمد بن بشر، عن مسعر، لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر.

وأما رواية وكيع، فساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:

(1212)

حدّثنا عليّ بن محمد، حدّثنا وكيع، عن مِسْعَر، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في الصلاة، فليتحرَّ الصواب، ثم يسجد سجدتين". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1280]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ مَنْصُورٌ: "فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنديّ، الحافظ، صاحب "المسند"، ثقة ثبتٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) عن (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

3 -

(وُهَيْبُ بْنُ خَالِد) الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

وقوله: (وَقَالَ مَنْصُورٌ إلخ) هكذا النسخ التي بين يديّ كلّها: "وقال منصور"، والذي يظهر لي أن قوله:"منصور" لا وجه له، بل الظاهر أن يقول:"وقال: فلينظر إلخ" بحذف لفظ "منصور"، ويكون فاعل "قال" ضميرَ وهيب، فليُتأمَّل، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 589

وقوله: ("فَلْيَنْظُرْ أَحْرَى ذَلِكَ لِلصَّوَابِ") أي أقربه إلى الصواب، وهو ما غلب على ظنّه، ومال إليه قلبه على ما رجّحناه قريبًا، أو هو الأقلّ المتيَقَّن على ما تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك.

[تنبيه]: رواية وُهيب، عن منصور هذه، ساقها الطحاويّ في "شرح معاني الآثار" (1/ 434) فقال:

حدّثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا وُهيب، قال: ثنا منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب، فليتمه، ثم ليسلِّم، ثم ليسجد سجدتي السهو، ويتشهد ويسلم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1281]

(. . .) - (حَدَّثَنَاه

(1)

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:"فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه، تقدّم قبل باب.

2 -

(عُبَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ) هو: عُبَيْدُ بْنُ سَعِيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأمويّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ.

رَوَى عن الأعمش، والمنهال بن خليفة، ومنصور بن دينار، وشعبة، والثوري، وإسرائيل، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثناه إسحاق"، وفي أخرى:"أخبرنا إسحاق".

ص: 590

ورَوى عنه ابن أخيه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، وإسحاق ابن راهويه، وابنا أبي شيبة، وأبو غريب، وعلي بن محمد الطنافسي، وعُبيد بن أسباط القرشيّ، وآخرون.

قال عبد اللَّه بن أحمد: عن ابن معين: ثقةٌ، ليس به بأس، قد رأيته، كان أصغر من أبي أحمد الزبيري. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال أبو زرعة: ثقةٌ. ونقل ابن خلفون توثيقه عن أحمد بن حنبل، وابن وَضّاح. وقال الدارقطني: هم أربعة إخوة: يحيى، ومحمد، وعبد اللَّه، وعبيد اللَّه

(1)

، وهم ثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: مات سنة مائتين.

أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (572) و (1734) و (2069).

3 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم قبل باب.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد منصور السابق، وهو عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ: "فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ") فاعل "قال" ضمير سفيان الثوريّ.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن منصور هذه، ساقها ابن حبّان بسند المصنّف، فقال في "صحيحه" (6/ 383):

(2659)

أخبرنا عبد اللَّه بن محمد الأزديّ، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عُبيد بن سعيد الأمويّ، قال: حدّثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا شكّ أحدكم في صلاته، فليتحرّ الصواب، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

هكذا في "تهذيب التهذيب" 3/ 36 عبيد اللَّه بالإضافة، والظاهر أنه غلطٌ، فإن المشهور أنه "عبيد" دون إضافة، ولم أره مضافًا إلا في نسخة أبي الأشبال من "التقريب"، فإنه كتب بين قوسين ما نصّه: ويقال له: "عبيد اللَّه"، ولم أجده في التهذيبين، ولا في غيرهما، فليتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 591

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1282]

(. . .) - (حَدَّثَنَاه

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:"فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ").

رجال هذه الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [91](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعتكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجةٌ إمامٌ عابد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (وَقَالَ: "فَلْيَتَحَرَّ إلخ") فاعل "قال" ضمير شعبة.

[تنبيه]: رواية شعبة هذه، ساقها أبو عوانة في "مسنده"(2/ 201)، فقال:

حدّثنا يحيى بن عيّاش البغداديّ، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فزاد أو نقص، شكّ علقمة، أو إبراهيم، فسلم، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال:"إنه لو حدث في الصلاة شيءٌ لحدثتكم، ولكن إنما أنا بشرٌ أنسى كما تنسون، فإذا نسيت، فذكِّروني، فإذا شكّ أحدكم، فليتحرّ أقرب ذلك إلى الصواب، فليبن عليه، وليسجد سجدتين، وهو جالس". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

ص: 592

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1283]

(. . .) - (حَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب.

2 -

(فُضَيْلُ بْنُ عِيَاض) بن مسعود التيميّ، أبو عليّ المكيّ، خراسانيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ زاهد إمامٌ مشهورٌ [8](ت 187) أو قبلها (خ م د ت س) تقدم فىِ "المقدمة" 5/ 26.

و"منصور" ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَالَ: "فَلْيَتَحَرَّ إلخ") فاعل "قال" ضمير فضيل بن عياض.

[تنبيه]: رواية فُضيل هذه ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(1243)

أخبرنا الحسن بن إسماعيل بن سليمان الْمُجَالديّ قال: حدّثنا الفضيل، يعني ابن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاةً، فزاد فيها أو نقص، فلما سَلَّم، قلنا: يا نبيّ اللَّه هل حَدَث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك؟ " فذكرنا له الذي فَعَلَ، فَثَنَى رجله، فاستَقْبَل القبلة، فَسَجَد سجدتي السهو، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال:"لو حَدَث في الصلاة شيء لأنبأتكم به -ثم قال-: إنما أنا بشرٌ أنسى كما تنسون، فأيُّكم شكّ في صلاته شيئًا، فليتحرَّ الذي يَرَى أنه صوابٌ، ثم يُسَلِّم، ثم يسجد سجدتي السهو". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1284]

(. . .) - (حَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِ هَؤُلَاءِ، وَقَالَ: "فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ").

ص: 593

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) الْعَميّ، أبو عبد الصمد البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [9](ت 187) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

و"منصور" سبق قبلُ.

وقوله: (بِإِسْنَادِ هَؤُلَاءِ) الإشارة إلى كلّ من: جرير، ومِسْعَر، ووُهيب بن خالد، وسفيان الثوريّ، وشعبة، وفُضيل بن عياض، فهم ستة، وعبد العزيز بن عبد الصمد سابعهم، فكلهم يروون هذا الحديث عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعيّ، عن علقمة النخعيّ، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، وحديث منصور هذا متّفقٌ عليه، وقد أسلفنا كلام ابن رجب فيما يتعلّق به، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (وَقَالَ: "فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ") فاعل "قال" ضمير عبد العزيز بن عبد الصمد.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1285]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرِاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيل لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: "وَمَا ذَاك؟ "، قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

ص: 594

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في هذا الباب، و"إبراهيم": هو النخعي، و"عبد اللَّه" هو ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: (قالوا: صليت خمسًا، فسجد سجدتين) قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه دليلٌ لمذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور من السلف والخلف، أن من زاد في صلاته ركعةً ناسيًا لم تبطل صلاته، بل إن عَلِم بعد السلام، فقد مضت صلاته صحيحةً، ويسجد للسهو إن ذكر بعد السلام بقريب، وإن طال فالأصحّ عندنا أنه لا يسجد.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي في تصحيح هذا القول نظرٌ؛ إذ قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زاد الرجل، أو نقص، فليُسجد سجدتين" مطلقٌ، يعم القريب والبعيد، فالقول بأنه يسجد وإن طال الوقت هو الأصحّ؛ فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وإن ذكر قبل السلام عاد إلى القوم، سواءٌ كان في قيام، أو ركوع، أو سجود، أو غيرها، ويتشهد، ويسجد للسهو، ويسلِّم، وهل يسجد للسهو قبل السلام أم بعده؟ فيه خلافُ العلماء السابق.

هذا مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة، وأهل الكوفة -رحمهم اللَّه تعالى-: إذا زاد ركعة ساهيًا بطلت صلاته، ولزمه إعادتها، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن كان تشهد في الرابعة، ثم زاد خامسةً أضاف إليها سادسةً تشفعها، وكانت نفلًا بناءً على أصله في أن السلام ليس بواجب، ويخرج من الصلاة بكل ما ينافيها، وأن الركعة الفردة لا تكون صلاةً قال: وإن لم يكن تشهد بطلت صلاته؛ لأن الجلوس بقدر التشهد واجب، ولم يأت به حتى أتى بالخامسة، وهذا الحديث يَرُدّ كل ما قالوه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يرجع من الخامسة، ولم يشفعها، وإنما تذكر بعد السلام، ففيه ردّ عليهم، وحجة للجمهور.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الأقوال التي قالها أبو حنيفة كلّها آراء ساقطة، لمخالفتها للنصوص الصحيحة، فزيادة السادسة لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم، بل

ص: 595

أمر بسجدتي السهو بدلها، وكذا قوله بعدم وجوب السلام قول باطل مناف لقوله صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها السلام"، وكذا قوله ببطلان الصلاة إن لم يجلس للتشهد في الرابعة قول باطلٌ؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم قام للخامسة دون أن يتشهّد، فقد عرفت كون هذه الأقوال كلها آراء معارضةً للنصوص، فتكون ساقطة، فتبصّر.

قال: ثم مذهب الشافعيّ، ومن وافقه أن الزيادة على وجه السهو لا تُبطل الصلاة، سواءٌ قَلَّت أو كَثُرت، إذا كانت من جنس الصلاة، فسواء زاد ركوعًا، أو سجودًا، أو ركعةً، أو ركعات كثيرة، ساهيًا، فصلاته صحيحة في كل ذلك، ويسجد للسهو استحبابًا لا إيجابًا.

وأما مالك فقال القاضي عياض رحمه الله: مذهبه أنه إن زاد دون نصف الصلاة لم تبطل صلاته، بل هي صحيحة، ويسجد للسهو، وإن زاد النصف فأكثر فمن أصحابه من أبطلها، وهو قول مُطَرِّف، وابن القاسم، ومنهم من قال: إن زاد ركعتين بطلت، وإن زاد ركعة فلا، وهو قول عبد الملك وغيره، ومنهم من قال: لا تبطل مطلقًا، وهو مرويّ عن مالك رحمه الله. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا القول الأخير، وهو عدم بطلانها مطلقًا، هو الظاهر؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا زاد الرجل أو نقص، فليسجُد سجدتين"، وبقيّة الأقوال ليس عليها أثارة من أدلّة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله في هذا الباب، فلا حاجة إلى إعادة ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1286]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا.

(1)

"شرح النووي" 5/ 64 - 65.

ص: 596

(ح)

(1)

حَدَّثَنَا

(2)

عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا عَلْقَمَةُ الظُّهْرَ خَمْسًا، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ الْقَوْمُ: يَا أَبَا شِبْلٍ قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا، قَالَ: كَلَّا، مَا فَعَلْتُ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: وَكُنْتُ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ، وَأَنَا غُلَامٌ، فَقُلْتُ: بَلَى قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا، قَالَ لِي: وَأَنْتَ أَيْضًا يَا أَعْوَرُ تَقُولُ ذَاكَ؟

(3)

قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفَتَلَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا، فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ:"مَا شَأْنُكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ:"لَا"، قَالُوا: فَإِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَانْفَتَلَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ"، وَزَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ

(4)

فِي حَدِيثِهِ: "فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد اللَّه بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيه عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) أبو عُروة النخعيّ، أبو عُروة الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [6](ت 139)(م 4) تقدم في "الإيمان" 38/ 263.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن سُوَيد النخعيّ الكوفيّ الأعور ثقة [6].

رَوَى عن الأسود بن يزيد، وعبد الرحمن بن يزيد، وعلقمة بن قيس. ورَوَى عنه الحسن بن عبيد اللَّه النخعي، وزيد بن الحارث اليامي، وسلمة بن كهيل.

قال ابن معين: مشهور، وقال النسائي: ثقة، ونقل صاحب "الميزان" تبعًا

(1)

يوجد هنا في بعض النسخ كتابة (ح) وهو الصواب؛ لأن هذا الحديث حديث واحد بإسنادين، وليس مستقلًا بدليل قوله:"واللفظ له"، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "ذلك".

(4)

وفي نسخة: "زاد ابن نمير".

ص: 597

لابن الجوزيّ أن النسائيّ ضَعّفه، ولكن لم يثبُت هذا عن النسائيّ

(1)

، وقال الدارقطنيّ: ليس في حديثه شيءٌ منكرٌ، إنما هو حديث السهو، وحديث الدعاء

(2)

، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (572) و (2169) و (2723) وكرره ثلاث مرات.

[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله: إبراهيم بن يزيد النخعيّ الكوفيّ، وإبراهيم بن سُويد النخعيّ الأعور آخر، وزَعَم الداوديّ أنه إبراهيم بن يزيد التيميّ، وهو وَهَمٌ، فإنه ليس بأعور، وثلاثتهم كوفيون، فُضَلاء.

قال البخاريّ: إبراهيم بن يزيد النخعيّ الأعور الكوفيّ سمع علقمة.

وذكر الباجيّ إبراهيم بن يزيد النخعيّ الكوفيّ الفقيه، وقال فيه: الأعور، ولم يَصِفه البخاريّ بالأعور، ولا رأيت مَن وَصَفه به.

وذكر ابن قتيبة في الْعُور إبراهيم النخعيّ، فيَحْتَمِل أنه ابنُ سُويد، كما قال البخاريّ، ويَحْتَمِل أنه إبراهيم بن يزيد. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(3)

.

قال النوويّ بعد نقل كلام عياض المذكور: والصواب أن المراد بإبراهيم هنا إبراهيم بن سُوَيد الأعور النخعيّ، وليس بإبراهيم بن يزيد النخعيّ الفقيه المشهور. انتهى، وهو بحثٌ مهمّ جدًّا.

والباقون تقدّموا في هذا الباب، و"جرير": هو ابن عبد الحميد.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل، كما في بعض النسخ، وهو الأولى، ولذا لم أجعل لهما رقمين؛

(1)

راجع: "تقريب التهذيب"(ص 20).

(2)

وقع في نسخة "تهذيب التهذيب": "حديث الرفا" وهو تصحيف، والصواب:"حديث الدعاء"، وهو ما أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (2723)، وحديث السهو أخرجه برقم (572)، وحديث الإذن أخرجه برقم (2169).

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 519.

ص: 598

لكونهما في حكم إسناد واحد، ومما يؤكّد ذلك قوله في آخر الحديث:"وزاد ابن نُمير إلخ"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

شرح الحديث:

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُويدٍ) بضمّ السين المهملة، مصغّرًا، أنه (قَالَ: صَلَّى بِنَا عَلْقَمَةُ الظُّهْرَ خَمْسًا) وفي رواية ابن إدريس: "أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا" والضمير لعلقمة، أي صلّى علمَقة بإبراهيم، ومن معه الظهر خمس ركعات (فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ الْقَوْمُ: يَا أَبَا شِبْلٍ) بكسر الشين المعجمة، وسكون الموحّدة، كنية علقمة (قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا) أيَ خمس ركعات (قَالَ: كَلَّا) بفتح الكاف، وتشديد اللام: حرف رَدْع وزجر، وقد تأتي بمعنى "لا"، يقول الجعديّ [من الطويل]:

فَقُلْنَا لَهُمْ خَلُّوا النِّسَاءَ لأَهْلِهَا

فَقَالُوا لَنَا كَلَّا فَقُلْنَا لَهُمْ بَلَى

فـ "كلّا" هنا بمعنى "لا" بدليل قوله: فقلنا لهم: بلى، و"بلى" لا تأتي إلا بعد نفي.

وقال ابن الأثير: "لا" رَدْعٌ في الكلام وتنبيهٌ، ومعناها انْتَهِ، لا تفعل، إلا أنها آكد في النفي والردع من "لا"؛ لزيادة الكاف، وقد ترد بمعنى حقًّا، كقوله تعالى:{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)} [العلق: 15]. انتهى

(1)

.

والمناسب هنا معنى النفي، أي: لم أفعل، فيكون قوله:(مَا فَعَلْتُ) تأكيدًا له (قَالُوا: بَلَى) أي فعلت ذلك (قَالَ) إبراهيم بن سُويد (وَكُنْتُ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ) قال الفيّوميّ رحمه الله الناحية: الجانب، فاعلةٌ بمعنى مفعولةٍ؛ لأنك نَحَوتها: أي قصدتها. انتهى

(2)

. (وَأَنَا غُلَامٌ) جملة حاليّة (فَقُلْتُ: بَلَى قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا، قَالَ) علقمة (لِي: وَأَنْتَ أَيْضًا تَقُولُ ذَاكَ؟) وفي نسخة: "ذاك"، أي وأنت أيضًا تقول مثل قولهم، وهو إنكار عليه في قوله:"قد صلّيت خمسًا" كما أنكر عليهم ذلك، وقوله:(يَا أَعْوَرُ) قال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليلٌ على أن قول مثل هذا لمن لا يتأذّى به، ومن عُرف به، من قرابته وتلامذته لا

(1)

"لسان العرب" 11/ 597 - 598.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 596.

ص: 599

حرج فيه، وإنما الحرج لمن قاله على سبيل التنقيص والعيب، وإذا كان المقول له يكره ذلك. انتهى

(1)

.

(قَالَ) إبراهيم (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ) إبراهيم أيضًا (فَانْفَتَلَ) قال في "اللسان": يقال: انتفل فلانٌ عن صلاته: أي انصرف، ولَفَتَ فلانًا عن رأيه، وفَتَلَه: أي صرفه ولَوَاهُ، وفَتَلَهُ عن وجهه، فانفَتَلَ: أي صرفه، فانصرف، وهو قَلْبُ لَفَتَ. انتهى

(2)

. وفي "القاموس": وقد انفتل، وتَفَتّل، ووجهَهُ عنهم: صرفه. انتهى

(3)

.

والمراد هنا انصرف إلى جهة القبلة بعد تحوّله عنها (فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا) أي خمس ركعات، وتقدّم في رواية الحكم، عن إبراهيم النخعيّ أن تلك الصلاة هي الظهر (فَلَمَّا انْفَتَلَ) أي انصرف من الصلاة، وسلّم منها؛ لظنه أنه أتمّها (تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بالشين المعجمة، وقال القاضي عياض رحمه الله: رُوِي بالمعجمة، وبالمهملة، وكلاهما صحيح، ومعناه تَحَرّكوا، ومنه وَسْوَاس العلي بالمهملة، وهو تَحَرُّكه، ومنه وسوسةُ الشيطان، وهي همسه بإغوائه في القلوب، قال أهل اللغة: الوشوشة بالمعجمة صوتٌ في اختلاط، قال الأصمعيّ: ويقال: رجلٌ وَشْوَاشٌ: أي خفيف. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "توشوش القوم" رواه أبو بكر بمعجمة، وغيره بمهملة، وكلاهما بمعنى الحركة، قال ابن دُريد: وسوسة الشيء مهملًا: حركته، وتوشوش القوم: تحرّكوا، وهَمَسُوا. انتهى

(5)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا شَأْنُكُمْ؟ ") أي ما حالكم، وما سبب توشوشكم؟ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ:"لَا") أي لم يُزد فيها (قَالُوا: فَإِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا) أي خمس ركعات (فَانْفَتَلَ) أي انصرف إلى جهة القبلة (ثُمَّ سَجَدَ

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 519، و"شرح النووي" 5/ 65.

(2)

"لسان العرب" 11/ 514.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 28.

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 517، و"شرح النوويّ" 5/ 57 - 65.

(5)

"المفهم" 2/ 193.

ص: 600

سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ"، وَزَادَ) وفي نسخة:"زاد" بدون عاطف (ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، شيخه الأول (فِي حَدِيثِهِ:"فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ")، والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم بيان مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1287]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه

(1)

عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ الْكُوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟، قَالَ:"وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، قَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ، وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ"، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ الْكُوفِيُّ) أبو جعفر، مولى بني هاشم، ثقةٌ [10](ت 230)(م) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.

2 -

(أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ) الكوفيّ، قيل: اسمه عبد اللَّه بن قَطاف، أو ابن أبي قطاف، وقيل: وهب، وقيل: معاوية، صدوقٌ، رُمي بالإرجاء [7].

رَوَى عن أبي بكر بن أبي موسى، وعبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، وزياد بن عِلاقة، ومحمد بن الزبير، وحبيب بن أبي ثابت، وعاصم بن كُليب، ومرزوق بن بكير التميميّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن المبارك، ووكيع، وبهز بن أسد، ويحيى بن آدم، وابن مهديّ، وأبو نعيم، وعون بن سلّام، وعمرو بن مرزوق، وجُبَارة بن الْمُغلِّس، وآخرون.

قال أبو داود: ثقةٌ كوفيّ مرجئٌ، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه،

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 601

وعباسٌ الدّوري عن ابن معين: ثقةٌ، وقال العجليّ: أبو بكر بن قَطَاف النَّهْشليّ من أُنفسِهم ثقةٌ، وقال أبو قُدامة، عن ابن مهديّ: كان من ثقات مشيخة الكوفة، وقال أبو حاتم: شيخٌ صالحٌ، يُكتب حديثه، وهو عندي خير من أبي بكر الْهُذَليّ، وقال عثمان الدارميّ: أبو بكر النَّهْشليّ هو الذي رَوَى عنه وكيع، فقال أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي القِطاف، ولم يَقُل: النَّهشليّ، وقال ابن سعد: وهو نَهْشليّ من أَنْفُسهم، وكان مرجئًا، وكان عابدًا ناسكًا، وله أحاديث، ومنهم من يستضعفه.

قال مُطَيَّن: مات يوم عيد الفطر سنة ست وستين ومائة.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (572)، و (1106) حديث:"يقبّل في رمضان، وهو صائم".

[تنبيه]: قوله: "النَّهْشَليّ" بفتح أوله، وسكون الشين المعجمة: نسبة إلى نَهْشَل بطنٌ من تميم، ومن كلب، أفاده في "اللبّ "

(1)

.

3 -

(عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ) بن يزيد بن قيس النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "الحيض" 1/ 686.

4 -

(أَبُوهُ) الأسود بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ مخضرم [2](ت 4 أو 57)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

[تنبيه]: هذا الإسناد مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1288]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ

(1)

"لُبّ اللباب" 2/ 308.

ص: 602

مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَزَادَ، أَوْ نَقَصَ، قَالَ إبْرَاهِيمُ: وَالْوَهْمُ مِنِّي، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ"، ثُم تَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

2 -

(ابْنُ مُسْهِرِ) هو: عليّ بن مُسْهِر القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعدما أَضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سُليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عارف بالقراءة، وَرعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

والباقون تقدّموا قبله، و"إبراهيم" هو: ابن يزيد النخعيّ.

وقوله: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو: ابن يزيد النخعيّ الراوي عن علقمة، يعني أن التردّد في كونه زاد أو نقص منّي، لا من علقمة، ولا من عبد اللَّه.

وقوله: (فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ"، ثُمَّ تَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما يُسْتَشْكَلُ ظاهره؛ لأن ظاهره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم هذا الكلام بعد أن ذكر أنه زاد أو نقص، قبل أن يسجد للسهو، ثم بعد أن قاله سجد للسهو، ومتى ذكر ذلك فالحكم أنه يسجد، ولا يتكلَّم، ولا يأتي بمنافٍ للصلاة.

ويجاب عن هذا الإشكال بثلاثة أجوبة:

[أحدها]: أن "ثُمَّ" هنا ليست لحقيقة الترتيب، وإنما هي لعطف جملة على جملة، وليس معناه أن التحوّل والسجود كانا بعد الكلام، بل إنما كانا قبله، ومما يؤيّد هذا التأويل أنه قد سبق في هذا الباب في أول طرق حديث

ص: 603

ابن مسعود رضي الله عنه هذا بهذا الإسناد: صلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فزاد أو نقص، فلَمّا سَلَّم قيل له: يا رسول اللَّه أَحَدَث في الصلاة شيءٌ؟ قال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليت كذا وكذا، فَثَنَى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سَلَّم، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال:"إنه لو حَدَث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشرٌ أَنْسَى كما تَنْسَوْن، فإذا نسيت فذكِّروني، وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرَّ الصواب، فَلْيُتِمَّ عليه، ثم ليسجد سجدتين".

فهذه الرواية صريحة في أن التحوُّل والسجود قبل الكلام، فتحمل الثانية عليها؛ جمعًا بين الروايتين، وحمل الثانية على الأولى أولى من عكسه؛ لأن الأولى على وفق القواعد.

[الجواب الثاني]: أن يكون هذا قبل تحريم الكلام في الصلاة.

[الثالث]: أنه وإن تكلَّم عامدًا بعد السلام لا يضُرّه ذلك، ويسجد بعده للسهو، وهذا على أحد الوجهين لأصحابنا أنه إذا سجد لا يكون بالسجود عائدًا إلى الصلاة، حتى لو أحدث فيه لا تبطل صلاته، بل قد مَضَت على الصحة، والوجه الثاني وهو الأصح عند أصحابنا أنه يكون عائدًا، وتبطل صلاته بالحدث والكلام، وسائر المنافيات للصلاة، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح الأجوبة أولها، وهو حمل هذه الرواية على الرواية السابقة، وهي رواية منصور، عن إبراهيم، وسيأتي عن ابن خزيمة: أنه رجّح هذا التأويل، وقال: إن رواية منصور أرجح.

والحاصل أن هذا الكلام صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد سجدتي السهو، والسلام من الصلاة، لا قبله، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1289]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا:

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 66 - 68.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 604

حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(حَفْص) بن غِيَاث بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغير قليلًا بآخره [8](ت 194) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

والباقون تقدّموا في الباب، و"ابن نُمير": هو محمد بن عبد اللَّه بن نُمير.

وقوله: (سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، بَعْدَ السَّلَام وَالْكَلَامِ) قال في "الفتح": رَوَى الأعمش، عن إبراهيم هذا الحديث مُختصرًا، ولفظه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام، أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن خزيمة، وغيرهم، قال ابن خزيمة: إن كان المراد بالكلام قوله: "وما ذاك؟ " في جواب قولهم: "أزيد في الصلاة؟ "، فهذا نظير ما وقع في قصة ذي اليدين، وسيأتي البحث فيه فيها، وإن كان المراد به قوله:"إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"، فقد اختَلَف الرواة في الموضع الذي قالها فيه، ففي رواية منصور أن ذلك كان بعد سلامه من سجدتي السهو، وفي رواية غيره أن ذلك كان قبلُ، ورواية منصور أرجح، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1290]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِمَّا زَادَ، أَوْ نَقَصَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَايْمُ اللَّهِ مَا جَاءَ ذَاكَ

(1)

"الفتح" 3/ 115.

ص: 605

إِلَّا مِنْ قِبَلِي، قَالَ: فَقُلْنَا

(1)

: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟، فَقَالَ:"لَا"، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ الَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ:"إِذَا زَادَ الرَّجُلُ، أَوْ نَقَصَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ"، قَالَ: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار الْقُرَشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، وربّما نُسِب إلى جدّه، ثقةٌ [11](ت في حدود 250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيّ) الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيٌّ [7](ت 160)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقون تقدّموا قبله، و"سُليمان": هو الأعمش.

وقوله: (وَايْمُ اللَّهِ) مختصرٌ من "أيمُنُ اللَّه" بحذف الهمزة والنون، وهو مبتدأ حُذف خبره، والتقدير: وايمُ اللَّه قسمي، أو خبر لمحذوف، والتقدير: قسمي وايمُ اللَّه، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَبَعْدَ "لَوْلَا" غَالِبًا حَذْفُ الْخَبَرْ

حَتْمٌ وَفِي نَصِّ يَمِينٍ ذَا اسْتَقَرْ

قال الفيّوميّ رحمه الله: "وأيمُنُ" اسمٌ استُعْمِل في القسم، والتُزِم رفعه كما التُزِم رفعُ "لَعَمرُ اللَّه"، وهمزته عند البصريين وصلٌ، واشتقاقه عندهم من الْيُمْنِ، وهو البركةُ، وعند الكوفيين قطعٌ؛ لأنه جمع يَمِين عندهم، ثم اختُصِر ثانيًا، فقيل:"مُ اللَّه" بضمّ الميم وكسرها. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "لَيْمُنُ"، و"أَيْمُنُ" من ألفاظ القسم، تقول: لَيْمُنُ اللَّه لأفعلنّ، وأيمُنُ اللَّه لأفعلنّ، وايمُ اللَّه لأفعلنّ بحذف النون، وفيها لغاتٌ غير هذا، وأهل الكوفة يقولون: أَيْمُن: جمعُ يمين القَسَمُ، والألف فيها ألف وصل، وتُفتح وتُكسر، انتهى

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "قال: قلنا".

(2)

"المصباح المنير" 2/ 682.

(3)

"النهاية" 5/ 302.

ص: 606

وقال في "اللسان": و"أَيْمُنُ": اسم وُضِع للقسم هكذا بضم الميم والنون، وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجئ في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها، قال: وقد تدخل عليه اللام لتأكيد الابتداء، تقول: لَيْمُنُ اللَّه، فتذهب الألف في الوصل، قال نُصَيْبٌ [من الطويل]:

فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ لَمَّا نَشَدْتُهُمْ

نَعَمْ وَفَرِيق لَيْمُنُ اللَّهِ مَا نَدْرِي

وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: لَيْمُنُ اللَّه قَسَمِي، ولَيْمُنُ اللَّه ما أُقْسِم به، وإذا خاطبتَ قلتَ: لَيْمُنُكَ، وربما حذفوا منه النون، قالوا: أَيْمُ اللَّه، وإِيمُ اللَّه أيضًا بكسر الهمزة، وربما حذفوا منه الياء، قالوا: أَمُ اللَّه، وربما أَبْقَوْا الميم وحدها مضمومةً، قالوا: مُ اللَّهِ، ثم يكسرونها؛ لأنها صارت حرفًا واحدًا، فيشبهونها بالباء، فيقولون: مِ اللَّهِ، وربما قالوا: مُنُ اللَّهِ بضم الميم والنون، ومَنَ اللَّهِ بفتحهما، ومِنِ اللَّهِ بكسرهما. انتهى باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: "أيمن" أحد الأسماء العشر التي لم تُحفَظ همزة الوصل في الأسماء التي ليست مصادر للفعل الزائد على أربعة إلا فيها، وهي التي جمعها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَفِي اسْمٍ اسْتٍ ابْنٍ ابْنُمٍ سُمِعْ

وَاثْنَيْنِ وَامْرِئٍ وَتَأْنِيثٍ تَبِعْ

وَايْمُنُ هَمْزُ أَلْ كَذَا وَيُبْدَلُ

مَدًّا فِي الاسْتِفْهَامِ أَوْ يُسَهَّلُ

وقوله: (مَا جَاءَ ذَاكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِي) إشارة إلى تردّده في الزيادة، أو النقص، وقد تقدّم جزمه بالزيادة في رواية الحكم عنه:"صلّى الظهر خمسًا، فلما سلّم قيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمسًا"، فجزم بالزيادة، فتنبّه.

وقوله: (فَقُلْنَا لَهُ الَّذِي صَنَعَ) أي ذكرنا له الشيء الذي صنعه في الصلاة.

وقوله: (إِذَا زَادَ الرَّجُلُ، أَوْ نَقَصَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يقتضي التسوية بين ما كان للنقص وبين ما كان للزيادة، فإما أن يكون هذا الأمر بهما على الوجوب، أو على الندب، والتفرقة التي حكيناها عن أصحابنا -يعني المالكيّة- مخالفة لهذا النصّ، فتُلغى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"لسان العرب" 13/ 462.

(2)

"المفهم" 2/ 186.

ص: 607

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أجمل كلام القرطبيّ رحمه الله، وأحسنه، وأصدقه، فكلّ قول خالف النصّ يُلْغَى، وإن كان مذهب جلّ الناس، وهكذا ينبغي للمقلّد إذا خالف مذهبه النصوص أن يقول مثل هذا القول، فإن اللَّه تعالى ضمن الهدى والفلاح في اتّباع النصوص، لا في اتّباع آراء الناس، قال اللَّه تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، وقال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1291]

(573) - (حَدَّثَنِي

(1)

عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَي الْعَشِيِّ، إِمَّا الظُّهْرَ، وَإِمَّا الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى جِذْعًا فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا مُغْضَبًا، وَفي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا

(2)

أَنْ يَتَكَلَّمَا، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، قُصِرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ:"مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ "، قَالُوا: صَدَقَ، لَمْ تُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ، قَالَ: وَأُخْبِرْتُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّهُ قَالَ: وَسَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم في الباب.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب أيضًا.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(2)

وفي نسخة: "فهاباه".

ص: 608

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلالي، أبو محمد الكوفي، ثم المكي، ثقةٌ حافظ فقيه إمام حجّة رأس [8](ت 198) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 383.

4 -

(أَيُّوبُ) رضي الله عنه، أبي تميمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ فقيه [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

6 -

(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والسماع.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، إذا كان من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، فقد نُقل عن ابن المدينيّ أنه قال: أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عنه.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في عصره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

عن محمد بن سيرين أنه قال: (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": ظاهر في أن أبا هريرة رضي الله عنه حضر القصة، وحمله الطحاوي على المجاز، فقال: إن المراد به صلّى بالمسلمين، وسبب ذلك قول الزهريّ: إن صاحب القصة استُشْهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصّة وقعت قبل بدر، وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين

(1)

.

(1)

والصواب بأكثر من أربع سنين؛ لأن غزوة بدر وقعت في رمضان من السنة الثانية =

ص: 609

لكن اتفق أئمة الحديث -كما نقله ابن عبد البرّ وغيره- على أن الزهريّ وَهمَ في ذلك، وسببه أنه جعل القصّة لذي الشمالين، وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر، وهو خُزَاعي، واسمه عُمَير بن عبد عمرو بن نَضْلَة، وأما ذو اليدين، فتأخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدّة؛ لأنه حدّث بهذا الحديث بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه الطبرانيّ وغيره، وهو سُلَميّ، واسمه الخرْبَاق، على ما سيأتي البحث فيه.

وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فقام رجل من بني سُلَيم"، فلما وقع عند الزهريّ بلفظ:"فقام ذو الشمالين"، وهو يَعرِف أنه قُتِل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصّة وقعت قبل بدر.

وقد جوّز بعض الأئمة أن تكون القصّة وقعت لكلّ من ذي الشمالين، وذي اليدين، وأن أبا هريرة رضي الله عنه رَوَى الحديثين، فأرسل إحداهما، وهي قصّة ذي الشمالين، وشَاهَدَ الأُخرى، وهي قصّة ذي اليدين، وهذا مُحتمل من طريق الجمع.

وقيل: يُحمَل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضا: ذو اليدين، وبالعكس، فكان ذلك سببًا للاشتباه.

ويَدْفَع المجاز الذي ارتكبه الطحاويّ ما رواه مسلم، وأحمد، وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ:"بينما أنا أصلي مع رسول اللَّه-صلى الله عليه وسلم".

وقد اتَّفَقَ معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين، ونصّ على ذلك الشافعيّ رحمه الله في "اختلاف الحديث".

وقال صاحب "المرعاة" بعد نقل ما تقدّم ما خلاصته: رواية أحمد، ومسلم، والبيهقيّ بلفظ:"بينما أنا أصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " نصّ صريح في حضور أبي هريرة قصّة ذي اليدين، وليس عند من ادّعى عدم حضوره عن هذه الرواية الصحيحة الصريحة جوابٌ شافٍ، وقد اعترف به صاحب "البحر الرائق"، من الحنفيّة، حيث قال: لم أجد جوابًا شافيًا عن هذه، وكذا اعترف صاحب "العرف الشذيّ" منهم أيضًا، حيث قال: ولكن الطحاويّ لم يُجِب عما في طريق مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "بينا أنا أصلي. . . إلخ".

= من الهجرة، وإسلام أبي هريرة رضي الله عنه وقع في عام خيبر في أول سنة سبع، فتأمّل.

ص: 610

قال: ثم إن الحنفيّة لَمّا عجزوا عن جواب هذه الرواية اعترف بعضهم بعدم وجدان الجواب الشافي، وسعى بعضهم لإثبات الوهم فيها من الراوي، فقال النيموريّ، ومن تبعه أخذًا عن العينيّ رحمه الله قوله:"بينما أنا أصلي" ليس بمحفوظ، ولعلّ بعض رواة الحديث فهم من قول أبي هريرة رحمه الله:"صلّى بنا" أنه كان حاضرًا، فروى هذا الحديث بالمعنى على ما زعمه، وقد أخرجه مسلم من خمس طرُق، فلفظه في طريقين:"صلّى بنا"، وفي طريق:"صلّى لنا"، وفي طريق:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين"، وفي طريق:"بينما أنا أصلّي مع رسول اللَّه-صلى الله عليه وسلم"، تفرّد بها يحيى بن أبي كثير، وخالفه غير واحد من أصحاب أبي سلمة، وأبي هريرة، فكيف يُقبل أن أبا هريرة قال في هذا الخبر:"بينما أنا أصلِّي"؟. انتهى.

قال المباركفوري رحمه الله في "شرح الترمذيّ" مجيبًا عن كلام النيموريّ هذا ما لفظه: قلت: يحيى بن أبي كثير ثقةٌ ثبت متقن، قال الحافظ في "مقدّمة الفتح": أحد الأئمة الثقات الإثبات، قال شعبة: حديثه أحسن من حديث الزهريّ، وقال في "تهذيب التهذيب": وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: يحيى بن أبي كثير من أثبت الناس، إنما يُعدّ مع الزهريّ، ويحيى بن سعيد، وإذا خالفه الزهريّ، فالقول قول يحيى. انتهى.

فكيف لا يُقبل ما تفرّد به مثلُ هذا الثقة الثبت الذي هو من أثبت الناس، وإذا خالفه الزهريّ فالقول قوله؟ فقول النيموريّ: قوله: "بينما أنا أصلي" غير محفوظ مردودٌ عليه.

والحاصل أن رواية مسلم وأحمد بلفظ: "بينما أنا أصلِّي" صحيحة محفوظة، وهي نصّ صريح في شُهود أبي هريرة رضي الله عنه قصّة ذي اليدين، وليس لمن أنكر ذلك جواب شاف عن هذه الرواية. انتهى كلام المباركفوريّ رحمه الله

(1)

. وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.

(إِحْدَى صَلَاتَي الْعَشِيِّ)"الْعَشِيُّ" -بفتح العين المهملة، وكسر السين، وتشديد الياء- أصله من العِشَاء، وهي الظلمة، واختُلف في تحديد وقت

(1)

"المرعاة" 3/ 409.

ص: 611

العشيّ، فالذي اختاره الأزهريّ أنه من زوال الشمس إلى غروبها، وقيل: من صلاة المغرب إلى العَتَمَة، وقال ابن الأثير: ما بعد الزوال إلى المغرب عشيّ، وقيل: العشيّ من زوال الشمس إلى الصباح، واختار الحافظ العلائيّ هذا القول، قال: وبه يحصل الجمع بين الأقوال كلها.

(إِمَّا الظُّهْرَ، وَإِمَّا الْعَصْرَ) بالشكّ، وكذا في رواية للبخاري:"الظهر، أو العصر" بالشك أيضًا، ووقع عند البخاري بلفظ:"إحدى صلاتي العشي"، قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا، فهذا صريح في أن الناسي هو ابن سيرين، لكن في رواية النسائيّ رحمه الله قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ولكني نسيت"، وهذا ظاهر في أن الشكّ من أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي الرواية الآتية [1293] من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"صلّى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر"، من غير شك، وفي رواية أبي سلمة، عنه الآتية:"بينا أنا أصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر" من غير شك أيضًا، وفي رواية له قال محمد:"وأكثر ظني أنها العصر".

قال الحافظ رحمه الله: والظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة، وأبعدَ من قال: يُحْمَل على أن القصة وقعت مرتين، بل الظاهر أن أبا هريرة رضي الله عنه رواه كثيرًا على الشك، وكان ربما غَلَب على ظنه أنها الظهر، فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر، فجزم بها، وطرأ الشكُّ في تعيينها أيضًا على ابن سيرين، وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصّة من الأحكام الشرعية، ولم تختلف الرواة في حديث عمران في قصة الْخِرْباق أنها العصر، فإن قلنا: إنهما قصّة واحدة، فيترجّح رواية مَنْ عَيّنَ العصرَ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يمكن اتّحاد قصّة أبي هريرة وعمران رضي الله عنهما، بل هما قصّتان؛ لأن في قصّة أبي هريرة رضي الله عنه أنه سلّم من ركعتين، وفي قصّة عمران رضي الله عنه أنه سلّم من ثلاث، فتبصّر.

(فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ) أي في آخر ركعتين من تلك الصلاة (ثُم أتى جِذْعًا) بكسر الجيم، وسكون الذال المعجمة، آخره عين مهملة: ساق النخلة، ويُسمّى

ص: 612

سَهْم السقف جِذْعًا، والجمع جُذُوعٌ وأَجْذاع، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقوله: (فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ) متعلّق بصفة لـ "جِذْعًا"، وفي رواية للبخاري:"ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد"، وفي النسائيّ:"فانطلق إلى خشبة معروضة في المسجد".

قال الحافظ رحمه الله: ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنها تُحْمَل على أن الجذع قبل اتّخاذ المنبر كان ممتدّا بالعرض، وكأنه الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشرّاح. انتهى.

(فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كل الأصول: "فاستند إليها"، والجذع مذكَّرٌ، ولكن أَنَّثه على إرادة الخشبة، وكذا جاء في رواية البخاريّ وغيره:"خشبة". انتهى.

وقال القرطبيّ: الجِذع مذكّرٌ، لكنه أعاد عليه ضمير المؤنّث؛ لأنه خشبةٌ، كما قالوا: بلغني كتابه، فمزّقتها؛ لأن الكتاب صحيفةٌ. انتهى

(2)

.

وقوله (مُغْضَبًا) بفتح الضاد المعجمة، حال من الفاعل، وفي رواية البخاريّ:"فاتّكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبّك بين أصابعه، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفّه اليسرى".

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: والظاهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في حال الصلاة مشغولَ البال بأمر أوجب له ذلك الغضب، وهو الذي حمله على أن صلّى ركعتين، وسلَّم، ولم يشعر بذلك. انتهى.

زاد في رواية البخاريّ: "فقال بيده عليها"، أي اتكأ بيده على تلك الخشبة، وفيه إطلاق القول على الفعل.

(وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) رضي الله عنهما، أي وكان مع القوم الذين صلَّوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصدِّيق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما (فَهَابَا) وفي نسخة:"فهاباه"(أَنْ يَتَكَلَّمَا) وفي رواية البخاريّ: "فهاباه أن يكلّماه"، أي خافا من تكليمه صلى الله عليه وسلم، و"الهيبة": إجلالٌ ومخافةٌ ناشئة عن إعظام.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 94.

(2)

"المفهم" 2/ 187.

ص: 613

والمعنى أنهما غلب عليهما احترامه صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه عن الاعتراض عليه، وأما ذو اليدين، فغلب عليه حرصه على تعلم العلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنهما بما غلبهما من احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وإكبار مقامه الشريف امتنعا من تكليمه صلى الله عليه وسلم مع علمهما بأنه سيَبِين أمر ما وقعَ، ولعلّه بعد النهي عن السؤال، كما قرّرناه في "كتاب الإيمان".

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما هيبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن يُكَلّماه مع قربهما منه، واختصاصهما به فلشدّة معرفتهما بعظمته وحقوقه، وقوّةُ المعرفة توجب الهيبة، كما أن أشدّ الناس معرفةً باللَّه أشدهم له خشيةً وهيبةً وإجلالًا، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك. انتهى.

وقال الحافظ العلائيّ رحمه الله: معنى الحديث: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لَمّا غَلَبَ عليهما من احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه، وإكبار مقامه الشريف امتنعا من تكليمه.

هذا مع ما روَى الترمذيّ في "جامعه" بسند جيّد عن أنس رضي الله عنه، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَخرُج على أصحابه، فلا ينظر إليه أحد سوى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه، ويبتسم إليهما.

ففي هذا المقام غلبت عليهما الهيبة له صلى الله عليه وسلم مع علمهما بأنه سيتبيّن أمرُ مَا وقع.

وأما إقدام ذي اليَدِين على السؤال والفحص ابتداءً، فهو لشدة حرصه على تعلم العلم، واعتنائه بأمر الصلاة. انتهى.

وقوله: "أن يكلماه"

(1)

في موضع نصب بدل من الهاء في "هاباه"، بدل ظاهر من مضمر، وهو بدل اشتمال، والتقدير "فهاباه تكليمه"، والمعنى:"هابا تكليمه"؛ لأن البدل هو المقصود بالنسبة، أفاده العلائيّ رحمه الله.

(وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ) بفتحات: هم أوائل الناس خروجًا من المسجد، وهم أصحاب الحاجات غالبًا.

(1)

هذه رواية البخاريّ.

ص: 614

وقال ابن الأثير رحمه الله: هم أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء، ويُقبلون عليه بسرعة.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وسَرَعَان الناس: هم الذين أسرعوا الخروج من المسجد، فظنوا أن الصلاة قصرت، فتحدثوا بذلك، وهذا يدلّ على أنه لم يَخْفَ ذلك على عامّة من كان في المسجد أو كلّهم. انتهى.

قال القاضي عياض رحمه الله: رَوَيناه بفتح السين والراء عن مُتقني شيوخنا، وهو قول الكسائيّ، وغيرُهُ يسكن الراء.

وقال الخطابي: ويقال لهم: سِرْعان -بكسر السين، وسكون الراء- وهو جمع سريع، كقولهم: رَعيل ورِعْلان.

وقال عياض: ورَوَيناه في البخاريّ من طريق الأصيلي بضم السين، وإسكان الراء، وكذا وجدته بخطه في أصله. ووجهه أنه جمع سَرِيع، كقَفِيز وقُفْزان، وكَثيب وكُثبان.

وقال النوويّ رحمه الله: "السَّرَعَان" بفتح السين والراء، هذا هو الصواب الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة، وهكذا ضبطه المتقنون، والسرعان: المسرعون إلى الخروج. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ العلائيّ رحمه الله: الذي قاله جمهور أهل اللغة هو القول الأول، بفتح السين والراء معًا، لكن فرّق أبو العباس المبرّد، فقال: إذا كان السَّرَعان من الناس قيل: بفتح الراء وسكونها، وإن كان من غيرهم فالفتح أفصح، ويجوز الإسكان

(2)

.

وقوله: (قُصِرَتِ الصَّلَاةُ) فعلٌ ونائب فاعله، وهو مقول لقول مقدّر حالٍ من "سَرَعَان الناس"، أي خرجوا حال كونهم قائلين: قُصرت الصلاةُ، وفي رواية البخاريّ:"وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قُصرت الصلاة".

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 68.

(2)

"نظم الفرائد"(ص 127 - 128).

ص: 615

ويَحْتمل أن يكون بتقدير همزة الاستفهام، وهو رواية النسائيّ، ولفظه:"فقالوا: أقُصِرت الصلاةُ".

وقول النوويّ رحمه الله قوله: "قصرت الصلاة" بضم القاف وكسر الصاد، على البناء للمفعول، أي إن اللَّه قَصَرَها ورُوي بفتح القاف وضم الصاد، على بناء الفاعل، وكلاهما صحيح، ولكن الأول أشهر وأصحّ. انتهى.

وقال الحافظ العلائي رحمه الله وقوله: "أقصرت الصلاة" فيه روايتان، إحداهما بضم القاف، وكسر الصاد على البناء لما لم يسم فاعله.

والثانية: بفتح القاف، وضم الصاد، والفعل لازم ومتعدّ، فاللازم مضموم الصاد التي هي عين الكلمة؛ لأنه من الأمور الخَلْقيّة، كحَسُنَ وقَبُحَ، والمتعدي بفتح الصاد، ومنه قَصَرَ الصلاةَ وقَصَّرَها، وأقصرها على السواء. حكاه الأزهري.

ولا يقال: إن "قَصَرَ" إذا كان مخففًا لا يتعدّى إلا بحرف الجرّ، كقوله تعالى:{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]؛ لأنا نقول: تعدّيه بنفسه ثابتٌ ومنقولٌ، حكاه أيضا الجوهري وغيره.

وأما "من" في الآية فزائدة عند الأخفش، وصفة لمحذوف عند سيبويه، تقديره:"شيئًا من الصلاة". انتهى بتصرف.

وفيه دليلٌ على وَرَعِهم، إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم، وهابوا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسألوه، وإنما استفهموا؛ لأن الزمان زمان النسخ.

(فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ) وفي رواية أبي سلمة الآتية: "فقام رجلٌ من بني سُليم"، وفي حديث عمران رضي الله عنه الآتي:"فقام إليه رجل يقال له: الْخِرْباق، وكان في يديه طُولٌ"، وفي رواية:"فقام رجلٌ بَسِيط اليدين"، هذا كله رجلٌ واحدٌ، اسمه الْخِرباق بن عمرو، بكسر الخاء المعجمة والباء الموحدة.

وفي رواية البخاريّ: "وفي القوم رجل في يديه طولٌ، يقال له: ذو اليدين".

والمعنى: أنه كان مع القوم رجل موصوفٌ بطول اليدين، وهو محمول على الحقيقة، ويَحْتَمل أن يكون كناية عن طولهما بالعمل، أو بالبذل، قاله القرطبي، وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعًا. وحُكي عن بعض شُرّاح

ص: 616

"التنبيه" أنه قال: كان قصير اليدين، فكأنه ظن أنه حميد الطويل، فهو الذي فيه الخلاف.

والصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين، وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الْخِرْباق -بكسر المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحّدة، وآخره قاف- اعتمادًا على ما وقع في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عند مسلم، ولفظه:"فقام رجل، يقال له: الْخِرباق، وكان في يده طول"، وهذا صنيع من يُوَحِّدُ حديثَ أبي هريرة بحديث عمران، قال الحافظ: وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة، ومن تبعه جَنَحُوا إلى التعدد، والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين، ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من اثنتين، وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران أنه سلَّم من ثلاث ركعات، وأنه دخل منزله لمّا فرغ من الصلاة.

فأما الأول: فقد حَكَى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلّم في ابتداء الركعة الثالثة، واستبعده.

ولكن طريق الجمع يُكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصّة، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كلّ مرّة استفهم النبيّ عن ذلك، واستفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ عن صحّة قوله.

وأما الثاني: فلعلّ الراوي لمّا رآه تقدَّم من مكانه إلى جهة الخشبة ظنّ أنه دخل منزله؛ لكون الخشبة كانت في جهة منزله، فإن كان كذلك، وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعيّ، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه، كما أخرجه أبو بكر الأثرم، وعبد اللَّه بن أحمد في زيادات "المسند"، وأبو بكر بن أبي خيثمة، وغيرهم.

وقد ورد ما يدلّ على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة:"نُبِّئت أن عمران بن حُصَين قال: ثم سلّم". انتهى كلام الحافظ رحمه الله ببعض تصرف.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي رجحه الحافظ رحمه الله تعالى من دعوى الاتّحاد بين حديث أبي هريرة، وحديث عمران بن حُصَين رضي الله عنهم فيه

ص: 617

نظر لا يخفى، والذي ذكره في وجه الجمع ظاهر التكلُّف، فالذي يظهر أن ما رجحه ابن خزيمة، ومن تبعه هو الصواب؛ إذ لا تكلّف فيه، فتأمل، وسيأتي تمام الكلام عند ذكر كلام الحافظ العلائيّ رحمه الله في المسائل -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَقَالَ) ذو اليدين (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أقصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟) استفهام عن سبب تسليمه على رأس الركعتين (فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمِينًا وَشِمَالًا) وفي رواية أبي سفيان التالية: "فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كلُّ ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول اللَّه، فأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الناس. . . "، وفي رواية البخاريّ:"لم أنس، ولم تُقصر".

قال في "الفتح": قوله: "لم أنسَ، ولم تُقصَر" كذا في أكثر الطرُق، وهو صريح في نفي النسيان، ونفي القصر، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان، عن أبي هريرة:"كلُّ ذلك لم يكن"، وتأييد لما قاله أصحاب المعاني: إن لفظة "كلّ" إذا تقدّمت، وعَقَبَها النفي كان نفيًا لكلّ فرد، لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كلّ ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله:"قد كان بعض ذلك"، وأجابه في رواية بقوله:"بلى قد نسيتَ"؛ لأنه لَمّا نَفَى الأمرين، وكان مقرّرًا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان، لا القصر.

وهو حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وإن كان عياض نقيل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخَصّ الخلاف بالأفعال، لكنهم تعقبوه.

نعم اتَّفَق من جَوَّز ذلك على أنه لا يُقَرُّ عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلًا بالفعل، أو بعده، كما وقع في هذا الحديث من قوله:"لم أنسَ، ولم تُقصَر"، ثم تبيّن أنه نَسِيَ.

ومعنى قوله: "لم أنس"، أي في اعتقادي، لا في نفس الأمر، ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة جواز السهو في مثل هذا بيانُ الحكم الشرعي، إذا وقع مثله لغيره.

وأمّا من منع السهو مطلقًا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:

ص: 618

فقيل: قوله: "لم أنس" نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرّق بينهما، وهو مردود، ويكفي في ردّه قوله في الحديث:"بلى قد نسيتَ"، وأقرّه على ذلك.

وقيل: قوله: "لم أنسَ" على ظاهره، وحقيقته، وكان يتعمّد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول.

وتُعُقّب بحديث ابن مسعود رضي الله عنه الماضي: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون"، فأثبت العلة قبل الحكم، وقيَّد الحكم بقوله:"إنما أنا بشر"، ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا، فقال:"كما تنسون".

وبهذا الحديث يردّ أيضًا قول من قال: معنى قوله: "لم أنسَ" إنكارٌ للّفظ الذي نفاه عن نفسه، حيث قال:"إني لا أنسى، ولكن أُنَسَّى"، وإنكارٌ للّفظ الذي أنكره على غيره، حيث قال:"بئسما لأحدكم أن يقول: نَسِيتُ آية كذا وكذا".

وقد تعقبوا هذا أيضًا بأن حديث: "إني لا أَنْسَى"، لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وأما الآخر فلا يلزم من ذمّ إضافة نسيان الآية ذمّ إضافة نسيان كلّ شيء، فإن الفرق بينهما واضح جدًّا.

وقيل: إن قوله: "لم أنسَ" راجع إلى السلام، أي سلّمت قصدًا بانيًا على ما في اعتقادي أني صلّيت أربعًا، وهذا جيّد، وكأن ذا اليدين فهم العموم، فقال:"بلى قد نسيت"، وكان هذا القول أوقع شكًّا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين.

وبهذا التقرير يندفع إيراد مَن استشكل كون ذي اليدين عدلًا، ولم يُقبَل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسؤول، مُغَايِرٍ لما في اعتقاده.

وبهذا يجاب مَن قال: إن من أخبر بأمر حسّيّ بحضرة جمع، لا يَخفَى عليهم، ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حاملَ لهم على السكوت عنه، ثم لم يُكَذِّبُوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارَضًا باعتقاد المسؤول خلاف ما أخبر به.

ص: 619

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ ") استفهام عما قاله، وفي رواية أبي سفيان:"أصدق ذو اليدين؟ "، وفي رواية للبخاريّ:"أكما يقول ذو اليدين؟ "، والهمزة للاستفهام، أي هل الأمر كما يقول ذو اليدين من وقوع الخلل في هذه الصلاة؟ (قَالُوا: صَدَقَ) وفي رواية أبي سفيان: "فقالوا: نعم يا رسول اللَّه"، وفي رواية أبي داود: فقال: "أصدق ذو اليدين؟ "، فأومأوا، أي نعم.

قيل: ولا منافاة بين هذه الروايات، لإمكان الجمع بينها بأن بعض الرواة جمع بين الإشارة والكلام، وبعضهم أشار، وبعضهم تكلم.

(لَمْ تُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أي ما بقي من صلاته، وفي رواية أبي سفيان:"فأتمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة"، وفي رواية البخاريّ:"فتقدّم، فصلى ما ترك"، وفي رواية أبي داود:"فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مقامه، فصلّى الركعتين الباقيتين".

(وَسَلَّمَ) وفي رواية البخاريّ: "ثمّ سلّم"، قال الحافظ العلائيّ رحمه الله: جميع رواياته وطرقه لم يَختلف فيه شيء منها أن السجود بعد السلام، كذا في شرح ابن رسلان لسنن أبي داود، وهذا يَهْدِم قاعدةَ المالكية، ومن وافقهم أنه إذا كان السهو بالنقصان يسجد قبل السلام.

(ثُمَّ كَبَّرَ) أي للسجود بعد السلام، قال في "الفتح": اختُلِف في سجود السهو بعد السلام، هل يشترط له تكبيرة الإحرام، أو يُكتفَى بتكبيرة السجود؟ فالجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث.

وحَكَى القرطبيّ أن قول مالك لم يَختَلِف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بسلام، لا بدّ له من تكبيرة إحرام، ويؤيده ما رواه أبو داود من طريق حماد بن زيد، عن هشام بن حسّان، عن ابن سيرين في هذا الحديث، قال:"فكبر، ثم كبر، وسجد للسهو". قال أبو داود: لم يقل أحد: "فكبر، ثم كبر" إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة.

وقال القرطبي أيضًا: قوله -يعني في رواية مالك-: "فصلّى ركعتين، ثم سلّم، ثم كبّر، ثم سجد" يدلّ على التكبيرة للإحرام؛ لأنه أتى بـ "ثمّ" التي تقتضي التراخي، فلو كان التكبير للسجود لكان معه.

وتعقّب بأن ذلك من تصرّف الرواة، فقد رواه ابن عون، عن ابن سيرين

ص: 620

بلفظ: "فصلّى ما ترك، ثم سلّم، ثم كبّر، وسجد"، فأتى بواو المصاحبة التي تقتضي المعية، واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي قول الجمهور هو الصحيح، وهو أنه لا يحتاج لتكبيرة الإحرام، بل التكبير للسجود فقط؛ لظاهر هذه الأحاديث الصحيحة، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ سَجَدَ) أي للسهو، زاد في رواية البخاري:"مثلَ سجوده، أو أطول"(ثُمَّ كَبَّرَ، فَرَفَعَ) أي رفع رأسه من سجوده للسهو (ثُمَّ كَبَّرَ) أي للسجود الثاني (وَسَجَدَ) ثانيًا، زاد في رواية البخاريّ:"مثل سجوده أو أطول"(ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ) رأسه من السجود الثاني (قَالَ) ابن سيرين: (وَأُخْبِرْتُ) بالبناء للمفعول (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: وَسَلَّمَ) أي سلَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد سجدتي السهو.

وأخرج البخاريّ عن سلمة بن علقمة، قال: قلت لمحمد -يعني ابن سيرين-: في سجدتي السهو تشهُّد؟ قال: ليس في حديث أبي هريرة.

قال في "الفتح": وقد يُفْهَم من قوله: ليس في حديث أبي هريرة أنه ورد في حديث غيره، وهو كذلك، فقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك، عن محمد بن سيرين، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلّب، عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم". قال الترمذي: حسن غريب، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وضعّفه البيهقيّ، وابن عبد البرّ، وغيرهما، وسيأتي تمام الكلام عليه في كلام الحافظ العلائيّ -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 1291 و 1292 و 1293 و 1294 و 1295]

ص: 621

(573)

، و (البخاريّ) في "الصلاة"(482) و"الأذان"(714) و"السهو"(1228 و 1229) و"الأدب"(6551) و"أخبار الآحاد"(7250)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1008 و 1009 و 1010 و 1011 و 1012 و 1013 و 1014 و 1015 و 1016)، و (الترمذيّ) فيها (399)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1214)، و (النسائيّ) في "السهو"(1224 و 1225 و 1226 و 1227) وفي "الكبرى"(1147 و 1148 و 1149 و 1150)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 94)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 121)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3448)، (والحميدي) في "مسنده"(983 و 984)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 37)، (وأحمد) في "مسنده"(2/ 234 و 2/ 247 و 2/ 271 و 2/ 284 و 2/ 386 و 2/ 423 و 2/ 447 و 2/ 459 و 2/ 468 و 2/ 532)، (والدارمي) في "سننه"(1504 و 1505)، (وابن خزيمة) في "صحيحه"(860 و 1035 و 1036 و 1038 و 1040 و 1041 و 1042 و 1043 و 1044 و 1045 و 1046 و 1047 و 1048 و 1049 و 1051)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2249 و 2253 و 2254 و 2255 و 2256 و 2688)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1913 و 1914 و 1915 و 1916 و 1917 و 1918 و 1919 و 1920 و 1921)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1264 و 1265 و 1266 و 1267 و 1268 و 1269)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 444 و 445)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 357)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3/ 293)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة سجود السهو في الصلاة.

2 -

(ومنها): بيان الفعل الذي يفعله من سلّم من الركعتين، وتكلم ناسيًا، وذلك أن يكمل ما بقي من صلاته، ثم يسجد سجدتين لسهوه.

3 -

(ومنها): أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر، وكان المجلس مُتَّحِدًا، ومنعت العادة غفلتهم عن ذلك أن لا يقبل خبره؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبل خبر ذي اليدين، بل سأل الصحابة، "أصدق ذو اليدين؟ "، فلما وافقوه رجع إلى قولهم.

4 -

(ومنها): العمل بالاستصحاب؛ لأن ذا اليدين استَصْحَب حكمَ

ص: 622

الإتمام، فسأل، مع كون أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم للتشريع، والأصل عدم السهو، والوقتُ قابل للنسخ، وبقية الصحابة ترددوا بين الاستصحاب، وتجويز النسخ، فسكتوا، والسَّرَعانُ هم الذين بنوا على النسخ، فجزموا بأن الصلاة قصرت، فيؤخذ منه جواز الاجتهاد في الأحكام.

5 -

(ومنها): جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوًا، قال سحنون: إنما يَبْنِي من سلّمَ من ركعتين، كما في قصة ذي اليدين؛ لأن ذلك وقع على غير القياس، فيُقتصر به على مورد النصّ، وأُلزمَ بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشيّ، فيمنعه مثلًا في الصبح، والذين قالوا: يجوز البناء مطلقًا قيّدوه بما إذا لم يَطُل الفصل، واختلفوا في قدر الطول، فحدّه الشافعيّ رحمه الله في "الأمّ" بالعرف، وفي "البويطي" بقدر ركعة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قدر الصلاة التي يقع السهو فيها.

6 -

(ومنها): أن الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام، وأن السلام، ونِيّةَ الخروج من الصلاة سهوًا لا يقطع الصلاة.

7 -

(ومنها): أن سجود السهو يكون بعد السلام، وقد تقدّم تمام البحث فيه، قريبًا.

8 -

(ومنها): أن سجود السهو سجدتان كسجدتي الصلاة، وبينهما جَلْسة فاصلةٌ، وهذا أمر مُجْمَعٌ عليه.

9 -

(ومنها): أن سجود السهو لا يكون إلا في آخر الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد إلا في آخرها، وقد قيل: الحكمة في ذلك أنه شُرع جابرًا لما يقع في الصلاة من الخلل، إما بزيادة أو نقص، فاقتضت الحكمة كونَه آخرًا؛ لِيَجْبُر جميع ما تقدمه من الخلل؛ إذ لو فُعل في الوسط ربما تَجَدّد بعده سهو آخر، فيستدعي تكرار سجود السهو، ولم يُشرع إلا سجدتان، ولو تعدد السهو، واللَّه تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): مشروعية التكبير لسجود السهو في الْهُويّ والرفع منه، كما في سجود الصلاة.

11 -

(ومنها): مشروعية الجهر بتكبير سجود السهو؛ ليعلم المأمومون بانتقالات الإمام، فيأتموا به.

ص: 623

12 -

(ومنها): أن الكلام سهوًا لا يبطل الصلاة، خلافًا للحنفية.

قال الحافظ رحمه الله: وأما قول بعضهم: إن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة، فضعيف؛ لأنه اعتَمَدَ على قول الزهريّ رحمه الله إنها كانت قبل بدر، وقد قدمنا أنه إما من وَهَمِ الزهريّ في ذلك، أو تعددت القصة لذي الشمالين المقتول ببدر، ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت شهود أبي هريرة رضي الله عنه للقصة، كما تقدم وهو متأخّر الإسلام، وشَهِدها أيضًا عمران بن حُصين رضي الله عنهما، وإسلامه متأخر أيضًا، ورَوَى معاوية بن حُدَيج -بمهملة وجيم مصغّرًا- قصة أخرى في السهو، ووقع فيها الكلام، ثم البناء، أخرجها أبو داود، وابن خزيمة، وغيرهما، وكان إسلامه قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بشهرين.

وقال ابن بطال رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون قول زيد بن أرقم رضي الله عنه: "ونهينا عن الكلام" أي إلا إذا وقع سهوًا، أو عمدًا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين. انتهى.

13 -

(ومنها): أنه يُسْتَدَلّ به على أن المقدّر في حديث: "رُفعَ عن أمتي الخطأ والنسيان"، أي إثمهما وحكمهما، خلافًا لمن قصره على الإثم.

14 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به من قال: إن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها.

وتُعُقِّب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيًا، وأما قول ذي اليدين له:"بلى قد نسيتَ"، وقول الصحابة له:"صدق ذو اليدين"، فإنهم تكلموا معتقدين النسخ في وقت يمكن وقوعه فيه، فتكلموا ظنًّا أنهم ليسوا في صلاة، كذا قيل، وهو فاسد؛ لأنهم كلموه بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"لم تُقصر".

وأجيب بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومأوا، كما عند أبي داود في رواية، ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابيّ، وقال: حَمْلُ القول على الإشارة مجازًا سائغٌ، بخلاف عكسه، فينبغي ردّ الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه.

قال الحافظ: وهو قويّ، وهو أقوى من قول غيره: يُحمَلُ على أن بعضهم قال بالنطق، وبعضهم بالإشارة، لكن يبقى قول ذي اليدين: "بلى قد

ص: 624

نسيت"، ويجاب عنه، وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا بأن كلامهم كان جوابًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وجوابه لا يقطع الصلاة، كما تقدم في حديث أبي سعيد بن المعَلَّى رضي الله عنه.

وتُعُقّب بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدمُ قطع الصلاة.

وأجيب بأنه ثبت مخاطبته صلى الله عليه وسلم في التشهد، وهو حيّ بقولهم:"السلام عليك أيها النبي"، ولم تفسد الصلاة. والظاهر أن ذلك من خصائصه.

ويَحتَمل أن يقال: ما دام النبيّ صلى الله عليه وسلم يراجع المصلَّي، فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص الجواز بالجواب، لقول ذي اليدين:"بلى قد نسيتَ"، ولم تبطل صلاته.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن الأرجح قول من قال: إن الكلام في مصلحة الصلاة، على مثل ما وقع في هذه القصّة مستثنًى من حديث:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"، رواه مسلم؛ لأن هذا الذي وقع في هذه القصّة إنما وقع بعد النهي المذكور، كما أسلفنا البحث عنه مستوفى في محلّه.

قال القرطبيّ رحمه الله: حصل من مجموع هذا الحديث أن الكلّ تكلّموا في الصلاة بما يُصلحها، ثمّ من بعد كلامهم كمّل الصلاة، وسجد، ولغا كلامهم، ولم يضُرّ، فصار حجةً لمالك على أن من تكلّم في الصلاة لإصلاحها لم تبطل صلاته، وخالفه بعض أصحابه، وأكثر الناس، فجعلوه مفسدًا للصلاة، قال: والصحيح ما ذهب إليه مالك؛ تمسّكًا بالحديث، وحملًا له على الأصل الكليّ من تعدّي الأحكام، وعموم الشريعة، ودفعًا لما يُتوهَّم من الخصوصيّة؛ إذ لا دليل عليها، ولو كان شيء مما ادُّعِي لكان فيه تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة، ولا يجوز إجماعًا، ولكان بيّنه صلى الله عليه وسلم كما فَعَل في حديث أبي بُرْدة بن نِيَار رضي الله عنه، حيث قال:"ضَحِّ بها، ولن تَجزي عن أحد بعدك"، متّفقٌ عليه. انتهى ملخّص كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

15 -

(ومنها): أن سجود السهو لا يتكرر بتكرر السهو، ولو اختلف الجنس، خلافًا للأوزاعيّ، ورَوَى ابن أبي شيبة عن النخعيّ أن لكلّ سهو سجدتين.

ص: 625

وَوَرَدَ على وفقه حديثُ ثوبان رضي الله عنه عند أحمد، وإسناده منقطع، وحُمِل على أن معناه أن من سها بأيّ سهو كان شُرع له السجود؛ أي لا يختصّ بما سجد فيه الشارع.

وروى البيهقي من حديث عائشة رضي الله عنها: "سجدتا السهو تُجزئان من كلّ زيادة ونقصان"، وفيه أنه انفرد به حكيم بن نافع الرّقّي، وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة: ليس بشيء. قال العلائيّ: هو شاذّ بمرة؛ لتفرد حكيم به من بين أصحاب هشام بن عروة، ولا يُحْتَمَل منه مثل هذا التفرّد. انتهى.

16 -

(ومنها): أنه لا فرق بين الفرض والنفل في سجود السهو؛ لأن الذي يَحتاج إليه الفرض من الجبر يَحتاج إليه النفل، وهذا مذهب الجمهور، وذهب ابن سيرين، وقتادة إلى أن التطوع لا يُسجَد للسهو فيه، واختَلَف القول عن عطاء بن أبي رباح، وقد نَقَل هذا جماعة من الشافعية قولًا قديمًا للشافعيّ.

17 -

(ومنها): أن المأموم يلزمه السجود مع الإمام بسهو الإمام، وإن لم يسهُ هو؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سها وسجد، وسجد القوم معه، وهذا مذهب كافّة العلماء، إلا ابن سيرين، فقد حُكي عنه أنه قال: لا يسجد معه، وقيل: المنقول عنه أنه إذا أدرك المأمومُ بعضَ صلاة الإمام، ثم سها الإمام، فسجد للسهو لم يلزم المأموم متابعته؛ لأنه ليس موضع سجود المأموم.

18 -

(ومنها): أن اليقين لا يُترك إلا باليقين؛ لأن ذا اليدين كان على يقين أن فرضهم الأربع، فلما اقتصر فيها على اثنتين سأل عن ذلك، ولم ينكر عليه سؤاله.

19 -

(ومنها): أن الظنّ قد يصير يقينًا بخبر أهل الصدق، وهذا مبنيّ على أنه صلى الله عليه وسلم رجع لخبر الجماعة.

وبه قال مالك، وأحمد، وغيرهما، ومنهم من قيّده بما إذا كان الإمام مجوّزًا لوقوع السهو منه، بخلاف ما إذا كان متحققًا لخلاف ذلك، أخذًا من ترك رجوعه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين، ورجوعه للصحابة، ومن حجتهم قوله في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"فإذا نسيتُ فذكّروني".

وقال الشافعيّ رحمه الله: معنى قوله: "فذكّروني"، أي لأتذكّر، ولا يلزم منه أن يرجع لمجرّد إخبارهم، واحتمال كونه تذكّر عند إخبارهم لا يُدفَعُ.

ص: 626

وفرّق بعض المالكية والشافعية بين ما إذا كان المخبرون ممن يحصل العلم بخبرهم، فيقبل، ويقدم على ظن الإمام أنه قد كمّل الصلاة، بخلاف غيرهم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه تعالى: الذي يظهر لي أن الراجح ما ذهب إليه مالك، وأحمد رحمهما اللَّه من رجوع الإمام إلى قول المأمومين مطلقًا، ولو لم يتذكر؛ لظاهر حديث الباب، ولعدم ورود ما يدلّ على اشتراط التذكُّر بل إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا نسيتُ فذكِّروني"، يدلّ على خلافه، فإنه لم يقيّد بتذكُّره، بل أمر بتذكيره مطلقًا، وهو ظاهر مذهب الإمام البخاريّ في "صحيحه"، حيث قال:"باب هل يأخذ الإمام إذا شكّ يقول الناس؟ "، ثم أورد حديث قصّة ذي اليدين؛ احتجاجًا على ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

20 -

(ومنها): أنه استَنْبَط منه بعض العلماء القائلين بالرجوع إلى قول المأمومين اشتراط العدد في مثل هذا، وألحقوه بالشهادة، وفرّعوا عليه أن الحاكم إذا نسي حكمه، وشهد به شاهدان أنه يعتمد عليهما.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في هذا الاستنباط نظرٌ، فتأمل.

21 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به الحنفية على أن الهلال لا يُقبَل بشهادة الآحاد، إذا كانت السماء مصحيةً، بل لا بدّ فيه من عدد الاستفاضة.

وتُعُقِّب بأن سبب الاستثبات كونه أخبر عن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف رؤية الهلال، فإن الأبصار ليست متساوية في رؤيته، بل متفاوتة قطعًا.

22 -

(ومنها): أن من سلّم معتقدًا أنه أتم، ثم طرأ عليه شكّ، هل أتمّ، أو نقص أنه يكتفي باعتقاده الأول، ولا يجب عليه الأخذ باليقين، ووجهه أن ذا اليدين لمّا أخبر أثار خبره شكًّا، ومع ذلك لم يرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى استثبت.

23 -

(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله استَدلّ به على جواز تشبيك الأصابع في المسجد، وعلى أن الإمام يرجع لقول المأمومين إذا شك، وعلى جواز التعريف باللقب، وعلى الترجيح بكثرة الرواة.

وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المقصود كان تقوية الأمر المسؤول عنه، لا ترجيح خبر على خبر.

24 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أكما يقول ذو اليدين؟ " فيه جواز التلقيب بما لا يراد به الشين والعيب.

ص: 627

قال الحافظ العلائيّ رحمه الله: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": باب ما يجوز من ذكر الناس، نحو قولهم: الطويل والقصير، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما يقول ذو اليدين؟ "، وما لا يُراد به شَيْنُ الرجل، ثم ساق حديث ذي اليدين بسنده، مشيرًا به إلى أن مثل هذه الألقاب والصفات التي لا يُراد بها وصف الرجل بما فيه نقص عليه، ولا يتأذّى منه يجوز، وأن قوله تعالى:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] عامّ مخصوص بما لا يتأذّى به الملقَّبُ كما في هذا الحديث، وكقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه:"قم أبا تراب"، ونحو ذلك، أو هو عامّ أريد به الخصوص بدليل قوله تعالى عَقب ذلك:{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} الآية [الحجرات: 11].

ففي الآية إشارة إلى أن المنهيّ عنه التلقيب بالفسق ونحو ذلك، وهكذا قال قتادة، وعكرمة في تفسير الآية: هو الرجل يقول للرجل: يا فاسق، يا منافق، يا كافر.

وقال الحسن: كان اليهوديّ والنصرانيّ يُسْلِم، فيُقال له بعد إسلامه: يا يهوديّ، يا نصراني، فنُهُوا عن ذلك.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عملَ بالسيّآت، ثم تاب منها، وراجَعَ الحقَّ، فنهى اللَّه تعالى أن يُعيّر بما سلف من عمله.

وكلّ هذه التفاسير راجعة إلى ما دلّت عليه تمام الآية.

وروى الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" عن أبي جُبَيرة بن الضحاك الأنصاريّ رضي الله عنه، قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيُدعى ببعضها، فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ

(1)

.

والحاصل: أن الألقاب على ثلاثة أقسام:

قسم منها لا يُشْعِر بذمّ ولا نقص، ولا يَكره صاحبه تسميته به، فلا رَيبَ في جوازه، كما في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أصدق ذو اليدين؟ "، فقد تقدم أن هذا الصحابيّ رضي الله عنه كانت يداه طويلتين، وأنه يَحْتَمِل أن يكون ذلك كنايةً عن

(1)

راجع: "الجامع" رقم (3268).

ص: 628

طولهما بالبذل والعمل، وأيًّا ما كان، فليس ذلك مما يقتضي ذمًّا ولا نقصًا.

وثانيهما: يُشعر بتنقيص المسمّى به وذمّه، وليس ذلك بوصف خَلْقيّ، فلا ريب في تحريم ذلك، لدلالة الآية الكريمة، ولا يزول التحريم برضى المُسمى به بذلك، كما لا يرتفع تحريم القذف والكذب برضى المقول فيه بذلك، واستدعائه من قائله.

وثالثها: ما يُشعر بوصف خَلْقي، كالأعمش، والأعرج، والأصم، والأشلّ، والأثرم، وأشباه ذلك، فما غلب منه على صاحبه حتى صار كالعلَم له بحيث إنه يَنفكّ عنه قصد التنقص عند الإطلاق غالبًا، فليس بمحرّم، ولعلّ إجماع أهل الحديث قديمًا وحديثًا على استعمال مثل ذلك، ولا يضرّ كون المقول فيه يكرهه؛ لأن القائل لذلك لم يقصد تنقّصه، وإنما قصد تعريفه، فجاز هذا للحاجة، كما جاز جرح الرواة، وذكر مثالبهم للحاجة إليه، وما كان غير غالب على صاحبه، ولا يُقصد به العَلَميةُ والتعريفُ له، فلا يسمّى لقبًا، ولكنه إذا عُلِم رضى المقول فيه بذلك، ولم يُقصَد تنقّصه بهذا الوصف لم يحرم، ومتى وُجد أحد هذين كان حرامًا، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام العلائيّ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان ما يتعلق بذي اليدين رضي الله عنه:

لقد أجاد البحثَ في هذا الموضوع الحافظُ أبو سعيد صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائيّ رحمه الله (664 - 763 هـ) في مؤلف لا نظير له في بابه، سماه "نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد"، فأتى فيه بالعجب العُجاب، فلذا أحببت إيراد هذا البحث مما كتبه رحمه الله، تتميمًا للفائدة، ونشرًا للعائدة. قال رحمه الله:

للناس فيه خلاف في موضعين:

أحدهما: في أنه ذو الشمالين، أو غيره.

والثاني: في أن ذا اليدين هل هو الْخِرْباق المذكور في حديث عمران بن حصين، أم هما اثنان؟.

أما الأول: فجمهور العلماء على أن ذا اليدين المذكور في حديث السهو

ص: 629

هذا من رواية أبي هريرة رضي الله عنه غير ذي الشمالين، وهذا هو الصحيح الراجح إن شاء اللَّه.

والحجة لذلك: ما ثبت من طرق كثيرة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان حاضرًا هذه القصة يومئذ خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

كذلك رواه حماد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيّ، أخرجه مسلم.

وكذلك رواه سفيان بن عيينة، عن أيوب، أخرجه ابن الجارود في "المنتقى".

وكذلك رواه ابن عون عن محمد بن سيرين بهذا اللفظ، أخرجه النسائي، وابن خزيمة في "صحيحه".

وكذلك أيضًا رواه هشام بن حسّان، عن ابن سيرين، رواه الأثرم في "سننه" عن عبد اللَّه بن بكر السهمي عنه، ورواه ابن خزيمة، وأبو داود أيضًا كذلك من حديث سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين به.

ورواه مالك في "الموطأ" عن داود بن الحُصَين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلّم في ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول اللَّه أقصرت الصلاة، أم نسيت؟. . . وذكر الحديث.

وأخرجه من هذا الوجه مسلم، والنسائي بهذا اللفظ.

وأخرجه مسلم أيضًا من حديث شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينا أنا أُصلّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الركعتين، فقام رجل من بني سُلَيم. . . واقتص الحديث.

وأخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، أو العصر، فسلّم، فقال ذو اليدين رضي الله عنه. . . وذكر الحديث.

وروى عكرمة بن عمّار، ويحيى بن أبي كثير، عن ضَمْضَم بن جَوْس، أنه

ص: 630

سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيّ، وذكر الحديث، رواه ابن عبد البرّ في "التمهيد".

ثم قال: وكذا رواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابنُ أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذا الحديث: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ العلائيّ رحمه الله: فهذه طُرُق صحيحة ثابتة، يفيد مجموعها العلم النظريّ، أن أبا هريرة رضي الله عنه كان حاضرًا القصّةَ يومئذ.

ولا خلاف أن إسلامه كان سنة سبع، أيام خيبر، ثم لا خلاف بين أهل السير أن ذا الشمالين استُشهدَ يوم بدر سنة اثنتين رضي الله عنه، كذلك قاله سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وموسى بن عُقبة، وابن إسحاق، وغيرهم.

قال ابن إسحاق: ذو الشمالين هو عُمير بن عبد عمرو بن نَضْلَة بن عمرو بن غَبشان بن سليم بن مالك بن أفصى بن خزاعة، حليف بني زُهرة.

قال أبو بكر الأثرم: سمعت مسدد بن مسرهد يقول: الذي قُتل ببدر هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو، حليف لبني زهرة، وذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية، فيجيء، فيصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عمر بن عبد البرّ: قول مسدد هذا هو قول أئمة الحديث والسير، وأهل الْحِذْق والفهم من أهل الحديث والفقه.

قال العلائيّ رحمه الله: وثبت أيضًا عن أبي هريرة من طُرُق في الحديث: فقام رجل من بني سُليم، يقال له: ذو اليدين. وذو الشمالين خُزَاعيّ، كما قال ابن إسحاق.

وأيضًا فقد جاء ما يدلّ على تأخر وفاة ذي اليدين، وروايته هذه القصةَ نفسها.

قال أبو بكر الأثرم: وأخبرني زُهير

(1)

، والحسن بن عليّ بن بحر جميعًا، حدثنا علي بن بحر بن برّيّ، وهو والد الحسن، قال: حدثنا مَعْديّ بن سُليمان السَّعْديّ البصري، حدثني شُعَيث بن مُطير -ومطيرٌ حاضر يصدّقه بمقالته- قال:

(1)

لعله أحمد بن زُهير، انظر ما كتبه محقِّق "نظم الفرائد"(ص 67).

ص: 631

يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خُشُب

(1)

فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى بهم إحدى صلاتي العشيّ، وهي العصر، فصلّى ركعتين، ثم سلّم، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتبعه أبو بكر وعمر، وخرج سَرَعان الناس، فلحقه ذو اليدين، فقال: يا رسول اللَّه أقصرت الصلاة، أم نسيت؟، قال:"ما قصرت الصلاة، ولا نسيتُ"، ثم أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي بكر وعمر، فقال:"ما يقول ذو اليدين؟ "، قالا: صدق يا رسول اللَّه، فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وثاب الناس، فصلّى ركعتين، ثم سلّم، ثم سجد سجدتي السهو.

تابعه محمد بن بشار بُندار، والعباس بن يزيد البصري، عن معدي بن سليمان.

ومعدي هذا هو صاحب الطعام، بصريّ، يكنى أبا سليمان، روى عنه أيضا نصر بن على الجهضميّ، وأبو موسى محمد بن المثنى، وقال فيه سليمان الشاذكونيّ: كان من أفضل الناس، وكان يُعدّ من الأبدال.

وقد ضعّفه أبو زرعة، وأبو حاتم، الرازيّان، وأبو حاتم بن حبّان.

ومُطير بن سُلَيم من أهل وادي القرى، قال ابن عبد البرّ: رَوَى عن ذي اليدين، وذي الزوائد، وأبي الشموس البلوي، وغيرهم، ورَوَى عنه ابناه: شُعيث، وسُليم، وهو معروف عند أهل العلم، لم يذكره أحد بجرحة.

قال العلائيّ: وذكره ابن حبّان في كتاب "الثقات". فهذا السند حسن لا بأس به، وهو يقتضي تأخر ذي اليدين صاحب القصّة، وأنه ليس ذا الشمالين المقتول يوم بدر، وفي كلام البيهقيّ ما يقتضي أن الحاكم أبا عبد اللَّه الحافظ صحح هذا الحديث من رواية ذي اليدين، واحتجّ به.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: في تحسين هذا الإسناد، أو تصحيح هذا الحديث نظر لا يخفى؛ وإن مُطيرًا هذا قال عنه في "ت": مجهول الحال، وقال الذهبيّ في "الكاشف" 3/ 151: لم يصح حديثه، وقال ابن التركمانيّ رحمه الله: وشعيث لم أقف على حاله. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.

(1)

اسم واد على مسير ليلة من المدينة، قاله في "معجم البلدان" 2/ 372.

ص: 632

قال العلائيّ: وقد قال الترمذي في "جامعه" بعد سياقه حديث أبي هريرة المتقدّم: وفي الباب عن ابن عمر، ومعاوية بن حُديج، وذي اليدين.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وقد قيل: إن ذا اليدين عُمّر إلى خلافة معاوية، وأنه توفي بذي خُشُب، واللَّه أعلم.

فأما رواية الزهريّ الحديث، وتسميته فيه ذا الشمالين ابن عبد عمرو، فلعلماء في ذلك طريقان:

أحدهما: تغليط الزهريّ في ذلك؛ لأنه اضطرب في هذا الحديث كثيرًا، فقال معمر عن الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، أو العصر، فسها في ركعتين، وانصرف، فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو، وكان حليفًا لبني زهرة: أخُفّفَت الصلاة، أم نسيت؟، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: صدق يا نبي اللَّه، فأتمّ بهم الركعتين اللتين نقص.

قال الزهريّ: وكان ذلك قبل بدر، ثم استحكمت الأمور، رواه عبد الرزاق في "جامعه" عن معمر، وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الرزّاق دون قول الزهريّ الذي في آخره.

وروى الأوزاعيّ عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سلّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ركعتين، فقال له ذو الشمالين من خُزاعة، حليف لبني زُهْرة: أقصرت الصلاةُ. . .؟ فذكره بنحوه.

وفي آخره: ولم يسجد سجدتي السهو حين يَقَّنَه الناس. أخرجه ابن خزيمة هكذا من حديث محمد بن يوسف الفريابي، عن الأوزاعي، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بالقصة مرسلة، وليس في آخرها نفي سجود السهو.

وكذلك رواه عبد الحميد بن حبيب، عن الأوزاعي أيضًا مرسلًا، ذكره ابن عبد البرّ في "التمهيد".

ورواه مالك في "الموطأ" عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: بلغني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين من إحدى صلاتي

ص: 633

النهار، الظهر، أو العصر، فسلّم من اثنتين، فقال له ذو الشمالين رجل من بني زُهرة بن كلاب: أقصرت الصلاة؟. . . فذكر الحديث.

ثم رواه مالك أيضا عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، مثل ذلك مرسلًا.

وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث شُعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا كرواية مالك.

وكذلك رواه أبو داود، والنسائي من حديث صالح بن كيسان، وزادا في آخره: قال ابن شهاب: أخبرني هذا الخبر سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه لم يزيدا على ذلك، فكأنه مرسل.

قال أبو داود: ورواه الزُّبَيديّ، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال العلائيّ: ورواه يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعُبيد اللَّه بن عبد اللَّه، أن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . فذكره، وفيه: فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو بن نَضْلَة الخُزَاعي، حليف بني زهرة: أقصرت الصلاة، أم نسيت؟. . . الحديث، وفي آخره: قال الزهريّ: ولم يحدثني أحد منهم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سجد سجدتين، وهو جالس في تلك الصلاة، وذلك فيما نرى -واللَّه أعلم- من أجل أن الناس يَقَّنُوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى استيقن، رواه ابن خزيمة أيضًا.

ورواه ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: كلٌّ حدثني بذلك، قالوا: صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . فذكر الحديث نحو رواية يونس بما في آخره. ذكره ابن عبد البرّ.

وفي "جامع عبد الرزاق" عن ابن جريج: حدثني ابن شهاب، عن أبي

ص: 634

بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عمن يَقْتَنعان بحديثه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . فذكره.

فهذه الروايات كلها تدلّ على اضطراب عظيم من الزهريّ في هذا الحديث، وعلى أنه لم يتقن حفظه.

قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عوّل على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين، وكلهم تركه؛ لاضطرابه فيه، وأنه لم يُقِم إسنادًا ولا متنًا، والغلط لا يَسْلَم منه أحد، والكمال ليس لمخلوق، وكلّ أحد يؤخذ من قوله، ويترك، إلا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فليس قول ابن شهاب أنه المقتول يوم بدر بحجة؛ لأنه قد تبيّن غلطه في ذلك.

قال العلائيّ: وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه" عن محمد بن يحيى الذُّهْليّ، حدثنا أبو سعيد الجُعْفي، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة، قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، أو العصر، فذكر الحديث.

وكذلك رواه البيهقي عن الحاكم أبي عبد اللَّه، عن الحسن بن سفيان، عن حرملة، عن ابن وهب.

فكيف يمكن الجمع بين قول الزهريّ: إن هذه القصة كانت قبل بدر، وإن ذا الشمالين الذي أذْكَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالسهو قُتل يوم بدر، وبين حضور أبي هريرة رضي الله عنه لها، كما ذكره هو في هذه الرواية، وإنما كان إسلام أبي هريرة بعد بدر بخمس سنين، أو نحوها؟!!.

فإن قيل: لم ينفرد الزهريّ بتسميته ذا الشمالين، بل قد رواه غيره.

أخرج عبد الرزاق في "جامعه" عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، أو العصر، فسلّم في ركعتين، ثم انصرف، وخرج سَرَعان الناس، فقالوا: خُففت الصلاة، فقال ذو الشمالين: يا رسول اللَّه أخففت الصلاة، أم نسيت؟ وذكر بقيته.

ورواه أحمد بن حنبل في "المسند" عن عبد الرزاق هكذا.

وأخرج النسائي في "سننه" من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي

ص: 635

حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى يومًا، فسلّم في ركعتين، فأدركه ذو الشمالين، فقال: يا رسول اللَّه أنقصت الصلاة، أم نسيت؟. . . الحديث.

قلت: هذه الروايات وَهَم -واللَّه أعلم- لكثرة الرواة الحفاظ الذين رووا هذا الحديث من طرق متعددة، وكلهم يقول فيه: ذو اليدين، وكأن معمرًا اشتبه عليه رواية أيوب برواية الزهريّ؛ لأنه رَوَى الحديث عنهما جميعًا، وفي حديث الزهريّ: ذو الشمالين كما تقدم، فحَمَلَ معمر عليها رواية أيوب، وخصوصًا رواية سفيان بن حسين، فإنه كثير الغلط والوهم، لا يعتدّ بخلافه.

ومما يدلّ على ذلك أن في كل واحدة من هاتين الروايتين أعني حديث معمر عن أيوب، وحديث عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أصدق ذو اليدين؟ "، فعاد إلى الصواب في تسميته في الحديث نفسه. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

الطريق الثاني:

الجمع بين هذه الروايات كلِّها بجعلها واقعتين:

إحداهما: قبل بدر، والمتكلم فيها ذو الشمالين، ولم يشهدها أبو هريرة رضي الله عنه، بل أرسل روايتها.

والثانية: كان حاضرًا فيها، والمتكلم يومئذ ذو اليدين، وهذه الطريق حكاها القاضي عياض في "الإكمال"، واختارها؛ لما فيها من الجمع بين الروايات كلها، ونفي الغلط والوهم عن مثل الزهريّ، وفيها نظر من جهة ما تقدم في رواية يونس عن ابن شهاب: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال فيها: فقال ذو الشمالين، فإنه لا يمكن الجمع بين هاتين اللفظتين، كما تقدم من قتل ذي الشمالين ببدر، وإسلام أبي هريرة بعد ذلك بسنين كثيرة، اللهم إلا أن يكون الوهم في هذه الرواية جاء في قوله:"صلّى بنا" من بعض الرواة.

وعلى كلّ تقدير فذو اليدين الذي كان حاضرًا مع أبي هريرة قصة السهو غير ذي الشمالين هذا بلا ريب فيه.

بقي النظر في أنه هل هو الْخِرْباق المتكلم في حديث عمران بن حُصين أو غيره؟.

ص: 636

الذي اختاره القاضي عياض، وابن الأثير في "شرح مسند الشافعي"، والنوويّ في غير ما موضع أنهما واحد.

وأما أبو حاتم بن حبان، فإنه جعلهما اثنين، فقال في "معجم الصحابة" من كتابه "الثقات": الْخِرْباق صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث سها، وهو غير ذي اليدين، وقال بعد ذلك: ذو اليدين صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث سها، لم يزد.

وأما ابن عبد البرّ، فقال في كتابيه: يَحْتَمِل أن يكون الخرباق ذا اليدين، ويحتمل أن يكون غيره، فيكونان اثنين. وكذلك قال أبو العباس القرطبي وغيره.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي ترجّح عندي هو الذي ذهب إليه ابن حبّان رحمه الله من كونهما اثنين، وأن الذي في قصّة أبي هريرة غير الذي في قصّة عمران؛ لوضوح الفارق بينهما على ما سيأتي بيانه، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة):

في بيان طُرُق هذا الحديث، وما اشتَمَل عليه من الألفاظ، وبيان من تابع أبا هريرة، وعمران بن حصين رضي الله عنهم على هذه القصة، وبيان تعدّدها، وأنها ليست واقعة واحدة على الراجح.

لقد أجاد البحث في هذا الحافظ العلائيّ رحمه الله:

حديث ذي اليدين مشهور جدًّا، وخصوصًا رواية أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ: ليس في أخبار الآحاد أكثر طرقًا من حديث ذي اليدين هذا إلا قليلًا، وهو كما قال.

ثم ذكر طُرُقه ملخصةً، فقال: رواه مالك في "الموطأ" عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه من جهته البخاريّ، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

ورواه عن أيوب السختيانيّ أيضًا سفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، أخرجه مسلم من طريقهما، ورواه أبو داود أيضًا من حديث حماد بن زيد، وهو في "جامع عبد الرزاق" عن معمر، عن أيوب.

ص: 637

ورواه البزار في "مسنده" من حديث عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب، ومن حديث حماد بن سلمة، عنه أيضًا كما سيأتي.

وتابع أيوب على روايته عن ابن سيرين جماعة كثيرة، منهم يزيد بن إبراهيم التستري، أخرجه البخاري من جهته، وابن عون، وهشام بن حسّان، ويحيى بن عتيق، رواه أبو داود من حديث حماد بن زيد عنهم، وأخرجه البخاريّ من حديث النضر بن شُمَيل، وابن ماجه من حديث أبي أسامة، كلاهما عن ابن عون.

ثم ذكر أبو داود أن هشام بن حسان زاد فيه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كبّر، ثم كبّر، وسجد -يعني للسهو-، ثم قال أبو داود:"وروى هذا الحديث أيضًا عن محمد بن سيرين حبيب بن الشهيد، وحُميد -يعني الطويل- ويونس -يعني ابن عُبيد- وعاصم الأحول، ولم يذكر أحد منهم ما ذكر حمّاد بن زيد، عن هشام: أنه كبر، ثم كبر". قال: "وروى حماد بن سلمة، وأبو بكر بن عيّاش هذا الحديث، عن هشام -يعني ابن حسان- لم يذكرا عنه هذا الذي ذكره حماد بن زيد أنه كبر، ثم كبر".

قال العلائي: ورواه أيضًا عن ابن سيرين سلمة بن علقمة، وقتادة بن دعامة، أخرجه من جهتهما ابن خزيمة في "صحيحه"، ورواه البزار من حديث حماد بن سلمة، عن يونس، وهشام، وأيوب، ومن حديث عاصم الأحول، عن ابن سيرين بنحوه.

فهؤلاء عشرة من الحفّاظ الأثبات تابعوا أيوب السختياني على روايته عن ابن سيرين.

ورواه البزار أيضًا من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن محمد بن سيرين به، ومن حديث سفيان بن حسين، عن ابن سيرين أيضًا، ومن حديث أشعث بن سَوّار، وقرّة بن خالد، عن ابن سيرين أيضًا.

وتابع محمد بن سيرين على روايته عن أبي هريرة جماعة آخرون، معهم: أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد، رواه مالك في "الموطأ" عن داود بن الحُصين، عنه، ورواه من طريق مالك مسلم، وأبو داود، والنسائي.

ص: 638

وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أخرجه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائيّ من طرق عنه.

وسعيد بن المسيب، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعروة بن الزبير، من رواية الزهريّ عنهم.

وسعيد المقبريّ، وضَمْضَم بن جَوْس، رواه أبو داود من طريقهما.

وعبد الرحمن بن يعقوب مولى الْحُرَقَة. ذكره ابن عبد البرّ.

فهؤلاء عشرة آخرون من الكبار الثقات، رووه عن أبي هريرة رضي الله عنه غير محمد بن سيرين، على ما بينهم من الاختلاف في ألفاظه.

أما طُرُق الزهري فقد خالف فيها سائر الرواة في موضعين:

أحدهما: في تسميته ذا الشمالين.

والثاني: في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسجد يومئذ سجدتي السهو، وقد غلّطه الأئمة كلهم في ذلك أيضًا، وسيأتي ما يتعلق بهذا الشأن، إن شاء اللَّه تعالى.

وفي حديث أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عند مالك، ومسلم: صلّى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلّم في ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول اللَّه، أم نسيت؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كلّ ذلك لم يكن"، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول اللَّه، فأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال:"أصدق ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم يا رسول اللَّه، فأتمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين، وهو جالس بعد التسليم، هذا لفظ مسلم.

وفي حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين من صلاة الظهر، ثم سلّم، فقام رجل من بني سُلَيم، واقتص الحديث. كذلك رواه من حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة.

وأخرجه البخاريّ من حديث سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، ولفظه: قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر، أو العصر، فسلّم، فقال له ذو اليدين: الصلاةُ يا رسول اللَّه أنقصت؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه؟ "أحقّ ما يقول؟ " قالوا: نعم، فصلّى ركعتين أُخريين، ثم سجد سجدتين.

وعند مسلم من طريق سفيان بن عيينة، عن أيوب: فقام ذو اليدين،

ص: 639

فقال: يا رسول اللَّه أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فنظر النبيّ صلى الله عليه وسلم يمينًا وشمالًا، فقال:"ما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: صدق، لم تُصلّ إلا ركعتين، فصلّى ركعتين، وذكر بقيته.

وعند أبي داود في حديث حماد بن زيد، عن أيوب: فقام رجلٌ كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسمّيه "ذا اليدين"، فقال: يا رسول اللَّه! أنسيت، أم قصرت الصلاة؟ فقال:"لم أنسَ، ولم تقصر الصلاة"، قال: بلى قد نسيت يا رسول اللَّه! فأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على القوم، فقال:"أصدق ذو اليدين؟ "، فأومؤوا، أي نعم، فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مقامه، فصلّى الركعتين الباقيتين، ثم سلّم، وذكر سجدتي السهو.

وقد رواه مسلم من حديث حماد بن زيد، لكن لم يذكر سياقه، بل أحال على حديث سفيان بن عيينة، وقال:"بمعناه"، وقال أبو داود: لم يذكر فيه "فأومؤوا" إلا حماد بن زيد.

وفي حديث ضَمْضَم بن جَوْس، عن أبي هريرة: فلمّا قضى الصلاة سجد سجدتين، ثم سلّم، كذلك أخرجه البزّار من حديث عليّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عنه، ثم استغربه.

وفي حديث حماد بن سلمة عنده، قال:"لم تقصر، ولم أنس"، قال: إنك سلّمت في الركعتين، وهكذا هو عنده أيضًا من روايته عن حبيب بن الشهيد، وحميد، ويونس، وهشام، وأيوب، كلهم عن ابن سيرين. وكذا هو عند ابن ماجه من حديث أبي أُسامة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، واللَّه أعلم.

وقد تابع أبا هريرة رضي الله عنه على هذه القصّة عمران بن حُصَين، وعبد اللَّه بن عُمر، ومعاوية بن حُدَيج، وابن مسعدة صاحب الجيوش، وأبو العريان، قيل: إنه أبو هريرة، وذو اليدين، وابن عباس رضي الله عنهم.

أما حديث عمران بن حصين، فقد أخرجه مسلم، وأحمد في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، كلهم من طريق أبي قِلابة الْجَرْميّ، عن عمه أبي الْمُهَلَّب، عن عمران رضي الله عنه، وجاء في بعض طرقه في "السنن" زيادة التشهّد بعد سجدتي السهو، وسيأتي الكلام في ذلك، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 640

وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فرواه الإمام الشافعي في "مسنده"، وابن أبي شيبة في "مصنّفه"، قالا: حدثنا أبو أسامة.

وقال ابن خزيمة في "صحيحه": حدثنا أبو كريب الهمداني، وبشر بن خالد العسكري -وهذا حديث أبي كريب- قالا: حدثنا أبو أسامة، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى، فسها، فسلّم في ركعتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ قال:"ما قصرت الصلاة، وما نسيت"، فقال:"أكما يقول ذو اليدين؟ " فقام، فصلّى، ثم سجد سجدتين، وهذا لفظ ابن خزيمة.

ورواه أبو داود في "سننه" عن أحمد بن محمد بن ثابت، وابن ماجه عن علي بن محمد، وأبي كريب، وأحمد بن سنان، كلهم عن أبي أسامة به.

ولفظ ابن ماجه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سها، فسلّم في الركعتين، فقال له رجل، يقال له: ذو اليدين: يا رسول اللَّه! قصرت الصلاة، أم نسيت؟! قال:"ما قصرت، وما نسيت"، قال: إنك صلّيت ركعتين، قال:"أكما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: نعم، فتقدم، فصلّى ركعتين، ثم سلّم، ثم سجد سجدتي السهو.

قال البيهقي: تفرّد به أبو أسامة حماد بن أسامة.

قال العلائيّ: قلت: وهو من رجال "الصحيحين"، ومن الحفاظ الذين يُحتجّ بما انفردوا به، ويُصحح، وبقية إسناده على شرط "الصحيحين" أيضًا.

وأما حديث معاوية بن حُديج، فرواه أبو داود، والبيهقي في "سننهما"، وابن أبي شيبة في "مصنفه"، وغيرهم من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، أن سويد بن قيس، أخبره عن معاوية بن حُديج رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى يومًا، فانصرف، وقد بقي من الصلاة ركعةً، فأدركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعةً، فرجع، فدخل المسجد، فأَمَرَ بلالًا، فأقام الصلاة، فصلّى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: وتعرف الرجل؟ قلت: لا، إلا أن أراه، فمرّ بي، فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.

ورواه الشافعي في كتابه القديم عن بعض أصحابه، عن الليث بن سعد،

ص: 641

وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من هذا الوجه، ثم رواه من حديث جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب المصري، عن يزيد بن أبي حبيب به، ولفظه: صلّيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المغرب، فسها، فسلّم في ركعتين، ثم انصرف. . . فذكره، وقال فيه: وسألت الناس عن الرجل الذي قال: يا رسول اللَّه! إنك سهوت، فقيل لي: تعرفه؟ قلت: لا، إلا أن أراه، فمرّ بي رجل، فقلت: هو هذا، قالوا: هذا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.

ورواه الحاكم في "المستدرك" مصحِّحًا له أيضًا من هذا الوجه.

وأما حديث ابن مسعدة، فذكره ابن عبد البرّ في "التمهيد"، قال: رواه عبد الرزاق، قال: حدثنا ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن ابن مسعدة -صاحب الجيوش- أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر، أو العصر، فسلّم في ركعتين، فقال له ذو اليدين: أخُفّفت الصلاة يا رسول اللَّه، أم نسيت؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: صدق يا رسول اللَّه، فأتمّ لهم الركعتين، ثم سجد سجدتي السهو، وهو جالس بعدما سلّم.

ثم قال ابن عبد البرّ: وابن مسعدة هذا اسمه عبد اللَّه، معروف في الصحابة، قد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول:"قد بدّنتُ، فمن فاته ركوعي أدركه في بطء قيامي"، وروى حديث ذي اليدين، وهو معدود في المكيين.

قال العلائي: نسبه ابن حبّان، فقال في "معجم الصحابة": عبد اللَّه بن مسعدة بن مسعود بن قيس الفزاريّ صاحب الجيوش.

وعثمان بن أبي سليمان الراوي عنه وثقه ابن حبان، وروى عنه أيضًا الأوزاعي، وعبد الملك بن عمير.

وأما حديث أبي العُرْيَان، فقال ابن عبد البرّ: ذكره أبو جعفر العقيلي، قال: حدثنا محمد بن عُبيد بن أسباط، حدثنا أبو نعيم، حدثنا أبو خَلْدَة، قال: سألت محمد بن سيرين، فقلت: أصلّي، وما أدري أركعتين صلّيت، أم أربعًا؟ فقال: حدثثي أبو العريان أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى يومًا، ودخل البيت، وكان في القوم رجل طويل اليدين، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين، فقال ذو اليدين: أقصرت الصلاة، أم نسيت يا رسول اللَّه؟ وذكر الحديث.

ص: 642

ثم قال ابن عبد البرّ: وقد قيل: إن أبا العريان المذكور في هذا الحديث هو أبو هريرة.

قال العلائي: أبو خَلْدة هذا اسمه خالد بن دينار، احتجّ به البخاري في "الصحيح"، وأبو نعيم هو الحافظ المشهور شيخ البخاري، وأحمد، والجماعة.

وأما حديث ذي اليدين فسيأتي سياقه، والكلام عليه في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.

وأما حديث ابن عباس، فرواه الأثرم في "سننه": حدثنا عبد اللَّه بن بكر السهمي، حدثنا هشام بن حسان، عن عسل، عن عطاء، قال: صلّى بنا ابن الزبير صلاة المغرب، فسلّم من ركعتين، ثم قام إلى الحَجَر ليستلمه، فسبّحنا به، فالتفت إلينا، فقال: ما أتممتُ الصلاة؟، فقلنا برؤوسنا: سبحان اللَّه، أي لا، فرجع، فصلّى الركعة الباقية، ثمّ سلّم، ثم سجد سجدتين، وهو جالس. قال عطاء: فلم أدر ما ذاك، فخرجت من فَوْري حتى دخلت على ابن عباس، فأخبرته بصنيعه، فقال: ما أماط عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ورواه البيهقي في "سننه" من حديث أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن عِسْل بن سفيان، عن عطاء به.

وعسل بن سفيان هذا متكلم فيه، ضعّفه النسائي وغيره، وقال البخاري: عنده مناكير.

ورواه البيهقيّ أيضًا من حديث مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإياديّ، حدَّثَنا عامر، عن عطاء، قال: صلّى ابن الزبير، فذكره بمثله سواءً، وقول ابن عباس: ما أماط عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وعامر هذا إن كان الشعبي فالحديث صحيح، وإن كان غيره فلا أعرفه.

وذكره عبد الرزاق في "مصنفه"، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال لي عطاء: صلّى ابن الزبير ذات ليلة المغرب، قلت: وحضرت ذلك؟ قال: نعم، فسلّم في ركعتين، فقال الناس: سبحان اللَّه، فقام فصلّى الثالثة، فلما سلّم سجد سجدتي السهو، وسجدهما الناس معه، قال: فدخل أصحاب لنا على

ص: 643

ابن عباس، فذكر ذلك له بعضهم، كأنه يريد أن يعيب بذلك ابن الزبير، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أصاب، وأصابوا.

وهذا أصحّ إسناد لهذه الرواية، وليس فيه رفع ابن عباس ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[تَتمَّةٌ]:

قال الإمام أبو بكر ابن خزيمة في "صحيحه" بعد سياقه حديث معاوية بن حُدَيج المتقدم:

هذه القصة غير قصة ذي اليدين؛ لأن المُعْلِم للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سها في هذه القصة طلحة بن عبيد اللَّه، ومُخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك القصة ذو اليدين، والسهو من النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصّة ذي اليدين إنما كان في الظهر، أو العصر، وفي هذه القصّة إنما كان السهو في المغرب، لا في الظهر، ولا في العصر.

وقصة عمران بن حصين، والخرباقِ قصَّةٌ ثالثةٌ؛ لأن التسليم في خبر عمران من الركعة الثالثة، وفي قصة ذي اليدين من الركعتين، وفي خبر عمران: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم حجرته، ثم خرج من الحجرة، وفي خبر أبي هريرة: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خشبة معروضة في المسجد، فكلّ هذه أدلة على أن هذه القصص ثلاث قصص، سها النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة، فسلّم من الركعتين، وسها مرة أخرى، فسلّم في ثلاث ركعات، وسها مرة ثالثة، فسلّم في الركعتين من المغرب، وتكلم في المرّات الثلاث، ثم أتمّ صلاته. انتهى كلامه.

وكذلك قال الشيخ محيي الدين -يعني النوويّ رحمه الله في حديث أبي هريرة وعمران: إنهما واقعتان، لكنه زاد شيئًا آخر، فجعل حديث أبي هريرة أيضًا واقعتين، كان السهو في إحداهما في صلاة الظهر، وفي الأخرى في صلاة العصر، وجمع بذلك بين الروايات المختلفة فيه في تعيين الصلاة المسهوّ فيها، ونقل هذا عن المحققين.

قال العلائيّ: وفي ذلك نظرٌ، بل الظاهر الذي يقتضيه كلام ابن عبد البرّ، والقاضي عياض، وغيرهما أن حديث أبي هريرة قضيّة واحدة، ولكن اختَلَف رواتها، فمنهم من تردّد في تعيين الصلاة، هل هي الظهر، أو العصر؟ ومنهم من جزم بإحداهما، والعلم عند اللَّه عز وجل.

ص: 644

ورأيت فيما علّقه بعض شيوخنا من أهل الحديث يذكر أن حديثي أبي هريرة وعمران قصة واحدة، وتأول قوله في حديث عمران:"سلّم في ثلاث" أي في ابتداء ثلاث ركعات، وتأول قوله:"فقضى تلك الركعة" على أنه أراد أكثر منها، كما يقال:"كلمة" للخطبة، والقصيدة.

وفي ذلك كله نظر لا يخفى، بل الظاهر أنهما قضيتان، كما قال الجمهور، وما ذكره من الجمع بينهما فبعيد، لا اتجاه له. انتهى كلام العلائيّ رحمه الله، وهو بحث نفيس جدًّا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الراجح أن قصّة أبي هريرة غير قصّة عمران بن حصين رضي الله عنهم الآتية؛ لوضوح الفرق بينهما، كما مرّ تحقيقه في كلام ابن خزيمة آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): تقدم في ألفاظ طرق حديث أبي هريرة رضي الله عنه تباينٌ في مواضع عديدة، لا يمكن الجمع بينها، والكلّ في الصحيح، وترتب عليها فوائد فقهية مما اختلف فيه العلماء.

ففي بعض الطرق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لذي اليدين: "لم أَنْسَ، ولم تُقصَر"، فقال ذو اليدين بعد ذلك: بلى قد نسيتَ، ولم تُذكَر هذه الزيادة في كثير من الروايات.

وفي رواية أخرى، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلّ ذلك لم يكن"، فقال ذو اليدين: قد كان بعض ذلك يا رسول اللَّه.

وفي رواية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للناس: "ما يقول ذو اليدين؟ " قالوا: صدق يا رسول اللَّه، لم تُصلِّ إلا ركعتين.

وفي رواية أخرى: فأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال:"أصدق ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم يا رسول اللَّه. وفي رواية أخرى: فأومؤوا: أي نعم.

وقد جمع بعض الأئمة بين هاتين الروايتين بأن بعض الناس أجاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول "نعم" باللفظ، وبعضهم أجابه بالإيماء.

وهذا الجمع إنما يَقْوَى إذا كان الاختلاف واقعًا من رواية صحابيين، فنقول: سمع أحدهما الإجابة باللفظ، والآخر رأى الذين أومأوا ولم يسمع المجيب باللفظ، وهذا الحديث بهذه الألفاظ مداره على أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 645

والظاهر أن القصة واحدة، ولكن الرواة تصرّفوا فيها، فرواه بعضهم بالمعنى على نحو مما سمع، فحصلت هذه الاختلافات.

فيتعيّن حينئذ إما الجمع بينها بوجه مّا، وإما الترجيح، وهذا يتعلق بقاعدة شريفة عظيمة الجَدْوَى في علم الحديث، وهي: الاختلاف الواقع في المتون بحسب الطرُق، وردّ بعضها إلى بعض، إما بتقييد الإطلاق، أو تفسير المجمل، أو الترجيح حيث لا يمكن الجمع، أو اعتقاد كونها وقائع متعددة.

قال العلائيّ رحمه الله: ولم أجد إلى الآن أحدًا من الأئمة الماضين شفَى النفس في هذا الموضع بكلام جامع يُرجَع إليه، بل إنما يوجد عنهم كلمات متفرّقة، وللبحث فيها مجال طويل.

فنقول -وباللَّه التوفيق-: إذا اختلفت مخارج الحديث، وتباعدت ألفاظه، فالذي ينبغي أن يجعلا حديثين مستقلين، وذلك كحديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، ومعاوية بن حُدَيج في هذا الباب، كما سبق بيانه، وهذا لا إشكال فيه.

وأما إذا اتَّحَد مخرج الحديث، وتقاربت ألفاظه، فالغالب حينئذ على الظنّ أنه حديث واحد، وقع الاختلاف فيه على بعض الرواة، لا سيّما إذا كان ذلك في سياقة واقعة يبعد أن يتعدد مثلها في الوقوع، كحديث أبي هريرة وحده في قصة السهو.

فالذي يسلكه كثير من الفقهاء أن يُحْمَل اختلاف الألفاظ على تعدد الوقائع، ويُجعل كلُّ لفظ بمنزلة حديث مستقلّ، وهذه الطريقة يسلكها الشيخ محيي الدين -يعني النوويّ رحمه الله في كتبه كثيرًا، كما تقدم عنه من جعله حديث أبي هريرة الذي نتكلم عليه وقع مرتين للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أحدهما في صلاة الظهر، والآخر في العصر من أجل صحة كلّ من اللفظين، حتى إنه قال في حديث ابن عمر: أن عمر رضي الله عنه كان نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، فأمره أن يفي بنذره، وجاء في رواية: اعتكاف يوم، وكلاهما في الصحيح.

فقال الشيخ محيي الدين رحمه الله: هما واقعتان، وكان على عمر رضي الله عنه نذران، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذا مرّة، وعن الآخر مرّة أخرى، واستَدَلّ بذلك

ص: 646

على صحة الاعتكاف بغير الصوم؛ لأن عمر رضي الله عنه اعتكف ليلة وحدها.

قال العلائيّ: وفي هذا القول نظرٌ لا يخفى؛ لأنه من البعيد جدًّا أن يستفتي عمر رضي الله عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم في شيء واحد مرتين في أيام يسيرة لا يَنْسَى في مثلها؛ لأن في كل من القصتين أن ذلك كان عقب غزوة حُنين، أيام تفرقة السبي، ثم إعتاقهم.

وإلحاق اليوم بالليلة في حكم الاعتكاف المنذور من الأمر الجلي الذي يقطع بنفي الفارق، كما في الأمة والعبد في العتق، ولا يظن بعمر رضي الله عنه أنه يخفى عليه ذلك.

والذي يقتضيه التحقيق ردّ إحدى الروايتين إلى الأخرى، بأن كل من قال لفظًا عبّر به عن المجموع، وهو أمر يُستَعمَل كثيرًا في كلام العرب أن تُطلق اليوم، وتريد به بليلته، وبالعكس.

فكان على عمر رضي الله عنه اعتكاف يوم وليلة، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، فأمره بالوفاء به، عبّر عنه بعض الرواة بيوم، وأراد بليلته، والآخر بليلة وأراد بيومها.

وأغرب من ذلك ما ذكره الشيخ محيي الدين رحمه الله أيضًا في حديث: "بني الإسلام على خمس"؛ لأنه جاء في "الصحيح" أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"، فقال رجل:"وحج البيت، وصوم رمضان"؟، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لا، "وصوم رمضان، وحج البيت"، هكذا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ثم جاء الحديث في "الصحيح" أيضًا من رواية ابن عمر، ولفظه:"وحج البيت، وصوم رمضان".

فقال الشيخ محيي الدين: هذا محمول على أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم على الوجهين.

وهذا بعيد جدًّا؛ لأنه لو سمع على الوجهين لم ينكر على من قاله بأحدهما، إلا أن يكون حينئذ ناسيًا لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله على ذلك الوجه الذي أنكره.

والظاهر القويّ أن أحد رواة هذه الطرُق رواه على المعنى، فقدّم وأخّر،

ص: 647

ولم يبلغه نهي ابن عمر عن هذا التصرف، وغفل هذا الراوي عن المناسب المقتضي لتقدم صوم رمضان على الحج، وكونه وجب قبله، وكونه يتكرّر كلّ سنة بخلاف الحجّ، وكونه يعم جميع المكلفين، والحج يتخلف عن كثير منهم لعدم الاستطاعة، وهذا الاحتمال أولى من تطرّق النسيان إلى ابن عمر رضي الله عنهما، أو الإنكار والرّدّ لشيء سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وإذا عرف ضعف هذه الطريقة، فنقول: إذا اتَّحَد مخرج الحديث، واختلفت ألفاظه، فإما أن يمكن ردّ إحدى الروايتين إلى الأخرى، أو يَتَعَذر ذلك، فإن أمكن ذلك تعيّن المصير إليه.

ولهذا القسم أمثلة:

أحدها: ما تقدم في حديث اعتكاف عمر رضي الله عنه، وردّ إحدى الروايتين إلى الأخرى على عادة العرب.

الثاني: ردّ إحداهما إلى الأخرى بتقييد الأطلاق، كما في حديث يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه في النهي عن مس الذكر باليمين، فإن الروايات ترجع إلى يحيى بن أبي كثير فيه.

فقال فيه بعضهم: "ولا يمسنّ ذكره بيمينه" مطلقًا، وغيره قيّد النهي بحالة الاستنجاء، فهذا يمكن أن يكونا جميعًا ملفوظًا بهما، فيحمل رواية من تركه على رواية من ذكره، ويجعلا دليلًا على تقييد النهي بحالة البول والاستنجاء منه.

ولو جعلنا ذلك كالحديثين المستقلّين لم نحكم بتقيُّد النهي بحالة الاستنجاء والبول؛ لأن الحديث الذي تضمّن النهي مطلقًا لا يعارض الذي فيه النهي مقيّدًا بالاستنجاء أو البول، فهو من باب ذكر بعض أفراد العام، وإنما يُردّ أحد اللفظين إلى الآخر في العموم إلى الخصوص، والإطلاق إلى التقييد عند التعارض، والتنافي في بعض المدلولات.

اللهم إلّا أن يكون مفهوم التقييد يقتضي مخالفةَ المطلق، وكذلك مفهوم الخاصّ يُخالف حكم العامّ، فَيُقَيَّدُ، ويُخَصَّص بالمفهوم عند من يرى ذلك.

الثالث: ردّ إحداهما إلى الأخرى بتخصيص العامّ، ويمثّل هذا بزيادة مالك ومن تابعه عن نافع، عن ابن عمر في حديث: "صدقةُ الفطر على كلّ

ص: 648

حرّ، أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين"، فإن مخرج الحديث واحدٌ، فيتخصص إيجاب إخراج زكاة الفطر بكونه عن كلّ مسلم، عملًا بهذه القاعدة.

وهذا كلّه إذا لم تكن الرواية المتضمنة للتقييد، أو التخصيص شاذّة مخالفة لبقية الروايات، بل يكون الذي جاء بها حافظًا متقنًا، يُقبل تفرّده وزيادته.

فأما إذا كان سيئ الحفظ قليل الضبط، وكانت الروايات الأخرى من طرق أهل الضبط والإتقان، وهم أكثر منه عددًا، فالحكم لروايتهم، ولا نظر إلى رواية ذاك الذي هو دونهم.

المثال الرابع: ردّ إحدى الروايتين إلى الأخرى بتفسير المبهم، وتبيين المجمل، وذلك مثل حديث كفارة الوقاع في رمضان، فإن مدار الحديث على الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، واختلفوا على الزهري فيه:

فقال عنه الإمام مالك، وابن جريج، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وجماعة آخرون: أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُعْتِق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينًا، فقال: لا أجد. . . وذكروا الحديث.

وقالت فيه طائفة آخرون أكثر منهم عددًا، منهم: سفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد، ومعمر، وشعيب بن أبي حمزة، وعُقَيل، وإبراهيم بن سعد، والليث، والأوزاعي، وغيرهم: أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: وقعت على امرأتي في شهر رمضان، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تجد ما تُعتقُ رقبةً؟ " قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟ " قال: لا. . . الحديث.

فهذا يَقْوَى فيه القولُ بأن تجعل رواية هؤلاء مفسّرة لما أبُهِمَ في رواية أولئك من جهة المفطِّر، ومقيّدًا للكفّارة بالترتيب، لا بالتخيير، كما هو ظاهر هذه الرواية الثانية؛ لأن الحديث واحد، اتحد مخرجه.

وأما إذا لم يتَأَتَّ الجمع بين الروايات، وتعذّر ردّ إحداهما إلى الأخرى، فهذا محلّ النظر، ومجال الترجيح.

ص: 649

ومثال ذلك حديث الواهبة نفسها، فإنه قصّة واحدةٌ، ومداره على أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما، واختلف الرواة فيه على أبي حازم:

فقال فيه مالك بن أنس، وحمّاد بن زيد، وفُضَيل بن سُليمان، وعبد العزيز الدّراورْديّ، وزائدة:"فقد زوّجتكها على ما معك من القرآن".

وقال فيه سفيان بن عيينة عنه: "فقد أنكحتكها".

وقال فيه يعقوب بن عبد الرحمن، وعبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه:"فقد ملّكتكها".

وقال فيه معمر، وسفيان الثوري:"أملكتكها".

وقال أبو غَسّان: "أمكنّاكها بما معك من القرآن".

وأكثر هذه الروايات في "الصحيحين"، أو أحدهما، فهذا لا يتأتّى أن تكون هذه الألفاظ كلها قالها النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة، وتلك الساعة إلا على سبيل التجويز العقلي المخالف للظنّ القويّ جدًّا، فلم يبقَ إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال لفظًا منها، وعبّر عنه بقية الرواة بالمعنى.

فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التمليك، وأنه من صرائحه يَحتَجّ بمجيئه في هذا الحديث الصحيح.

فإذا عُورض ببقية الألفاظ التي في بقية الروايات لم ينتهض احتجاجه.

فإن قال: إنّ النكاح في القصة انعقد بلفظ التمليك، ومن قال غيرَه عبّر بالمعنى، يقلبه خصمه عليه، ويقول مثل ذلك في التزويج، والإنكاح، فلم يبقَ حينئذ إلا الترجيح بأمر خارجيّ، وليس هذا موضع ذكره.

ولا سبيل إلى القول بتعدد القصة؛ لأنه وإن كان العقل يُجوّزه فهو مخالف للظنّ القويّ القريب من القاطع.

ولهذا الضرب أمثلة كثيرة، منها:

حديث ترك الجهر بالبسملة، وحديث نزول آية التيمم، وقصة الرجلين اللذين ذهبا نحو عقد عائشة رضي الله عنهما، وحديث فَضَالة في القلادة من الذهب، وغيره المبيعة يوم خيبر.

لكن أكثر الأحاديث المختلفة لا يتضمن اختلافُها اختلافَ حكم شرعيّ، وبعضها يتضمّن.

ص: 650

ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة ذي اليدين هذا، فإن من قال من العلماء بأن الكلام في الصلاة فيما يتعلق بمصلحتها لا يُبطله يحتجّ بما جاء في بعض الروايات الصحيحة من قول ذي اليدين: بلى قد نسيت يا رسول اللَّه، بعد قوله صلى الله عليه وسلم:"لم أنس، ولم تُقصَر".

قالوا: فقد تحقق ذو اليدين أن حكم الصلاة باق بعدُ لتحققه عدم القصر، وتكلّمَ بعد ذلك، وأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يبطل صلاته، وكذلك قول الصحابة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قوله:"لم أنسَ، ولم تقصر": صدق يا رسول اللَّه، لم تصلّ إلا ركعتين.

وأما من قال بأن الكلام لمصلحة الصلاة فيها لا يجوز، ويبطلها، فيحتجّون بالرواية الأخرى من طريق حمّاد بن زيد: فأومأوا، أي نعم، ويقولون: لم يقع كلام من الصحابة بعد تحققهم عدم القصر، ويجيبون عن قول ذي اليدين ثانيًا: بلى قد نسيت يا رسول اللَّه. انتهى كلام العلائي، وهو بحث نفيس جدًّا.

وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" نحو خمس عشرة مسألة مهمّة، مما يتعلّق بحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا في قصّة ذي اليدين رضي الله عنه، وقد ذكرت أهمّها هنا، فراجع البقيّة هناك تستفد عِلْمًا جَمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1292]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ

(2)

، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَي الْعَشِيَّ، بِمَعْنَى حَدِيثِ سُفْيَانَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم في الباب.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا حمّاد بن زيد".

ص: 651

2 -

(حَمَّاد) بن زيد، تقدّم في الباب أيضًا.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ سُفْيَانَ) يعني أن حديث حمّاد بن زيد، عن أيّوب، بمعنى حديث سفيان بن عيينة عنه.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد هذه، ساقها أبو داود، في "سننه"(1008)، فقال:

(1008)

حدّثنا محمد بن عبيد، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشيّ: الظهر أو العصر، قال: فصلّى بنا ركعتين، ثم سلّم، ثم قام إلى خشبة في مقدَّم المسجد، فوضع يديه عليهما، إحداهما على الأخرى، يُعْرَف في وجهه الغضب، ثم خرج سَرَعان الناس، وهم يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة، وفي الناس أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، فقام رجل كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين، فقال: يا رسول اللَّه، أنسيت أم قُصِرت الصلاة؟ قال:"لم أَنْسَ، ولم تُقْصَر الصلاة"، قال: بل نسيت يا رسول اللَّه، فأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على القوم، فقال:"أصدق ذو اليدين؟ "، فأومؤوا أي نعم، فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مقامه، فصلّى الركعتين الباقيتين، ثم سَلَّم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رَفَع وكبر، ثم كبر، وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر، قال: فقيل لمحمد: سَلَّم في السهو؟ فقال: لم أحفظه عن أبي هريرة، ولكن نُبِّئْتُ أن عمران بن حصين قال: ثم سلّم. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1293]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 652

الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ"، فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:"أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ) الأُمويّ مولاهم، أبو سليمان المدنيّ، ثقةٌ إلا في عكرمة، ورُمي برأي الخوارج [6].

رَوَى عن أبيه، وعكرمة، وأبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، وغيرهم.

ورَوَى عنه مالك، وابن إسحاق، وإبراهيم بن أبي يحيى، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقة. وقال علي ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر. قال: وقال ابن عُيينة: كنا نتقي حديث داود، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، ولولا أن مالكًا روى عنه لَتُرك حديثه. وقال أبو داود: أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عديّ: صالح الحديث إذا روى عنه ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يذهب مذهب الشُّرَاة، وكلُّ مَنْ تَرَكَ حديثَهُ على الإطلاق وَهِمَ؛ لأنه لم يكن بداعية. وقال ابن سعد، والعجلي: ثقة. وقال الساجي: منكر الحديث، يُتّهم برأي الخوارج. وقال العُقَيليّ: قال ابن المديني: مرسل الشعبي أحبّ إلي من داود، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: هو من أهل الثقة والصدق. وقال الجوزقاني: لا يَحْمَدُ الناس حديثَه، وقال ابن أبي خيثمة: حدثني أبي، ثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، وكان ثقة. وعاب غير واحد على مالك الرواية عنه، وتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم. وذكره ابن المديني في الطبقة الرابعة من أصحاب نافع. قال ابن نُمَير، وغير واحد: مات سنة (135). زاد الواقدي: وهو ابن (72) سنة.

روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (573)،

ص: 653

و (1541) حديث: "رَخَّص في بيع العرايا بخرصها. . . "، و (1546):"نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. . . ".

2 -

(أَبُو سُفْيَانَ، مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ) الأسديّ، هو مولى عبد اللَّه بن أبي أحمد بن جَحْش، وقيل: كان مولى بني عبد الأشهل، وانقطع إلى ابن أبي أحمد، فنسب إليه، ثقة [3].

قال الدارقطني: اسمه وهب، وقال غيره: اسمه قُزْمان -بضم القاف، وسكون الزاي-.

رَوَى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد اللَّه بن زيد بن عاصم، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد اللَّه، وداود بن الحُصين، وخالد بن رباح.

قال إبراهيم بن أبي حببب، عن داود بن الحُصين: كان أبو سفيان يؤم بني عبد الأشهل، وفيهم ناس من الصحابة. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطنيّ: ثقة. وقال ابن عبد البرّ: قيل: اسمه قُزْمان، ولا يصحّ له اسم غير كنية.

رَوَى له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، وهي التي تقدّمت في ترجمة داود بن الحصين الراوي عنه.

والباقون تقدّموا في هذا الباب.

وقوله: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ) قال النوويّ رحمه الله: قال المحققون: هما قضبتان، وفي حديث عمران بن الحصين:"سَلَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر، ثم دخل منزله، فقام إليه رجلٌ، يقال له: الْخِرْباق، فقال: يا رسول اللَّه، فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجرُّ رداءه"، وفي رواية له: سلّم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام، فدخل الْحُجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أَقُصِرَتِ الصلاة؟ "، وحديث عمران هذا قضية ثالثة في يوم آخر، انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "هما قضيّتان إلخ" هذا خلاف التحقيق، فقد تقدّم أن الأرجح اتّحاد قصّة أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما الاختلاف من الرواة،

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 69.

ص: 654

فبعضهم رواه باللفظ، وبعضهم رواه بمعنى ما فهمه، فحصل الاختلاف، وأما قصّة عمران رضي الله عنه فهي واقعة أخرى، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ("كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ"، فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قال العلائيّ رحمه الله: فيه دليلٌ لقاعدةٍ اتَّفَق عليها أهل "المعاني والبيان"، وهي:

أن النفي إذا تَسَلَّط على "كلّ"، أو كانت في حَيّزه تكون "كل" حينئذ لنفي الشمول عن المجموع، لا لنفي الحكم عن كلّ فرد فرد.

وإن أُخرجت "كل" من حيّز النفي، بأن قُدّمت عليه لفظًا، ولم تكن معمولةً للفعل المنفي تَوَجَّه النفي إلى أصل الفعل، وعمّ كل ما أضيفت إليه "كل"، فكان السلب عن كل فرد فرد.

قال العلائيّ رحمه الله: والاحتجاج لهذه القاعدة بهذا الحديث من وجهين:

[أحدهما]: أن السؤال بـ "أم" عن أحد الأمرين لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم على وجه الإبهام، فجوابه إما بالتعيين، أو بنفي كل واحد منهما، فلما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كل ذلك لم يكن" كان جوابه لنفي كل واحد منهما بالنسبة إلى ظنه صلى الله عليه وسلم، فلو كان تقديم "كلّ" على المنفي إنما يفيد نفي الكلية، لا نفي الحكم عن كل فرد فرد لكان قوله صلى الله عليه وسلم:"كل ذلك لم يكن" غير مطابق للسؤال، ولا ريب في بطلانه.

[والوجه الثاني]: قولُ ذي اليدين في جواب هذا الكلام: "قد كان بعض ذلك"، وهو من العرب الفصحاء، فدلّ على أن المراد بـ "كل ذلك لم يكن" سلب الحكم عن كلّ فرد فرد، لا عن المجموع؛ لأن الإيجاب الجزئي يقتضيه السلب الكليّ

(1)

. انتهى كلام العلائي رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كلُّ ذلك لم يكن لما هذا مشكلٌ بما ثبت من حاله، فإنه يستحيل عليه الخلف والكذب، والاعتذار عنه من وجهين:

[أحدهما]: أنه إنما نفى الكلّيّة، وهو صادقٌ فيها؛ إذ لم يجتمع وقوع الأمرين، وإنما وقع أحدهما، ولا يلزم من نفي الكليّة نفي كلّ جزء من

(1)

هكذا في "نظم الفرائد" بلفظ: "يقتضيه"، ولعلّ الصواب:"نقيضه السلب الكليّ"، فتأمل.

ص: 655

أجزائها، فإذا قال: لم أَلْقَ كُلَّ العلماء لا يُفهم أنه لم يَلْقَ واحدًا منهم، ولا يلزم ذلك منه، إلا أن هذا الاعتذار يُبطله قوله في الرواية الأخرى:"لم أَنْسَ، ولم تُقصَر" بدل قوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ ذلك لم يكن"، فقد نَفَى الأمرين نصًّا.

[والثاني]: أنه إنما أخبر عن الذي كان في اعتقاده وظنّه، وهو أنه لم يَفعل شيئًا من ذلك، فأخبر بحقّ؛ إذ خبره موافقٌ لما في نفسه، فليس فيه خلْفٌ، ولا كذبٌ، وعن هذا ما قد صار إليه أكثر الفقهاء إلى أن الحالف باللَّه على شيء يَعتقده، فظهر أنه خلاف ما حلف عليه أن تلك اليمين لاغيةٌ، لا حِنْثَ فيها، وهي التي لم يُضفها اللَّه تعالى إلى كسب القلب، حيث قال:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وقد روى أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وقال مكان "كلُّ ذلك لم يكن":"لم أنسَ ولم تُقصر"، ومحمِله على ما ذكرناه من إخباره صلى الله عليه وسلم عن اعتقاده.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الوجه هو أولى ما يُعتمد عليه في الجواب عما استُشكل في هذا المحلّ.

وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: "كلُّ ذلك لم يكن"، وفي رواية أخرى:"لم أنس ولم تُقصر" عما في ظنّه، لا عما في نفس الأمر؛ لكونه خلاف ذلك، ولذلك لما تحقّق لديه أنه أخطأ صلّى ما بقي، وسجد للسهو، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وللأصحاب فيه تأويلات أُخَر:

(منها): أن قوله: "لم أنسَ" راجع إلى السلام، أي لم أنس السلام، وإنما سلّمت قصدًا، وهذا فاسدٌ؛ لأنه حينئذ لا يكون جوابًا عما سئل عنه.

(ومنها): الفرق بين النسيان والسهو، فقالوا: كان يسهو ولا ينسى؛ لأن النسيان غفلةٌ، وهذا أيضًا ليس بشيء؛ إذ لا نُسلِّمُ الفرق، ولو سُلِّمَ فقد أضاف صلى الله عليه وسلم النسيان إلى نفسه في غير ما موضع، فقال:"إنما أنا بشرٌ أنسى كما تنسون، فإذا نَسِيتُ فذكِّرُوني"، وقوله:"إني لا أنسَى، أو أنسى لأَسُنّ"

(1)

، وغير ذلك.

(1)

هذا حديث لا يصحّ متّصلًا، بل أخرجه مالك في "الموطّأ" بلاغًا.

ص: 656

(ومنها): ما اختاره القاضي عياضٌ أنه إنما أنكر صلى الله عليه وسلم نسبة النسيان إليه؛ إذ ليس من فعله، كما قال في الحديث الآخر:"بئسما لأحدكم أن يقول: نسيتُ آية كيتَ وكيتَ، بل هو نُسِّي"، متّفقٌ عليه، أي خُلِق فيه النسيان، وهذا يُبطله قوله أيضًا:"أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكِّروني"، وأيضًا فلم يصدُر ذلك عنه على جهة الزجر والإنكار، بل على جهة النفي لما قال السائل عنه، وأيضًا فلا يكون جوابًا لما سُئل عنه.

والصواب حمله على ما ذكرناه، ولا يلزم عليه شيء من الاستبعادات. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، ومسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1294]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزَّازُ، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ

(2)

، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ، أَمْ نَسِيتَ؟، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقة حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْخَزازُ) -بمعجمات- أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ، من صغار [9].

(1)

"المفهم" 2/ 191 - 193.

(2)

وفي نسخة: "عليّ بن المبارك".

ص: 657

رَوَى عن عليّ بن المبارك، وهمام بن يحيى، وقُرّة بن خالد، والصَّعْق بن حَزْن، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو موسى محمد بن المثنى، والفلاس، وحجاج بن الشاعر، وإسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وأبو داود الْحَرّانيّ، وعبد بن حُميد، وأبو إسحاق الْجُوزَجانيّ، وعباس الدُّوريّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: محلُّهُ الصدق، كان عنده كتابٌ عن علي بن المبارك، وكان تاجرًا، وقال أبو داود: لا بأس به، سمعت الحسن بن عليّ يقول: الخزاز شيخٌ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن أبي عاصم: مات سنة ست ومائتين.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

3 -

(عَلِيّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقةٌ، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماعٌ، والآخر إرسالٌ، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

4 -

(يَحْيَى) بن أبي كثير صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مكثر [3](94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

وقوله: (فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) تقدّم أنه ذو اليدين.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير أبي سلمة.

[تنبيه]: رواية أبي سلمة التي أحالها المصنّف هنا على رواية أبي سفيان، ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (1/ 513) فقال:

(1919)

حدّثنا عباس الدُّوريّ، وأبو داود الْحَرّانيّ قالا: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا عليّ بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدّثني أبو سلمة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى ركعتين من صلاة الظهر ثم سَلَّم، فأتاه رجلٌ من بني سُليم، فقال: يا رسول اللَّه

ص: 658

أَقُصِرت الصلاة أم نسيت؟ قال: "لم تُقْصَر ولم أَنْسَ"، قال: يا رسول اللَّه، إنما صلّيت ركعتين، قال:"أحقٌّ ما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، فقام، فصلّى ربهم ركعتين أُخْرَاوين، ثم سجد سجدتين، وهو جالس. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1295]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

صَلَاةَ الظُّهْرِ، سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُور) بن بَهْرَام الْكَوْسَجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ كان يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقون ذكروا قبله.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) فاعل "اقتَصّ" ضمير شيبان.

[تنبيه]: رواية شيبان هذه التي أحالها المصنّف على رواية علي بن المبارك، ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 174) فقال:

(1268)

حدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا إسحاق بن أحمد، ثنا محمد بن علي بن حمزة، قال: وحدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الملك، ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، قالا: ثنا عبيد اللَّه بن موسى، ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي

(1)

وفي نسخة: "مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ص: 659

كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: بينا أنا أصلّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، فسلّم صلى الله عليه وسلم في الركعتين، فقام رجل من بني سُليم، فقال: يا رسول اللَّه، قُصِرت أم نَسِيت؟، فقال:"لم تُقْصَر ولم أَنْسَ"، فقال: يا رسول اللَّه إنما صليت ركعتين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حقٌّ

(1)

ما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، فقام فصلّى بهم ركعتين أُخْراوين. انتهى.

وساقها أيضًا الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(9181)

حدّثنا حسن بن موسى، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن، حدّثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، قال: بينما أنا أصلي صلاة الظهر، سَلَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ركعتين، فقام رجل من بني سُليم، فقال: يا رسول اللَّه، أَقُصِرت الصلاة أم نسيت؟، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لم تقصَر ولم أنسهْ"، قال: يا رسول اللَّه إنما صلّيت ركعتين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أحقٌّ ما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، قال: فقام، فصلّى بهم ركعتين آخِرتين.

قال يحيى: حدّثني ضَمْضَم بن جَوْس أنه سمع أبا هريرة يقول: ثم سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سجدتين. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1296]

(574) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِيِ الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ

(2)

، فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ

(3)

، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهٌ، وَخَرَجَ

(1)

هكذا النسخة بحذف همزة الاستفهام.

(2)

وفي نسخة: "صلى الظهر".

(3)

وفي نسخة: "في يده طولٌ".

ص: 660

غَضْبَانَ

(1)

، يَجُرُّ رِدَاءَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ:"أَصَدَقَ هَذَا؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب أيضًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(خَالِد) بن مِهْرَان الْحَذّاء، أبو الْمُنَازل البصريّ، ثقةٌ حافظ يُرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

5 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصري، ثقة فاضل كثير الإرسال، قيل: فيه نصب يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

6 -

(أَبُو الْمُهَلَّبِ) الْجَرْميّ البصري، عَمّ أبى قِلابة، اسمه معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية، ثقة [2].

رَوَى عن عُمر، وعثمان، وأُبَيّ بن كعب، وعمران بن حصين، وأبي مسعود الأنصاري، وتميم الداريّ، وأبي موسى الأشعريّ، وسمرة بن جندب.

ورَوَى عنه ابن أخيه أبو قِلابة، ومحمد بن سيرين، وسعيد الْجُرَيريّ، وعوف الأعرابي.

قال العجليّ: بصري تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة: كان ثقة قليل الحديث، وذكر ابن عبد البرّ الخلاف في اسمه، ثم قال: معاوية بن عمرو أصحّ، وقال ابن حبّان في "صحيحه": اسمه عمرو بن معاوية بن زيد. انتهى.

(1)

ووقع في نسخة: "غضبانًا".

ص: 661

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (574) وأعاده بعده، و (953) و (1641) و (1668) و (1696) و (2595).

7 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد البصريّ، صحابيّ أسلم عام خيبر، وكان فاضلًا، وقَضَى بالكوفة، ومات رضي الله عنه بالبصرة سنة (52)، وأبوه أيضًا صحابيّ على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين رَوَى بعضهم عن بعض: خالد، عن أبي قِلابة، عن أبي المهلب. واللَّه تعالى أعلم.

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعَصْرَ) وفي رواية الطحاويّ: "صلّى بهم الظهر"، (فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ) أي في آخر ثلاث ركعات من صلاة العصر، وفي رواية البيهقيّ من طريق هُشَيم، قال: أنبأنا خالد، عن أبي قلابة، ثنا أبو المُهلّب، عن عمران بن حُصين:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر، أو العصر ثلاث ركعات. . . " الحديث، فرواه بالشكّ بين الظهر والعصر.

قال في "المرعاة": ورواية العصر أرجح؛ لتوافق أكثر الروايات عليها، ولأنها مخرّجة في "صحيح مسلم"، وأبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، و"مسند أحمد". انتهى

(1)

.

(1)

"المرعاة" 3/ 424.

ص: 662

(ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ) وفي رواية عبد الوهّاب الثقفي، عن خالد التالية:"ثُمّ قام، فدخل الْحُجْرة"، وفيه أن ترك استقبال القبلة، والمشي الكثير سهوًا لا يُبطل الصلاة (فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ) -بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء- (وَكَانَ فِي يَدَيْهِ) وفي نسخة:"في يده" بالإفراد (طُولٌ) وفي رواية الثقفيّ التالية: "فقام رجل بَسِيط اليدين"، وهو بمعنى طويل اليدين (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ) أي ذكر الْخِرْباق للنبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر الذي صنعه في تلك الصلاة، وهو تسليمه من ثلاث ركعات، وفي رواية الثقفيّ، "فقال: أَقصرت الصلاة يا رسول اللَّه؟ "، وفي رواية النسائيّ من طريق يزيد بن زُريع عن خالد: "فقال: يعني نقصت الصلاة يا رسول اللَّه؟ "، وفي رواية له من طريق حماد بن زيد، عن خالد: "فقال له الْخِرْباق: إنك صلّيت ثلاثًا" (وَخَرَجَ غَضْبَانَ) فعلان من الغضب، وهو غير منصرف؛ للوصفيّة، وزيادة الألف والنون، فما وقع في بعض النسخ منصرف غلطٌ، فتنبّه.

وفي رواية الثقفيّ: "فخرج مُغْضَبًا"، قال القرطبيّ رحمه الله: وغضبه صلى الله عليه وسلم يَحْتَمِلُ أن يكون إنكارًا على المتكلّم؛ إذ قد نسبه إلى ما كان يعتقد خلافه، ولذلك أقبل على الناس مستكشفًا عن ذلك، وعلى هذا يدلّ ما في الرواية الأخرى؛ إذ قال فيها:"فقام رجلٌ بسيط اليدين، فقال: قُصرت الصلاة يا رسول اللَّه؟، فخرج مغضبًا".

ويَحْتَمِل أن يكون غضبه لأمر آخر لم يذكره الراوي، وكأن الأول أظهر.

قال: وحديث عمران بن حُصين هذا واقعة أخرى غير واقعة حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد سبق لك أن حمل الحديثين على تعدّد الواقعة هو الأرجح، كما ذهب إليه ابن خزيمة، وابن حبّان، وغيرهما؛ لأن دعوى اتّحاد القصّتين يؤدّي إلى تكلّف وتعسّف في الجمع، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 663

قال: وقد توارد الحديثان على أن السجود للزيادة بعد السلام، كما هو مشهور مذهب مالك، فانتهضت حجّته، والحمد للَّه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد سبق لك أيضًا أن الراجح موافقة ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فعله سواء كان قبل السلام أو بعده، وأما ما لم يَرِد فيه النصّ فالساهي مخيّرٌ، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وفي حديث ذي اليدين حجة لمالك على قوله: إن الحاكم إذا نَسِي حكمه، فشهد عنده عدلان بحكمه أمضاه، خلافًا لأبي حنيفة والشافعيّ في قولهما: إنه لا يُمضيه حتى يذكره، وأنه لا يَقْبَل الشهادة على نفسه، بل على غيره، وهذا إنما يَتِمّ لمالك إذا سُلِّم له أن رجوعه إلى الصلاة إنما كان لأجل الشهادة، لا لأجل تيقّنه ما كان قد نسيه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الإمام مالك رحمه الله هو الظاهر؛ وكون رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى قول القوم هو الحقّ، وأما كونه تيقّن بنفسه، فخلاف ظاهر أحاديث الباب، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

(يَجُرُّ رِدَاءَهُ) أي لكونه مستعجلًا لم يتمهّل حتى يتمكن من لبسه (حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "أَصَدَقَ هَذَا؟ ") يعني الْخِرْباق (قَالُوا: نَعَمْ) صدق فيما قاله (فَصَلَّى رَكْعَةً) وفي رواية الثقفيّ: "فصلّى الركعة التي كان ترك"(ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) أي لسهوه، وفي رواية الثقفيّ:"ثم سلّم، ثم سجد سجدتي السهو"، وفي رواية النسائيّ:"ثم سجد سجدتيها"، والمراد سجدتا السهو الذي حصل في تلك الصلاة، فإضافة السجدتين إلى ضمير الصلاة لحصولهما فيها جبرًا لها (ثُمَّ سَلَّمَ) أي تسليم التحلّل من الصلاة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المفهم" 2/ 193 - 194.

ص: 664

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 1296 و 1297](574)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1018 و 1039)، و (الترمذيّ) فيها (395)، و (النسائيّ) في "السهو"(1331 و 1236 و 1237) وفي "الكبرى"(1158 و 1159 و 1254)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1215)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 427 و 4/ 431 و 4/ 440)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1054 و 1060 و 1062)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2654)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1922 و 1923 و 1924)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1269 و 1270)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 359)، وبقيّة المسائل تقدّمت في شرح الأحاديث الماضية، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1297]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، وَهُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنَ الْعَصْرِ، ثُمَّ قَامَ، فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ، فَقَامَ رَجُلٌ بَسِيطُ الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَخَرَجَ مُغْضَبًا، فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب.

ص: 665

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقون ذُكروا في الحديث الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيت من كتابة الجزء الثاني عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه اللَّه تعالى، والمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب يوم الأحد المبارك 25/ 10/ 1426 هـ الموافق 27/ نوفمبر - تشرين الثاني/ 2005 م.

أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10/ 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

ص: 666

"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثالث عشر مفتتحًا بـ (20) - (بَابُ سجود التلاوة) رقم الحديث [1298](575).

"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 667