الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ليلة الاثنين المبارك بعد صلاة المغرب 26/ 10/ 1426 هـ أول الجزء الثالث عشر من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه اللَّه تعالى.
(20) - (بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1298]
(575) - (حَدَّثَنِي
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى الْقطَّانِ
(2)
، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا يَجِدُ بَعْضُنَا مَوْضِعًا لِمَكَانِ جَبْهَتِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبثٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيد) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدَامة السَّرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
(2)
وفي نسخة: "عن يحيى بن سعيد القطّان".
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِنُ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمام النقد [9](ت 198) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
5 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيهٌ [5](ت سنة بضع 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
7 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه رضي الله عنها، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: زُهير، وعبيد اللَّه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه ابن المثنّى أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عبيد اللَّه، وزُهير نسائيّ، ثم بغداديّ، وعبيد اللَّه بن سعيد سَرَخسيّ، ثم نيسابوريّ، والباقيان بصريّان.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) وفي الرواية التالية: "ربّما قرأ رسول اللَّه القرآن"(فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ) وفي الرواية التالية: "فيَمُرّ بالسجدة"(فَيَسْجُدُ) أي سجود التلاوة (وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا) نافية (يَجِدُ بَعْضُنَا مَوْضِعًا لِمَكَانِ جَبْهَتِهِ) أي من كثرة الزحام، وفي الرواية التالية:"فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده حتى ما يجد أحدنا مكانًا ليسجد فيه في غير صلاة".
قال في "الفتح": وقع في الطبراني من طريق مصعب بن ثابت، عن نافع في هذا الحديث، أن ذلك كان بمكة، لَمّا قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمُ} ، وزاد فيه: حتى سجد الرجل على ظهر الرجل، قال: والذي يظهر أن هذا الكلام وقع من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحدٌ إلا سجد، وسياق حديث الباب مُشْعِرٌ بأن ذلك وقع مرارًا، فَيَحْتَمِل أن تكون رواية الطبرانيّ بيّنت مبدأ ذلك، ويؤيده ما رواه الطبرانيّ رحمه الله عن المسور بن مَخْرَمة، عن أبيه قال: أظهر أهل مكة الإسلام -يعني في أول الأمر- حتى إنه كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ليقرأ السجدة، فيسجُدُ، وما يستطيع بعضهم أن يسجُد من الزحام، حتى قَدِمَ رؤساء أهل مكّة، وكانوا بالطائف، فرجّعوهم عن الإسلام، واستدلّ به البخاريّ على السجود لسجود القارئ، وعلى الازدحام على ذلك
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 1298 و 1299](575)، و (البخاريّ) في
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 652 "كتاب سجود القرآن" رقم (1079).
"سجود القرآن"(1075 و 1076 و 1079)، و (أبو داود) في "الصلاة"(412 و 413)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 17)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1947 و 1948 و 1949)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(1271 و 1272)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(557 و 558)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2760)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(768)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة سُجود التلاوة، وقد أجمع العلماء عليه، وقد اختُلف فيه هل هو سنّة، كما هو رأي الجمهور، أو واجبٌ، كما هو رأي الحنفيّة؟ وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان مشروعية السجود للقارئ والمستمع له، قال النوويّ رحمه الله: ويستحب أيضًا للسامع الذي لا يَسْمَع، لكن لا يتأكد في حقّه تأكده في حقّ المستمع المصغي. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): استحباب قراءة القرآن؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم في الخير ومسابقتهم عليه، حتى إنهم ليزحمون عليه.
5 -
(ومنها): الاقتداء بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، كالاقتداء بأقواله سواءً، فقد قال اللَّه عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، فعمّ جميع ما يصدر منه صلى الله عليه وسلم، قولًا، أو فعلًا، أو غير ذلك، إلا ما خصّه الدليل على أنه من خُصوصيّته.
6 -
(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله قال في "صحيحه": "باب من لم يجد موضعًا للسجود مع الإمام من الزحام"، ثم أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا، قال ابن بطال رحمه الله: لم أجد هذه المسألة إلا في سجود الفريضة،
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 74.
واختَلَف السلف، فقال عمر رضي الله عنه: يسجد على ظهر أخيه، وبه قال الكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وقال عطاء، والزهريّ: يؤخر حتى يرفعوا، وبه قال مالك، والجمهور، وإذا كان هذا في سجود الفريضة، فيجري مثله في سجود التلاوة، وظاهر صنيع البخاريّ أنه يذهب إلى أنه يَسْجُد بقدر استطاعته، ولو على ظهر أخيه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم سجود التلاوة:
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن سجود التلاوة سنة، وليس بواجب، وممن قال بهذا عمر بن الخطاب، وسلمان الفارسي، وعمران بن حصين، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وغيرهم رضي الله عنهم.
وذهب أبو حنيفة: إلى أن سجود التلاوة واجب على القارئ، والمستمع، واحتج له بقوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)} [الانشقاق: 20، 21]، وبقوله تعالى:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، وبالأحاديث الصحيحة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد للتلاوة، وقياسًا على سجود الصلاة.
واحتجّ الأولون بالأحاديث الصحيحة:
(منها): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: قرأت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] فلم يسجد فيها. متفق عليه.
(ومنها): ما احتج به الشافعيّ رحمه الله في هذه المسألة، وهو حديث الأعرابيّ:"خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطّوّع". متفق عليه.
(ومنها): "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر "سورة النحل"، حتى إذا جاء السجدةَ نزل، فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة، قرأها، حتى إذا جاء السجدةَ، قال: يا أيها الناس إنما نَمُرّ
بالسجود، فمن سجد، فقد أصاب، ومن لم يسجد، فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر". وفي رواية قال:"إن اللَّه لم يَفْرِض السجود إلا أن نشاء"، أخرجهما البخاري رحمه الله في "صحيحه".
قال النوويّ رحمه الله: وهذا القول من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن، والْمَجْمَع العظيم دليلٌ ظاهرٌ في إجماعهم على أنه ليس بواجب، ولأن الأصل عدم الوجوب حتى يثبت صحيح صريح في الأمر به، ولا معارض له، ولا يوجد هنا.
وأما الجواب عن الآية التي احتجوا بها، فهي إنما وردت في ذمّ الكفار في تركهم السجود استكبارًا، وجحودًا، وأما المراد بالسجود في الآية الثانية سجود الصلاة، والأحاديث التي احتجّوا بها محمولة على الاستحباب، جمعًا بين الأدلة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله من "مجموعه"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور، وهو عدم وجوب سجود التلاوة هو الراجح؛ لقوة حجته، كما ذُكِر آنفًا.
ومن الأدلة على أن سجود التلاوة ليس بواجب ما أشار إليه الطحاويّ: من أن الآيات التي في سجود التلاوة، منها ما هو بصيغة الخبر، ومنها ما هو بصيغة الأمر، وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر، هل فيها سجود أو لا؟ وهي ثانية الحجّ، وخاتمة النجم، واقرأ، فلو كان سجود التلاوة واجبًا لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يُتَّفَقَ على السجود فيه مما ورد بصيغة الخبر. انتهى. وهو بحثٌ جيّدٌ.
والحاصل أن القول باستحباب سُجود التلاوة هو الأرجح، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في عدد سجود القرآن:
(1)
"المجموع شرح المهذّب" 4/ 61 - 62.
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في عدد سجود القرآن، فرَوَينا عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يَعُدّان سجود القرآن، فقالا:"الأعراف"، و"الرعد"، و"النحل"، و"بني إسرائيل"، و"مريم"، و"الحج" أولها، و"الفرقان"، و {طسم} ، و {الم (1) تَنْزِيلُ} ، و {ص} ، و {أَلَمْ} السجدة، إحدى عشرة سجدةً.
ورَوَينا عن ابن عباس رضي الله عنهما رواية أخرى أنه عَدَّها عشرًا، وأسقط السجود في {ص} .
وقد اختُلِف عن ابن عمر في السجدة الثانية من سورة الحج.
وقالت طائفة: سجود القرآن أربع عشرة سجدةً، في الحج منها سجدتان، وفي المفصل ثلاثة، وليس في {ص} منها شيء، هكذا قال الشافعيّ، وقال أبو ثور كقول الشافعيّ في العدد، غير أنه أثبت السجود في {ص} ، وأسقط السجود من سورة النجم، خالف الشافعيّ في هاتين السجدتين.
وقال إسحاق في سجود القرآن: خمس عشرة: "الأعراف"، و"الرعد"، و"النحل"، و"بنو إسرائيل"، و"مريم"، وفي "الحجّ" سجدتان مباركتان، وفي "الفرقان"، و"النمل"، و"ألم" تنزيل السجدة، وفي {ص} ، وفي {حم (1)} السجدة، وفي {وَالنَّجْمِ} ، وفي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} .
وقال أصحاب الرأي كما قال إسحاق، إلا في السجود في الحجّ، فإنهم قالوا: فيها سجدة واحدة، وقولهم كقوله في سائر سجود القرآن. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي ما ذهب إليه إسحاق ابن راهويه من كون عدد السجود خمس عشرة سجدةً أظهر، وأقرب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الطهارة لسجود التلاوة:
قال النوويّ رحمه الله: (واعلم): أنه يشترط لجواز سجود التلاوة، وصحته
شروط صلاة النفل من الطهارة عن الحدث، والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، ولا يجوز السجود حتى يتم قراءة السجدة. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: مسألة اشتراط الطهارة في سجود التلاوة فيها خلافٌ، فقد صحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره عدم اشتراط ذلك، وهو ظاهر مذهب البخاريّ رحمه الله، فإنه ترجم "باب سجود المسلمين مع المشركين، والمشركُ نجسٌ ليس له وضوء"، قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسجد على غير وضوء. انتهى.
ورَوَى ابن أبي شيبة من طريق عُبيد بن الحسن، عن رجل زعم أنه كنفسه، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل عن راحلته، فيهريق الماء، ثم يركب، فيقرأ السجدة، فيسجد، وما يتوضأ.
وأما ما رواه البيهقيّ بإسناد صحيح عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، فيجمع بينهما -كما قال الحافظ- بأنه أراد بقوله:"طاهر" الطهارة الكبرى، أو الثاني على حالة الاختيار، والأول على الضرورة.
ووافق ابن عمرَ على جواز السجدة بلا وضوء الشعبيُّ، أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح، وأخرج أيضًا عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ أنه كان يقرأ بالسجدة، ثم يسجد، وهو على غير وضوء إلى غير القبلة، وهو يمشي يومئ إيماء، قاله في "الفتح".
وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدلّ على اعتبار أن يكون الساجد متوضئًا، وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وسلم مَن حضر تلاوته، ولم يُنقَل أنه أمر أحدًا منهم بالوضوء، ويَبعُد أن يكونوا جميعًا متوضئين، وأيضًا قد كان يسجد معه المشركون، كما تقدم، وهم أنجاس، لا يصح وضوؤهم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأولى أن لا يسجُد على غير وضوء، وأما إيجاب الوضوء فيَحتاج إلى دليل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في سجود التلاوة في أوقات النهي:
قال النوويّ رحمه الله: يجوز عندنا سجود التلاوة في الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها؛ لأنها ذات سبب، ولا يكره عندنا ذوات الأسباب، وفي المسألة خلاف مشهور. انتهى
(1)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: رُوي عن بعض الصحابة أنه يُكره سجود التلاوة في الأوقات المكروهة، والظاهر عدم الكراهة؛ لأن السجود المذكور ليس بصلاة، والأحاديث الواردة في النهي خاصة بالصلاة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أن القول بعدم كراهة السجود في أوقات النهي هو الأرجح؛ لما قاله الشوكانيّ، وعلى فرض أنها كالصلاة فتجوز في هذه الأوقات؛ لأنها من ذوات الأسباب، وقد حقّقنا أن جواز الصلاة ذات السبب في أوقات النهي هو الحقّ، كما سيأتي في محلّه
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1299]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(4)
أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رُبَّمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَيَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ، فَيَسْجُدُ بِنَا، حَتَّى ازْدَحَمْنَا عِنْدَهُ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِيَسْجُدَ فِيهِ
(5)
فِي غَيْرِ صَلَاةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
"شرح مسلم" 5/ 79.
(2)
"نيل الأوطار" 3/ 126.
(3)
"باب الأوقات المنهيّ عن الصلاة فيها" برقم (825).
(4)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(5)
وفي نسخة: "مكانًا يسجد فيه".
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (رُبَّمَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال ابن هشام في "مغني اللبيب": "رُبّ" حرف جرّ، خلافًا للكوفيين في دعوى اسميّتها، وإذا زيدت "ما" بعدها فالغالب أن تكفّها عن العمل، وتُهيّئها للدخول على الجملة الفعليّة، وليس معناها التقليل دائمًا خلافًا للأكثرين، ولا التكثير دائمًا خلافًا لجماعة. انتهى.
وقوله: (فَيَمُرُّ بِالسَّجْدَةِ) أي بآية السجدة.
وقوله: (فَيَسْجُدُ بِنَا) أي يسجد هو، ونسجد نحن معه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (حَتَّى ازْدَحَمْنَا عِنْدَهُ) أي لضيق المكان، وكثرة الساجدين.
وقوله: (حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا) أي بعضنا، كما سبق في الرواية الماضية، وليس المراد منه كلَّ واحد، ولا واحدًا معيّنًا، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقوله: (مَكَانًا لِيَسْجُدَ فِيهِ) وفي نسخة: "مكانًا يسجد عليه"، والجملة في محلّ نصب صفة لـ "مكانًا".
وقوله: (فِي غَيْرِ صَلَاةٍ) يعني أن ذلك السجود ليس من سجود الصلاة، وإنما هو سجود خارج الصلاة لأجل التلاوة.
والحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1300]
(576) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ {وَالنَّجْمِ} ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ
(1)
"عمدة القاري" 7/ 113.
كَانَ مَعَهُ، غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل حديث.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار) بن عثمان الْعَبديّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه البصري المعروف بغُندر، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج البصريّ الإمام الحجة الناقد الحافظ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "المقدّمة" جـ 1 ص 381.
5 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد الْهَمْدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، يُدلّس، واختلط بآخره [3](129)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
6 -
(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، مخضرم، مكثرٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
7 -
(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع، إلا في شعبة.
5 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني بالكوفيين.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو إسحاق، عن الأسود، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه السَّبيعيَّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ) بن يزيد النخعي، فيه تصريح أبي إسحاق بالسماع، وهو مدلّس، فأُمن من التدليس، على أن الراوي عنه هنا شعبة، وهو لا يروي عن المدلّسين إلا ما صرّحوا بسماعه، وقد سبق عنه أنه قال: كَفَيتكم شرّ تدليس ثلاثة: أبي إسحاق، وقتادة، والأعمش (يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ {وَالنَّجْمِ}) أي سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} ، وفي رواية البخاريّ:"قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم النجم بمكة"(فَسَجَدَ) صلى الله عليه وسلم أي بعدما قرأ قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} (فِيهَا) أي بسبب قراءته الآية المذكورة، فـ "في" بمعنى الباء السببيّة، كما في حديث:"دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها. . . " الحديث، متّفقٌ عليه (وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ) أي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلمة "من" موصولة بمعنى الذين.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "وسجد من كان معه": من كان حاضرًا قراءته من المسلمين، والمشركين، والجنّ، والإنس، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره حتى شاع أن أهل مكة أسلموا
(1)
، وانصرف من كان هاجر إلى الحبشة لذلك.
قال القاضي عياض رحمه الله: وكان سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود رضي الله عنه أنها أوّلُ سجدة نزلت، قال القاضي رحمه الله: وأما ما يرويه الأَخباريُّون والمفسَّرون أن سبب ذلك ما جَرَى على لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذكر الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل، لا يصحّ فيه شيءٌ، لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل؛ لأن مدح إله غيرِ اللَّه تعالى كُفْرٌ، ولا يصح أن ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم كفرٌ، ولا أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك من قِبَل نفسه مُداراةً لهم، ولا أن يقوله الشيطان على لسانه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يصحّ أن يقول على النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا خلاف ما هو عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه في المنام:"فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثّل بصورتي"، فكيف في طريق القرآن، وما هو كفر، ولا يصح تسلُّط الشيطان على ذلك؛ لأنه يدعو إلى الشكّ في المعجزة، وصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلُّ
(1)
"عمدة القاري" 7/ 154.
هذا لا يصحّ. انتهى كلام القاضي بتصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي القاضي عياض من تفنيده ما اشتهر من قصّة الغرانيق هو الحقّ الذي لا ينبغي لمسلم أن يعتقده، وإن حاول بعض العلماء في تصحيح حديث، كما يظهر من كلام الحافظ، فمما لا يُلتفت إليه، وقد ذكرت ما قاله المحقّقون في هذه المسألة في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا
(2)
.
ثم رأيت الشيخ الألبانيّ رحمه الله، أجاد في هذا الموضوع، وألّف فيه رسالة سمّاها "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق"، فأحسن وأفاد، فعليك بمراجعتها، فإنها قد استوفت الموضوع، وحقّقته تحقيقًا بليغًا، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
(غَيْرَ) وفي رواية البخاريّ: "غيرَ شيخ أخذ كفًّا"، و"غيرَ" منصوب على الاستثناء، كما قال في "الخلاصة":
وَاسْتَثْنِ مَجْرُورًا بِـ "غَيْرٍ" مُعْرَبَا
…
بِمَا لِمُسْتَثْنًى بِـ "إِلَّا" نُسِبَا
(أَنَّ شَيْخًا) وقع تسميته عند البخاريّ في "تفسير سورة النجم" من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق بأنه أمية بن خَلَف، قال في "الفتح": ووقع في "سيرة ابن إسحاق" أنه الوليد بن المغيرة.
وفيه نظر؛ لأنه لم يُقْتَل، وفي "تفسير سُنيد": الوليد بن المغيرة، أو عُتبة بن ربيعة بالشك، وفيه نظرٌ؛ لما أخرجه الطبرانيّ من حديث مَخْرَمة بن نوفل، قال:"لَمّا أظهر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، أسلم أهل مكة، حتى إنه كان ليقرأ السجدة فيسجدون، فلا يقدر بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قَدِم رؤساء قريش: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل، وغيرهما، وكانوا بالطائف، فرجعوا، وقالوا: تَدَعُون دين آبائكم".
لكن في ثبوت هذا نظرٌ؛ لقول أبي سفيان في الحديث الطويل: إنه لم يَرْتَدّ أحدٌ ممن أسلم.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 525.
(2)
"ذخيرة العقبى" 12/ 206 - 209.
ويمكن أن يُجْمَع بأن النفي مُقَيَّد بمن ارتَدّ سُخطًا لا بسبب مراعاة خاطر رؤسائه.
ورَوَى الطبريّ من طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير، أن الذي رفع التراب فسجد عليه، هو سعيد بن العاص بن أمية، أبو أُحيحة، وتبعه النَّحّاس، وذكر أبو حيان شيخ شيوخنا في "تفسيره" أنه أبو لهب، ولم يذكر مُستنده.
وقال في "الفتح" في "كتاب التفسير" عند شرح قوله: "وهو أمية بن خلف" ما خلاصته: لم يقع ذلك في رواية شعبة، وقد وافق إسرائيل على تسميته زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عند الإسماعيليّ، وهذا هو المعتمد، وعند ابن سعد أن الذي لم يسجد هو الوليد بن المغيرة، قال: وقيل: سعيد بن العاص بن أمية، قال: وقال بعضهم: كِلاهما جميعًا.
وجزم ابن بطال في "باب سجود القرآن" بأنه الوليد، وهو عجيب منه مع وجود التصريح بأنه أمية بن خلف، ولم يُقْتَل ببدر كافرًا من الذين سُمُّوا عنده غيره.
ووقع في "تفسير أبي حيّان
(1)
" أنه أبو لهب، وفي "شرح الأحكام لابن بزيزة" أنه منافق، ورُدّ بأن القصة وقعت بمكة بلا خلاف، ولم يكن النفاق ظهر بعدُ.
وقد جزم الواقديّ بأنها كانت في رمضان سنة خمس، وكانت المهاجرة الأولى إلى الحبشة خَرَجت في شهر رجب، فلما بلغهم ذلك رجعوا، فوجدوهم على حالهم من الكفر، فهاجروا الثانية.
ويَحْتَمِل أن يكون الأربعة لم يسجدوا، والتعميم في كلام ابن مسعود بالنسبة إلى ما اطَّلع عليه، كما قلته في المطلب، لكن لا يُفسَّر الذي في حديث ابن مسعود إلا بأمية؛ لما ذكرته. انتهى ما في "الفتح"
(2)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.
(1)
وقع في النسخة "ابن حبّان"، وهو غلط، والصواب "أبي حيّان" كما بينه في "كتاب الصلاة"، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 8/ 481 - 482 "كتاب التفسير" رقم (4863).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق أن ظاهر الحديث، وإن دلّ على أن الذي لم يسجد رجل واحدٌ فقط، وهو الذي رفع كفًّا من حصى، فقال: يكفيني هذا، لكن جاء في الأحاديث ما يدلّ على عدم سجود غيره أيضًا، كما سبق آنفًا.
ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" عن أبي هريرة رضي الله عنه: "سجدوا في النجم إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشُّهْرة".
ومنه ما أخرجه النسائيّ من حديث المطَّلِب بن أبي وَدَاعة، قال:"قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النجم، فسجد، وسجد مَن معه، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد، ولم يكن الْمُطَّلب يومئذ أسلم"، زاد في رواية أحمد:"وكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا قرأها إلا سجد"، وفي رواية:"قال المطّلب: فلا أدع السجود فيها أبدًا".
ويُجاب بأن ابن مسعود رضي الله عنه لعله لم ير غير ذلك الرجل، فاقتصر عليه، أو خَصّه بالذكر؛ لاختصاصه بأخذ الكفّ من التراب دون غيره، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (أَخَذَ كَفًّا) جملة في محلّ رفع خبر "أن"، وقوله:(مِنْ حَصًى) بيان لـ "كفًّا"، والمعنى أنه أخذ ملأ كفّ من حصًى (أَوْ) للشكّ من الراوي (تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ) أي الكفّ (إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا) أي عن السجود على الأرض، وإنما قال ذلك تكبّرًا وتعاظمًا على اللَّه تعالى، وقيل: قاله ظنًّا منه أن المقصود منه التواضع، والانقياد للَّه تعالى بوضع أشرف الأعضاء على الأرض، وقد حصل بالتراب، والوجه الأول هو الصواب؛ إذ ظاهر السياق يدلّ عليه، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد ذلك الوقت، وفي رواية البخاريّ:"فرأيته بعد ذلك"، وكان قتله يوم بدر (قُتِلَ) بالبناء للمفعول (كَافِرًا) منصوب على الحال، وذلك لشؤم تكبّره عن السجود الذي اشترك فيه المسلمون والمشركون، إلا هو، فآل به الأمر أن قُتل كافرًا.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله في "التفسير" من "صحيحه" من رواية
إسرائيل، عن أبي إسحاق: أول سورة أنزلت فيها سجدةٌ {وَالنَّجْمِ} ، قال في "الفتح": واستُشكِل هذا بأن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أول السُّوَر نزولًا، وفيها أيضًا سجدةٌ، فهي سابقة على النجم.
وأجيب: بأن السابق من {اقْرَأْ} أوائلها، وأما بقيتها فَنَزَل بعد ذلك بدليل قصّة أبي جهل في نهيه للنبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة.
ويَحْتَمل أن تكون الأولية مُقَيَّدةً بشيء محذوف بيَّنَته رواية زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عند ابن مردوبه، بلفظ:"إن أول سورة استَعْلَن بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: والنجم"، وله من رواية عبد الكبير بن دينار، عن أبي إسحاق:"أول سورة تلاها على المشركين. . . "، فذكره.
فيُجْمَع بين الروايات الثلاث بأن المراد أول سورة فيها سجدةٌ تلاها جهرًا على المشركين. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: أخرج البخاريّ رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم
(2)
، وسجد معه المسلمون، والمشركون، والجنّ، والإنس".
قال في "الفتح": كأن ابن عبّاس رضي الله عنهما استَنَد في ذلك إلى إخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم إما مشافهةً له، أو بواسطة؛ لأنه لم يحضر القصّ؛ لصغره، وأيضًا فهو من الأمور التي لا يَطّلع عليها الإنسان إلا بتوقيف، وتجويز أنه كُشف له عن ذلك بعيدٌ؛ لأنه لم يحضرها قطعًا
(3)
.
وإنما أعاد ذكر الجن والإنس مع دخولهم في المسلمين؛ لنفي توهم اختصاص ذلك بالإنس، قال الكرمانيّ: سجد المشركون مع المسلمين؛ لأنها أول سجدة نزلت فارادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم.
قال الحافظ: والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأول منها لعياض،
(1)
"الفتح" 2/ 642.
(2)
زاد الطبراني في "الأوسط": "بمكة"، فأفاد اتّحاد قصّة ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهم، قاله في "الفتح".
(3)
"الفتح" 2/ 645 "كتاب سجود القرآن" رقم (1071).
والثاني يخالفه سياق ابن مسعود، حيث زاد فيه أن الذي استثناه منهم أخذ كفًّا مِن حصى فوضع جبهته عليه، فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد؛ إذ المسلمون حينئذ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [20/ 1300](576)، و (البخاريّ) في "سجود القرآن"(1067 و 1070) و"مناقب الأنصار"(3853) و"التفسير"(3863) و"المغازي"(3972)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1406)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(2/ 160)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 388 و 401 و 437 و 443 و 462)، و (الدارميّ) في "سننه"(342)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(553)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2764)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1950)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1273)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة السجود في تلاوة القرآن.
2 -
(ومنها): بيان مشروعيّة السجود أيضًا لسامع القرآن، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-.
3 -
(ومنها): أن فيه الردّ على من قال: إن المفصّل لا سجود فيه للتلاوة، وعلى من قال: إن "النجم" لا سجود فيها، وردٌّ أيضًا لقول ابن القصّار رحمه الله إن الأمر بالسجود في "النجم" ينصرف إلى الصلاة، لا إلى سجود التلاوة؛ لأن هذا الحديث صريحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم سجد هو ومن معه؛ لأجل
(1)
"الفتح" 8/ 481.
تلاوته، كما يؤيّده سجود المشركين معه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سجود التلاوة في {وَالنَّجْمِ} وغيرها من "المفصَّل":
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في السجود في "النجم"، فكان عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم يسجدون في "النجم"، وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن عزائم السجود، فذكر "النجم".
وممن رأى السجود في "النجم" سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وذهب طائفة إلى أنه ليس في "المفصَّل" سجود، وممن رُوي عنه أنه قال ذلك: ابن عباس، وأُبيّ بن كعب، والحسن البصري، وسعيد بن المسبِّب، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وطاوس، ومالك، رضي الله عنهم.
قال ابن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه سجد في المفصَّل في غير سورة منه، وبذلك نقول. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن المنذر رحمه الله هو الحقّ عندي؛ للأحاديث الصحيحة التي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
وقال النوويّ رحمه الله: احتج بهذا الحديث مالك، ومن وافقه، في أنه لا سجود في المفصّل، وأن سجدة "النجم"، و"إذا السماء انشقت"، و"اقرأ باسم ربك" منسوخات بهذا الحديث -يعني زيد بن ثابت رضي الله عنه الآتي بعد هذا- وبحديث ابن عباس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصَّل منذ تحوّل إلى المدينة"، وهذا مذهب ضعيف، فقد ثبت حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: سجدنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في "إذا السماء انشقت"، و"اقرأ باسم ربك". رواه مسلم، وقد أجمع العلماء على أن إسلام أبي هريرة رضي الله عنه كان سنة سبع من الهجرة، فدلّ على السجود في المفصل بعد الهجرة، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فضعيف الإسناد، لا يصح الاحتجاج به، وأما حديث زيد رضي الله عنه-
فمحمول على بيان جواز ترك السجود، وأنَّه سنة ليس بواجب، ويُحتَاج إلى هذا التأويل، للجمع بينه وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو كلام نفيسٌ.
وقال الحافظ رحمه الله عند قول الإمام البخاريّ رحمه الله: "باب من قرأ السجدة، ولم يسجد" ما حاصله: يشير بذلك إلى الردّ على من احتج بحديث الباب على أن المفصَّل لا سجود فيه كالمالكيّة، أو أن "النجم" بخصوصها لا سجود فيها، كأبي ثور؛ لأن ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدلّ على تركه مطلقًا، لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك، إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت كان وقت كراهة، أو لكون القارئ لم يسجد، أو ترك حينئذ لبيان الجواز، وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعيّ؛ لأنه لو كان واجبًا لأمره بالسجود، ولو بعد ذلك.
وأما ما رواه أبو داود وغيره من طريق مَطَرٍ الْوَرَّاق، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من "المفصل" منذ تحول إلى المدينة"، فقد ضعَّفه أهل العلم بالحديث؛ لضعفٍ في بعض رواته، واختلاف في إسناده، وعلى تقدير ثبوته فرواية من أثبت ذلك أرجح؛ إذ المثبت مقدَّم على النافي، فسيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثبوت السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1].
ورَوَى البزار، والدارقطني، من طريق هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم سجد في سورة النجم، وسجدنا معه". والحديث رجاله ثقات.
وروى ابن مردويه في "التفسير" بإسناد حسن عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أنه رأى أبا هريرة رضي الله عنه سجد في خاتمة "النجم"، فسأله، فقال: إنه رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسجد فيها، وأبو هريرة رضي الله عنه إنما أسلم بالمدينة.
(1)
"شرح النووي" 5/ 76 - 77.
ورَوَى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود بن يزيد، عن عمر بأنه سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]. ومن طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سجد فيها.
وفي هذا ردّ على من زعم أن عمل أهل المدينة استمرّ على ترك السجود في "المفصل".
ويَحْتَمِل أن يكون المنفيّ المواظبة على ذلك؛ لأن "المفصَّل" تكثر قراءته في الصلاة، فتُرِك السجود فيه كثيرًا، لئلا تختلط الصلاة على من لم يفقه، أشار إلى هذه العلة مالك في قوله بترك السجود في "المفصَّل" أصلًا.
وقال ابن القصار: الأمر بالسجود في {وَالنَّجْمِ} ينصرف إلى الصلاة.
وردّ بفعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدم قبلُ.
وزعم بعضهم أن عمل أهل المدينة استمرّ بعد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على ترك السجود فيها.
وفيه نظر؛ لما رواه الطبري بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ "النجم" في الصلاة، فسجد فيها، ثم قام، فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1]، ومن طريق إسحاق بن سُويد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سجد في "النجم". انتهى حاصل كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيَّن مما سبق من الأدلة الصحيحة أن المذهب الصحيح هو مذهب الجمهور، وهو مشروعية السجود في "المفصل"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1301]
(577) - (حَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ:
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الإِمَامِ؟ فَقَالَ: لَا قِرَاءَةَ مَعَ الإِمَامِ فِي شَيْءٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} ، فَلَمْ يَسْجُدْ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، أبو زكريّا، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
3 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
5 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّقيّ، أبو إسحاق المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
6 -
(يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن خُصَيفة بن عبد اللَّه بن يزيد الكنديّ، نُسِب لجدِّه، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1003.
7 -
(ابْنُ قُسَيْطٍ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط -بقاف ومهملتين، مصغَّرًا- ابن أُسامة بن عُمَير الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الأعرج، ثقةٌ [4].
رَوَى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن المسيب، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعروة، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وداود بن عامر بن سعيد، وأبي الحسن مولى بني نوفل، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعُبيد بن جُريج، ومحمد بن أسامة بن زيد، ومحمد بن شُرَحبيل العبديّ، وعطاء بن يسار، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابناه: عبدُ اللَّه والقاسم، ويزيد بن عبد اللَّه بن خُصيفة ومالك،
وأبو صخر حميد بن زياد، وعمرو بن الحارث، وابن إسحاق، وابن أبي ذئب، والوليد بن كثير، والليث بن سعد، وآخرون.
قال ابن معين: ليس به بأسٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن عديّ: مشهور عندهم، وهو صالح الروايات، وقال إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق: حدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط، وكان فقيهًا ثقةً، وكان ممن يُستعان به في الأعمال لأمانته وفقهه.
وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صالحٌ، قال أبو حاتم: قال عبد الرزاق: قلت لمالك: ما لَكَ لا تحدّثني بحديث ابن المسيِّب عن عمر وعثمان في المعاطاة؟، قال: العمل عندنا على خلافه، والرجل ليس هناك، يعني يزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ؛ لأن مالكًا لم يرضه.
وتَعَقّب ابن عبد البر في "الاستذكار" كلام أبي حاتم بأن قول عبد الرزاق: إن مراد مالك بقوله: والرجل ليس هناك، يعني به يزيد بن قُسيط غلط من عبد الرزاق؛ لظنه أن مالكًا سمعه منه، وإنما سمعه مالك عنه بواسطة رجل لم يُسَمِّه، كما رواه الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، عمن حدّثه عن يزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط، قال: فإنما أراد مالك الرجل الذي كتم اسمه.
قال الحافظ: لكن ليس في رواية عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن مالك، أن بينه وبين ابن قسيط آخر، وهذا يستلزم أن يكون مالك، إنما دَلَّس، قال ابن عبد البرّ: ويزيد قد احتَجَّ به مالك في مواضع من "الموطأ"، وهو ثقة من الثقات.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، ربَّما أخطأ.
قال ابن سعد: مات سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان ثقةً كثير الحديث، وذكر ابن حسان الزياديّ أنه بلغ تسعين سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (577) و (945) و (1187) و (1967) و (2815) و (2820) و (2974).
8 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدني، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [3](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
9 -
(زيدُ بْنُ ثَابِت) بن الضحّاك الأنصاريّ النجّاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (5 أو 48) وقيل: بعد الخمسين (ع) تقدم في "الحيض" 22/ 793.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن قوله: "قال يحيى بن يحيى: أخبرنا"، وقال الآخرون:"حدّثنا إسماعيل بن جعفر" فيه إشارة إلى اختلاف صيغتي الأداء؛ لاختلاف كيفيّة التحمّل، فلما كان يحيى سمع من إسماعيل بقراءة غيره عليه، قال:"أخبرنا"، ولما كان الآخرون سمعوا من لفظه، قالوا:"حدّثنا"، فقوله:"إسماعيل بن جعفر" تنازعه الفعلان قبله، فتنبّه لهذه الدقائق.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه الأربعة.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: يزيد بن خُصيفة، عن ابن قُسيط، عن عطاء بن يسار.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، كان كاتب الوحي، وكان من الراسخين في العلم، وأعلم الناس بالفرائض، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم (أنه أَخْبَرَهُ) الضمير المنصوب الأول لعطاء، والثاني لابن قُسيط، أي أن عطاء بن يسار أخبر يزيد بن عبد اللَّه بن قُسيط (أَنَّهُ) أي عطاء، وفيه التفاتٌ؛ إذ الظاهر أن يقول:"أني سألت إلخ"(سَأَل زيدَ بْنَ ثَابِتٍ) رضي الله عنه (عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الإِمَامِ؟) أي عن حكم قراء المأموم خلف إمامه (فَقَالَ) زيد رضي الله عنه (لَا قِرَاءَةَ مَعَ الإِمَامِ فِي شَيْءٍ) أي من الصلوات، يعني أنه لا يُشرع للمأموم أن يقرأ خلف إمامه، وهذا مذهب زيد وطائفة، وقد خالفهم كثير من الصحابة فمن بعدهم، فأوجبوا على المأموم قراءة الفاتحة؛ تبعًا للنصوص الصحيحة الصريحة التي توجب قراءتها
خلف الإمام، فإنها مقدّمة على رأي هؤلاء الذي لا يَعتَمِد على نصّ صحيح مرفوع، فتفطّن.
قال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "لا قراءة مع الإمام في شيء"، فيستدل به أبو حنيفة وغيره ممن يقول: لا قراءة على المأموم في الصلاة، سواء كانت سرّية، أو جهرية، ومذهبنا أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الصلاة السرية، وكذا في الجهرية على أصح القولين، والجواب عن قول زيد هذا من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن"، وغير ذلك من الأحاديث، وهي مقدَّمة على قول زيد وغيره.
والثاني: أن قول زيد محمول على قراءة السورة التي بعد الفاتحة في الصلاة الجهرية، فإن المأموم لا يشرع له قراءتها، وهذا التأويل متعين؛ لِيُحْمَل قوله على موافقة الأحاديث الصحيحة، ويؤيد هذا أنه يُسْتَحبّ عندنا، وعند جماعة للإمام أن يسكت في الجهرية بعد الفاتحة قدر ما يقرأ المأموم الفاتحة، وجاء فيه حديث حسن في سنن أبي داود وغيره، فيقرأ المأموم الفاتحة في تلك السكتة، فلا يحصل قراءته مع قراءة الإمام، بل في سكتته. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد قدّمنا البحث في هذه المسألة مُستوفًى في أبواب القراءة، وأن الراجح قول من أوجب الفاتحة على المصلّي مطلقًا إمامًا كان، أو مأمومًا، أو منفردًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، متّفقٌ عليه، وقوله:"لعلّكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، وغيرهما، وهذا هو مذهب كبار الصحابة رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام البخاريّ، فقد قال في "صحيحه":"باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، في الحضر، والسفر، وما يُجهَر فيها، وما يُخافت". انتهى. فإن أردت الاستفادة والتحقيق، فارجع إلى ما أسلفته هناك، وباللَّه تعالى التوفيق.
(وَزَعَمَ) من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي للحجاز، وضمها لأسد، وكسرها لبعض قيس، قاله في "المصباح".
قال النوويّ رحمه الله: المراد بالزَّعم هنا القول المحقَّق، والزعم يُطلَق على القول المحقَّق، والكذب، وعلى المشكوك فيه، ويُنَزَّلُ في كل موضع على ما يليق به. انتهى كلام النووي بتغيير يسير
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله ما حاصله: الزعم مثلث: الأول: القول، وقيل: هو القول يكون حقًّا، ويكون باطلًا، وقيل: الزعم الظنّ، وقيل: الكذب، وقال ابن بَريّ: الزعم يأتي في كلام العرب على أربعة أوجه:
1 -
يكون بمعنى الكفالة والضمان، كقول عمر بن أبي ربيعة [من الرمل]:
قُلْتُ: كَفّي لَكِ رَهْنٌ بِالرّضَا
…
وَازْعُمِي يَا هِنْدُ قَالَتْ: قَدْ وَجَبْ
2 -
ويكون بمعنى الوعد، كقول عَمْرو بن شَأس [من الطويل]:
تَقُولُ: هَلَكْنا إنْ هَلَكْتَ وإنَّمَا
…
عَلَى اللَّه أرْزَاقُ الْعِبَادِ كَمَا زَعَمْ
وقال الهرويّ: زَعَمَ هنا بمعنى أخبر، ويجوز أن يقال: إن زعم بمعنى ضَمِنَ، ومنه الحديث:"الزعيم غارم"
(2)
(3)
.
3 -
ويكون بمعنى القول والذِّكْر، كقول أبي زُبَيدٍ الطائي [من البسيط]:
يَا لَهْفَ نَفْسِيَ إنْ كَانَ الَّذِي زَعَمُوا
…
حَقًّا وَمَاذَا يَرُدُّ الْقَوْمَ تَلْهِيفِي
4 -
ويكون بمعنى الظن، كقول عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتْبَة بن مسعود [من الطويل]:
فَذُقْ هَجْرَهَا قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ
…
رَشَادٌ ألَا يَا رُبَّمَا كَذَبَ الزَّعْمُ
قال: فهذا البيت لا يَحْتَمِل سوى الظن، وبيت عمر بن أبي ربيعة لا يَحْتَمِل سوى الضمان، وبيت أبي زُبَيد لا يحتمل سوى القول، وما سوى ذلك
(1)
"شرح النووي" 5/ 76.
(2)
حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن غير النسائيّ، بإسناد صحيح، وفيه إسماعيل بن عيّاش، لكنَّه من روايته عن أهل بلده، وهو صحيح الحديث عنهم، فتنبه.
(3)
ذكر قول الهرويّ في "المفهم" 2/ 199.
على ما فُسِّرَ. انتهى كلام ابن منظور باختصار، وزيادة
(1)
.
(أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح همزة "أن"؛ لوقوعها موقع المصدر، لأنها مفعول "زَعَمَ"، كما قال في "الخلاصة":
وَهَمْزَ إنَّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ
…
مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسرِ
({وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]) مفعول "قرأ" مَحْكيّ، أي قرأت "سورة النجم"(فَلَمْ يَسْجُدْ) أي لم يسجد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تلك السجدة.
واستنبط بعضهم من هذا الحديث أن القارئ إذا تلا على الشيخ لا يُندَب له سجود التلاوة ما لم يسجُد الشيخ، أدبًا مع الشيخ.
وتُعُقّب بأنه لا يلزم من تركه عدم ندبيّته، وإنما يستفاد منه أنه تركه لبيان الجواز، وقد سبق تحقيق هذا في المسألة الرابعة من الحديث الماضي، فتنبّه.
وقال القرطبيّ: وهذا الحديث يدلّ على أن قوله تعالى في "سورة النجم": {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} [النجم: 62] لا يراد منه سجود التلاوة؛ إذ لو كان له لَمَا تركه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذا قال مالك: إنها ليست من العزائم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول القرطبيّ هذا متعقَّبٌ بمثل ما قبله، فيقال: إن ترك النَّبيّ صلى الله عليه وسلم السجود فيه إنما يدلّ على الجواز، لا على عدم المشروعيّة؛ لأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سجد فيه، فتبصّر.
قال: وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في سجود النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في "الانشقاق" و"اقرأ" حجة لابن وهب، ومن قال بقوله، وقد قدّمنا أن ذلك كان من فعله متقدمًا، وأن العمل استقرّ على ترك ذلك، ويصحّ الجمع بين الأحاديث المختلفة في سجدات المفصَّل بما قد رُوي عن مالك أنه خَيَّر فيها. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الجواب الأخير هو المعتمد، وأما قوله:"وأن العمل استقرّ على ترك ذلك" فدعوى عاطلة، لا بيّنة عليها.
وَالدَّعَاوِي إِنْ لَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا
…
بَيِّنَاتٍ أَبْنَاؤُهَا أَدْعِيَاءُ
وسيأتي أنه قد ثبت العمل منه صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين كما قاله الحافظ
(1)
"لسان العرب" 12/ 264 - 265 بزيادة من "المفهم" 2/ 199.
ابن عبد البرّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 1301](577)، و (البخاريّ) في "سجود القرآن"(1072 و 1073)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1404 و 1405)، و (الترمذيّ) فيها (576)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(960) وفي "الكبرى"(1032)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 183 و 186)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(251)، و (الدارميّ) في "سننه"(1480)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(566 و 568)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(2762)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1951 و 1952)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1274)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 409 و 410)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 444 و 3/ 37)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(769)، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال في "الفتح": اتَّفَق ابن أبي ذئب، ويزيد بن خُصيفة في هذا الإسناد على ابن قُسَيط، وخالفهما أبو صَخْر، فرواه عن ابن قُسيط، عن خارجة بن زيد، عن أبيه، أخرجه أبو داود، والطبرانيّ، فإن كان محفوظًا حُمِل على أنَّ لابنِ قُسَيط فيه شيخين.
وزاد أبو صَخْر في روايته: "وصليت خلف عمر بن عبد العزيز، وأبي بكر بن حزم، فلم يسجدا فيها". انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1302]
(578) - (حَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ،
(1)
"الفتح" 2/ 647.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ لَهُمْ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِيهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدَّم في السند الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدَّم في الباب الماضي.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ) ويقال: مولى الأسود بن عبد الأسد المخزوميّ المدنيّ المقرئ الأعور، أبو عبد الرحمن، ثقة من [6].
رَوَى عن زيد بن أبي عياش، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير. ورَوَى عنه يحيى بن أبي كثير، ومالك، وإسماعيل بن أميَّة، وصفوان بن سليم، وأسامة بن ليث الرَّبَذِيُّ، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والنسائي: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه؟ فقال: ثقة، فقيل له: حجة؟ قال: إذا روى عنه مالك، ويحيى بن أبي كثير، وأسامة، فهو حجة، وقال العجلي: مدني ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال ابن الأثير في تاريخه: مات سنة (148).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
4 -
(أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف الزهري، المدني، ثقة مكثر فقيه، من [3](ت 94)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
5 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والقراءة، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، إلا شيخه، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا سلمة بن عبد الرحمن مشهور بكنيته، لا اسم له غيرها، على الصحيح، وقيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل، وهو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَرَأَ لَهُمْ) وفي رواية النسائيّ: "قرأ بهم"({إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}) يعني أنه صلى بهم صلاة قرأ فيها بهذه السورة (فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي سلم من تلك الصلاة (أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ فِيهَا) وفي رواية البخاريّ من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال:"رأيت أبا هريرة رضي الله عنه قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]، فسجد بها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أَرَكَ تسجد؟ قال: لو لم أر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد".
وفي رواية له من طريق بكر بن عبد اللَّه المزنيّ، عن أبي رافع، قال:"صلّيت خلف أبي هريرة رضي الله عنه العَتَمَةَ، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1]، فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه".
وقول أبي سلمة: "ألم أرك تسجد؟ "، قيل: هو استفهام إنكار من أبي سلمة يُشْعِر بأن العمل استمَرّ على خلاف ذلك؛ ولذلك أنكره أبو رافع.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظرٌ، وعلى التّنَزُّل، فيمكن أن يَتَمَسَّك به من لا يَرَى السجود في الصلاة، أما تركها مطلقًا، فلا.
ويدل على بطلان المدَّعَى أن أبا سلمة، وأبا رافع لم يُنازعا أبا هريرة رضي الله عنه بعد أن أعلمهما بالسنّة في هذه المسألة، ولا احتجّا عليه بأن العمل على خلاف ذلك.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وأيُّ عَمَلٍ يُدَّعَى مع مخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بعده؟. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أجود كلام الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله، فقد خالف مذهبه المالكيّ في ثبوت سجود التلاوة في المفصَّل؛ لمعارضته النصوص الصحيحة، وهكذا ينبغي لمقلّدي المذاهب أن يكونوا مثله، فيقولوا إذا خالف مذهبهم النصّ الصحيح: وأيُّ قول يُدَّعى مع ثبوت النصّ الصحيح؟، وهذا هو مقتضى الإيمان الصادق، قال اللَّه تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] الآية، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده، والنّاس أجمعين"، متّفقٌ عليه.
وأخرج البخاريّ في "صحيحه" عن عبد اللَّه بن هشام، قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول اللَّه لأنت أحبُّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا والذي نفسي بيده حتى أكونَ أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن، واللَّه لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر".
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، حسّنه النوويّ، وأعلّه ابن رجب، لكن يشهد له ما قبله.
والحاصل أن الواجب على المسلم إذا خالف مذهبه الحديث الصحيح، أن يتركه، ويعمل بما صحّ من النصّ، ويَعتَذِر عن إمامه بأنه لم يَصِل إليه هذا النصّ، أو وصل إليه لكن تأوّله، فتنبّه أيها العاقل؛ فإن هذا الأمر مهمّ جدًّا، وقد وقع في مخالفته كثير ممن يُظنّ فيهم الخير والصلاح، إلا أن الإنسان عُرْضة للخطأ، كما قال الإمام مالك رحمه الله: كلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (20/ 1302 و 1303 و 1304 و 1305 و 1306 و 1307 و 1308 و 1309)(578)، و (البخاريّ) في "الأذان"(766 و 768) و"سجود القرآن"(1074 و 1078)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1408)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(961 و 962 و 963 و 964 و 965 و 966 و 967 و 968) وفي "الكبرى"(1033 و 1034 و 1035 و 1036 و 1037 و 1038 و 1039 و 1040)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 205)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 343)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1953 و 1954 و 1955 و 1956 و 1957 و 1958 و 1959 و 1960)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1275 و 1276 و 2177 و 1278 و 1279 و 1280 و 1281)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(955)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2761)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(767)، واللَّه عز وجل أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1303]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى
(1)
، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) بن يزيد التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء الرازيّ، يلقّب بالصغير، ثقةٌ حافظ [10](ت بعد 220)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.
2 -
(عِيسَى) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مُرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
(1)
وفي نسخة: "عيسى بن يونس".
3 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ جليلٌ إمامٌ [7](157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدَّم قبل حديثين.
5 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
6 -
(هِشَام) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) عن (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
7 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائي مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم الياميّ، ثقة ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](132)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
والباقيان ذُكرا في السند الماضي.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثِيرٍ) أي الأوزاعيّ وهشام الدستوائيّ.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث عبد اللَّه بن يزيد، عن أبي سلمة.
[تنبيه]: أما رواية هشام الدستوائيّ، فساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(1074)
حدّثنا مسلم بن إبراهيم، ومعاذ بن فَضَالة قالا: أخبرنا هشامٌ، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، فسجد بها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أَرَكَ تسجد؟ قال: لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يَسجُد لم أسجد. انتهى.
ورواية الأوزاعيّ لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1304]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمام حجةٌ، رأس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
3 -
(أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص، أبو موسى المكيّ الأمويّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ مِينَاءَ) -بكسر الميم، والمدّ، ويُقصَر- أبو معاذ المدنيّ، أو البصريّ، صدوقٌ [3] تقدم في "الإيمان" 77/ 398.
والباقيان ذُكرا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1305]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْح) بن مُهاجر التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الفَهْميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ الإمام الحجّة الثبت الفقيه [7](ت 175)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيه، يُرسل [5](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
4 -
(صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ) الزهري مولاهم، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ مُفتٍ عابدٌ رُمي بالقدر [4](ت 132) عن (72) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ مَوْلَى بَنى مَخْزُومٍ) هو: عبد الرحمن بن سَعْد، أبو حُميد المدنيّ الْمُقْعَد، مولى بني مخزوم، ثقة [3].
رَوَى عن أبي سَرِيحة، حُذيفة بن أسيد الغِفَاريّ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبي هريرة.
ورَوَى عنه صفوان بن سُليم، والزهريّ، وابن أبي ذئب، وأبو الأسود يتيم عروة.
قال ابن معين: لا أعرفه، وقال أبو داود: روى عنه الزهريّ، وابن أبي ذئب حديثًا غريبًا، وقال النسائيّ: ثقةٌ. رَوَى له مسلم حديثًا واحدًا في السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، ووقع عنده عن الأعرج، مولى بني مخزوم، فذكره أبو مسعود الدمشقيّ في ترجمة عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج؛ فوهم لأن ابن هُرْمز مولى بني هاشم، وفَرَّق بينهما الدارقطنيّ، قال الْمِزّيّ: وقد فرَّق غير واحد بين هذا وبين مولى الأسود بن سفيان المذكور قبله، والأسود بن سفيان مخزوميّ، فَيَحْتَمِل أن يكونا واحدًا. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: قول الْمِزّيّ: إن أبا مسعود ذكر الحديث في ترجمة عبد الرحمن بن هُرْمُز مع كونه ذكر صفوان بن سُليم هنا في الرواية عن عبد الرحمن بن سَعْد مغاير لما جزم به في "الأطراف"، فعقد لعبد الرحمن بن سعد الأعرج مولى بني مخزوم، عن أبي هريرة ترجمةً، وذكر فيها حديث السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، وهو هذا، فقد ذكر على الصواب هنا، لكنه ذكره في ترجمة عبد الرحمن بن هُرمز من وجه آخر، فعقد لعبيد اللَّه بن أبي جعفر، عن الأعرج، عن أبي هريرة ترجمةً، وأورد هذا الحديث فيها، وأقرَّه المزيّ، وأقرّه أبو عليّ الجيانيّ بأن الأعرج المذكور هو ابن سعد، لا ابن هرمز، والجيانيّ معذور؛ لأن مسلمًا أخرج الحديث من رواية صفوان بن سُليم، فقال: عن عبد الرحمن الأعرج، مولى بني مخزوم، عن أبي هريرة، ثم
ساقه، من طريق عبيد اللَّه بن أبي جعفر، فقال عن عبد الرحمن الأعرج، والظاهر أن الثاني هو الأول.
ويؤيده أن الدارقطنيّ جزم في "العلل" أن ابن هُرْمُز لم يرو هذا الحديث عن أبي هريرة مرفوعًا، إنما رواه عن أبي هريرة، عن عمر موقوفًا، والذي رواه عن أبي هريرة، مرفوعًا هو عبد الرحمن بن سعد، واللَّه أعلم، وقال الأزديّ: عبد الرحمن بن سعد فيه نظر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
وقال النووي رحمه الله: قال الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين" في آخر ترجمة أبي هريرة: الأعرجُ الأَوَّل، مولى بني مخزوم، اسمُهُ عبد الرحمن بن سعد الْمُقْعَد، وكنيته أبو حُميد، وذكره البخاريّ في الكنى المجرّدة، وهو قليل الحديث، وأما عبد الرحمن الأعرج الآخر، فهو ابن هُرْمُز، كنيته أبو داود، مولى ربيعة بن الحارث، وهو كثير الحديث، وروى عنه جماعات من الأئمة، قال: وقد أخرج مسلم عنهما جميعًا في سجود القرآن، قال: فرُبَّما أشكل ذلك، قال: فمولى بني مخزوم يَرْوِي ذلك عنه صفوان بن سُليم، وأما ابن هُرْمُز فيروي ذلك عنه عبيد اللَّه بن أبي جعفر، هذا كلام الحميديّ
(2)
، قال النوويّ: وهو مَلِيحٌ نَفِيسٌ، وكذا قال الدارقطنيّ: إن الأعرج اثنان، يرويان عن أبي هريرة، أحدهما وهو المشهور، عبد الرحمن بن هرمز، والثاني عبد الرحمن بن سعد مولى بني مخزوم، وهذا هو الصواب، وقال أبو مسعود الدمشقيّ: هما واحد، قال أبو عليّ الغسانيّ الجيانيّ: الصواب قول الدارقطنيّ، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول النوويّ: وكذا قال الدارقطنيّ إلخ فيه نظرٌ؛ لأنه يوهم أن رأي الدارقطنيّ مثل رأي الحميديّ في حديث الباب، والصَّواب أن الحميديّ يرى أن الأعرج الأول عند المصنّف هو مولى بني مخزوم، وأما
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 511.
(2)
راجع: "الجمع بين الصحيحين" 3/ 87 وص 322.
(3)
"شرح النوويّ" 5/ 77 - 79 بزيادة من "الجمع بين الصحيحين" للحميديّ 3/ 87 و 322.
الثاني فهو ابن هُرمُز، فالحديث عند المصنّف عنهما جميعًا، وليس كذلك عند الدارقطنيّ، فإنه وإن كان يرى كون الأعرج اثنين، إلا أن الذي رواه عنه صفوان بن سُلَيم في السند الأول عند المصنّف هو الأعرج الثاني الذي روى عنه عبيد اللَّه بن أبي جعفر، ودونك عبارة الدارقطنيّ في "العلل" (8/ 224 - 226):
(1534)
وسئل عن حديث عبد الرحمن، عن أبي هريرة:"سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} "، فقال: يرويه الزهري، وصفوان بن سُليم، فرواه يزيد بن أبي حبيب وعُمَر بن صُبْح عن صفوان بن سُليم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، وبَيَّن نسبه قُرّةُ بن عبد الرحمن، رواه عن الزهريّ وصفوانَ بنِ سُليم، عن عبد الرحمن بن سَعْد، عن أبي هريرة، ويكنى أبا حُميد، وليس بعبد الرحمن الأعرج، صاحب أبي الزناد؛ لأن ذلك هو عبد الرحمن بن هُرْمز، يكنى أبا داود، وهما أعرجان، وجميعًا يرويان عن أبي هريرة، وأما عبد الرحمن بن هُرْمز، فإنما يروي هذا الحديث عن أبي هريرة، أن عمر سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، رَوَى ذلك عنه مالك، ومعمر، ويونس، وغيرهم، عن الزهري، حدَّث به عُمَر بن شَبَّة، عن أبي عاصم، عن مالك، عن الزهريّ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، ووَهِمَ فيه عُمر بن شَبَّة وَهَمًا قبيحًا، والصَّواب عن مالك ما رواه الثقات عنه، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن عمر سجد. انتهى عبارة الدارقطنيّ رحمه الله في "العلل"
(1)
.
وكتب الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله بعد كلام الدارقطنيّ المذكور ما نصّه: وأمَّا أبو مسعود الدمشقيّ، فجعله من حديث عبد الرحمن بن هُرْمُز، صاحب أبي الزناد، وذكره في كتاب "الأطراف" في موضعين: في حديث صفوان، وفي حديث عبيد اللَّه بن أبي جعفر، كلاهما عن عبد الرحمن بن هُرْمُز، رَكِبَ طريق الْمَجَرَّة
(2)
، وقول أبي الحسن أولى بالصواب -إن شاء اللَّه تعالى-.
(1)
"العلل" 8/ 224 - 226.
(2)
كناية عن الطريق المشهور.
روى ابن وهب في "موطّئه" عن قُرّة، عن ابن شهاب، وصفوان بن سُليم، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي هريرة، قال: سجدتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} سجدتين.
ذكره ابن يحيى الذُّهْليّ في كتاب "علل حديث الزهري" في تسمية من روى عنه الزهري من العرب: عبد الرحمن بن سعد، قال: وهو يقال له: الْمُقْعَدُ، له حديثان: أحدهما في السجدة في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، رواه قُرّة -يعني ابن عبد الرحمن- والآخر عن حُذيفة بن أَسِيد الغِفَاريّ في العشر الآيات قبل الساعة، ولكن رواه من لا يُعتدّ به.
هكذا جعله الذُّهليّ في العرب، ولم يجعله في الموالي، وذكره الذّهليّ في موضع آخر من الكتاب، وكناه أبا حُميد، وكذلك كناء أبو الحسن الدارقطنيّ. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق أن الراجح أن عبد الرحمن الأعرج في إسنادي المصنّف هنا، أعني هذا الإسناد، والإسناد التالي هو مولى بني مخزوم، لا عبد الرحمن بن هُرْمُز، كما قاله الدارقطنيّ، وتبعه الجيّانيّ، وأيّده الحافظ كما تقدَّم عن "التهذيب".
وبهذا يتبيّن أن جعل الحميديّ عبد الرحمن الأعرج الثاني هو ابن هُرْمُز، وإن كان محتمِلًا، إلا أن ما قاله الدارقطنيّ أرجح.
والحاصل أن الذي يظهر كون عبد الرحمن الأعرج في هذا السند والسند التالي هو ابنَ سعد مولى بني مخزوم، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1306]
(. . .) - (وَحَدَّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا
(2)
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).
(1)
"تقييد المهمل" 2/ 526 - 529.
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجِيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حافظٌ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) المصريّ، أبو بكر الفقيه، مولى بني كنانة، ويقال: مولى بني أُمية، واسم أبي جعفر يسار، ثقةٌ عابدٌ [5].
رَأَى عبد اللَّه بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيديّ، ورَوَى عن حمزة بن عبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وأبي الأسود، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، وبكير بن الأشج، وعبد الرحمن الأعرج، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم.
وَرَوَى عنه ابن إسحاق، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن أبي أيوب، ويحيى بن أيوب، والليث، وحَيْوة بن شُريح، وأبو شُريح عبد الرحمن بن شريح، وخالد بن حُميد المهريّ، وابن لهيعة.
قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: كان يتفقه ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، مثلُ يزيد بن أبي حبيب، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، وقال ابن سعد: ثقةٌ فقيهُ زمانه، وقال ابن يونس: كان عالِمًا عابدًا زاهدًا، وقال العجليّ: عبد اللَّه بن أبي جعفر مصريّ ثقةٌ، وأخوه عبيد اللَّه لا بأس به، ونقل صاحب "الميزان" عن أحمد أنه قال: ليس بقويّ
(1)
.
وقال أبو شُريح: عبد الرحمن بن شُريح، عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر: غزونا القسطنطينية، فكُسِر بنا مركبنا، فألقانا الموج على خشبة في البحر،
(1)
هذا محل نظر، فقد سبق أن أحمد قال: ليس به بأس، إلا أن يكون قولان، فتأمل.
وكنا خمسةً أو ستةً، فأنبت اللَّه لنا بعددنا ورقة لكل رجل منا، فكنا نَمُصّها، فتشبعنا وتُرْوينا، فإذا أفنينا أنبت اللَّه لنا مكانها أخرى، حتى مَرّ بنا مركبٌ، فحملنا.
قال ابن لهيعة وغيره: ولد سنة ستين، وقال يحيى بن بكير: تُوُفِّي بعد دخول المسوِّدة، زاد غيره: في ذي الحجة سنة (132)، وقال خليفة: مات سنة (4)، وقال أبو حسان الزياديّ: سنة (5)، وقال ابن سعد: سنة خمس، أو ست وثلاثين ومائة، وقال ابن يونس وغيره: سنة (36)، وكذا قال ابن حبان في "الثقات".
أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (578) و (847) و (1040) و (1147) و (1591) و (1826) و (1851) و (2253).
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ) تقدَّم أن الأرجح، كما قال الدارقطنيّ، وتبعه الجيّانيّ، وأيّده الحافظ أنه ابن سعد، مولى بني مخزوم المذكور في السند السابق، وليس هو ابن هُرْمُز، أبا داود المدنيّ، الثقة الثبت الفقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192، وإن كان مُحتملًا، كما هو رأي الحميديّ، وتبعه النوويّ، إلا أن الأول أظهر، كما سبق بيانه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل حديث صفوان بن سُليم، يعني أن عبيد اللَّه بن أبي جعفر، روى عن عبد الرحمن الأعرج مثل رواية صفوان بن سُليم، عنه في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية عبيد اللَّه بن أبي جعفر، عن عبد الرحمن الأعرج التي أحالها المصنّف هنا على رواية صفوان بن سُليم، عنه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 524) فقال:
(1959)
حدّثنا الربيع بن سليمان، وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا حجاج بن إبراهيم، قال: ثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: سجدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} سجدتين. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1307]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ
(1)
، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: صلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَاةَ الْعَتَمَةِ، فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، فَسَجَدَ فِيهَا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذِهِ
(2)
السَّجْدَةُ؟ فَقَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: فَلَا أَزَالُ أَسْجُدهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبَريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
3 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سُليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 105.
4 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرخان التيميّ، أبوالمعتمر، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(بَكْر) بن عبد اللَّه الْمُزَنيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ جليلٌ [3](ت 106)(خت م 4) تقدَّم في "المقدّمة" 6/ 82.
6 -
(أَبُو رَافِعٍ) نُفيعٌ الصَّائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبت مشهورٌ بكنيته [2](ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قَرَن بينهما؛ لاتّحاد صيغتي أدائهما، وفيه التحديث، والعنعنة.
(1)
زاد في نسخة: "العنبريّ".
(2)
وفي نسخة سقطت لفظة "له".
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ الابن، عن أبيه، وثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: سليمان التيميّ، عن بكر، عن أبي رافع.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) نفيع الصائغ، أنه (قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ أَبِي هُرَيرَةَ) رضي الله عنه (صَلَاةَ الْعَتَمَةِ) بفتحات، قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْعَتَمَة: من الليل بعد غَيْبُوبة الشفق إلى آخر الثلث الأول، وعَتَمَة الليل: ظلام أوله عند سُقُوط نور الشفق، وأعتم: دخل في الْعَتَمة، مثلُ أصبح: دخل في الصباح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد ورد النهي عن تسمية العشاء بالعتمة، فسيأتي للمصنّف من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تَغْلِبَنَّكم الإعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يُعْتمون بالإبل".
وأجيب بحمل النهي على التنزيه، وسيأتي تمام البحث في شرح الحديث المذكور-إن شاء اللَّه تعالى-.
(فَقَرَأَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، فَسَجَدَ فِيهَا) أي سجد أبو هريرة رضي الله عنه في هذه السورة لأجل تلاوته آية سجدة (فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ؟) استفهام إنكاريّ، وفي رواية النسائيّ:"فلما فرغ قلت: يا أبا هريرة هذه -يعني سجدة- ما كنا نسجدها"، أي إن هذه السجدة التي سجدتها في هذه السورة لم نكن نسجدها مع غيرك من الأئمة.
فقوله: "هذه" مبتدأ، خبره جملة قوله:"ما كنا نسجدها" وقوله: "يعني سجدةً" هذه العناية من بعض الرواة بَيَّنَ بها المراد من اسم الإشارة.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 392.
(فَقَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (سَجَدْتُ بِهَا) أي بسبب تلاوة آية السجدة منها (خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائي: سجد بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وأنا خلفه، والمراد أنه سجد بها في الصلاة، وليس في رواية البخاري قوله:"وأنا خلفه"، ولذا اعترض ابن المنيّر، فقال: لا حُجّة فيها على مالك؛ حيث كَرِهَ السجدة في الفريضة -يعني في المشهور عنه- لأنه ليس مرفوعًا.
فتعقَّبه الحافظ، فقال: وغَفَل عن رواية أبي الأشعث، عن معتمر بهذا الإسناد بلفظ:"صليت خلف أبي القاسم، فسجد بها". أخرجه ابن خزيمة، وكذلك أخرجه الْجَوْزقيّ من طريق يزيد بن هارون، عن سليمان التيمىّ، بلفظ:"صليت مع أبي القاسم، فسجد بها". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كان الأولى للحافظ أن يعزو هذه الرواية إلى المصنّف، أو يذكره معهم؛ لأن المعروف إذا كان الحديث في "الصحيحين" أو أحدهما أن يُعزى إليهما، أو إلى أحدهما، أو يذكرا مع غيرهما، وإلى هذا أشار بعضهم بقوله:
قَاعِدَةٌ أَسَّسَهَا الأَعْلَامُ
…
وَمَنْ حَذَا خِلَافَهَا يُلَامُ
إِذَا الْحَدِيثُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" يَرِدْ
…
أَوْ كَانَ فِي أَحَدِ ذَيْنِ قَدْ وُجِدْ
فَعَزْوه لِمَا سِوَاهُمَا غَلَطْ
…
إِلَّا إِذَا بِعَزْوِ ذَيْنِ يُرْتَبَطْ
(فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ) وفي رواية النسائيّ: "حتى ألقى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، أي حتى أموت؛ لأنه لا يلقاه إلا بعد الموت (وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) أي محمد بن عبد الأعلى شيخه الثاني (فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُهَا) أي بدل قول عبيد اللَّه:"فلا أزال أسجد بها".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: في هذا الحديث حجة لمن قال بمشروعية السجود في الصلاة المفروضة، وقد اختلف العلماء في ذلك.
فذهب الجمهور إلى مشروعيته في الصلاة مطلقًا، وهو الراجح؛ لحديث الباب وغيره.
وذهب بعضهم إلى كراهته في الفريضة، وهو المشهور عن مالك، وعنه كراهته في السرية دون الجهرية، وهو قول للحنفية، وغيرهم.
وذهب بعضهم إلى أنه لا يسجد في الفرض، فإن سجد فسدت الصلاة به، ذكره الشوكاني عن بعض الزيدية.
وكل هذه الأقوال ساقطة محجوجة بما صح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه سجد في الفريضة، فتبصّر.
وفيه تكنية النبيّ صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم، وقد ورد النهي عن التكنيّ به لغيره صلى الله عليه وسلم، وسيأتي البحث فيه في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّمت مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1308]
(. . .) - (حَدَّثَنِي
(1)
عَمْرُو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بنُ أَخْضَرَ، كُلُّهُمْ عَنِ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا: خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حُسين بن طلحة الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(يَزِيدُ بْنَ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضبيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
4 -
(سُلَيم بن أخضر) البصري، ثقة ضابط [8].
روى عن ابن عون، وعكرمة بن عمار، وسليمان التيميّ، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
ورَوَى عنه ابن مهدي، وعفان، والأصمعيّ، وحُميد بن مَسْعدة، وغيرهم.
قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: من أهل الصدق والأمانة، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: أعلم الناس بحديث ابن عون، وقال سليمان بن حرب: ثنا سُلَيم بن أخضر الثقة المأمون الرضيّ، وقال القواريريّ: ثنا سُلَيم بن أخضر، وكان في ابن عون كحماد بن زيد في أيوب، وقال ابن سعد: كان ألزمهم لابن عون، وكان ثقة، وقال أبو القاسم الطبريّ: بصريّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فقال: يروي عن حميد الطويل، وابن عون، مات سنة (180) وكذا أرخه خليفة، وزكريا الساجيّ.
أخرج له الجماعة، إلا البخاريّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (578) و (1262) و (1633) و (1730) و (1862).
والباقون ذُكروا في الباب، و"التيميّ": هو سليمان والد المعتمر.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ) الضمير لعيسى بن يونس، ويزيد بن زريع، وسُليم بن أخضر، يعني أن هؤلاء الثلاثة رووا عن سليمان التيميّ، بسنده الماضي، وهو: عن بكر المزنيّ، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس التي أحالها هنا على رواية المعتمر، ساقها الحافظ أبو يعلى في "مسنده" (11/ 364) فقال:
(6476)
حدّثنا عمرو بن محمد الناقد، حدّثنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، حدّثنا سليمان التيميّ، عن بكر بن عبد اللَّه المزنيّ، عن أبي رافع، قال: صلّيت مع أبي هريرة صلاة العشاء، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} ، فقلت له، فقال: سجد بها أبو القاسم عليه السلام وأنا معه، فقال التيميّ: أو قال: سجدت بها مع أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وأما رواية يزيد بن زريع، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(768)
حدّثنا مسدَّد، قال: حدّثنا يزيد بن زُريع، قال: حدّثني التيميّ، عن بكر، عن أبي رافع، قال: صلّيت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ (1)}، فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه. انتهى.
وأما رواية سُليم بن أخضر، فساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(968)
أخبرنا حميد بن مَسْعدة، عن سُلَيم، وهو ابن أخضر، عن التيميّ، قال: حدَّثني بكر بن عبد اللَّه الْمُزَنيّ، عن أبي رافع، قال: صلّيت خلف أبي هريرة صلاة العشاء، يعني العتمة، فقرأ سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، فسجد فيها، فلما فرغ قلت: يا أبا هريرة، هذه -يعني سجدة- ما كنا نسجدها، قال: سجد بها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وأنا خلفه، فلا أزال أسجُد بها حتى ألقى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1309]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَسْجُدُ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، فَقُلْتُ: تَسْجُدُ فِيهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا، فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ، قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ) اسمه مَنِيع، أبو معاذ البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالقدر [4](ت 131)(خ م د س ق) تقدم في "الطهارة" 21/ 625.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (قُلْتُ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟) يعني أن مراد أبي هريرة رضي الله عنه بقوله: "خليلي" هل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، قال عطاء: نعم هو المراد.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدَّم شرحه، والمسائل المتعلّقة به قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(21) - (بَابُ صِفَةِ الْجُلُوسِ فِي الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1310]
(579) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُوميُّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ، جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَيْنَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بِإصبعِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ) البصريّ الْبَحْرانيّ، صدوقٌ، من كبار [11](ت 250) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
2 -
(أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُوميُّ) المغيرة بن سلمة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
4 -
(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيم) بن عبّاد بن حُنَيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقة [5](ت قبل 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
5 -
(عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) الأسديّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 121)(ع) تقدم في "المساجد" 9/ 1217.
6 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن الزبير بن العوّام القُرشيّ الأسديّ، أبو بكر وأبو خُبيب الصحابيّ ابن الصحابي رضي الله عنهما، قُتل في ذي الحجة سنة (73)(ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالمدنيين.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فأبوه الزبير بن العوّام، حواريّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما ذات النطاقين، وجدّه الصدّيق، وجدّته صفيّة عمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وخالته عائشة رضي الله عنها، وهو أول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، هاجرت به أمه أسماء إلى المدينة، وهي حامل، فولدته بعد وصولها إلى قباء، وأتت به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره، فدعا بتمرة، فمضغها، ثم تَفَلَ في فيه وحنّكه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم دعا له، وبرّك عليه، وولي الخلافة تسع سنين، وخلافته صحيحة، بويع له بعد موت يزيد بن معاوية سنة (64)، فخرج عليه مروان بعد أن بويع له بالآفاق كلّها إلا بعض قرى الشام، وقتله الحجاج بمكة، وصلبه، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون.
شرح الحديث:
عن عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه من الزبير رضي الله عنهما أنه (قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ) وفي رواية ابن عجلان التالية: "إذا قعد يدعو"، أي يتشهّد، قال الطيبيّ رحمه الله: سُمّي التشهّد دعاءً؛ لاشتماله عليه؛ فإن قوله: "السلام عليك"، وقوله:"السلام علينا" دعاء (جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَيْنَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ) أي تحت فخذه اليمنى، وساقه، ففي رواية أبي داود:"جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه"، ونحوه عند أبي عوانة في "مسنده"، وأبي نعيم في "مستخرجه"، فهذه الرواية تبيّن أن المراد من قوله هنا:"بين فخذه وساقه" جعلها تحتهما (وَفَرَشَ) من بأبي نصر وضرب: أي بسط (قَدَمَهُ الْيُمْنَى) أي جعل ظهرها على الأرض، وليست منصوبة، وهذا لا ينافي ما ثبت في الروايات الأخرى التي ذُكر فيها نصبه قدمه اليمنى؛ لإمكان
حمله على اختلاف الأوقات، فهو صلى الله عليه وسلم فعل هذا في بعض الأوقات، وهذا في بعض الأوقات؛ لبيان الجواز، أفاده في "المنهل"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الذي ذكره من صفة القعود هو التورُّك، لكن قوله:"وفَرَشَ قدمه اليمنى" مشكلٌ؛ لأن السنة في القدم اليمنى أن تكون منصوبة باتفاق العلماء، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على ذلك، في "صحيح البخاريّ" وغيره، قال القاضي عياض رحمه الله: قال الفقيه أبو محمد الْخُشَنيّ: صوابه: وفَرَش قدمه اليسرى، ثم أنكر القاضي قوله؛ لأنه قد ذكر في هذه الرواية ما يَفْعَل باليسرى، وأنَّه جعلها بين فخذه وساقه، قال: ولعل صوابه: ونصب قدمه اليمنى، قال: وقد تكون الرواية صحيحة في اليمنى، ويكون معنى فرشها أنه لم يَنصِبها على أطراف أصابعه في هذه المرّة، ولا فَتَحَ أصابعها كما كان يفعل في غالب الأحوال، هذا كلام القاضي.
قال النوويّ: وهذا التأويل الأخير الذي ذكره هو المختار، ويكون فَعَلَ هذا لبيان الجواز، وأن وضْع أطراف الأصابع على الأرض، وإن كان مستحبًّا يجوز تركه، وهذا التأويل له نظائر كثيرةٌ، لا سيما في باب الصلاة، وهو أولى من تغليط رواية ثابتة في "الصحيح"، واتفق عليها جميع نسخ مسلم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وفَرَشَ قدمه اليمنى" هكذا الرواية، ولا يصحّ غيرها نقلًا، وقد أشكلت هذه اللفظة على جماعة حتى قال أبو محمد الْخُشَنيّ: صوابه: "وفَرَشَ قدمه اليسرى"، ورأى أنه غَلَطٌ؛ لأن المعروف في اليمنى أنها منصوبة، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من رواية أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كان يَنصب اليمنى، ويَثْنِي اليسرى، وكذا جاء في البخاريّ من حديث أبي حميد رضي الله عنه قال:"وإذا جلس في الرَّكعة الآخرة جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وقَعَدَ على مقعدته"، والصَّواب حَمْلُ الرواية على الصحّة وعلى ظاهرها، وأنَّه صلى الله عليه وسلم في هذه الكرّة لم يَنصب قدمه اليمنى، ولا فَتَحَ أصابعه، وإنما باشر الأرض بجانب رجله اليسرى، وبسطها عليها، إما لعذر، كما كان يفعل ابن
(1)
"المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 6/ 103.
(2)
"شرح النوويّ" 5/ 80 - 81.
عُمر رضي الله عنهما حيث قال: إن رجليّ لا تحملاني، وإما ليُبَيِّنَ أن نصبهما، وفتحَ أصابعهما ليس بواجب، وهذا هو الأظهر، واللَّه أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيس، واللَّه تعالى أعلم.
(وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى) يعني بسطها عليها، وفي رواية ابن عجلان:"ويُلقِم كفّه اليُسرى ركبته"، وهذا أيضًا لا ينافي ما في الروايات الآتية من وضعه صلى الله عليه وسلم يده اليسرى على فخذه اليُسرى باسطها عليها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل هذا تارةً، وذاك تارة أخرى؛ لبيان الجواز، فالأمر فيه سعة
(2)
. (وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى) أي مقبوضة، كما تدلّ عليه رواية:"ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى"(وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ") تقدَّم أن فيه عشر لغات، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة، والإصبع التي أشار بها هي السبّابة، كما بُيّن في رواية ابن عجلان التالية، وسيأتي تفسير الإشارة في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي في الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 1310 و 1311](579)، و (أبو داود) في "سننه"(988 و 989 و 990)، و (النسائيّ) في "السهو"(3/ 37 و 39)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1943 و 1944)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2001 و 2002)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1282 و 1383 و 1284)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 349 - 350)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 130 و 131)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(676)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"المفهم" 2/ 200.
(2)
المصدر السابق 6/ 103.
1 -
(منها): بيان كيفيّة الجلوس للتشهّد في الصلاة، وذلك بأن يضع قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه، ويفرش اليمنى، وهذا هو التورّك، وهذه إحدى كيفيّات الجلوس، وله كيفيّة أخرى سيأتي بيانها في المسألة التالية.
2 -
(ومنها): بيان استحباب وضع اليد اليسرى على الركبة اليسرى، واليمنى على اليمنى.
3 -
(ومنها): استحباب قبض اليد اليمنى، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
4 -
(ومنها): استحباب الإشارة بالسبّابة، وسيأتي تمام البحث فيها قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- أيضًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في كيفيّة الجلوس في الصلاة:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: افترق أهل العلم في صفة الجلوس في التشهد الأول والآخر ثلاث فِرَق، فسوّت فرقة بين الجلسة الأولى والأخيرة، فرأت أن ينصب الجالس رجله اليمنى، ويفترش اليسرى، فيجلس على بطن قدمه، هذا قول سفيان الثوريّ، وقال أصحاب الرأي: يقعد الرجل في الصلاة إذا قعد في الثانية والرابعة يفترش رجله اليسرى، فيجعلها بين أَلْيتيه، فيقعد عليها، ويَنْصِب اليمنى نصبًا، ويوجه أصابع رجله اليمنى نحو القبلة.
واحتَجَّ من هذا مذهبه بما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن بإسناد صحيح، عن وائل بن حجر رضي الله عنه، قال:"أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: لأنظرنّ إلى صلاته، كيف يصلّي؟، فلما جلس افترش رجله اليسرى، ووضع يده على ركبته اليسرى، ووضع حدّ مرفقه على فخذه اليمنى".
وبما أخرجه البخاريّ، وأصحاب السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"من سنّة الصلاة، أن تنصب اليمنى، وتَثْني اليسرى"، ولفظ أبي داود، والنسائيّ:"من سنّة الصلاة أن تُضْجِع رجلك اليسرى، وتَنْصِب اليمنى".
ورأت فرقة أن يجلس بين السَّجدتين كما يجلس في التشهد، ينصب رجله اليمنى، ويَثني اليسرى، ويقعد على وَرِكِه الأيسر حتى يستوي قاعدًا، ويعتدل.
هذا قول مالك، قال: وهذا أحبّ ما سمعت إليّ، وقال مالك: إذا نصب اليمنى جعل بطن الإبهام على الأرض.
واحتج بما رواه في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد، أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد، فنصب اليمنى، وثَنَى اليسرى، وجلس على وركه اليسرى، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك.
ورأت فرقة ثالثة أن يجلس الجلسة الأولى كالذي ذكرناه عن الثوريّ، ويجلس في الرابعة على نحو ما حكيناه عن مالك.
هذا قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
واحتج هؤلاء بحديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه. انتهى كلام ابن المنذر باختصار وتصرّف
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: مذهبنا -يعني الشافعيّة- أنه يُستحبُّ أن يجلس في التشهد الأول مفترشًا، وفي الثاني متوركًا، فإن كانت الصلاة ركعتين جلس متوركًا، وقال مالك: يجلس فيهما متوركًا، وقال أبو حنيفة والثوريّ: يجلس فيهما مفترشًا، وقال أحمد: إن كانت الصلاة ركعتين افترش، وإن كانت أربعًا افترش في الأول، وتَوَرَّك في الثاني.
واحتُجَّ لمن قال يفرش فيهما بحديث عائشة رضي الله عنها: "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَفرِش رجله اليسرى، ويَنصب اليمنى، ويَنهَى عن عقب الشيطان"، رواه مسلم، وفي رواية البيهقي:"يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى".
وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم "كان يفرش رجله اليسرى".
واحتُجّ للتورك بحديث عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما المذكور في الباب.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "سنّة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى"، رواه البخاريّ.
وروى مالك بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "الجلوس على قدمه اليسرى".
(1)
"الأوسط" 3/ 202 - 204.
واحتج الشافعيّة بحديث أبي حميد الساعديّ رضي الله عنه في عشرة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه وصف صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"فإذا جلس في الرّكعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا جلس في الرَّكعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى، ونصب الأُخرى، وقعد على مقعدته"، رواه البخاري بهذا اللفظ.
قال الشافعيّ وأصحابه: فحديث أبي حميد وأصحابه صريح في الفرق بين التشهدين، وباقي الأحاديث مطلقة، فيجب حملها على موافقته، فمن روى التورك أراد الجلوس في التشهد الأخير، ومن روى الافتراش أراد الأول، وهذا متعين للجمع بين الأحاديث الصحيحة، لا سيما وحديث أبي حميد وافقه عليه عشرة من كبار الصحابة رضي الله عنهم، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الراجح عندي من هذه المذاهب كلِّها هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وهو أن التورّك يكون للصلاة التي يكون فيها تشهدان، وما عدا ذلك فالسنة فيه الافتراش، فهذا التفصيل هو الأرجح عندي، إذ هو أقرب للجمع بين الأحاديث، فإن حديث عائشة رضي الله عنها نصّ صريح في أن السنة في كل تشهد هو الافتراش، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أبي الجَوْزاء عنها، في صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه:"وكان يقول في ركعتين التحيةَ، وكان يفرُش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عُقْبَة الشيطان".
فإن هذا نصّ صريح في أن السنة في الجلوس للتشّهد في كل ركعتين هو الافتراش.
لكن لما صحّ لدينا حديث أبي حميد رضي الله عنه، وكان فيه زيادة أخذنا بالزيادة، وهي أن السنة في التشهد الأخير فيما كان فيه تشهدان التورُّك، فبقي ما عداه على حديث عائشة رضي الله عنها.
والحاصل أن الافتراش هو السنة في الجلوس مطلقًا، ما عدا الجلوسَ
(1)
"المجموع شرح المهذّب" 3/ 430 - 431.
للتشهد الأخير في الصلاة الثلاثية، والرباعية، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: هذه الكيفيات المذكورة في التشهد ليست للوجوب، بل هي للاستحباب، فلو تَوَرَّك في الأول، وافترش في الأخير جازت الصلاة، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قيل: الحكمة في الافتراش في التشهد الأول، والتورّك في الثاني أنه أقرب إلى تذكر الصلاة، وعدم اشتباه عدد الركعات، ولأن السنة تخفيف التشهد الأول، فيجلس مفترشًا؛ ليكون أسهل للقيام، والسنة تطويل الثاني، ولا قيام بعده، فيجلس متوركًا ليكون أعون له، وأمكن ليتوفر الدعاء، ولأن المسبوق إذا رآه علم في أي التشهدين، ذكره النوويّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1311]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظ لَهُ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَعَدَ يَدْعُو وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى، وَأَشَارَ بِإصبَعِهِ السَّبَابَةِ، وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى، وَيُلْقِمُ كَفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(لَيْث) بن سعد الإمام المشهور، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوق [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا بن سعيد".
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما أنه (قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَعَدَ يَدْعُو) أي يقرأ التشهّد، وسُمّي التشهُّد دعاءً؛ لاشتماله عليه، في قوله:"السلام عليك أيها النَّبيّ ورحمة اللَّه وبركاته"، وقوله:"السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين"، فهو وإن كان في صورة الخبر لكنه في معنى الإنشاء.
وقال في "المنهل": ويحتمل أن يراد بالدعاء قوله: "أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وكان دعاءً؛ لأنه يترتّب عليه من الخير ما يترتّب على الدعاء. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول أقرب كما لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم.
(وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى) وَضْعُ اليدين على الركبتين في التشهّد مجمع على استحبابه، والحكمة من وضعهما على الركبتين المحافظةُ من العبث، والمراعاةُ للأدب.
(وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ) أي من ابتداء القعود للتشهّد إلى انتهائه، على ما هو الصواب.
و"السّبّابة": هي الإصبَعُ التي تلي الإبهام؛ سُمّيت بذلك؛ لأنها يشار بها عند السبّ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى إِصْبَعِهِ الْوُسْطَى) هذه إحدى الكيفيّة في القبض في
(1)
"المنهل العذب" 6/ 104.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 262.
التشهّد (وَيُلْقِمُ) بضم أوله، من الإلقام، يقال: ألقمت الطَّعام: إذا أدخلته في فيك (كفَّهُ الْيُسْرَى رُكْبَتَهُ) يعني أنه يدخل ركبته في راحة كفّه اليسرى حتى صارت ركبته كاللقمة في كفّه، ولا ينافي هذا ما سيأتي من أنه وضع كفّيه على فخذيه؛ لأنه يُحمل على تعدد الأوقات.
وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "ووضع يده اليسرى على ركبته"، وفي رواية رحمه الله:"ويُلْقِم كفه اليسرى ركبته"، فهو دليل على استحباب ذلك، وقد أجمع العلماء على استحباب وضعها عند الركبة، أو على الركبة، وبعضهم يقول: بَعْطِف أصابعها على الركبة، وهو معنى قوله:"ويُلْقِم كفه اليسرى ركبته"، والحكمة في وضعها عند الركبة منعها من العَبَث.
وأما قوله: "ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى" فمُجْمَعٌ على استحبابه.
وقوله: "أشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوُسْطَى"، وفي الرواية الأخرى:"وعَقَدَ ثلاثًا وخمسين"
(1)
، هاتان الروايتان محمولتان على حالين، ففعل في وقت هذا، وفي وقت هذا، وقد رام بعضهم الجمع بينهما، بأن يكون المراد بقوله:"على إصبعه الوسطى"، أي وضعها قريبًا من أسفل الوُسطى، وحينئذ يكون بمعنى العقد ثلاثًا وخمسين.
قال: وأما الإشارة بالمسبِّحة فمستحبة عندنا؛ للأحاديث الصحيحة، قال أصحابنا: يُشير عند قوله: "إلا اللَّه" من الشهادة. قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "يشير عند قوله: إلا اللَّه" هذا مما لا دليل عليه، بل ظواهر الأحاديث تدلّ على أن الإشارة من أول الجلوس إلى آخره، فالحقّ أنه يُشير من أوله إلى آخره، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: ويُشير بمسبحة اليمنى لا غير، فلو كانت مقطوعة أو عَلِيلة لم يشر بغيرها، لا من الأصل باليمنى، ولا اليسرى، والسنة أن لا يجاوز بصره إشارته، وفيه حديث صحيح في "سنن أبي داود"، ويشير بها موجَّهةً إلى القبلة، وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
هو أن يضع الخنصر على راحته، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا.
(2)
"شرح النوويّ" 5/ 81 - 82.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق بيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1312]
(580) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ، وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، فَدَعَا بِهَا، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، بَاسِطَهَا عَلَيْهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ حافظٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسِّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ شهيرٌ، كان يتشيّع، وعمي في آخره، فتغيّر [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
5 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
7 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن نصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما ("أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ) أي للتشهّد (وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ) لكن مع اختلاف الهيئة كما بيّنه قوله: (وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُمْنَى) ظاهره أن رفع الإصبع، أي الإشارة بها كان من ابتداء الجلوس، لا كما يزعمه من يقول: إن الإشارة عند الشهادتين فقط، فإن ذلك مما لا دليل عليه، كما سيأتي بيانه (الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ) تقدّم أنها السبّابة، وتسمّى المسبِّحة أيضًا (فَدَعَا بِهَا) أي أشار بها، وقيل: معنى "دعا": تشهدّ، وسُمّي التشهّد دعاء؛ لاشتماله عليه، كما سبق بيانه (وَيَدَهُ الْيُسْرَى) بالنصب عطفًا على "يديه"، أي ووضع يده اليسرى، ويَحْتَمل الرفع، على أنه مبتدأ خبره قوله:(عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى) وقوله: (بَاسِطَهَا عَلَيْهَا) بالنصب على الحال، أي حال كونه باسطًا يده اليسرى على ركبته من غير رفع إصبعه، ويَحْتمل الرفع على أنه خبر لـ "يدُه اليسرى" بعد خبر، وفيه إشعارٌ يكون اليمنى مقبوضة.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وسيأتي بيان مسائله بعد حديث -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1313]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي التَّشَهُّدِ، وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثَةً
(1)
وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّد) بن مسلم، أبو محمد البغداديّ المؤدِّب، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 11/ 80.
3 -
(أيُّوبُ) بن أبي تميمةْ كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجةٌ عابدٌ [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى. . . إلخ) المراد وضع باطن الكفّين على الركبتين، وفيه دليل على استحباب وضع اليدين على الركبتين حال الجلوس، وهو مجمع عليه.
وقوله: (وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ) ووقع في نسخة: "ثلاثًا وخمسين"، بتذكير ثلاث، وهو جائز؛ لعدم ذكر المعدود بعده، كما أسلفناه غير مرّة.
وعقدُ ثلاثة وخمسين عند أهل الحساب أن يضع طرف الخنصر على البنصر، ولكن المراد هنا أن يضع الخنصر على الراحة، وهو المسمّى عندهم بعقد تسعة وخمسين، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة من شرح الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وعقد ثلاثًا وخمسين" قد بَيَّنَ هذا بيانًا شافيًا
(1)
وفي نسخة: "ثلاثًا".
وائل بن حُجْر رضي الله عنه فيما رواه أبو داود، قال:"وجَعَل حدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قَبَضَ اثنتين من أصابعه، وحَلَّقَ حَلْقةً"، وإلى ظاهر حديث وائل رضي الله عنه هذا ذهب بعض أهل العلم، فقالوا بالتحليق، وكرهه بعض علماء المدينة؛ أخذًا بظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث حَكَى أنه صلى الله عليه وسلم عقد ثلاثًا وخمسين، ومن قال بالتحليق منهم من ذهب إلى أن التحليق برؤوس الأنامل، وهو الخطّابيّ، ومنهم من ذهب إلى أنه يَضَع أنملة الوسطى بين عُقدتي الإبهام، والأمر قريبٌ، ويُفيد مجموع الأحاديث التخيير. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو حسنٌ.
وقوله: (وَأَشَارَ بِالسَّبَابَةِ") هي التي تلي الإبهام، سُمّيت بذلك؛ لأنها يُشار بها عند المخاصمة والسبّ، ويقال لها: المسبِّحة -بضمّ الميم، وكسر الموحّدة المشدّدة، سُمّيت بذلك؛ لأن المصلّي يُشير بها إلى التوحيد والتنزيه للَّه تعالى عن الشرك
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وستأتي مسائله في الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1314]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَاوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَنَا أَعْبَثُ بِالْحَصَى
(3)
فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ نَهَانِي، فَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ، فَقُلْتُ: وَكَيْفَ
(4)
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ؟ قَالَ: "كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ، وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلِّهَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ، وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى").
(1)
"المفهم" 2/ 201.
(2)
"تهذيب الأسماء واللغات" 4/ 144.
(3)
وفي نسخة: "بالحصباء".
(4)
وفي نسخة: "قلت: كيف كان".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِكٌ) بن أنس إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين المجتهدُ المشهور، أبو عبد اللَّه [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) يسار السَّلُوليّ المدنيّ مولى الأنصار، وقيل في ولائه غير ذلك، ثقة [4].
رَوَى عن ابن عمر، وأبي سعيد الخدريّ، وعبد اللَّه بن سرْجِس، وعليّ بن عبد الرحمن الْمُعاويّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه إسماعيل بن جعفر، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، وشعبة، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو داود، والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح، وهم ثلاثة إخوة: محمد، وعبد اللَّه، ومسلم، بنو أبي مريم، ومسلم أعلاهم، وقال ابن سعد: ليس بأخيهما، وقال علي بن زَنْجَلَةَ، عن القعنبيّ: كان مالك يُثني عليه، وقال: لا يكاد يَرفع حديثًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو، وابن سعد: مات في ولاية أبي جعفر، زاد ابن سعد: وكان شديدًا على القدريّة، وكان ثقة قليل الحديث.
رَوَى له الجماعة، سوى التِّرمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (580)، و (2565):"تُعرض الأعمال في كلّ خميس واثنين. . . "، وأعاده بعده.
4 -
(عَلِي بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَاوِيُّ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [4].
رَوَى عن ابن عمر، وجابر، ورَوى عنه مسلم بن أبي مريم، والزهريّ.
قال أبو زرعة، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وذكر أبو عوانة في "صحيحه" أن شعبة رَوَى حديثه عن مسلم بن أبي مريم، عنه، فقَلَبه، فقال: عبد الرحمن بن عليّ، قال أبو عوانة: وهو غلط
(1)
.
(1)
راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 537.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ حديث الباب فقط.
[قوله]: "الْمُعَاويّ": نسبةٌ إلى مُعَاوية بن مالك، قال في "تهذيب الكمال" 21/ 53: من وَلَد مُعاوية بن مالك بن عَوف بن عمرو بن عوف، من الأوس. انتهى.
والصَّواب في ضبطه ضم الميم، وتخفيف العين المهملة، كما في "الخلاصة" 2/ 253، و"لب اللباب" 2/ 264، فما وقع في بعض نسخ "تقريب التهذيب" من ضبطه بفتح الميم فغلط، وقد وقع على الصواب في بعضها، وهي النسخة التي حققها أبو الأشبال صغير أحمد شاغف، الباكستاني. فتنبه، واللَّه تعالى ولي التوفيق.
وابن عمر رضي الله عنهما ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وفي رواية النسائيّ من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن مسلم بن أبي مريم، قال: سمعت عليّ بن عبد الرحمن يقول: صليت إلى جنب ابن عمر، فقلبت الحصى. . .، وقوله:(الْمُعَاوِيِّ) تقدّم أنه بضمّ الميم (أَنَّهُ قَالَ: رَآنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (وَأَنَا أَعْبَثُ) بفتح أوله وثالثه، يقال: عَبِثَ عَبَثًا، من باب تَعِبَ: إذا لَعِبَ، وعَمِلَ ما لا فائدة فيه
(1)
. (بِالْحَصَى) وفي نسخة: "بالحصباء"، وهي صغار الحصى (فِي الصَّلَاةِ) والمراد أنه يَعبَث في جلوس الصلاة بدليل تعليم ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه اقتصر على بيان كيفية وضع اليدين في حال الجلوس، فإنه يدلّ على أنه إنما رآه يعبث في حال الجلوس، لا في كلّ الصلاة.
(فَلَمَّا انْصَرَف) أي سَلَّم ابن عمر رضي الله عنهما من الصلاة (نَهَانِي) وفي رواية النسائيّ: "لا تحرّك الحصى، وأنت في الصلاة، فإن ذلك من الشيطان"(فَقَالَ) ابن عمر (اصْنَعْ كمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ)"ما" مصدريّة، أي كصنعه صلى الله عليه وسلم، أو موصولة، والعائد مقدّر، أي كالصنع الذي يصنعه صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: وَكَيْفَ كَانَ)
(1)
"المصباح المنير" 2/ 389.
وفي نسخة: قلت: كيف كان (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ؟) و"كيف" استفهاميّة، وهي مفعول مطلق لـ "يصنع"، كما في قوله تعالى:{كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1]
(1)
. أي أيَّ صُنْعٍ يصنع صلى الله عليه وسلم حتى أقتدي به (قَالَ) ابن عمر (كَان) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (إِذَا جَلَسَ) أي شرع في الجلوس للتشهّد (فِي الصَّلَاةِ، وَضَعَ كَفَّهُ) أي باطن كفّه (الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا) أي أصابع يده اليمنى (وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ) أي وهي السبّابة (وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى) أي مبسوطة، كما بُيِّن في الروايات الأخرى، وفي رواية النسائيّ:"قال: فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورَمَى ببصره إليها، أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصنع"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 1314 و 1315](580)، و (أبو داود) في "الصلاة"(987)، و (التِّرمذيّ) فيها (294)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1160 و 1266 و 1267) و "الكبرى"(747 و 1189 و 1190)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(913)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 88 - 89)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 87089)، و (الحميديّ) في "مسنده"(648)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 131)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(712 و 719)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1942 و 1949)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2007 و 2008 و 2009 و 2010 و 2011 و 2012 و 2013 و 2014)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1285 و 2186 و 1287 و 1288)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 130)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(675)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 406.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كيفيّة وضع اليدين في حال الجلوس في الصلاة، فأما اليمنى فالمستحبّ فيها القبض، والإشارة بالسبابة، وسيأتي هيئات قبضها قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى، وأما اليسرى فالمستحبّ فيها الوضع.
قال النوويّ رحمه الله: وقد أَجْمَع العلماء على استحباب وضعها -يعني اليسرى- عند الركبة، أو على الركبة، وبعضهم يقول: يَعطِف أصابعها على الركبة، وهو معنى قوله:"ويلقم كفه اليسرى على ركبته". انتهى.
ثم إنه لا خلاف بين أهل العلم في وضع اليدين على الركبتين، والإشارة بمسبحة اليمنى.
قال صاحب "التعليق الممجد" من العلماء الحنفية: أصحابنا الثلاثة -يعني الإمام أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمد بن الحسن- اتفقوا على تجويز الإشارة
(1)
، لثبوتها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بروايات متعددة، وقد قال به غير واحد من العلماء، حتى قال ابن عبد البرّ: إنه لا خلاف في ذلك، وإلى اللَّه المشتكى من صنيع كثير من أصحابنا، أصحاب الفتاوى، كصاحب "الخلاصة" وغيره حيث ذكروا أن المختار عدم الإشارة، بل ذكر بعضهم أنها مكروهة، فالحذرَ الحذرَ من الاعتماد على قولهم في هذه المسألة مع كونه مخالفًا لما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل وعن أئمتنا أيضًا، بل لو ثبت عن أئمتنا التصريح بالنفي، وثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الإثبات لكان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أحقّ وألزم بالقبول، فكيف، وقال به أئمتنا أيضًا؟. انتهى كلام صاحب "التعليق الممجد" باختصار، وهو تحقيقٌ نفيس.
2 -
(ومنها): استحباب الإشارة بالمسبّحة، وتوجيهها إلى القبلة، كما دلّت عليه رواية النسائيّ المذكورة.
3 -
(ومنها): بيان موضع نظر المصلِّي في حال التشهد، وهي الإصبع التي أشار بها، فيستحب للمصلّي أن ينظر في حال التشهد إلى المسبّحة، ولا يتجاوزها، ففي رواية أبي داود، والنسائيّ من حديث عبد اللَّه بن الزبير أن
(1)
كان حقّ العبارة أن يقول: "على استحباب الإشارة"، فتبصّر.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "كان إذا قعد في التشهد وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبّابة لا يجاوز بصره إشارته".
4 -
(ومنها): الإنكار على مَن يَلْعَب في الصلاة، وتعليمه السنّة.
5 -
(ومنها): فضل ابن عمر رضي الله عنهما، حيث قام بالإنكار على من يعبث في الصلاة، وتعليمه السنة؛ امتثالًا لقول اللَّه تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في كيفية وضع اليد اليمنى هيئات:
(الأولى): ما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام. . . " الحديث.
(الثانية): ما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا في الرواية الماضية: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة".
(الثالثة): ما تقدّم في حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوُسطى، ويُلْقِم كفه اليسرى ركبته".
(الرابعة): ما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه عند الإمام أحمد، والنسائيّ بإسناد صحيح، وفيه:"وجعل حَدَّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلَّقَ حَلْقَة، ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها، يدعو بها".
(الخامسة): وضع اليد اليمنى على الفخذ من غير قبض، والإشارة بالسبابة، وقد تقدّم في حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما في الرواية الأولى؛ لأنه اقتصر فيها على مجرد الوضع والإشارة، وكذلك أخرج أبو داود عن ابن عمر ما يدلّ على ذلك، وأخرج أبو داود، والترمذيّ من حديث أبي حميد بدون ذكر القبض.
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: اللَّهم إلا أن تُحمل الرواية التي لم يُذكر فيها القبض على الروايات التي ذكر فيها القبض حملَ المطلق على المقيَّد.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الحمل هو المتعيِّن في المسألة؛ توفيقًا بين الروايات، واللَّه تعالى أعلم.
وقد جعل العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله في "الهدي" الروايات المذكورة كلَّها واحدةً، قال: فإن مَن قال: قبض أصابعه الثلاث أراد به أن الوُسطى كانت مضمومة، ولم تكن منشورة كالسبابة، ومن قال: قبض اثنتين أراد أن الوُسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر، بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى، وقد صرّح بذلك من قال: وعقد ثلاثًا وخمسين، فإن الوُسطى في هذا العقد تكون مضمومةً، ولا تكون مقبوضة مع البنصر.
وقد استَشْكَل كثير من الفضلاء هذا؛ إذ عقد ثلاث وخمسين لا يلائم واحدة من الصفتين المذكورتين، فإن الخنصر لا بدّ أن تركب البنصر في هذا العقد.
وقد أجاب عن هذا بعض الفضلاء بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد: قديمةٌ، وهي التي ذُكرت في حديث ابن عمر، تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإبهام مع الوسطى، وحديثةٌ، وهي المعروفة اليوم بين أهل الحساب، واللَّه أعلم. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وعندي أن الأولى حمل الروايات على اختلاف الأوقات، ففي بعضها قبض أصابعه كلّها، وأشار بالسبّابة، وفي بعضها قبض ثنتين من أصابعه، وهما الخنصر والبنصر، وحلّق الإبهام والوُسطى، وأشار بالسبّابة، وهو معنى عقد ثلاثة وخمسين، وأما حديث وضع اليمنى على الفخذ من دون قبض، فيحتمل أن يكون لبيان الجواز، أو يُحمَل على الأحاديث الأخرى التي دلّت على القبض؛ حملًا للمطلق على المقيّد، كما سبق التنبيه عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في بيان معنى عقد ثلاث وخمسين الوارد في حديث التشهد:
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وعقد ثلاثًا وخمسين" شرطه عند أهل الحساب
أن يَضَع طرف الخنصر على البنصر، وليس ذلك مرادًا ههنا، بل المراد أن يضع الخنصر على الراحة، ويكون على الصورة التي يسميها أهل الحساب تسعة وخمسين. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: (اعلم): أن للعرب طريقة مشهورة اصطلحوا عليها في عُقُود الحساب، وهي أنواع: آحاد، وعشرات، وألوف.
وقد بيّن ذلك العلّامة الفقيه الحنفيّ محمد أمين المعروف بـ "ابن عابدين" رحمه الله، في رسالته "رفع التردد"، وخلاصة ما ذكره فيها:
أن للواحد: ضمَّ الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكفّ ضمًا مُحْكَمًا، وللاثنين: ضم البنصر معها كذلك، وللثلاثة: ضمهما مع الوسطى كذلك، وللأربعة: ضمهما، ورفع الخنصر، وللخمسة: ضم الوسطى فقط، وللستة: ضم البنصر فقط، وللسبعة: ضم الخنصر فقط مع مدها حتى تصل إلى لحمة أصل الإبهام، وللثمانية: ضم البنصر معها كذلك، وللتسعة: ضمهما مع الوسطى كذلك.
وللعشرة: جعل طرف السبابة على باطن نصف الإبهام، وللعشرين: إدخال الإبهام بين السبابة والوسطى بحيث يكون ظفرها بين عقدتي السبابة، وللثلاثين: إلزاق طرف السبابة بطرف الإبهام، وللأربعين: وضع باطن الإبهام على ظاهر السبابة، وللخمسين: عطف الإبهام كأنها راكعة، وللستين: تحليق السبابة على طرف الإبهام الراكعة، وللسبعين: وضع طرف الإبهام على وسط السبابة مع عطف السبابة إليها قليلًا، وللثمانين: مد الإبهام والسبابة كأنهما ملتصقتان خلقة، وللتسعين: ضم طرف السبابة إلى أصلها، وعطف الإبهام عليها.
ثم انقل الحساب إلى اليد اليسرى، واجعل المائة كعقد الواحد، وهكذا دَوَاليك.
والحاصل أن عقد الخنصر، والبنصر، والوسطى من اليد اليمنى للآحاد، والسبابة والإبهام للعشرات، بتبديل كيفية الوضع، وكذلك عقد الخنصر، والبنصر، والوسطى من اليد اليسرى للمئات، والسبابة، والإبهام منها للألوف.
فغاية ما تجمعه اليمنى من العدد تسعة وتسعون، وما تجمعه اليسرى تسعمائة وتسعة آلاف. انتهى كلام ابن عابدين رحمه الله.
وقد نظمت هذه القاعدة، فقلت:
يَا سَائِلًا كَيْفِيَّةَ الْحِسَابِ
…
لِلْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ خُذْ جَوَابِي
لِلْوَاحِدِ اضْمُمْ خِنْصِرًا لأَقْرَبِ
…
بَاطِنِ كَفِّكَ وَأَحْكِمْ تُصِبِ
لاثْنَيْنِ بِنْصِرًا تَزِيدُ وإِذَا
…
تَزِيدُ وُسْطَاكَ ثَلَاثَةً خُذَا
ضَمُّهُمَا مَعْ رَفْعِ خِنْصِرٍ غَدَا
…
أَرْبَعَةً وَضَمُّ وُسْطَى أَرْشَدَا
لِخَمْسَةٍ وَبِنْصِرٍ لِسِتَّةِ
…
وَضَمُّ خِنْصِرٍ فَقَطْ لِسَبْعَةِ
مَعْ مَدِّهَا لِلَحْمَةِ تَتَّصِلُ
…
بِأَصْلِ إِبْهَامِكَ خُذْ مَا نَقَلُوا
وَمَعَهَا الْبِنْصِرَ لِلثَّمَانِيَهْ
…
وَمَعْهُمَا الْوُسْطَى لِتِسْعٍ وَاقِيَهْ
لِنِصْفِ بَاطِنٍ لإِبْهَامٍ طَرَفْ
…
سَبَّابَةٍ وَضَعَ مَنْ عَشْرًا وَصَفْ
وَبَيْنَ وُسْطَاكَ وَسَبَّاب إِذَا
…
أَدْخَلْتَ إِبْهَامَكَ عِشْرِينَ خُذَا
بِطَرَفِ الإِبْهَامِ أَلْزِقْ طَرَفَا
…
سَبَّابَةٍ بِهِ ثَلَاثُونَ وَفَى
وَإِنْ تَضَعْ بَاطِنَ إِبْهَامٍ عَلَى
…
سَبَّابَةٍ قُلْ أَرْبَعُونَ حَصَلَا
كَهَيْئَةِ الرَّاكِعِ الإِبْهَامَ اعْطِفَا
…
خَمْسُونَ وَالسِّتُّونَ بَعْدُ عُرِفَا
إِنْ حُلِّقَتْ سَبَّابَة عَلَى طَرَفْ
…
رَاكِعَةِ الإِبْهَامِ كُنْ مِمَّنْ عَرَفْ
وَإِنْ تَضعْ طَرَفَ إِبْهَام عَلَى
…
وَسَطِ سَبَّاب بِعَطْفٍ قُلِّلَا
سَبْعُونَ وَالإِبْهَامُ وَالسَّبُّابُ إِنْ
…
مُدَّا وَأُلْصِقًا ثَمَانِينَ أَبِنْ
تِسْعُونَ ضَمُّ طَرَفِ السَّبَّابِ فِي
…
أَصْلٍ وَالإبْهَامَ عَلَيْهَا فَاعْطِفِ
ثُمَّ انْقُلِ الْحِسَابَ لِلْيُسْرَى وَعُدْ
…
كَالْوَاحِدِ الْمِائَةَ هَكَذَا تَسُدْ
فَغَايَةُ الْيُمْنَى مِنَ الْعَدَدِ قُلْ
…
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَفِي الْيُسْرَى كَمُلْ
تِسْعَةُ آلَافٍ وَتِسْعُمِائِةِ
…
فَاحْفَظْ تَنَلْ مَقَامَ خَيْرِ الْفِئَةِ
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في تحريك السبّابة عند التشهّد:
قال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَفت الروايات في ذلك، فزاد أبو داود في حديث ابن الزبير:"أنه صلى الله عليه وسلم كان يُشير بإصبعه إذا دعا، ولا يُحرّكها"، وإلى هذا ذهب
بعض العراقيين، فمنع من تحريكها، وبعض أصحابنا رأوا أن مدّها إشارة إلى دوام التوحيد.
وفي حديث وائل بن حجر بعد قوله: "وحَلّق حلقةً، ثم رفع إصبعه، فرأيته يُحرّكها، يدعو بها"، رواه النسائيّ.
وإلى هذا ذهب أكثر المالكيّة، ثم من قال بالتحريك، فهل يواليه، أو لا يواليه؟ اختُلِف فيه على قولين، وسبب ذلك اختلافُهُم في ماذا يُعلَّلُ به ذلك التحريك؟ فمن وإلى التحريك تأول ذلك بأنها مُذكّرةٌ بموالاة الحضور في الصلاة، وبأنها مِقْمَعة ومِدفعة للشيطان، ومن لم يُوالي رأى تحريكها عند التلفّظ بكلمتي الشهادة فقط، وتأوّل في الحركة كأنها نُطق تلك الجارحة بالتوحيد. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن الإشارة تكون من أول الجلوس إلى آخره، كما هو ظاهر الأحاديث، وليس عند الشهادتين فقط؛ إذ لا دليل عليه.
ثم إن عدم التحريك هو الأولى عندي، كما هو مذهب جمهور العلماء؛ لما رواه أبو داود، والنسائيّ من طريق زياد بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يُحرّكها"، فهذا صريح في عدم التحريك.
وأما ما أخرجه أحمد، والنسائيّ عن وائل بن حجر رضي الله عنه وفيه:"فرأيته يحرّكها"، فقد أعلّه بعضهم بالشذوذ، حيث خالف زائدة بن قُدامة جماعة من الحفاظ الذين رووه عن عاصم بن كُليب، وقد ألّف بعض المعاصرين في ذلك رسالة، وعلى تقدير صحته، فيُحمل على أنه فعل ذلك لبيان الجواز، فيُعمل به في بعض الأحيان.
وأما تضعيف بعضهم حديث عبد اللَّه بن الزبير الذي فيه أنه لا يحرّكها بتفرّد محمد بن عجلان، فليس بجيّد، فإن زيادته ليست منكرةً؛ لأنه ثقةٌ متّفقٌ على توثيقه، وإنما تكلّموا باضطرابه في أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه فقط، وليس هذا منها، ولأن روايته يؤيّدها حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي فيه وصف كيفيّة
(1)
"المفهم" 2/ 202.
القبض والإشارة وصفًا دقيقًا، حيث بيّن فيه بأنه عقد ثلاثًا وخمسين، فإنه خالٍ عن التحريك، فلو كان صلى الله عليه وسلم يُحرّكها لَما أهمله ابن عمر رضي الله عنهما، فهو مؤيّد لرواية ابن عجلان.
والحاصل أن الأولى عدم التحريك، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1315]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُعَاوِيِّ، قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَزَادَ: قَالَ سُفْيَانُ: فَكَانَ
(2)
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ مُسْلِمٍ، ثُمَّ حَدَّثَنِيهِ مُسْلِمٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام المشهور، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ) فاعل "ذَكَر" ضمير "سفيان".
وقوله: (وَزَادَ: قَالَ سُفْيَانُ) فاعل "زاد" ضمير "ابن أبي عمر".
وقوله: (فَكَانَ) وفي نسخة: "وكان".
وقوله: (فَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ مُسْلِمٍ، ثُمَّ حَدَّثَنِيهِ مُسْلِمٌ) معنى هذا الكلام أن سفيان بن عيينة سمع هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن مسلم بن أبي مريم، ثم بعد ذلك لقي مسلمًا شيخ شيخه، فحدّثه بنفسه.
وفي رواية أبي عوانة في "مسنده"(1/ 537): قال سفيان: فحدّثنا
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "وكان".
يحيى بن سعيد سنة أربع وعشرين أن مسلم بن أبي مريم حدّثه، فلقيتُ مسلم
(1)
، فحدّثني أنه سمع عليّ بن عبد الرحمن الْمُعاويّ، ثم قال سفيان: من أين لأهل الكوفة مثل هذا؟. انتهى.
[تنبيه]: رواية سفيان التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية مالك ساقها النسائيّ في "السنن الكبرى"(1/ 375)، فقال:
(1189)
أخبرنا محمد بن منصور، نا سفيان، نا يحيى بن سعيد، عن مسلم بن أبي مريم، شيخ من أهل المدينة، ثم لقيت الشيخ، فقال: سمعت لحيّ بن عبد الرحمن، يقول: صلّيت إلى جنب ابن عمر، فقَلَّبتُ الحصى، فقال لي ابن عمر: لا تُقَلِّب الحصى، فإن تقليب الحصى من الشيطان، وافعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل، قلت: كيف رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل؟ قال: هكذا ونصب اليمنى، وأضجع اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(22) - (بَابُ السَّلَامِ لِلتَّحَلُّلِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَكَيْفِيَّتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1316]
(581) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، وَمَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، أَنَّ أَمِيرًا كَانَ بِمَكَّةَ، يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَّى عَلِقَهَا؟ قَالَ الْحَكَمُ فِي حَدِيثِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ).
(1)
هكذا وقع في النسخة "مسلمٌ" والظاهر أنه تصحيف، ويَحتمل أن يكون منصوبًا كُتب بصورة المرفوع على عادة قدماء المحدّثين، فتكون قراءته بالنصب، فتنبّه.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قبل باب.
4 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(مَنْصُور) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.
6 -
(مُجَاهِد) بن جَبْر المخزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام فقيه [3](ت 101) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
7 -
(أَبُو مَعْمَرِ) عبد اللَّه بن سَخْبَرة الأزديّ الكوفيّ، ثقةٌ [2] مات في ولاية عبيد اللَّه بن زياَد (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2/ 470.
8 -
(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه تقدّم قبل باب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من الحكم، وشعبة ويحيى بصريّان، وزهير نسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: الحكم، وكذا منصور على رأي، عن مجاهد، عن أبي معمر.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، كما تقدّم الكلام فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) عبد اللَّه بن سَخْبَرَة -بفتح السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموحّدة- (أَنَّ أَمِيرًا كَانَ بِمَكّةَ) بفتح همزة "أنّ"؛ لوقوعها موقع المصدر، كما قال في "الخلاصة":
وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ
…
مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ
فهي مع اسمها وخبرها في تأويل المصدر مفعول ثان لـ "حدّثنا"، أي حدّثنا كون أمير بمكة إلخ.
وهذا الأمير -كما قال صاحب "التنبيه"- هو: نافع بن عبد الحارث، قاله سراج الدين الْبُلْقِينيّ، وقد أنكر الواقديّ صحبته، وقال: إنه تابعيّ، والمشهور صُحبته.
وقال القرطبيّ في "المفهم": هو الحارث بن حاطب - فيما أحسب. انتهى.
قال: وهذا فيه نظرٌ؛ لأن الحارث هذا تأمّر لابن الزبير سنة ستّ وستّين، وابنُ مسعود تُوفّي سنة اثنتين وثلاثين، أو ثلاث قبل تأمير الحارث بن حاطب بنحو أربع وثلاثين سنة. انتهى كلام صاحب "التنبيه"
(1)
.
(يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ) أي للتحلّل من الصلاة (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (أَنَّى) بفتح الهمزة، وتسْديد النون: استفهام عن الجهة، تقول: أَنَّى يكون هذا، أي من أيّ وجه وطريقٍ، قاله الفيّوميّ
(2)
. (عَلِقَهَا؟) بفتح العين المهملة، وكسر اللام: أي من أين حصّل هذه السنة، وظفِر بها؟، قاله النوويّ.
وقال القاضي عياض: أي من أين أخذ هذه السنّة واستفادها؟، مِن عَلِق الرجلُ بالشيء، وعَلِقَ الصيد بالحبالة. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ: أي كيف حفِظها؟ وأصله من عَلاقة الحبّ، وهذا الاستبعاد من ابن مسعود رضي الله عنه يدلّ على أن عمل الناس كان تسليمة واحدة. انتهى
(4)
.
(1)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم"(ص 140).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 28.
(3)
"إكمال المعلم" 2/ 532.
(4)
"المفهم" 2/ 203 - 204.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "على تسليمة واحدة" فيه نظر لا يخفى؛ إذ هذا عمل بعض الناس، لا عمل عموم الناس، وسيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
(قَالَ الْحَكَمُ) بن عُتيبة (فِي حَدِيثِهِ) أي في روايته عن مجاهد (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ) يعني أن الحكم زاد على منصور، التصريح برفع الحديث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 1316 و 1317](581)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 444)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 268)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2053 و 2054)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1289 و 1290 و 1291)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 176)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة التسليمتين للتحلّل من الصلاة، وهو مذهب الجمهور، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان أن بعض الناس كانوا تركوا التسليمتين، واكتفوا بتسليمة واحدة، ولذا تعجّب ابن مسعود رضي الله عنه من عمل هذا الأمير.
3 -
(ومنها): بيان أن بعض السنن المشهورة قد تخفى على كثير من الناس، حتى في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فما بالك في العصر المتأخّر زمن استيلاء الجهل والهوى، فلا يجوز لمسلم أن يترك السنّة التي صحّت لديه بعلّة أن إمام مذهبه لم يقل بها، فإن إمامه كسائر الناس يخفى عليه بعض السنن، فلا ينبغي تقليده فيما جهله، فليتنبّه العاقل لهذه الدقيقة، فإنها مزلّة أقدام، فقد وقع قيها كثير ممن يُظنّ أنهم من أهل العلم، فأعماهم التقليد عن اتّباع السنّة الصحيحة؛
إيثارًا لرأي إمامهم، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في مذاهب العلماء في حكم السلام من الصلاة:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ": أكثر العلماء على أنه لا يُخْرَج من الصلاة بدون التسليم، واستدلّوا بحديث:"تحليلُها التسليمُ".
وممن قال من الصحابة: تحليل الصلاة التسليم: ابن مسعود، وابن عباس، وحكاه الإمام أحمد إجماعًا.
وذهب طائفة إلى أنه يُخرَج من الصلاة بفعل كلّ مناف لها، من أكل، أو شرب، أو كلام، أو حدث، وهو قول الحكم، وحماد، والثوريّ، وأبي حنيفة وأصحابه، والأوزاعيّ، وإسحاق، ولم يفرّقوا بين أن يوجد المنافي باختيار المصلّي، أو بغير اختياره، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: إن وُجد باختياره خرج من الصلاة بذلك، وإن وُجد بغير اختياره بطلت صلاته، وجعل الفرض الخروج منها بفعل المنافي باختيار المصلي لذلك، وخالفه صاحباه في اشتراط ذلك.
وقد حُكي عن طائفة من السلف أنّ من أحدث بعد تشهده تمّت صلاته، منهم: الحسن، وابن سيرين، وعطاء -على خلاف عنه- والنخعي، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وقد أنكر صحّته أحمد، وأبو حاتم الرازي، وغيرهما، وروي أيضًا عن ابن مسعود من طريق منقطع.
واستُدِلّ لهؤلاء بحديث ابن مسعود: "إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، وقد اختُلِف في رفعه ووقفه على ابن مسعود، واختُلف في لفظه أيضًا، فرواه بعضهم، وقال: قال ابن مسعود: "فإذا فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف". خرّجه البيهقي. وهذه الرواية تدلّ على أنه إنما خيّره إذا فرغ من صلاته، وإنما يفرغ بالتسليم، بدليل ما رَوَى شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه، قال:"مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلّم الإمام فقم إن شئت".
قال البيهقي: وهذا أثر صحيح، وقال: ويكون مراد ابن مسعود الإنكار على من زعم أن المأموم لا يقوم حتى يقوم إمامه.
وحمل أبو حنيفة، وإسحاق حديثَ:"تحليلُها التسليم" على التشهد، وقالوا: يسمى التشهد تسليمًا، لما فيه من التسليم على النبيّ صلى الله عليه وسلم والصالحين، وهذا بعيد جدًّا.
واستدلّوا أيضًا بما روى عبد الرحمن بن زياد الإِفريقي، أن عبد الرحمن بن رافع، وبكر بن سوادة أخبراه عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا أحدث، وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلّم جازت صلاته"، أخرجه الترمذيّ، وقال: إسناده ليس بالقويّ، وقد اضطربوا في إسناده، والإفريقي ضعّفه القطّان، وأحمد بن حنبل. وخرّجه أبو داود بمعناه. وخرّجه الدارقطني، ولفظه:"إذا أحدث بعدما يرفع رأسه من آخر سجدة، واستوى جالسًا تمّت صلاته".
وقد رُوي بهذا المعنى عن الإفريقي، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا، وهذا اضطراب منه في إسناده كما أشار إليه الترمذي، ورفعه منكر جدًّا، ولعله موقوف، والإفريقي لا يُعتَمَد على ما ينفرد به.
قال حرب: ذُكِر هذا الحديث لأحمد، فردّه، ولم يصحّحه.
وقال الْجُوزجاني: هذا الحديث لا يبلغ القوة أن يدفع أحاديث "تحليلُها التسليم".
وأجاب بعضهم عن هذا، وعن حديث ابن مسعود -على تقدير صحّتها- بالنسخ، واستدّل بما رَوَى عُمر بن ذرّ، عن عطاء بن أبي رباح، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قعد في آخر صلاته قدر التشهد أقبل على الناس بوجهه، وذلك قبل أن ينزل التسليم، خرّجه البيهقي، وخرّجه وكيع في كتابه عن عُمر بن ذرّ، عن عطاء بمعناه، وقال: حتى نزل التسليم.
ورُوي عن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلي في أول الإسلام ركعتين، ثم أمر أن يصلي أربعًا، فكان يسلّم بين كل ركعتين، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل يرى أنه قد أتمّ الصلاة، فرأيت أن يخفي الإمام التسليمة الأولى، ويعلن بالثانية، فافعلوا. خرّجه الإسماعيلي، وإسناده ضعيف.
ولم يَقُل بذلك أحد من علماء المسلمين أن الصلاة الرباعية المكتوبة يُسلَّم فيها مرتين، مرة في التشهد الأول، ومرة في الثاني، ولكن الإمام يسرّ
السلام الأول، ويُعلن بالثاني، والأحاديث كلّها تدلّ على أنه لم يكن يُسلَّم فيها إلا مرة واحدة في التشهد الثاني خاصّة. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى بتصرف يسير
(1)
.
وقال النووي رحمه اللَّه تعالى في "شرحه":
(واعلم): أن السلام ركن من أركان الصلاة، وفرض من فروضها، لا تصحّ الصلاة إلا به، هذا مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: هو سنّة، ويحصل التحلل من الصلاة بكلّ شيء يُنافيها، من سلام، أو كلام، أو حدَث، أو قيام، أو غير ذلك.
واحتجّ الجمهور بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلّم، وثبت في "صحيح البخاري" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، وبالحديث الآخر:"تحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التسليمُ". انتهى كلام النووي رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: حديث "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". رواه أحمد، وأصحاب السنن إلا النسائيّ، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، يصلح للاحتجاج به.
وقد استَدَلَّ به الجمهور على وجوب السلام، قالوا: إن الإضافة تقتضي الحصر، فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم، أي انحصر تحليلها في التسليم، لا تحليل لها غيره.
ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلّم من صلاته، ويديم ذلك، ويواظب عليه، ولا يُخلّ به، وقد قال:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، ولأنه قد تواتر العمل عليه من لدن صاحب الشريعة إلى يومنا هذا، وتلقّاه الكافّة عن الكافّة طبقة عن طبقة، فهو ثابت متواتر عملًا.
وأما ما قيل: من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلّم السلام المسيء في صلاته، ولو وجب لأمره به؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ففيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب 7/ 376 - 380.
لم يعلّمه كلّ الواجبات، بدليل أنه لم يعلّمه التشهد، والقعود، وغيرهما، ويَحْتَمِل أنه اقتصر على تعليمه ما رآه أساء فيه.
وأما ما روي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "صلّى الظهر خمسًا، فلما سلّم أُخْبِر بصنيعه، فثَنَى رجله، فسجد سجدتين"، أخرجه الجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه بطرق متعددة، وألفاظ مختلفة.
قال الطحاويّ: في هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعةً من غيرها قبل التسليم، ولم يَرَ ذلك مُفسدًا للصلاة، فدلّ ذلك على أن السلام ليس من أصلها، ولو كان واجبًا وجوب السجدة في الصلاة لكان حكمه أيضًا كذلك، ولكنه بخلافه، فهو سنّة.
ففيه أنه ليس فيه إلّا تأخير السلام، لا تركه رأسًا، وهذا لا يدلّ على كون السلام من غير أصل الصلاة، مع أن ذلك كان في حالة النسيان، وعلى ظنّ عدم الزيادة والإدخال، والكلام هنا فيمن ترك السلام عمدًا، وخرج من الصلاة بغير السلام مما ينافي الصلاة.
وأما ما روي عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "إذا أحدث الرجل، وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلّم، فقد جازت صلاته"، أخرجه أبو داود، والترمذيّ.
ففيه أنه حديث ضعيف مضطرب، قد تفرّد به عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الإفريقي، وقد ضعفه أكثر الحفّاظ، قال الترمذيّ رحمه الله بعد إخراجه: ليس إسناده بذاك القويّ، وقد اضطربوا في إسناده. انتهى. فقد جمع بين ضعف الراوي، والاضطراب.
وفيه أيضًا أنه مخالف للحديث الصحيح المذكور: "وتحليلُها التسليمُ"، فلا يقوى على معارضته.
قال الخطاّبي رحمه الله في "المعالم" 1/ 175: هذا الحديث ضعيف، وقد تكلّم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد، والتسليم. انتهى.
وأما ما رُوي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، فعلّمه التشهد في الصلاة، ثم قال: "إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت
صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد"، أخرجه أحمد، وأبو داود، والدارقطنيّ.
ففيه أن قوله: "إذا قلت هذا إلخ" مُدْرَج من قول ابن مسعود، قال الدارقطني: الصحيح أن قوله: "إذا قلت هذا، فقد قضيت صلاتك" من كلام ابن مسعود، فصله شَبَابة، عن زهير بن معاوية، وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه، وقد اتفق مَن رَوَى تشهد ابن مسعود على حذفه، كذا في "المنتقى".
قال الشوكانيّ: أما حديث ابن مسعود، فقال البيهقيّ في "الخلافيّات": إنه كالشاذّ من قول عبد اللَّه، وإنما جعله كالشاذّ؛ لأن أكثر أصحاب الحسن بن الْحُرّ لم يذكروا هذه الزيادة، لا من قول ابن مسعود مفصولةً من الحديث، ولا مدرجةً في آخره، وإنما رواه بهذه الزيادة عبد الرحمن بن ثابت، عن الحسن، فجعلها من قول ابن مسعود، وزهير بن معاوية عن الحسن، فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه، ورواها شبابة بن سَوّار عنه مفصولة، كما ذكره الدارقطني.
وقد رَوَى البيهقي من طريق أبي الأحوص، عن ابن مسعود ما يخالف هذه الزيادة بلفظ:"مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإمام، فقم إن شئت". قال: وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال ابن حزم رحمه الله: قد صحّ عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضًا، وذكر رواية أبي الأحوص هذه عنه.
قال البيهقيّ: إن تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم التشهد لابن مسعود كان قبل فرض التسليم، ثم فُرض بعد ذلك.
وقد صرّح بأن تلك الزيادة المذكورة في الحديث مدرجة جماعةٌ من الحفّاظ: منهم الحاكم، والبيهقي، والخطيب.
وقال البيهقي في "المعرفة": ذهب الحفّاظ إلى أن هذا وَهَمٌ من زهير بن معاوية.
وقال النوويّ في "الخلاصة": اتفق الحفّاظ على أنها مدرجة. انتهى.
وقد رواه عن الحسن بن الحرّ حسين الجعفيّ، ومحمد بن عجلان،
ومحمد بن أبان، فاتفقوا على ترك هذه الزيادة في آخر الحديث، مع اتفاق كلّ من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله.
وقد تأول القاضي أبو بكر ابن العربي في "شرح الترمذي" 2/ 199 حديث ابن مسعود هذا: بأنه إنما يَعْنِي به فقد قضيت صلاتك، فاخرج منها بتحليل كما دخلتها بإحرام. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدم أن الحقّ كون هذه الزيادة مدرجةً من كلام ابن مسعود، وقد عارضها ما صحّ عنه عند البيهقي، وابن حزم من إيجابه السلام فرضًا، فلا تكون حجة أصلًا، وقد صح لدينا قوله صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها التسليم" مع مواظبته على التسليم من الصلاة من دون أن يوجد منه إخلال بذلك، ولو مرة واحدة، وقد قال:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، فهذه الأدلة ظاهرة في إيجاب السلام من الصلاة.
والحاصل أن ما عليه الجمهور من كون السلام ركنًا من أركان الصلاة التي لا تتم الصلاة إلا به هو الحقّ، لوضوح أدلّته.
وأما ما حاول به الشوكاني من ترجيح القول بعدم الوجوب فمما لا يعتمد عليه؛ لأنه لم يذكر دليلًا مقنعًا يردّ به أدلة الجمهور، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التسليمتين:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم في عدد التسليم، فقالت طائفة: يسلم تسليمتين عن يمينه، وعن شماله، روي هذا القول عن أبي بكر الصدّيق، وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وعبد اللَّه بن مسعود، ونافع بن الحارث، وعطاء بن أبي رباح، وعلقمة، والشعبي، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وبه قال سفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة: يسلّم تسليمة واحدة، كذلك قال ابن عمر، وأنس بن
(1)
راجع: "نيل الأوطار" 2/ 351 - 352، و"مرعاة المفاتيح" 3/ 297 - 299.
مالك، وعائشة أم المؤمنين، وسلمة بن الأكوع، والحسن، ومحمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك، والأوزاعيّ، وقال عمّار بن أبي عمّار: كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين عن أيمانهم، وعن شمائلهم، وكان مسجد المهاجرين يسلّمون تسليمة واحدة.
وفيه قول ثالث: وهو أن هذا من الاختلاف المباح، فالمصلي مخيّر، إن شاء سلّم تسليمة، وإن شاء سلّم تسليمتين، قال بهذا القول بعض أصحابنا.
وكان إسحاق يقول: تسليمة تُجزي، وتسليمتان أحبّ إليّ.
قال ابن المنذر رحمه الله: كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم يُجيز صلاة من اقتصر على تسليمة، وأحبّ أن يسلم تسليمتين، للأخبار الدّالة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويجزيه أن يسلّم تسليمة. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله من مشروعية التسليمتين، وهو الذي عليه الجمهور كما تقدم هو المذهب الراجح؛ لكثرة الأحاديث الصحاح على وفقه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه: ثبت عندنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه كان يُسلّم عن يمينه، وعن شماله حتى يُرى بياض خدّه.
وقال العُقيلي: الأحاديث الصحاح عن ابن مسعود، وسعد بن أبي وقّاص، وغيرهما في تسليمتين.
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلّم تسليمة واحدة من وجوه لا يصحّ منها شيء، قاله ابن المديني، والأثرم، والعقيليّ، وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: لا يُعرف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التسليمة الواحدة إلا حديثٌ مرسلٌ لابن شهاب الزهري، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
ومراسيل ابن شهاب من أوهى المراسيل وأضعفها.
ومن أشهرها حديث زهير بن محمد، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن
(1)
"الأوسط" 3/ 220 - 223.
عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلّم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشقّ الأيمن شيئًا، أخرجه الترمذي من رواية عمرو بن أبي سلمة التِّنِّيسيّ، عن زهير به، وقال: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، قال محمد بن إسماعيل: زُهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه.
وأخرجه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زُهير به مختصرًا.
وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وأخطأ فيما قال، فإن روايات الشاميين عن زهير مناكير عند أحمد، ويحيى بن معين، والبخاريّ، وغيرهم.
قال أحمد في رواية الأثرم: أحاديث التنّيسي عن زُهير بواطيل، قال: وأظنّه قال: موضوعة، قال: فذكرت له هذا الحديث في التسليمة الواحدة، فقال مثل هذا.
وذكر ابن عبد البرّ أن يحيى بن معين سُئل عن هذا الحديث؟ فضعّفه. وقال أبو حاتم الرازي: هو منكر، إنما هو عن عائشة موقوف، وكذا رواه وُهيب بن خالد، عن هشام، وكذا رواه الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن هشام، عن أبيه، موقوفًا، قال الوليد: فقلت لزهير: فهل بلغك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاريّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سلّم تسليمة واحدة.
قال العقيليّ: حديث الوليد أولى -يعني من حديث عمرو بن أبي سلمة- قال: وعمرو في حديثه وَهَم، وقال الدارقطني: الصحيح وقفه، ومن رفعه فقد وَهِمَ.
وأخرج النسائيّ من حديث سعد بن هشام، عن عائشة في صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل أنه كان يسلّم تسليمة يُسمعنا
(1)
.
وأخرجه الإمام أحمد، ولفظه: يسلم تسليمة واحدة "السلام عليكم" يرفع بها صوته حتى يُوقظنا.
(1)
أخرجه النسائيّ برقم (1719).
وقد حمله الإمام أحمد على أنه كان يجهر بالواحدة، ويسرّ الثانية.
ورَوَى عبدُ الوهّاب الثقفيّ عن حميد، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم تسليمة واحدة. أخرجه الطبراني، والبيهقي، ورفعه خطأ، إنما هو موقوف، كذا رواه أصحاب حميد، عنه، عن أنس من فعله.
ورَوَى جريرُ بن حازم، عن أيوب، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة، أخرجه البزّار في "مسنده"، وأيوب رأى أنسًا، ولم يسمع منه، قاله أبو حاتم، وقال الأثرم: هذا حديث مرسل، وهو منكر، وسمعت أبا عبد اللَّه يقول: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب.
ورَوَى رَوح بن عطاء بن أبي ميمونة، ثنا أبي، عن الحسن، عن سَمُرَة، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسلّم في الصلاة تسليمة واحدة قُبَالة وجهه، فإذا سّم عن يمينه سلّم عن يساره، أخرجه الدارقطني، والعقيليّ، والبيهقيّ، وغيرهم، وأخرجه بَقِيُّ بن مَخْلَد مختصرًا، وروح هذا ضعّفه ابن معين وغيره، وقال الأثرم: لا يُحتجّ به.
وفي الباب أحاديث أُخَرُ لا تقوم بها حجة، لضعف أسانيدها.
وقد اختَلَف الصحابة، ومن بعدهم في ذلك، فمنهم من كان يُسلّم ثنتين، ومنهم من كان يُسلّم واحدة.
قال عمّار بن أبي عمّار: كان مسجد الأنصار يُسلّمون تسليمتين، ومسجد المهاجرين يُسلّمون تسليمة واحدة.
وأكثر أهل العلم على التسليمتين.
وممن رُوي عنه ذلك من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وعمّار، وسهل بن سعد، ونافع بن عبد الحارث. وروي عن عطاء، والشعبي، وعلقمة، ومسروق، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون، وأبي وائل، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وهو قول النخعيّ، والثوريّ، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي عُبيد، وأبي ثور، وحُكي عن الأوزاعي.
ورُوي التسليمة الواحدة عن ابن عمر، وأنس، وعائشة، وسلمة بن الأكوع، ورُوي عن عثمان، وعليّ أيضًا، وعن الحسن، وابن سيرين، وعطاء
أيضًا، وعمر بن عبد العزيز، والزهريّ، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، والليث، وهو قولٌ قديم للشافعيّ، وحكاه أحمد عن أهل المدينة، وقال: ما كانوا يُسلّمون إلا واحدة، قال: وإنما حدثت التسليمتان في زمن بني هاشم، يعني في ولاية بني العبّاس، وقال الليث: أدركت الناس يُسلّمون تسليمة واحدة.
وقد اختُلف على كثير من السلف في ذلك.
فروي عنهم التسليمتان، وروي عنهم التسليمة الواحدة، وهو دليل على أن ذلك كان عندهم سائغًا، وإن كان بعضه أفضل من بعض، وكان الأغلب على أهل المدينة التسليمة الواحدة، وعلى أهل العراق التسليمتان.
وحُكي للشافعي قول ثالث قديم أيضًا، وقيل: إن الربيع نقله عنه، فيكون حينئذ جديدًا: أنه إن كان المصلي منفردًا، أو في جماعة قليلة، ولا لغط عندهم فتسليمة واحدة، وإلا فتسليمتان.
والقائلون بالتسليمتين أكثرهم على أنه لو اقتصر على تسليمة واحدة أجزأه، وصحّت صلاته، وذكره ابن المنذر إجماعًا ممن يَحفَظ عنه من أهل العلم.
وذهبت طائفة منهم إلى أنه لا يخرج من الصلاة إلا بتسليمتين معًا، وهو قول الحسن بن حيّ، وأحمد في رواية عنه، وبعض المالكيّة، وبعض أهل الظاهر.
واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "تحليلها التسليم"، وقالوا: التسليم إلى ما عُهد منه فعله، وهو التسليمتان، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، وقد كان يُسلّم تسليمتين.
ومن ذهب إلى قول الجمهور قال: التسليم مصدر، والمصدر يصدق على القليل والكثير، ولا يقتضي عددًا، فيدخل فيه التسليمة الواحدة.
واستدلّوا بأن الصحابة قد كان منهم من يُسلّم تسليمتين، ومنهم من يُسلّم تسليمة واحدةً، ولم ينكر هؤلاء على هؤلاء، بل قد رُوي عن جماعة منهم التسليمتان، والتسليمة الواحدة، فدلّ على أنهم كانوا يفعلون أحيانًا هذا، وأحيانًا هذا، وهذا إجماع منهم على أن الواحدة تكفي.
قال أكثر أصحاب أحمد: ومحلّ الخلاف عن أحمد في الصلاة
المكتوبة، فأما التطوّع فيُجزئ فيه تسليمة، واستدلّوا بحديث عائشة في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل، وقد سبق ذكره.
وأخرج الإمام أحمد من حديث إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة، يُسمعناها.
وقد تأوّل حديث عائشة في هذا المعنى على أنه كان يُسمعهم واحدةً، ويُخفي الثانية، وقد نصّ أحمد على ذلك، وأن الأُولى تكون أرفع من الثانية في الجهر.
وقد رَوَى أبو رزين قال: سمعت عليًّا يُسلّم في الصلاة عن يمينه، وعن شماله، والتي عن شماله أخفض.
ومن أصحاب أحمد من قال: يجهر بالثانية، ويخفض بالأولى، وهو قول النخعيّ. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله ببعض تصرف.
وقال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكره اختلافَ أهل العلم في هذه المسألة:
والحقّ ما ذهب إليه الأولون -يعني القائلين بمشروعية التسليمتين- لكثرة الأحاديث الواردة بالتسليمتين، وصحة بعضها، وحسن بعضها، واشتمالها على الزيادة، وكونها مثبتة، بخلاف الأحاديث الواردة بالتسليمة الواحدة، فإنها مع قلّتها ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج بها، ولو سُلّم انتهاضها لم تصلح لمعارضتها أحاديثَ التسليمتين، لما عرفت من اشتمالها على الزيادة.
وأما القول بمشروعية ثلاث
(1)
فلعلّ القائل به ظن أن التسليمة الواحدة -يعني في حديث عائشة وغيرها- غير التسليمتين، فجمع بين الأحاديث بمشروعية الثلاث، وهو فاسد، وأفسد منه ما رواه في "البحر" عن البعض من أن المشروع واحدة في المسجد الصغير، وثنتان في المسجد الكبير. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله الشوكانيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا.
(1)
نقله الشوكانيّ عن عبد اللَّه بن موسى بن جعفر من أهل البيت، فإنه ذهب إلى أن الواجب ثلاث: يمينًا وشمالًا، وتلقاء وجهه، انظر:"نيل الأوطار" 2/ 345.
وحاصله ترجيح قول الجمهور في مشروعية التسليمتين، وتفنيد الأقوال الأخرى؛ لعدم استنادها إلى دليل يصلح للاعتماد عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في صيغ السلام:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: واختلفوا في صفة التسليم، فقالت طائفة: صفة التسليم: "السلام عليكم ورحمة اللَّه"، وهذا مرويّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه، وإليه ذهب أكثر العلماء، ولو اقتصر على قوله:"السلام عليكم" أجزأه عند جمهورهم، ولأصحاب أحمد فيه وجهان.
وقالت طائفة: يزيد "وبركاته"، ومنهم الأسود بن يزيد، كان يقولها في التسليمة الأولى، وقال النخعي: أقولها، وأخفيها، واستحبّه طائفة من الشافعية.
وقد أخرج أبو داود من حديث وائل بن حُجر أنه صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يُسلّم عن يمينه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته"، وعن شماله:"السلام عليكم ورحمة اللَّه".
ومن أصحاب أحمد من قال: إنما فعل ذلك مرّة لبيان الجواز.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي الكلام على هذه الزيادة في المسألة التالية، إن شاء اللَّه تعالى.
قال: وكان من السلف من يقول في التسليمة الأولى: "السلام عليكم ورحمة اللَّه"، ويقتصر في الثانية على:"السلام عليكم"، وروي عن عمّار، وغيره، وقد تقدّم حديث ابن عمر المرفوع بموافقة ذلك.
وقالت طائفة: بل يقتصر على قوله: "السلام عليكم" بكلّ حال، وهو قول مالك، والليث بن سعد، وروي عن عليّ وغيره، وكذلك هو في بعض روايات حديث جابر بن سمرة المرفوع، وفي بعضها زيادة:"ورحمة اللَّه"، وقد أخرجه مسلم بالوجهين. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله بتصرّف يسير.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الراجح عندي قول من قال: إنه يقول في التسليمتين: "السلام عليكم ورحمة اللَّه"، لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بذلك، وأما ما ورد من الاقتصار على "السلام عليكم"، أو زيادة "وبركاته"،
فيُحْمَل على بيان الجواز، فيُعمل به في بعض الأوقات، وأما اتخاذه مذهبًا دائمًا، فغير صواب؛ لمخالفته لأكثر الأحاديث الصحيحة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في الكلام على زيادة "وبركاته" في التسليم:
(اعلم): أنه ورد زيادة "وبركاته" في التسليم من الجانبين من حديث وائل بن حُجر رضي الله عنه مرفوعًا، ومن حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا، ومن حديث عمّار بن ياسر رضي الله عنه موقوفًا.
فأما حديث وائل رضي الله عنه، فأخرجه أبو داود في "سننه" على ما هو في النسخة الصحيحة، فإن نسخه قد اختَلَفت، فسقط من بعضها زيادتها في الثانية، وثبت في بعضها فيهما، وهي الصحيحة عندي، لما يأتي.
فأما النسخ التي ثبتت فيهما، فهي النسخة الهندية، وتوجد في "المكتبة المحموديّة" في المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة، ونصّها -1/ 138 - :
حدّثنا عَبْدة بن عبد اللَّه، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا موسى بن قيس الحضرميّ، عن سلمة بن كُهيل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه قال: صلّيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يُسلّم عن يمينه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته"، وعن شماله:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته".
والنسخة الثانية هي النسخة التي ضِمْنَ الكتب التسعة التي طُبعت على منهج "المعجم المفهرس"، فقد ثبتت فيها من الجانبين أيضًا.
والنسخة الثالثة هي التي حقّقها عزت دعاس ص 607، وهذه النسخة يَحْتَمِل أن تكون مأخوذة من النسختين السابقتين، أو من إحداهما، ويَحْتَمِل أن تكون نسخة أخرى، واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذه النسخ هي الصحيحة عندي، كما أشرت إليه سابقًا، دون النسخ الأخرى التي لا تثبت الزيادة لأمرين:
(الأول): أن المحقّقين من حُفّاظ الحديث أثبتوا هذه الزيادة في الجانبين من حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه في مؤلّفاتهم، وعَزَوا ذلك إلى "سنن أبي داود".
فمن هؤلاء المحققين:
الحافظ المجتهد العلّامة ابن دقيق العيد رحمه الله في كتابه "الإلمام" 1/ 115 فقد أثبتها فيهما، وعزا ذلك إلى أبي داود.
ومنهم: الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله في كتابه "المحرّر" 1/ 207، فإنه أثبتها فيهما، وعزا ذلك إلى أبي داود.
ومنهم: الحافظ ابن حجر رحمه الله، في كتابه "بلوغ المرام"، فإنه أثبتها فيهما، وعزا ذلك إلى أبي داود.
وقال في "التلخيص الحبير" 1/ 271 ما نصه:
[تنبيه]: وقع في "صحيح ابن حبّان" من حديث ابن مسعود زيادة "وبركاته"، وهي عند ابن ماجه أيضًا، وهي عند أبي داود أيضًا في حديث وائل بن حُجْر، فيُتَعجّب من ابن الصلاح، حيث يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث. انتهى.
والحاصل أن اتفاق هؤلاء الأئمّة على إثباتها فيهما، وعَزْوِ ذلك إلى أبي داود يؤكّد أن نسخ "سنن أبي داود" التي فيها الإثبات من الجانبين هي الصحيحة، وأما النسخ التي أثبتت في الأول فقط -وعليها كتب الشّرّاح- فقد دخلها الخلل، واللَّه تعالى أعلم.
(الأمر الثاني): صحّة ثبوتها في الجانبين من حديث غير وائل رضي الله عنه، فقد ثبتت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا، وفي حديث عمار رضي الله عنه موقوفًا، كما أشرت إليه آنفًا.
فأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فأخرجه ابن ماجه، وابنا خزيمة، وحبّان في "صحيحيهما"، وأبو العبّاس السّرّاج في "مسنده"، وابن حزم في "الْمُحَلَّى"، وأخرجه عبد الرزّاق في "مصنّفه" موقوفًا عليه.
فأما رواية ابن ماجه، فقد ثبتت في النسخة الصحيحة منه، كما عزاها إليه الحافظ رحمه الله في "التلخيص الحبير" 1/ 271.
قال العلّامة الصنعانيّ رحمه الله في "سُبُل السلام" 1/ 379 ما نصه: قال المصنّف: إلّا أنه قال ابن رسلان في "شرح السنن": لم نجدها في ابن ماجه، قلت: راجعنا "سنن ابن ماجه" من نسخة صحيحة مقروءة، فوجدنا فيه ما لفظه:
"باب التسليم" حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، حدثنا عُمر بن عُبيد،
عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم عن يمينه، وعن شماله حتى يُرَى بياضُ خدّه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته". انتهى بلفظه.
وقال محقّق "شرح السنّة" للبغوي الشيخ شعيب الأرناؤوط ما نصّه: وعند ابن ماجه في نسخة خطيّة في دار الكتب الظاهرية زيادة "وبركاته"، وقد سقطت بتحقيق فُؤاد عبد الباقي، وهي زيادة صحيحة، نصّ عليها في "التلخيص". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: وقد صرّح الحافظ أيضًا في "نتائج الأفكار" 2/ 223 بأنها ثابتة في ابن ماجه، وسيأتي نصّه قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى.
ثم وجدت نسخة محققة أثبتت الزيادة المذكورة في "سنن ابن ماجه"، وهي النسخة الجديدة التي حققها الشيخ خليل مأمون شِيحا مع شرح السنديّ، وتعليقات "مصباح الزجاجة" المطبوعة بتاريخ 1416 هـ - 1996 م، وهي نسخة محققة على نسخة خطيّة مقروءة، كُتب عليها سماعات الحفاظ، كالحافظ المنذريّ رحمه الله وغيره، كما بيّن ذلك المحقّق المذكور في الكلام على وصف النسخة الخطيّة أول الكتاب 1/ 12 - 15.
والحاصل أن النسخة الصحيحة لـ "سنن أبي داود" بالنسبة لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه، و"سنن ابن ماجه " بالنسبة لحديث ابن مسعود رضي الله عنه هي النسخة التي أثبتت زيادة "وبركاته" في الجانبين، للأدلّة المذكورة، واللَّه تعالى أعلم.
وأما رواية ابن خزيمة رحمه الله، فقال في "صحيحه" 1/ 360:
نا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، وزياد بن أيوب، قال إسحاق: حدثنا عُمر، وقال زياد: حدثني عمر بن عُبيد الطنافسيّ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُسلّم عن يمينه حتى يُرى بياضُ خدّه: "السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته"، وعن شماله حتى يبدو بياض خدّه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته". انتهى
(1)
.
(1)
أعلّ الشيخ الألبانيّ هذه الرواية فيما كتبه على "صحيح ابن خزيمة" فقال: إسناده =
وأما رواية ابن حبّان رحمه الله تعالى، فقال في "صحيحه" 5/ 333 رقم 1993 بتحقيق شعيب الأرنؤوط:
أخبرنا الفضل بن الحباب، قال: حدّثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم عن يمينه، وعن يساره حتى يُرَى بياض خدّه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى: هكذا نسخة "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" بإثباتها في الثاني دون الأول، عكس ما في بعض نسخ أبي داود، وهو تصرّف من النساخ بلا شكّ، بدليل أن الحافظ أبا بكر الهيثميّ: أثبتها في كتابه "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" في الجهتين، وكتابه مختصر من "صحيح ابن حبّان"، وكذا عزا الحافظ رحمه الله ثبوتها إلى "صحيح ابن حبان" في كتابه "نتائج الأفكار" 2/ 223. فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وأما رواية أبي العبّاس السّرّاج، فقد أخرجها الحافظ في أماليه "نتائج الأفكار" 2/ 221 - 223 من طريقه، فقال:
أخبرني شيخنا الإمام أبو الفضل بن الحسين الحافظ رحمه الله، أخبرني أبو الحرم بن أبي الفتح، قال: قُرئ على سيدة بنت موسى المازنية، ونحن نسمع، عن زينب بنت عبد الرحمن الشعري، قالت: أنا أبو المظفّر عبد المنعم ابن الإمام أبي القاسم القُشيريّ، أنا أبي، أنا أبو الحسين الْخَفّاف، ثنا أبو العبّاس السرّاج، ثنا عبد اللَّه بن عمر -يعني ابن أبان- ثنا وكيع، وأبو نعيم، قالا: ثنا سفيان -هو الثوريّ- عن أبي إسحاق -هو السبيعي- عن أبي الأحوص -هو عوف بن مالك- عن عبد اللَّه -هو ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه كان يُسلّم عن يمينه، وعن يساره حتى يُرَى بياض خدّيه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته".
= ضعيف، أبو إسحاق هو السبيعيّ مختلطٌ مدلّس، أخرج أبو داود الحديث من طريق زياد بن أيوب، وآخرون دون قوله "وبركاته". انتهى. وقد ذكرت الجواب عن هذا الإعلال فيما كتبته على النسائيّ، فراجعه 15/ 302.
قال: هكذا في أصل سماعنا من مسند السرّاج بخط الحافظ مجد الدين بن النجار، وكذلك وجدته بخط الحافظ زكيّ الدين البرزالي، وهو من روايتهما جميعًا عن زينب بنت عبد الرحمن.
وهكذا أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" عن أبي خليفة، عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوريّ، وذكر فيه "وبركاته".
لكن أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير، فلم يذكرها، وكذا من رواية وكيع، وكذا الترمذي، والنسائي من رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان.
قال: وبهذا الإسناد إلى السرّاج: ثنا هَمّام السَّكُونيّ -هو الوليد بن شُجَاع بن الوليد- ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، فذكر مثله، لكن قال:"عن شماله"، وقال:"أَرَى".
وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن عبد اللَّه بن نمير، عن عُمر بن عُبيد، عن أبي الأحوص
(1)
، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، وفيه:"وبركاته".
قال: فهذه عدّة طرق ثبت فيها "وبركاته" بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ -يعني النوويّ رحمه الله أنها رواية فردة.
وأما رواية ابن حزم رحمه الله، فقال في كتابه "المحلّى" 3/ 275:
حدّثنا حمام، ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الأعرابي، ثنا الدّبريّ، ثنا عبد الرزّاق، عن سفيان الثوريّ ومعمر، كلاهما عن حمّاد بن أبي سليمان، عن أبي الضّحى، عن مسروق، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: ما نسيت فيما نسيت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسلّم عن يمينه: "السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته" حتى يُرى بياض خدّه، وعن يساره:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته" حتى يُرى بياض خدّه أيضًا. انتهى.
(1)
هكذا في نسخة "نتائج الأفكار" بزيادة "عن أبي الأحوص"، وهو سلّام بن سُليم بين عُمر بن عُبيد، وأبي إسحاق، لكن الموجود في نسخة ابن ماجه بإسقاطه، وكذلك أخرجه النسائيّ برقم (1333) وليس فيه أبو الأحوص أيضًا، وهو الظاهر؛ لأن عمر بن عبيد يروي عن أبي إسحاق دون واسطة، كما هو مذكور في ترجمته في "تهذيب التهذيب"، وهو الموجود أيضًا في "تحفة الأشراف" 7/ 124 - 125، واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: رجال هذا الإسناد ثقات غير حماد بن أبي سليمان فصدوق، له أوهام، واللَّه أعلم.
وأخرجه عبد الرزّاق موقوفًا على ابن مسعود، فقال في "مصنّفه" 2/ 219:
عبد الرزّاق، عن معمر، عن خُصيف الْجَزَريّ، عن أبي عُبيدة بن عبد اللَّه، أن ابن مسعود كان يُسلّم عن يمينه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته"، وعن يساره:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته"، يجهر بكلتيهما.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: فيه خُصيف متكلّم فيه، قال في "التقريب": صدوق سيئ الحفظ، خلط بآخره، ورُمي بالإرجاء. انتهى. وفيه أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، فهو منقطع، واللَّه أعلم.
وأما حديث عمّار بن ياسر رضي الله عنهما، فأخرجه عبد الرّزّاق في "مصنّفه" أيضًا موقوفًا عليه، فقال 2/ 220:
عبد الرزّاق عن معمر، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرّب، أن عمّار بن ياسر كان يسلّم عن يمينه:"السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته"، وعن يساره مثل ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: رجال إسناده ثقات، واللَّه أعلم.
قال العلّامة الصنعاني رحمه الله في "سبل السلام" عند شرح حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه المتقدّم ما نصّه:
وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة، ففيها صحيح، وحسن، وضعيف، ومتروك، وكلها بدون زيادة "وبركاته" إلّا في رواية وائل هذه، ورواية عن ابن مسعود عند ابن ماجه، وعند ابن حبّان، ومع صحّة إسناد حديث وائل رضي الله عنه كما قال المصنف -يعني الحافظ ابن حجر- يتعيّن قبول زيادته؛ إذ هي زيادة عدل، وعدم ذكرها في رواية غيره ليس رواية لعدمها. انتهى كلام الصنعاني رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه:
خلاصة القول في هذه المسألة أن زيادة "وبركاته" ثابتة في التسليم من الصلاة من الجانبين، فمَن قَبِلَ زيادتها في التسليمة الأولى، فليقبلها في الثانية
أيضًا؛ لثبوتها فيها بما ثبتت به الأولى، ولا يؤثّر على ذلك عدم وجودها في بعض النسخ؛ لما قدّمنا أن ذلك من تصرف النُّسّاخ، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: ثم إن زيادة "وبركاته" إنما يستحبّ في بعض الأوقات، فلا ينبغي التزامها في جميع الصلوات؛ لأن أكثر من نقل صفة صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يذكرها، فلو كان صلى الله عليه وسلم التزمها لما أهملوها، فدلّ على أنه كان يزيدها في بعض الأوقات، فحفظها بعض الصحابة، ولم يعمل بها في معظم الأوقات، فلم يحفظها الأكثرون، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1317]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ شُعْبَةُ: رَفَعَهُ مَرَّةً، أَنَّ أَمِيرًا، أَوْ رَجُلًا سَلَّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَّى عَلِقَهَا؟).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد اللَّه المروزيّ، نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقةٌ حافظ فقيهٌ مجتهد، رأس الطبقة [10](ت 241) عن (77) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: رَفَعَهُ مَرَّةً) أي رفع الحكم هذا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة، وفي رواية الإمام أحمد في "مسنده":"قال: سمعته مرّةً رفعه، ثم تركه. . . ".
وقوله: (أَنَّ أَمِيرًا، أَوْ رَجُلًا)"أو" للشكّ من الراوي.
وقوله: (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَّى عَلِقَهَا؟) أي قال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه في حقّ ذلك الرجل: من أين تعلّم هذه السنّة، وممن أخذها؟ وهي تسليمه مرّتين يمينًا وشمالًا، فكأنه تعجّب من معرفة ذلك الرجل بسنّة التسليم من الصلاة.
وقوله: (أَنَّى عَلِقَهَا؟) أي قال عبد اللَّه.
[تنبيه]: رواية أحمد بن حنبل رحمه الله هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(4227)
حدّثنا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن أبي مَعْمَر، عن عبد اللَّه، قال: سمعته مرّةً رفعه، ثم تركه، رأى أميرًا أو رجلًا، سَلَّم تسليمتين، فقال: أنى عَلِقَها؟، انتهى.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1318]
(582) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ، حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الْحَنظليّ، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ مجتهد [10](ت 238) عن (72) سنةً (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عَمْرو الْقَيْسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَر) بن عبد الرحمن بن الْمِسْوَر بن مَخْرَمة -بسكون المعجمة، وفتح الراء المخفّفة- ابن نَوْفَل بن أَهيب بن عبد مناف الزُّهريّ الْمَخْرَمِيُّ، أبو محمد المدنيّ، ليس به بأس [8].
رَوَى عن إسماعيل بن محمد بن سعد، وسعد بن إبراهيم، وعثمان بن محمد بن الأخنس، وغيرهم.
وَرَوَى عنه إبراهيم بن سعد، وبشر بن عُمر، وإسحاق بن جعفر، وأبو عامر الْعَقَديّ، وغيرهم.
قال صالح بن أحمد، عن أبيه: ليس به بأس، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس صدوق، وليس بثبت. وقال أبو زرعة: هو أحبّ إليّ
من يزيد بن عبد الملك النوفليّ. وقال حنبل عن أحمد: ثقةٌ ثقةٌ. وقال يعقوب بن شيبة: رأيت أحمد وابن معين يتناظران في ابن أبي ذئب والْمَخْرَمي، فقدّم أحمد المَخْرَميّ، فقال له يحيى: المَخْرَميّ شيخ، وليس عنده من الحديث بعض ما عند ابن أبي ذئب، وقدّمه على المخرميّ تقديمًا متفاوتًا، قال يعقوب: فقلت لابن المديني بعد ذلك: أيهما أحبّ إليك؟ قال: ابن أبي ذئب، وهو صاحب حديث، وأَيْش عند المخرميّ؟ والمخرميّ ثقةٌ، وقال ابن خراش: صدوق. وقال بكّار بن قُتيبة: ثنا أبو المطرّف، ثنا المخرمي، ثقةٌ. وقال البَرْقيّ: ثبت. وقال الترمذيّ: مدني ثقةٌ عند أهل الحديث، وقال في "العلل" عن محمد بن إسماعيل: صدوق ثقةٌ. وقال النسائيّ: عبد اللَّه بن جعفر هذا ليس به بأس، وعبد اللَّه بن جعفر بن نَجِيح والد عليّ ابن المدينيّ متروك الحديث، وقال الحاكم: ثقة مأمون، وليس بابن جعفر المسكوت عنه -يعني المدائني الضعيف- وقال ابن حبّان: كان كثير الوهم، فاستحقّ الترك، كذا قال، وكأنه أراد غيره، فالتبس عليه.
وقال ابن سعد: كان من أكثر رجال أهل المدينة علمًا بالمغازي، والفتوى، ولم يزل يُؤمّل فيه أن يلي القضاء حتى مات، ولم يَلِهِ، قال محمد بن عمر: قال ابن أبي الزناد: لا أحسبه أقعده عن ذلك إلا خروجه مع محمد بن عبد اللَّه بن حسن، قال: ومات بالمدينة سنة (170) وكان له يوم مات بضع وسبعون سنة، وكذا أرّخه يعقوب بن شيبة.
عَلَّق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (582) و (966) و (1364) و (1684) و (1718).
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّد) بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 134)(خ م ت س) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.
5 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْد) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
6 -
(أَبُوهُ) ابن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب الزُّهريّ، الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: إسماعيل عن عامر.
3 -
(ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، وآخر من مات منهم، وأول من رَمَى بسهم في سبيل اللَّه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنْتُ أَرَى) بفتح الهمزة، مبنيًّا للفاعل: أي أُبصِر (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: أي مُجاوزًا نظره عن يمينه، كما يُسلّم أحد على من في يمينه (وَعَنْ يَسَارِهِ) فيه مشروعيّة أن يكون التسليم إلى جهة اليمين، ثمّ إلى جهة اليسار (حَتَّى أَرَى) بالبناء للفاعل أيضًا (بَيَاضَ خَدِّهِ) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الدال المهملة، جمعه خُدُود، كفلس وفلُوس: وهو من الْمَحْجِرِ إلى اللَّحْي من الجانبين، قاله في "المصباح"
(1)
.
وقال في "القاموس": الْخَدّتان، والْخُدّتان بالضمّ: ما جاوز مُؤَخَّرَ العينين إلى مُنتهى الشِّدْق، أو اللذان يَكتنِفَان الأنف عن يمين وشمال، أو من لدن الْمَحْجَرِ إلى اللَّحْي، مذَكَّر. انتهى
(2)
.
وقال الأبهريّ: معنى "بياض خدّه: أي وَجْنته الخاليةُ عن الشعر، وكان مُشْرَبًا بالحمرة. انتهى.
والمعنى حتى أرى بياض خدّه الأيمن في الأولى، والأيسر في الثانية، وفيه دليل على المبالغة في الالتفات إلى جهة اليمين، وإلى جهة اليسار.
وقال القاري في "شرح المشكاة": قوله: "بياض خدّه": أي صفحة وجهه، وهو كذا بصيغة الإفراد في النسخ المصحّحة، وجعل ابن حجر -يعني الهيتمي- "خدّيه" بصيغة التثنية أصلًا، ثم قال: وفي نسخة: "خدّه"، ولا تخالف بينهما؛ لأن معنى الأول: "حتى أرى بياض خدّه الأيمن في الأولى،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 165.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 290.
والأيسر في الثانية"، بدليل حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة اللَّه، حتى يُرى بياض خدّه الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة اللَّه: حتى يُرى بياض خذه الأيسر"
(1)
. انتهى
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لمذهب الشافعيّ، والجمهور من السلف والخلف أنه يُسَنّ تسليمتان، وقال مالك، وطائفة: إنما تسنّ تسليمة واحدة، وتعلّقوا بأحاديث ضعيفة، لا تقاوم هذه الأحاديث الصحيحة، ولو ثبت شيء منها حُمِل على أنه فعل ذلك لبيان جواز الاقتصار على تسليمة واحدة.
وأجمع العلماء الذين يُعتدّ بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة، فإن سَلّم واحدةً استُحِبّ له أن يسلّمها تلقاء وجهه، وإن سلّم تسليمتين جَعَل الأولى عن يمينه، والثانية عن يساره، ويلتفت في كلّ تسليمة حتى يَرَى مَن عن جانبه خدّه، هذا هو الصحيح، وقال بعض أصحابنا: حتى يَرَى خدَّيه مَن عن جانبه، ولو سلّم التسليمتين عن يمينه، أو عن يساره، أو تلقاء وجهه، أو الأولى عن يساره، والثانية عن يمينه صحّت صلاته، وحصلت التسليمتان، ولكن فاتته الفضيلة في كيفيتهما. انتهى.
وقد تقدّم تحقيق الخلاف بين العلماء في حكم التسليمتين، وأدلتهم في مسائل الحديث الماضي، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 1318](582)، و (النسائيّ) في "السهو"(1316 و 1317) و"الكبرى"(1239 و 1240)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(3691)، و"الترمذيّ" رقم (272)، و"النسائيّ" رقم (1325).
(2)
"المرقاة" 3/ 28 - 29.
(915)
، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 92)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 298)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 172 و 1/ 180 و 1/ 186)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(144)، و (الدارمي) في "سننه"(1352)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(726 و 727 و 1712)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1992)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 266 و 267)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 178)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(698)، واللَّه تعالى أعلم.
[فائدة]: أخرج ابن خزيمة في "صحيحه"(1/ 359 رقم 726) من طريق ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يُسلّم عن يمينه، وعن يساره حتى يُرَى بياض خدّه".
فقال الزهريّ: لم نَسْمَع هذا من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال إسماعيل: أكلَّ حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم سمعت؟ قال: لا، قال: والثلثين؟ قال: لا، قال: فالنصف؟ قال: لا، قال: فهذا في النصف الذي لم تَسْمَع. انتهى.
وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه"(5/ 331 - 333 رقم 1992)، وفي سنده مصعب بن ثابت، قال عنه في "التقريب": ليّن الحديث، وكان عابدًا.
وبقيّة مسائل الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(23) - (بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1319]
(583) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: أَخْبَرَنِي بِذَا أَبُو مَعْبَدٍ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ بَعْدُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب.
3 -
(عَمْرو) بن دينار، أبو محمد الأثرم الْجُمَحِيّ مولاهم المكي، ثقةٌ ثبت [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
4 -
(أَبُو مَعْبَدٍ) اسمه: نافذ -بفاء، فمعجمة- مولى ابن عباس - المكيّ، ثقةٌ [4](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه الحبر البحر رضي الله عنهما، مات (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
[تنبيه]: قوله: (أَخْبَرَنِي بِذَا أَبُو مَعْبَدٍ) قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: في نسخة أبي العلاء بن ماهان: "سفيان بن عيينة، عن عمرو، قال: أخبرني جدّي أبو معبد"، هكذا في نسخة الأشعريّ، وابن الحذّاء، عن ابن ماهان.
وقوله: "جدّي" تصحيف، وإنما صوابه:"أخبرني بذا"، يريد بهذا، وليس لعمرو بن دينار جدّ يَروي عنه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي شرح الحديث، وبيان مسائله في الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى- وإنما أخرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1320]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا كنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ، قَالَ عَمْرٌو: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي مَعْبَدٍ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهَذَا، قَالَ عَمْرٌو: وَقَدْ أَخْبَرَنِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ).
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 815 - 816.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
رجال هذا الإسناد: خمسة أيضًا:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمكيّين، سوى شيخه الأول، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن أبي معبد.
5 -
(ومنها): أن فيه ابنَ عباس رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ) بفتح الميم، والموحدة، بينهما عين، فدال مهملتان (مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ سَمِعَهُ) الضمير الأول لعمرو بن دينار، والثاني لأبي معبد، يعني أن عمرو بن دينار سمع أبا معبد، حال كونه (يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: مَا) نافية (كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ) أي بسماعنا لتكبير المصلّين بعد سلامهم من الصلاة، حيث إنهم يجهرون به.
رواية المصنّف هذه فيها الحصر، ومثلها رواية النسائيّ بلفظ:"إنما كنتُ أعلم انقضاء صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتكبير".
وفي الرواية التالية من طريق ابن جُريج، عن عمرو:"أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم"، قال ابن عباس:"كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته".
والرواية الأولى أخصّ من رواية ابن جريج هذه؛ لأن الذكر أعمّ من التكبير، ويَحْتَمِل أن تكون مفسّرة لها، فكأن المراد أن رفع الصوت بالذكر أي
بالتكبير، وكأنهم كانوا يبدؤون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد
(1)
، وسيأتي تمام البحث فيه في المسائل -إن شاء اللَّه تعالى-.
واختُلف في كون ابن عبّاس رضي الله عنهما قال ذلك، فقال القاضي عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة؛ لأنه كان صغيرًا ممن لا يواظب على ذلك، ولا يُلزَم به، فكان يعرف انقضاء الصلاة بما ذكر، وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون حاضرًا في أواخر الصفوف، فكان لا يَعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير.
(قَالَ عَمْرٌو) أي ابن دينار (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي الحديث المذكور (لِأَبِي مَعْبَدٍ) ولعله ذكره ليحدّثه مرّةً ثانيةً، أو لأمر آخر (فَأَنْكَرَهُ) أي أنكر أبو معبد كون هذا الحديث من حديثه (وَقَالَ) أبو معبد (لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهَذَا) فيه أنه مما نسيه أبو معبد (قَالَ عَمْرٌو) أي ابن دينار (وَقَدْ أَخْبَرَنِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ) يعني أنه نسيه بعدما كان سمعه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وحدّث به عمرًا.
وفي رواية الحميديّ في "مسنده": "قال عمرو: فذكرت بعد ذلك لأبي معبد، فأنكره، وقال: لم أحدّثك به، فقلت: بلى قد حدّثتنيه قبل هذا، قال سفيان: كأنه خَشِي على نفسه".
وقال الشافعيّ في "المسند"(1/ 95) بعد أن رواه عن سفيان: كأنه نَسيه بعدما حدّثه إياه
(2)
.
وفي إنكار الشيخ على الراوي تحديثه له اختلاف بين العلماء سيأتي تحقيقه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 1320 و 1321](583)، و (البخاريّ) في
(1)
"الفتح" 2/ 380.
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 380.
"الأذان"(842)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1002)، و (النسائيّ) في "السهو"(1335) وفي "الكبرى"(1258)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 94)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(3225)، و (الحميدي) في "مسنده"(480)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 222 و 367)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1706)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2232)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(12200 و 12212)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 184)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(712)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة، وهو الراجح، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
قال الطبريّ رحمه الله: فيه إبانة عن صحّة ما كان يفعله بعض الأمراء من التكبير عقب الصلاة.
وتعقّبه ابن بطاّل بأنه لم يَقِف على ذلك عن أحد من السلف، إلا ما حكاه ابن حبيب في "الواضحة" أنهم كانوا يستحبّون التكبير في العساكر عقب الصبح والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاثًا، قال: وهو قديم من شأن الناس.
قال ابن بطاّل: وفي "العتبية" عن مالك أن ذلك مُحدَث.
قال: وفي السياق إشعار بأن الصحابة لم يكونوا يرفعون أصواتهم بالذكر في الوقت الذي قال فيه ابن عباس ما قال.
قال الحافظ: في التقييد بالصحابة نظرٌ، بل لم يكن حينئذ من الصحابة إلا القليل.
وقال النوويّ: حَمَلَ الشافعي هذا الحديث على أنهم جهروا به وقتًا يَسِيرًا لأجل تعليم صفة الذكر، لا أنهم داوموا على الجهر به. والمختار أن الإمام والمأموم يُخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: في كون الإخفاء هو المختارَ مع صحة أحاديث الجهر بالذكر نظرٌ لا يخفى، بل قول ابن عبّاس رضي الله عنهما:"أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم" ظاهر في كونه مستمرًّا، وسياتي تحقيق هذا في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): أن قوله: "كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" أن مثل هذا عند الشيخين له حكم الرفع، خلافًا لمن شذّ، ومنع ذلك، ومذهب الجمهور على ذلك، كما قاله في "الفتح"
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: يُؤخذ منه أنه لم يكن هناك مُبَلّغ جهير الصوت، يُسمِع مَن بَعُدَ. انتهى.
4 -
(ومنها): أن في قول عمرو بن دينار رحمه الله: "فذكرت ذلك لأبي معبد، فأنكره. . . إلخ" دليلًا على أن البخاريّ ومسلمًا يذهبان إلى صحة الحديث الذي يُروَى على هذا الوجه مع إنكار المحدّث له، إذا حدّث به عنه ثقة.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهب جمهور العلماء من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين، قالوا: يُحتجّ به إذا كان إنكار الشيخ له لتشكُّكه فيه، أو لنسيانه، أو قال: لا أحفظه، أو لا أذكر أني حدّثتك به، ونحو ذلك، وخالفهم الكرخيّ من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، فقال: لا يُحتجّ به.
فأما إذا أنكره إنكارًا جازمًا قاطعًا بتكذيب الراوي عنه، وأنه لم يحدِّثه به قط، فلا يجوز الاحتجاج به عند جميعهم؛ لأن جزم كلّ واحد يعارض جزم الآخر، والشيخ هو الأصل، فوجب إسقاط هذا الحديث، ولا يَقْدَحُ ذلك في باقي أحاديث الراوي؛ لأنا لم نتحقق كذبه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
وقال في "الفتح": "قال الشافعيّ بعد أن رواه عن سفيان: كأنه نسيه بعد أن حدّثه به". انتهى.
وهذا يدلّ على أن مسلمًا كان يرى صحة الحديث، ولو أنكره راويه، إذا كان الناقل عنه عدلًا.
ولأهل الحديث فيه تفصيل: قالوا: إما أن يَجْزِم، أو لَا، وإذا جزم، فإما أن يصرّح بتكذيب الراوي عنه، أو لا، فإن لم يجزم بالرّدّ، كأن قال: لا أذكره، فهو مُتَّفق على قبوله؛ لأن الفرع ثقة، والأصل لم يَطعَن فيه، وإن جزم، وصرّح بالتكذيب، فهو متَّفق عندهم على ردّه؛ لأن جزم الفرع بكون الأصل
(1)
"الفتح" 2/ 379 - 380.
حدّثه يستلزم تكذيب الأصل في دعواه أنه كَذَب عليه، وليس قبول قول أحدهما بأولى من الآخر، وإن جزم بالردّ، ولم يصرّح بالتكذيب، فالراجح عندهم قبوله.
وأما الفقهاء فاختلفوا، فذهب الجمهور في هذه الصورة إلى القبول، وعن بعض الحنفيّة، ورواية عن أحمد لا يُقبل، قياسًا على الشاهد.
وللإمام فخر الدين في هذه المسألة تفصيل نحو ما تقدّم، وزاد: فإن كان الفرع متردّدًا في سماعه، والأصل جازمًا بعدمه سقط؛ لوجود التعارض.
ومحصّل كلامه آنفًا أنهما إن تساويا فالرّدّ، وإن رُجِّح أحدُهما عُمل به.
وهذا الحديث من أمثلته.
وأبعَدَ مَن قال: إنما نَفَى أبو معبد التحديث، ولا يلزم منه نفي الإخبار، وهو الذي وقع من عمرو، ولا مخالفة، وتردّه الرواية التي فيها:"فأنكره"، ولو كان كما زعم لم يكن هناك إنكار، ولأن التفرقة بين التحديث والإخبار إنما حدث بعد ذلك، وفي كتب الأصول حكاية الخلاف في هذه المسألة عن الحنفية. انتهى
(1)
.
وإلى هذه القاعدة أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث" حيث قال:
وَمَنْ نَفَى مَا عَنْهُ يُرْوَى فَالأَصَحْ
…
إِسْقَاطُهُ لَكِنْ بِفَرْعٍ مَا قَدَحْ
أَوْ قَالَ لَا أَذْكُرُهُ أَوْ نَحْوَ ذَا
…
كَأَنْ نَسِي فَصَحَّحُوا أَنْ يُؤْخَذَا
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مشروعية الجهر بالذكر:
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث دليل لما قاله بعض السلف: إنه يستحبّ رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة، وممن استحبّه من المتأخرين ابن حزم الظاهريّ، ونقل ابن بطال، وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: دعوى الاتّفاق المذكور غير صحيحة،
(1)
"الفتح" 2/ 380.
وسيتبيّن لك بطلانها في كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، حيث ينقل عن الإمام أحمد وغيره مشروعيةَ الجهر، فتبصر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، وباللَّه تعالى التوفيق.
قال: وحَمَل الشافعيّ رحمه الله هذا الحديث على أنه جَهَر وقتًا يسيرًا حتى يُعلّمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا به دائمًا، فاختار للإمام والمأموم أن يذكرا اللَّه تعالى بعد الفراغ من الصلاة، ويُخْفيان ذلك، إلا أن يكون إمامًا يريد أن يُتَعلّم منه، فيجهر حتى يَعلَم أنه قد تُعُلِّم منه، ثمّ يُسرّ، وحَمَلَ الحديث على هذا. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي نُقل عن الشافعيّ رحمه الله من حمله هذا الحديث على وقت يسير، فيه نظرٌ لا يخفى، فإن من تأمّل قول ابن عبّاس رضي الله عنهما:"إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، يظهر ضعف هذا التأويل، فإن ابن عبّاس رضي الله عنهما من أهل اللغة، فتعبيره بهذا الأسلوب ظاهر في الاستمرار، لا أنه حصل وقتًا يسيرًا، ثم انقطع، فتأمله بالإنصاف.
وقال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله: [مسألة]: ورفعُ الصوت بالتكبير إثر كلّ صلاة حسن.
ثم استَدَلّ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، ثم قال: فإن قيل: قد نَسِي أبو معبد هذا الحديث، وأنكره.
قلنا: فكان ماذا؟، عمرو أوثق الثقات، والنسيان لا يَعرَى منه آدميّ، والحجّة قد قامت برواية الثقة. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد دلّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما على رفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة المفروضة.
وقد ذهب إلى ظاهره بعض أهل الظاهر، وحُكي عن أكثر العلماء خلافُ ذلك، وأن الأفضل الإسرار بالذكر؛ لعموم قوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} الآية [الأعراف: 205]، وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
(1)
"المحلَّى" 4/ 260.
وَخُفْيَةً} الآية [الأعراف: 55]، ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن جهر بالذكر من أصحابه:"إنكم لا تَدْعُون أصمّ، ولا غائبًا. . . " الحديث. متفق عليه.
ثم ذكر كلام الشافعيّ رحمه الله المتقدّم، ثم قال: وكذلك ذكر أصحابه، وذكر بعض أصحابنا -يعني الحنابلة- مثل ذلك أيضًا، ولهم وجه آخر أنه يكره الجهر به مطلقًا.
وقال القاضي أبو يعلى في "الجامع الكبير": ظاهر كلام أحمد أنه يُسنّ للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات، بحيث يُسمِع المأمومَ، ولا يزيد على ذلك، وذَكَرَ عن أحمد نصوصًا تدلّ على أنه كان يجهر ببعض الذكر، ويُسرّ بالدعاء.
وهذا هو الأظهر، وأنه لا يختص ذلك بالإمام، فإن حديث ابن عبّاس هذا ظاهره يدلّ على جهر المأمومين أيضًا.
ويدلّ عليه أيضًا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث ابن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يقول في دبر كلّ صلاة حين يُسلّم: "لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، لا حول ولا قوّة إلا باللَّه، لا إله إلا اللَّه، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا اللَّه مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون"، وقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُهلّ بهنّ في دبر كلّ صلاة.
ومعنى يُهلّ: يرفع صوته، ومنه الإهلال في الحجّ، وهو رفع الصوت بالتلبية، واستهلال الصبي إذا وُلد.
وقد كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليه.
فأخرج النسائيّ في "عمل اليوم والليلة" من رواية عون بن عبد اللَّه بن عُتبة، قال: صلّى رجل إلى جنب عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلّم يقول:"أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، ثم صلّى إلى جنب عبد اللَّه بن عُمر، فسمعه حين سلّم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك؟ قال: إني صلّيت إلى جنب عبد اللَّه بن عمرو، فسمعته يقول مثل ما قلت، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر، فإنما المراد به المبالغة في رفع الصوت، فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته "لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تنادون أصمّ، ولا غائبًا"، وأشار إليهم بيده يُسكّتهم، ويخفّضهم، وقد أخرجه الإمام أحمد بنحو من هذه الألفاظ.
وقال عطية بن قيس: كان الناس يذكرون اللَّه عند غروب الشمس يرفعون أصواتهم بالذكر، فإذا خفضت أصواتهم أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن كرروا الذكر، أخرجه جعفر الفريابي في "كتاب الذكر"، وأخرج أيضًا من رواية ابن لهيعة، عن زُهْرَة بن معبد، قال: رأيت ابن عمر إذا انقلب من العشاءين كبّر حتى يبلغ منزله، ويرفع صوته.
وروى محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه أن رجلًا كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دعه، فإنه أوّاه".
وهذا يدلّ على أنه يُحتَمَلُ ذلك ممن عُرف صدقه وإخلاصه دون غيره.
وأخرج الإمام أحمد من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: "إنه أوّاه"، وذلك أنه رجل كان كثير الذكر للَّه في القرآن، ويرفع صوته في الدعاء، وفي إسناده ابن لهيعة.
وقال الأوزاعيّ في التكبير في الْحَرس في سبيل اللَّه: أحبّ إليّ أن يذكر اللَّه في نفسه، وإن رفع صوته فلا بأس.
فأما قول ابن سيرين: يكره رفع الصوت إلا في موضعين: الأذان، والتلبية، فالمراد به -واللَّه أعلم- المبالغة في الرفع كرفع المؤذن والملبّي.
وقد رُوي رفع الصوت بالذكر في مواضع، كالخروج إلى العيدين، وأيام العشر، وأيام التشريق بمنى.
وأما الدعاء فالسنة إخفاؤه.
ففي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} الآية [الإسراء: 110] أنها نزلت في الدعاء.
وكذا روي عن ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وعن سعيد بنْ جُبير، وعطاء، وعكرمة، وعروة، ومجاهد، وإبراهيم، وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يُسرّ دعاءه لهذه الآية، قال: وكان يُكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء.
وقال سعيد بن المسيب: أحدث الناس الصوت عند الدعاء، وكرهه مجاهد وغيره.
ورَوَى وكيع عن الربيع، عن الحسن، والربيعُ عن يزيد بن أبان، عن أنس أنهما كرها أن يُسمع الرجل جليسه شيئًا من دعائه.
وورد فيه رخصة من وجه لا يصح.
أخرجه الطبراني من رواية أبي موسى: كان نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الصبح يرفع صوته حتى يسمع أصحابه، يقول:"اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري" -ثلاث مرّات- "اللهم أصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي" -ثلاث مرّات- "اللهم أصلح لي آخرتي التي جعلت إليها مرجعي" -ثلاث مرّات-، وذكر دعاء آخر.
وفي إسناده يزيد بن عياض متروك الحديث، وإسحاق بن طلحة ضعيف.
فأما الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كنا إذا صلّينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه ليُقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: "ربّ قني عذابك يوم تبعث عبادك".
فهذا ليس فيه أنه كان يجهر بذلك، حتى يسمعه الناس، إنما فيه أنه كان يقوله بينه وبين نفسه، وكان يسمعه منه أحيانًا جليسه كما كان يسمع منه من خلفه الآية أحيانًا في صلاة النهار.
ورَوَى هلال بن يساف، عن زاذان، حدثنا رجل من الأنصار، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة: "اللهم اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التوّاب الغفور" مائة مرّة. أخرجه ابن أبي شيبة
(1)
، وعنه بقيّ بن مخلد في "مسنده". انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تلخّص مما ذكر في كلام الحافظ ابن
(1)
"المصنف" 13/ 462، ورجاله ثقات.
(2)
"شرح البخاريّ" لابن رجب 7/ 398 - 404.
رجب رحمه الله، وكذا ما تقدم من كلام ابن حزم: أن الصواب هو الذي ذهب إليه أحمد، وبعض السلف، من أن رفع الذكر بعد الصلاة مستحبّ، وأن القول بكراهة ذلك مع صحة الأدلّة، ولا سيما حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في الباب مما لا وجه له، وأن دعوى اتّفاق أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم على عدم القول به من الدعاوي الباطلة.
فهذا الإمام أحمد رحمه الله قد عرفتَ قولَه بالاستحباب، أليس هو من أصحاب المذاهب المتبوعة؟ إن هذا لشيء عجيب!!.
وأنه لا دليل لمن حَمَل حديث ابن عباس رضي الله عنهما على أن الجهر كان وقتًا يسيرًا للتعليم، كما لا دليل لمن ادَّعَى أن الجهر بالتأمين كان لأجل التعليم.
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الناس بالسنّة يخبرنا إخبارًا مطلقًا، دون أن يقيده بوقت دون وقت، وأيضًا فإن فيه لفظة "كان" المشعرة بالمداومة والمواظبة.
والحاصل أن أكثر عمل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد كان على رفع الصوت بالتكبير عقب المكتوبة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1321]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ، حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ).
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضل ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْر) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ فقيهٌ، يدلّ ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(إِسْحَاق بْنُ مَنْصُورٍ) الْكوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام تقدّم قبل باب.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(24) - (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ جَهَنَّمَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1322]
(584) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ
(1)
، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ"، قَالَتْ
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا هارون بن سعيد الأيليّ".
عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ " قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر الأَيْليّ، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه تقدّم قريبًا أيضًا.
4 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الفقيه المشهور، أبو بكر المدنيّ، رأس الطبقة [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
6 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن الْعَوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 414.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ) وفي رواية النسائيّ:"دخلت يهودية عليها، فاستوهبتها شيئًا، فوهبت لها عائشة. . . "، وفي رواية المصنّف من طريق مسروق، عن عائشة رضي الله عنها الآتية بعد حديث:"قالت: دخلت عليّ عجوزان من عجوز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذّبون في قبورهم. . . ".
ولا تنافي بين الروايتين، إذ يمكن أن إحداهما تكلّمت، وأقرّتها الأخرى على ذلك، فنَسَبت القول إليهما مجازًا، والإفراد يُحْمَل على المتكلّمة، أفاده الحافظ رحمه الله، وقال: لم أقف على اسم واحدة منهما.
(وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ) يَحْتمل أن يكون للمسلمين، ويَحْتمل أن يكون لهم ولسائر الناس، وهذا أولى؛ لأنه يدلّ عليه الحديث الآتي بلفظ:"أن أهل القبور يُعذّبون في قبورهم"(تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟) أي تعذّبون فيها، قال أهل اللغة: الفتنة: الامتحان والاختبار، قال القاضي عياض رحمه الله: استعمالها في العرف لكشف الحال المكروه. انتهى. وتُطلق أيضًا على القتل، والإحراق، والنميمة، والتعذيب.
وإنما نُسبت الفتنة إلى القبر؛ لكون الغالب على الموتى أن يُقبَروا، وإلا فالعذاب يقع على من شاء اللَّه تعالى تعذيبه بعد موته، ولو لم يُدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق، لا يسمعه إلا البهائم، كما جاء في الحديث.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) من الارتياع: وهو الفَزَع، والمراد أنه صار ذلك الكلام عنده بمنزلة خبر، لم يَسبِق له به علمٌ، ويكون شنيعًا منكرًا، ثم ردّه (وَقَالَ:"إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ") أي إنما تُفتن في قبورها يهود، لا المسلمون، وهذا قاله بناءً على أنه لم يوحَ إليه قبل ذلك، ومقتضى الظاهر أنه لو كان لأُوحي إليه، فليس هذا من باب الإنكار بمجرد عدم الدليل، بل لقيام أمارةٍ ما على العدم أيضًا، وفيه أنه يجوز إنكار ما لا يثبت إلا بدليل، إذا لم يقم عليه دليل، وظهر أمارةٌ ما على عدمه، وإن كان حقًّا، ولا إثم بإنكاره،
قاله السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ"
(1)
.
وفي هذه الرواية أنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على اليهودية، وفي رواية مسروق عن عائشة الآتية:"فقال: صدقتا. . . "، وفي رواية للنسائيّ:"نعم عذاب القبر حقّ"، أقرّها على ما قالت، وبين الروايتين اختلاف.
وأجاب النوويّ تبعًا للطحاويّ وغيره، بأنهما قصتان، فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في الأولى، ثم أُعلِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يُعلِم عائشةَ، فجاءت اليهودية مرّة أخرى، فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته، انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: وبهذا يجاب أيضًا ما سيأتي في قصة العجوزين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صدقتا. . . إلخ".
وأصرح من رواية الباب في إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم على اليهودية عذاب القبر، ما أخرجه الإمام أحمد بإسناد على شرط البخاريّ، عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأمويّ، عن عائشة، أن يهودية كانت تخدُمها، فلا تصنع عائشة إليها شيئًا، من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك اللَّه عذاب القبر، قالت: فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّ، فقلت: يا رسول اللَّه، هل للقبر عذاب، قبل يوم القيامة؟، قال:"لا، وعَمَّ ذاك؟ "، قالت: هذه اليهودية، لا نصنع إليها من المعروف شيئًا، إلا قالت: وقاك اللَّه عذاب القبر، قال:"كذبت يهود، وهم على اللَّه عز وجل كذُبٌ، لا عذاب دون يوم القيامة"، قالت: ثم مكث بعد ذاك، ما شاء اللَّه أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، مشتملًا بثوبه، مُحْمَرّةً عيناه، وهو ينادي بأعلى صوته:"أيها الناس أظلتكم الفتن، كقطع الليل المظلم، أيها الناس لو تعلمون ما أعلم، لبكيتم كثيرًا، وضحكتم قليلًا، أيها الناس، استعيذوا باللَّه، من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق".
قال الحافظ رحمه الله: وفي هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم -إنما عَلِم بحكم عذاب القبر، إذ هو بالمدينة في آخر الأمر، كما سيأتي تاريخ صلاة الكسوف في موضعه.
وقد استُشكل ذلك بأن الآية المتقدّمة مكيّة، وهي قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 4/ 104 - 105.
الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [إبراهيم: 27]، وكذلك الآية الأخرى المتقدمة، وهي قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الآية [غافر: 46].
والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم، من حقّ من لم يتّصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى في حقّ آل فرعون، وإن التحق بهم من كان في حكمهم من الكفار، فالذي أنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحّدين، ثم عَلِم صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء اللَّه منهم، فجزم به، وحذّر منه، وبالغ في الاستعاذة منه، تعليمًا لأمته، وإرشادًا، فانتفى التعارض -بحمد اللَّه تعالى- انتهى
(1)
.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ شَعَرْتِ) أيٍ عَلِمتِ، يقال:"شَعَرتُ بالشيء شُعُورًا، من باب قَعَدَ وشِعْرًا، وشِعْرةً بكسرهما: عَلِمْتُ"
(2)
. (أَنَّهُ) بفتح الهمزة؛ لوقوعها في موقع المصدر؛ لوقوعها مفعولًا به لـ "شعرت"، والهاء ضمير الشأن، وهو ما تفسّره جملة بعده (أُوحِيَ إِلَيَّ) ببناء الفعل للمفعول (أَنَّكُمْ) بفتح الهمزة أيضًا؛ لما ذكرته آنفًا، والخطاب للمسلمين (تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ ") أي كما تُفتَن اليهود في قبورها، قال في "النهاية": يريد بالفتنة مسألة منكر ونكير، وهو من الفتنة، وهي الامتحان والاختبار. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: المراد عذاب القبر، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [البروج: 10]، والفتنة تتصرّف على وجوه، وأصلها الاختبار. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأولى تفسير الفتنة هنا بما يعمّ سؤال الملكين، وعذاب القبر؛ لثبوت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فأما تفسيره بسؤال الملكين، فقد أخرجه الشيخان من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، مرفوعًا: "ولقد أُوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثلَ أو قريب من فتنة الدجال، لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء، يؤتى أحدكم، فيقال له: ما
(1)
"الفتح" 3/ 604 - 605.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 315.
(3)
"النهاية" 3/ 410.
(4)
"المفهم" 2/ 207.
علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن، لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء، فيقول: هو محمد رسول اللَّه، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال له: نَمْ صالِحًا، فقد علمنا إن كنت لمؤمنًا، وأما المنافق أو المرتاب، لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء، فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته".
وأما تفسيره بعذاب القبر، فقد ثبت أيضًا، حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم: بالتعوّذ من عذاب القبر، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من عذاب القبر، كما بيّنته أحاديث الباب، وغيرها.
والحاصل أن تفسير الفتنة هنا بما يعمّ سؤال الملكين، وعذاب القبر هو الصواب، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد الواقعة المذكورة، وبعد أن أُوحي إليه (يَسْتَعِيذُ) أي يطلب العصمة، والحماية (مِنْ عَذَاب الْقَبْرِ) أي يطلُب من اللَّه تعالى أن يعصمه من عذاب القبر، وهذا في حقّه صلى الله عليه وسلم تعبّد لربه، وتعليم لأمته؛ لأنه معصوم من جميع أنواع العذاب، حيث إن اللَّه عز وجل غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 1322](584) و [24/ 1324 و 1325](586)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1050) و"الجنائز"(1372) و"الدعوات"(6366)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(115 و 1308 و 2055 و 2064 و 2066 و 2067 و 5504) وفي "الكبرى"(1231 و 2191 و 2192 و 2193 و 2194)، و (أحمد) في "مسنده"(23747 و 24061 و 25477 و 25574 و 25801)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2047)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (1295
و 1296 و 1297 و 1298)، و (البيهقيّ) في "إثبات عذاب القبر"(158 و 160 و 161)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(359)، و (هناد) في "الزهد"(1/ 211)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(876)، و (ابن أبي داود) في "البعث والنشور"(9)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الاستعاذة من عذاب القبر.
2 -
(ومنها): إثبات عذاب القبر، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث وما في معناه يدلّ على صحّة اعتقاد أهل السنّة في عذاب القبر، وأنه حقّ، ويرُدّ على المبتدعة المخالفين في ذلك، وسيأتي تمام البحث فيه في "كتاب الجنائز" -إن شاء اللَّه تعالى-.
3 -
(ومنها): بيان أن عذاب القبر ليس خاصًّا باليهود، بل يعم غيرها من الأمم.
4 -
(ومنها): جواز التحديث عن أهل الكتاب إذا وافق قول رسول اللَّه عليه السلام.
5 -
(ومنها): التوقّف عن خبر أهل الكتاب حتى يُعرف أصدقٌ هو، أم كَذِبٌ؟.
6 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الخوف من اللَّه تعالى، فكان يستعيذ به من عذاب القبر، وعذاب النار، مع أنه صلى الله عليه وسلم غُفِر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخر.
7 -
(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يَعلم الغيب، إلا ما أطلعه اللَّه تعالى بالوحي، ولذا أنكر على اليهودية عذاب القبر مع أنه حقّ؛ لأنه لم يوح إليه به في ذلك الوقت، ثم لما أُوحي إليه به صدّقها.
8 -
(ومنها): جواز دخول اليهوديّة على المسلمات.
9 -
(ومنها): جواز استخدام الذميّة، فقد تقدّم في رواية أحمد في "مسنده" أن هذه اليهوديّة كانت تخدم عائشة رضي الله عنها.
10 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: ارتياع النبيّ صلى الله عليه وسلم عند إخبار اليهوديّة بعذاب القبر إنما هو على جهة استبعاد ذلك للمؤمن؛ إذ لم يكن أُوحي إليه في
ذلك شيء، ولذلك حقّقه على اليهود، فقال:"إنما تُفتن يهود" على ما كان عنده من علم ذلك، ثم أخبر أنه أوحي إليه بوقوع ذلك، وحينئذ تعوّذ منه، ولَمَّا استعظم الأمر، واستهوله أكثر الاستعاذة منه، وأمر به، وبإيقاعه في الصلاة؛ ليكون أنجح في الإجابة، وأسعف في الطَّلِبَة؛ إذ الصلاة من أفضل القرب، وأرجى للإجابة، وخصوصًا بعد فراغها
(1)
، فقد أخرج الترمذيّ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول اللَّه، أيُّ الدعاء أسمع؟ قال:"جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات"، قال الترمذيّ: حديث حسن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1323]
(585) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ) -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
2 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [2](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
3 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وشرح الحديث واضح.
وقوله: (بَعْدَ ذَلِكَ) هكذا في رواية المصنّف، والنسائيّ، والظاهر أن مرجع اسم الإشارة ما دلّت عليه أحاديث الباب، أي بعدما أُوحى إليه بعذاب القبر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(1)
"المفهم" 2/ 207 - 208.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 1323](585)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(2061) وفي "الكبرى"(2188)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1296)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1324]
(586) - (حَدَّثَنَا
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَتَا: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، قَالَتْ: فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا، وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَجُوزَيْنِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ دَخَلَتَا عَلَيَّ، فَزَعَمَتَا أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَقَالَ: "صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ
(2)
عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ"، قَالَتْ
(3)
: فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلَّا يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
3 -
(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(مَنْصُور) بن المعتمر، تقدّم قبل باب.
5 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "ليُعذّبون".
(3)
وفي نسخة: "ثمّ قالت".
6 -
(مَسْرُوق) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابد مخضرم [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ) تثنية عَجُوز، ووقع في رواية النسائيّ:"عجوزتان" بتاء التأنيث، والأول هو المشهور عند اللغويين، قال ابن السكّيت: الْعَجُوز: المرأة المسنّة، ولا يؤنّث بالهاء.
والثانية أيضًا جائزة عند بعض اللغويين، فقد قال ابن الأنباريّ: ويقال أيضًا: عَجوزة بالهاء، لتحقيق التأنيث، ورُوي عن يونس أنه قال: سمعت العرب، تقول: عَجُوزة بالهاء. قاله في "المصباح".
وقولها: (مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ) -بضم العين المهملة، والجيم، بعدها زاي-: جمع عَجُوز، مثل عَمُود، وعُمُد، ويجمع أيضًا على عجائز (فَقَالَتَا: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ) والظاهر أنهما أخذتا هذا من أحبار اليهود (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَكَذَّبْتُهُمَا) ظنًّا منها أن هذا مما كذبه اليهود (وَلَمْ أُنْعِمْ) بضم الهمزة، وإسكان النون، وكسر العين المهملة، من الإنعام، رباعيًّا، يقال: أنعمتُ له -بالألف-: إذا قلتَ له: نَعَم، قال النوويّ رحمه الله: أي لم تَطِبْ نفسي أن أُصدّقهما، ومنه قولهم في التصديق: نَعَم، وقولها:(أَنْ أُصَدِّقَهُمَا)"أن" مصدريّةٌ، والمصدر المؤوّل مفعول به لـ "أُنْعِم"، والمراد أنها لم تصدّقهما أوّلًا؛ لظهور كذب اليهود، وافتراءاتهم في الدين، وتحريفهم الكتاب، كما أخبر اللَّه تعالى بذلك، فقال:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، وقال:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] الآية.
(فَخَرَجَتَا) أي العجوزان من البيت (وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَجُوزَيْنِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ دَخَلَتَا عَلَيَّ، فَزَعَمَتَا) أي قالتا، وقد تقدّم أن زعم أكثر ما يُستعمل فيما كان باطلًا، أو فيه ارتياب، وهو هنا كذلك، بناء على ظنّ عائشة رضي الله عنها (أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ) بالبناء للمفعول (فِي قُبُورِهِمْ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صَدَقَتَا) ظاهر هذا أن هذه الواقعة غير الواقعة السابقة؛
لأنه فيها أنه صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك، فتكون هذه بعدما أُوحي إليه، فقوله:(إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ) وفي نسخة: "ليُعذّبون" الضمير فيه لأهل القبور.
ويَحْتَمِل أن تتّحد الواقعتان، فيكون قبل أن يوحَى إليه، ويكون الضمير في قوله:"إنهم يعذّبون" لليهود، والوجه الأول أقرب وأظهر، واللَّه تعالى أعلم.
قال الكرمانيّ رحمه الله: لعله سَمَّى أحوال العباد في القبر تعذيبًا؛ تغليبًا لفتنة العاصي على فتنة المطيع؛ لأجل التخويف، ولأن القبر مقام الهول والوحشة، ولأن ملاقاة الملائكة مما يَهاب منه ابن آدم في العادة. انتهى.
(عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ") جمع بهيمة، قال في "المصباح": البَهيمة: كلُّ ذات أربع، من دوابّ البحر والبرّ، وكلُّ حيوان لا يُميِّز، فهو بهيمة، والجمع بَهَائم. انتهى
(1)
. (قَالَتْ) وفي نسخة: "ثمّ قالت"، أي عائشة رضي الله عنها (فَمَا) نافية (رَأَيْتُهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ كما مرّ في الحديث الماضي، أي بعد هذه الواقعة، وفي الرواية التالية:"وما صلّى صلاةً بعد ذلك إلا سمعته يتعوّذ من عذاب القبر"(فِي صَلَاةٍ إِلَّا يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) أي لأنه أوحي إليه به.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّمت مسائله في الحديث الماضى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1325]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(2)
هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِيهِ قَالَتْ: وَمَا صَلَّى صَلَاةً بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا سَمِعْتُهُ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مصعب التميميّ، أبو السَّرِيّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) عن (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 65.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثني".
2 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ فاضلٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(أَشْعَثُ) بن أبي الشعثاء المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 125)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.
4 -
(أَبُوهُ) سُليم بن الأسود بن حنظلة المحاربيّ، أبو الشعثاء الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](83)(ع) تقدم في "الطهارة" 19/ 622.
وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) أي بحديث عائشة رضي الله عنها الماضي.
[تنبيه]: رواية أشعث، عن أبيه، عن مسروق هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(25) - (بَابُ الأَشْيَاءِ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1326]
(587) - (حَدَّثَنى
(1)
عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(2)
أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(صَالِح) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4](ت بعد 130 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه ومسائله تأتي بعد حديث، أخّرتها إلى هناك؛ لكونه أتمّ مما هنا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1327]
(588) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ").
[تنبيه]: كذا وقع في النسخ الموجودة عندي كلِّها تقديم حديث أبي هريرة هذا على حديث عائشة الآتي بعده، وكان الأولى تأخيره عنه؛ ليتوالى حديثاها، ولعله من تصرّف النسّاخ، واللَّه تعالى أعلم.
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِي) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(ابْنُ نمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
4 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) ذكر في السند الماضي.
5 -
(وَكِيع) بن الجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
6 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمر الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
7 -
(حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ) الْمُحاربيّ مولاهم، أبو بكر الدمشقيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [4].
رَوَى عن أبي أمامة، وعنبسة بن أبي سفيان، وخالد بن معدان، ومحمد بن أبي عائشة، وغيرهم.
ورَوَى عنه الأوزاعيّ، وأبو غسّان المدني، والوليد بن مسلم، وغيرهم.
قال حنبل عن أحمد، وعثمانُ الدارميُّ عن ابن معين: ثقةٌ. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان قدريًّا. وقال سعيد بن عبد العزيز: هو قدريّ، فبلغ ذلك الأوزاعيّ، فقال: ما أغرّ سعيدًا باللَّه، ما أدركت أحدًا أشدّ اجتهادًا، ولا أعمل منه. وقال الجُوزجانيّ: كان ممن يتوهم عليه القدر. وقال العجلي: شامي ثقةٌ. وقال الأوزاعيّ: كان حسّان يتنحّى إذا صلّى العصر في ناحية المسجد، فيذكر اللَّه حتى تغيب الشمس. وقال خالد بن نزار: قلت للأوزاعيّ: حسّان بن عطيّة عمن قال؟ فقال لي: مثل حسّان كنا نقوله عمن؟. وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكره البخاريّ في "الأوسط" في فصل من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة، وقال: كان أفضل أهل زمانه.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
8 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَائِشَةَ) المدني مولى بني أُميّة، سكن دِمَشق، خرج إليها مع بني أميّة حين أخرجهم ابن الزبير، يقال: اسم أبيه عبد الرحمن، حجازيّ ليس به بأس [4].
رَوَى عن أبي هريرة، وجابر، وعمن صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
ورَوَى عنه حسّان بن عطيّة، وأبو قلابة، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبو إسحاق الحجازيّ، شيخ لبقيّة. قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقةٌ. وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وذكره ابن حبّان في "الثقات". وذكر ابن أبي حاتم أنه أخو موسى بن أبي عائشة، وقال: سألت أبي عنه؟، فقال: ليس بمشهور، قليل الحديث. انتهى.
قال الحافظ: وقع له -أي لابن أبي حاتم- وَهَمٌ في ذكر الرواة عنه، ؤذلك أنه صحّف أبا قلابة، فقال: روى عنه أبو عوانة، ثمّ ضمّ إليه شعبة، والثوريّ، وهؤلاء إنما رووا عنه بواسطة، فسبحان من لا يسهو. انتهى.
أخرج له البخاري في "جزء القراءة" حديثًا واحدًا، والباقون إلا الترمذي، له عندهم حديث الباب، وعند أبي داود حديث آخر:"ذهب أصحاب الدُّثُور بالأُجُور، يصلّون كما نصلي. . . " في الذكر عقب الصلاة، واللَّه تعالى أعلم.
9 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، سكن اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
10 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثر فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
11 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه زهير، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخيه: نصرًا، وأبا كريب من المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الأصول الستّة دون واسطة، وقد جمعتهم بقولي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأَصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينِ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْعَلَاءِ وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
وقد تقدّموا غير مرّة، وإنما أعدتهم تذكيرًا؛ لطول العهد بهم.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: حسّان، عن محمد بن أبي عاشة.
5 -
(ومنها): أن للأوزاعيّ فيه سندان: حسّان، عن محمد بن أبي عائشة، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، فقوله:"وعن يحيى. . . إلخ" عطف على قوله: "عن حسّان. . . إلخ".
6 -
(ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهم الذين جمعهم الحافظ العراقيّ رحمه الله في قوله:
وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
…
خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ
ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللَّهِ
…
سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ
إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ
…
أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمٌ
وقد تقدّموا أيضًا غير مرّة، وإنما أعدتهم تذكيرًا؛ لطول العهد بهم.
7 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ) وفي رواية الوليد، عن الأوزاعيّ الآتية:"إذا فرغ أحدكم من التشهّد الآخر. . . " ومعناه آخر الصلاة، فيَشْمَل ما فيه تشهد واحد، كالصبح، وفيه تقييد لحديث عائشة رضي الله عنها المذكور بعده:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر. . . "، فَبَيَّن في هذا الحديث أن التعوذ يكون في آخر الصلاة.
وفيه ردّ على ابن حزم فيما ذهب إليه من وجوب التعوّذ أيضًا في التشهّد الأول.
قال النوويّ رحمه الله: فيه التصريح باستحبابه في التشهد الأخير، والإشارة إلى أنه لا يُسْتَحَبُّ في الأول، وهكذا الحكم؛ لأن الأوّل مبنيّ على التخفيف. انتهى
(1)
.
(فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ظاهره وجوب الاستعاذة من هذه الأربع، وإليه ذهب طاووس، حيث أمر ابنه بإعادة الصلاة لتركها، كما سيذكره المصنّف آخر الباب، وهو مذهب ابن حزم، وحمله الجمهور على الندب، وادَّعَى بعضهم الإجماع على الندب، وهو لا يتمّ مع مخالفة من ذكر.
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: والحقّ الوجوب، إن علم تأخّر هذا الأمر عن حديث المسيء صلاته؛ لما عرّفناك في شرحه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله الشوكانيّ رحمه الله هو الحقّ، واللَّه تعالى أعلم.
(مِنْ أَرْبَعٍ) أي من أربع خصال، قال في "المرعاة": ينبغي أن يزاد على هذه الأربع التعوّذ من المأثم والمغرم المذكورين في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي بعد هذا
(2)
.
وقوله: (يَقُولُ) تفسير لتلك الخصال الأربع، مع بيان الصيغة التي تقال (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ) قال ابن الأثير رحمه الله: هي لفظة أعجميّة، اسم لنار الآخرة، وقيل: هي عربيّة، وسُمّيت بها لبعد قعرها، ومنه: ركِيّةٌ جِهِنَّامٌ -بكسر الجيم والهاء والتشديد-: أي بعيدة القعر، وقيل: تعريب كِهِنَّام بالعِبرانيّ. انتهى
(3)
.
وإنما قُدِّم التعوذ من عذاب جهنم؛ لكونه أشدّ وأبقى (وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) هو ضرب من لم يُوَفَّق للجواب عند السؤال بمقامع من حديد، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "العبد إذا وُضع في قبره، وتولى وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد اللَّه ورسوله،
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 87 - 88.
(2)
"المرعاة" 3/ 294.
(3)
"النهاية" 1/ 323.
فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك اللَّه به مقعدًا من الجنة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعًا، وأما الكافر أو المنافق، فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دَرَيتَ، ولا تَلَيتَ، ثم يُضْرَب بِمِطرَقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين".
وقال الإمام أحمد في "مسنده"(10617): حدّثنا أبو عامر، حدثنا عَبّاد -يعني ابن راشد- عن داود بن أبي هند، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جنازةً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس إن هذه الأُمة تُبْتَلَى في قبورها، فإذا الإنسان دُفن، فتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك في يده مِطراق فاقعده، قال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: صدقت، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا كان منزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت، فهذا منزلك، فَيُفْتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض إليه، فيقول له: اسكن، ويُفْسَح له في قبره، وإن كان كافرًا أو منافقًا، يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا، فيقول: لا دَرَيتَ ولا تَلَيتَ، ولا اهتديت، ثم يُفْتَح له باب إلى الجنة، فيقول: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت به فان اللَّه عز وجل أبدلك به هذا، ويُفْتَح له باب إلى النار، ثم يَقْمَعه قمعة بالْمِطْرَاق، يسمعها خلق اللَّه كلهم غير الثقلين"، فقال بعض القوم: يا رسول اللَّه ما أحدٌ يقوم عليه ملك في يده مِطْراق إلا هُبِلَ
(1)
عند ذلك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]. انتهى.
وغير ذلك من أنواع العذاب، كشدّة الضغط، فقد ورد أنه يُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه
(2)
.
(وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) قال أهل اللغة: الفتنة: الامتحان والاختبار،
(1)
أي سقط، ووقع من الرعب والخوف.
(2)
حديث صحيح أخرجه أحمد، وصححه ابن خزيمة من حديث البراء رضي الله عنه الطويل.
قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يُكره. انتهى. وتُطلَق على القتل، والإحراق، والنميمة، وغير ذلك.
و"المحيا" بالقصر مَفْعَل من الحياة، كالْمَمَات من الموت، والمراد: الحياة والموت، ويَحْتَمِل أن يريد زمان ذلك، ويريد بذلك مِحنة الدنيا وما بعدها، ويَحْتَمِل أن يريد بذلك حالة الاحتضار، وحالة المسألة في القبر، وكأنه استعاذ من فتنة هذين المقامين، وسأل التثبيت فيهما. قاله القرطبيّ رحمه الله.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: فتنة المحيا ما يَعرِض للإنسان مدّة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها -والعياذ باللَّه- أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يُراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز أن بها فتنة القبر، وقد صحّ -يعني في حديث أسماء الآتي في "الكسوف":"ولأنه قد أُوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور قريبًا، أو مثل فتنة المسيح الدجّال"، ولا يكون مع هذا الوجه متكرّرًا مع قوله:"عذاب القبر"؛ لأن العذاب مترتب عن الفتنة، والسبب غير المسبب.
وقيل: أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الْحَيْرة، وهذا من العامّ بعد الخاصّ؛ لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجّال داخلة تحت فتنة المحيا.
وأخرج الحكيم الترمذيّ في "نوادر الأصول" عن سفيان الثوريّ أن الميت إذا سئل "من ربّك" تراءى له الشيطان، فيُشير إلى نفسه إنّي أنا ربّك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل، ثمّ أخرج بسند جيّد إلى عمرو بن مرّة:"كانوا يستحبّون إذا وُضع الميت في القبر أن يقولوا: اللَّهم أعذه من الشيطان"، قاله في "الفتح".
(وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ") قيل: أَخَّره؛ لأنه إنما يقع في آخر الزمان قربَ الساعة.
قال القاري رحمه الله: قيل: له شرّ وخير، فخيره أن يزداد المؤمن إيمانًا، ويقرأ ما هو مكتوب بين عينيه، من أنه كافر، فيزداد إيمانًا، وشرّه أن لا يقرأه الكافر، ولا يعلمه. انتهى.
و"المسيح" -بفتح الميم، وتخفيف المهملة المكسورة، وآخره حاء مهملة- يُطْلَق على الدجّال، وعلى عيسى ابن مريم عليه السلام ولكن إذا أريد الدجّال قُيّد به.
وقال أبو داود في "السنن": "الْمِسِّيح" مثقّلًا: الدجّال، ومخففًا: عيسى، والمشهور الأول. وأما ما نقل الفِرَبْرِيّ في رواية المستملي وحده عنه، عن خلف بن عامر، وهو الهمداني أحد الحُفّاظ أن المسيح بالتشديد والتخفيف واحد، يقال للدجّال، ويقال لعيسى، وأنه لا فرق بينهما بمعنى لا اختصاص لأحدهما بأحد الأمرين، فهو رأي ثالث.
وقال الجوهريّ: من قال بالتخفيف فلمسحه الأرض، ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين، وحكى بعضهم أنه قال بالخاء المعجمة في الدّجّال، ونُسِب قائله إلى التصحيف.
واختُلِف في تلقيب الدجّال بذلك، فقيل: لأنه ممسوح العين، وقيل: لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا، لا عين فيه، ولا حاجب، وقيل: لأنه يَمْسَح الأرض إذا خرج.
وأما عيسى عليه السلام فقيل: سُمّي بذلك لأنه خَرَج من بطن أمّه ممسوحًا بالدهن، وقيل: لأن زكريّا مسحه، وقيل: لأنه كان لا يَمسح ذا عاهة إلّا برئ، وقيل: لأنه كان يَمسح الأرض بسياحته، وقيل: لأن رجله كانت لا أخمص لها، وقيل: للبسه المسوح، وقيل: هو بالعبرانية ماشيخا، فَعُرِّب المسيحَ، وقيل: المسيح الصدّيق، وذكر صاحب "القاموس" أنه جمع في سبب تسمية عيسى بذلك خمسين قولًا، أوردها في "شرح المشارق".
و"الدّجّال": الخَدّاع الكَذّاب. فَعّال، من الدَّجل، وهو الخدع، والكذب، والتغطية، والمراد به هنا الكذّاب المعهود الذي سيظهر في آخر الزمان، وفي معناه كلُّ مفسد مضلّ.
والمراد بفتنة المسيح الدجّال هي ما يَظْهَر على يديه من الخوارق للعادة التي يُضِلّ بها مَن ضعف إيمانه، كما اشتملت عليه الأحاديث الكثيرة التي بيّنت خروجه في آخر الزمان، وما يَظهر معه من تلك الأمور، أعاذنا اللَّه تعالى من شر فتنته، بمنّه وكرمه آمين.
زاد في رواية النسائيّ من طريق عيسى بن يونس، عن الأوزاعيّ:"ثمّ يدعو لنفسه بما بدا له".
وهذا مما يؤكّد أن الأمر بالتعوذ من الأمور الأربعة للوجوب، حيث خيّر المصلي أن يدعو بما يشاء هنا، بخلاف ما تقدّم، فقد أمره دون تخيير، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 1327 و 1329 و 1330 و 1331 و 1332 و 1333 و 1334 و 1335](588)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1377)، و (أبو داود) في "الصلاة"(983)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3604)، و (النسائيّ) في "السهو"(1310) وفي "الكبرى"(1233)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(909)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 190)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 469 و 482)، و (الدارميّ) في "سننه"(1350 و 1351)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(648 و 657)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(207)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(721)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1002 و 1018 و 1019 و 1967)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2043 و 2044 و 2045)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1301 و 1302 و 1303 و 1304 و 1305 و 1306 و 1307)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 154)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(693)، واللَّه تعالى أعلم.
وفوائد الحديث تأتي في الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1328]
(589) - (حَدَّثَنِي
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ،
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ"، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:"إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4). تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ، الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
3 -
(شُعَيْب) بن أبي حمزة، اسم أبيه دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
والباقون تقدّموا قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن نصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين، والأول حمصيّون، سوى شيخه، فبغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الراوي عن خالته.
5 -
(ومنها): أن فيه عروةَ أحد الفقهاء السبعة، وعائشة من المكثرين السبعة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، وقوله:(زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) منصوب على أنه بدل، أو عطف بيان لـ "عائشة"، والزوج بلا هاء يطلق على الرجل والمرأة على اللغة الفصحى، وبها جاء القرآن، قال اللَّه تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، وقد يقال للمرأة: زوجة بالهاء (أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ) هذا مطلق لا يخصّ محلًّا من الصلاة، لكن يُعَيِّن أنه بعد التشهّد الأخير ما يأتي للمصنّف في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، بلفظ:"إذا فرغ أحدكم من التشهّد الأخير، فليتعوذ باللَّه من أربع. . . " فذكره، ويُعيّنه أيضًا ما أخرجه أحمد في "مسنده"
(1)
، وصححه ابن خزيمة -واللفظ له- من رواية ابن جُريج، أخبرني عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، أنه كان يقول بعد التشهد كلماتٍ، يعظّمهنّ جدًّا، قلت: في المثنى كليهما؟، قال: بل في المثنّى الأخير بعد التشهّد،، قلت: ما هو؟، قال:"أعوذ باللَّه من عذاب القبر، وأعوذ باللَّه من عذاب جهنّم، وأعوذ باللَّه من شرّ المسيح الدّجّال، وأعوذ باللَّه من عذاب القبر، وأعوذ باللَّه من فتنة المحيا والممات"، قال: كان يعظّمهنّ.
قال ابن جريج: أخبرنيه عن أبيه، عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ففي هذا تعيين هذه أن محلّ هذه الاستعاذة بعد الفراغ من التشهّد الأخير، فيكون سابقًا على غيره من الأدعية، وما ورد الإذن فيه أن المصلي يتخيّر من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة، وقبل السلام
(2)
.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) تقدّم شرحه في الحديث الماضي (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي الحياة والموت، ويَحْتَمِل زمان ذلك؛ لأن كلّ ما كان معلَّ العين من الثلاثيّ، فقد يأتي منه المصدر، والزمان، والمكان بلفظ واحد، ويريد بذلك مِحْنة الدنيا وما بعدها، ويَحْتَمِل أن يُريد بذلك حالة الاحتضار، وحالة المسألة في القبر، فكأنه لَمّا استعاذ من فتنة هذين المقامين سأل التثبيت
(1)
راجع: "المسند" 6/ 250.
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 371.
فيهما، كما قال اللَّه تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، واللَّه تعالى أعلم
(1)
.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ) أي مما يَأْثَم به الإنسان، أو مما فيه إثم، أو مما يوجب الإثم، أو الإثم نفسه، مصدر وُضع موضع الاسم.
(وَالْمَغْرَمِ) قال ابن الأثير رحمه الله: هو مصدر وُضع موضع الاسم، يريد به مغرم الذنوب والمعاصي. وقيل: المغرم كالغُرْم، وهو الدين، ويريد به ما استُدين فيما يكرهه اللَّه، أو فيما يجوز، ثمّ عَجَز عن أدائه، فأما دين احتاج إليه، وهو قادر على أدائه، فلا يُستعاذ منه. انتهى.
وقال الحافظ رحمه الله: المغرم الدين، يقال: غَرِم -بكسر الراء- أي ادَّانَ، قيل: المراد به ما يُستدان فيما لا يجوز، أو فيما يجوز، ثم يَعْجِز عن أدائه، ويَحْتَمِل أن يراد به ما هو أعمّ من ذلك، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين.
وقال القرطبيّ رحمه الله: المغرم الغُرْم، وقد نَبّه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم. انتهى.
وقال السنديّ رحمه الله بعد ذكر الأقوال السابقة: قلت: والظاهر أن المراد ما يُفضي إلى المعصية بسببٍ ما. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله السنديّ رحمه الله هو الصواب؛ ويؤيّده آخر الحديث، حيث بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن المغرم يترتّب عليه الكذب، وخُلْف الوعد، وهاتان من أخلاق المنافقين، وأما ما خلا عن ذلك فليس محلّ الاستعاذة؛ إذ الدين ليس مذمومًا على إطلاقه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى اللَّهُ عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه اللَّه".
وقد أخرج الإمام أحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها أنها كانت تَدَّانُ وتُكثر، فقال لها أهلها في ذلك، ولاموها، ووجدوا عليها، فقالت: لا أترك الدين، وقد سمعت خليلي وصفيي صلى الله عليه وسلم يقول:
(1)
"المفهم" 2/ 208.
"ما من أحد يَدَّانُ دَيْنًا، فعلم اللَّه أنه يريد قضاءه، إلا أداه اللَّه عنه في الدنيا"
(1)
.
ولفظ ابن ماجه: كانت تَدّان دَينًا، فقال لها بعض أهلها: لا تفعلي، وأنكر ذلك عليها، قالت: بلى، إني سمعت نبيي وخليلي صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من مسلم يَدّان دينًا يعلم اللَّه منه أنه يريد أداءه، إلا أداه اللَّه عنه في الدنيا".
فتبيّن بهذا أن الدين ليس مذمومًا إلا إذا ساءت نيّة الإنسان، فعند ذلك يُذمّ، ويكون ذنبًا يعاقبه اللَّه تعالى عليه، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج الحاكم في "مستدركه"(2/ 24)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الدين راية اللَّه في الأرض، فإذا أراد أن يُذِلّ عبدًا وضعها في عنقه"، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. انتهى.
وهذا من تساهلاته، فقد تعقّبه الحافظ الذهبيّ رحمه الله، بأن في سنده بشر بن عبيد الدارسيّ، وهو وَاهٍ، وقال الشيخ الألبانيّ: إنه موضوع
(2)
.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ) هي عائشة رضي الله عنها، كما بينته رواية النسائيّ من طريق معمر، عن الزهريّ، ولفظها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر ما يتعوّذ من الْمَغْرَم والْمَأْثَم، قلت: يا رسول اللَّه، ما أكثر ما تتعَوَّذ من المغرم؟، قال:"إنه مَن غَرِمَ حَدّث، فكَذَب، ووَعَد فأخلَفَ".
(مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)"ما" الأولى تعجبية، و"أَكْثَرَ" -بفتح الراء- فِعْلُ تعجب، و"ما" الثانية مصدريّة، والمصدر المؤوّل منصوب على أنه مفعولُ فِعْلِ التعجّب، كأن هذا القائل رأى أن الدين إنما يتعلق بضيق الحال، ومثله لا يَحْتَرِز عنه أصحاب الكمال، قاله السنديّ رحمه الله.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم جوابًا عن هذا السوال ("إِنَّ الرَّجُلَ) المراد الجنس، وغالب حاله، ومثله المرأة (إِذَا غَرِمَ) -بكسر الراء- من باب تَعِبَ: أي لزمه دين، والمراد استدان، واتَّخَذَ ذلك دأبه وعادته، كما يدلّ عليه السياق (حَدَّثَ)
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ دون قوله "في الدنيا"، وهو كذلك لأنه يشهد له ما تقدّم من "صحيح البخاريّ".
(2)
راجع: "السلسلة الضعيفة" 1/ 686.
-بتشديد الدّال- أي أخبر عن ماضي الأحوال لتمهيد عذره في التقصير (فَكَذَبَ) بفتح الذال المخفّفة، قال الفيّومي: كَذَبَ يَكْذِبُ كَذِبًا، بفتح، فكسر، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وسكون الذال، فالكذِبُ هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواءٌ فيه العمد والخطأُ، ولا واسطة بين الصدق والكذب على مذهب أهل السنّة، والإثم يَتْبَعُ العمد. انتهى
(1)
.
والمعنى هنا: أنه يُحدّث ربّ الدين إذا تقاضاه، ولم يُحْضِر ما يُؤدِّي به دينه، فيكذب عليه؛ ليتخلص من يده، ويقول له: لي مال غائبٌ إذا حضر أُؤدِّي دينك منه، وليس له مالٌ، وإنما يريد التخلّص منه.
(وَوَعَدَ) أي في المستقبل بأن يقول: أعطيك غدًا، أو في المدّة الفلانية (فَأَخْلَفَ") في وعده.
وبما تقرّر عُلم أن "غرم" فعل شرط، و"حدّث" جزاؤه، و"كذب" عطف على الجزاء مرقب عليه، و"وعد" عطف على "حدّث"، لا على "غَرِم"، و"أخلف" مرتب عليه.
وحاصل الجواب أن الدَّين يُؤدِّي إلى خلل بالدِّين، فلذلك وقعت العناية بالمسألة.
واستُشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذُكِر مع أنه معصومٌ مغفورٌ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر.
وأجيب بأجوبة:
(أحدها): أنه قَصَد التعليم لأمته.
(ثانيها): أن المراد السؤال منه لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي.
(ثالثها): سلوك طريق التواضع، وإظهار العبوديّة، ولزوم خوف اللَّه، وإعظامه، والافتقار إليه، وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقُّق الإجابة؛ لأن ذلك يُحصّل الحسنات، ويَرْفَع الدرجات، وفيه تحريض
(1)
"المصباح المنير" 2/ 528.
لأمته على ملازمة ذلك؛ لأنه إذا كان صلى الله عليه وسلم مع تحقّق المغفرة له لا يترك التضرّع، فمن لم يتحقّق له ذلك أحرى بالملازمة.
وأما الاستعاذة من فتنة الدجّال مع تحققه أنه لا يُدْرِكه، فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث يَحْتَمِل أن يكون ذلك قبل تحقُّق عدم إدراكه، ويدلّ عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم:"إن يَخرُج، وأنا فيكم، فانا حجيجه. . . " الحديث، أفاده في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 1326](587) و [25/ 1328](589)، و (البخاريّ) في "الأذان"(832) و"الاستقراض"(2397) و"الدعوات"(6368 و 6375 و 6376 و 6377) و"الفتن"(7129)، و (أبو داود) في "الصلاة"(880)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3495)، و (النسائيّ) في "السهو"(1309) و"الاستعاذة"(5454 و 5472) وفي "الكبرى"(1232)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3838)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 188 - 189)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 88 - 89 و 244)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(852)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1968)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعية الدعاء بهذا الدعاء في الصلاة.
2 -
(ومنها): إثبات عذاب القبر، خلافًا لمن نفاه من المعتزلة، والتعوّذ منه.
3 -
(ومنها): إثبات وجود الدجّال، وإثبات خروجه، وفتنته الناس.
4 -
(ومنها): التعوذ من فتنة الأشياء المذكورة فيه، وسؤال اللَّه تعالى في دفعها.
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 372.
5 -
(ومنها): تعظيم شأن الدَّينِ، وأنه سبب للوقوع في الإثم، من الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، وهما من صفات المنافقين.
6 -
(ومنها): الاستعاذة من الدين؛ لأنه يَشين في الدنيا والآخرة إذا خلا عن نيّة صالحة في قضائه، كما سبق بيانه قريبًا.
7 -
(ومنها): ما قاله المهلّب رحمه الله: يُستفاد منه سدّ الذرائع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الدين؛ لأنه في الغالب ذريعة إلى الكذب في الحديث، والخلف في الوعد مع ما لصاحب الدين من المقال، ولا تناقض بين الاستعاذة من الدين، وجواز الاستدانة؛ لأن الذي استُعيذ منه غوائل الدين، فمن ادّان وسَلِم منها، فقد أعاذه اللَّه تعالى، وفَعَل جائزًا. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): أن في سماع عائشة رضي الله عنها دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاته دليلًا على أنه كان أحيانًا يُسمع من يليه دعاءه، كما كان أحيانًا يُسمع من يليه الآية من القرآن
(2)
.
9 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: ودعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستعاذته من هذه الأمور التي قد عُوفي منها، وعُصِم إنما فعله ليلتزم خوفَ اللَّه تعالى، وإعظامه، والافتقار إليه، ولتقتدي به أمته، وليبين لهم صفة الدعاء، والمهتم منه. انتهى.
10 -
(ومنها): ما قاله في "العمدة": [فإن قلت]: قوله: "فتنة المحيا والممات" يَشْمَل جميع ما ذُكِر، فلأيّ شيء خُصِّصت هذه الأشياء الأربعة بالذكر؟.
[قلت]: لعظم شأنها، وكثرة شرّها، ولا شك أن تخصيص بعض ما يَشْمَله العامّ من باب الاعتناء بأمره؛ لشدة حكمه، وفيه أيضًا عطف العامّ على الخاصّ، وذلك لفَخَامة أمر المعطوف عليه، وعِظَم شأنه، وفيه اللفّ والنشر الغير المرتَّب؛ لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال تحت فتنة المحيا.
(1)
راجع: "الفتح" 5/ 61.
(2)
راجع: "فتح الباري" لابن رجب 7/ 339.
[فإن قلت]: ما فائدة تعوذه صلى الله عليه وسلم هذه الأمور التي قد عُصِم منها؟.
[قلت]: إنما ذلك ليلتزم خوف اللَّه تعالى، ولتقتدي به الأمة، وليبين لهم صفة الدعاء.
[فإن قلت]: سَلّمنا ذلك، ولكن ما فائدة تعوذه من فتنة المسيح الدجال، مع علمه بأنه متأخر عن ذلك الزمان بكثير؟.
[قلت]: فائدته أن ينتشر خبره بين الأمة من جيل إلى جيل، وجماعة إلى جماعة، بأشه كذّاب مُبطِل مُفْتَرٍ سَاعٍ على وجه الأرض بالفساد، مُمَوِّه ساحرٌ حتى لا يلتبس على المؤمنين أمره عند خروجه، عليه اللعنة، ويتحققوا أمره، ويعرفوا أن جميع دعاويه باطلةٌ، كما أخبر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون هذا تعليمًا منه صلى الله عليه وسلم لأمته، أو تعوُّذًا منه لهم.
[فإن قلت]: يعارض التعوّذ باللَّه عن المغرم ما رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن جعفر، يرفعه:"إن اللَّه تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه، ما لم يكن فيما يكرهه اللَّه تعالى"
(1)
، وكان ابن جعفر يقول لخادمه: اذهب فخذ لي بدَين، فإني أكره أن أبيت الليلة إلّا واللَّه معي، قال الطبرانيّ: وكلا الحديثين صحيح.
[قلت]: المغرم الذي استعاذ منه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون في مباح، ولكن لا وجه عنده لقضائه، فهو مُتَعَرِّضٌ لهلاك مال أخيه، أو يستدين، وله إلى القضاء سبيلٌ، غيرَ أنه يَرَى ترك القضاء، وهذا لا يصحّ إلّا أذا نُزِّل كلامه صلى الله عليه وسلم على التعليم لأمته، أو يستدين من غير حاجة؛ طمعًا في مال أخيه، ونحو ذلك، وحديث جعفر رضي الله عنه فيمن يستدين لاحتياجه احتياجًا شرعيًّا، ونيته القضاء، وإن لم يكن له سبيلٌ إلى القضاء. انتهى ما في "العمدة"
(2)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، ومرّ البحث قريبًا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
أخرجه ابن ماجه، والدارميّ بسند حسن، وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، انظر:"السلسلة الصحيحة" 2/ 701.
(2)
"عمدة القاري" 6/ 168.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1329]
(588) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ
(2)
الدَّجَّالِ").
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا طريق ثانٍ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، وقد تقدّم أن الأولى تقديم حديث عائشة رضي الله عنها المذكور قبل هذا إلى حديثها أول الباب، وذكر أحاديث أبي هريرة منسّقةً، كما لا يخفى.
ورجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا قبل حديث، سوى:
1 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبي العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
وقوله: ("إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ) فيه بيان محلّ التعوّذ من هذه الأربع، وهو بعد التشهّد الآخر، وفيه ردّ على ابن حزم، حيث أوجبه في التشهّد الأول أيضًا.
وقوله: (مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ. . . إلخ) بدل من الجارّ والمجرور قبله، بدل تفصيل من مجمل.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1330]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ:
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "ومن فتنة المسيح".
(ح) وحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ، جَمِيعًا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ
(1)
: "إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الْآخِرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير، أبو صالح البغداديّ الْقَطَريّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
2 -
(هِقْلُ بْنُ زِيادٍ) السَّكْسَكيّ الدمشقيّ، نزيل بيروت، قيل: هِقْلٌ لقب، واسمه محمد، أو عبد اللَّه، وكان كاتب الأوزاعيّ، ثقةٌ مُتقنٌ [9](ت 179) أو بعدها (م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1099.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) -بوزن جعفر- المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
4 -
(عِيسَى بْنَ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
وقوله: (جَمِيعًا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني أن كلًّا من هِقْل بن زياد، وعيسى بن يونس روياه عن الأوزاعيّ، بالإسناد الماضي، وهو عن حسّان بن عطيّة، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية هقل، وعيسى لم أجد من ساقهما بمفردهما، إلا ما ساقه أبو نعيم، في "مستخرجه" (2/ 186) فقال:
(1301)
حدّثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن إسحاق ابن راهويه، ثنا أبي، ثنا عيسى بن يونس (ح) وحدّثنا علي بن هارون، ثنا جعفر الفريابيّ، ثنا سليمان بن عبد الرحمن، ثنا الْهِقْل بن زياد (ح) وحدّثنا عبد اللَّه بن محمد، ومحمد بن إبراهيم قالا: ثنا أحمد بن عليّ، ثنا أبو خيثمة، ثنا وكيع (ح) وحدّثنا أبو جعفر، محمد بن الحسن اليقطينيّ، ثنا أبو يحيى الخزيميّ، ثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد بن مسلم (ح) وحدّثنا أبو بكر بن مالك، ثنا
(1)
وفي نسخة: "وقالا".
عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، ثنا الوليد بن مسلم، قالوا: ثنا الأوزاعيّ، ثنا حسان بن عطية، حدّثني محمد بن أبي عائشة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ باللَّه من الأربع، من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وشر المسيح الدجال"، قال: لفظهم واحد. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال أبو نعيم: إن لفظهم واحد، وهو مخالف لقول المصنّف:"ولم يذكر الآخر"، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1331]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَام، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَشَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِنِ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر، أبو بكر البصريّ الدستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقون ذُكروا في هذا الباب، و"يحيى": هو ابن أبي كثير، و"أبو سلمة": هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه يُعلم مما سبق، وكذا مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1332]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، عُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، عُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، عُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقَان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل باب.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار، تقدّم قبل باب أيضًا.
4 -
(طاووسُ) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 106)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
وقوله: (عُوذُوا بِاللَّهِ. . . إلخ) أمر من عاذ كقال، أي اطلبوا منه العصمة، يقال: استعذتُ باللَّه، وعُذْتُ به مَعَاذًا، وعِيَاذًا: اعتصمتُ به
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم تمام شرحه، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1333]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا في السند الماضي، غير:
1 -
(ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبد اللَّه بن طاوس بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
"المصباح" 2/ 437.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل حديث أبي هريرة الماضي.
[تنبيه]: رواية ابن طاوس هذه ساقها الحميديّ في "مسنده"(2/ 432)، فقال:
(980)
حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عُوذوا باللَّه من عذاب اللَّه، عوذوا باللَّه من فتنة المحيا والممات، عوذوا باللَّه من عذاب القبر، عوذوا باللَّه من فتنة المسيح الدجال". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1334]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(ح م د ت س) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو قبلها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
3 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
[تنبيه]: رواية الأعرج هذه ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:
(5516)
أخبرنا محمد بن منصور، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "عُوذُوا باللَّه من عذاب اللَّه، عُوذوا باللَّه من عذاب القبر، عُوذوا باللَّه من فتنة المحيا والممات، عُوذوا باللَّه
من فتنة المسيح الدجال". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1335]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ بُدَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ جَهَنَّمَ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج تقدّم قبل بابين.
3 -
(بُدَيْل) بن ميسرة الْعُقيليّ البصريّ [5](ت 125 أو 135)(م 4) تقدم في "الصلاة" 47/ 1115.
4 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَفِيقٍ) الْعُقيليّ البصريّ، ثقةٌ فيه نصبٌ [3](ت 108)(عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.
والباقيان تقدّما في الباب.
والحديث أخرجه النسائيّ في "كتاب الاستعاذة"(8/ 178)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 298 و 454)، وشرحه، ومسائله تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1336]
(595) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَاب جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ".
قَالَ مُسْلِم بْن الْحَجَّاج: بَلَغَنِي أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لِابْنِهِ: أَدَعَوْتَ بِهَا
(1)
فِي صَلَاتِكَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: أَعِدْ صَلَاتَكَ؛ لِأَنَّ طَاوُسًا رَوَاهُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ كَمَا قَالَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، أبو عبد اللَّه الإمام الحجة الفقيه المجتهد المشهور [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب، و"طاوس" ذكر قبل حديثين.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ) أي أصحابه، أو أهل بيته (هَذَا الدُّعَاءَ) أي الذي يأتي (كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) هذا بيان
(1)
وفي نسخة "دعوتَ بها؟ ".
لتأكيد اهتمامه صلى الله عليه وسلم بتعليم هذا الدعاء لأمته، وتأكّد التعوذ به، والحثّ الشديد عليه (يَقُولُ) صلى الله عليه وسلم ("قُولُوا) هذا أمر بقول هذا الدعاء، وظاهر الأمر للوجوب، واليه ذهب طاوس، حيث أمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يدع به، وإليه ذهب ابن حزم، وذهب الجمهور إلى استحبابه، والأول هو الظاهر؛ لأنه لا صارف للأمر (اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ) فيه إشارة إلى أنه لا مخلص من عذابها إلا بالالتجاء إلى خالقها (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) أي على تقدير لُقيّه (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ") هذا تعميم بعد تخصيص، وكرّر "أعوذ" في كلّ واحدة؛ إظهارًا لعظم موقعها، وأنها حقيقة بإعاذة مستقلّة.
(قَالَ مُسْلِم بْن الْحَجَّاج) صاحب الكتاب: (بَلَغَنِي) قال صاحب "التنبيه": لا أدري من بلّغه
(1)
. (أَنَّ طَاوُسًا قَالَ لِابْنِهِ) يَحتمل أن يكون هو عبد اللَّه بن طاوس، أو غيره (أَدَعَوْتَ بِهَا) وفي بعض النسخ:"دعوت بها؟ " بحذف همزة الاستفهام، أي هل دعوت بهذه الدعوات (فِي صَلَاتِكَ؟، فَقَالَ) ابنه (لَا) أي لم أدع بها (قَالَ) طاوس لابنه (أَعِدْ صَلَاتِكَ) أي لتركك ما أُمرت به، وهي الدعوات المذكورة، ثم سبب أمره بإعادة صلاته، فقال:(لِأَنَّ طَاوُسًا) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: لأنّي رويته (رَوَاهُ) أي نقله (عَنْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ، أَوْ كَمَا قَالَ)"أو" للشكّ من الراوي.
قال النوويّ رحمه الله: ظاهر كلام طاوس: أنه حَمَل الأمر به على الوجوب، فأوجب إعادة الصلاة لفواته، وجمهور العلماء على أنه مستحبّ، ليس بواجب، ولعلّ طاوسًا أراد تأديب ابنه، وتأكيد هذا الدعاء عنده، لا أنه يعتقد وجوبه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ ما قاله القاضي عياض رحمه الله: إن طاوسًا يرى الوجوب، وعبارته في "الإكمال": وقولُ طاوس لابنه -إذ لم يتعوّذ كما علّمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك-: أَعِدْ صلاتك، يدلّ أنه حَمَل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وبقوله:"عُوذُوا باللَّه" على الوجوب. انتهى
(2)
.
(1)
"تنبيه المعلم"(ص 142).
(2)
راجع: "الإكمال" 2/ 540 - 541.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وأمر طاوس ابنه بإعادته لَمّا لم يتعوّذ من تلك الأمور دليلٌ على أنه كان يعتقد وجوب التعوّذ منها في الصلاة، وكأنه تمسّك بظاهر الأمر بالتعوّذ منها، وتأكّد ذلك بتعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها الناس كما يُعلِّمهم السورة من القرآن، وبدوام النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قال: ويَحْتَمِل أن ذلك إنما أمره بالإعادة تغليظًا عليه، لئلا يتهاون بتلك الدعوات، فيتركها، فيُحرم فائدتها وثوابها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول هو الصحيح؛ لوضوح أدلّته، كما بيّنه القرطبيّ رحمه الله نفسه.
والحاصل أن أدلّة القول بوجوب الاستعاذة من هذه الأربع ظاهرة، فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 1336](590)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(694)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1542)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3494)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 104)، و"الاستعاذة"(8/ 267 - 277)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3840)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 215)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 242 و 258 و 298 و 311)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(999)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12159)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1308)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1364)، واللَّه تعالى أعلم.
وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 2/ 208 - 209.
(26) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَبَيَانِ صِفَتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1337]
(591) - (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ
(1)
، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، اسْمُهُ شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ، اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ:"اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامٍ"، قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الْاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ
(2)
: أَستَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) -بالتصغير- الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
2 -
(الْوَليدُ) بن مسلم الدمشقيّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو الإمام المشهور، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
4 -
(أَبُو عَمَّارٍ، اسْمُهُ شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) القرشيّ الدمشقيّ، مولى معاوية بن أبي سُفيان، ثقة يُرسل [4].
رَوَى عن أبي هريرة، وشدّاد بن أوس، وعمرو بن عَبَسَة، وواثلة، وأبي أسماء الرحَبيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه الأوزاعيّ، وعكرمة بن عمّار، وعوف الأعرابي، وغيرهم.
قال عكرمة بن عمّار: حدّثنا شدّاد أبو عمّار، وقد لقي أبا أمامة، وواثلة، وصَحِبَ أنسًا إلى الشام، وأثنى عليه فضلًا وخيرًا، وقال يحيى بن أبي كثير: حدّثنا شدّاد بن عبد اللَّه، وكان مرضيًّا، وقال العجليّ، وأبو حاتم، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال عثمان الدارميّ، وابن الجنيد، عن ابن معين: ليس به
(1)
وفي نسخة: "الوليد بن مسلم".
(2)
وفي نسخة: "يقول".
بأس، وكذلك قال النسائيّ، وقال صالح بن محمد: صدوق لم يسمع من أبي هريرة، ولا من عوف بن مالك، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال يعقوب بن سفيان: ثقةٌ.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد" والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (591) و (832) و (1036) و (2074) و (2276) و (2278) و (2765).
5 -
(أَبُو أَسْمَاءَ) عمرو بن مَرْثَد، ويقال: اسمه عبد اللَّه الدمشقيّ، ثقة [3] مات في خلافة عبد الملك (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.
6 -
(ثَوْبَانُ) بن بُجْدُد الهاشميّ مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، صَحِبَهُ ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة (54)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722، واللَّه تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فخُوَارَزميّ، ثم بغداديّ.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ ثَوْبَانَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ) قال النوويّ رحمه الله: المراد بالانصراف السلام، أي سلّم منها (اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا) هذا الاستغفار إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحقّ عبادة مولاه، لما يَعْرِض له من الوسواس والخواطر، فشُرع له الاستغفار، تداركًا لذلك.
وقال السنديّ رحمه الله: استغفر صلى الله عليه وسلم تحقيرًا لعمله، وتعظيمًا لجناب ربّه، وكذلك ينبغي أن يكون حال العابد، فينبغي أن يلاحظ عظمة جلال ربه، وحقارة نفسه وعمله لديه، فيزداد تضرعًا واستغفارًا كلّما يزداد عملًا، وقد مدح اللَّه عباده، فقال:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 17 - 18].
وقال ابن سيّد الناس رحمه الله: هو وفاء بحقّ العبوديّة، وقيام بوظائف
الشكر، كما قال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا"، وليبيّن للمؤمنين سنته فعلًا، كما بيّنها قولًا في الدعاء والضراعة ليُقتَدَى به. انتهى.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم بعد الاستغفار ("اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ) هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، أي أنت السليم من المعايب والآفات، ومن كل نقص.
وقال الصنعانيّ رحمه الله: المراد ذو السلامة من كلّ نقص وآفة، مصدر وُصف به للمبالغة. انتهى.
وفي تعريف الجزأين إفادة الحصر، أي أنت المختصّ بالتنزّه عن النقائص والعيوب، لا غيرك.
(وَمِنْكَ السَّلَامُ) هذا بمعنى السلامة، أي أنت الذي تُعطي السلامة وتمنحها لمن أردتها له، لا من غيرك، أو منك نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة، أو منك يُرجَى السلام، ويُستوهَب، ويُستفاد، أو السلامة من المعايب والآفات مطلوبة منك، أو حاصلة من عندك، فالسالم من سلّمته.
قال الشيخ الْجَزَريّ رحمه الله: وأما ما يُزاد بعد قوله: "ومنك السلام" من نحو: "وإليك يرجع السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام، وأدخلنا دار السلام"، فلا أصل له، بل هو مُخْتَلَقٌ من بعض القُصّاص. انتهى.
(تَبَارَكْتَ) تَفَاعَلْتَ من البركة، وهى الكثرة والنماء، رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"تبارك " بمعنى تعالى، وقال أبو العباس: ارتفع، والمبارك المرتفع، وقال ابن الأنباريّ: تقدّس، وقال الحسن: تبارك تجيء البركة مِن قِبَلِه، وقال الضّحّاك: تَعَظّم، وقال الخليل: تمجّد.
وقال الحسين بن الفضل: تبارك في ذاته، وبارك من شاء من خلقه.
قال العلّامة ابن القيّم رحمه الله: هذا أحسن الأقوال، فتبارُكُهُ سبحانه وصفُ ذاتٍ له، وصفةُ فعلٍ.
وقال ابن عطيّة: معناه عظُم، وكثُرت بركاته، ولا يوصف بهذه اللفظة إلا اللَّه تعالى، ولا تتصرف في لغة العرب، لا يُستعمل منها مضارع ولا أمر، قال: وعلّة ذلك أن "تبارك" لَمّا لم يوصف به غير اللَّه لم يَقتض مستقبلًا، إذ اللَّه عز وجل قد تبارك في الأزل.
(ذَا الْجَلَالِ) بحذف حرف النداء، وهو جائز في سعة الكلام، كقوله
تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الآية، قال الحريريّ في "ملحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
أي العظمة (وَالْإِكْرَامِ") أي الإحسان إلى أوليائه (قَالَ الْوَليدُ) بن مسلم (فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الْاسْتِغْفَارُ؟) أي الذي نُقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ) الأوزاعيّ: (تَقُولُ) بالتاء خطابًا للمتكلّم، وفي بعض النسخ:"يقول" بالياء، أي المصلّي (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أي أطلب منه الصفح، قال الفيّوميّ رحمه الله: غَفَر اللَّه له غَفْرًا: صفَحَ عنه، والمغفرة: اسم منه، واستغفرتُ اللَّهَ: سألته المغفرة. انتهى
(1)
.
وقال في "اللسان": أصل الغَفْر: التغطية والستر، يقال: غَفَرَ اللَّهُ ذنوبَهُ: أي سترها، قال: وكلُّ شيء سترته، فقد غفرته، وقال أيضًا: الغَفْرُ والمغفرة: التغطية على الذنوب، والعفوُ عنها، ويقال: استغفر اللَّهَ من ذنبه، ولذنبه بمعنًى، واستغفر اللَّه ذنبَهُ على حذف الحرف: طَلَبَ منه غَفْرَه، أنشد سيبويه [من البسيط]:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ
…
رَبُ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ
انتهى باختصار، وتصرّف
(2)
.
ومعنى كلام الأوزاعيّ رحمه الله أن صيغة الاستغفار التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولها بعد الصلاة هي هذه، والظاهر أنه قاله روايةً، ويَحْتَمِل أن يكون قاله استنباطًا من النصوص، كقوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمّل: 20]، وقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية، [آل عمران: 135]، وقوله:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 449.
(2)
راجع: "لسان العرب" 5/ 25 - 26.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 1337](591)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1513)، و (الترمذيّ) فيها (300)، و (النسائيّ) في "السهو"(1337) وفي "الكبرى"(1260) وفي "عمل اليوم والليلة"(139)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(928)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 275 و 279)، و (الدارمي) في "سننه"(1355)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(737)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2003)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2064)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(1309)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 183)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(714)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في بيان اختلاف الرواة في هذا الحديث على الأوزاعيّ رحمه الله:
رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ عند المصنّف، بلفظ:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا. . . "، ونحوه عند النسائيّ، ووافقه عبد الحميد بن حبيب، عن الأوزاعيّ، عند أبي نعيم في "المستخرج".
وخالفهما في ذلك جماعة فرووه عن الأوزاعيّ بلفظ: "كان إذا أراد أن ينصرف".
فرواه أحمد من طريق عبد القدوس بن الحجّاج -وهو، والترمذي من طريق عبد اللَّه بن المبارك- وأبو داود من طريق عيسى بن يونس -وابن خزيمة، وأبو عوانة، وأبو العبّاس السرّاج ثلاثتهم من طريق بشر بن بكر- وابن خزيمة أيضًا من طريق عمرو بن أبي سلمة -وابن حبّان من طريق عُمَر بن عبد الواحد- خمستهم عن الأوزاعيّ اتفقوا على لفظ:"إذا أراد أن ينصرف".
وأخرجه ابن خزيمة أيضًا من رواية عمرو بن هاشم البيروتيّ، عن الأوزاعيّ بلفظ:"كان يقول قبل السلام".
قال ابن خزيمة رحمه الله: إن كان عمرو بن هاشم حفظه، فمحلّ هذا الذكر قبل السلام.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الظاهر أنه لم يحفظه، فقد خالف هؤلاء الحفّاظ، وقد قال عنه أبو حاتم -كما في "التهذيب"-: ليس بذاك، كان
صغيرًا حين كتب عن الأوزاعيّ، وقال العُقيليّ: لا يُتابع على حديثه
(1)
.
والحاصل أن روايته بلفظ: "قبل السلام" شاذّة غير محفوظة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
قال الحافظ في "نتائج الأفكار": ورواية: "إذا أراد أن ينصرف" موافقة لهذه، ويمكن ردّ رواية:"إذا انصرف" إليها، لكن المعروف أن هذا الذكر بعد السلام، ويؤيّده حديث عائشة رضي الله عنها يعني الآتي بعد هذا، ثم قال: ويمكن الجمع بأنه كان يقول ذلك في الموضعين. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الجمع لا يُحتاج إليه
(2)
؛ لما عرفت من أن الرواية بلفظ: "قبل السلام" غير محفوظة، فلا حاجة إلى الجمع المذكور.
والأحسن عندي أن يُفَسّر الانصراف هنا بالانصراف إلى جهة الحاجة، لا بالانصراف الذي هو السلام، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها الآتي، فيكون معنى:"إذا أراد أن ينصرف" أي إذا أراد القيام إلى حاجته بعد السلام، فيتفق مع حديث عائشة رضي الله عنها، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الاستغفار ثلاث مرّات بعد التسليم من الصلاة.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع وإظهار العبودية للَّه تعالى، فيستغفر ربه، وإن كان قد غُفِر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر.
3 -
(ومنها): بيان أن العبد لا ينبغي له الاتّكال على الطاعة، بل يعتقد فيها النقص، وعدم أدائه حقّ اللَّه فيها، فيَجْبُر ذلك بالاستغفار، فالاستغفار ليس من الذنوب والمعاصي فقط، بل الطاعة تحتاج إليه أيضًا، لما يقع فيها من
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 3/ 309.
(2)
كنت استحسنته في شرح النسائيّ، لكن الآن يظهر لي عدم استحسانه، بل وجه الجمع هو ما ذكرته أخيرًا، فتنبّه.
السهو والغفلة، وعدم القيام بها حقّ القيام، وقد أخرج الترمذيّ، وابن ماجه بإسناد صحيح، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر، ويَسْرِقون؟ قال: لا، يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يُقْبَل منهم، {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61]
(1)
.
4 -
(ومنها): بيان وصف اللَّه تعالى بأنه السالم من كلّ نقص، وعيب، وبأن السلامة لعباده منه عز وجل، لا من غيره، وأنه متصف بالعظمة ذاتًا وصفةً، وبإكرام أوليائه، الذين قال في حقهم:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} [يونس: 62، 63]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1338]
(592) - (حَدَّثَنَا
(2)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ عَاصِم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ:"يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أثبت الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
(1)
حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ في "جامعه" برقم (3099)، وابن ماجه في "سننه"(4198).
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
4 -
(عَاصِم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ) الأنصاريّ، أبو الوليد البصريّ، نَسِيب ابن سيرين وخَتَنُهُ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وأنس، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه يوسف، وعاصم الأحول، وأيوب السختيانيّ، وغيرهم.
قال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال سليمان بن حرب: كان ابن عمّ ابن سيرين ثقةٌ، وتَعَقّب ذلك الدمياطيّ، قال: بل هو ختنه.
قال الحافظ: وهو كما قال، لكن ما المانع أن يكون ابن عمّه من الأمّ، أو من الرضاع، فلا يتخالف القولان.
ورَوَى يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن عبد اللَّه بن نسيب، عن عائشة حديثًا، فقال ابن حبّان في "صحيحه": وَهِمَ فيه يحيى، وإنما هو عبد اللَّه بن الحارث نَسِيب ابن سيرين، سقط عليه "الحارث"، فبقيت عبد اللَّه بن نسيب. انتهى.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، برقم (592) و (699) و (1613) و (2712) و (2722).
6 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحاد كيفيّة تحمّلهما، حيث رويا عن أبي معاوية بالسماع منه.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: سليمان، عن عبد اللَّه بن الحارث، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنه أنها (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ) أي من صلاته (لَمْ يَقْعُدْ) أي في مكان صلاته (إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ) اسم من أسماء اللَّه تعالى، كما قال تعالى:{السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} الآية [الحشر: 23](وَمِنْكَ السَّلَامُ) أي السلامة من الآفات، كما قال تعالى:{فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 91]، ومعنى ذلك أن السلامة من المعاطب والمهالك إنما تحصل لمن سلمه اللَّه تعالى، كما قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} الآية [يونس: 107]، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(تَبَارَكْتَ) هو: تفاعلتَ، من البركة، وهي الكثرة والنماء، ومعناه: تعاظمتَ؛ إذ كثُرت صفات جلالك وكمالك (ذَا الْجَلَالِ) أي ذا العظمة والسلطان، وهو بحذف حرف النداء، كما سبق بيانه في الحديث الماضي (وَالْإِكْرَامِ") أي الإحسان، وإفاضة النِّعَم على المطيعين.
(وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: "يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ") يعني بإثبات حرف النداء، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 1338 و 1339 و 1340](592)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1512)، و (الترمذيّ) فيها (298 و 299)، و (النسائيّ) في "السهو"(1338) وفي "الكبرى"(1261) وفي "عمل اليوم والليلة"(95 و 96 و 97)، و (ابن ماجه)(924)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 302 و 304)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1558)، و (أحمد) في "مسنده" (6/ 62
(1)
"المفهم" 2/ 211.
و 6/ 184 و 6/ 235)، و (الدارميّ) في "سننه"(2354)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2061 و 2062 و 2063)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1310 و 1311)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2000 و 2001)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 183)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(713)، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"(5/ 342) هذا الحديث أيضًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فقال:
(2002)
أخبرنا أبو يعلى، قال: حدّثنا محمد بن الصباح الدُّولابيّ منذ ثمانين سنة، قال: حدّثنا إسماعيل بن زكريا، عن عاصم الأحول، عن عَوْسجة بن الرَّمَّاح
(1)
، عن عبد اللَّه بن أبي الْهُذَيل، عن ابن مسعود، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يجلس بعد التسليم إلا قدر ما يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
قال أبو حاتم رحمه الله: سَمِعَ هذا الخبر عاصم الأحول، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عائشة، وسمعه عن عَوْسجة بن الرَّمَّاح، عن أبي الْهُذَيل، عن ابن مسعود، الطريقان جميعًا محفوظان. انتهى
(2)
.
وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم المكث في مكان الصلاة بعد السلام من الصلاة:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: المنقول عن السلف يدلّ على أن الإمام ينحرف عقب سلامه، ثم يجلس إن شاء.
رَوَى عبد الرزّاق في كتابه عن معمر، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا سلّم الإمام، فليقم، ولينحرف عن مجلسه، قلت: يُجزئه أن ينحرف عن مجلسه، ويستقبل القبلة؟ قال: الانحراف بغرب، أو شرق عن غير واحد، وكان المسؤول معمرًا.
(1)
وثقه ابن معين، وابن حبّان، انظر:"تهذيب التهذيب"، فقوله في "التقريب": مقبول غير مقبول، فتنبّه.
(2)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 342 - 343.
وروى أيضًا بإسناده عن مجاهد قال: ليس من السنة أن يقعد حتى يقوم، ثم يقعد بعدُ إن شاء. وعن سعيد بن جبير أنه كان يفعله. وعن عطاء قال: قد كان يجلس الإمام بعدما يسلّم، وأقول أنا: قدر ما ينتعل نعليه. وعن أبي عُبيدة أنه قال -لمّا سمع مصعبًا يُكبّر ويهلل بعد صلاته مستقبل القبلة-: ما له؟ قاتله اللَّه نَعَّار بالبِدَعِ.
ويُستثنى من ذلك الجلوسُ بعد الفجر، فإنه لو جلس الإمام بعد استقباله الناس إلى أن تطلع الشمس كان حسنًا.
ففي "صحيح مسلم" عن جابر بن سمرة رضي الله عنه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يقوم من مصلّاه الذي يُصلي فيه الصبح، أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام".
ورَوَى وكيع بإسناده عن النخعي أنه كان إذا سلّم قام، إلا الفجر والعصر، فقيل له في ذلك؟ فقال: ليس بعدهما صلاة.
قال أحمد -في الإمام إذا صلى بقوم الفجرَ، أو العصرَ-: أعجب إليّ أن ينحرف، ولا يقوم من موضعه، وكان أحمد إذا صلى بالناس الصبح جلس حتى تطلع الشمس.
فأما جلوسه بعد الظهر، فقال أحمد: لا يُعجبني. قال القاضي أبو يعلى: ظاهر كلامه أنه يستحبّ بعد الصلاة التي لا يتطوع بعدها، ولا يُستحبّ بعد غيرها، قال: وروى الخلّال بإسناده، عن عابد الطائي، قال: كانوا يكرهرن جلوس الإمام في مصلّاه بعد صلاة يُصلّى بعدها، فإذا كانت صلاة لا يُصلى بعدها، فإن شاء قام، وإن شاء جلس.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بكراهة الجلوس في مكان الصلاة بعدها مما لا دليل عليه، بل هو مصادم للحديث الصحيح:"إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، ما لم يُحدِث، اللَّهم اغفر له، اللَّهم ارحمه". فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وحُكي عن أصحاب الشافعي أن المستحبّ للإمام أن يقوم، ولا يجلس في كلّ الصلوات، وقد نصق الشافعيّ في "المختصر" على أنه يُستحبّ للإمام أن يقوم عقب سلامه، إذا لم يكن خلفه نساء، فأما المأموم فلا يكره له
الجلوس بعد الصلاة في مكانه يذكر اللَّه، خصوصًا بعد الصبح والعصر، ولا نعلم في ذلك خلافًا.
وقد صحّ الحديث في أن الملائكة تصلي على العبد ما دام في مصلاه ما لم يُحِدِث.
ووردت أحاديث في الجلوس بعد الصبح والعصر، وكان السلف الصالح يحافظون عليه.
ومتى أطال الإمام الجلوسَ في مصلّاه، فإن للمأموم أن ينصرف، ويتركه، وسواء كان جلوسه مكروهًا، أو غير مكروه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا فرغ الإمام، ولم يَقُم، ولم ينحرف، وكانت لك حاجة فاذهب، ودَعه، فقد تمّت صلاتك، أخرجه عبد الرزّاق.
وذكر بإسناده عن عطاء قال: كلامه بمنزلة قيامه، فإن تكلّم فليقم المأموم إن شاء.
وإن لم يُطل الإمام الجلوس فالسنّة أن لا يقوم الماموم حتى يقوم الإمام، كذا قال الزهريّ، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
وقال الزهريّ ة إنما جُعل الإمام ليؤتم به - يشير إلى أن مشروعية الاقتداء لا تنقطع إلا بانصرافه.
وفي "صحيح مسلم"، عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيها الناس إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف".
وحديث أم سلمة رضي الله عنها: "كان رسول اللَّه إذا سلّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومَكَث يسيرًا قبل أن يقوم"، قال ابن شهاب: فأرى -واللَّه أعلم- أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن مَن انصرف من القوم، رواه البخاريّ.
فهذا يدلّ على أن الرجال كانوا يجلسون معه، فلا ينصرفون إلا مع انصرافه.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعو بعد فراغ صلاته دعاءً عامّا للمأمومين، فإنه لو كان كذلك لاشترك في حضوره الرجال والنساء، كما أَمَرَ بشهود النساء العيدين حتى الحيّض، وقال:"يشهدن الخير ودعوة المسلمين". فلو كان عقب الصلاة دعاء عامّ لشهده النساء مع الرجال أيضًا.
وقال الشافعي في "الأمّ": فإن قام الإمام قبل ذلك، أو جلس أطول من ذلك، فلا شيء عليه. قال: وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وتأخيره حتى ينصرف بعد انصراف الإمام، أو معه أحبّ إليّ.
وظاهر كلام كثير من السلف كراهة ذلك، كما تقدّم.
وفي "تهذيب المدوّنة" للمالكية: ولا يقيم الإمام في مصلّاه إذا سلّم إلا أن يكون في سفر، أو فنائه، وإن شاء تنحّى وأقام. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله الإمام الشافعيّ في "الأم" هو الراجح عندي.
وحاصله أن الإمام إن شاء جلس في مصلّاه، وإن شاء قام، ولا كراهة في شيء من ذلك، وأما المأموم فهو بالخيار بعد السلام، إن شاء جلس مع الإمام، وهو الأحبّ، وإن شاء انصرف، ولا كراهة في ذلك، إلا إذا كان هناك نساء يخاف الاختلاط معهن، فلا يقوم حتى ينصرفن.
وأما القول بكراهة الانصراف قبل الإمام مستدلًّا بالحديث المتقدّم، وهو قوله:"ولا بالانصراف" فهو غير صحيح عندي؛ لأن معنى الانصراف هنا -واللَّه أعلم- هو السلام، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قابله بالركوع، والسجود، والقيام، فنَهَى عن مسابقته بالركوع، والسجود، والقيام، والانصراف أي السلام، فلا يجوز للمأموم أن يسلّم قبل الإمام، إلا فيما استُثنِيَ بالنصّ، وهو ما إذا طوّل الإمام الصلاة، فللمأموم أن يسلم، ويصلي وحده، لقصة معاذ رضي الله عنه المشهورة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في التطوع في محل الفريضة بعدها:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة، فأما ما قبلها، فيجوز بالاتفاق.
فكَرِهت طائفة تطوّعه في مكانه بعد صلاته.
(1)
راجع: "فتح الباري شرح صحيح البخاريّ" لابن رجب 7/ 437 - 441.
وبه قال الأوزاعي، والثوريّ، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، ورُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه كرهه، وقال النخعي: كانوا يكرهونه.
ورَخّص فيه ابنُ عقيل من أصحاب أحمد، كما رجّحه البخاريّ، ونقله عن ابن عمر، والقاسم بن محمد.
فأما المروي عن ابن عمر، فإنه لم يفعله، وهو إمام، بل كان مأمومًا، كذلك قال الإمام أحمد.
وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك، وهو قول مالك، وأحمد.
وقد أخرج أبو داود حديثًا يقتضي كراهته من حديث أبي رِمْثة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر وعمر يقومان في الصفّ المقدّم عن يمينه، وكان رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة، فصلى نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم سلّم عن يمينه، وعن يساره حتى رأيت بياض خدّيه، ثم انفتل، فقام الرجل الذي أدرك التكبيرة الأولى من الصلاة ليشفع، فوثَبَ إليه عمر، فأخذ بمنكبيه، فهزّه، ثم قال: اجلس، فإنه لم يَهْلِك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فَصْلٌ، فرفع النبيّ صلى الله عليه وسلم بصره، فقال:"أصاب اللَّه بك يا ابن الخطّاب"
(1)
.
وهذا الحديث إنما يدلّ على كراهة أن يَصلَ المكتوبةَ بالتطوّع بعدها من غير فصل، وإن فصل بالتسليم.
ويدلّ عليه أيضًا ما رَوَى السائبُ بن يزيد قال: صلّيت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلمّا سلّم قمت في مقامي، فصليت، فلمّا دخل أرسل إليّ، فقال: لا تَعُد لما فعلت، إذا صليت الجمعة، فلا تَصلْها بصلاة حتى تتكلّم، أو تخرج، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا تُوصَل صلاةٌ بصلاة حتى نتكلّم، أو نخرج، أخرجه مسلم.
وروى حرب بإسناده عن عطاء أنه قال فيمن صلى المكتوبة: لا يصلي مكانه إلا أن يقطع بحديث، أو يتقدّم، أو يتأخر.
وعن الأوزاعيّ قال: إنما يجب ذلك على الإمام أن يتحوّل من مصلّاه،
(1)
هذا الحديث ضعيف يأتي الكلام عليه قريبًا.
قيل له: فما يُجزئ من ذلك؟ قال: أدناه أن يزيل قدميه من مكانه. قيل له: فإن ضاق مكانه؟ قال: فليتربع بعد سلامه، فإنه يُجزئه.
ورَوَى أيضًا بإسناده عن ابن مسعود أنه كان إذا سلّم قام وتحوّل من مكانه غير بعيد.
قال حرب: وثنا محمد بن آدم، ثنا أبو المليح الرَّقّيّ، عن حبيب، قال: كان ابن عمر يكره أن يُصلي النافلة في المكان الذي يصلي فيه المكتوبة حتى يتقدّم، أو يتأخّر، أو يتكلّم، وهذه الرواية تخالف رواية نافع التي أخرجها البخاريّ.
وقد ذكر قتادة، عن ابن عمر أنه رأى رجلًا صلّى في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: لا أراك تصلي في مقامك، قال سعيد: فذكرته لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.
وعن عكرمة، قال: إذا صليت الجمعة، فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحوّل أو كلام. أخرجهما عبد الرزّاق.
ومذهب مالك أنه يكره في الجمعة أن يتنفّل في مكانه من المسجد، ولا ينتقل منه، وإن كان مأمومًا، وأما الإمام فيكره أن يصلي بعد الجمعة في المسجد بكلّ حال.
وقد قال الشافعي في "سنن حرملة": حديث السائب بن يزيد عن معاوية هذا ثابت عندنا، وبه نأخذ، قال: وهذا مثل قوله لمن صلى، وقد أقيمت الصلاة:"أصلاتان معًا؟ "، كأنه أحبّ أن يفصلها منها حتى تكون المكتوبات منفردات مع السلام بفصل بعد السلام.
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اضطجع بعد ركعتي الفجر.
ورَوَى الشافعي عن ابن عُيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة، فأراد أن يتنفّل بعدها أن لا يتنفّل حتى يتكلّم، أو يتقدّم.
قال ابن عبد البرّ: هذا حديث صحيح، قال: وقال الشعبي: إذا صلّيت المكتوبة، ثم أردت أن تتطوّع فاخطُ خطوة، وخالف ابنُ عمر ابنَ عباس رضي الله عنهم في هذا، وقال: وأيّ فصل أفصل من السلام؟.
وقد ذكر الفقهاء من الحنابلة والشافعيّة أن هذا كلّه خلاف الأولى من غير كراهة فيه، وحديث معاوية رضي الله عنه يدلّ على الكراهة. انتهى كلام الحافظ ابن رجب ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كيف يدّعون عدمَ الكراهة، وقد صحّ حديث معاوية رضي الله عنه المتقدّم، ودلالته على الكراهة واضحة؟، كما أشار إليه ابن رجب رحمه الله، فليُتَنَبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وكتب الحافظ رحمه الله على قول الإمام البخاريّ رحمه الله: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: "لا يتطوّع الإمام في مكانه"، ولم يصحّ. انتهى.
ما نصه: قوله: "ولم يصحّ" هو كلام البخاريّ، وذلك لضعف إسناده، واضطرابه، تفرّد به ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، واختلف عليه فيه، وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في "تاريخه"، وقال: لم يثبت هذا الحديث.
وفي الباب عن المغيرة بن شعبة مرفوعًا أيضًا بلفظ: "لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحوّل". رواه أبو داود، وإسناده منقطع، وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه قال:"من السنّة أن لا يتطوّع الإمام حتى يتحوّل من مكانه".
وحَكَى ابن قدامة في "المغني" عن أحمد أنه كره ذلك، وقال: لا أعرفه عن غير عليّ، فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة، ولا المغيرة، وكأن المعنى في كراهة ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة.
وفي مسلم: "عن السائب بن يزيد، أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفّل بعدها، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلها بصلاة حتى تتكلّم، أو تخرج، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك".
ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة.
ويؤخذ من مجموع الأدلّة أن للإمام أحوالًا؛ لأن الصلاة إما أن تكون مما يُتطوّع بعدها، أو لا يتطوّع، الأول اختُلف فيه هل يتشاغل قبل التطوّع
(1)
"شرح صحيح البخاري" لابن رجب 7/ 430 - 434.
بالذكر المأثور، ثم يتطوّع؟ وهذا هو الذي عليه عمل الأكثرين، وعند الحنفية يبدأ بالتطوّع.
وحجة الجمهور حديث معاوية رضي الله عنه.
ويمكن أن يقال: لا يتعين الفصل بين الفريضة والنافلة بالذكر، بل إذا تنحّى من مكانه كفى.
فإن قيل: لم يثبت حديث التنحّي.
قلنا: قد ثبت في حديث معاوية رضي الله عنه: "أو تخرج".
ويترجّح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة.
وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام. وتُعُقّب بحديث: "ذهب أهل الدثور"، فإن فيه:"تسبّحون دبر كلّ صلاة"، وهو بعد السلام جزْمًا، فكذا ما شابهه.
وأما الصلاة التي لا يُتطوّع بعدها، فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور، ولا يتعيّن له مكان، بل إن شاءوا انصرفوا، وذكروا، وإن شاءوا مكثوا، وذكروا، وعلى الثاني إن كان للإمام عادة أن يعلّمهم، أو يعظهم، فيستحبّ أن يقبل عليهم بوجهه جميعًا، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور، فهل يقبل عليهم جميعًا، أو ينفتل، فيجعل يمينه من قبل المأمومين، ويساره من قبل القبلة، ويدعو؟ الثاني هو الذي جزم به أكثر الشافعيّة.
ويحتمل إن قصر زمن ذلك أن يستمرّ مستقبلًا للقبلة، من أجل أنها أليق بالدعاء، ويُحمَلُ الأولُ على ما لو طال الذكر والدعاء. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال بعض المحققين ردًّا على الاحتمال الأخير: الصواب أن المشروع إقبال الإمام على المأمومين بوجهه بعد السلام، والاستغفار، وقول:"اللهم أنت السلام. . . إلخ" مطلقًا؛ لما تقدّم من الأحاديث الصحيحة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله هذا المحقِّق حسنٌ جدًّا، وسيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقد تلخص مما تقدم من أقوال أهل العلم أن القول الراجح أنه لا يتطوّع الإمام ولا المأموم في محلّ المكتوبة؛ لعموم حديث معاوية رضي الله عنه المتقدّم.
وأما حديث أبي رمثة المتقدّم فضعيف؛ لأن في سنده المنهال بن خليفة، وهو ضعيف، وأشعث بن شعبة متكلّم فيه.
وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود مرفوعًا: "أَيَعْجَز أحدكم أن يتقدّم، أو يتأخر، أو عن يمينه، أو عن شماله في الصلاة" -يعني السُّبْحة، ضعيف أيضًا
(1)
؛ لأن في سنده ليث بن أبي سُليم متروك، والحجاج بن عُبيد، وشيخه إبراهيم بن إسماعيل مجهولان، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في ذكر أحاديث وردت باستحباب إقبال الإمام على المأمومين بعد التسليم، وأن ذلك كان من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم:
(منها): حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه". أخرجه البخاريّ.
(ومنها): حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، ليُقبل علينا بوجهه"، رواه مسلم، وأبو داود.
(ومنها): حديث زيد بن خالد الْجُهَنيّ رضي الله عنه: "صلى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس. . . " الحديث، أخرجه البخاريّ.
(ومنها): حديث أنس رضي الله عنه قال: "أخّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلما صلى أقبل علينا بوجهه. . . " الحديث. أخرجه البخاريّ أيضًا.
(ومنها): حديث جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه رضي الله عنه:"أنه صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى انحرف". حديث صحيح رواه النسائيّ.
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "صحيح أبي داود"، وقد عرفت ما فيه، وراجع ما قاله في "تهذيب التهذيب" في ترجمة الحجاج بن عبيد.
فهذه الأحاديث تدلّ على استحباب استقبال الإمام للمأمومين بعد الفراغ من الصلاة، والمواظبة على ذلك؛ لما يشعر به لفظ "كان"، كما هو القول الراجح فيها، فقد حقّقته في "التحفة المرضيّة"، وشرحها.
[تنبيه]: قيل: الحكمة في استقبالهم أن يعلّمهم ما يحتاجون إليه، وعلى هذا يختصّ بمن كان حاله في مثل حاله صلى الله عليه وسلم من الصلاحية للتعليم والموعظة.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: دعوى الاختصاص فيه نظر لا يخفى.
وقيل: الحكمة أن يعرف الداخل انقضاء الصلاة، إذ لو استمرّ الإمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلًا.
وقال الزين ابن المنَيّر: استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحقّ الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، واستقبالهم حينئذ يرفع الخُيَلاء والترفّع على المأمومين.
وحديث سمرة رضي الله عنه يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يُقبل على جميع المأمومين، وحديث البراء يدلّ على أنه كان يقبل على من في جهة يمينه.
ويمكن الجمع بينهما بأنه كان تارة يستقبل جميع المأمومين، وتارة يستقبل أهل يمينه.
أو يُجعَلُ حديثُ البراء مفسّرًا لحديث سمرة رضي الله عنه، فيكون المراد بقوله:"أقبل علينا" أي على بعضنا.
أو أنه كان يصلي في الميمنة، فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين، أفاده في "النيل"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: خلاصة القول في هذه المسألة أن الأحاديث الصحاح تدلّ على أنه يستحبّ للإمام أن يُقبل على المأمومين بعد السلام، إن شاء من جهة يمينه، وإن شاء أقبل عليهم جميعًا؛ لأن هذا هو هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغالب أحواله.
هذا إن إذا لم تكن له حاجة، فأما إن كانت له حاجة، فله أن يذهب إليها، ويترك الإقبال عليهم؛ لما أخرجه البخاريّ عن عقبة بن الحارث
(1)
راجع: "نيل الأوطار" 2/ 361.
النوفليّ رضي الله عنه، قال: صليت وراء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلَّم، ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففَزِعَ الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عَجِبوا من سرعته، فقال:"ذَكَرتُ شيئًا من تِبْر عندنا، فكرهت أن يَحْبِسني، فأمرت بقسمته".
فهذا الحديث يدلّ أيضًا على أن هديه صلى الله عليه وسلم كان المكث في مصلاه؛ إذ لو لم يكن كذلك لَمَا تعجّبوا من سرعة انصرافه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1339]
(. . .) - (وَحَدَّثناه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، يَعْنِي الْأَحْمَرَ، عَنْ عَاصِمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
والباقيان ذُكرا قبله، و"عاصم": هو ابن سليمان الأحول.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد عاصم الماضي، وهو: عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: رواية أبي خالد الأحمر هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1340]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
(1)
، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَخَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:"يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ").
(1)
وفي نسخة: "قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني شعبة".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: اتّفقت النسخ التي بين يديّ في هذا الإسناد على قوله: "حدّثنا شعبة، عن عاصمٍ، عن عبد اللَّه بن الحارث، وخالدٍ، عن عبد اللَّه بن الحارث، كلاهما عن عائشة"، وهو غلطٌ، والصواب:"حدّثنا شعبة، عن عاصم، وخالدٍ، كلاهما عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عائشة. . . إلخ"، فشعبة يروي عن كلّ من عاصم، وخالدٍ، وكلاهما يرويان عن عبد اللَّه بن الحارث، وهو عن عائشة رضي الله عنها، فقوله:"عن عبد اللَّه بن الحارث" يُحذف، ويكون قوله:"وخالدٍ" مجرورًا بالعطف على "عاصم"، ولفظ "كلاهما" يكتب بعد قوله:"وخالدٍ".
وقد وقع عند أبي داود في "سننه" على الصواب، وسأسوق لفظه في التنبيه الآتي، وكذا وقع على الصواب عند أبي نعيم في "مستخرجه"، ولفظه بعد أن ساقه بسنده:"حدّثنا شعبة، عن عاصمٍ الأحول، وخالدٍ الحذّاء، جميعًا عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عائشة. . . " الحديث.
وكذلك وقع في "تحفة الأشراف"
(1)
، ولفظه:"وعن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، عن شعبة، عن عاصمٍ، وخالدٍ، كلاهما عن عبد اللَّه بن الحارث. . . "، فتنبّه لهذا المهمّ، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث البصريّ، صدوقٌ [11](ت 252) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(خَالِد) بن مِهْران الحذّاء، أبو الْمُنَازل البصريّ، يرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
(1)
"تحفة الأشراف" 11/ 243.
والباقون تقدّموا قبله.
[تنبيه]: رواية شعبة هذه ساقها أبو داود في "سننه"، فقال:
(1512)
حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا شعبة، عن عاصم الأحول، وخالد الحذّاء، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سلّم قال:"اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1341]
(593) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ وَرَّادٍ، مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى مُعَاوِيةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْمُسَيَّبُ
(1)
بْنُ رَافِعٍ) الأسديّ الكاهليّ، أبو العلاء الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ [4](ت 105)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(وَرَّاد مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) هو: "ورّاد" -بفتح الواو، وتشديد الراء- الثقفيّ، أبو سعيد، أو أبو الْوَرْد الكوفيّ كاتب المغيرة، ومولاه، ثقةٌ [3].
رَوَى عن مولاه المغيرة، ووَفَدَ على معاوية.
ورَوَى عنه عبد الملك بن عُمير، والشعبيّ، وعبدة بن أبي لبابة، والْمُسَيَّب بن رافع، ورجاء بن حَيْوَة، والقاسم بن مُخَيمِرة، وأبو سعيد الشاميّ، وأبو عون الثقفيّ، وزياد بن عِلاقة، وعطاء السائب، وغيرهم.
(1)
بضم الميم، وفتح السين المهملة، والياء المشدّدة المفتوحة.
ذكره ابن حبّان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث برقم (593) وكرّره خمس مرّات، و (1499):"أتَعْجَبون من غيرة سَعْد، فواللَّه لأنا أغير منه. . . " الحديث.
3 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، أسلم قبل الحديبية، وولي إِمْرة البصرة، ثم الكوفة، مات سنة (50) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون تقدّموا قبل باب، و"إسحاق بن إبراهيم"، هو: ابن راهويه، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، و"منصور" هو: ابن المعتمر.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وفيه التحديث، والإخبار، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه أيضًا، فمروزيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، وعلى قول من عدّ منصورًا من صغار التابعين، ففيه ثلاثة منهم روى بعضهم عن بعض، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ وَرَّادٍ) بتشديد الراء، وفي رواية معتمر بن سليمان، عن سفيان عند الإسماعيليّ:"حدّثني ورّاد"، وفي رواية ابن عيينة -الآتية للمصنّف- عن عبدة بن أبي لبابة، وعبد الملك بن عمير، سمعا ورّادًا كاتب المغيرة. . . (مَوْلَى الْمُغِيرَةِ) بضمّ الميم، وحُكي كسرها إتباعًا للغين (ابْنِ شُعْبَةَ) المراد بالمولى هنا: الْمُعْتَقُ، قال في "ألفيّة الحديث":
وَلَهُمُ مَعْرِفَةُ الْمَوَالِي
…
وَمَا لَهُ فِي الْفَنِّ مِنْ مَجَالِ
وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَلَاءُ حِلْفِ
…
وَلَاءُ إِسْلَامٍ كَمِثْلِ الْجُعْفِي
وقد تقدّم في "شرح المقدّمة" أن المولى يُطلَق على عدّة معان، أوصلها
في "القاموس" إلى واحد وعشرين معنى، ونظمتها، ومنها الْمُعتَق -بفتح التاء- وهو المراد هنا.
(قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى مُعَاوِيةَ) وكان المغيرة إذ ذاك أميرًا على الكوفة من قِبَلَ معاوية رضي الله عنه، وسيأتي سبب كتابه، من طريق ابن عيينة قال: حدّثنا عبدة بن أبي لبابة، وعبد الملك بن عُمير سمعا ورّادًا كاتب المغيرة بن شعبة، يقول: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ بشيء سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إليه سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . .، وعند البخاريّ في "القدر" من رواية عبد بن أبي لبابة، عن ورّاد قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة. . . (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ) أي المكتوبة، ففي رواية للبخاريّ من طريق سفيان
(1)
، عن عبد الملك بن عُمير، عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة، قال: أملى عليَّ المغيرةُ بن شعبة في كتاب إلى معاوية، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة:"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. . . " الحديث.
(وَسَلَّمَ) أي خرج من صلاته بالسلام (قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أي لا معبود بحقّ إلا اللَّه تعالى (وَحْدَهُ) منصوب على الحال بتقديره نكرةً، كما قال في "الخلاصة":
وَالْحَالُ إِنْ عُرّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ
…
تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَـ "وَحْدَكَ اجْتَهِدْ"
ومنه قول الشاعر [من الوافر]:
فَأَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ وَلَمْ يَذُدْهَا
…
وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى نَغَصِ الدِّخَالِ
أي أرسل الإبل، أو الخيل حال كونها معتركة، أي مزدحمةً.
والمعنى هنا: منفردًا في ذاته.
(لَا شَرِيكَ لَهُ) أي في أفعاله، وصفاته، وعبادته، وهو تأكيد بعد تأكيد لمزيد الاعتناء بمقام التوحيد، وقال في "العمدة":"لا شريك له" تأكيد لقوله: "وحده"؛ لأن المتّصف بالوحدانيّة لا شريك له. انتهى
(2)
.
(1)
هو الثوريّ، قاله في "الفتح" 2/ 386.
(2)
"عمدة القاري" 6/ 192.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: قوله: "وحده لا شريك له" هو على طريق التوكيد مع التكثير لحسنات الذاكر، وإلا فالحصر الذي قبله يُفيده.
قال ابن العربيّ رحمه الله: وهو إشارة إلى نفي الإعانة لما كانت العرب تقول: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. انتهى
(1)
.
(لَهُ الْمُلْكُ) بضمّ الميم، قال في "اللسان": الْمُلْكُ: معروف، وهو يُذكّر ويُؤنّث كالسلطان، وملك اللَّه تعالى، ومَلكوته: سلطانه وعظمته، وقال أيضًا: قال ابن سِيدهْ: "الْمَلْكُ -بالفتح- والْمُلْك -بالضمّ- والْمِلْك -بالكسر-: احتواء الشيء، والقدرة على الاستبداد به. انتهى
(2)
.
وقدّم الخبر لإفادة الاختصاص، أي لا لغيره، ومثله قوله:(وَلَهُ الْحَمْدُ) أي جميع حمد أهل السماوات والأرض، وجميع أصناف المحامد في الأولى والآخرة للَّه عز وجل؛ لأنه المستحق لها دون غيره.
وزاد الطبرانيّ من طريق أخرى عن المغيرة: "يُحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده الخير -إلى- قدير"، ورواته مُوَثَّقون، وثبت مثله عند البزّار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف، لكن في القول إذا أصبح، وإذا أمسى، قاله في "الفتح".
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد رُوي في الحديث زيادة: "بيده الخير" خرّجها الإسماعيلي من طريق مسعر، عن زياد بن عِلَاقة، عن ورّاد.
وروي فيه أيضًا زيادة: "يحيي ويميت". ذكرها الترمذي في كتابه تعليقًا، ولم يذكر رواتها. وقد خرّجه البزّار بهذه الزيادة من رواية ابن عِلاقة، عن عبد اللَّه بن محمد بن عَقيل، عن جابر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث المغيرة رضي الله عنه بهذه الزيادة، وفي إسنادها ضعف.
وخرّجه أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة:"بيده الخير"، وفي إسناده ضعف.
وخرّجه ابن عديّ، وزاد فيه:"يحيي ويميت"، وقال: هو غير محفوظ.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 20.
(2)
"لسان العرب" 10/ 492.
وخرّجه أبو مسلم البلخيّ في "سننه" من حديث أبان بن أبي عيّاش، عن أبي الجوزاء، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه:"يحيي ويميت، بيده الخير"، وأبان متروك. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله
(1)
.
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال في "العمدة": هو من باب التتميم والتكميل؛ لأن اللَّه تعالى لَمّا كانت الوحدانيّة له، والملك له، والحمد له، فبالضرورة يكون قادرًا على كلّ شيء، وذكره للتتميم والتكميل، والقدير: اسم من أسماء اللَّه تعالى، كالقادر، والمقتدر، وله القدرة الكاملة الباهرة في السماوات والأرض. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: لم يُقيّد هذا الذكر بثلاث مرّات في رواية المصنّف، وكذا عند البخاريّ هنا، لكن أخرج البخاريّ رحمه الله: الحديث في "كتاب الرقاق" من "صحيحه"
(3)
مقيّدًا بالثلاث، ونصه:
حدّثنا عليّ بن مسلم، حدثنا هُشيم، أخبرنا غير واحد، منهم مغيرة، وفلان، ورجل ثالث أيضًا، عن الشعبي، عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة أن معاوية كتب إلى المغيرة: أن اكتب إليّ بحديث سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إليه المغيرة: إني سمعته يقول عند انصرافه من الصلاة: "لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير - ثلاث مرّات. . . " الحديث.
وكذلك أخرجه النسائيّ في "المجتبى"(86/ 1343) عن الحسن بن إسماعيل المجالديّ، ويعقوب الدورقيّ، كلاهما عن هُشيم به.
غير أن الشيخ الألبانيّ رحمه الله ضعّف قوله: "ثلاث مرّات"؛ لأجل الشذوذ.
(1)
"شرح البخاريّ" لابن رجب 7/ 417 - 418.
(2)
"عمدة القاري" 6/ 192.
(3)
راجع: "صحيح البخاريّ" بالنسخة اليونينية 8/ 124، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" أيضًا أنها موجودة في نسخة الصغانيّ، فدلّ على أن نسخ البخاريّ مختلفة، وأصح نسخه هي النسخة اليونينية، كما هو معروف لدى كل من له عناية بـ "صحيح البخاريّ".
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي في تضعيف الزيادة المذكورة نظر، بل هي زيادة صحيحة، وقد أخرجها البخاريّ، والنسائيّ، فالذي يظهر أن تقييد هذا الذكر بثلاث مرّات هو الحقّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ) أي أعطيته، فالعائد محذوف، وكذا ما بعده، قال في "الخلاصة":
. . . . . . . . . . . . . .
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِل إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
والمعنى: أن من قضيت له بقضاء من رزق أو غيره لا يمنعه أحد عنه (وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ) أي من قضيت عليه بحرمان شيء، فلا أحد يقدر على إعطائه ذلك (وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) المشهور الذي عليه الجمهور أنه بفتح الجيم، ومعناه: لا ينفع ذا الغنى والحظّ منك غناه، وضبطه جماعة بكسر الجيم، ومعناه: الاجتهاد، وقد تقدّم في "باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع".
وقال الخطابيّ رحمه الله: "الجَدّ": الغنى، ويقال: الحظّ، قال: و"مِنْ" في قوله "منك" بمعنى البدل، قال الشاعر [من الطويل]:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً
…
مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الطَّهَيَانِ
(1)
يريد: لنا بدل ماء زمزم. انتهى.
وفي "الصحاح": معنى "منك" هنا: "عندك"، أي لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح.
وقال ابن التين: الصحيح عندي أنها ليست بمعنى "البدل"، ولا بمعنى "عند"، بل هو كما تقول: ولا ينفعك مني شيء، إن أنا أردتك بسوء.
قال الحافظ: ولم يظهر لي من كلامه معنى، ومقتضاه أنها بمعنى "عندك"، أو فيه حذف، تقديره:"من قضائي"، أو "سطوتي"، أو "عذابي".
واختار الشيخ جمالُ الدين في "المغني" الأولَ.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "منك" يتعلّق بـ "ينفع"، وينبغي أن يكون
(1)
"الطَّهَيَان" بفتح الطاء، والهاء المهملتين: خشبة يُبَرّد عليها الماء.
"ينفع" قد ضُمّن معنى "يمنع"، أو ما قاربه، ولا يعود "منك" إلى "الجدّ" على الوجه الذي يقال فيه: حظي منك قليل، أو كثير، بمعنى عنايتك بي، أو رعايتك لي، فإن ذلك نافع. انتهى.
و"الجدّ" مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم، ومعناه: الغنى، كما نقله البخاريّ عن الحسن، أو الحظّ.
وحكى الراغب أن المراد به هنا أبو الأب، أي لا ينفع أحدًا نسبه.
وقال القرطبي رحمه الله: حُكي عن أبي عمرو الشيباني أنه رواه بالكسر، وقال: معناه: لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده، وأنكره الطبري. وقال القزّاز في توجيه إنكاره: الاجتهاد في العمل نافع؛ لأن اللَّه قد دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا ينفع عنده؟، قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا، وتضييع أمر الآخرة.
وقال غيره: لعل المراد أنه لا ينفع بمجرّده، ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل اللَّه ورحمته، كما ثبت في حديث:"لا يُدخلُ أحدًا منكم الجنةَ عمَلُهُ"، وقيل: المراد على رواية الكسر السعي التامّ في الحرص، أو الإسراع في الهرب.
وقال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح، وهو الحظّ في الدنيا بالمال، أو الولد، أو العظمة، أو السلطان.
والمعنى لا يُنجيه حظه منك، وإنما يُنجيه فضلك ورحمتك.
[تنبيه]: اشتَهَرَ على الألسنة في الذكر المذكور زيادة: "ولا رادّ لما قضيت"، وهي في مسند عبد بن حُميد من رواية معمر، عن عبد الملك بن عُمير، عن ورّاد به، لكن حذف قوله:"ولا معطي لما منعت"، ووقع عند الطبراني تامًّا من وجه آخر، قاله في "الفتح"
(1)
.
وعبارة ابن الملقّن في "إعلامه": مِنَ الناس من يزيد في هذا الدعاء: "ولا رادّ لما قضيت"، ورأيت من يُنكر هذه اللفظة، وهو عجيبٌ، فقد أخرجها عبد بن حُميد في "مسنده"
(2)
، عن عبد الرزّاق، عن معمر، عن ورّاد، قال:
(1)
"الفتح" 2/ 387.
(2)
رقم (391).
كتب معاوية إلى المغيرة: أن اكتُب لي بشيء من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إليه: إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من ثلاثة: من عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وسمعته ينهى عن ثلاث: عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وسمعته يقول:"اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا رادّ لما قضيت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ". انتهى
(1)
.
وقال الحافظ في "نتائج الأفكار" بعد أن ساق هذه الرواية بسنده إلى الطبرانيّ
(2)
قال: قال شيخنا -يعني الحافظ العراقيّ-: هذا حديث صحيح، ورجاله ثقات. انتهى
(3)
.
[تنبيه آخر]: زاد في رواية البخاري في "كتاب القدر" في آخر هذا الحديث أن ورّادًا قال: "ثم وَفَدت على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك".
وزعم بعضهم أن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور، وإنما أراد استثبات المغيرة، واحتجّ بما في "الموطأ" من وجه آخر عن معاوية أنه كان يقول على المنبر:"أيها الناس، إنه لا مانع لما أعطى اللَّه، ولا معطي لما منع اللَّه، ولا ينفع ذا الجدّ منه الجدّ، من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين، ثم يقول: سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وفي احتجاجه بما ذُكِر نظرٌ لا يخفى؛ إذ الذي ذَكَر أنه سمعه منه صلى الله عليه وسلم هو الذي قاله على المنبر في خطبته، لا ما كتب إليه المغيرة أنه كان يقوله في دبر كل صلاة، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 1341 و 1342 و 1343 و 1344 و 1345]
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 19.
(2)
رواه الطبرانيّ هكذا في "الدعاء" رقم (1110).
(3)
راجع: "نتائج الأفكار" 2/ 244.
(593)
، و (البخاريّ) في "الأذان"(844 و 1477 و 2408 و 5975) و"الدعوات"(6330) و"الرقاق"(6473) و"القدر"(6615) و"الاعتصام"(7292)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1505)، و (النسائيّ) في "السهو"(1341 و 1342 و 1343) وفي "الكبرى"(1263 و 1264 و 1266) وفي "عمل اليوم والليلة"(129)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4224)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 231)، و (الحميديّ) في "مسنده"(762)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 245 و 4/ 247 و 4/ 250 و 4/ 251 و 4/ 254 و 4/ 255)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(390 و 391)، و (الدارميّ) في "سننه"(1356)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(742)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2005 و 2007)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 925)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2069 و 2070 و 2071 و 2072 و 2073 و 2074)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1312 و 1313 و 1314 و 1315 و 1316)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 185)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(715)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب هذا الذكر عقب الصلوات؛ لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأفعال إلى اللَّه تعالى، والمنع، والإعطاء، وتمام القدرة.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: والثواب المرتّب على الأذكار يَرِدُ كثيرًا مع خفّة الأذكار على اللسان وقلّتها، وإنما كان ذلك باعتبار مدلولاتها، وأنها كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء. انتهى.
2 -
(ومنها): أن فيه المبادرةَ إلى امتثال السنن، وإشاعتها.
3 -
(ومنها): أن فيه جوازَ العمل بالمكاتبة بالأحاديث، وإجراؤها مُجرَى السماع في الرواية، ولو لم تقترن بالإجازة، والعمل بالخط في مثل ذلك إذا أمن تغييره.
واعْتَلّ بعضهم بأن العمدة حينئذ على الذي بلّغ الكتاب، كأن يكون الذي أرسله أمره أن يوصل الكتاب، وأن يبلغ ما فيه مشافهةً.
وتعُقّب بأن هذا يحتاج إلى نقل، وعلى تقدير وجوده، فتكون الرواية عن
مجهول، ولو فُرض أنه ثقة عند من أرسله، ومن أُرسل إليه، فتجيء فيه مسألة التعديل على الإبهام، والمرجّح عدم الاعتداد بها، قاله في "الفتح".
4 -
(ومنها): أن فيه الاعتمادَ على خبر الشخص الواحد، وله نظائر كثيرة.
5 -
(ومنها): أن فيه استحباب الذكر عقب الصلوات المكتوبات، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد كلامه على حديث الباب ما نصّه: وفي الذكر عقب الصلوات المكتوبات أحاديث أُخَر، وجمهور أهل العلم على استحبابه، وقد روى عليّ، وابن عبّاس رضي الله عنهما، وابن الزبير، وغيرهم، وهو قول عطاء، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، وخالف فيه طائفة قليلة من الكوفيين. قال: وعن عَبِيدة السلمانيّ أنه عدّ التكبير عقب الصلاة من الْبِدَع، ولعله أراد بإنكاره على مصعب أنه كان يقوله مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ويجهر، كذلك هو في كتاب عبد الرزّاق.
قال: وإذا صحّت السنّة بشيء، وعَمِلَ بها الصحابة، فلا نَعْدِل عنها.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الحافظ رجب رحمه الله أصل مهمّ جدًّا، وقاعدة ثابتة لا تتزعزع، ولا تتحرّك، وهو أن المعيار للعمل الشرعيّ صحّة السنّة، وثبوتها، واستمرارها، وذلك يكون عن طريق عمل الصحابة رضي الله عنهم، أو بعضهم بها، فإن ذلك مما يدلّ على عدم نسخها، أو كونها من خصوصيّات النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فإذا صحّت السنّة، وثبت العمل بها، فلا سبيل إلى العدول عنها، وترك العمل بها لمخالفة من خالفها، وإنكار من أنكرها؛ لعدم علمه بها، أو لتأويل تأوّلها به.
والحاصل أن الواجب على المسلم إذا صحّت السنة أن يتمسّك بها، وإن خالفها أهل مذهبه، أو غيرهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في حكم الدعاء بعد الصلوات المكتوبات:
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: استَحبّ أيضًا أصحابنا -يعني الحنبليّة-
وأصحاب الشافعيّ الدعاء عقب الصلوات، وذَكَره بعض الشافعيّة اتّفاقًا، واستدلّوا بحديث أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: "جوفُ الليل الآخرُ، ودبر الصلوات المكتوبات"، أخرجه الإمام أحمد، والترمذيّ، وحسّنه.
وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، بإسناد صحيح، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، عن الصُّنَابحيّ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يومًا، ثم قال:"يا معاذ إني لأحبك"، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، وأنا أحبك، قال:"أوصيك يا معاذ، لا تَدَعَنَّ في دبر كل صلاة، أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، قال: وأوصى بذلك معاذ الصُّنَابحيّ، وأوصى الصُّنابِحيّ، أبا عبد الرحمن، وأوصى أبو عبد الرحمن عُقبةَ بن مسلم
(1)
.
وقالت طائفة من أصحابنا، ومن الشافعيّة: يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر؛ لأنه لا يُتنفّل بعدهما، وظاهر كلامهم أنه يجهر، ويُؤمّنون عليه، وفي ذلك نظر، وقد ذكرنا حديث دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة جهرًا، وأنه لا يصحّ، ولم يصحّ في ذلك شيء عن السلف، والمنقول عن الإمام أحمد أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة، ثم يُسرّ بالباقي، ويَعقد التسبيح والتكبير والتحميد سرًّا، ويدعو سرًّا.
ومن الفقهاء من يَستحبّ للإمام الدعاء للمأمومين عقب كلّ صلاة، وليس في ذلك سنّة، ولا أثرٌ يُتَّبَع. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله بتصرّف
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن رجب رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا.
وحاصله أنه يُستحبّ الذكر والدعاء عقب الصلوات المكتوبات، وأن ذلك من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وهدي السلف، وإن كرهه بعضهم، ولكن لا وجه له، فقد ثبتت فيه أحاديث كثيرة:
(1)
حديث صحيح.
(2)
"شرح البخاريّ" لابن رجب 7/ 420 - 421.
(فمنها): حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه المذكور.
(ومنها): ما أخرجه المصنّف رحمه الله عن البراء رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يُقْبِل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: "رَبِّ قني عذابك يوم تبعث، أو تجمع عبادك".
(ومنها): ما أخرجه النسائيّ في "سننه" عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، أن كعبًا حَلَف له باللَّه الذي فَلَق البحر لموسى، إنا لنجد في التوراة أن داود نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته قال:"اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نِقْمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، قال: وحدثني كعب أن صُهيبًا حدّثه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يقولهنّ عند انصرافه من صلاته".
وهو حديث حسنٌ، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"
(1)
.
(ومنها): ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد رجاله ثقات، عن هلال بن يساف، عن زاذان، حدّثنا رجل من الأنصار، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة: "اللهم اغفر لي، وتُب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم"
(2)
.
والحاصل أن الدعاء بعد الصلوات المكتوبات مستحبّ؛ للأدلّة الكثيرة.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الدعوات" من "صحيحه": "باب الدعاء بعد الصلاة".
قال في "الفتح": وفي هذه الترجمة ردّ على من زعم أن الدعاء بعد الصلاة لا يُشْرَع، متمسّكًا بالحديث الذي أخرجه مسلم من رواية عبد اللَّه بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سلّم لا يثبت إلا قدر ما يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".
والجواب أن المراد بالنفي المذكور نَفْيُ استمراره جالسًا على هيئته قبل
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 15/ 377 - 378.
(2)
راجع: "مصنّف ابن أبي شيبة" 13/ 462.
السلام إلا بقدر ما ذُكر، فقد ثبت أنه كان إذا صلّى أقبل على أصحابه، فَيُحْمَل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يُقْبِل على أصحابه.
قال ابن القيّم في "الهدي النبويّ": وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء الإمام، والمنفرد، والمأموم، فلم يكن ذلك من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أصلًا، ولا رُوي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخَصّ بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما استحسان رآه من رآه عِوَضًا من السنّة بعدهما، قال: وعامّة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربّه مناجيه، فإذا سلّم منها انقطعت المناجاة، وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته، والقرب منه، وهو مقبل عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه؟، ثم قال رحمه الله: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يُسْتَحبّ من أتى بها أن يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن يَفْرُغ منها، ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهي الذكر، لا لكونه دبر المكتوبة. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله.
قال الحافظ رحمه الله: وما ادّعاه من النفي مطلقًا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"يا معاذ إني واللَّه لأحبك، فلا تدع دبر كلّ صلاة أن تقول: اللهم أعنّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك"، أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبّان، والحاكم.
وحديث أبي بكرة رضي الله عنه في قول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وعذاب القبر، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو بهن دبر كلّ صلاة"، أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، وصححه الحاكم.
وحديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: كان يعلّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلّم المكَتِّبُ الغلمانَ، ويقول: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ بهنّ دبر الصلاة: "اللَّهمّ إني أعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك من البُخْل، وأعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر". أخرجه البخاريّ، والنسائيّ.
وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر كلّ
صلاة: "اللَّهمّ ربّنا، وربّ كلّ شيء. . . " الحديث، أخرجه أبو داود، والنسائيّ
(1)
.
وحديث صهيب رضي الله عنه رفعه: "كان يقول إذا انصرف من الصلاة: اللَّهم أصلح لي ديني. . . " الحديث. أخرجه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن حبّان، وغير ذلك.
فإن قيل: المراد بدبر كلّ صلاة قرب آخرها، وهو التشهد.
قلنا: قد ورد الأمر بالذكر دبر كلّ صلاة، والمراد به بعد السلام إجماعًا، فكذا هذا، حتى يثبت ما يخالفه.
وقد أخرج الترمذيّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: قيل: يا رسول اللَّه أيّ الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبات"، وقال: حسن.
وأخرج الطبريّ من رواية جعفر بن محمد الصادق، قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة.
وفَهِمَ كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيّم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقًا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة، وإيراده بعد السلام، وأما إذا انتقل بوجهه، أو قدّم الأذكار المشروعة، فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيس جدًّا.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تلخّص مما ذكر من الأدلّة أن الدعاء عقب الصلاة ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قولًا، وفعلًا، فلا يسع أحدًا إنكاره.
وأمّا تأويل قوله: "دبر كلّ صلاة" بأنه قبل السلام؛ لأن دبر الحيوان منه، فغير مسلّم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علّمهم تلك الأذكار والدعوات، وأمرهم أن يجعلوها دبر كل صلاة، فلا يصحّ حمل بعضها على ما قبل السلام، كالدعوات، وبعضها على بعده، كالتسبيح، وقراءة آية الكرسيّ؛ إذ لا دليل على التفريق، ولا سيما وبعضها فيه التصريح بأنه بعد السلام.
(1)
حديث ضعيف الإسناد.
فقد أخرج ابن خزيمة في "صحيحه" رقم (743) عن عليّ رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا فرغ من صلاته، فسلّم قال:"اللهم اغفر لي ما قدّمت، وما أخّرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت".
والحاصل أن الذكر والدعاء بعد السلام من الصلاة مشروع، كما هو مذهب البخاريّ، والنسائيّ، وقد تقدّم في كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، أنه مذهب الإمام أحمد، بل نقل أن أصحاب أحمد، وأصحاب الشافعي استحبّوا الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقًا. انتهى.
فإذا ثبتت الأحاديث بذلك، وعمل بها أهل العلم، أو بعضهم، فلا وجه للإنكار.
وأما ما اعتاده الناس الآن في كثير من البلدان، من الدعاء الجماعي بعد الصلاة بأن يدعو الإمام، أو غيره، ويُؤمّن القوم فلم، يصحّ له دليل، ولا هو منقول عن السلف، كما تقدّم عن الحافظ ابن رجب رحمه الله، فالحذر كلّ الحذر من إحداث ما لم يكن في عهد السلف، فإن ذلك بلا ريب سبب التلف.
فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ
…
وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، برحمتك يا أرحم الراحمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في حكم رفع اليدين عند الدعاء:
(اعلم): أنه قد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بابًا لرفع اليدين في الدعاء، فقال في "كتاب الدعوات":
"باب رفع الأيدي في الدعاء": وقال أبو موسى الأشعريّ: دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم رفع يديه، حتى رأيت بياض إبطيه.
وقال ابن عمر: رَفَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يديه، وقال:"اللَّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
قال أبو عبد اللَّه: وقال الأويسيّ: حدّثني محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد، وشريك، سمعا أنسًا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.
قال في "الفتح": وفي الحديث الأول ردٌّ على من قال: لا يرفع كذا إلا في الاستسقاء، بل فيه، وفي الذي بعده ردّ على من قال: لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء أصلًا، وتمسك بحديث أنس رضي الله عنه:"لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلّا في الاستسقاء"، وهو صحيح، لكن جُمع بينه وبين أحاديث الباب، وما في معناها بأن المنفيّ صفةٌ خاصّة، لا أصل الرفع.
وحاصله أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إما بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلًا، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يَعْكُر على ذلك أنه ثبت في كلّ منهما:"حتى يُرى بياض إبطيه"، بل يُجمَع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره.
وإما بأن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي الدعاء يليان السماء.
قال المنذريّ رحمه الله: وبتقدير تعذّر الجمع، فجانب الإثبات أرجح.
قال الحافظ: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة، أفردها المنذريّ في جزء سَرَد منها النوويّ في "الأذكار"، وفي "شرح المهذب" جملةً، وعقد لها البخاريّ أيضًا في "الأدب المفرد" بابًا ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قَدِمَ الطُّفَيل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن دَوْسًا عَصَت، فادع اللَّه عليها، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، فقال:"اللهم اهد دوسًا"، وهو في "الصحيحين"، دون قوله:"ورفع يديه".
وحديث جابر: "أن الطفيل بن عمرو هاجر"، فذكر قصّة الرجل الذي هاجر معه، وفيه: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر، ورفع يديه". وسنده صحيح، وأخرجه مسلم.
وحديث عائشة رضي الله عنها أنها "رأت النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو رافعًا يديه، يقول: اللهم إنما أنا بشر. . . " الحديث، وهو صحيح الإسناد.
ومن الأحاديث الصحيحة في ذلك: ما أخرجه البخاريّ في "جزء رفع اليدين": "رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه، يدعو لعثمان".
ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه في قصّة الكسوف: "فانتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو رافع يديه يدعو".
وعنده في حديث عائشة في الكسوف أيضًا: "ثم رفع يديه يدعو".
وفي حديثها عنده في دعائه لأهل البقيع: "فرفع يديه ثلاث مرّات. . . " الحديث.
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل في فتح مكة: "فرفع يديه، وجعل يدعو".
وفي "الصحيحين" من حديث أبي حميد رضي الله عنه في قصة ابن اللُّتَبِيَّة: "ثم رفع يديه حتى رأيت عُفرة إبطه يقول: اللَّهم هل بلّغت".
ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر قول إبراهيم وعيسى، فرفع يديه، وقال: اللهم أمتي".
وفي حديث عمر رضي الله عنه: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يُسمَعُ عند وجهه كدَوِيّ النَّحْل، فأنزل اللَّه عليه يومًا، ثم سُرّي عنه، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، ودعا. . . " الحديث، أخرجه الترمذيّ، واللفظ له، والنسائيّ، والحاكم.
وفي حديث أسامة رضي الله عنه: "كنت رِدْفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناوله بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى"، أخرجه النسائيّ بسند جيّد.
وفي حديث قيس بن سعد رضي الله عنه عند أبي داود: "ثم رفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه، وهو يقول: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة. . . " الحديث، وسنده جيّد.
والأحاديث في ذلك كثيرة.
وأما ما أخرجه مسلم من حديث عُمارة بن رُوَيبة -براء، وموحدة، مصغرًا- أنه رأى بِشْرَ بن مروان يرفع يديه، فأنكر ذلك، وقال:"لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما يزيد على هذا، يشير بالسبّابة".
فقد حَكَى الطبريّ عن بعض السلف أنه أخذ بظاهره، وقال: السنّة أن الداعي يشير بإصبع واحدة، وردّه بأنه إنما ورد في الخطيب حال الخطبة، وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسّك به في منع رفع اليدين في الدعاء، مع ثبوت الأخبار -الصحيحة- بمشروعيتها.
وقد أخرج أبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وغيرهما من حديث
سلمان رضي الله عنه رفعه: "إن ربكم حيّي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صِفْرًا" -بكسر المهملة، وسكون الفاء- أي خالية - وسنده جيّد.
قال الطبريّ: وكره رفعَ اليدين في الدعاء ابنُ عمر، وجُبيرُ بن مطعم، ورأى شُرَيح رجلًا يرفع يديه داعيًا، فقال: من تتناول بهما، لا أُمّ لك؟، وساق الطبريّ ذلك بأسانيده عنهم.
وذكر ابن التين عن عبد اللَّه بن عمر بن غانم أنه نقل عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمر الفقهاء، قال: وقال في "المدوّنة": ويختصّ الرفع بالاستسقاء، ويجعل بطونهما إلى الأرض.
وأما ما نقله الطبريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما، فإنما أنكر رفعهما إلى حذو المنكبين، وقال: ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبريّ عنه أيضًا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه صفة الدعاء.
وأخرج أبو داود، والحاكم عنه من وجه آخر، قال:"المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدّ يديك جميعًا".
وأخرج الطبريّ من وجه آخر عنه، قال: يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه.
وقد صحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما خلاف ما تقدّم، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق القاسم بن محمد:"رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يدعو عند القاصّ، يرفع يديه حتى يُحاذي بهما منكبيه باطنهما مما يليه، وظاهرهما مما يلي وجهه".
انتهى كلام الحافظ رحمه الله في "الفتح".
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق من الأحاديث والآثار أن رفع اليدين في الدعاء مشروع، بل هو من أسباب إجابة الدعاء، كما بُيّن ذلك في حديث سلمان رضي الله عنه:"إن ربكم حييّ كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرًا". فلا ينبغي للداعي أن يُهْمِل رفع يديه في دعائه رجاءَ القبول.
وأما القائلون بكراهة رفع اليدين في الدعاء، فيُعتذر عنهم بأنه لم تَصِل
إليهم هذه الأحاديث الصحاح، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: أما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، فليس فيه حديث صحيح، بل الأحاديث الواردة في ذلك كلّها ضعاف، وأما تحسين الحافظ رحمه الله في "بلوغ المرام" بعضها، فليس بحسن، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1342]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
(1)
، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعِ، عَنْ وَرَّادٍ، مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ
(2)
، قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو كُرَيْبٍ فِي رِوَايَتِهِمَا: قَالَ: فَأَمْلَاهَا عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ، وَكَتَبْتُ بِهَا
(3)
إِلَى مُعَاوِيَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في هذا الباب.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ سِنَانِ) بن أسد بن حِبّان -بكسر المهملة، بعدها موحّدة- أبو جعفر القطّان الواسطيّ، ثقة حافظ [11].
رَوَى عن يحيى سعيد القطان، وأبي أحمد الزبيري، وأبي أسامة، ويزيد بن هارون، والشافعي، وغيرهم.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائيّ في حديث مالك، وابن ماجه، وابن خزيمة، وأبو موسى، وهو من أقرانه، وابنه جعفر بن أحمد بن سنان، وزكريا بن يحيى الساجي، وأبو بكر بن أبي داود، وابن أبي حاتم، وابن صاعد، وأبو حاتم.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة".
(2)
وفي نسخة: "بمثله".
(3)
وفي نسخة: "فكتبت بها".
قال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال إبراهيم بن أُورمة: أَعَدْنا عليه ما سمعناه منه من بُندار وأبي موسى، يعني لإتقانه وحفظه، وقال النسائي: ثقة، وقال الدارقطنيّ: كان من الثقات الأثبات، وقال الآجري: سألت أبا داود عنه، فقدَّمه على بُندار، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: حدثنا عنه ابنه جعفر.
قيل: مات سنة (6)، وقيل: سنة (8)، وقيل: سنة (259)؛ وقال ابن حبّان: مات (25) أو قبلها، أو بعدها بقليل.
وليس له عند البخاريّ سوى حديث واحد، وقد روى عنه النسائيّ في "السنن الكبرى" عدّة أحاديث في "الحدود"، و"الطلاق"، وغير ذلك.
وله عند المصنّف في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (593)، و (2320):"أشدّ حياءً من العذراء في خدرها. . . ".
4 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم، تقدّم في هذا الباب.
5 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارفٌ بالقراءة، ورعٌ لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (مِثْلَهُ) وفي نسخة: "بمثله"، أي بمثل الحديث الماضي، يعني أن الأعمش حدّث عن الْمُسيَّب بن رافع بمثل حديث منصور عنه.
وقوله: (قَالَ: فَأَمْلَاهَا عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ) فاعل "قال" ضمير ورّاد.
وقوله: (وَكَتَبْتُ بِهَا) وفي نسخة: "فكتبتُ بها".
[تنبيه]: رواية الأعمش هذه ساقها الإمام أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1505)
حدّثنا مسدَّد، قال: حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المسيَّب بن رافع، عن وَرّاد، مولى المغيرة بن شعبة، عن المغيرة بن شعبة: كَتَب معاوية إلى المغيرة بن شعبة، أيُّ شيء كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إذا سلّم من الصلاة؟ فأملاها المغيرة عليه، وكتبْ إلى معاوية، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على
كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1343]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، أَنَّ وَرَّادًا مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، كَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَهُ وَرَّادٌ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ سَلَّمَ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، إِلَّا قَوْلَهُ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السمين البغداديّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْر) البرسانيّ البصريّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.
3 -
(ابْنُ جُرَيْج) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل بابين أيضًا.
4 -
(عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ) الأسديّ مولاهم، ويقال: مولى قريش، أبو القاسم البزّاز الكوفيّ، نزيل دمشق، ثقة [4](خ م ل ت س ق) تقدم في "الصلاة" 13/ 897.
والباقيان ذُكرا في السند الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا) الضمير لمنصور، والأعمش.
وقوله: (فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ) بالبناء للفاعل، ومفعوله محذوف، والضمير لعبدة بن أبي لبابة، ويَحْتَمِل أن يكون مبنيًّا للمفعول، أي لم يُذكر قوله:"وهو على كلّ شيء قدير" في حديث عبدة، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية عبدة بن أبي لبابة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1)
وفي نسخة: "لم يذكره".
(17673)
حدّثنا عبد الرزاق، وابن بكر قالا: أنا ابن جريج، وحدّثنا رَوْحٌ، حدّثنا ابن جريج، أخبرني عبدة بن أبي لبابة، أن ورّادًا مولى المغيرة بن شعبة أخبره، أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية، كتب ذلك الكتاب له وَرّاد: إني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول حين يسلِّم: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ"، قال ورّاد: ثم وَفَدتُ بعد ذلك على معاوية، فسمعته على المنبر يأمر الناس بذلك القول، ويعلمهموه. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1344]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي أَزْهَرُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عُمر بن حفص بن عمر بن عُبيد اللَّه بن أبي بكرة الثقفيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، ثقة [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(أَزْهَرُ) بن سعد السمّان، أبو بكر الباهليّ البصريّ، ثقةٌ [9].
رَوَى عن سليمان التيميّ، وابن عون، وهشام الدستوائيّ، ويونس بن عُبيد.
ورَوَى عنه ابن المبارك، وهو أكبر منه، وعليّ ابن المدينيّ، وعمرو بن عليّ الفلاس، والحسن بن علي الحلوانيّ، وبندار، وأبو موسى، والذُّهْليّ، وأبو مسعود الرازيُ الْكُدَيْمِيّ.
قال ابن سعد: ثقة أوصى إليه عبد اللَّه بن عون، وقال ابن قانع في "الْوَفَيَات": ثقةٌ مأمونٌ، وفي "تاريخ البخاريّ" الكبير: حكاية عن ابن عون قال: أزهر أزهر، وقال ابن معين: أروى عن ابن عون، وأعرفهم به أزهر، وقال في رواية الغلابيّ: لم يكن أحد أثبت في ابن عون من أزهر، وبعده سُليم بن أخضر، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى: ثقةٌ، وحَكَى ابن شاهين في "الثقات" عن حماد بن زيد، أنه كان يأمر بالكتابة عن أزهر، وقال العقيليّ في "الضعفاء": له حديث منكر، عن ابن عون، وساق له حديث فاطمة في التسبيح، وصله أزهر، وخالفه غيره فأرسله، وحَكَى العقيليّ وأبو العرب الصَّقْليّ في "الضعفاء" أن الإمام أحمد قال: ابن أبي عديّ أحب إليّ من أزهر.
وتعقّب الحافظ هذا، وقال: ليس هذا بجرح يوجب إدخاله في الضعفاء، ولكن ذَكَر العقيليّ، عن عليّ ابن المدينيّ: قال: رأيت في أصل أزهر في حديث عليّ في قصة فاطمة في التسببح عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، مرسلًا، فكلمت أزهر فيه، وشكَّكته فأبى، وعن عمرو بن عليّ الفلاس قال: قلت ليحيى القطان: أزهر عن ابن عون، عن إبراهيم، عن عَبِيدة، عن عبد اللَّه، حديث:"خيرُ الناس قرني. . . "؟ قال: ليس فيه عبد اللَّه، قلت: سمعته من ابن عون؟ فقال: لا، ولكن رأيت أزهر يحدِّث به من كتابه، لا يزيد على عُبيدة، قال عمرو بن عليّ: فاختلفت إلى أزهر أيامًا، فأخرج إليّ كتابه، فإذا فيه كما قال يحيى رحمه الله.
تُوُفّي وهو ابن أربع وتسعين سنةً، قال غيره: مات سنة (203)، وذكر ابن حبان في "الثقات" أن مولده سنة (111).
روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (593) و (1623) و (1633) و (1671) و (1821) و (2533).
5 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد اللَّه بن عون بن أَرْطبان، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ) الشاميّ، عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة، وعنه ابن
عون، قال أبو عوانة الإسفرايينيّ: يقال: إن أبا سعيد هذا اسمه كثير، وهو رضيع عائشة، وقال الحاكم أبو أحمد: هو عمرو بن سعيد الثقفيّ، وقال غيره: اسمه عبد ربه، وقيل: لا يعرف اسمه، [6].
قال الحافظ: القول الأخير قول أبي مسعود، والذي قبله قول الدارقطنيّ، ولم يَجزم، واستَشْهَد لذلك بأن حماد بن سلمة، رَوَى ذلك الحديث عن الْجُريريّ، وابن عون، وداود بن أبي هند، ثلاثتهم عن أبي سعيد، عن وَرّاد، ورواه خالد الواسطيّ، عن الْجُريريّ، عن عبد ربه، عن وَرّاد، قال الدارقطنيّ: فلعل اسم أبي سعيد عبدُ ربه، وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد": أبو سعيد هذا أظنه الحسن البصريّ، قال هذا في ترجمة يزيد بن زياد من "التمهيد"، فهذه خمسة أقوال. انتهى
(1)
.
تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": اختَلَفوا في أبي سعيد هذا، فالصواب الذي قاله البخاريّ في "تاريخه" وغيره من الأئمة أنه عبد ربه بن سعيد، وقال ابن السكن: هو ابن أخي عائشة رضي الله عنها من الرضاعة، وغَلَّطوه في ذلك، وقال ابن عبد الْبَرّ: هو الحسن البصريّ رحمه الله، وغَلَّطوه أيضًا. انتهى
(2)
.
وعبارة القاضي عياض رحمه الله في "الإكمال": قال الإمام -يعني المازريّ-: كذا وقع أبو سعيد غير مسمّى، وسمّاه البخاريّ في "التاريخ الكبير"
(3)
: عبد ربّه، وتابعه على ذلك ابن الجارود، وقد ذكر البخاريّ عن إسحاق، عن خالد، عن الْجُريريّ، عن عبد ربّه، عن وَرّاد، قال الدارقطنيّ: لعله اسم أبي سعيد، قال البخاريّ: قال عثمان بن عُمر، عن ابن عون، عن أبي سعيد الشاميّ، عن وَرّاد.
وقال ابن السكن في "مصنّفه": أبو سعيد عن ورّاد هو ابن أخي عائشة من الرضاعة، ووَهِمَ في هذا؛ لأن أبا سعيد رضيع عائشة، واسمه كثير بن عُبيد
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 12/ 121.
(2)
"شرح النوويّ" 5/ 91.
(3)
"التاريخ" 6/ 80.
مشهور بذلك يُعَدّ في الكوفيين، وذلك رجل شاميّ، وأَرَى دخول الوهم على ابن السكن من قِبَل أن عبد اللَّه بن عون يروي عنهما جميعًا.
وقد حَكَى ابن عبد البرّ أن أبا سعيد في هذا الإسناد هو الحسن البصريّ، وليس هذا بشيء، وقول البخاريّ، ومن تابعه أولى. انتهى كلام عياض رحمه الله
(1)
.
والباقيان تقدّما قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ) يعني أن حديث ابن عون، عن أبي سعيد، عن ورّاد مثل حديث منصور، والأعمش، عن المسيَّب بن رافع، عن ورّاد.
[تنبيه]: رواية ابن عون هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 554) فقال:
(2074)
حدّثنا محمد بن إبراهيم الطرسوسيّ، قال: ثنا رَوْح (ح) وحدّثنا العباس بن محمد، قال: ثنا عثمان بن عُمر (ح) وحدّثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، كلهم قالوا: ثنا ابن عون، أنبأني أبو سعيد، وقال بعضهم: عن أبي سعيد، قال: أنبأني وَرّاد كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إلي بشيء حفظته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: كان إذا صلّى ففرغ، قال:"لا إله إلا اللَّه -قال: وأظنه قال-: وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ". انتهى.
قال أبو عوانة: يقال: إن أبا سعيد هذا اسمه كثير، وهو رضيع عائشة، وبعض هؤلاء قال: أبو سعيد الشاميّ. انتهى.
قال الجامع عفا اللْه عنه: قد عرفت ما في كلام أبي عوانة هذا آنفًا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 544 - 545.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1345]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، سَمِعَا وَرَّادًا، كَاتِبَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، يَقُولُ: كَتَبَ مُعَاوِيةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قُدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر، تقدّم قبل بابين.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْر) بن سُويد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ الكوفيّ، ويقال له: الفَرَسيّ، ثقة فقيهٌ، تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) عن (103)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
والباقون ذُكروا قبل حديث.
وقوله: (إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ) أي فرغ منها، وخرج منها بالسلام، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1346]
(594) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، حِينَ يُسَلِّمُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ"، وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم في ثاني أحاديث الباب.
2 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(هِشَام) بن عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) عن (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(ابْنُ الزُّبَيْرِ) هو: عبد اللَّه بن الزبير بن الْعَوّام القُرشيّ الأسديّ، أبو بكر أو أبو خُبيب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، قُتِل في ذي الحجة سنة (73)(ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أول مولود في الإسلام من المهاجرين بالمدينة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم، وفي رواية الحجاج بن أبي عثمان الآتية: حدّثني أبو الزبير، قال: سمعت عبد اللَّه بن الزبير يخطب على هذا المنبر. . . (قَالَ: كَانَ) عبد اللَّه (ابْنُ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ) زاد الشافعيّ: في روايته: "بصوته الأعلى"، ونَصّه في "الأمّ": أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال:
(1)
وفي نسخة: "في دبر كلّ صلاة".
حدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، أنه سمع عبد اللَّه بن الزبير، يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من صلاته يقول بصوته الأعلى: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. . . إلخ"
(1)
.
إلا أنه ليس عنده كلمة "لا إله إلا اللَّه" بين قوله: "لا حول ولا قوّة إلا باللَّه"، وقولِهِ:"ولا نعبد إلّا إيّاه". وإبراهيم شيخه متكلّم فيه، وكان هو يوثّقه، والجمهور على تضعيفه، بل كذّبه بعضهم.
(فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) أي مكتوبة، كما تقدّم تقييده في حديث المغيرة رضي الله عنه (حِينَ يُسَلِّمُ) قيل: فيه أنه ينبغي أن يكون هذا الذكر تاليًا للسلام، مقدّمًا على غيره، لتقييد القول به بوقت التسليم.
ولا يعارض هذا ما تقدّم من حديث ثوبان، وعائشة رضي الله عنهما؛ لإمكان حمله على أوقات مختلفة، فتارةً يقول بعد السلام ما وقع في حديث ثوبان، وعائشة رضي الله عنها، وتارة يقول ما وقع في حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما هذا، وتارةً يقول ما تقدّم في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
وعلى هذا فالسنّة أن يأتي بهذه الأذكار على سبيل البدل، لا الجمع، وقيل: يجوز الجمع بينها؛ لأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينها، ورَوَى كلُّ واحد ما سمعه منه صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى بُعده
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: لا بُعْدَ في الجمع المذكور، بل هو الظاهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس لانتظار انصراف النساء من المسجد ودخولهنّ بيوتهن، وذلك الوقت يسع أكثر من الذكر المذكور بكثير، فالظاهر أنه كان يقول أكثر من ذكر واحد، فينبغي من طال جلوسه أن يجمع بين هذه الأذكار، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
("لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)"لا" نافية للجنس، وخبرها محذوف، أي لا معبود بحقّ سواه، فلا بدّ من كلمة "بحقّ"، فلا يقدّر: لا معبود إلا اللَّه، كما يقدّره بعضهم؛ لأن المعبودات كثيرة، وإنما المراد المعبود بحقّ، وكذا لا يقدّر بـ "لا
(1)
راجع: "الأم" 1/ 110.
(2)
راجع: "المرعاة" 3/ 318 - 319.
موجود إلا اللَّه"؛ فإن هذا مذهب الحلوليّة، وكذا ما قدّره بعض الشرّاح هنا: أي لا إله موجود غير اللَّه تقدير فاسدٌ؛ لأن وجود الآلهة مما لا شكّ ولا ارتياب فيه، فقد قال المشركين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} الآية، وقال فرعون: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي} الآية، فليس المراد نفي وجود الآلهة، وإنما المراد نفي كونها معبودة بحقّ، وأنها لا تستحقّ العبادة، وإنما المعبود بحقّ هو اللَّه عز وجل، وهو المستحقّ للعبادة، دون غيره (وَحْدَهُ) منصوب على الحال بتأويله مشتقًّا نكرةً، أي حال كونه منفردًا في ذاته (لَا شَرِيكَ لَهُ) أي في أفعاله، وصفاته، وعبادته. وقيل: تأكيد بعد تأكيد، لمزيد الاعتناء بمقام التوحيد (لَهُ) أي لا لغيره، فتقديم الخبر يفيد الحصر (الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ) في الأولى والآخرة، لا لغيره، فلا منعم سواه حتى يستحقّ الحمد (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) قال الأزهريّ: سمعت المنذريّ، يقول: سمعت أبا الهيثم يقول عن تفسير قوله: "لا حول ولا قوّة إلا باللَّه"، قال: الحولُ: الحَرَكَةُ، تقول: حالَ الشخصُ: إذا تحرّك، وكذلك كلّ متحوّل عن حاله، فكأن القائل إذا قال: لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه يقول: لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة اللَّه، وقال الكسائي: يقال: لا حول ولا قوّة إلا باللَّه، ولا حَيْلَ ولا قوّة إلا باللَّه، وورد ذلك في الحديث: لا حول ولا قوّة إلا باللَّه، وفُسّر بذلك المعنى: لا حركة، ولا قوّة إلا بمشيئة اللَّه تعالى، وقيل: الحول الحيلةُ، قال ابن الأثير، والأول أشبه. انتهى.
(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ) إذ لا يستحقّ العبادة سواه (لَهُ النِّعْمَةُ) المراد جنس النعمة، قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، أو له نعمة التوفيق (وَلَهُ الْفَضْلُ) أي له عز وجل الفضلُ بالقبول، أو له التفضّل على عباده (وَلَهُ) عز وجل (الثَّنَاءُ الْحَسَنُ) أي الوصف الحسن على ذاته، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الطاعة {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي كرهوا كوننا مخلصين ديننَا للَّه، وكوننا عابدين وموحّدين له عز وجل.
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "مخلصين" حالٌ عاملُهُ محذوفٌ، وهو الدّالّ على مفعول "كره"، أي نقول:"لا إله إلا اللَّه" حال كوننا مخلصين، ولو كره
الكافرون قولنا، و"الدين" مفعول به لـ "مخلصين"، و"له" ظرف قدّم على المفعول به للاهتمام به. انتهى.
وتعقّبه بعضهم، فقال: فيه تكلّف، والأولى جَعْلُهُ حالًا من فاعل "نعبد" المذكور. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: التكلّف فيما قاله موجود أيضًا، حيث إن فيه الفصل بين الحال وصاحبه بقوله:"له النعمة إلخ"، فما قاله الطيبيّ رحمه الله أقرب، فتأمّل.
(وَقَالَ) ابن الزبير رضي الله عنهما (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ) أي يرفع صوته بهؤلاء الكلمات، يقال: أهلّ الرجل: إذا رفع صوته بذكر اللَّه تعالى عند نعمة، أو رؤية شيء يُعجبه
(1)
. (دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ) وفي نسخة: "في دبر كلّ صلاة"، المراد المكتوبة، كما تقدّم قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن الزبير بهذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 1346 و 1347 و 1348 و 1349](594)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1506 و 1507)، و (النسائيّ) في "السهو"(1339 و 1340) وفي "الكبرى"(1262 و 1263) وفي "عمل اليوم والليلة"(128)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 4 و 4/ 5)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(741)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2008 و 2009 و 2010)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2075 و 2076 و 2077)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1317 و 1318 و 1319)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 185)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(717)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 639.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1347]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، مَوْلًى لَهُمْ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، كَانَ يُهَلِّلُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في هذا الباب.
2 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مَوْلًى لَهُمْ) يعني أن أبا الزبير مولى لهشام بن عروة وأسرته، ولذا تقدّم في ترجمته أنه أسديّ، وهو قبيلة هشام بن عروة.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ) يعني أن حديث عبدة بن سليمان، عن هشام، مثل حديث عبد اللَّه بن نمير عنه.
وقوله: (وَقَالَ فِي آخِرِهِ) فاعل "قال" ضمير عبدة، أي قال عبدة في روايته في آخر هذا الحديث:"ثم يقول ابن الزبير: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ".
[تنبيه]: رواية عبدة بن سليمان هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1340)
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبدة، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن أبي الزبير، قال: كان عبد اللَّه بن الزبير، يُهَلل في دبر الصلاة، يقول:"لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا اللَّه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون"، ثم يقول ابن الزبير: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُهَلِّل بهنّ في دبر الصلاة. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1348]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، يَخْطُبُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ، أَوِ الصَّلَوَاتِ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) العبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقة حافظ [10](ت 252) عن (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209، وهو أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة.
2 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ) ميسرة، أو سالم الصوّاف، أبو الصَّلْت الكنديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ) الظاهر أنه منبر مكة؛ لأن مكة كانت مقرّ خلافة عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما، وأبو الزبير مكيّ، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (أَوِ الصَّلَوَاتِ)"أو" للشكّ من الراوي.
وقوله: (فَذَكَرَ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الحجّاج بن أبي عثمان.
[تنبيه]: رواية الحجّاج بن أبي عثمان هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"(5/ 352) فقال:
(2010)
أخبرنا ابن خزيمة، قال: حدّثنا يعقوب الدَّوْرَقيّ، قال: حدّثنا إسماعيل ابن عُلَيّة، قال: حدّثنا حجاج بن أبي عثمان، قال: أخبرنا أبو الزبير، قال: سمعت عبد اللَّه بن الزبير، يخطب على هذا المنبر، وهو يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سلّم في دبر الصلاة، يقول: "لا إله إلا اللَّه، لا نعبد إلا إياه، أهل النعمة والفضل، والثناء الحسن، لا إله إلا اللَّه، مخلصين له الدين،
ولو كره الكافرون". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1349]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ الْمَكِّي حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي إِثْرِ الصَّلَاةِ إِذَا سَلَّمَ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَكَانَ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ) القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِم) بن عبد اللَّه بن عمر المدنيّ، صدوقٌ، من كبار [8](ت 153)(م د س) تقدم في "الطهارة" 33/ 682.
4 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا) الضمير لهشام بن عروة، والحجّاج بن أبي عثمان، يعني أن موسى بن عقبة حدّث عن أبي الزبير بمثل حديث هشام، والحجاج كلاهما عنه.
وقوله: (وَقَالَ فِي آخِرِهِ) فاعل "قال" ضمير موسى بن عقبة، أي قال موسى بن عقبة في آخر الحديث:"وكان يذكر. . . إلخ"، فقوله:"وكان يذكر. . . إلخ" مقول "قال".
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
وقوله: (وَكَانَ يَذْكُرُ. . . إلخ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير لعبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة هذه ساقها الإمام الشافعيّ في كتابه "الأمّ "(1/ 126 - 127)، ونصّه:
أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعيّ، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدّثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، أنه سمع عبد اللَّه بن الزبير يقول: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من صلاته، يقول بصوته الأعلى:"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا اللَّه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1350]
(595) - (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا حَدِيثُ قُتَيْبَةَ، أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: ذَهَبَ
(1)
أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ:"وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ "، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ
(2)
، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً"، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ
(1)
وفي نسخة: "قد ذهب".
(2)
وفي نسخة: "وتُحَمِّدُون" بالتشديد من التحميد.
الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ، يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ"، وَزَادَ غَيْرُ قُتَيْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِي هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: وَهِمْتَ إِنَّمَا قَالَ
(1)
: "تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ
(2)
، وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ"، فَرَجَعْتُ إِلَى أَبِي صَالِحٍ، فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ، قَالَ
(3)
ابْنُ عَجْلَانَ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، فَحَدَّثَنِي بِمِثْلِهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَيِ هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) هو: عاصم بن النضر بن المنتشر الأحول التيميّ، أبو عُمَر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10].
رَوَى عن معتمر بن سليمان، وخالد بن الحارث.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وروى له النسائيّ بواسطة أحمد بن محمد بن جعفر الطرسوسيّ، وأبو بكر بن أبي عاصم، وجعفر بن محمد الفريابيّ، والحسن بن أحمد بن الليث الرازيّ، والحسن بن علي المعمريّ، والفضل بن العباس فَضْلَك الرازيّ، وموسى بن هارون الحمال، ويعقوب بن سفيان، وعليّ بن سعيد بن بشير الرازيّ، والحسن بن سفيان، وأبو معلى، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
(1)
وفي نسخة: "إنما قال لك".
(2)
وفي نسخة: "تسبّح اللَّه ثلاثًا وثلاثين مرّةً".
(3)
وفي نسخة: "وقال".
2 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد الملقّب بالطُّفَيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
3 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عثمان المدجنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(لَيْث) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهورٌ [7](ت هـ 17)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
6 -
(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد القرشيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
7 -
(سُمَيّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130) مقتولًا بقُديد (ع) تقدم في "الصلاة" 18/ 918.
8 -
(أَبُو صَالِح) ذَكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
9 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، وملتقى الإسنادين هو سُميّ، فكلّ من عبيد اللَّه، وابن عجلان يرويان عن سُميّ، فمرجع في قوله:"كلاهما" عبيد اللَّه وابن عجلان.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه عاصم، كما أسلفته آنفًا، وابن عجلان علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عبيد اللَّه وابن عجلان، والباقون بصريّون، سوى قُتيبة، فبغلانيّ.
4 -
(ومنها): أن رواية عبيد اللَّه وابن عجلان عن سُميّ من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأنهما من الطبقة الخامسة، وهو من السادسة.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ سُمَيٍّ) -بضمّ السين المهملة، وتشديد التحتانيّة، بصيغة التصغير- مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف لِسُمَيّ على رواية عن أحد من الصحابة، فتكون رواية عبيد اللَّه عنه من رواية الكبير عن الصغير. انتهى
(1)
. (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السّمّان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وقوله:(وَهَذَا حَدِيث قُتَيْبَةَ) يعني سياق المتن لشيخه قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن ابن عجلان، عن سُميّ، وأما رواية عاصم، عن المعتمر، عن عبيد اللَّه، فهي رواية بالمعنى.
[تنبيه]: رواية عاصم، عن المعتمر، أخرجها ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:
(2014)
أخبرنا عُمر بن محمد الهمدانيّ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، قالا: حدّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا معتمر، قال: سمعت عبيد اللَّه بن عمر، عن سُمَيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: جاء الفقراء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، قال:"أفلا أدلكم على أمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهريه، إلا أحد عمل بمثل أعمالكم؟، تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين". انتهى
(2)
.
(أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرينَ) قال ابن الملقّن رحمه الله: هو من باب "مسجد الجامع"، و"صلاة الأولى"، مما أُضيف فيه الموصوف إلى صفته، وكان الأصل: الفقراءَ
(1)
"الفتح" 2/ 380.
(2)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 5/ 536 - 357.
المهاجرين، كما أن الأصل: المسجد الجامع، والصلاة الأولى. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": سُمّي منهم في رواية محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة، أبو ذرّ الغفاريّ، أخرجه أبو داود، وأخرجه جعفر الفريابيّ في "كتاب الذكر" له من حديث أبي ذرّ نفسِهِ، وسُمِّي منهم أبو الدرداء عند النسائيّ وغيره، من طُرُق عنه، ولمسلم من رواية سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنهم قالوا: يا رسول اللَّه. . . فذكر الحديث، والظاهر أن أبا هريرة منهم.
وفي رواية النسائيّ عن زيد بن ثابت، قال: أَمَرنا أن نُسَبِّح. . . الحديث كما سيأتي لفظه، وهذا يمكن أن يقال فيه: إن زيد بن ثابت كان منهم.
ولا يعارضه قوله في رواية مسلم هنا: "جاء فقراء المهاجرين"؛ لكون زيد بن ثابت من الأنصار؛ لاحتمال التغليب. انتهى
(2)
.
(أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: ذَهَبَ) وفي نسخة: "قد ذهب"(أَهْلُ الدُّثُورِ) -بضم الدال المهملة، والثاء المثلّثة-: جمع دَثْرٍ -بفتح، فسكون- هو المال الكثير، وكذا الكثير من كلّ شيء.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الدُّثُور": واحد الدّثْر، وهو المال الكثير، وكذا الدِّبْرُ، بكسر الدال، وبالباء الموحّدة، قال ابن السّكّيت: الدِّبر: المال الكثير، ووقع في السير في خبر النجاشيّ:"دَبْر من ذهب" بفتح الدال، قال ابن هشام: ويقال: دَبْرَى، وهو الجبل بلغة الحبشة، وقال الهرويّ: يقال: مالٌ دَثْرٌ، ومالان دَثْرٌ، وأموالٌ دَثْرٌ، وحكى أبو عمر المطرّز أن الدَّثْر بالثاء يثنّى ويُجمع. انتهى
(3)
.
ولفظ البخاريّ: "ذَهَب أهلُ الدثور من الأموال"، فمِن في قوله:"من الأموال" للبيان.
ووقع عند الخطابيّ: "ذهب أهل الدُّور من الأموال"، وقال: كذا وقع
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 45.
(2)
"الفتح" 2/ 380 - 381.
(3)
"المفهم" 2/ 213.
"الدُّور"، جمع دار، والصواب:"الدُّثُور". انتهى. وذكر صاحب "المطالع" عن رواية أبي زيد المروزيّ أيضًا: "الدور".
(بِالدَّرَجَاتِ) الباء للتعدية، وقال الطيبيّ رحمه الله: الباء بمعنى المصاحبة، وهو أولى وأوقع في هذا المقام من الهمزة المتضمّنة لمعنى الإزالة، يعني ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، واستصحبوها معهم في الدنيا والآخرة، ومَضَوا بها، ولم يتركوا لنا شيئًا منها، فما حالنا يا رسول اللَّه؟، ولو قيل: أذهب أهل الدثور الدرجات العلى، أي أزالوها لم يكن بذاك، هذا مذهب المبرّد، وصاحبُ "الكشّاف"، نصّ في قوله تعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] على هذا المعنى، ومن لم يقف على سرّ المعاني من النحاة تكلّم عليه، وقد أجبنا عن ذلك في "فتوح الغيب" مستقصًى، وهذا الحديث من أقوى الدليل على ما قصدناه. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
(الْعُلَى) -بضم العين-: جمع الْعَلْياء، وهي تأنيث الأعلى.
قال ابن الملقّن رحمه الله: "الدرجات" يجوز أن تكون حسيّةً على ظاهرها من دَرَج الجنّات، ويجوز أن تكون معنويّةً: أي علا قدرهم عند اللَّه تعالى، وارتفعت درجاتهم عنده، من قولهم: ارتفعت درجة فلان عند الملك، ونحو ذلك. انتهى
(2)
.
(وَالنَّعِيمِ) هو: ما يُتنعّم به، من ملبس ومطعم، أو منكح، أو منظر، أو من علوم، ومعارف، أو غير ذلك (الْمُقِيمِ) هو الذي لا ينقطع أبدًا، أي وبالعيش الدائم الْمُستَحَقّ بالصدقة، قال الطيبيّ رحمه الله: وَصَفه بـ "المقيم" تعريضًا بالنعيم العاجل، فإنه قلّما يصفو، وإن صفا فهو في وشك الزوال، وسُرعة الانتقال. انتهى
(3)
.
وفي رواية محمد بن أبي عائشة عند أبي داود التي سبق الإشارة إليها: "ذهب أصحاب الدُّثور بالأُجور"، وكذا هو عند مسلم في "كتاب الزكاة"، من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1059.
(2)
"الإعلام" 4/ 46.
(3)
"الكاشف" 3/ 1059.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَمَا ذَاكَ؟ ") وفي البخاريّ في "الدعوات"، من رواية ورقاء، عن سُمَيّ:"قال: كيف ذلك؟ "، والمعنى: ما سببُ قولكم هذا؟، أو ما سبب فوزهم، وحِيازهم دونكم؟.
(قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ) زاد في حديث أبي الدرداء المذكور: "ويذكرون كما نَذْكُر"، وللبزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"صَدَّقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا"(وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّق) وفي رواية البخاريّ: "ولهم فضل أموال، يحجّون بها، ويَعتمرون، ويُجاهدون، ويتصدّقون"(وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإعتاق، لا من العتق.
وفي رواية البخاريّ: "ولهم فَضْلٌ من الأموال، يحجّون بها، ويَعتمرون، ويُجاهدون، ويتصدّقون".
قال في "الفتح": قوله: "يَحُجّون بها"، أي ولا نَحُجّ، يُشْكِل عليه ما وقع في رواية جعفر الفريابيّ من حديث أبي الدرداء رحمه الله:"ويَحُجُّون كما نحج"، ونظيره ما وقع هنا:"ويجاهدون"، ووقع في "الدعوات" من رواية وَرْقاء، عن سُمَيّ:"وجاهدوا كما جاهدنا"، لكن الجواب عن هذا الثاني ظاهر، وهو التفرقة بين الجهاد الماضي، فهو الذي اشتركوا فيه، وبين الجهاد المتوقَّع، فهو الذي تقدِرُ عليه أصحاب الأموال غالبًا، ويمكن أن يقال مثله في الحجّ، ويَحْتَمِل أن يقرأ:"يُحِجُّون بها" بضم أوله من الرباعيّ، أي يعينون غيرهم على الحجّ بالمال. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أفَلَا أُعَلِّمُكُمْ) -بضم حرف المضارعة، وتشديد اللام- من التعليم، وقُدّمت الهمزة للصدارة، والتقدير: ألا أُسلِّيكم، فأعلّمكم؟ (شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ) أي بذلك الشيء (مَنْ سَبَقَكُمْ) أي من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة، والإعتاق، و"من" موصولة مفعول به لـ "تُدرِكون".
والسبقية هنا يَحْتَمِل أن تكون معنوية، وأن تكون حسية، قال الشيخ تقيّ الدين: والأول أقرب، قاله في "الفتح".
وقال في "المرعاة": والمراد بالسبق السبقُ رُتبةً، أي من حيث كثرة
(1)
"الفتح" 2/ 381.
الأعمالِ بسبب المال، ورجّحه الشيخ تقيّ الدين على السبق زمانًا، وعلى هذا ينبغي حملُ البعديّة في قوله:"وتسبقون به من بعدكم" على البعديّة رتبةً أيضًا، أي تسبقون به أمثالكم الذين لا يقولون هذه الأذكار، فتكون البعديّة معنويّةً، أي بحسب الرتبة، لا حسّيّةً. انتهى
(1)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: السبقيّة هنا يَحْتَمِل أن تكون في الغنى، وهو السبق في الفضيلة، وقوله:"مَن بعدكم" أي من بعدكم في الفضيلة ممن لا يعمل هذا العمل، ويَحْتَمل أن يُراد القبليّة الزمانيّة، والبعديّة الزمانيّة، ولعلّ الأول أقربُ إلى السياق، فإن سؤالهم كان عن أمر الفضيلة، وتقدّم الأغنياء. انتهى
(2)
.
قال ابن الملقّن بعد ذكر كلام ابن دقيق العيد هذا: لعلّ مراده بالقبليّة والبعديّة من كان في زمنهم، وإلا ففضيلة هذه الأمة ثابتة على من سبقهم، وإن لم يقولوا هذا الذكر. انتهى
(3)
.
(وَتَسْبِقُونَ) -بفتح أوله- من السَّبْق (بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ) -بفتح ميم "من"، وهي موصولة مفعولُ "تَسبقون"(وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ ") قيل: الاستثناء متعلّق بهذه الجملة الأخيرة فقط، وقيل: يصحّ جعله متعلّقًا بالجمل الثلاث كلّها على معنى: يحصل لكم الأحوال الثلاثة بالنظر إلى الطوائف إلا من عَمِل من الطوائف الثلاثَ مثله.
وقال الطيبيّ رحمه الله:
[فإن قلت]: ما معنى الأفضليّة في قوله: "لا يكون أحدٌ أفضل منكم" مع قوله: "إلا من صنع مثل ما صنعتم"، فان الأفضليّة تقتضي الزيادة، والمثليّة تقتضي المساواة؟.
[قلت]: هو من باب قوله [من الرجز]:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
…
إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
(1)
"المرعاة" 3/ 321.
(2)
"إحكام الأحكام" 2/ 98 بنسخة الحاشية.
(3)
"الإعلام" 4/ 47.
يعني إن قُدِّرَ أن المثليّة تقتضي الأفضليّة، فتحصُل الأفضليّة، وقد عُلِمَ أنها لا تقتضيها، فإذًا لا يكون أحدٌ أفضل منكم، وهذا على مذهبٍ تميميّ
(1)
.
ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: ليس أحدٌ أفضل منكم إلا هؤلاء، فإنهم يساوونكم، ويَحْتَمل أن يكون المعني بـ "أحدٌ" الأغنياءُ، أي ليس أحدٌ منهم أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله.
وقال في "الفتح" عند شرح رواية البخاريّ بلفظ: "وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم" ما نصّه: قيل: ظاهره يخالف ما سبق؛ لأن الإدراك ظاهره المساواة، وهذا ظاهره الأفضلية.
وأجاب بعضهم بأن الإدراك لا يلزم منه المساواة، فقد يُدرِك ثم يفوق، وعلى هذا فالتقرب بهذا الذكر راجح على التقرب بالمال.
ويَحْتَمِل أن يقال: الضمير في "كنتم" للمجموع من السابق والمدرك، وكذا قوله:"إلا مَن صنع مثل صنيعكم" أي من الفقراء، فقال الذكرَ، أو من الأغنياء، فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصّةً، لكن يشاركهم الأغنياء في الخيرية المذكورة، فيكون كل من الصنفين خيرًا ممن لا يتقرب بذكر، ولا صدقة، ويَشهد له قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند البزار:"أدركتم مثل فضلهم"، ولمسلم في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"أوَليس قد جعل لكم ما تتصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقةً، وبكل تكبيرة صدقة. . . " الحديث.
واستُشكِل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال، مع شدّة المشقة فيه.
وأجاب الكرمانيّ بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل
(1)
يعني أن هذا جار على مذهب بني تميم، فإنه يجيزون إتباع الاستثناء المنقطع، وأما جمهور العرب فيوجبون نصبه، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
مَاسْتَثْنَتِ "الَّا" مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ
…
وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوْ كَنَفِيٍ انْتُخِبْ
إِتْبَاعُ مَا اتَّصَلَ وَانْصِبْ مَا انْطَعْ
…
وَعَنْ تَمِيمٍ فِيهِ إِبدَالٌ وَقَعْ
حالة، واستَدَلّ لذلك بفضل كلمة الشهادة مع سهولتها على كثير من العبادات الشاقة. انتهى
(1)
.
(قَالُوا: بَلَى) أي علّمنا ذلك (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ) -بفتح أوله وثالثه- من الحمد ثلاثيًّا، وفي بعض النسخ:"وتُحَمِّدون" -بضم أوله، وتشديد الميم- من التحميد.
قال في "المرعاة": قوله: "تسبّحون. . . إلخ" إخبار بمعنى الأوامر، أو هي من قبيل:"تَسْمَعُ بالمعيديّ خير من أن تراه". انتهى.
وفي رواية البخاريّ: "تُسَبِّحون، وتَحمدون، وتكبرون"، قال في "الفتح": كذا وقع في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد، وتأخير التكبير، وفي رواية ابن عجلان -يعني في رواية مسلم هنا- تقديم التكبير على التحميد خاصّة، وفيه أيضًا قول أبي صالح: يقول: "اللَّه أكبر، وسبحان اللَّه، والحمد للَّه"، ومثله لأبي داود، من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة:"تكبر، وتحمد، وتسبح"، وكذا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وهذا الاختلاف دالّ على أن لا ترتيب فيها، ويُستأنس لذلك بقوله في حديث الباقيات الصالحات:"لا يَضُرُّك بأيهن بدأت".
لكن يُمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري عز وجل، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص، وإثبات الكمال أن لا يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدالّ على انفراده عز وجل بجميع ذلك. انتهى.
(دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ) -بضمتين- قال الأزهريّ: دُبُر الأمر -يعني بضمتين- ودَبْره -يعني بفتح، ثم سكون-: آخره، وادَّعَى أبو عمرو الزاهد أنه لا يقال بالضم إلا للجارحة.
ورُدّ عليه بمثل قولهم: أعتق غلامه عن دُبُر.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: "دُبُر" بضمّ الدال والباء على المعروف المشهور
(1)
"الفتح" 2/ 381 - 382.
في الروايات واللغة، ويجوز التخفيف، كعُنْق، وقال ابن الأعرابيّ: دُبُر الشيء، ودَبْره بالضمّ والفتح: آخر أوقاته، والصحيح الضمّ، ولم يذكر الجوهريّ وآخرون غيره، وقال أبو عمر المطرّز في كتابه "اليواقيت": دَبر كلّ شيء بفتح الدال: آخر أوقاته، من الصلاة وغيرها، قال: هذا هو المعروف في اللغة، وأما الجارحة فبالضمّ.
والمراد به في الحديث عقب السلام منها، سواءٌ كان آخر أوقاتها، أو أوسطه، أو أوّله، إلا أن يكون مراد أهل اللغة بآخر أوقات الشيء الفراغ منه، فيتطابق تفسيرهم ومراد الحديث. انتهى
(1)
.
ولفظ البخاريّ هنا: "خلف كل صلاة"، قال في "الفتح": هذه الرواية مفسرة للرواية التي عند المصنف في "الدعوات"، وهي قوله:"دبر كلّ صلاة"، ولجعفر الفريابيّ في حديث أبي ذرّ:"إثر كلّ صلاة".
قال: ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ، فإن كان يسيرًا بحيث لا يُعَدّ معرضًا، أو كان ناسيًا، أو متشاغلًا بما ورد أيضًا بعد الصلاة، كآية الكرسيّ، فلا يَضُرّ.
وظاهر قوله: "كل صلاة" يَشْمَل الفرض والنفل، لكن حَمَله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه الآتي عند المصنّف التقييد بالمكتوبة، ولفظه:"مُعقّباتٌ لا يَخيب قائلهنّ، أو فاعلهنّ دبر كلّ صلاة مكتوبة. . . "، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا هل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلًا بين المكتوبة والذكر، أو لا؟ محل نظر. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن تأخيره عن الرواتب لا يُعدّ فاصلًا؛ لأنها توابع للمكتوبات، واللَّه تعالى أعلم.
(ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً") أي يقول كلّ فرد منها ثلاثًا وثلاثين مرّةً، وقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون المجموع للجميع، فإذا وُزِّع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سُهيل بن أبي صالح، كما رواه مسلم من طريق رَوْح بن
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 18.
القاسم عنه، لكن لم يُتابَع سهيلٌ على ذلك، قال الحافظ: بل لم أر في شيء من طرق الحديث كلِّها التصريحَ بإحدى عشرة إلا في حديث ابن عمر عند البزار، وإسناده ضعيف، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد.
فعلى هذا، ففيه تنازُعُ ثلاثة أفعال في ظرف ومصدر، والتقدير: تسبحون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون كذلك، وتكبرون كذلك. انتهى
(1)
.
وقال في "المرعاة": ظاهر هذه الرواية أن يقول ذلك مجموعًا، ورجّحه بعضهم؛ للإتيان فيه بواو العطف، والمختار أن الإفراد أولى؛ لتميّزه باحتياجه إلى العدد، وله على كلّ حركة لذلك، سواءٌ كان بأصابعه أو بغيرها ثوابٌ لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأحاديث الآتية من غير طريق أبي صالح واضحة في كونه يسبّح ثلاثًا وثلاثين مستقلّة، ويكبّر كذلك، ويَحمد كذلك، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"من سبّح اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وحمد اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وكبّر اللَّه ثلاثًا وثلاثين. . . " الحديث واضح في استقلال كلّ جملة بالعدد المذكور، فينبغي أن يقول كلّ جملة بمفردها؛ حرصًا على ما اقتضاه ظاهر النصّ، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان، وقول أبي صالح هذا مرسل سيأتي الكلام عليه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- (فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ) بالرفع على البدليّة، ويَحْتَمل النصب على الاختصاص، أو بتقدير "نعني".
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أهل الأموال" بدلٌ من "إخوانُنَا"، وفائدة البدل الإشعار بأنهم فعلوا ذلك منهم غبطةً لا حسدًا.
وقوله: (بِمَا فَعَلْنَا) متعلّق بـ "سَمِعَ"، ضمّن "سَمِعَ" معنى "أخبر"، فعدّي بالباء، قاله الطيبيّ رحمه الله
(3)
.
(فَفَعَلُوا مِثْلَهُ) أي مثل ما فعلنا، وإطلاق الفعل على القول شائع ذائعٌ
(1)
"الفتح" 2/ 382.
(2)
"المرعاة" 3/ 322.
(3)
"الكاشف" 3/ 1060.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ) أي الزائد من الثواب الذي حصل لهم على الجود بأموالهم منضمّا إلى فعلهم مثل ما فعله الفقراء، فـ "ذلك" مبتدأ خبره قوله:(فَضْلُ اللَّهِ، يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ") قال الطيبيّ رحمه الله: فيه إشارة إلى أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، نعم لا يخلو الغنيّ عن أنواع من الخطر، والفقير الصابر آمن. انتهى. وسيأتي تمام البحث في هذا قريبًا.
(وَزَادَ غَيْرُ قُتَيْبَةَ) بن سعيد، قيل: يَحْتَمِل أن يكون هذا الغير شعيبَ بن الليث، فإن أبا عوانة أخرجه في "مستخرجه" عن الربيع بن سليمان، عن شعيب، ويَحْتَمِلُ أن يكون سعيد بن أبي مريم، فإن البيهقيّ أخرجه من طريق سعيد، ويَحتَمِل أن يكون غيرهما، قاله في "العمدة"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
(فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ اللَّيْثِ) بن سعد (عَن) محمد (ابْنِ عَجْلَانَ) أنه قال: (قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِي) قال ابن الملقّن رحمه الله: لم أر تعيين هذا البعض في رواية بعد الكشف عنه. انتهى
(2)
. (هَذَا الْحَدِيثَ) أي الذي حدّثه به أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه (فَقَالَ) ذلك البعض (وَهِمْتَ) بفتح، فكسر، كغَلِطْتَ وزنًا ومعنًى، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَهَمْتُ إلى الشيء وَهْمًا، من باب وَعَدَ: سبق القلب إليه مع إرادة غيره، وَوَهَمْتُ وَهْمًا: وقع في خَلَدي، والجمعُ أوهام، وشيء موهومٌ، وتوهَّمْتُ: أي ظننتُ، وَوَهِمَ في الحساب يَوْهَمُ وَهَمًا، مثلُ غَلِطَ يَغْلَطُ غَلَطًا وزنًا ومعنًى، ويَتَعدَّى بالهمزة والتضعيف، وقد يُستعمَلُ المهموز لازمًا، وأوهم من الحساب مائةً، مثلُ أسقط وزنًا ومعنًى، وأوهم من صلاته ركعةً: تركها. انتهى
(3)
.
وفي رواية البخاريّ: "فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبّح ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونُكبّر أربعًا وثلاثين، فرجعت إليه فقال. . . ".
قال في "الفتح": قوله: "فاختلفنا بيننا" ظاهره أن أبا هريرة هو القائل، وكذا قوله:"فرجعت إليه"، وأن الذي رجع أبو هريرة إليه هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى
(1)
راجع: "عمدة القاري" 6/ 186 - 187.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 50.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 674.
هذا فالخلاف في ذلك وقع بين الصحابة، لكن بَيَّن مسلم في رواية ابن عجلان، عن سُمَيّ أن القائل:"فاختلفنا" هو سُمَيّ، وأنه هو الذي رجع إلى أبي صالح، وأن الذي خالفه بعض أهله. انتهى.
وقوله: "وتكبر أربعًا وثلاثين" هو قول بعض أهل سُميّ كما تقدم التنبيه عليه، من رواية مسلم، وقد تقدم احتمال كونه من كلام بعض الصحابة، وقد جاء مثله في حديث أبي الدرداء، عند النسائيّ، وكذا عنده من حديث ابن عمر بسند قويّ، ومثله لمسلم من حديث كعب بن عُجرة، ونحوه لابن ماجه، من حديث أبي ذَرّ، لكن شك بعض رواته في أنهنّ أربع وثلاثون، ويخالف ذلك ما في رواية محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة، عند أبي داود، ففيه:"ويختم المائة بلا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. . . إلخ"، وكذا لمسلم في رواية عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، ومثله لأبي داود في حديث أمّ الْحَكَم، ولجعفر الفريابيّ في حديث أبي ذرّ.
قال النوويّ رحمه الله: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعًا وثلاثين، ويقول معها:"لا إله إلا اللَّه وحده. . . إلخ".
وقال غيره: بل يَجمع بأن يَختم مرةً بزيادة تكبيرة، ومرةً بـ "لا إله إلا اللَّه"، على وفق ما وردت به الأحاديث. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الأخير هو المتعيّن في وجه الجمع، وأما ما قاله النوويّ ففيه خروج عن التعليم النبويّ.
والحاصل أن الصواب أنه يكبّر. تارةً أربعًا وثلاثين، فتكون التكبيرة تمام المائة، ويكبّر أحيانًا ثلاثًا وثلاثين، ويختم المائة بـ "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. . . إلخ"، كما ورد التعليم النبويّ بكلّ منهما، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(إِنَّمَا قَالَ) أي أبو صالح، وفي نسخة:"إنما قال لك"("تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) وفي نسخة: "ثلاثًا وثلاثين مرّةً"(وَتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ") هذا في رواية المصنّف، والذي عند البخاريّ:"وتكبّر أربعًا وثلاثين"، كما سبق آنفًا.
(فَرَجَعْتُ إِلَى أَبِي صَالِحٍ، فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ) أي ذكرت له اختلافنا فيه (فَأَخَذَ
بِيَدِي، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ) ولفظ البخاريّ:"فقال: تقول: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، واللَّه أكبر" حتى يكون منهنّ كلِّهِنّ ثلاث وثلاثون".
قال ابن الملقّن رحمه الله: ظاهره أنه يقول: اللَّه أكبر، وسبحان اللَّه، والحمد للَّه، ثلاثًا وثلاثين مرّة، وظاهر الحديث أنه يُسبّح ثلاثًا وثلاثين مستقلّةً، ثم يَحْمَد كذلك، ثم يُكبّر كذلك، وهو ظاهر جميع روايات الحديث، قال القاضي عياض: وهو أولى من تأويل أبي صالح. انتهى
(1)
.
(قَالَ) وفي نسخة: "وقال" بالواو (ابْنُ عَجْلَانَ: فَحَدَّثْتُ) بالبناء للفاعل (بِهَذَا الْحَدِيثِ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ) -بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتانيّة، وفتح الواو- ابن جَرْوَل
(2)
، ويقال: جَنْدَل بن الأحنف بن السِّمْط بن امرئ القيس بن عمرو الكِنْديّ، أبو المِقْدام، ويقال: أبو نَصْر الْفِلَسطينيّ، يقال: إن لجده صحبةً، ثقةٌ فقيهٌ، من الطبقة الثالثة.
أرسل عن معاذ بن جبل، ورَوَى عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعديّ بن عَمِيرة، وعبادة بن الصامت، وعبد الرحمن بن غَنْم، ومعاوية، والنوّاس بن سَمْعان، وأبي الدرداء، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي أمامة، والْمِسْوَر بن مَخْرمة، وقَبِيصة بن ذُؤَيب، وأبي صالح السمان، وورّاد كاتب المغيرة، وخلق.
ورَوَى عنه عديّ بن عديّ بن عَمِيرة الكِنديّ، وابن عجلان، وثور بن يزيد، وابن عون، ومَطَر الورّاق، والزهريّ، ومحمد بن جُحادة، وابنه عاصم بن رجاء، وحميد الطويل، وغيرهم.
قال أبو مسهر: كان من مدينةٍ يقال لها: بيسان، ثم انتقل إلى فلسطين، وقال ابن سعد: كان ثقةً فاضلًا كثير العلم، وقال العجليّ، والنسائيّ: شاميّ
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 51.
(2)
قال الحافظ في "التهذيب": رأيت اسم جدّه مضبوطًا بخط الرضيّ الشاطبيّ: خَنْزَل بخاء معجمة، بعدها نون، ثم زاي، ثم لام. انتهى.
ثقةٌ، وقال يحيى بن حمزة، عن موسى بن يسار: كان رجاء بن حيوة، وعديّ بن عديّ، ومكحول في المسجد، فسأل رجل مكحولًا مسألة، فقال مكحولٌ: سَلُوا شيخنا وسيدنا، رجاء بن حيوة، وقال ضمرة، عن ابن شَوْذَب، عن مَطَر الورّاق: ما لقيت شاميًّا أفضل -وفي رواية: أفقه- من رجاء بن حيوة، إلا أنه إذا حركته وجدته شاميًّا، وقال الأصمعيّ عن ابن عون: رأيت ثلاثةً ما رأيت مثلهم: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بالشام، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من عُبّاد أهل الشام، وفقهائهم، وزهادهم، وقال أحمد بن حنبل: لم يَلْقَ رجاء وَرّادًا كاتب المغيرة، وكذا حَكَى الترمذيّ عن السخاويّ وأبي زرعة. قال الحافظ: وروايته عن أبي الدرداء مرسلة.
قال خليفة بن خياط، وسليمان بن عبد الرحمن، وغير واحد: مات سنة (112).
روى له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، في هذا الموضع فقط، والأربعة.
(فَحَدَّثَنِي بِمِثْلِهِ) أي بمثل ما حدّثه سميّ، ولفظ أبي عوانة:"فقال محمد بن عجلان: فذكرت ذلك لرجاء بن حيوة، فحدّثني بمثلها، عن أبي صالح، وقال: صدق سُميّ". انتهى
(1)
. (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) السمّان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
[تنبيه]: رواية ابن عجلان، عن رَجاء بن حَيْوَة هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الأوسط"، فقال:
(5310)
حدّثنا محمد بن عليّ بن الصبّاح البغداديّ، قال: حدّثنا هانئ بن المتوكل الإسكندرانيّ، حدّثنا حيوة بن شُرَيح، عن محمد بن عجلان، عن رَجاء بن حَيْوَة، وسُمَيّ مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: أتى فقراء المسلمين رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول اللَّه، ذَهَب ذوو الأموال بالدرجات، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويَحُجُّون كما نَحُجّ، ولهم فضول أموال يتصدقون منها، وليس لنا ما نتصدق، فقال: "ألا أدلكم
(1)
"مسند أبي عوانة" 1/ 558.
على أمر إذا فعلتموه أدركتم من سبقكم، ولم يَلْحَقكم مَن خَلَفَكم، إلا مَن عَمِل بمثل ما عملتم؟ تسبحون اللَّه دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثًا وثلاثين، وتكبروه
(1)
أربعًا وثلاثين"، فبلغ ذلك الأغنياءَ، فقالوا مثل ما قالوا، فأتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فقال: "ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء". انتهى
(2)
.
وساقها أيضًا في "المعجم الصغير"، وقال في آخرها: لم يروه عن رجاء إلا ابنُ عجلان. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.
[تنبيه]: تكلّم الرشيد العطّار رحمه الله في رواية المصنّف هذه، فقال في كتابه "غرر الفوائد" (1/ 301) بعد أن ساق رواية المصنّف هذه بنصّها:
هكذا أورده مسلم، وهو حديثٌ بعضه مسندٌ، وبعضه مرسلٌ، والمرسل منه قول أبي صالح:"فرجع فقراء المهاجرين. . . " إلى آخره؛ لأن أبا صالح لم يُسنِده.
وقد أخرج البخاريّ هذا الحديث في غير موضع من كتابه، ولم يذكر فيه هذه الزيادة من قول أبي صالح، إلا أن مسلمًا رحمه الله قد أخرجه من وجه آخر، عن أبي صالح -يعني الرواية التالية- وفيه هذه الزيادة متصلةً مع سائر الحديث، فأخرجه من حديث رَوْح بن عُبَادة، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال في آخره: بمثل حديث قتيبة، عن الليث، إلا أنه أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: ثم رجع فقراء المهاجرين. . . إلى آخر الحديث. انتهى كلام مسلم رحمه الله.
(1)
هكذا نسخة "الأوسط" بحذف نون الرفع في "تحمدوه"، و"تكبروه"، وفي "المعجم الصغير" بإثباتها في المواضع الثلاثة، وحذفها دون ناصب وجازم لغة قليلة، فتنبّه.
(2)
"المعجم الأوسط" 5/ 278 - 279.
(3)
"المعجم الصغير" 2/ 72 رقم (802).
قال الرشيد رحمه الله: فقد اتّصل ما في هذا الحديث من المرسل من هذا الوجه الآخر الذي ذكرناه، والحمد للَّه.
قال: ووقع في آخر هذا الحديث أيضًا زيادة أوردها مسلم غير متصلة، وهي قوله بعد انقضائه: وزاد غير قتيبة في هذا الحديث، عن الليث، عن ابن عجلان، قال سُمَيّ: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث، فقال: وَهِمْتَ، وذكر باقي الحديث، وهذا غير متصل كما ترى. انتهى كلام الرشيد العطّار رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "فقد اتّصل. . . إلخ" هذا الذي اعتبره الرشيد العطّار رحمه الله متّصلًا من رواية سهيل، عن أبيه لا يراه الحافظ متّصلًا؛ لأنه ذكر فيه قول أبي صالح مدرجًا، ونصّه في "الفتح": زاد مسلم في رواية ابن عجلان، عن سُميّ:"قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه. . . إلخ"، ثم ساقه مسلم من رواية رَوْح بن القاسم، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذَكَرَ طَرَفًا منه، ثم قال بمثل حديث قتيبة، قال: إلا أنه أدرج في حديث أبي هريرة قولَ أبي صالح: "فرجع فقراء المهاجرين. . . إلخ".
قال الحافظ: وكذا رواه أبو معاوية، عن سهيل مُدرجًا، أخرجه جعفر الفريابيّ، وتبين بهذا أن الزيادة المذكورة مرسلةٌ.
وقد رَوَى الحديث البزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه:"فرَجَع الفقراء. . . "، فذكره موصولًا، لكن إسناده ضعيفٌ، ورواه جعفر الفريابيّ من رواية حَرَام بن حكيم -وهو بحاء، وراء مهملتين- عن أبي ذرّ رضي الله عنه، وقال فيه: فقال أبو ذرّ: يا رسول اللَّه، إنهم قد قالوا مثل ما نقول، فقال:"ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء".
ونَقَلَ الخطيب أن حرام بن حكيم يُرسل الرواية عن أبي ذرّ رضي الله عنه، فعلى هذا لم يصح بهذه الزيادة إسناد، إلا أن هذين الطريقين يَقْوَى بهما مُرسل أبي صالح. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
.
(1)
راجع: "قرة عين المحتاج في شرح المقدّمة" 1/ 131 - 132.
(2)
"الفتح" 2/ 384 - 385.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن قول أبي صالح: "فرجع فقراء المهاجرين. . . إلخ" مرسل، وليس متّصلًا كما زعمه الرشيد العطّار، مستدلًّا برواية سهيل التالية، بل فيها إدراج قول أبي صالح كما أرشد إليه المصنّف في كلامه الآتي، لكن هذا المرسل يتقوّى بالطريقين اللذين ذكرهما الحافظ، كما بيّنه في كلامه المذكور آنفًا، فتبصّر.
وأما قوله: "وزاد غير قتيبة. . . إلخ" فلم أجد من وصله، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الثانية): في "تخريجه":
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 1350 و 1351](595)، و (البخاريّ) في "الأذان"(843) و"الدعوات"(6329)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(145 و 146)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(749)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2014)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2085 و 2086)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1320 و 1321)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 186)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(717 و 720)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الذكر عقب الصلوات، واستدلّ به البخاريّ رحمه الله على فضل الدعاء عقب الصلاة؛ لأنه في معناها، ولأنها أوقات فاضلة، يُرتَجَى فيها إجابة الدعاء.
2 -
(ومنها): بيان جواز الغِبْطَة، وهي تمنّي مِثْلِ ما للغير من النعمة دون زوالها عنه، بخلاف الْحَسَد، فإنه تمني زوال النعمة عن المنعَم عليه، سواء تمناها لنفسه، أو لا، وقيل: مع تمنيها، وهو مذموم.
3 -
(ومنها): استحباب المسابقة إلى الأعمال المحصّلة للدرجات العالية؛ لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بَلَغَهم، ولم ينكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): بيان أن العمل اليسير في الصورة قد يُدْرِك به صاحبه فضل العمل الشاقّ الذي يلحقه من بعده في الفضل ممن لا يعمل به.
5 -
(ومنها): بيان أن العمل القاصر قد يُساوي المتعدّيَ، خلافًا لمن
قال: إن المتعدي أفضل مطلقًا، نبّه على ذلك الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: في هذه الأحاديث الحضّ على الذكر في أدبار الصلوات، وأن ذلك يوازي إنفاق المال في طاعة اللَّه تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"تُدركون من سبقكم"، وسُئل الأوزاعيّ رحمه الله: هل الذكر بعد الصلاة أفضل، أم تلاوة القرآن؟، فقال: ليس شيء يَعدِل القرآن، ولكن كان هدي السلف الذكر.
7 -
(ومنها): بيان أن الذكر المذكور يلي الصلاة المكتوبة، ولا يؤخَّر عنها إلى أن تصلَّى الراتبة؛ لقوله:"دُبُر كلّ صلاة".
8 -
(ومنها): بيان أن أدبار الصلوات أوقات فاضلة يُرجى فيها إجابة الدعوات، وقبول الطاعات، ويَصِل بها متعاطيها إلى الدرجات العالية، والمنازل الغالية.
9 -
(ومنها): بيان أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف يُجيب بما يَلْحَق به المفضول درجة الفاضل، ولا يُجيب بنفس الفاضل؛ لئلا يقع الخلاف، كذا قال ابن بطّال، وكأنه أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله:"ألا أدلّكم على أمر تساوونهم فيه"، وعَدَل عن قوله: نعم هم أفضل منكم بذلك.
10 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله: في الحديث دليلٌ على قوّة رغبة الصحابة رضي الله عنهم في الأعمال الصالحة الموجبة للدرجات العلى، والنعيم المقيم، فكانوا يَحْزنون على العجز عن شيء مما يَقدِر عليه غيرهم من ذلك، وقد وصفهم اللَّه عز وجل في كتابه بذلك بقوله:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 92].
ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا حَسَدَ إلا في اثنتين. . . " الحديث، فذكر منهما:"رجلٌ آتاه اللَّه مالًا، فهو ينفقه في وجهه، فيقول رجلٌ: لو أن لي مالًا لفعلت فيه كما فعل ذلك"
(1)
، فلذلك كان الفقراء إذا رأوا أصحاب الأموال
(1)
أخرجه البخاري في "صحيحه"، ولفظه: =
يحجّون، ويَعتمرون، ويُجاهدون، ويتصدّقون، ويُنفقون حزِنُوا على عجزهم عن ذلك، وتأسّفوا على امتناعهم من مشاركتهم فيه، وشَكَوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدلّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على عمل إن أخذوا به أدركوا من سبقهم، ولم يُدركهم أحدٌ بعدهم، وكانوا خير من هم بين ظهرانيهم، إلا من عَمِل مثله، وهو التسبيح، والتحميد، والتكبير خلف كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ": هذا الحديث يدلّ على أن الذكر أفضل الأعمال، وأنه أفضل من الجهاد، والصدقة، والعتق، وغير ذلك، وقد رُوي هذا المعنى صريحًا عن جماعة كثيرة من الصحابة، منهم أبو الدرداء، ومعاذٌ، وغيرهما رضي الله عنهم، ورُوي مرفوعًا من وجوه متعدّدة أيضًا.
وقال رحمه الله في "جامع العلوم والحكم": وقد تكاثرت النصوص بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيره من الأعمال، كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تَلْقَوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال:"ذكر اللَّه عز وجل"، خرّجه الإمام أحمد، والترمذيّ
(2)
، وذكره مالك في "الموطأ" موقوفًا على أبي الدرداء رضي الله عنه.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله
= (5026) حدّثنا عليّ بن إبراهيم، حدثنا رَوْح، حدّثنا شعبة، عن سليمان، سمعت ذكوان، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علّمه اللَّه القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يَعمَل، ورجل آتاه اللَّه مالًا، فهو يهلكه في الحقّ، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعَمِلت مثل ما يَعْمَل. انتهى.
(1)
"شرح البخاريّ" لابن رجب 7/ 405 - 406.
(2)
حديث صحيح، صحّحه الحاكم في "المستدرك" 1/ 496، ووافقه الذهبيّ.
إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عَدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك، حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك".
وفيهما أيضًا عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قالها عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل".
وخرّج الإمام أحمد، والترمذيّ، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل أيُّ العباد أفضل درجةً عند اللَّه يوم القيامة؟ قال:"الذاكرون اللَّه كثيرًا"، قلت: يا رسول اللَّه: ومن الغازي في سبيل اللَّه؟ قال: "لو ضَرَب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر، ويختضب دمًا، لكان الذاكرون اللَّه أفضل منه درجةً"
(1)
، ويُروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعًا، والصواب وقفه على معاذ من قوله.
وخرّج الطبرانيّ من حديث أبي الوازع، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن رجلًا في حجره دراهم يقسمها، وآخر يذكر اللَّه، كان الذاكر أفضل".
قلت: الصحيح عن أبي الوازع، عن أبي برزة الأسلميّ من قوله، خرّجه جعفر الفريابيّ.
وخرّج أيضًا من حديث أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من كبر مائة، وسبح مائة، وهلَّل مائة، كانت خيرًا له من عشر رقبات يُعتقها، ومن سبع بدنات ينحرها".
وخرّج ابن أبي الدنيا بإسناده، عن أبي الدرداء، أنه قيل له: إن رجلًا أعتق مائة نسمة، فقال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمانٌ ملزوم بالليل والنهار، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر اللَّه عز وجل.
وعن أبي الدرداء أيضًا قال: لأن أقول اللَّه أكبر مائة مرة، أحب إلي من
(1)
حديث ضعيف؛ لأن في سنده درّاجًا وهو ضعيف عن أبي الهيثم، وهذا منه، والراوي عنه ابن لهيعة، وهو أيضًا متكلّم فيه.
أن أتصدق بمائة دينار، وكذلك قال سلمان الفارسيّ وغيره من الصحابة والتابعين: إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال.
وخرّج الإمام أحمد، والنسائيّ من حديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها:"سبّحي اللَّه مائة تسبيحة، فإنها تعدل مائة رقبة من ولد إسماعيل، واحمدي اللَّه مائة تحميدة، فإنها تعدل لك مائة فرس مُلْجَمة مُسْرَجة تَحملين عليهن في سبيل اللَّه، وكبّري اللَّه مائة تكبيرة، فإنها تعدل مائة بدنة مُقَلّدة متقبلة، وهلّلي اللَّه مائة تهليلة، لا أحسبه إلا قال: تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذ لأحد مثل عملك، إلا أن يأتي بمثل ما أتيت"
(1)
.
وخرّجه أحمد أيضًا، وابن ماجه، وعندهما:"وقولي: لا إله إلا اللَّه، مائة مرة لا تَذَرُ ذنبًا، ولا يسبقها العمل".
وخرّجه الترمذيّ من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه، وقال: هذا حديث حسنٌ غريب.
وخرّج الطبرانيّ من حديث ابن عباس مرفوعًا قال: "ما من صدقة أفضل من ذكر اللَّه عز وجل"
(2)
.
وخرّج الفريابيّ بإسناد فيه نظرٌ، عن أبي أمامة مرفوعًا:"ومن فاته الليل أن يكابده، ويبخل بماله أن ينفقه، وجَبُن عن العدو أن يقاتله، فليكثر من سبحان اللَّه وبحمده، فإنها أحبّ إلى اللَّه عز وجل من جبل ذهب، أو جبل فضة، ينفقه في سبيل اللَّه عز وجل".
وخرّج البزار بإسناد مقارب، من حديث ابن عباس مرفوعًا، قال في حديثه:"فليكثر ذكر اللَّه"، ولم يزد على ذلك، وفي المعنى أحاديث أخر متعددة. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله في "جامع العلوم والحكم"
(3)
.
وقال في "شرح البخاريّ": ولا يعارض هذا -يعني ما سبق من تفضيل
(1)
حديث حسنٌ، انظر:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ 3/ 302.
(2)
أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، قال الهيثميّ: ورجاله وُثّقوا. انتهى. "مجمع الزوائد" 10/ 77.
(3)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 49 - 52.
الذكر على الجهاد وغيره- حديث الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عما يعادل الجهاد؟ فقال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تُفطر، وتقوم فلا تفتر. . . " الحديث المشهور؛ لأن هذا السائل سأل عن عمل يعمله في مدّة جهاد المجاهد من حين خروجه من بيته إلى قُدومه، فليس يُعْدَل ذلك بشيء غير ما ذُكر، والفقراء دلّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على عمل يستصحبونه في مدّة عمرهم، وهو ذكر اللَّه الكثير في أدبار الصلوت، وهذا أفضل من جهاد يَقع في بعض الأحيان يُنفق صاحبه فيه ماله.
فالناس منقسمون ثلاثة أقسام:
أهل الذكر يدومون عليه إلى انقضاء أجلهم.
وأهل جهاد يُجاهدون، وليس لهم مثل ذلك الذكر، فالأولون أفضل من هؤلاء.
وقوم يَجمعون بين الذكر والجهاد، فهؤلاء أفضل الناس.
ولهذا لَمّا سمع الأغنياء الذين كانوا يحجّون، ويَعتمرون، ويُجاهدون، ويتصدّقون بما عَلَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الفقراء من ذلك عَمِلوا به، فصاروا أفضل من الفقراء حينئذ، ولهذا لَمّا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قال:"ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء".
ومن زعم من الصوفيّة أنه أراد أن الفقر فضل اللَّه، فقد أخطأ، وقال ما لا يعلم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في التفضيل بين الغنى والفقر:
قال ابن بطاّل، عن المهلّب رحمهما اللَّه: في هذا الحديث فضل الغنى نصًّا لا تأويلًا، إذا استوت أعمال الغني والفقير، فيما افترض اللَّه عليهما، فللغنيّ حينئذ فضل عمل البرّ من الصدقة ونحوها مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلّمين ذهب إلى أن هذا الفضل يخصّ الفقراء دون
(1)
"شرح البخاريّ" لابن رجب 7/ 405 - 407.
غيرهم، أي الفضل المرتّب على الذكر المذكور، وغفل عن قوله في نفس الحديث:"إلا من صنع مثل ما صنعتم"، فجعل الفضل لقائله كائنًا من كان.
وقال القرطبيّ رحمه الله: استدلّ بهذا الحديث من يُفضّل الغنى على الفقر، وهي مسألة اختُلِف فيها على خمسة أقوال: فمن قائل بتفضيل الغنى، ومن قائل بتفضيل الفقر، ومن قائل بتفضيل الكَفَاف، ومن قائل رابع بردّ هذا التفضيل إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك، ومن قائل خامس توقّف، ولم يفضّل واحدًا منهما على الآخر، والمسألة لها غَوْرٌ، وفيها أحاديث متعارضة.
قال: والذي يظهر لي أن الأفضل من ذلك ما اختاره اللَّه تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ولجمهور أصحابه رضي الله عنهم، وهو الفقر غير المدقع.
قال: وتأوّل بعضهم قوله: "ذلك فضل اللَّه يؤتيه" بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثواب المرتّب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند اللَّه، فكأنه قال: ذاك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقّه أحد بحسب الذكر، ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل اللَّه
(1)
.
قال: وهذا التأويل فيه بُعدٌ، ولكن اضطرّه إليه ما يعارضه
(2)
.
وتُعقب بأن الجمع بينه وبين ما يُعارضه ممكن من غير احتياج إلى التعسف.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: ظاهر الحديث القريبُ من النصّ أنه فَضَّلَ الأغنياء بزيادة القربات المالية، وبعض الناس تأول قولَه:"ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء" بتأويل مُستكرَه، يخرجه عما ذكرناه، كأنه يشير إلى ما تقدّم.
قال: والذي يقتضيه الأصل أنهما إن تساويا، وفضّلت العبادات المالية أنه يكون الغنيّ أفضل، ولا شكّ في ذلك، وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط، وانفرد كلّ منهما بمصلحة ما هو فيه، وإذا كانت المصالح متقابلة، ففي ذلك نظر، يرجع إلى تفسير الأفضل، فإن فُسّر بزيادة الثواب،
(1)
"المفهم" 2/ 213 - 214.
(2)
قوله "وهذا التأويل إلخ" هكذا عزاه في "الفتح" إلى القرطبيّ، ولم أره في "المفهم"، ولعله لاختلاف النسخ، واللَّه تعالى أعلم.
فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدّية أفضل من القاصرة، وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل لها من التطهير بسبب الفقر أشرف، فيترجّح الفقراء.
ومن ثَمَّ ذهب جمهور الصوفيّة إلى ترجيح الفقير الصابر.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: قضية الحديث أن شكوى الفقر تبقى بحالها، وأجاب بأن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العُلَى، والنعيم المقيم لهم أيضًا، لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقًا. اهـ.
قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة، وطهر أن الجواب وقع قبل أن يَعلَم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن متمنّي الشيء يكون شريكًا لفاعله في الأجر، كما ثبت في حديث الترمذيّ رحمه الله
(1)
بأن المنفق والمتمنّي إذا كان صادق النية في الأجر سواء، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"من سنّ سنّة حسنة، فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيئًا"، فإن الفقراء في هذه القصّة كانوا السبب في تعلّم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله، امتاز الفقراء بأجر السبب، مضافًا إلى التمنّي، فلعل ذلك يقاوم التقرّب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شَظَف العيش، وشكر الغنيّ على
(1)
هو ما أخرجه الترمذيّ في "جامعه" عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاثة أُقسم عليهنّ، وأحدِّثكم حديثًا فاحفظوه -قال-: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظُلم عبد مظلمة فصبر عليها، إلا زاده اللَّه عزًّا، ولا فتح عبد باب مسألة، إلا فتح اللَّه عليه باب فقر -أو كلمة نحوها- وأحدثكم حديثًا فاحفظوه -قال-: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللَّه مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويَصِلُ فيه رحمه، ويَعْلَم للَّه فيه حقًّا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه اللَّه علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيّته، فأجرهما سواءٌ، وعبد رزقه اللَّه مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يَخْبِط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يَصِل فيه رحمه، ولا يعلم للَّه فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيّته، فوزرهما سواء"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
التنعّم بالمال، ومن ثمّ وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: استدلاله بحديث من "سنّ سنّة حسنة إلخ" على هذه المسألة فيه نظر؛ لأن الذين تسببوا هم فقراء الصحابة، فالاشتراك مع الأغنياء في الأجر قاصر عليهم، لا يتعدّاهم إلى غيرهم من الفقراء؛ لأن غيرهم لم يشاركهم في التسبب، فكيف يستدلّ به على تفضيل الفقير على الغني على الإطلاقّ؟، واللَّه أعلم.
وقال في "كتاب الأطعمة" عند قول البخاريّ رحمه الله: "بابٌ الطاعمُ الشاكرُ مثل الصائم الصابر" فيه عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ما نصه: وفيه رفع الاختلاف المشهور في الغنيّ الشاكر والفقير الصابر، وأنهما سواء، كذا قيل، ومساق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر؛ لأن الأصل أن المشبَّه به أعلى درجة من المشبَّه.
والتحقيق عند أهل الْحِذْق أن لا يجاب في ذلك بجواب كلّيّ، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأحوال، نعم عند الاستواء من كل جهة، وفَرْضِ رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، ولا ينبغي أن يُعدل بالسلامة شيء. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): قال الحافظ رحمه الله: وقع في رواية وَرْقاء عن سُمَيّ عند البخاريّ في "الدعوات" في هذا الحديث: "تسبحون عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا"، ولم أقف في شيء من طُرُق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك، لا عن سُميّ، ولا عن غيره، ويَحْتَمِل أن يكون تأوّل ما تأوّل سهيل من التوزيع، ثم ألغى الكسر، ويَعْكُر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد وجدت لرواية العشر شواهد، منها عن عليّ عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائيّ، وعن عبد اللَّه بن عمرو عنده، وعند أبي
(1)
"الفتح" 2/ 385.
(2)
"الفتح" 10/ 730 - 731.
داود، والترمذيّ، وعن أم سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبرانيّ.
وجَمَع البغويّ في "شرح السنة" بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة، أوّلها عشرًا عشرًا، ثم إحدى عشرة إحدى عشرة، ثم ثلاثًا وثلاثين ثلاثًا وثلاثين، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال.
وقد جاء من حديث زيد بن ثابت، وابن عمر رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا كلّ ذكر منها خمسًا وعشرين، ويزيدوا فيها:"لا إله إلا اللَّه" خمسًا وعشرين.
ولفظ زيد بن ثابت رضي الله عنه: أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فأُتِيَ رجل في منامه، فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا. . . فذكره، قال: نعم، قال: اجعلوها خمسًا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال:"فافعلوه"، أخرجه النسائيّ، وابن خزيمة، وابن حبان.
ولفظ ابن عمر رضي الله عنهما: رأى رجلٌ من الأنصار فيما يرى النائم، فذكر نحوه، وفيه: فقيل له: سبح خمسًا وعشرين، واحْمَدْ خمسًا وعشرين، وكَبِّر خمسًا وعشرين، وهَلِّل خمسًا وعشرين، فتلك مائة، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفعلوا كما قال. أخرجه النسائيّ، وجعفر الفريابي.
واستُنْبِط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرةٌ، وإلا لكان يُمكن أن يقال لهم: أضيفوا لها التهليل ثلاثًا وثلاثين.
وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالذكر عقب الصلوات، إذا رُتِّب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور، لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمةٌ وخاصيّةٌ تفوت بمجاوزة ذلك العدد.
قال الحافظ أبو الفضل العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": وفيه نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رُتِّب الثواب على الإتيان به، فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه، كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: ويمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال العراقيّ لا محالةَ، وإن زاد بغير نية، بأن يكون الثواب رُتِّب على عشرة مثلًا، فرتّبه هو على مائة، فيتجه القول الماضي.
وقد بالغ القرافيّ في "القواعد"، فقال: من الْبِدَع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعًا؛ لأن شأن العظماء إذا حَدُّوا شيئًا أن يُوقَفَ عنده، ويُعَدّ الخارج عنه مسيئًا للأدب. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أحسن كلام القرافيّ رحمه الله في هذا، فالحقّ أنه لا ينبغي الزيادة على الأعداد والتقديرات الشرعيّة، وإن كانت مندوبات؛ لأن للشارع الحكيم حكمة لا يعلمها غيره، فإذا وجّه إلى شيء من العبادة، أذكارًا، أو غيرها، وعيّن لها عددًا، أو صفة معيّنة، فلا ينبغي العدول عنها إلا بتوقيف منه، فالأذكار التي خلف الصلوات، وغيرها لا ينبغي أن يُتجاوز العدد المأثور فيها، إلا أن يقطعها، ثم يستأنف.
وبالجملة فالذي ينبغي للعاقل أن يقف عند تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم للأذكار، أو غيرها مع تعيينه لها عددًا، أو صفةً، أو وقتًا، أو غير ذلك، ولا يتجاوز ذلك التوجيه؛ لأنه توجيه ربّانيّ يلزم التأدّب معه، فليُتنبّه لمثل هذا، فإن كثيرًا من الناس عنه لغافلون، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: وقد مثّله بعض العلماء بالدواء يكون مثلًا فيه أوقية سُكّر، فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء، ثم استَعْمَل من السكّر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أجمل هذا التمثيل، وما أحقّه أن يُنظر إليه بعين الاعتبار، والبصيرة النافذة، فإن الأذكار النبويّة أدوية للأمراض الحسيّة والمعنويّة، والقلبيّة والبدنيّة، فكما ينبغي المحافظة على ما يصفه الأطبّاء للأدوية البدنيّة، فكذلك ينبغي المحافظة على ما وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم للأدوية الروحيّة، فإنه صلى الله عليه وسلم مبلّغ عن ربّه عز وجل، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4].
قال: ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص
مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص؛ لما في ذلك من قطع الموالاة؛ لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمةٌ خاصّةٌ تفوت بفواتها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، كما أسلفته آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(المسألة السابعة): في اختلاف ألفاظ هذا الحديث:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ": وأما ألفاظ الحديث، فهي مختلفة، ففي رواية عُبيد اللَّه بن عمر التي أخرجها البخاريّ ها هنا:"تسبّحون، وتحمدون، وتكبّرون ثلاثًا وثلاثين"، وفسّره بأنه يقول: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، واللَّه أكبر، حتى يكون منهنّ كلِّهنّ ثلاثًا وثلاثين، وقد تبيّن أن المفسِّر لذلك هو أبو صالح، وهذا يَحْتَمل أمرين:
أحدهما: أنه يَجمع بين هذه الكلمات الثلاث، فيقولها ثلاثًا وثلاثين مرّةً، فيكون مجموع ذلك تسعًا وتسعين.
والثاني: أنه يقولها إحدى عشرة مرّةً، فيكون مجموع ذلك ثلاثًا وثلاثين، وهذا هو الذي فهمه سُهيل، وفسَّر الحديث به، وهو ظاهر رواية سُميّ، عن أبي صالح أيضًا، ولكن قد رُوي حديث أبي هريرة من غير هذا الوجه صريحًا بالمعنى الأول، فخرّجه مسلم من حديث سُهيل، عن أبي عُبيد الْمَذْحِجيّ، وهو مولى سليمان بن عبد الملك وحاجبه، عن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من سبّح اللَّه في دبر كلّ صلاة. . . " الحديث سيأتي في هذا الباب.
قال: وقد روي عن سُهيل بهذا الإسناد موقوفًا على أبي هريرة، وكذا رواه مالك في "الموطّأ"، عن أبي عُبيد موقوفًا، وخرّجه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق مالك مرفوعًا، والموقوف عن مالك أصحّ.
وخرّجه النسائيّ في "اليوم والليلة" بنحو هذا اللفظ من رواية ابن عَجلان، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا.
وخرّج الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبّان في "صحيحه" عن الأوزاعيّ، حدّثني حسان بن عطيّة، قال: حدّثني محمد بن أبي عائشة، قال:
حدّثني أبو هريرة، قال: قال أبو ذرّ: يا رسول اللَّه ذهب أصحاب الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها، وليس لنا مال نتصدق به، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذرّ ألا أعلمك كلمات تدرك بهن من سبقك، ولا يَلحقك من خلفك، إلا من أخذ بمثل عملك؟ " قال: بلى يا رسول اللَّه، قال:"تكبر اللَّه عز وجل دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمده ثلاثًا وثلاثين، وتسبحه ثلاثًا وثلاثين، وتختمها بلا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، غُفِرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر"
(1)
.
قال: فهذا ما في حديث أبي هريرة من الاختلاف.
وقد رُوي عنه نوع آخر، وهو التسبيح مائة مرّة، والتكبير مائة مرّة، والتهليل مائة مرّة، والتحميد مائة مرّة، خرّجه النسائيّ في كتاب "عمل اليوم والليلة" بإسناد فيه ضعف، ورُوي موقوفًا على أبي هريرة.
وخرّجه النسائيّ في "السنن" بإسناد آخر عن أبي هريرة مرفوعًا: "من سبّح اللَّه في دبر صلاة الغداة مائة تسبيحة، وهلّل مائة تهليلة، غُفر له ذنوبه، ولو كانت مثل زَبَد البحر"
(2)
.
ورُوي عن أبي هريرة موقوفًا عبيه: "التسبيح عشرٌ، والتحميد عشرٌ، والتكبير عشرٌ"، وقد أخرجه البخاريّ في "الدعوات" من "صحيحه" من طريق ورقاء، عن سُميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قالوا: يا رسول اللَّه ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم. . . الحديث، وفيه:"تُسبحون في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا".
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير حديث أبي هريرة في هذا الباب أنواعٌ أُخر من الذكر:
(فمنها): التسبيح، والتحميد، والتكبير مائة، فالتسبيح والتحميد كلّ منهما
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 238، وأبو داود في "سننه" رقم (1504)، وابن حبّان في "صحيحه" 5/ 358.
(2)
حديث صحيحٌ، أخرجه النسائيّ 3/ 79 و"عمل اليوم والليلة" رقم (140).
ثلاثٌ وثلاثون، والتكبير وحده أربع وثلاثون، خرّجه مسلم من حديث كعب بن عُجرة
(1)
، وخرّجه الإمام أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، لكن عنده أن التحميد هو الأربع، وخرّجه ابن ماجه، وعنده أن ابن عيينة قال: لا أدري أيتهنّ أربع.
(ومنها): التسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل مائة مرّة، من كلّ واحد خمس وعشرون، خرّجه الإمام أحمد، والنسائيّ، والترمذيّ من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وخرّجه النسائيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(ومنها): التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد مثله، والتكبير أربعًا وثلاثين، فذلك مائة، ويزيد عليهنّ التهليل عشرًا، خرّجه النسائيّ، والترمذيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(ومنها): التسبيح عشر مرّات، والتحميد مثله، والتكبير مثله، فذلك ثلاثون، خرّجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ما جه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وخرّجه النسائيّ في "اليوم والليلة" من حديث سعد رضي الله عنه.
(ومنها): التكبير إحدى عشرة مرّةً، والتحميد مثله، والتهليل مثله، والتسبيح مثله، فذلك أربعٌ وأربعون، خرّجه البزّار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف، فيه موسى بن عُبيدة.
قال ابن رجب رحمه الله: ويجوز الأخذ بجميع ما ورد من أنواع الذكر عقب الصلوات، والأفضل أن لا ينقص عن مائة؛ لأن أحاديثها أصحّ أحاديث الباب.
واختُلف في تفضيل بعضها على بعض، فقال أحمد في رواية الفضل بن زياد، وسئل عن التسبيح بعد الصلاة ثلاثةً وثلاثين أحبّ إليك، أم خمسةً وعشرين؟ قال: كيف شئتَ.
قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا التخيير بينهما من غير ترجيح، وقال
(1)
هو الحديث الآتي بعد هذا.
في رواية عليّ بن سعيد: أذهب إلى حديث ثلاث وثلاثين، وظاهر هذا تفضيل هذا النوع على غيره، ولذلك قال إسحاق: الأفضل أن يُسبّح ثلاثًا وثلاثين، ويَحمَد ثلاثًا وثلاثين، ويُكبّر ثلاثًا وثلاثين، ويَختِم المائة بالتهليل، قال: وهو في دبر صلاة الفجر آكد من سائر الصلوات؛ لما ورد من فضيلة الذكر بعد الفجر إلى طلوع الشمس، نَقَل ذلك عنه حرب الكرمانيّ.
وهل الأفضل أن يَجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير في كلّ مرّة، فيقولهنّ ثلاثًا وثلاثين مرّة، ثم يَختم بالتهليل؟ أم الأفضل أن يُفرد التسبيح والتحميد والتكبير على حِدَةٍ؟ قال أحمد في رواية محمد بن ماهان، وسأله: هل يَجمع بينهما أو يُفرد؟ قال: لا يُضيَّق، قال أبو يعلى: وظاهر هذا أنه مخيَّرٌ بين الإفراد والجمع، وقال أحمد في رواية أبي داود: يقول هكذا: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا يقطعه، وهذا ترجيح منه للجمع كما قاله أبو صالح، لكن ذكر التهليل فيه غرابة.
وقد روى عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة مرسلًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا دبر كلّ صلاة: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، وسبحان اللَّه، والحمد للَّه عشرًا.
وقال إسحاق: الأفضل أن يُفرد كلّ واحد منها، وهو اختيار القاضي أبي يعلى من أصحابنا، قال: وهو ظاهر الأحاديث لوجهين:
أحدهما: أنه قال: يُسبّحون، ويحمدون، ويكبّرون، والواو قد قيل: إنها للترتيب، فإن لم تقتض وجوبه أفادت استحبابه.
والثاني: أن هذا مثل نقل الصحابة رضي الله عنهم لوضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه تمضمض ثلاثًا، واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا، ولا خلاف في المراد أنه غسل كلّ عُضو من ذلك بانفراده ثلاثًا ثلاثًا قبل شروعه في الذي بعده، ولم يَغسِل المجموع مرّة، ثم أعاد مرّةً ثانيةً وثالثةً.
قال ابن رجب: هذا على رواية من رَوَى التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتكبير ثلاثًا وثلاثين ظاهرٌ، وأما من روى يسبحون، ويحمدون، ويكبّرون ثلاثًا وثلاثين، فمحتملةٌ، ولذلك وقع الاختلاف في فهم
المراد منها. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أسلفنا أن الإفراد هو الأولى؛ عملًا بظاهر أكثر الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من سبّح اللَّه في دبر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وكبّر اللَّه ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة. . . " الحديث صريح في إفراد كلّ منها، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1351]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، إِلَّا أَنَّهُ أَدْرَجَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَ أَبِي صَالِحٍ: ثُمَّ رَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: يَقُولُ سُهَيْلٌ: إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى عَشْرَةَ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ كُلِّهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ).
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ) -بالياء، والشين المعجمة- أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْح) بن القاسم التميميّ الْعَنْبَريّ، أبو غِيَاث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(ح م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
4 -
(سُهَيْل) بن أبي صالح السمّان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
5 -
(أَبُوهُ) هو: أبو صالح السمّان، تقدّم قبله، وكذا أبو هريرة رضي الله عنه.
(1)
"شرح صحيح البخاريّ" لابن رجب 7/ 409 - 416.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ) يعني سهيل بن أبي صالح حدّث عن أبيه أبي صالح، بمثل حديث سُميّ عن أبي صالح الذي رواه قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، عنه، وإنما خصّ رواية قتيبة؛ لأن المصنّف روى الحديث من طريقين: طريق عاصم بن النضر، عن المعتمر بن سليمان، عن عُبيد اللَّه العمريّ، عن سُميّ، وطريق قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، عن سُميّ، وبين سياقيهما اختلاف، فبيّن أن رواية سهيل توافق السياق الذي رواه قتيبة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ أَدْرَجَ. . . إلخ) يعني أن سُهيلًا أدرج في الحديث قول أبي صالح: "ثم رجع. . . إلخ" وهذا فيه إشارة إلى أن رواية سُميّ الماضية بفصل قول أبي صالح هو المحفوظ.
وقوله: (إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى عَشْرَةَ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ كُلِّهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ) تقدّم أن هذا مما فهمه سُهيل من تفسير قوله: "ثلاثًا وثلاثين"، فظنّ توزيعه على الأذكار الثلاثة، والصواب أن ثلاثًا وثلاثين لكلّ فرد من أفراد الأذكار الثلاثة، فيكون كلّ من التسبيح، والتحميد، والتكبير ثلاثًا وثلاثين، والمجموع تسعة وتسعون، لا ثلاثة وثلاثون، وأوضح دليل على ذلك ما يأتي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مَن سَبّح اللَّه في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وكبّر اللَّه ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا اللَّه وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير،. . . " الحديث.
وقوله: (فَجَمِيعُ ذَلِكَ كُلِّهِ) بجرّ "كلّه" توكيد لاسم الإشارة.
[تنبيه]: رواية سهيل، عن أبيه هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 194) فقال:
(1323)
حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، في مجموع حديثه لرَوْح، ثنا ابن أبي عاصم، ثنا أمية، ثنا يزيد بن زريع، ثنا رَوْحٌ، عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول اللَّه، ذهب أهل الدُّثُور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، صَحِبُوك كما صحبناك، ويجدون أموالًا ينفقونها، ولا نجدها، فقال: "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه أدركتم به مَن قبلكم، إلا من
قال مثل ما قلتم؟ تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة، ثلاثًا وثلاثين"، إحدى عشرة، وإحدى عشرة، وإحدى عشرة، فذلك كله ثلاث وثلاثون، قال: فلما فعلوا ذلك فعل الآخرون، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "ذلك الفضل يؤتيه اللَّه من يشاء". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1352]
(596) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ، أَوْ فَاعِلُهُنَّ، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى) بن ماسَرْجس -بفتح المهملة، وسكون الراء، وكسر الجيم، بعدها مهملة- الماسَرْجِسي، أبو علي النيسابوريّ، مولى ابن المبارك، ثقة [10] تقدم في "المقدمة" 6/ 101.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد اللَّه الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ جوادٌ مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
3 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) -بكسر الميم- أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
4 -
(الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ) الْكِنديّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
6 -
(كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ) الأنصاريّ الصحابيّ المشهور، أبو محمد المدنيّ، مات بعد الخمسين، عن نيّف وسبعين سنةً (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 643.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فقد انفرد به هو، وأبو داود، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وشيخ شيخه، فمروزيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مُعَقِّبَاتٌ) -بضم الميم، وفتح المهملة، وكسر القاف المشددة-: اسم فاعل من التعقيب، أي أذكارٌ يَعقُب بعضها بعضًا، أو تُعَقِّب لصاحبها عاقبةً محمودةً.
وقال الهَرَويّ: قال شمر: معناه: تسبيحات تُفْعَل أعقاب الصلاة، وقال أبو الهيثم: سُمِّيت معقّبات؛ لأنها تُفْعَل مرّة بعد أخرى، وقوله تعالى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أي ملائكة يَعْقُب بعضهم بعضًا. انتهى.
وقال في "النهاية": سميت مُعَقّبات؛ لأنها عادت مرّةً بعد أخرى، أو لأنها تقال عقب الصلاة، والمعقّب من كلّ شيء ما جاء عقب ما قبله. انتهى.
وقال البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة": قوله: "مُعَقِّباتٌ": يريد هذه التسبيحات، سُمِّيت معقّبات؛ لأنها عادت مرّةً بعد مرّة، والتعقيبات تَعْمَل عملًا، ثم تعود إليه، وقوله عز وجل:{وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] أي لم يرجع، قال: شَمِر: كلُّ راجع معقِّبٌ، وقوله عز وجل:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} [الرعد: 11] أي للإنسان ملائكة يَعْقُبُ بعضهم ببعض، يقال: ملك معقِّبٌ، وملائكةٌ معقّبة، ثم معقّباتٌ جمع الجمع، وقيل: ملائكة الليل تُعَقِّب ملائكة النهار. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح السنّة" 3/ 232.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "معقّبات": أي الكلمات التي يأتي بعضها بعقب بعض، و"المعقّبات": اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض، فإذا انصرفت ناقةٌ دخلت مكانها أخرى، وهي الناظرات للعقب، فكذلك هذه التسبيحات كلّما مرّت كلمةٌ نابت مكانها أخرى.
و"هي" إما صفة مبتدأ، أقيمت مقام الموصوف، أي كلماتٌ، أو أذكارٌ معقباتٌ، وجملة قوله:(لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ) خبره، و"دُبر" ظرف متعلّقٌ بـ "قائلهنّ"، ويَحْتَمِل أن يكون "معقِّباتٌ" مبتدأ، وقوله:"لا يخيب" صفته، والخبر قوله:"ثلاثٌ وثلاثون".
(لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ) بفتح الياء من الخيبة، وهي الحرمان والخسران، أي لا يُحرَم من أجرهنّ، أي كيفما كان، ولو عن غفلة، هذا هو ظاهر هذا اللفظ، وقد ذكر بعضهم أنه لا أجر في الأذكار إذا كانت عن غفلة، سوى القراءة، وفيه نظر لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم.
(أَوْ فَاعِلُهُنَّ)"أو" للشكّ من الراوي، قال البيضاويّ: قد يقال للقائل: فاعلٌ؛ لأن القول فعلٌ من الأفعال، قال الطيبيّ: لا يُستعمل الفعل مكان القول إلا إذا صار القول مستمرًا ثابتًا راسخًا رسوخ الفعل، كما قال اللَّه عز وجل:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} الآية [الزمر: 33]، أي تكلّم بالصدق، وصدّقه بتحرّي العمل به. انتهى
(1)
.
(دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ)"دُبر" منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "قائلهنّ"، وقوله:(ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ) خبر لمحذوف، أي هنّ ثلاث وثلاثون، وهو تفسير لـ "معقّبات"، أو خبر لـ "معقّبات"، كما أسلفته آنفًا، وقوله:(تَسْبِيحَةً) منصوب على التمييز (وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً") ولفظ النسائيّ: "يُسبّح اللَّه في دبر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، ويَحْمَد اللَّه ثلاثًا وثلاثين، ويُكبّره أربعًا وثلاثين"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 106.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 1352 و 1353 و 1354](596)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3412)، و (النسائيّ) في "السهو"(1349)، وفي "الكبرى"(1272)، وفي "عمل اليوم والليلة"(155 و 156)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3193)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 228)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 260 و 261 و 263 و 264 و 265)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2019)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2079 و 2080 و 2081)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1322 و 1323 و 1324 و 1325)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 187)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(721)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الحديث ذكره الدارقطنيّ رحمه الله في "استدراكاته على مسلم"، وقال: الصواب أنه موقوف على كعب؛ لأن من رفعه لا يقاومون من وقفه في الحفظ.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي قاله الدارقطنيّ مردود؛ لأن مسلمًا رواه من طُرُق كلُّها مرفوعة، وذكره الدارقطنى أيضًا من طُرُق أخرى مرفوعة، وإنما رُوي موقوفًا من جهة منصور وشعبة، وقد اختلفوا عليهما أيضًا في رفعه ووقفه، وبيّن الدارقطنيّ ذلك.
والمذهب الصحيح الذي عليه الأصوليون، والفقهاء، والمحقّقون من المحدّثين، ومنهم البخاريّ، وآخرون أنه إذا رُوي الحديث موقوفًا ومرفوعًا يحكم بأنه مرفوع، ولو كان الواقفون أكثر من الرافعين، كيف، والأمر هنا بالعكس؟ وذلك لأن هذه زيادة ثقة، فوجب قبولها، ولا تُردّ لنسيان، أو تقصير حصل بمن وقفه. واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ ببعض تصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عبارة الدارقطنيّ رحمه الله: وأخرج مسلم من حديث
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 95.
الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة مرفوعًا:"معقّبات لا يخيب قائلهنّ. . . " من حديث مالك بن مِغْول، وعمرو بن قيس، وحمزة الزيّات، قال: وقد تابعهم زيد بن أبي أُنيسة، وليث بن أبي سُليم، وابنُ أبي ليلى، وقبيصة، عن الثوريّ، عن منصور، وخالفهم منصورٌ من رواية أبي الأحوص، وجرير، عن منصور، عن الحكم، فروياه موقوفًا، وكذلك رواه شعبة، عن الحكم، إلا من رواية جعفر الصائغ، عن عبدان، عنه.
والصواب -واللَّه أعلم- الموقوف؛ لأن الذين رفعوه شيوخ لا يقاومون منصورًا، وشعبة. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ترجيح الرفع هنا أظهر؛ لأمور:
(أحدها): أن الذين رفعوه جماعة، وفيهم الثقات الأثبات، وهم: مالك بن مِغْول، وعمرو بن قيس الملائيّ، وحمزة الزّيّات، وقد تابعهم زيد بن أبي أُنيسة، وليث بن أبي سُليم، ومحمد بن أبي ليلى.
فالظاهر أن هؤلاء الجماعة قد حَفِظوا الرفع، فلا يضرّهم مخالفة شعبة ومنصور لهم في وقفه؛ لأن الرفع زيادة، فيجب قبولها.
(الثاني): أنه اختَلَف الرواة على شعبة ومنصور في الرفع والوقف، فيكون هذا الاختلاف مرجّحًا لرفع من خالفهما.
فأما الاختلاف على شعبة، فقد رواه سليمان بن حرب، ومالك بن سليمان، عنه مرفوعًا.
فأما رواية سليمان بن حرب، فقد أخرجها أبو نعيم في "المستخرج" بسنده عنه، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "معقّبات. . . " الحديث
(1)
.
وأما رواية مالك بن سليمان، فقد أخرجها البغويّ في "شرح السنّة" بسنده، عنه، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"معقّبات لا يخيب قائلهنّ. . . " الحديث
(2)
.
(1)
"المستخرج" 2/ 195.
(2)
"شرح السنّة" 3/ 231.
وخالفهما وكيع، فرواه موقوفًا، قال ابن أبي شيبة في "مصنّفه": ثنا وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال:"ثلاث لا يخيب قائلهن. . . " الحديث.
وأما الاختلاف على منصور، فقد رواه عنه الثوريّ مرفوعًا.
فقد أخرجه أبو عوانة في "مسنده" قال: حدّثنا أبو العبّاس الغزّيّ، قال: ثنا قَبِيصة، ثنا سفيان
(1)
، عن منصور، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "معقّبات لا يخيب قائلهنّ. . . " الحديث
(2)
.
وخالف سفيان أبو الأحوص، فرواه عن منصور موقوفًا، قال ابن أبي شيبة: ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب، قال:"معقّبات. . . " الحديث.
فتبيّن بهذا أن مخالفة شعبة، ومنصور بالوقف غير سليمة؛ لوقوع اختلاف الرواة عليهما، فيكون هذا الاختلاف مرجّحًا لرفع غيرهما.
(والثالث): أن الوقف في مثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه مما لا يُنال بالاجتهاد والرأي، وإنما سبيله التلقّي من الوحي.
(والرابع): أن للحديث شواهد وهي الأحاديث التي أوردها الإمام مسلم رحمه الله في هذا الباب.
وخلاصة المسألة أن ترجيح رفع هذا الحديث هو الحقّ؛ لما سبق من الحجج
(3)
.
والحاصل أن الحديث صحيح مرفوعًا، كما هو غرض المصنّف في إيراده هنا، لا كما ادّعاه الدارقطنيّ من ترجيح الوقف على الرفع، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
هو الثوريّ.
(2)
"مسند أبي عوانة" 2/ 270.
(3)
راجع ما كتبه الشيخ ربيع بن هادي في كتابه "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ" 140 - 144.
وبالسند المتّصل الى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1353]
(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا
(1)
أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ، أَوْ فَاعِلُهُنَّ، ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً، فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو أَحْمَدَ) محمد بن عبد اللَّه بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أنه قد يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
3 -
(حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ) هو: حمزة بن حبيب القارئ التيميّ مولاهم، أبو عمارة الكوفيّ، صدوقٌ زاهدٌ، ربّما وَهِمَ [7](ت 6 أو 158)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 55.
والباقون تقدّموا في السند السابق، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1354]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون، تقدّم في هذا الباب.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
2 -
(أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة القُرشيّ مولاهم، أبو محمد، ثقة ضُعّف في الثوريّ [9].
رَوَى عن الأعمش، ومُطرّف بن طَريف، ومحمد بن عجلان، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وابنه عُبيد، وابن أبي شيبة، وابن نمير، وغيرهم.
قال محمد بن عبد اللَّه بن عمّار الموصليّ: قال لنا وكيع: اسمعوا منه، فسمعنا منه، وكان حديثه ثلاثة آلاف. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة. وقال الدُّوري عن ابن معين: ليس به بأس، وكان يُخطئ عن سفيان. وقال أحمد: إنه أحبّ إليّ من الخفّاف. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الغَلَابي عنه: ثقة، والكوفيون يُضعفونه. وقال البَرْقيّ عنه: الكوفيون يُضعّفونه، وهو عندنا ثبتٌ فيما يروي عن مطرّف، والشيبانيّ، وقد سمعت أنا منه. وقال العقيليّ: ربّما وهم في الشيء. وقال العجلي: لا بأس به. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، إلا أن فيه بعض الضعف. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال يعقوب بن شيبة: كوفي ثقة صدوق، توفّي بالكوفة في المحرّم سنة (200).
وقال هارون بن حاتم في "تاريخه": حدّثني أنه وُلد سنة (105)، ومات في أيّام أبي السرايا سنة (199). روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (596) و (936) و (1887) و (2447).
3 -
(عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ) -بضمّ الميم، وتخفيف اللام، والمدّ- أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [6] مات سنة بضع وأربعين ومائة (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 24/ 645.
وقوله: (بهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد الحكم الماضي، وهو: عن عبد الرحمن بن أَبي ليلى، عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل الحديث الماضي.
[تنبيه]: رواية عمرو بن قيس، عن الحكم هذه ساقها الترمذيّ، والنسائيّ، فقالا:
حدّثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرَة الأحمسيّ الكوفيّ، حدّثنا أسباط بن
محمد، حدّثنا عمرو بن قَيس الْمُلائيّ، عن الحكم بن عُتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مُعَقِّباتٌ لا يَخِيب قائلهنّ، يُسَبِّح اللَّه في دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، ويَحْمَده ثلاثًا وثلاثين، ويكبره أربعًا وثلاثين". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1355]
(597) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْمَذْحِجِيِّ -قَالَ مُسْلِم: أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
: "مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ
(2)
فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ
(3)
تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ) أبو الحسن العسكريّ، صدوقٌ [10](م د ق) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الطحّان الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(سُهَيْل) بن أبي صالح ذُكر في هذا الباب.
4 -
(أَبُو عُبَيْدٍ الْمَذْحِجِيُّ)
(4)
صاحب سليمان بن عبد الملك، قيل: اسمه
(1)
وفي نسخة: "قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
(2)
وفي نسخة: "قال: من سبّح اللَّه".
(3)
وفي نسخة: "ثمّ قال".
(4)
بفتح الميم، وسكون الذال المعجمة، وكسر الحاء المهملة، ثم جيم: نسبة إلى مَذْحِج قبيلة معروفة. انتهى. "شرح النوويّ" 5/ 95.
عبد الملك، وقيل: حَيّ، وقيل: حُيَيّ، وقيل: حُوَيّ بن أبي عمر، ثقة [5].
رَوَى عن أنس، وعمر بن عبد العزيز، ورَجَاء بن حَيْوة، وعُبادة بن نُسَيّ، وعطاء بن يزيد، وعقبة بن وَسّاج، وقيس بن الحارث الْمَذْحِجيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه الأوزاعيّ، ومالك، وسهيل بن أبي صالح، وميسرة بن معبد، وعَمْرو بن الحارث، وعبد اللَّه بن سعيد بن أبي هند، وأبو فَرْوة يزيد بن سِنَان الرُّهَاويّ، وآخرون.
قال الميمونيّ رحمه الله عن أحمد، وأبو زرعة، ويعقوب بن سفيان: ثقةٌ، وثقه عليّ ابن المدينيّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات" في أتباع التابعين، وقال بَقِيّة، عن بِشْر بن عبد اللَّه بن يسار: لم أَرَ أحدًا قط أعمل بالعلم من أبي عبيد، وقال الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن حسان: كان أبو عبيد يَحْجُب سليمان بن عبد الملك، فلما وُلِّي عمر بن عبد العزيز، قال: أين أبو عبيد؟ فدنا منه، فقال: هذه الطريق إلى فلسطين، وأنت من أهلها، فالْحَقْ بها، فقيل له: يا أمير المؤمنين لو رأيت أبا عبيد وتشميره للخير، فقال: ذاك أحقّ أن لا نفتنه، كانت فيه أُبَّهَةٌ للعامة.
علّق له البخاريّ، وأخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ) الْجُنْدعيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 486.
6 -
(أَبو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، وأبو داود، وابن ماجه، وأبي عُبيد، فتفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ، وعلّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"("مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ) وفي نسخة: "قال: من سبّح اللَّه"، أي قال: سبحان اللَّه، و"من" شرطيّة جوابها قوله:"غُفِرت خطاياه"(فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) تقدّم أن المشهور ضمّ دال "دُبُر"، وحُكي بفتح، فسكون، والمراد بالصلاة الفريضة، كما تقدّم في حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه قوله:"دبر كلّ صلاة مكتوبة"(ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ) بكسر الميم المخفّفة، أي قال: الحمد للَّه في دبر كلّ صلاة، وحذفه هنا وفيما بعده؛ للعلم به من الأول (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ) أي قال: اللَّه أكبر (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ) أي التسبيحات، والتحميدات، والتكبيرات (تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ) بيّن جملة العدد بعد ذكره بالتفصيل، ويُسمَّى فَذْلَكَةً
(1)
؛ نظير قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] بعد ذكر "ثلاثة"، و"سبعة"، قال في "الكاشف": فائدة الفَذْلكة في كلّ حساب أن يُعلم العدد جملةً، كما عُلِم تفصيلًا؛ ليُحاط به من جهتين، فيتأكّد العلم، وفي أمثال العرب: علمان خير من علم
(2)
.
(وَقَالَ) وفي نسخة: "ثمّ قال"، والفاعل ضمير "من سبّح. . . إلخ"، وقيل: ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر (تَمَامَ الْمِائَةِ) بالنصب على المفعوليّة، وقيل: مرفوع على أنه مبتدأ خبره قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) حاصل الكلام في هذا المقام أن لفظ "تمام" إما منصوب على أنه مفعول به لـ "قال"؛ لأنه في المعنى جملةٌ؛ إذ ما بعده عطف بيان، أو بدلٌ، أو خبرٌ لمحذوف، فصحّ كونه مقول القول، والمراد من تمام المائة ما تَتِمّ به المائة.
وإما منصوب على الظرفيّة، أي في وقت تمام المائة، أي عند إرادة تمامها، والعامل فيه لفظ "قال"، وعلى هذين الوجهين ففاعل "قال" ضمير من "سبّح اللَّه. . . إلخ".
(1)
يقال: فَذْلكَ حسابه: أنهاه، وفَرَغَ منه، مُخْتَرَعَةٌ من قوله إذا أجمل حسابه: فذلك كذا وكذا، قاله في "القاموس" 3/ 315.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1061.
وإما مرفوع على الابتداء، وخبره قوله:"لا إله إلا اللَّه. . . إلخ"، ويجوز العكس، وعلى هذا ففاعل "قال" ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم، فتنبّه.
(وَحْدَهُ) منصوب على الحال، فقد جوّز بعض النحاة كون الحال معرفةً، وأما الجمهور، فيؤوّلونه بالنكرة، أي منفردًا في ذاته (لَا شَرِيكَ لَهُ) في أفعاله، وصفاته (لَهُ الْمُلْكُ) أي السلطان على جميع مخلوقاته له عز وجل، لا لغيره (وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقوله: (غُفِرَتْ خَطَايَاهُ) ببناء الفعل للمفعول جواب الشرط، قيل: المراد بالخطايا الذنوب الصغائر، وقال القاري رحمه الله: ويَحْتَمِل الكبائر (وَإِنْ كَانَتْ) أي في الكثرة (مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ") -بفتح الزاي، والموحّدة-: هو ما يعلو على وجه الماء عند هَيَجانه وتموّجه.
لا يقال: هذا يعارض ما تقدّم أن تمام المائة في هذه الأذكار هو التكبير؛ إذ هو أربع وثلاثون مرّة؛ لما قدّمناه أن هذا يكون في أوقات مختلفة، فتارة يختم المائة بالتكبير، وتارةً يختمها بـ "لا إله إلا اللَّه وحده. . . إلخ"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 1355 و 1356](597)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(143)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 371 و 483)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(570)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2013 و 2016)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 187)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(718)، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج الحديث ابن حبّان من طريق يحيى بن صالح الوحاظيّ، مالك مرفوعًا، ثم قال: رفعه يحيى بن صالح، عن مالك وحده. انتهى
(1)
.
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله بعد أن أورد الحديث: هكذا الحديث
(1)
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 356.
موقوف في "الموطّأ" على أبي هريرة، ومثله لا يُدرك بالرأي، وهو مرفوعٌ صحيحٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ثابتة، من حديث أبي هريرة، ومن حديث عليّ بن أبي طالب، ومن حديث عبد اللَّه بن عمرو العاص، ومن حديث كعب بن عُجرة، وغيرهم. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1356]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقانيّ
(3)
، أبو زياد الكوفيّ، لقبه شَقُوصَا
(4)
، صدوقٌ يُخطئ قليلًا [8](ت 194) أو قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن إسماعيل بن زكريا حدّث عن سهيل بمثل حديث خالد بن عبد اللَّه الطحّان عنه.
[تنبيه]: رواية إسماعيل بن زكريّا، عن سُهيل هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظَر.
[تنبيه آخر]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: حديث سُهيل بن أبي
(1)
راجع: "تجريد التمهيد" لابن عبد البرّ (ص 241).
(2)
وفي نسخة: "وحدّثناه".
(3)
بضم الخاء المعجمة، وسكون اللام، بعدها قاف.
(4)
بفتح الشين المعجمة، وضم القاف الخفيفة، وبالصاد المهملة.
صالح، عن أبي عُبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من سبّح اللَّه في دبر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحَمِدَ اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وكبّر اللَّه. . . " الحديث.
ثم خَرَّجه بعد ذلك عن محمد بن الصبّاح، قال: نا إسماعيل بن زكريّا، عن سُهيل، عن أبي عُبيد، عن عطاء -غير منسوب- عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله.
قال أبو مسعود الدمشقيّ: يُذكَر أن محمد بن الصبّاح نسبه، فقال: عطاء بن يسار، وأخطأ فيه، فإن كان هذا، فإن مسلم بن الحجّاج أسقط الخطأ من الإسناد؛ ليقرب من الصواب.
وقد رَوى مالك هذا الحديث عن أبي عُبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة موقوفًا. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(27) - (بَابُ مَا يُقَالُ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ وَالْقِرَاءَةِ)
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كان الأولى للمصنّف رحمه الله أن يقدّم أحاديث هذا الباب بين باب أحاديث تكبيرة الإحرام، وأحاديث قراءة الفاتحة، كما لا تخفى المناسبة، فتأمّل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1357]
(598) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(جَرِير) بن عبد الحميد، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عُمَارَةُ
(1)
بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة
(2)
، الكوفي الضبي، ثقة أرسل عن ابن مسعود، [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.
4 -
(أَبُو زُرْعَةَ) اسمه هَرِم بن عمرو بن جرير بن عبد اللَّه، وقيل غير ذلك، البجليّ الكوفي، ثقة، [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رواته كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وأبي هريرة رضي الله عنه فمدنيّ، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ) أي تكبيرة الافتتاح، ولفظ النسائيّ:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة"(سَكَتَ هُنَيَّةً) أي ساعةً لطيفةً، تصغيرُ هَنْتْ، وفي "اللسان": وقالوا: هَنْتْ بالتاء ساكنة النون، فجعلوه بمنزلة بنت، وأخْت، وهنتان، وهنات، تصغيرها: هُنَيَّة، وهنيهة، فهنية على القياس، وهنيهة على إبدال الهاء من الياء في هُنَية للقرب الذي بين الهاء وحروف اللين، والياء في هُنية بدل من الواو في هُنَيْوَة، والجمع هَنَات على اللفظ، وهَنَوَات على الأصل، قال ابن جني: أما هَنْت فيدل على أن التاء بدل من الواو في قولهم هنوات.
(1)
بضم العين المهملة، وتخفيف الميم.
(2)
بضم الشين المعجمة، وسكون الموحّدة، وضمّ الراء.
وقال الجوهريّ: في تصغيرها هُنية تردها إلى الأصل وتأتي بالهاء كما تقول: أُخَيّة وبُنَيةٌ.
وقد تبدل من الياء الثانية هاء، فيقال: هُنَيهة، وفي الحديث:"أنه قام هُنيةً" أي قليلًا من الزمان، وهو تصغير هَنَة، ويقال: هُنيهة أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": وأما هُنَيئَةٌ ففيه أوجه، الأول بضم الهاء وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفتح الهمزة، وقال ابن قرقول: كذا عند الطبريّ ولا وجه له، قال: وعند الأصيليّ، وابن الحذّاء، وابن السكن: هُنيهة بالهاء المفتوحة موضع الهمزة، وهو الوجه الثاني، قال القاضي عياض، والقرطبيّ: إن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمزة، وأما النوويّ فقال: الهمز خطأ، وقال غيره: لا يمنع، فقد تقلب الياء همزة.
الوجه الثالث قاله النوويّ: هُنَيّة بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء بغير همزة، ومن همزها فقد أخطأ.
وأصلها هَنْوَة فلما صُغِّرت صارت هُنَيْوَة، فاجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُروضٍ عَرِيَا
فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا
وفي "الموعب، لابن التبانيّ: هُنَيَّة هي اليسير من الشيء ما كان". انتهى
(2)
.
والمراد بالسكوت هنا: عدم القراءة جهرًا، وإلا فالسكوت الحقيقيّ ينافي القول، فلا يتأتَّى السؤال بقوله:"ما تقول في سكوتك؟ " أفاده السنديّ رحمه الله.
(قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ) القائل هو أبو هريرة رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) الجارّ والمجرور متعلّق بمحذوف، إما اسمٍ، فيكون تقديره: أنت مَفْديٌّ بأبي وأمي، وإما فعلٍ فالتقدير: فَدَيْتُك بأبي، وحُذِف تخفيفًا؛ لكثرة
(1)
راجع: "لسان العرب" 15/ 366 - 367.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 32.
الاستعمال، وعِلْم المخاطب به، فلما حُذف الفعل انفصل الضمير.
(أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟) أَيْ أيَّ شيء تقول في حال سكوتك؟ قال في "العمدة": قيل: السكوت مُنافٍ للقول، فكيف يصحّ أن يقال: ما تقول في سكوتك؟.
وأجيب بأنه يَحْتَمِل أنه استَدَلّ على أصل القول بحركة الفم، كما استدل به على قراءة القرآن في الظهر والعصر باضطراب اللحية. انتهى
(1)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "ما تقول" يُشْعِر بأنه فهم أن هناك قولًا، فإن السؤال وقع بقوله:"ما تقول"، ولم يقع بقوله:"هل تقول"، والسؤال بـ "هل" مقدَّم على السؤال بـ "ما" هنا، ولعله استدلّ على أصل القول بحركة الفم، كما ورد في استدلالهم على القراءة في السر باضطراب لحيته. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم جوابًا لسؤاله ("أَقُولُ) بينهما (اللَّهُمَّ) أي يا اللَّه (بَاعِدْ) أي أبعد، قال الكرمانيّ رحمه الله: أخرجه إلى صيغة المفاعلة للمبالغة، قال في "العمدة": لم يقل أهل التصريف إلا للتكثير، نحو: ضاعفت، بمعنى ضَعَّفتُ، وفي المبالغة معنى التكثير. انتهى
(3)
.
(بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ) جمع خَطيَّة، كالعَطَايا جمع عَطيَّة، يقال: خَطَأ في دِينه خَطَأ: إذا أثم فيه، والخِطْءُ بالكسر: الذنب والإثم.
وأصل خطايا: خَطَايِئُ، فقلبوا الياء همزة، كما في قبائل جمع قبيلة، فصار خطائِئُ بهمزتين، فقلبوا الثانية ياء، فصار خطائي، ثم قلبت الهمزة ياء مفتوحة فصارت خطايَي، فقلبت الياء ألفًا فصارت خطايا.
ثم إن الخطايا إن كان يراد بها اللاحقة، فمعناه: إذا قُدِّرَ لي ذنب فبَعِّدْ بيني وبينه، وإن كان يراد بها السابقة، فمعناه المَحْو والغفران، ويقال: المراد بالمباعدة مَحْوُ ما حَصَل منها والعصمة عما سيأتي منها، وهذا مجازٌ؛ لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان، والمكان، قاله في "العمدة".
(1)
"عمدة القاري" 5/ 294.
(2)
"إحكام الأحكام" 2/ 268 - 269.
(3)
"عمدة القاري" 5/ 294.
وقال في "المنهل": وفي هذا اللفظ مجازان: الأول: استعمال المباعدة في المعاني التي هي في الأصل تُسْتَعمل في الأجسام، الثاني: استعمالها في الإزالة بالكليّة مع أن أصلها لا يقتضي الزوال. انتهى
(1)
.
(كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قال في "العمدة": كلمة "ما" مصدرية تقديره: كتبعيدك بين المشرق والمغرب، ووجه الشبه أن التقاء المشرق والمغرب لَمّا كان مستحيلًا عادةً شُبِّه أن يكون اقترابه من الذنب كاقتراب المشرق والمغرب.
وقال الكرمانيّ: كرَّر لفظ "بين" في قوله: "وباعد بيني وبين خطاياي" ولم يكرره في قوله: "بين المشرق والمغرب"؛ لأنه إذا عُطِف على المضمر المجرور أعيد الخافض. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الكرمانيّ هو قول جمهور النحاة، ولا يلزم ذلك عند ابن مالك رحمه الله، كما بيّنه في "خلاصته" حيث قال:
وعَوْدُ خَافض لَدَى عَطْفٍ عَلَى
…
ضَمير خَفْض لازمًا قَدْ جُعلَا
وَلَيْسَ عندي لَازمًا إذْ قدْ أَتَى
…
في النَّظْم وَالنَّثْر الصَّحيح مُثْبتَا
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "اللهم باعد بيني. . . إلخ" عبارة: إما عن مَحْوِها، وترك المؤاخذة بها، وإما عن المنع من وقوعها، والعصمة منها، وفيه مجازان:
أحدهما: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة، أو في العصمة منها، والمباعدة في الزمان، أو في المكان في الأصل.
والثاني: استعمال المباعدة في الإزالة الكلية، فإن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد ها هنا البقاء مع البعد، ولا ما يطابقه من المجاز، وإنما المراد الإزالة بالكلية، وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب المقصود منه ترك المؤاخذة، أو العصمة. انتهى
(3)
.
(اللَّهُمَّ نَقِّنِي) بتشديد القاف، وهو من نَقّى يُنَقِّي تنقيةً، وهو مجاز عن
(1)
"المنهل العذب المورود" 5/ 194.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 33.
(3)
"إحكام الأحكام" 2/ 269 - 270.
إزالة الذنوب، ومحو أثرها (مِنْ خَطَايَايَ) وفي رواية البخاريّ "من الخطايا"(كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ) أي طَهِّرني من خطاياي، وأَزِلْها عني، كما يطهر الثوب الأبيض (مِنَ الدَّنَسِ) -بفتحتين- وهو الوَسَخ، ووقع التشبيه بالثوب الأبيض؛ لأن ظهور النَّقَاء فيه أشدّ وأكمل؛ لصفائه بخلاف غيره من الألوان.
(اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ) -بفتح، فسكون-: ماءٌ ينزل من السماء، ثم ينعقد على وجه الأرض، ثم يذوب بعد جُمُوده.
(وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ) -بفتح الراء- هو حَبُّ الغمام، وهو ماءٌ يَنزل من السماء جامدًا كالملح ثم يذوب على الأرض، أي طَهِّرني من الخطايا بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأوساخ.
وذكر أنواع المطهِّرات المنزلة من السماء لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها، تبيانًا لأنواع المغفرة التي لا يتخلص من الذنوب إلا بها
(1)
.
وقال الخطابيّ: هذه أمثالٌ ولم يُرَدْ بها أعيان هذه المُسَمَّيَات، وإنما أريد بها التوكيد في التطهير من الخطايا والمبالغة في محوها عنه، والثلج والبرد ماءان لم تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما استعمال، فكان ضرب المثل بهما أوكد في بيان معنى ما أراده من تطهير الثوب.
وقال التوربشتيّ: ذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها بيانًا لأنواع المغفرة التي لا يتخلص من الذنوب إلا بها، أي طهرني بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأرجاس، ورفع الأحداث.
وقال الطيبيّ رحمه الله: يمكن أن يقال: ذِكْرُ الثلج والبرد بعد ذكر الماء يعني في رواية البخاريّ حيث قُدِّم الماء عليها؛ لطلب شمول الرحمة بعد المغفرة، والتركيب من باب رأيته مُتَقَلِّدًا سيفًا ورُمْحًا، أي اغسل خطاياي بالماء: أي اغفرها، وزد على الغفران شمول الرحمة، طَلَبَ أوّلًا المباعدة بينه وبين
(1)
راجع: "المنهل العذب المورود" 5/ 194.
الخطايا، ثم طَلَب تنقية ما عسى أن يبقى منها شيء تنقيةً تامّةً، ثم سأل ثالثًا بعد الغفران غاية الرحمة عليه بعد التخلية.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: والأقرب أن يقال: جَعَل الخطايا بمنزلة نار جهنم لأنها مستوجبة لها بحسب وعيد الشارع، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] فعَبَّر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدًا في الإطفاء، وبالغ فيه باستعمال المبرِّدات ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، ثم إلى أبرد من الثلج، وهو الْبَرَد، بدليل جموده؛ لأن ما هو أبرد فهو أجمد، وأما تثليث الدعوات، فَيَحْتَمِل أن يكون نظرًا إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: لَمّا كانت الذنوب تؤثّر في القلب دنسًا، وهو المذكور في قول تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]، ويوجب للقلب احتراقًا طَلَب في هذا الدعاء المباعدة بينه وبينها على أقصى وجوه المباعدة، والمراد المباعدة من تأثيراتها وعقوباتها الدنيويّة والأخرويّة، وربّما دخل فيه المباعدة بين ما قُدِّر منها ولم يَعمله بعدُ، فطَلَب مباعدته منه على نحو قوله:"أعوذ بك من شرّ ما عَمِلتُ، وما لم أعمل".
وطَلَب أيضًا أن يُنقِّي قلبه من دنسها كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس.
وطَلَب أيضًا إطفاء حرارتها وحريقها للقلب بأعظم ما يوجد في الدنيا إنقاءً وتبريدًا، وهو الماء والثلج والبرد. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(2)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "اللهم اغسلني. . . إلخ" يَحْتَمِل أمرين - بعد كونه مجازًا عما ذكرناه:
أحدهما: أن يراد بذلك التعبير عن غاية المحو، أعني بالمجموع، فإنَّ الثوب الذي تتكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء يكون في غاية النقاء.
الوجه الثاني: أن يكون كل واحد من هذه الأشياء مجازًا عن صفة بقع بها التكفير والمحو، ولعل ذلك كقوله تعالى:{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286].
(1)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 33.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب 6/ 373.
فكل واحدة من هذه الصفات -أعني العفو، والمغفرة، والرحمة- لها أثرها في محو الذنب، فعلى هذا الوجه يُنظَر إلى الأفراد، ويُجْعَل كل فرد من أفراد الحقيقة دالًا على معنى فرد مجازيّ، وفي الوجه الأول لا يُنظر إلى أفراد الألفاظ، بل تُجْعَل جملة اللفظ دالة على غاية المحو للذنب. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بالحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنِّف) هنا [27/ 1357 و 1358](598)، و (البخاريّ) في "الأذان"(744)، و (أبو داود) في "الصلاة"(781)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(60)، و"الافتتاح"(894 و 895)، وفي "الكبرى"(60)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(805)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 231 و 494)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 283)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(320)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(564)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1775 و 1776)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 336)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1598 و 1599 و 1600)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1327 و 1328 و 1329)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 195)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(574)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة في الصلاة، وفيه خلاف سيأتي الكلام عليه في المسألة التالية.
2 -
(ومنها): جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن، خلافًا للحنفية.
3 -
(ومنها): ما قيل: إن هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعتُرِض بكونه لو
(1)
"إحكام الأحكام" 2/ 270 - 271.
أراد ذلك لَجَهَر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة رضي الله عنه عند البزار
(1)
.
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من المحافظة على تتبع أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حركاته، وسكناته، وإسراره، وإعلانه حتى حَفِظَ اللَّه عز وجل بهم الدين.
5 -
(ومنها): وفيه تفدية النبيّ صلى الله عليه وسلم بالآباء والأمهات، ويجوز تفدية غيره أيضًا، فليس خاصًا به صلى الله عليه وسلم، وفيه خلاف تقدم بيانه في غير هذا المحلّ.
6 -
(ومنها): أنه يدل على جواز الطهارة بماء الثلج والبرد، وذلك حيث شَبَّه محو الذنوب عن الشخص بمحو الأوساخ بهذه الآلات، فأفاد أن هذه الآلات تفيد الغسل الشرعيّ، وأنها مما يزال بها الأحداث والأخباث، قال في "الفتح": واستبعده ابن عبد السلام، وأبعد منه استدلال بعض الحنفية به على نجاسة الماء المستعمل. انتهى.
7 -
(ومنها): ما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: إنما كان يدعو في استفتاح الصلاة المكتوبة بهذا -واللَّه أعلم- لأن الصلوات الخمس تُكفّر الذنوب والخطايا كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فإقامة الصلوات المفروضات على وجهها يوجب مباعدة الذنوب، ويوجب أيضًا إنقاءها وتطهيرها، فإن مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جارٍ يُغتَسَل فيه كلَّ يوم خمس مرّات
(2)
.
ويوجب أيضًا تبريد الحريق الذي تُكسبه الذنوب وإطفاءه.
أخرج الطبرانيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "تحترقون حتى إذا صلّيتم الفجر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون حتى إذا صلّيتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون حتى إذا صلّيتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صلّيتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صلّيتم العشاء غسلتها"
(3)
، وقد روي موقوفًا، وهو أشبه.
(1)
لكن في إسناده ضعفًا، فتنبّه.
(2)
متّفقٌ عليه.
(3)
"الأوسط" للطبرانيّ (9452).
وخَرَّج أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "إن للَّه ملكًا ينادي عند كلّ صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم، فأطفئوها"
(1)
.
وأخرج الإسماعيليّ من حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مرفوعًا: "يَحترقون، فإذا صلَّوا الصبح غَسَلت الصلاة ما كان قبلها"، حتى ذكر الصلوات الخمس.
ولَمّا كانت الصلاة صِلَةً بين العبد وربّه، وكان المصلِّي يُناجي ربّه، وربُّهُ يُقرِّبه منه لم يَصلح للدخول في الصلاة إلا من كان طاهرًا في ظاهره وباطنه، ولذلك شُرِع للمصلِّي أن يتطهّر بالماء، فيُكفِّر ذنوبه بالوضوء، ثم يمشي إلى المساجد، فيكفّر ذنوبه بالمشي، فإن بقي من ذنوبه شيء كفّرته الصلاة.
قال سلمان الفارسيّ رضي الله عنه: الوضوء يكفِّر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفّر أكثر من ذلك، والصلاة تُكفّر أكثر من ذلك، أخرجه محمد بن نصر المروزيّ وغيره.
فإذا قام المصلّي بين يدي ربّه في الصلاة، وشَرَع في مناجاته شُرِع له أوّلَ ما يناجي ربّه أن يسأل ربّه أن يباعد بينه وبين ما يوجب له البعد من ربّه، وهو الذنوب، وأن يُطهِّره منها؛ ليصلح حينئذ للتقريب والمناجاة، فيستكمل فوائد الصلاة وثمراتها، من المعرفة والإنابة والمحبّة والخشية، فتصير صلاته ناهيةً له عن الفحشاء والمنكر.
وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من صلاة لا تنفع، أخرجه أبو داود
(2)
.
وأخرج البزّار في "مسنده" بإسناد فيه ضعفٌ، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إذا صلَّى أحدكم فليقل: اللَّهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهمّ إني أعوذ بك أن يُصدّ عني وجهك يوم القيامة، اللَّهمّ نقّني من خطاياي كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللَّهمّ أحيني مسلمًا، وتوفّني مسلمًا"
(3)
.
(1)
رواه محمد بن نصر 1/ 157 بمعناه.
(2)
"سنن أبي داود"(1549).
(3)
راجع: "كشف الأستار"(523).
وهذا حديث غريبٌ، والاستعاذة من الإعراض مناسبة لهذا المقام، فإن المصلّي قائم بين يدي اللَّه لمناجاته، فيحسن أن يستعيذ به من أن يُعرِض بوجهه عنه. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في دعاء الاستفتاح:
قال الإمام النوويّ رحمه الله في "شرحه": وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا دليل للشافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد، والجمهور -رحمهم اللَّه تعالى- أنه يُستَحَبُّ دعاء الافتتاح، وجاءت فيه أحاديث كثيرة في "الصحيح". وقال مالك رحمه الله: لا يُستَحَب دعاء الافتتاح بعد تكبيرة الإحرام، ودليل الجمهور هذه الأحاديث الصحيحة. انتهى
(2)
.
وفي "شرح المهذب": يُستَحَبّ لكل مصلّ، من إمام، ومأموم، ومنفرد، وامرأة، وصبيّ، ومسافر، ومفترض، ومتنفل، وقاعد، ومضطجع، وغيرهم أن يأتي بدعاء الاستفتاح، وقال أيضًا: أما الاستفتاح فقال باستحبابه جمهور العلماء من الصحابة، والتابعون، فمن بعدهم، ولا يُعرف من خالف فيه إلا مالك، فقال: لا يأتي بدعاء الاستفتاِح، ولا بشيء بين القراءة والتكبير أصلًا، بل يقول: اللَّه أكبر {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] إلى آخر الفاتحة، واحتُجَّ له بحديث المسيء صلاته، فإنه ليس فيه استفتاح، وقد يُحتَجّ له بحديث أنس رضي الله عنه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] "، مُتّفقٌ عليه.
ودليل الجمهور الأحاديث الصحيحة، ولا جواب له عن واحد منها، والجواب عن حديث المسيء صلاته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما علّمه الفرائض فقط، وليس هذا منها، والجواب عن حديث أنس رضي الله عنه أن المراد يفتتحون القراءة، كما في رواية مسلم، ومعناه أنهم يقرأون الفاتحة قبل السورة، وليس المقصود أنه لا يأتي بدعاء الاستفتاح، وقد بَيَّنَه حديث عائشة رضي الله عنها:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] "
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 6/ 374 - 376.
(2)
"شرح النوويّ" 5/ 96 - 97.
مُتَّفَقٌ عليه. وكيف كان فليس فيه تصريح بنفي دعاء الاستفتاح، ولو صَرَّح بنفيه كانت الأحاديث الصحيحة المتظاهرة بإثباته مقدمةً؛ لأنها زيادة ثقات، ولأنها إثبات، وهو مقدَّم على النفي، واللَّه أعلم.
وأما ما يُسْتَفْتَح به فيستفتح بـ "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض. . . إلخ"، وبه قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وداود: يستفتح بـ "سبحانك اللهم وبحمدك. . . إلخ" الآتي، ولا يأتي بـ "وجهت وجهي".
وقال أبو يوسف: يَجْمَع بينهما، ويبدأ بأيّهما شاء، وهو قول أبي إسحاق المروزيّ، والقاضي أبي حامد من أصحاب الشافعية.
قال ابن المنذر: أيّ ذلك قال أجزأه، وأنا إلى حديث "وجهت وجهي" أميل.
قال النوويّ: دليلنا أنه لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح بـ "سبحانك اللهم" شيء، وثبت "وجهت وجهي"، فتعيّن اعتماده، والعمل به. انتهى كلام النوويّ رحمه الله ببعض تصرف
(1)
.
وقال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله بعد ذكره أنواعًا من دعاء الاستفتاح ما نصه: قد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فكان سفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي يقولون بالذي رَوَيناه عن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما.
وكان الشافعي يقول بحديث عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن عليّ رضي الله عنه.
وكان أبو ثور يقول: أيّ ذلك قال يجزيه، مثل قوله:"سبحانك اللهم وبحمدك"، ومثل:"وجهت وجهي"، ومثل قوله:"اللَّه أكبر كبيرًا"، وما أشبه ذلك.
فأما مالك بن أنس، فإنه كان لا يرى أن يقال شيء من ذلك، ولا يستعمل منها شيء، إنما يكبر، ويقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].
(1)
"المجموع" 3/ 321 - 322.
قال أبو بكر: والذي ذكرناه هو من الاختلاف المباح الذي مَن عَمِل به بشيء منه أجزأه، ولو ترك ذلك كلّه ما كانت عليه إعادة، ولا سجود سهو، وأصح ذلك إسنادًا حديث عليّ رضي الله عنه، فإن لم يقله فكالذي رُوي عن عمر، وابن مسعود رضي الله عنهما يعني:"سبحانك اللَّهم وبحمدك". انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الأصحّ في دعاء الاستفتاح ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، وهو:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي. . . إلخ" المتفق عليه، وأما "وجهت وجهي" الذي في حديث عليّ، فأخرجه مسلم فقط، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.
وقال الحافظ رحمه الله: ونقل الساجيّ عن الشافعيّ استحباب الجمع بين التوجيه والتسبيح، وهو اختيار ابن خزيمة، وجماعة من الشافعية، وحديث أبي هريرة أصح ما ورد في ذلك. انتهى
(1)
.
وقال المجد ابن تيمية في "المنتقى": واختيار هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يعني الذين ذكر أنهم يستفتحون بـ "سبحانك اللَّهم"، وجَهْرُ عمر به أحيانًا بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس، مع أن السنّة إخفاؤه يدلّ على أنه الأفضل، وأنه الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يداوم عليه غالبًا، وإن استَفْتَح بما رواه عليّ، أو أبو هريرة فحسن؛ لصحة الرواية. انتهى.
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: ولا يخفى أن ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أولى بالإيثار والاختيار، وأصحّ ما رُوي في الاستفتاح حديث أبي هريرة رضي الله عنه يعني حديث الباب -ثم حديث عليّ رضي الله عنه يعني:"وجّهت وجهي. . . إلخ"، وأما حديث عائشة وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما يعني حديثهما في استفتاح النبيّ صلى الله عليه وسلم" بـ "سبحانك اللهم" - ففيه مقال.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أما أنا فاذهب إلى ما رُوي عن عمر، ولو أن رجلًا استفتح ببعض ما رُوي كان حسنًا.
وقال ابن خزيمة رحمه الله: لا أعلم في الافتتاح بـ "سبحانك اللهم" خبرًا ثابتًا، وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد، ثم قال: لا نعلم أحدًا، ولا سمعنا
(1)
"الفتح" 2/ 472.
به استعمل هذا الحديث على وجهه. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله ببعض تصرف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: خلاصة المسألة أن دعوات الاستفتاح التي ثبتت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما في حديث الباب، وغيره، يُسْتَحَبّ استعمالها في الفرائض والنوافل، فإن تيسر للمصلي الجمع بينها فحسن، وإن اقتصر على بعضها فحسن، وأصحها ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في هذا الباب، وهو متّفقٌ عليه، ويليه حديث عليّ رضي الله عنه:"وجهت وجهي" الآتي للمصنّف في أبواب قيام الليل، ويليه "سبحانك اللَّهم" عند أصحاب السنن، وأما قول مالك رحمه الله بعدم مشروعية ذلك فقد عرفت الردّ عليه فيما سبق آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ثمّ رأيت للحافظ ابن رجب رحمه الله بحثًا استوفى فيه اختلاف المذاهب، وحججهم، أحببت إيراده هنا؛ تتميمًا للفائدة، وإن كان خلاصته تقدّم فيما مضى، قال رحمه الله:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه يعني المذكور في الباب- استَدَلّ به من يقول: إنه يستحبّ الاستفتاح بالذكر قبل الشروع في القراءة، وهو قول أكثر العلماء، ثم اختلفوا، فقال كثيرٌ منهم: يُستَحَبّ استفتاح الصلاة بقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك"، صحّ هذا عن عمر بن الخطّاب، رُوي عنه من وجوه كثيرة، وعن ابن مسعود، ورُوي عن أبي بكر الصدّيق، وعثمان بن عفّان، وعن الحسن، وقتادة، والنخعيّ، وهو قول الأوزاعيّ، والثوريّ، وأبي حنيفة، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق في رواية. وقد رُوي في ذلك أحاديث مرفوعةٌ من وجوه متعدّدة أجودها من حديث أبي سعيد، وعائشة رضي الله عنهما.
وقال الإمام أحمد: نذهب فيه إلى حديث عمر، رُوي فيه وجوهٌ ليست بذاك، فذكر حديث عائشة، وأبي هريرة، فصرّح بأن الأحاديث المرفوعة ليست قويّة، وأن الاعتماد على الموقوف على الصحابة؛ لصحّة ما رُوي عن عمر رضي الله عنه.
(1)
"نيل الأوطار" 3/ 36.
ورُوي عن أبي إسحاق، عن عبد اللَّه بن أبي الخليل قال: سمعت عليًّا حين افتتح الصلاة قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني قد ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، فاغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
(1)
.
ورُوي عن ابن عمر أنه افتتح الصلاة، فقال: اللَّه أكبر كبيرًا، وسبحان اللَّه وبحمده بكرة وأصيلًا، اللهم أجعلك أحبّ شيء إليّ، وأخشى شيء عندي
(2)
.
وذهبت طائفة إلى الاستفتاح بقول: "وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا. . . " الآيات، وما بعده من الدعاء، أخرجه مسلم من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بذلك
(3)
.
وأخرجه الترمذيّ، وعنده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستفتح به في الصلاة المكتوبة، وفي إسناده مقال، وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر كذلك، وأخرجه النسائيّ من رواية محمد بن مسلمة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوّعًا يقول ذلك.
وممن ذهب إلى الاستفتاح بهذا: الشافعيّ وأصحابه، وإسحاق في رواية، ورُوي عن عليّ أنه كان يستفتح به من وجه منقطع.
وظاهر كلام الشافعيّ وبعض أصحابه أنه يستفتح به كلّه الإمام وغيره، وقال كثير من أصحابه: يقتصر الإمام على قوله: "وأنا من المسلمين".
وقالت طائفة: يجمع بين قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك"، وقوله:"وجّهت وجهي"، وهو قول أبي يوسف، وإسحاق في رواية، وطائفةٍ من الشافعيّة، منهم أبو إسحاق المروزيّ، وطائفة قليلة من الحنابلة، وقد ورد في الجمع بينهما أحاديث غير قويّة الأسانيد.
وكلُّ هذا على وجه الاستحباب، فلو لم يستفتح الصلاة بالذكر، بل بدأ بالقراءة صحّت صلاته، ولو استفتح بشيء مما ورد حصلت به سنّة الاستفتاح عند الإمام أحمد وغيره من العلماء، ولو كان الأفضل عند بعضهم غيره.
وقال أحمد في رواية الميمونيّ: ما أحسن حديث أبي هريرة في
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 232 - 233.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 233.
(3)
"صحيح مسلم" في "أبواب صلاة الليل" رقم (771).
الاستفتاح -يعني الحديث الذي أخرجه الشيخان ها هنا- فقيل له: إن بعض الناس يقول: هذا كلام، فقال متعجّبًا: وهل الدعاء إلا كلام في الصلاة ويجوز؟ والمنكر لهذا هو من يقول من الكوفيين: إنه لا يجوز الدعاء في الصلاة إلا بلفظ القرآن.
فأما الثناء على اللَّه، فمتّفقٌ على جوازه في الصلاة، وهذا مما يُرجَّح به الاستفتاح بـ "سبحانك اللَّهمّ وبحمدك"؛ لاشتماله على أفضل الكلام، فإنه إذا جُمع مع التكبير صار متضمِّنًا لقول:"سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهنّ:"إنهنّ أفضل الكلام بعد القرآن".
وذهب طائفةٌ قليلةٌ إلى أن من ترك الاستفتاح عمدًا أعاد صلاته، منهم: ابن بطّة من الحنابلة، وربّما حُكي عن أحمد.
وقال الحكم: إذا قال: سبحان اللَّه حين يفتتح الصلاة، والحمد للَّه أجزأه، وهذا يشعر بوجوبه.
وقال إسحاق: إن تركه عمدًا فهو مسيءٌ، ولا يتبيّن لي إيجاب الإعادة؛ لما ذُكر في غير حديثٍ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا كبّر قرأ فاتحة الكتاب.
وحكى الترمذيّ عن بعض أهل الكوفة أن حديث عليّ بن أبي طالب يُعمَلُ به في التطوّع دون الفريضة.
وقال أحمد في رواية ابن منصور: أنا أذهب إلى قول عمر
(1)
، وإن قال كما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا بأس، وعامّة ما قال في صلاة الليل.
وقال الوليد بن مسلم: ذكرت ذلك لسعيد بن عبد العزيز، فأخبرني عن المشيخة أنهم كانوا يقولون هؤلاء الكلمات حين يُقبلون بوجوههم إلى القبلة قبل تكبيرة الاستفتاح -يعني وجّهت وجهي- قال: ثم يُتبعون تكبيرة الاستفتاح: سبحانك اللَّهمّ وبحمدك إلى آخره.
وذهب مالك إلى أنه لا يُشرَع الاستفتاح في الصلاة، بل يُتْبِع التكبير بقراءة الفاتحة، وحكاه الإمام أحمد في رواية حنبل، عن ابن مسعود وأصحابه،
(1)
وقع في النسخة "ابن عمر"، وهو تصحيف، فقد تقدّم قول أحمد: نذهب إلى حديث عمر، فتنبّه
وهذا غريبٌ. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد سبق أن ذكرت أن الصحيح مذهب الجمهور، وهو استحباب الافتتاح بالدعوات التي صحّت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن من قال بعدم مشروعيّة ذلك، فليس عنده حجة مقنعة، فتمسّك بما صحّ من الحجج، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ومما يُستحبّ الإتيان به قبل القراءة في الصلاة التعوّذ عند جمهور العلماء، واستدلّوا بقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98]، والمعنى: إذا أردت القراءة، هكذا فسّر الآية الجمهور.
وحُكي عن بعض المتقدّمين، منهم: أبو هريرة، وابن سيرين، وعطاء التعوّذ بعد القراءة.
قال ابن رجب رحمه الله: والمرويّ عن ابن سيرين قبل قراءة أم القرآن وبعدها، فلعلّه كان يستعيذ لقراءة السورة كما يقرأ البسملة لها أيضًا.
وقد جاءت الأحاديث بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ قبل القراءة في الصلاة، فرَوَى عَمرو بن مرّة، عن عاصم الْعَنَزيّ، عن ابن جبير بن مُطعِم، عن أبيه أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة، قال:"اللَّه أكبر كبيرًا، اللَّه أكبر كبيرًا، اللَّه أكبر كبيرًا، والحمد للَّه كثيرًا، سبحان اللَّه بكرة وأصيلًا -ثلاثًا- أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم، من نفخه، ونَفْثه، وهَمْزه"، قال: نفثُهُ: الشِّعْرُ، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبّان في "صحيحه"، والحاكم، وصحّحه
(2)
.
وابن جبير هو نافع، وقع مسمّى في رواية كذلك، وعاصم الْعَنَزيّ قال أحمد: لا يُعرف، وقال غيره: رَوى عنه غير واحد، ذكره ابن حبّان في "الثقات".
ورَوَى عطاء السائب، عن أبي عبد الرحمن السلميّ، عن ابن
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 6/ 376 - 388.
(2)
لكنه ضعيف؛ لجهالة عاصم العنزيّ، كما سيأتي عن أحمد رحمه الله.
مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل في الصلاة يقول:"اللَّهمّ إني أعوذ بك من الشيطان، وهمزه، ونفخه، ونفثه"، رواه ابن ماجه، والحاكم، وهذا لفظه، وقال: صحيح الإسناد، فقد استشهد البخاريّ بعطاء بن السائب
(1)
.
ورَوَى عليّ بن عليّ الرِّفاعيّ، عن أبي المتوكّل، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبّر، ثم يقول:"أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"
(2)
، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وقال: كان يحيى بن سعيد يتكلّم في عليّ بن عليّ، وقال أحمد: لا يصحّ هذا الحديث.
قال ابن رجب رحمه الله: كذا قال، وإنما تكلّم فيه يحيى بن سعيد من جهة أنه رماه بالقدر، وقد وثّقه وكيع، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وقال أحمد: لا بأس به، إلا أنه رفع أحاديث، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، ولا يُحتجّ بحديثه.
وإنما تكلّم أحمد في هذا الحديث؛ لأنه رُوي عن عليّ بن عليّ، عن الحسن مرسلًا، وبذلك أعاد أبو داود، وأخرج في "مراسيله" من طريق عمران بن مسلم، عن الحسن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يريد أن يتهجّد يقول قبل أن يكبّر:"لا إله إلا اللَّه، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر كبيرًا، اللَّه أكبر كبيرًا، أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"، ثم يقول:"اللَّه أكبر".
وفي الباب أحاديث أُخَر مرفوعة فيها ضعفٌ، واعتماد الإمام أحمد على المرويّ عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، فإنه رُوي التعوّذ قبل القراءة في الصلاة عن عمر بن الخطّاب، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وهو قول جمهور العلماء، كما تقدّم، والجمهور على أنه غير واجب.
(1)
لكن عطاء مختلطٌ، وروى عنه محمد بن فُضيل بعد الاختلاط، وهذا من روايته، وفي سماع أبي عبد الرحمن السلميّ من ابن مسعود كلام، فتنبّه.
(2)
وصححه الشيخ الألباني. انظر: "صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 95).
وحُكي وجوبه عن عطاء، والثوريّ، وبعض الظاهريّة، وهو قول ابن بطّة من الحنبليّة.
والجمهور على أنه يُسرّه في الصلاة الجهريّة، وهو قول ابن عمر، وابن مسعود، والأكثرين.
ورُوي عن أبي هريرة الجهر به، وللشافعيّ قولان، وعن ابن أبي ليلى الإسرار والجهر سواء.
واختلفوا هل يختصّ التعوّذ بالركعة الأولى، أم يُستحبّ في كلّ ركعة؟ على قولين:
أحدهما: يُستحبّ في كلّ ركعة، وهو قول ابن سيرين، والحسن، والشافعيّ، وأحمد في رواية.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي هذا المذهب أرجح؛ لظاهر النصّ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية؛ لأن كلّ ركعة لها قراءةٌ مستقلّةٌ، واللَّه تعالى أعلم.
والثاني: أنه يختصّ بالركعة الأولى، وهو قول عطاء، والحسن، والنخعيّ، والثوريّ، وأبي حنيفة، وأحمد في رواية عنه، وقال هشام بن حسّان: كان الحسن يتعوّذ في كلّ ركعة، وكان ابن سيرين يتعوّذ في كلّ ركعتين.
وذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يتعوّذ في الصلاة المكتوبة، بل يفتتح بعد التكبير بقراءة الفاتحة من غير استعاذة، ولا بسملة، واستدلّوا بظاهر حديث أنس رضي الله عنه: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، متّفقٌ عليه.
ويُجاب عنه بأنه إنما أراد أنه يفتتح قراءة الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وافتتاح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} إما أن يراد به افتتاحها بقراءة الفاتحة كما يقوله الشافعيّ، أو افتتاح قراءة الصلاة الجهريّة بكلمة {الْحَمْدُ} من غير بسملة كما يقوله الآخرون، ودلّ عليه حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم صريحًا.
وعلى التقديرين فلا ينفي ذلك أن يكون يقول قبل القراءة ذكرًا، أو دعاءً،
أو استفتاحًا، أو تعوّذًا، أو بسملةً، فإنه لا يخرج بذلك عن أن يكون افتتح القراءة بالفاتحة، أو افتتح الجهر بالقراءة بكلمة ولا يمكن حمل الحديث على أنه كان أول ما يفتتح به الصلاة قراءة كلمة {الْحَمْدُ} فإنه لو كان كذلك لكان لا يفتتح الصلاة بالتكبير، وهذا باطلٌ، غير مراد قطعًا. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1358]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضّبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، رمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
4 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين بن طلحة الْجَحْدريّ، البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
5 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 6/ 428 - 432.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ) الضمير لمحمد بن فُضيل، وعبد الواحد بن زياد.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) اسم الإشارة يعود إلى إسناد عمارة بن القعقاع الماضي.
وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ) يعني أن حديث ابن فضيل، وعبد الواحد كلاهما عن عمارة بن القعقاع بمعنى حديث جرير بن عبد الحميد عنه.
[تنبيه]: أما رواية عبد الواحد بن زياد، عن عمارة التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية جرير، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(744)
حدّثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدّثنا عمارة بن القعقاع، قال: حدّثنا أبو زرعة، قال: حدّثنا أبو هريرة، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتةً، قال -أحسبه قال: هُنَيّةً- فقلت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نَقِّني من الخطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد". انتهى.
وأما رواية محمد بن فُضيل، عن عمارة بن القعقاع التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا على رواية جرير، عنه، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(805)
حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعليّ بن محمد قالا: حدّثنا محمد بن فُضيل، عن عُمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة، قال: فقلت: بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، فأخبرني ما تقول؟ قال:"أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نَقِّني من خطاياي كالثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1359]
(599) - (قَالَ مُسْلِم: وَحُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، وَيُونُسَ الْمُؤَدِّبِ، وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- إِذَا نَهَضَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وَلَمْ يَسْكُتْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) التِّنِّيسيّ البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208) تقدم في "الحيض" 7/ 723.
2 -
(يُونُسُ الْمُؤَدِّبُ) هو: يونس بن محمد بن مسلم، أبو محمد البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ مُسْلِم) أي ابن الحجّاج، صاحب الكتاب، وقال:"قال" يَحْتَمِل أن يكون هو المصنّف نفسه، ويَحْتَمِل أن يكون ملحقًا من الرواة عنه.
وقوله: (وَحُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ. . . إلخ) ببناء الفعل للمفعول، وهكذا أورده المصنّف معلّقًا، وسيأتي بيان من وصله في المسألة الثالثة -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقوله: (إِذَا نَهَض) أي قام، يقال: نَهَضَ من مكانه يَنْهَضُ كمنَعَ يَمْنَعُ نُهُوضًا: ارتفع عنه، ونَهَضَ إلى العدوّ: أسرع إليه، ونَهَضتُ إلى فلان، وله نَهْضًا ونُهُوضًا: تحرّكتُ إليه بالقيام، وانتهض أيضًا، وكان منه نهضةٌ إلى كذا: أي حركةٌ، والجمع نَهَضَات، وأنهضتُهُ للأمر بالألف: أقمته إليه، أفاده في "المصباح"
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يَسْكُتْ) يعني أنه لا يسكت عن قراءة الفاتحة، مشتغلًا بدعاء الاستفتاح، كما يفعله في الركعة الأولى.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 628.
وفيه دليلٌ على أنه لا يُشرَع دعاء الاستفتاح في أول الركعة الثالثة، كالأولى، وإنما يُشرع الاستفتاح في الركعة الأولى فقط، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 1359](599)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1603)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1936)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1601)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1330)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 197)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الحديث أحد الأحاديث التي وقعت في "صحيح مسلم" معلّقةً، وهي نحو اثني عشر موضعًا، وقد تقدّمت مفصّلة في "شرح المقدّمة"
(1)
، وهذا الحديث قد وصله الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (1/ 430) فقال:
(1601)
حدّثني أحمد بن سهل -هو ابن مالك- عن محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا يحيى بن حسّان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، عن عمارة، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا أبو هريرة، كان النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم- إذا نهض في الركعة الثانية استفتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولم يسكت. انتهى.
ووصله أيضًا البزّار، وأبو نعيم في "مستخرجه"، وقد تقدّم نصّهما في "شرح المقدّمة"
(2)
، وكذا وصله ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 87 - 141.
(2)
راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 91 - 92.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1360]
(600) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ، وَثَابِتٌ، وَحُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ، فَدَخَلَ الصَّفَّ
(2)
، وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- صلَاتَهُ قَالَ:"أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ "، فَأَرَمَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا"، فَقَالَ رَجُلٌ: جئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ، فَقُلْتُهَا، فَقَالَ
(3)
: "لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا، يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَفَّانُ) بن مسلم الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
3 -
(حَمَّاد) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
5 -
(ثَابِت) بن أسلم البُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع (120)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 80.
6 -
(حُمَيد) بن أبي حُميد الطويل، أبو عُبيدة البصريّ، ثقةٌ [5](ت 142)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
7 -
(أَنَس) بن مالك الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرح له الترمذيّ، وحماد علّق له البخاريّ، بل أخرج له حديثًا واحدًا في "الرقاق".
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "فدخل في الصفّ".
(3)
وفي نسخة: "قال".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن حمادًا هنا، مُهْمَلٌ، وهو ابن سلمة؛ لأنّ الراوي عنه هنا عفّان بن مسلم، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث":
وَتَارَةً فِي اسْمٍ فَقَطْ ثُمَّ السِّمَهْ
…
حَمَّادُ لابْنِ زيدِ وَابْنِ سَلَمَهْ
فَإِنْ أَتَى عَنِ ابْنِ حَرْبٍ مُهْمَلَا
…
أَوْ عَارِمٍ فَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ جُعِلَا
أَوْ هُدْبَةٍ أَوِ التَّبُوذَكِيّ أَوْ
…
حَجَّاجٍ أَوْ عَفَّانَ فَالثَّانِي رَأَوْا
5 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة 93، وقيل: سنة 92، وقيل غير ذلك، وقد جاوز عمره مائة سنة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا جَاءَ) قال في "التنبيه": هو رفاعة بن رافع، قال الخطيب: وقد رُوي أن رفاعة حَكَى ذلك عن غيره، لا أنه مما جرى له، قاله النوويّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كون المراد رفاعة بن رافع بعيدٌ جدًّا؛ لأن سياق الحديث يرفعه، كما لا يخفى.
قال القرطبيّ-رحمه الله: وقد رَوَى البخاريّ من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: كنّا نُصلّي يومًا وراء النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، فلَمّا رفع رأسه من الركعة قال:"سَمِعَ اللَّه لمن حَمِدَه"، قال رجلٌ من ورائه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركا فيه، فلَمّا انصرف قال:"من المتكلّم آنفًا؟ " قال: أنا، قال:"رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيّهم يكتبها أوّل".
قال: ومساق الحديث يدلّ على أنه حديث آخر، غير حديث أنس هذا، فإن ذلك حَمِدَ اللَّه على إدراكه الصلاة مع النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-، وهذا حَمِدَ اللَّه عند الرفع من الركوع، وعند قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"سَمِعَ اللَّه لمن حَمِده"، وحينئذ لا يكون بينهما تعارضٌ، وهذا أولى من أن يُقدّرونها قصّةً واحدةً، ويُتَعَسَّف إما في
(1)
"تنبيه المعلم"(ص 143).
التأويل، أو في المحلّ على الرواة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من كون قصّة حديث أنس رضي الله عنه غير قصّة رفاعة رضي الله عنه هو الحقّ، كما لا يخفى على من تأمّله، واللَّه تعالى أعلم.
(فَدَخَلَ الصَّفَّ) وفي نسخة: "فدخل في الصفّ"، وفي رواية النسائيّ:"فدخل المسجد"(وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ) -بفتح الحاء المهملة، والفاء، والزاي المعجمة- من باب ضرب، أي أجهده وضاق به، من شدّة السعي إلى الصلاة لإدراكها، وأصل الحَفْز الدفع، وفي "النهاية": الْحَفْزُ: الحثّ والإعجال.
وقال النووي رحمه الله قوله: "وقد حَفَزه النفس": بفتح حروفه، وتخفيفها: أي ضَغَطه؛ لسرعته. انتهى.
وقال ابن منظور رحمه الله: الحَفْزُ: حَثُّكَ الشيءَ من خلفه سَوْقًا وغير سوق، وكلُّ دفع حَفْزٌ، وقوسٌ حَفُوزٌ: شديد الحَفْز والدفعِ للسهم، وحَفَزَه: أي دفعه من خلفه يَحْفِزُه حَفْزًا. قال الراجز:
تُرِيحُ بَعْدَ النَّفَسِ الْمَحْفُوزِ
يُريد النفسَ الشديد المتتابعَ، كأنه يُحْفَزُ، أي يُدْفَعُ من سياق، ورأيت فلانًا مَحْفُوزَ النَّفَس: إذا اشتدّ به. انتهى كلام ابن منظور رحمه الله باختصار
(2)
.
و"النَّفَسُ" -بفتحتين-: نسيم الهواء، وجمعه أنْفَاس. قاله في "المصباح".
والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "دخل".
وسبب شدة عَدْوِهِ الحَذَرُ من أن تفوته الجماعة، كما قاله الطيبيّ رحمه الله، واعترض عليه القاري بأنه ينافي قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا".
وأجاب عنه ابن حجر الهيتميّ بأنه محمول على ما ذهب إليه بعض أئمتنا من أن محل الكراهة فيمن علم أنه يدرك الجماعة لو لم يَسْعَ، أما من علم أنه
(1)
"المفهم" 2/ 218.
(2)
"لسان العرب" 5/ 337.
لا يُدركها إلا أن يسعى فلا يكره له السعي، ثم قال: والأرجح عندنا أنه لا فرق، وعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على تقدير علمه بالعَدْوِ، إنما يدلّ على الجواز، لا على نفي الكراهة، والكلام في غير الجمعة، أما هي فيجب السعي إذا توقف عليه إدراكها، وهو إنما يحصل بإدراك ركوع الركعة الثانية. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قول القاري: "ينافي الحديث المذكور" غير صحيح؛ لأن الظاهر من حال الرجل أنه لم يبلغه النهي، كما يدل عليه سياق الحديث.
وكذا قول ابن حجر: "محمول على ما ذهب إليه بعض أئمتنا. . . إلخ"، غير صحيح أيضًا؛ لأن هذا القول باطلٌ منابذٌ لصريح الحديث، فلا ينبغي الحمل عليه.
وقوله أيضًا: "وعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم. . . إلخ"، غير صحيح أيضًا، فقد صح أنه أنكر عليه، ففي مسند أحمد من رواية حميد عن أنس رضي الله عنه، زاد في آخر الحديث: ثم قال: "إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فلْيَمْشِ على هِينَتِهِ، فليصلّ ما أدرك، وليقض ما سبقه".
وقوله أيضًا: "والكلام في غير الجمعة. . . إلخ"، غير صحيح أيضًا؛ لأن النص لم يُفَرِّق بين الجمعة وغيرها، بل قال:"إذا أتيتم الصلاة، فلا تأتوها، وأنتم تسعون".
وأما الاستدلال بآية {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فغير صحيح أيضًا؛ إذ المراد بها التوجه، والذهاب إليها، لا العَدْوُ، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]. كما بيّنه البخاريّ في "كتاب الجمعة" من "صحيحه"
(1)
.
وسيأتي تمام البحث في هذا في الباب التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.
(فَقَالَ) أي ذلك الرجل (الْحَمْدُ للَّهِ) وفي رواية النسائيّ: "فقال: اللَّه أكبر، الحمد للَّه. . . "، وفيه تصريح بأن ذلك الرجل قال هذا الذكر بعد دخوله في الصلاة (حَمْدًا كثِيرًا) قال الطيبيّ رحمه الله: منصوبٌ بمضمر يدلّ عليه الحمد،
(1)
"الفتح" 2/ 453.
ويَحْتَمِل أن يكون بدلًا منه جاريًا على محلّه، وقوله:(طَيِّبًا) وصفٌ له، أي خالصًا لوجهه تعالى، لا للرياء والسُّمْعة (مُبَارَكًا فِيهِ) أي يقتضي بركةً وخيرًا كثيرًا، يترادف إرفادُه، ويتضاعف إمْدَادُه، وقال ابن الملك: أي حمدًا جُعِلت البركة فيه، يعني حمدًا كثيرًا غايةَ الكثرة. انتهى. وقيل: مباركًا بدوام ذاته، وكمال غاياته.
(فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلي اللَّه عليه وسلم- صَلَاتَهُ) أي أدَّاها، وأتمّها، وسلّم منها (قَالَ:"أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ؟ ") "أل" فيه للعهد الحضوريّ، أي بالكلمات التي سمعناها آنفًا في هذه الصلاة (فَأَرَمَّ الْقَوْمُ) -بفتح الراء وتشديد الميم-: أي سكتوا، ولم يجيبوا، وقال القاضي عياض: ورواه بعضهم في غير "صحيح مسلم": "فأزَمَ" بالزاي المفتوحة، وتخفيف الميم، من الأزْمِ، وهو الإمساك، وهو صحيح المعنى. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية المشهورة بالراء والميم المشدّدة، ومعناه: سَكَتُوا، مأخوذ من المرَمّة، وهي الشفة، أي أطبقوا شِفاههم، ورواه بعضهم في غير مسلم:"فَأَزَمَ" بزاي مفتوحة، وميم مخفّفة، مأخوذ من الأَزْمِ، وهو شدُّ الأسنان بعضها على بعض، ومعناه سكتوا. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ: "أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا؟) أي بهذه الكلمات (فَإِنَّهُ) أي المتكلّم (لَمْ يَقُلْ بَأْسًا") قال الطيبيّ رحمه الله: يجوز أن يكون مفعولًا به، أي لم يتفوّهْ بما يؤاخذ عليه، وأن يكون مفعولًا مطلقًا، أي ما قال قولًا يُشدَّد عليه.
يعني أن هذا المتكلّم لم يقل شيئًا يكون سببًا للخوف، وإنما قال ذلك لَمَّا رأى سكوتَ القوم، وعدمَ إجابتهم؛ خوفًا من أن يغضب على المتكلِّم، ويواجهه بالتعنيف، فأزاله بقوله:"لم يقل بأسًا".
و"البأس": العذاب، والشدّة في الحرب، وفي حديث عليّ رضي الله عنه:"كنا إذا اشتدّ البأس اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"
(2)
، يريد الخوف، ولا يكون إلا مع
(1)
"المفهم" 2/ 217 - 218.
(2)
هو ما أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح، عن عليّ رضي الله عنه قال: لَمّا حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان من أشدّ الناس ما كان، أو لم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه. =
الشدّة، قال ابن الأعرابيّ: البأس، والْبَئِسُ -بفتح، فكسر- على مثال فَعِلٍ: العذاب الشديد، وقال ابن سِيدَهْ: البأس: الحرب، ثم كَثُر حتى قيل: لا بأس عليك، ولا بأس، أي لا خوف، قال قيس بن الْخَطِيم [من الطويل]:
يَقُولُ لِيَ الْحَدَّادُ وَهْوَ يَقُودُنِي
…
إلى السِّجْنِ لا تَجْزَعْ فَمَا بِكَ مِنْ بَاسِ
أراد: فما بك من بأس، فخففها، أفاده في "اللسان"
(1)
.
وفي رواية أحمد، وابن خزيمة:"أيكم القائل كذا وكذا"، قال: فأرمّ القوم، قال: فأعادها ثلاث مرات.
(فَقَالَ رَجُلٌ) الظاهر: فقال الرجل، كما في رواية أبي داود، وفي رواية النسائيّ:"قال: أنا يا رسول اللَّه"(جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ) أي دفعني، واشدّ عليّ تتابعه (فَقُلْتُهَا) أي قلت الكلمات المذكورة؛ ثناءً، وشكرًا للَّه تعالى حيث لم تفتني صلاة الجماعة، وفي رواية أحمد، وابن خزيمة:"فقال رجل: أنا قلتها، وما أردت بها إلا الخير"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم وفي نسخة: "قال"، وفي رواية النسائيّ:"قال النبيّ -صلي اللَّه عليه وسلم-"("لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا) تخصيص العدد من الملائكة بالمقدار المذكور مُفَوَّض إلى علم اللَّه تعالى.
وقال بعضهم: إن كلمات "الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه" ستّ كلمات، فبعث اللَّه لكل كلمة منها ملكين تعظيمًا لشأنها، وتكثيرًا لثواب قائلها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما أسلفته آنفًا من التفويض إلى اللَّه تعالى في مثل هذا أسلم، وأقوم، واللَّه تعالى أعلم.
(يَبْتَدِرُونَهَا) أي يتسابقون فيها (أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا") مبتدأ وخبره، والجملة في موضع نصب على الحال من فاعل "يبتدرونها".
قال أبو البقاء في قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44]: "أيهم يكفل": مبتدأ وخبر، في موضع نصب، أي يقترعون أيُّهُم،
= وفي رواية: 1349 "قال: كنا إذا احْمَرّ البأس، ولقي القوم القومَ، اتقينا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه".
(1)
راجع: "لسان العرب" 6/ 20.
(2)
أفاده في "المنهل العذب" 5/ 174.
فالعامل ما دلّ عليه "يلقون"، كذا ذكره الطيبيّ
(1)
.
وقال السمين الحلبيّ في هذه الآية: هذه الجملة منصوبة المحلّ؛ لأنها معلقة لفعل محذوف، وذلك الفعل في محلّ نصب على الحال، تقديره: يُلقون أقلامهم، ينظرون أيُّهُم يكفل مريم، أو يَعْلَمُون، وجوَّز الزمخشري أن يُقَدَّر "يقولون"، فيكون محكيًّا به، ودلّ على ذلك قوله:"يلقون". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله السَّمِين: أوضح، فيكون تقدير الكلام في الحديث: يبتدرونها، حال كونهم ينظرون أيهم يرفعها.
والمعنى: أنهم يتسابقون في كتابتها، ورفعها إلى اللَّه تعالى؛ لعظم شأنها، وكثرة ثوابها.
وقال السنديّ: "يبتدرونها"، أي: كل منهم يريد أن يسبق على غيره في رفعها إلى محلّ العرض، أو القبول، وجملة "أيهم يرفعها" حالٌ، أي قاصدين ظهور أيهم يرفعها. انتهى
(3)
.
زاد في رواية أحمد، وأبي داود من رواية حميد، عن أنس رضي الله عنه:"ثم قال: إذا جاء أحدكم إلى الصلاة، فَلْيَمْشِ على هِينَتِهِ، فَلْيُصَلِّ ما أدرك، وليقض ما سبقه"، وقد تقدّم قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 1360](600)، و (أبو داود) في "الصلاة"(763)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(901) وفي "الكبرى"(974)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2561)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2001)، و (أحمد)(2/ 125 و 269 و 3/ 106 و 188 و 252)، و (ابن خزيمة) في
(1)
ذكره في "المرقاة" 2/ 537.
(2)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 2/ 92.
(3)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 2/ 133.
"صحيحه"(466)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1761)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1602 و 1603)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1331)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(633 و 634)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يقال بين التكبير والقراءة من الأذكار.
2 -
(ومنها): بيان ما أكرم اللَّه عز وجل به هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه حيث ألهمه هذا الذكر العظيم القدر.
3 -
(ومنها): أن بعض الأعمال يتولى كتابتها غير الحفظة أيضًا لشرفها، وعظيم منزلتها عند اللَّه تعالى.
4 -
(ومنها): بيان أن الملائكة يتسابقون في الخيرات، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1361]
(601) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْم: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ "، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ"، قَالَ
(1)
ابْنُ عُمَرَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
يَقُولُ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبله.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ) اسم أبيه ميسرة، أو سالم، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
(1)
وفي نسخة: "وقال".
(2)
وفي نسخة: "من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
5 -
(عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن عُتْبَة بن مسعود الهُذَليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الزاهد، أخو عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة الفقيه، ثقة عابد، من [4].
رَوَى عن أبيه، وعمّ أبيه عبيد اللَّه بن مسعود مرسلًا، وأخيه عبيد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عمرو، والشعبيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه أخوه حمزة، والمسعوديّ، وأبو العُميس، وابن عجلان، والزهريّ، وقتادة، وعمرو بن مرّة، وأبو الزبير، ومسعرٌ، وآخرون.
قال أحمد، ويحيى بن معين، والعجلي، والمصنف: ثقة، وقال ابن المديني: قال عون: صلّيت خلف أبي هريرة. وذكر الدارقطني أن روايته عن ابن مسعود مرسلة. وقال ابن سعد: لَمَّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة رحل إليه عون بن عبد اللَّه، وعمر بن ذَرّ، وأبو الصباح موسى بن أبي كثير، فناظروه في الإرجاء، فزعموا أنه وافقهم، وكان عون ثقةً كثير الإرسال. وقال الأصمعيّ، عن أبي نَوْف الهذلي، عن أبيه: كان من آدبِ أهل المدينة، وأفقههم، وكان مرجئًا، ثم رَجَع عن ذلك، وقال أبياتًا في ذلك [من الوافر] منها:
لأوَّلُ مَا نُفَارِقُ غَيْرَ شَكِّ
…
نُفَارِقُ مَا يَقُولُ الْمُرْجِئُونَا
وَقَالُوا مُؤمِنٌ مِنْ أَهْلِ جَوْرٍ
…
وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بِجَائِرِينَا
وَقَالُوا مُؤْمِنٌ دَمُهُ حَلالٌ
…
وَقَدْ حَرُمَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمينَا
ثم خرج مع ابن الأشعث، فهرب حيث هربوا، فأتى محمد بن مروان بنَصِيبين، فآمنه، وألزمه ابنه، ثم صَحِب عمر بن عبد العزيز في خلافته، وكانت له منه منزلة، وخرج جرير، فأقام بباب عمر بن عبد العزيز، فطال مقامه، فكتب إلى عون بن عبد اللَّه [من البسيط]:
يَا أَيُّهَا الْقَارِئُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ
…
هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ خَلا زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إنْ كُنْتَ لاقِيَهُ
…
أَنّي لَدَى الْبَابِ كَالمَشْدُودِ فِي قَرَنِ
وقال ابن عيينة، عن أبي هارون موسى بن أبي عيسى: كان عون يحدّثنا، ولحيته تَرْتَشُّ بالدموع، وعن المسعوديّ: قال عون بن عبد اللَّه: إن من كان
قبلنا كانوا يجعلون لدنياهم ما فضل عن آخرتهم، وإنكم اليوم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم، وعن ابن عجلان: كان عون بن عبد اللَّه يقول: اليوم المِضْمَار، وغدًا السّبَاق، والسُّبْقَة الجنة، والغاية النار، فبالعفو تنجون، وبالرحمة تدخلون الجنة، وبالأعمال تقتسمون المنازل. وقال العجلي: كان يرى الإرجاء، ثم تركه. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: كان من عُبّاد أهل الكوفة، وقرائهم، يروي عن أبي هريرة، إن كان سَمِع منه، وقد أدرك أبا جُحَيفة. وقال البخاريّ: سمع أبا هريرة، وابن عمرو.
ذكره البخاريّ فيمن مات بين عشر ومائة إلى عشرين ومائة.
أخرج له الجماعة إلا البخاري، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (601) و (1599) و (2767) و (3027).
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدم في تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: أبي الزبير، عن عون، وهو من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الرابعة.
4 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: بَيْنَمَا) تقدّم الكلام عليها غير مرّة (نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) الظاهر أنه غير الرجل الذي سبق في حديث أنس رضي الله عنه، كما هو واضح من اختلاف صِيَغ أذكارهما (اللَّهُ كبَرُ) مبتدأ وخبر. قال القاري: أي أكبر من أن يُعْرَف كنه كبريائه وعظمته، أو من أن يُنسَب إليه ما لا يليق بجلاله، أو من كل شيء.
وفي "الغريبين": قيل: معناه اللَّه كبير، وبَيَّنَ بعض المحققين أن "أفعل" قد يقطع عن متعلِّقه، قصدًا إلى نفس الزيادة، وإفادة المبالغة، ونظيره: فلان يُعطِي، ويَمْنَع، أي توجد حقيقتهما فيه، وإفادة المبالغة من حيث إن الموصوف تفرد بهذا الوصف، وانتهى أمره فيه إلى أن لا يُتَصَوَّر له من يشاركه فيه، وعلى هذا يُحْمَل كلُّ ما جاء من أوصاف الباري جلّ وعلا، نحو:"أعلم".
وقال ابن الهمام: إن أفعل وفعيلًا في صفاته تعالى سواء؛ لأنه لا يراد بـ "أكبر" إثبات الزيادة في صفته بالنسبة إلى غيره بعد المشاركة؛ لأنه لا يساويه أحد في أصل الكبرياء، فكان "أفعل" بمعنى "فعيل".
لكن في "المغرب": اللَّه أكبر من كلّ شيء، وتفسيرهم إياه بالكبير ضعيف.
ويمكن أن يكون المراد من كون كبير وأكبر واحدًا في صفاته أن المراد من الكبير المسند إليه الكبرياء بالنسبة إلى كل ما سواه، وذلك بأن يكون كل ما سواه بالنسبة إليه ليس بكبير، وهذا المعنى هو المراد بأكبر فتدبر، ولكن لَمّا كان هذا المعنى في أكبر أظهر لم يجوّز بعضهم في التحريمة إلا أن يقال: اللَّه أكبر، قاله القاري في "المرقاة".
(كَبِيرًا) منصوب بفعل محذوف، أي أُكَبِّرُ كبيرًا، أو على أنه صفة لمحذوف، أي تكبيرًا كبيرًا، أو حال مؤكدة للجملة، قاله في "المنهل".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قيل: هو منصوب على إضمار الفعل، أي كبّرت كبيرًا، وقيل: على القطع، وقيل: على التمييز. انتهى
(1)
.
(وَالْحَمْدُ للَّهِ) مبتدأ وخبرٌ أيضًا (كثِيرًا) نعت لمصدر محذوف، أي حمدًا كثيرًا.
(وَسُبْحَانَ اللَّهِ) قال الأزهريّ رحمه الله: "سبحان اللَّه" معناه تنزيهًا للَّه من الصاحبة والولد، وقيل: تنزيهُ اللَّه تعالى عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به، ونصبه أنه في موضع فعل على معنى تسبيحًا له، تقول: سبحتُ اللَّه تسبيحًا له، أي نزهته تنزيهًا.
(بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي في أول النهار وآخره، منصوبان على الظرفية،
(1)
"المفهم" 2/ 218.
والعامل "سبحان"، وخَصَّ هذين الوقتين بالذكر؛ لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما، كذا ذكره الأبهريّ، وصاحب "المفاتيح".
ويمكن أن يكون وجه التخصيص تنزيهَ اللَّه تعالى عن التغير في أوقات تغير الكون.
وقال الطيبيّ: الأظهر أنه يراد بهما الدوام كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]. قاله القاري رحمه الله.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا؟ ") أراد بالكلمة الكلامَ؛ إذ الكلمة تطلق على الكلام لغةً، كما في قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] إشارةً إلى قوله: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} الآية [المؤمنون: 99 - 100]. وقال ابن مالك في "خلاصته":
. . . . . . . . . . . . . .
…
كِلْمَةٌ بِهَا كَلامٌ قَدْ يُؤَمّ
وإنما سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم بيانًا لِعِظَم شأن الكلمة، وليتعلم السامعون كلامه، فيقولوا مثل قوله، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي رواية النسائيّ: "فقال رجل: أنا يا نبي اللَّه"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَجِبْتُ) بكسر الجيم، من باب تَعِبَ، يقال: عَجِبتُ من الشيء، عَجَبًا، وتعجّبتُ، واستعجبتُ، وهو شيء عجيبٌ، أي يُتعجَّب منه، قال بعض النحاة: التعجّب: انفعال النفس لزيادة وصفٍ في المتعجَّب منه، نحو ما أشجعه
(1)
. (لَهَا) أي لهذه الكلمة (فُتِحَتْ) بالبناء للمفعول (لَهَا) أي لأجلها (أَبْوَابُ السَّمَاءِ") أي حتى تصعد إلى اللَّه تعالى، كما قال عز وجل:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] الآية.
وفي رواية للنسائيّ من طريق عمرو بن مرّة، عن عون بن عبد اللَّه:"فقال: لقد ابتدرها اثنا عشر ملكًا".
(قَالَ) وفي نسخة: "وقال" بالواو (ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَمَا) نافيةٌ (تَرَكْتُهُنَّ) أي هؤلاء الكلمات (مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" بزيادة "من"(يَقُولُ ذَلِكَ) أي الفضل المذكور.
(1)
راجع: "المصباح" 2/ 393.
وفيه: حِرْصُ عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما في التمسك بما حفظه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأقوال، والأفعال، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 1361](601)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3592)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(885 و 886) وفي "الكبرى"(959 و 960)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2559)، و (أحمد) في "مسنده"(4613)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1604 و 1605)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1332)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 26)، وفوائده تقدّمت في شرح حديث أنس رضي الله عنه الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(28) - (بَابُ بَيَانِ الأَمْرِ بِإِتْيَانِ الصَّلَاةِ بِوَقَارٍ وَسَكِينَةٍ، وَالنَّهْي عَنْ إِتْيَانِهَا سَعْيًا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1362]
(602) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌ والنَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زَيادٍ، أَخْبَرَنَا
(1)
إِبْرَاهِيمُ، يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
(1)
وفي نسخة: "أخبرني".
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو:. عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ حافظٌ حجةٌ فقيهٌ إمامٌ، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيادٍ) الْوَرَكانيّ -بفتحتين- أبو عمران الْخُرَاسانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
6 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنَ سَعْد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزُّهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
7 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
8 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
9 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
10 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب القرشيّ، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة فقيه إمام، من كبار [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
11 -
(سَعِيد) بن المسيِّب بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجةٌ إمام، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
12 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
13 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، بالنسبة للإسنادين الأولين، فهما عاليان، وأما الثالث فمن سُداسيّاته، فهو أنزل منهما.
2 -
(ومنها): أنه كُتبت فيه (ح) مرّتين إشارة إلى تحويل الإسناد، ففي السند الأول روى الزهريّ عن سعيد بن المسيّب فقط، وفي الثاني قرن معه أبا سلمة، وفي الثالث عن أبي سلمة فقط، وكلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيوخه، فأبو بكر، وزهير ما أخرج لهما الترمذيّ، وعمرو الناقد ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، ومحمد بن جعفر تفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، وحرملة تفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ.
5 -
(ومنها): أنه قيل: أصح أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عنه.
6 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعي عن تابعيين؛ الزهري عن سعيد، وأبي سلمة.
7 -
(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة من التابعين، وكذا أبو سلمة على بعض الأقوال.
8 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، رَوَى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: اختُلِف في إسناد حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا:
فقد أخرجه المصنّف رحمه الله من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد وحده، عن أبي هريرة، ومن طريق يونس، عن الزهريّ، عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة، ومن طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة، ونحو هذا فعل البخاريّ في "الصحيح".
وذكر الدارقطني هذا الاختلاف على الزهريّ، وجزم بأنه عنده عنهما جميعًا، قال: وكان ربما اقتصر على أحدهما.
وأما الترمذيّ، فإنه أخرجه من طريق يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده، ومن طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد وحده، قال: وقول عبد الرزاق أصح، ثم أخرجه من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ، كما قال عبد الرزاق، وهذا عمل صحيح، لو لم يثبت أن الزهري حَدَّث به عنهما.
والحقّ ما قاله الدارقطنيّ، وهو أن هذا الحديث مما رواه الزهريّ عن سعيد، وأبي سلمة كليهما، وحدّث به عنهما جميعًا، وربّما اقتصر على أحدهما، فمن هنا اختلف الرواة عليه.
والحاصل أن الحديث صحيح بالطرق الثلاثة، طريق الاجتماع، وطريقي الانفراد، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَن أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) وفي رواية العلاء، عن أبيه:"إذا ثُوِّب للصلاة"، وفي رواية همّام بن منبّه:"إذا نودي بالصلاة"، وكلّها عند المصنّف في هذا الباب، وفي رواية البخاريّ:"إذا سمعتم الإقامة"، وفي حديث أبي قتادة:"إذا أتيتم الصلاة، فعليكم السكينة".
قال في "الفتح": قوله: "إذا سمعتم الإقامة" هو أخصّ من قوله في حديث أبي قتادة: "إذا أتيتم الصلاة"، لكن الظاهر أنه من مفهوم الموافقة؛ لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى، ونحو ذلك، ومع ذلك فقد نُهِي عن الإسراع، فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع؛ لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها، فيُنهَى عن الإسراع من بابٍ أولى.
وقد لَحَظَ فيه بعضهم معنى غير هذا، فقال: الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها، وقد انبهر فيقرأ، وهو في تلك الحالة، فلا يَحْصُل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك، فإن الصلاة قد لا تقام فيه حتى يستريح. انتهى.
وقضية هذا أنه لا يُكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة، وهو مخالف لصريح قوله:"إذا أتيتم الصلاة"؛ لأنه يتناول ما قبل الإقامة، وإنما قيد في هذا الحديث بالإقامة؛ لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ولي الدين العراقيّ رحمه الله: قوله: "إذا نودي للصلاة" يَحْتَمِل أن يراد بالنداء الأذان، ويَحْتَمِل أن يراد به الإقامة، ويدل للاحتمال الثاني قوله في رواية أخرى في "الصحيح":"إذا أقيمت الصلاة". وسواء فسَّرناه بالأذان أو الإقامة فليس هذا القيد معتبرًا في الحكم، فلو قَصَد الصلاة قبل الإقامة كُرِه له الإسراع أيضًا، بل هو أولى بالكراهة؛ لأنه بعد الإقامة يخاف فوت بعض الصلاة، وقبلها لا يخاف ذلك، فإذا نُهي عن الإسراع مع خوف فوات بعض الصلاة، فمع عدم الخوف أولى، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى، وهو من مفهوم الموافقة.
وقد صرح بذلك النوويّ، فقال: إنما ذكر الإقامة لينبه بها على ما سواها؛ لأنه إذا نُهي عن إتيانها سعيًا في حال الإقامة مع خوفه فوت بعضها، فقبل الإقامة أولى، وأكَّد ذلك ببيان العلة، فقال صلى الله عليه وسلم:"فإن أحدكم إذا كان يَعْمِد إلى الصلاة، فهو في صلاة".
قال: وهذا يتناول جميع أوقات الإتيان إلى الصلاة، وأكَّد ذلك تأكيدًا
(1)
"الفتح" 2/ 139.
آخر، فقال:"فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا"، فحصل به تنبيه وتأكيد؛ لئلا يَتَوَّهم متوهم أن النهي إنما هو لمن لم يَخَفْ فوت بعض الصلاة، فصرّح بالنهي، وإن فات من الصلاة ما فات. انتهى. وهو حسن.
وقال والدي -يعني الحافظ العراقي- في "شرح الترمذيّ" بعد حكايته: ويَحْتَمِل أن هذا خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أنه إنما يفعل ذلك من خاف الفوت، فأما من بادر في أول الوقت، فلا يفعل ذلك؛ لوثوقه بإدراك أول الصلاة. انتهى.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: هذه الوصية بالسكينة، إنما هي لمن غَفَل عن المشي إلى المسجد حتى سمع الإقامة، أو لمن كان له عذر، وكلاهما سواء في النهي عن الإسراع. انتهى.
ومقتضى هذه العبارة، أنه فَهِمَ أن مفهوم الشرط هنا معتبر، وأنه من مفهوم المخالفة، فلا يُنْهَى عن الإسراع من قصد الصلاة قبل الإقامة، وهذا مردود يُنْفَرُ عن القول به ببادئ الرأي وآخره، إلا أن يقال: إنما خَصَّ النهي عن الإسراع بما بعد الإقامة؛ لأنه يدخل في الصلاة مُنْبَهِرًا، فيمنعه ذلك عن الخشوع، وإقامة الأركان على وجهها، وأما إذا كان قبل الإقامة، فإنه إذا وصل إلى المسجد لا يدخل في الصلاة بمجرد دخوله؛ لأن الصلاة لم تُقَمْ، فيستريح، ويذهب عنه ما به من البهر والتعب قبل الإقامة، وفي هذا نظر؛ لأن الصلاة وإن كانت لم تُقَم، فقد تقام بمجرد وصوله إلى المسجد، فيقع في المحذور، ثم إن هذا المعنى ليس هو المعتبر في الحديث على ما سيأتي بيانه، وقد ظهر بذلك أنه وقع التردد في أن هذا من مفهوم الموافقة، أو المخالفة، أو لا مفهوم له، والأول هو الراجح. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله
(1)
. وهو تحقيقٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ) الجملة الاسمية في محل نصب على الحال من الفاعل، والمراد من السعي: الإسراع البليغ، وقد يُطْلَق على مطلق المشي، كما
(1)
"طرح التثريب" 2/ 356 - 357.
في قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الجمعة: 9]. فلا تنافي بين الآية والحديث في الذهاب إلى الجمعة.
وقال ابن منظور رحمه الله: والسعي: عَدْوٌ دون الشَّدّ، قال: المراد بالسعي في هذا الحديث: هو العدو، يقال: سَعَى يَسْعَى سَعْيًا: إذا عَدَا، وسَعَى: إذا مَشَى، وسَعَى: إذا عَمِلَ، وسَعَى: إذا قَصَدَ، وإذا كان بمعنى الْمُضِيّ عُدِّي بـ "إلى"، وإذا كان بمعنى العمل عُدِّي باللام، والسعيُ: القصدُ، وبذلك فُسِّر قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وليس من السعي الذي هو الْعَدُوُ، وقرأ ابن مسعود:"فامضوا إلى ذكر اللَّه"، وقال: لو كانت من السعي لسعيت حتى يَسْقُط ردائي، قال الزجاج: السعي، والذهاب بمعنى واحد؛ لأنك تقول للرجل: هو يسعى في الأرض، وليس هذا باشتداد، وقال الزجاج: أصل السعي في كلام العرب: التصرف في كلِّ عَمَلٍ، ومنه قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، معناه إلا ما عَمِلَ، ومعنى قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]: فاقصدوا. انتهى كلام ابن منظور بتصرّف
(1)
.
(وَأْتُوهَا تَمْشُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، قال السنديّ رحمه الله: المشي وإن كان يعم السعي، لكن التقييد بقوله:"وعليكم السكينة" خَصَّه بغيره، ولولا التقييد صريحًا لكفى المقابلة في إفادته. انتهى.
وإنما أتى بجملة: "وأتوها. . . إلخ" بعد قوله: "فلا تأتوها. . . إلخ" تأكيدًا.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذا أمر بالمشي، ونهيٌ عن الإسراع إلى الصلاة لمن سَمِعَ الإقامة، وليس سماع الإقامة شرطًا للنهي، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن الاستعجال إنما يقع عند سماع الإقامة خوف فوات إدراك التكبيرة، أو الركعة، فهو كقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} الآية [البقرة: 283]، والرهن جائز في السفر وغيره، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ
(1)
"لسان العرب" 14/ 385.
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية [المائدة: 6]، وقد ذكرنا أن التيمّم يجوز عند عدم الماء في السفر والحضر، وكذلك قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} الآية [الأحزاب: 5]، ويجوز أن ندعوهم إخوانًا وموالي وإن عُلم آباؤهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لزيد:"أنت أخونا ومولانا"
(1)
، مع علمه بأبيه. انتهى
(2)
.
(وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) كذا في رواية البخاري عند غير أبي ذر، وضبطها القرطبيّ في "المفهم" بالنصب على الإغراء، وضبطها النوويّ بالرفع على أنها جملة في موضع الحال.
ووقع في رواية أبي ذَرّ للبخاريّ: "وعليكم بالسكينة" بزيادة الباء.
قال في "الفتح": واستَشْكَل بعضهم دخول الباء، قال: لأنه متعدٍّ بنفسه، كقوله تعالى:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] وفيه نظر؛ لثبوت زيادة الباء في الأحاديث الصحيحة، كحديث:"عليكم برخصة اللَّه"، وحديث:"فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، وحديث:"فعليك بالمرأة"، قاله لأبي طلحة في قصّة صفية، وحديث:"عليك بعيبتك"، قالته عائشة لعمر، وحديث:"عليكم بقيام الليل"، وحديث:"عليك بخويصة نفسك"، وغير ذلك.
ثم إن الذي عَلَّل به هذا المعترض غير مُوَفٍّ بمقصوده؛ إذ لا يلزم من كونه يجوز أن يتعدى بنفسه امتناع تعديه بالباء، وإذا ثبت ذلك فيدلّ على أن فيه لغتين، واللَّه تعالى أعلم. انتهى ما في "الفتح"
(3)
.
وقد اعترض العينيّ على كلام صاحب "الفتح" الأخير بما فيه تَعَنُّتٌ، وقد رددت على اعتراضه فيما كتبته على النسائيّ، فراجعه تستفد
(4)
.
قال وليّ الدين رحمه الله: والسكينة: هي الوقار، كما فسره أئمة اللغة، لكن في بعض طرقه في "صحيح البخاريّ":"وعليكم السكينة والوقار"، فقال القاضي عياض في "المشارق": كَرَّر فيه الوقار للتأكيد، وكذا قال أبو العباس
(1)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه" برقم (2699).
(2)
"فتح الباري" لابن رجب 5/ 391 - 392.
(3)
2/ 139.
(4)
راجع: "ذخيرة العقبى" 10/ 354.
القرطبيّ: السكينة والوقار اسمان لمسمى واحد؛ لأن السكينة من السكون، والوقار من الاستقرار والتثاقل، وهما بمعنى واحد.
وأنكر الحافظ العراقيّ قوله: إن الوقار من الاستقرار؛ لأن الوقار معتل الفاء، وهذا واضح، وقال في "الصحاح": الوقار: الحلم والرزانة.
وقال النوويّ: الظاهر أن بينهما فَرْقًا، وأن السكينة في الحركات، واجتناب العَبَث، ونحو ذلك، والوقار في الهيئة، وغضّ البصر، وخفض الصوت، والإقبال على طريقه من غير التفات، ونحو ذلك. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: الحكمة في هذا الأمر تُستَفَاد من زيادة وقعت للمصنّف من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة في الرواية التالية فإنه قال في آخرها:"فإن أحدكم إذا كان يَعْمِد إلى الصلاة، فهو في صلاة"، أي أنه في حكم المصلي، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلّي اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلّي اجتنابه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: زاد في رواية البخاريّ هنا: "ولا تُسرعوا"، قال في "الفتح": قوله: "ولا تُسرِعوا" فيه زيادة تأكيد، ويُستفاد منه الردّ على من أَوَّل قوله في حديث أبي قتادة:"لا تفعلوا" أي الاستعجال المفضي إلى عدم الوقار، وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار، كمن خاف فوت التكبيرة فلا، وهذا مَحْكِيّ عن إسحاق ابن راهويه، وقد تقدمت رواية العلاء التي فيها:"فهو في صلاة"، قال النوويّ: نَبّه بذلك على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلًا لمقصوده؛ لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطا، وهو معنًى مقصودٌ لذاته، وَرَدت فيه أحاديث، كحديث جابر رضي الله عنه عند مسلم:"أن بكل خطوة درجة"، ولأبي داود من طريق سعيد بن المسيِّب، عن رجل من الأنصار، مرفوعًا: "إذا توضأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لم يرفع قدمه اليمني إلا كتب اللَّه له حسنةً، ولم يضع قدمه اليسرى، إلا حطَّ اللَّه عنه سيئةً، فإن أتى المسجد، فصلى في جماعة غُفِر له، فإن أتى وقد صَلَّوا بعضًا، وبقي بعض، فصلى ما أدرك، وأتَمَّ ما بقي، كان كذلك،
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 100، و"طرح التثريب" 2/ 357 - 358.
وإن أَتَى المسجد، وقد صَلَّوا، فأتم الصلاة كان كذلك"
(1)
.
(فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا) قال الكرمانيّ رحمه الله: الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا بَيَّنتُ لكم ما هو أولى بكم، فما أدركتم فصلوا.
ويَحْتَمِل أن يكون التقدير: إذا فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة، وترك الإسراع، فما أدركتم فصلُّوا.
(وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا) أي أكملوا، قال في "الفتح": هذا هو الصحيح في رواية الزهريّ، ورواه عنه ابن عيينة بلفظ:"فاقضُوا"، وحكم مسلم في كتابه "التمييز" عليه بالوهم في هذه اللفظة، مع أنه أخرج إسناده في "صحيحه"، لكن لم يَسُقْ لفظه، وكذا رَوَى أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، فقال:"فاقضوا"، وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق بلفظ:"فأتموا"
(2)
.
واختُلِف أيضًا في حديث أبي قتادة، فرواية الجمهور:"فأتموا"، ووقع لمعاوية بن هشام، عن سفيان:"فاقضوا"، كذا ذكره ابن أبي شيبة، عنه، وأخرج مسلم إسناده في "صحيحه" عن ابن أبي شيبة، فلم يسق لفظه أيضًا
(3)
.
ورَوَى أبو داود مثله عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قال: ووقعت في رواية أبي رافع، عن أبي هريرة، واختُلِف في حديث أبي ذرّ. قال، وكذا قال ابن سيرين، عن أبي هريرة:"ولْيَقْضِ"، ورواية ابن سيرين عند مسلم بلفظ:"صَلّ ما أدركتَ، واقْضِ ما سَبَقَك"
(4)
.
والحاصل أن أكثر الروايات وَرَد بلفظ: "فَأَتِمُّوا"، وأقلها بلفظ:"فاقْضُوا"، وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جَعَلنا بين الإتمام والقضاء مغايرةً، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدًا، واختُلِف في لفظة منه، وأمكن رَدُّ الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا كذلك؛ لأن القضاء، وإن كان يُطْلَق على الفائت غالبًا، لكنه يُطْلَق على الأداء أيضًا، ويَرِدُ بمعنى الفراغ، كقوله تعالى:
(1)
"الفتح" 2/ 140.
(2)
هو الحديث الثالث هنا.
(3)
هو الآتي آخر الباب.
(4)
هو الحديث الرابع في هذا الباب.
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} ، ويَرِدُ بمعانٍ أُخَرَ، فيُحْمَل قوله:"فاقضُوا" على معنى الأداء، أو الفراغ، فلا يغاير قوله:"فاتموا".
فلا حُجَّة فيه لمن تمسك برواية "فاقضوا"، على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته، حتى استَحَبَّ له الجهر في الركعتين الأخيرتين، وقراءة السورة، وترك القنوت، بل هو أوَّلها، وإن كان آخر صلاة إمامه؛ لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه.
وأوضح دليل على ذلك أنه يَجِب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حالٍ، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرًا له لما احتاج إلى إعادة التشهد.
وقول ابن بطال: إنه ما تشهد إلا لأجل السلام؛ لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد، ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور.
واستَدَلَّ ابن المنذر لذلك أيضًا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى.
وقد عَمِلَ بمقتضى اللفظين الجمهور، فإنهم قالوا: إن ما أدرك المأموم هو أول صلاته، إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة، مع أم القرآن في الرباعية، لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، وكأن الحجة فيه قوله:"ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك، واقْضِ ما سبقك به من القرآن"، أخرجه البيهقيّ.
وعن إسحاق والمزنيّ: لا يقرأ إلا أمّ القرآن فقط، وهو القياس. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تمام البحث في هذه المسألة قريبًا مع ترجيح القول: إن ما يقضيه المسبوق، فهو أول صلاته -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 2/ 142.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1362 و 1363 و 1364 و 1365](602)، و (البخاري) في "الأذان"(636)، و"الجمعة"(908)، وفي "جزء القراءة"(169 و 170 و 171 و 172 و 176 و 177 و 178)، و (أبو داود) في "الصلاة"(2/ 572 و 573)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(327 و 328)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(861)، وفي "الكبرى"(934)، و (ابن ماجه)(775)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3404)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 145 - 146)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2350)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 358)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 239 و 253 و 270 و 328 و 382 و 387 و 452 و 472)، و (الحميديّ) في "مسنده"(935)، و (الدارميّ) في "سننه"(1286)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1505 و 1772)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2145 و 2146)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 396)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(305)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1540 و 1541 و 1544)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1333 و 1334 و 1335 و 1336 و 1337 و 1338)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 297)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(441 و 442)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن الإسراع في إتيان الصلاة، فينبغي لمن أتى إلى الصلاة أن يأتيها بتُؤَدَة ووقار.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ظاهره أنه لا فرق في ذلك بين الجمعة وغيرها، ولا بين أن يخاف فوت تكبيرة الإحرام، أو فوت ركعة، أو فوت الجماعة بالكليّة، أو لا يخاف شيئًا من ذلك، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم. انتهى
(1)
.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 355.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الجمهور من إطلاق النهي هو الحقّ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): أنهم ذكروا في المعنى الذي نُهِي قاصد الصلاة عن الإسراع، وأُمِر بالمشي بسكينة أمورًا:
[أحدها]: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في هذا الباب: "فإن أحدكم إذا كان يَعْمِد إلى الصلاة، فهو في صلاة"، فأشار بذلك إلى أنه ينبغي أن يتأدب بآداب الصلاة، مِن ترك الْعَجَلة، والخشوع، وسكون الأعضاء، ومن هذا أمره صلى الله عليه وسلم مَن خرج إلى المسجد أن لا يُشَبِّك بين أصابعه، وعَلَّل ذلك بكونه في صلاة، وحكى النوويّ هذا المعنى عن العلماء.
[الثاني]: تكثير الْخُطَا، فقد رَوَى الطبراني بإسناد صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنت أمشي مع زيد بن ثابت، فقارب الخطا، فقال: أتدري لم مشيت بك هذه المشية؟ فقلت: لا، فقال: لتكثر خطانا في المشي إلى الصلاة، وقد رُوي هذا مرفوعًا من حديث زيد بن ثابت، ومن حديث أنس رضي الله عنهما.
[الثالث]: ذَكَر المُهَلَّبُ أن المعنى في ذلك أن لا يَبْهَرَ
(1)
الإنسانَ نفسُهُ، فلا يتمكن من ترتيل القرآن، ولا من الوقار اللازم له في الخشوع. انتهى. وذكره القاضي عياض أيضًا.
وقال الحافظ العراقيّ: ينبني على المعنيين، أي الأوّلين عود المصلي من المسجد إلى بيته، فإن عَلَّلنا بالمعنى الأول، فقد زال في رجوعه إلى بيته كونه في صلاة، وإن عَلَّلنا بالمعنى الثاني، فيستحب أيضًا المشي، ومقاربة الخطا؛ لحديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا:"من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئةً، وخطوة تكتب حسنةً، ذاهبًا وراجعًا"، وإسناده جيد.
قال وليّ الدين: وإن عللنا بالمعنى الثالث، فلا يثبت هذا الحكم في الرجوع، كما قلنا على المعنى الأول. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: تعليله بالمعنى الثاني أولى؛ لحديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه المذكور. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
يقال: بَهَره بَهْرًا، من باب نَفَعَ: إذا غلبه.
3 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة؛ لقوله: "فما أدركتم فصلُّوا"، ولم يُفَصِّل بين القليل والكثير، وبهذا قال الجمهور.
قال ابن حزم رحمه الله: وهذا خبر زائد على الخبر الذي فيه: "من أدرك من الصلاة مع الإمام ركعة، فقد أدرك الصلاة".
قال: وروينا عن ابن مسعود أنه أدرك قومًا جلوسًا في آخر صلاتهم، فقال: أدركتم إن شاء اللَّه، وعن شقيق بن سلمة: من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة، وعن الحسن، قال: إذا أدركهم سجودًا سجد معهم، وعن ابن جريج: قلت لعطاء: إن سمع الإقامة والأذان، وهو يصلي المكتوبة، أيقطع صلاته، ويأتي الجماعة؛ قال: إن ظن أنه يدرك من المكتوبة شيئًا، فنعم.
وذهب الغزالي من الشافعية إلى أن الجماعة لا تدرك بأقل من ركعة. انتهى.
وقال في "الفتح": واستُدِلّ بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة، لقوله:"فما أدركتم، فصلوا"، ولم يفصل بين القليل والكثير، وهذا قول الجمهور، وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة؛ لحديث: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك"، وقياسًا على الجمعة، وأجيب عنه بأنه ورد في الأوقات، وأن في الجمعة حديثًا خاصًّا بها.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أن الجماعة تُدْرَك بإدراك جزء من الصلاة وإن قلَّ هو الحقّ؛ لوضوح حجّته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على استحباب الدخول مع الإمام في أيّ حالة وُجِد عليها، وفيه حديثٌ أصرح منه، أخرجه ابن أبي شيبة، من طريق عبد العزيز بن رُفيع، عن رجل من الأنصار، مرفوعًا:"مَن وجدني راكعًا، أو قائمًا، أو ساجدًا، فليكن معي على حالتي التي أنا عليها"، قاله في "الفتح"
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله: هذا الحديث ناسخ لما
(1)
"الفتح" 2/ 140.
روي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا سُبِقوا ببعض الصلاة صلوا ما فاتهم منفردين، ثم دخلوا مع الإمام فصلوا معه بقية الصلاة، كما رواه أبو داود في أبواب الأذان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحابنا، قال: كان الرجل إذا جاء يسأل، فيخبر بما سبق من صلاته، وأنهم قاموا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من بين قائم، وراكع، وقاعد، ومصل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاء معاذ، فأشاروا إليه، فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها، فقال:"إن معاذًا قد سَنَّ لكم، كذلك فافعلوا".
ورواه الطبراني في "معجمه" من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ رضي الله عنه، وفي لفظ له: فقال: "قد سَنّ لكم معاذ، فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم، وقد سُبِق بشيء من الصلاة، فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام، فليقض ما سبقه به".
قال المزني: قوله: "إن معاذًا قد سَنّ لكم" يحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أُمِر أن يَسُنَّ هذه السنّة، فوافق ذلك فعل معاذ، وذلك أن بالناس حاجة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كل ما يَسُنّ، وليس بهم حاجة إلى غيره. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يقال: لا نسخ في هذه القضية، ولكن الأمران جائزان، أعني متابعة الإمام فيما هو فيه، ثم استدراك ما بقي بعد سلامه، والدخول في الصلاة منفردًا، ثم الاقتداء بالإمام في أثناء الصلاة، وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون أحد الأمرين، فلما فَعَلَ معاذ الأمر الآخر استحسنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورجحه على الأمر الأول، لا أنه حتّمه، وصَيَّره ناسخًا بحيث إنه امتنع فعل الأمر الآخر، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كونه ناسخًا هو الأظهر كما لا يخفى على من تأمّله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
6 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تُحْسَب له تلك الركعة؛ للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته الوقوف، والقراءة فيه، وهو قول أبي هريرة، وجماعة، بل حكاه البخاريّ في "جزء القراءة خلف الإمام" عن كل مَن ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة، والضَّبَعيّ، وغيرهما من محدثي الشافعية، وقوّاه الشيخ تقي الدين السبكيّ من المتأخرين.
وذهب الجمهور إلى أنها تُحسب له، وسيأتي تمام البحث في هذا مع ترجيح القول الأول قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
7 -
(ومنها): أن ابن حزم رحمه الله استدلّ بهذا الحديث على أنه إذا وجد الإمام جالسًا في آخر الصلاة قبل أن يسلم، وجب عليه أن يدخل معه، سواء طَمِع بإدراك الصلاة من أولها في مسجد آخر، أم لا، فحَمَل الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم:"فما أدركتم فصلوا"، على الوجوب على عادته، ثم ذكر آثارًا عن السلف بالأمر بصلاة ما أدركه، يمكن حملها على الاستحباب كما حمل الجمهور الأمر في هذا الحديث على ذلك.
ورَوَى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن جرير، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن رجل من أهل المدينة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سمع خفق نعلي، وهو ساجد، فلما فرغ من صلاته قال:"من هذا الذي سمعت خفق نعله؟ " قال: أنا يا رسول اللَّه، قال:"فما صنعت؟ "، قال: وجدتك ساجدًا، فسجدت، قال:"هكذا فاصنعوا، ولا تعتدُّوا بها، من وجدني راكعًا، أو قائمًا، أو ساجدًا، فليكن معي على حالتي التي أنا عليها". انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الظاهر أن ما قاله ابن حزم من وجوب المتابعة هو الأقرب إلى الصواب؛ لأن الأمر للوجوب على الراجح عند الأصوليين، إلا إذا وجد له صارف، ولم يذكر الجمهور دليلًا صارفًا عن الوجوب، فكيف يُحْمَل على الاستحباب؟ فتبصر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "وما فاتكم، فأتموا" على أن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخر صلاته، وهو مذهب الشافعي، وجماعة.
وذهب آخرون إلى أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو أول صلاته، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وسيأتي تمام البحث في هذا قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الإسراع في المشي إلى الصلاة:
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه": اختَلَف أهل العلم في المشي إلى المسجد، فمنهم من رأى الإسراع إذا خاف فوت التكبيرة الأولى، حتى ذَكَر بعضهم أنه كان يُهَرْوِل إلى الصلاة، ومنهم من كَرِه الإسراع، واختار أن يمشي على تُؤَدة ووَقَار، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقالا: العمل على حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسرع في المشي. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله.
قال وليّ الدين رحمه الله: ورَوَى ابن أبي شيبة في "مصنفه" هذا المعنى -يعني عدم الإسراع مطلقًا- عن عبد اللَّه بن مسعود، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، والزبير بن العوّام، وأبي ذرّ، وعليّ بن الحسين، ومجاهد، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد.
ورَوَى ابن أبي شيبة الهرولة إلى الصلاة عن ابن عمر، والأسود، وسعيد بن جبير، وعن إبراهيم النخعي، قال: رأيت عبد الرحمن بن يزيد مسارعًا إلى الصلاة، وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة بالبقيع، فأسرع المشي، وعن ابن مسعود أنه قال: أحقُّ ما سعينا إلى الصلاة.
وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" بعد نقل ما تقدم عن "مصنف ابن أبي شيبة": والظاهر أن من أطلق الإسراع عن ابن عمر وغيره، إنما هو عند خوف فوت تكبيرة الإحرام كما قيّده الترمذيّ، فقد رَوَى ابن أبي شيبة من رواية محمد بن زيد بن خليدة قال: كنت أمشي مع ابن عمر إلى الصلاة، فلو مشت معه نملة، لرأيت أن لا يسبقها.
وحُكِي عن ابن مسعود أيضًا الإسراع إذا خاف فوت التكبيرة الأولى، وحُكي عن مالك أنه إذا خاف فوت الركعة أسرع، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يُحَرِّك الفرس، قاله القاضي عياض، وتبعه صاحب "المفهم"، وتأوله بعضهم على الفرق بين الراكب والماشي؛ لأنه لا ينهز كما ينهز الماشي.
وحُكي أيضًا عن إسحاف أنه يُسرع إذا خاف فوت الركعة، وهو مخالف لما حكاه الترمذيّ عن إسحاق من تعليق الإسراع بخوف فوات التكبيرة الأولى، ولعله يقول بالإسراع في الموضعين، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقال أبو إسحاق المروزي من الشافعية بالإسراع إذا خاف فوت تكبيرة الإحرام.
وقال ابن بطال بعد نقله عن ابن عمر أنه سمع الإقامة، فأسرع المشي: وهذا يدل على ما رُوي عنه أنه لا يسرع المشي إلى الصلاة أنه جعل معنى قوله: "وعليكم بالسكينة" على ما إذا لم يخش فوت الصلاة، وكان في سعة من وقتها، قال: وقوله: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة"، يَرُدّ فعلَ ابن عمر، ويُبَيِّن أن الحديث على العموم، وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة كما تلزم من كان في سعة من الوقت. انتهى.
وأما الجمعة، فلا نعلم أحدًا قال بالإسراع لها دون غيرها من الصلوات، وأما قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فإن المراد بالسعي فيه مطلق المضيّ، أو القصد.
وقال عكرمة، ومحمد بن كعب القرظيّ: السعي: العمل، وبَوَّب البخاريّ على هذا الحديث:"باب المشي إلى الجمعة"، وقول اللَّه تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ومن قال: السعي: العمل والذهاب؛ لقول اللَّه تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]. انتهى.
وقال الحافظ أبو بكر بن المنذر بعد ذكر نحو ما تقدّم من الخلاف ما نَصُّهُ: يمشي المرء إذا خرج إلى الصلاة على عادته التي يمشي في سائر الأوقات، وأغفل من قال: يسعى إذا خاف فوات التكبيرة الأولى، ومن قال: جائز أن يسعى إذا خاف فوات الركوع، والخروج عن ظاهر خبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غير جائز. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله بعد ذكر الخلاف أيضًا ما نَصُّهُ: معلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما زجر عن السعي من خاف الفوت: "إذا أقيمت الصلاة"؛ و"إذا ثُوِّب بالصلاة"؛ وقال: "فما أدركتم فصَلُّوا"، فالواجب أن يأتي الصلاة من خاف فوتها، ومن لم يخف بالوقار والسكينة، وترك السعي، وتقريب الخطا، لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو صلى الله عليه وسلم الحجة. انتهى
(2)
.
(1)
"الأوسط" 4/ 147.
(2)
"التمهيد" 20/ 233 - 234، و"الاستذكار" 4/ 38.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله هذان الإمامان: أبو بكر بن المنذر، وأبو عمر بن عبد البرّ -رحمهما اللَّه تعالى- من أن الخروج عن ظاهر خبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غير جائز، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الحجة دون غيره تحقيقٌ حقيقٌ بالقبول، لا يسع أن يتعدّاه ذوو العقول، ويعتذر عمن خالفه من أهل العلم بأنه لم يصل إليهم النهي، أو وصل إليهم ولكن تأولوه، وما قصدوا مخالفته، فحاشاهم أن يُظَنّ بهم ذلك، فالقوم أهل اتباع، لا أهل ابتداع، إلا أن الخطأ لا يسلم منه إلا من عصمه اللَّه، فرضي اللَّه تعالى عنهم جميعًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في أن ما أدركه المسبوق هل هو أول صلاته، أم آخرها؟:
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله استُدِلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "وما فاتكم، فأتموا" على أن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخر صلاته، وهو مذهب الشافعي، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عمر، وعلي، وأبي الدرداء، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، والحسن، وسعيد بن جبير، وحكاه ابن المنذر عن هؤلاء، خلا سعيد بن جبير، وقال: إنه لا يثبت عن عمر، وعلي، وأبي الدرداء، وحكاه أيضًا عن مكحول، وعطاء، والزهري، والأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، وإسحاق ابن راهويه، والمزني، قال ابن المنذر: وبه أقول.
ورواه البيهقي عن ابن عمر، ومحمد بن سيرين، وأبي قلابة، وهو منصوص مالك في "المدونة"، فإنه قال فيها: إن ما أدرك فهو أول صلاته، إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من القراءة بأم القرآن وسورة.
قال ابن بطال: ورواه ابن نافع عن مالك، وقال سحنون في "العتبية": هو الذي لم نعرف خلافه، وهو قول مالك، أخبرني به غير واحد، وحكاه ابن بطال عن أحمد بن حنبل، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء، والسلف، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف.
وذهب آخرون إلى أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو أول صلاته، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن مسعود، وابن عمر، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، وأبي قلابة، وعمرو بن دينار، والشعبيّ، وابن سيرين، وعبيد بن عمير، وحكاه ابن المنذر عن مالك، وسفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، فأما مالك فهو المشهور في مذهبه، كما قال القاضي عبد الوهاب.
قال ابن بطال: وهو قول أشهب، وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب، وقال: الذي يقضي هو أولها؛ لأنه لا يستطيع أن يخالف إمامه، فتكون له أولى، وللإمام ثانية، أو ثالثة. انتهى.
وأما الشافعي، فليس هذا مذهبه، وما رأيت أحدًا حكاه عنه، إلا أن النووي حكاه في "الروضة"، قال: إنه حُكي عنه قول غريب أنه يجهر.
وأما أحمد، فكذلك حكاه عنه الخطابي أيضًا، وهو خلاف ما حكاه عنه ابن بطال، كما تقدم.
واستَدَلّ هؤلاء بقوله في الرواية الأخرى: "وما فاتكم فاقضوا"، فلما استعمل لفظ القضاء في المأتيّ به بعد سلام الإمام، دلّ على أنه مؤخر عن محله، وأنه أول الصلاة، لكنه يقضيه.
وأجاب الجمهور عنه بجوابين:
[أحدهما]: تضعيف هذه اللفظة، كما تقدم عن غير واحد.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: لكن الأصح صحتها، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.
[الثاني]: أن قوله: "اقضوا" بمعنى أتموا، والعرب تستعمل القضاء على غير معنى إعادة ما مضى، قال اللَّه تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]، وقال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10]، وقالوا: قضى فلان حقّ فلان، فيُحْمَل القضاء في هذا الحديث على هذا المعنى جمعًا بين الروايتين.
وفي المسألة مذهب ثالث: وهو أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال، وهي رواية عن مالك رحمه الله، ويوافقه ما نصّ عليه الشافعيّ: من أنه لو أدرك ركعتين من رباعية، ثم قام للتدارك يقرأ السورة في الركعتين.
واختَلَف أصحابه في هذا، فقال بعضهم: هو تفريع على قوله: يستحب
قراءة السورة في جميع الركعات، وقال بعضهم: هو تفريع على القولين معًا؛ لئلا تخلو صلاته عن السورة، وصححه النوويّ، ويوافقه ما رواه البيهقيّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك به من القرآن. انتهى المقصود من كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يظهر لي أن مذهب القائلين بأن ما يقضيه المسبوق أول صلاته هو الأرجح، لظهور دليله؛ لأن "ما" في قوله:"وما فاتكم" للعموم، فكل ما فات المسبوق من الأفعال والأقوال يجب عليه الإتيان به، لعموم هذا النصّ، والذي وجب عليه الإتيان به هو الذي فاته، وما فاته إلا أول صلاته، فإذا أتى به فقد قضاه، وما في رواية الأكثرين من لفظ:"فأتموا" لا ينافي هذا المعنى؛ إذ لولا إتيانه بما فاته من أول صلاته لَمَا حَصَلَ الإتمام، فإن الذي أدركه مع الإمام ناقص لا يتم حتى يقضي ما فاته، فإذا قضاه فقد أتم نقصه، ولا يستلزم ذلك أن يكون ما يقضيه أخيرًا.
والحاصل أنه يجب عليه الإتيان بما سبق به من قراءة الفاتحة، والسورة، وسائر الأفعال التي فاتته مع الإمام، وإذا كانت الصلاة جهرية جَهَرَ فيها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في إدراك الركعة بإدراك الركوع:
ذهب الجمهور إلى أن من أدرك الإمام راكعًا تحتسب له تلك الركعة، على تفصيل في حد إدراك الركوع عندهم.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة، للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته الوقوف والقراءة، وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه، وجماعة، بل حكاه البخاري في "جزء القراءة خلف الإمام" عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، واختاره ابن خزيمة والصبغي وغيرهما من محدثي الشافعية، وقوّاه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين، قاله في "الفتح".
وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله عند البحث عن وجوب قراءة الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة ما نصه: ومن ههنا يتَبَيَّن لك ضعف ما ذهب إليه
الجمهور أن من أدرك الإمام راكعًا دخل معه، واعتدّ بتلك الركعة، وإن لم يدرك شيئا من القراءة.
واستدلّوا على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة في صلاته يوم الجمعة، فليضف إليها ركعة أخرى"، رواه الدارقطنيّ من طريق ياسين بن معاذ، وهو متروك، وأخرجه الدارقطنيّ بلفظ:"إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة، فقد أدرك، وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى"، ولكنه رواه من طريق سليمان بن داود الحرانيّ، ومن طريق صالح بن أبي الأخضر، وسليمان متروك، وصالح ضعيف.
على أن التقييد بالجمعة في كلا الروايتين مُشْعِرٌ بأن غير الجمعة بخلافها، وكذا التقييد بالركعة في الرواية الأخرى يدل على خلاف المدَّعَى؛ لأن الركعة حقيقة لجميعها، وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز، لا يصار إليه إلا لقرينة، كما وقع عند مسلم من حديث البراء رضي الله عنه بلفظ:"فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله، فسجدته"، فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام، والاعتدال، والسجود، قرينة تدلّ على أن المراد بها الركوع.
وقد ورد حديث: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة" بالفاظ لا تخلو طرقها عن مقال، حتى قال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث، إنما المتن:"من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدركها".
وكذا قال الدارقطنيّ، والْعُقَيليّ، وأخرجه ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ:"من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه"، وليس في ذلك دليل لمطلوبهم، لما عرفت من أن مسمى الركعة جميع أذكارها، وأركانها حقيقة شرعية وعرفية، وهما مقدمتان على اللغوية، كما تقرر في الأصول، فلا يصح جعل حديث ابن خزيمة، وما قبله قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي.
فإن قلت: فأي فائدة على هذا في التقييد بقوله: "قبل أن يقيم الإمام صلبه"؟.
قلت: دفع توهّم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ الفاتحة، وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك.
إذا تقرر لك هذا، علمت أن الواجب الحمل على الإدراك الكامل للركعة الحقيقية؛ لعدم وجود ما تحصل به البراءة من عهدة أدلة وجوب القيام القطعية، وأدلة وجوب الفاتحة.
وقد ذهب إلى هذا بعض أهل الظاهر، وابن خزيمة، وأبو بكر الصبغي.
روى ذلك ابن سيد الناس في "شرح الترمذيّ"، وذكر فيه حاكيًا عمن روى عن ابن خزيمة أنه احتَجّ لذلك بما روي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك الإمام في الركوع، فليركع معه، وليعدَّ الركعة".
وقد رواه البخاري في "القراءة خلف الإمام" من حديث أبي هريرة أنه قال: "إن أدركت القوم ركوعًا لم تعتدّ بتلك الركعة".
قال الحافظ: وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفًا، وأما المرفوع فلا أصل له.
وقال الرافعيّ تبعًا للإمام: إن أبا عاصم العباديّ حكى عن ابن خزيمة أنه احتجّ به.
وقد حَكَى هذا المذهب البخاري في "القراءة خلف الإمام" عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام، وحكاه في "الفتح" عن جماعة من الشافعية، وقوّاه الشيخ تقي الدين السبكي، وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي، قال: وقد بحثت هذه المسألة، وأحطتها في جميع بحثي فقهًا وحديثًا، فلم أحصل منها على غير ما ذكرت -يعني من عدم الاعتداد بإدراك الركوع فقط-.
قال العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" بعد أن حَكَى عن شيخه السبكي أنه كان يختار أنه لا يعتدّ بالركعة من لا يدرك الفاتحة، ما لفظه: وهو الذي نختاره. انتهى.
والعجب ممن يَدَّعِي الإجماع، والمخالف مثل هؤلاء.
وأما احتجاج الجمهور بحديث أبي بكرة رضي الله عنه حيث صلى خلف الصفّ مخافةَ أن تفوته الركعة، فقال صلى الله عليه وسلم:"زادك اللَّه حرصًا، ولا تعد"، ولم يؤمر بإعادة الركعة، فليس فيها ما يدلّ على ما ذهبوا إليه؛ لأنه كما لم يأمره بالإعادة لم يُنْقَل إلينا أنه اعتدّ بها، والدعاء له بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها؛ لأن
الكون مع الإمام مأمور به، سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتمّ معتدًّا به، أم لا، كما في حديث:"إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تعدّوها شيئًا"، أخرجه أبو داود وغيره على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهى أبا بكرة عن العودة إلى مثل ذلك، والاحتجاج بشيء قد نُهِي عنه لا يصح.
وقد أجاب ابن حزم في "المحلى" عن حديث أبي بكرة رضي الله عنه، فقال: إنه لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس فيه اجتزاء بتلك الركعة.
ثم استدلّ على ما ذهب إليه من أنه لا بد في الاعتداد بالركعة من إدراك القيام والقراءة بحديث: "ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".
ثم جزم بأنه لا فرق بين فوت الركعة، والركن، والذكر المفروض؛ لأن الكل فرض لا تتم الصلاة إلا به، قال: فهو مأمور بقضاء ما سبقه به الإمام وإتمامه، فلا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نصّ آخر، ولا سبيل إلى وجوده.
قال: وقد أقدم بعضهم على دعوى الإجماع على ذلك، وهو كاذب في ذلك؛ لأنه قد رُوي عن أبي هريرة أنه لا يعتدّ بالركعة حتى يقرأ أم القرآن، ورُوي القضاء أيضًا عن زيد بن وهب.
ثم قال: فإن قيل: إنه يكبر قائمًا، ثم يركع، فقد صار مدركًا للوقفة.
قلنا: وهذه معصية أخرى، وما أمر اللَّه تعالى قط، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدخل في الصلاة من غير الحال التي يجد الإمام عليها، وأيضًا لا يجزئ قضاء شيء يسبق به من الصلاة إلا بعد سلام الإمام، لا قبل ذلك.
وقال أيضا في الجواب عن استدلالهم بحديث: "من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدرك الصلاة": إنه حجة عليهم؛ لأنه مع ذلك لا يسقط عنه قضاء ما لم يدرك من الصلاة. انتهى.
والحاصل أن أنهض ما احتج به الجمهور في المقام حديث أبي هريرة رضي الله عنه باللفظ الذي ذكره ابن خزيمة؛ لقوله فيه: "قبل أن يقيم صلبه" كما تقدم، وقد عَرَفت أن ذكر الركعة فيه مناف لمطلوبهم، وابن خزيمة الذي عوّلوا عليه في هذه الرواية من القائلين بالمذهب الثاني، كما عرفت، ومن البعيد أن
يكون هذا الحديث عنده صحيحًا، ويذهب إلى خلافه
(1)
.
ومن الأدلة على ما ذهبنا إليه في هذه المسألة حديث أبي قتادة، وأبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه بلفظ:"ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".
قال الحافظ في "الفتح": قد استُدِلَّ بهما على أن من أدرك الإمام راكعًا لم تحتسب له تلك الركعة؛ للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه، ثم قال: وحجة الجمهور حديث أبي بكرة.
وقد عرفت الجواب عن احتجاجهم به.
وقد ألَّف السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رسالة في هذه المسألة، ورجّحَ مذهب الجمهور، وقد كتبت أبحاثًا في الجواب عليها. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يترجح عندي في هذه المسألة قول من قال بعدم الاعتداد بالركعة بإدراك الركوع إلا إذا أدرك القيام والقراءة؛ لقوة دليله، كما عرفت تفصيله فيما سبق.
وهو الذي رجحه الإمام البخاريّ، ونقله عن كل من قال بوجوب القراءة على المأموم، كما حققه في "جزء القراءة"، وابن خزيمة، وابن حزم، ورجحه من متأخري الشافعية التقي السبكيّ، والحافظ العراقيّ، والعلامة الشوكانيّ في "نيل الأوطار"، كما مرّ تحقيقه.
لكن من الغريب أن الشوكانيّ تراجع عن هذا القول، فقال بترجيح مذهب الجمهور في فتاواه المعروف بـ "الفتح الربانيّ"، كما نقل نصه العلامة محمد
(1)
لم يصحّح ابن خزيمة هذا الحديث، بل أشار إلى ضعفه، فقد قال بعد إخراجه ما نصّه: قال أبو بكر: في القلب من هذا الإسناد، فإني كنت لا أعرف يحيى بن أبي سليمان بعدالة ولا جرحٍ. . . إلخ، وقال أيضًا: والنبيّ صلى الله عليه وسلم إن صحّ عنه الخبر أراد بقوله: "فلا تعدّها شيئا"، أي لا تعدّها سجدةً إلى آخر كلامه، فأفاد: أن الحديث لم يصحّ عنده، وإن كانت ترجمته تدلّ على أنه يقول بمذهب الجمهور، وأما ما عزاه إليه في "الفتح"، وتبعه الشوكانيّ من أنه من القائلين بعدم الاعتداد، فلعلّه في كتبه الأخرى، غير "صحيحه"، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
(2)
"نيل الأوطار" 3/ 67 - 70.
شمس الحق صاحب "عون المعبود" في شرح أبي داود (3/ 157) لكنه ما أتى بدليل مُقْنع، إنما ذكر ما تقدم في أدلة الجمهور التي أجاب هو عنها قريبًا، فأجاد، وأفاد.
والحاصل أن مذهب القائلين بعدم الاعتداد بالركعة بإدراك ركوعها هو المذهب القويّ، فلا تعدل عنه أيها الموفق إلى غيره، وإن كثر القائلون، فالشأن في قوّة الدليل، لا في كثرة القال والقيل، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقد أشبعت البحث بأطول مما هنا في شرح النسائيّ، فراجعه تستفد
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1363]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ، فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوْا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَإِنَّ أحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ
(2)
فَهُوَ فِي صَلَاةٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيد) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
(1)
"ذخيرة العقبى" 10/ 367 - 382.
(2)
وفي نسخة: "يعمد للصلاة".
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَر) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ [5] مات سنة بضع و (130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ المدنيّ مولى الْحُرَقة، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
وقوله: ("إِذَا ثُوِّبَ لِلصَّلَاةِ) وفي رواية ابن سيرين الآتية: "بالصلاة" بالباء، ومعناه: إذا أقيمت، سُمِّيت الإقامة تثويبًا؛ لأنها دعاء إلى الصلاة بعد الدعاء بالأذان، من قولهم: ثاب: إذا رجع
(1)
.
وقوله: (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ) أي يقصد إليها، وفي نسخة:"للصلاة"، يقال: عَمَدتُ للشيء عَمْدًا، من باب ضَرَبَ، وعَمَدتُ إليه: قصدته، وتعمّدته أيضًا: قصدت إليه
(2)
.
وقوله: (فَهُوَ فِي صَلَاةٍ) أي في حكمها من حيث الأجرُ والثواب، وليس المراد أنه في الصلاة حقيقة.
قال النوويّ: فيه الندب الأكيد إلى إتيان الصلاة بسكينة ووقار، والنهي عن إتيانها سعيًا، سواءٌ فيه صلاةُ الجمعة وغيرها، سواءٌ خاف فوت تكبيرة الإحرام أم لا.
قال: والحكمة في إتيانها بسكينة، والنهي عن السعي أن الذاهب إلى صلاة عامدٌ في تحصيلها، ومتوصلٌ إليها، فينبغي أن يكون متأدبًا بآدابها، وعلى أكمل الأحوال، وهذا معنى قوله:"فإن أحدكم إذا كان يَعْمِد إلى الصلاة، فهو في صلاة". انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 100.
(2)
راجع: "المصباح" 2/ 428.
(3)
راجع: "شرح النووي" 5/ 99.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1364]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ
(1)
، فَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوْا، وَمَا فَاتَكُمْ
(2)
فَأَتِمُّوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، أبو بكر الحميريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ مشهورٌ، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](211) عن (85) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّه) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
وقوله: (إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ) وفي نسخة: "للصلاة"، والمراد الإقامة، فهو بمعنى قوله:"إذا ثُوِّب بالصلاة"، وقوله:"إذا أُقيمت الصلاة".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1365]
(. . .) - (حَدَّثَنَا
(3)
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ، يَعْنِي ابْنَ
(1)
وفي نسخة: "للصلاة".
(2)
وفي نسخة: "وما سبقكم".
(3)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَلَا يَسْعَ
(1)
إِلَيْهَا أَحَدَكُمْ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الْفُضَيْلُ بْنَ عِيَاضٍ) التيميّ، أبو عليّ الزاهد خراسانيّ الأصل، نزيل مكة، ثقةٌ عابد إمامٌ [8](ت 187)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن عُليّة تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الْقُردوسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 308.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ) قيل: هما بمعنى واحد، وجُمِع بينهما تأكيدًا، والظاهر أن بينهما فرقًا، وأن السكينة التأني في الحركات، واجتناب العبث، ونحو ذلك، والوقار في الهيئة، وغضّ البصر، وخفض الصوت، والإقبال على طريقه بغير التفات، ونحو ذلك.
وفيه دليلٌ على أنه ينبغي للذاهب إلى الصلاة أن لا يعبث بيده، ولا يتكلّم بقبيح، ولا ينظر نظرًا قبيحًا، ويجتنب ما أمكنه مما يجتنبه المصلّي، فإذا وصل إلى المسجد، وقعد ينتظر الصلاة كان الاعتناء بما ذُكر أشدّ وآكد، واللَّه تعالى أعلم.
والحديث مضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "فلا يسعى".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1366]
(603) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: بَينَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ جَلَبَةً، فَقَالَ:"مَا شَأْنُكُمْ؟ "، قَالُوا: اسْتعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: "فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ، فَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ
(1)
، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوْا، وَمَا سَبَقَكُمْ فَأَتِمُّوا").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُور) بن بَهْرَام الكوسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ المُبَارَكِ الصُّورِيُّ) هو: محمد بن المبارك بن يعلى القرشيّ الصوريّ، أبو عبد اللَّه القلانسيّ، سكن دمشق، ثقة، من كبار [10].
رَوَى عن الهيثم بن حُميد، ومعاوية بن سلّام، وصدقة بن خالد، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه محمد، وعمران بن بكّار، والذُّهْليّ، وغيرهم.
قال أبو زرعة الدمشقيّ، عن الوليد بن عتبة: سمعت مروان بن محمد يقول: ليس فينا مثله. قال أبو زرعة: وشهدت جنازته في شوّال سنة (215) وصَلَّى عليه أبو مسهر، فلما فرغ أثنى عليه، وقال: يرحمه اللَّه، فذكر جميلًا. وقال محمود بن خالد: قال ابن معين: محمد بن المبارك شيخ الشام بعد أبي مسهر. وقال العجليّ، وأبو حاتم: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مولده سنة (153) ومات سنة (215) وكان من العبّاد. وذكره ابن شاهين في "الثقات". وقال الخليليّ: ثقة. وقال الذهليّ: كان أفضل أهل الشام.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (603)، و (1975):"أصلح هذا اللحم. . . ".
(1)
وفي نسخة: "فعليكم بالسكينة".
[تنبيه]: قوله: "الصُّوريّ" بضمّ الصاد، وسكون الواو، وفي آخره راء: نسبة إلى مدينة صُور من بلاد ساحل الشام، قاله في "اللباب"
(1)
.
3 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ سَلَّامٍ) -بتشديد اللام- أبو سلّام الدمشقيّ، وسكن حِمْصَ، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.
4 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، نزيل اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 93)(ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
6 -
(أبُوهُ) أبو قتادة الأنصاريّ الحارث، أو عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة السَّلَميّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ أنه قال: (أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَاهُ) أبا قتادة رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ) وقوله: (قَالَ) بيان وتوضيح لمعنى الإخبار (بَيْنَمَا) هي "بين" الظرفيّة زيدت عليها "ما"، وربّما تزاد الألف، فيقال:"بينا"، وهي ظرف زمان، بمعنى المفاجأة، وتضاف إلى جملة فعليّة، أو اسميّة، وتحتاج إلى جواب يتمّ به المعنى، وقد يقترن الجواب بـ "إذ"، و"إذا"، والأكثر عدم اقترانه بهما، وقد تقدّم البحث فيها مستوفًى في غير هذا المحلّ. (نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله:(فَسَمِعَ جَلَبَةً) جواب "بينما" -بفتحات-: أي
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 56.
أصواتًا لحركتهم وكلامهم واستعجالهم، وفي رواية البخاريّ:"جَلَبة الرجال"، وفي رواية كريمة والأصيليّ:"جلبة رجال"، بغير "أل"، وهي للعهد الذهنيّ.
واستُدلّ به على أن التفات خاطر المصلي إلى الأمر الحادث لا يُفسد صلاته
(1)
، حيث إنه صلى الله عليه وسلم التفت خاطره إليهم لَمّا سمع جَلَبَتهم.
(فَقَالَ: "مَا) استفهاميّة مبتدأ، خبره قوله:(شَأْنُكُمْ؟ ") بالهمزة، ويُخفّف بحذفها، أي أيُّ شيء حالكم؟ حيث وقع منكم الجلبة، وأراد به الإنكار على ما سمعه من الجلبة المنافية لحال الصلاة (قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ) أي إلى إدراكها معك، والسين والتاء للطلب، أو للصيرورة، أي طلبنا من أنفسنا العجلة إلى الصلاة، أو صرنا عَجِلين إلى الصلاة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَلَا تَفْعَلُوا) الفاء في جواب شرط مقدّر، أي إذا تأخّرتم فلا تفعلوا الاستعجال المؤدّي إلى الإخلال بآداب المشي إلى الصلاة، والنهي عن الاستعجال بلفظ النهي عن الفعل فيه مبالغة؛ لأنه من العامّ الذي يدخل ضمنه الخاصّ كذا قيل
(2)
. (إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ) أي مكان الصلاة لأجل أدائها (فَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ) وفي نسخة: "بالسكينة"، وهو اسم فعل بمعنى الزموا، ويجوز كونه مبتدأ خبره "عليكم"، وتقدّم البحث فيه (فَمَا أَدْرَكْتُمْ) أي القدر الذي أدركتموه من الصلاة مع الإمام (فَصَلُّوْا) معه (وَمَا سَبَقَكُمْ) أي فاتكم (فَأَتِمُّوا) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد وُجد في بعض نسخ "صحيح البخاريّ" في حديث أبي قتادة هذا: "وما فاتكم فاقضوا"، وقد خرّجه الطبرانيّ من طريق أبي نُعيم الذي خرّج عنه البخاريّ، وقال في حديثه:"ليُصلّ أحدكم ما أدرك، وليقض ما فاته"، وخرّجه بقيّ بن مَخْلَد في "مسنده" عن ابن أبي شيبة، عن معاوية بن هشام، عن شيبان، وقال في حديثه:"وما سُبِقتم فاقضوا"، وخرّجه الإسماعيليّ، ولفظه:"وما فاتكم فاقضوا". انتهى
(3)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 2/ 138.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 219، و"فتح المنعم" 2/ 292.
(3)
"فتح الباري" لابن رجب 5/ 388 - 389.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1366 و 1367](603)، و (البخاريّ) في "الأذان"(635)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 306)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2147)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1543)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1339)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 298)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1367]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب.
2 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ هِشَامٍ) القصّار، أبو الحسن الكوفيّ، مولى بني أسد، ويقال له: معاوية بن أبي العبّاس، صدوقٌ له أوهام، من صغار [9](ت 204)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 91/ 491.
3 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
[تنبيه]: كان ينبغي للمصنّف رحمه الله أن يقول: "حدّثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير"، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "حدّثنا شيبان بهذا الإسناد"، يعني حدّثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير بإسناده المتقدم، وكان ينبغي لمسلم أن يقول:"عن يحيى"؛ لأن شيبان لم يتقدم له ذكرٌ، وعادة مسلم وغيره في مثل هذا أن يذكروا في الطريق الثاني رجلًا، ممن سبق في الطريق الأول، ويقولوا: بهذا الإسناد، حتى يُعْرَف، وكأنّ مسلمًا رحمه الله اقتصر على شيبان؛ للعلم بأنه في
درجة معاوية بن سلام السابق، وأنه يروي عن يحيى بن أبي كثير، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: آخر رواية شيبان هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(635)
حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: بينما نحن نصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبَةَ رجال، فلما صلّى قال:"ما شأنكم؟ " قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال:"فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(29) - (بَاب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1368]
(604) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاة فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي"، وَقَالَ
(3)
ابْنُ حَاتِمٍ: "إِذَا أُقِيمَتْ، أَوْ نُودِيَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون تقدّم قبل بابين.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقة مأمون سنيّ [10] تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان التيميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ
(1)
"شرح مسلم" 5/ 101.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
(3)
وفي نسخة: "قال".
متقنٌ حافظٌ إمامٌ قدوةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
4 -
(حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ) هو: حجّاج بن أبي عثمان ميسرة، أو سالم، أبو الصَّلْت الكِنْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.
5 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) أبو نصر الطائيّ، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
7 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْن أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
8 -
(أَبُو قَتَادَةَ) الحارث بن ربعيّ، وقيل: غيره، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخيه، فالأول انفرد به هو وأبو داود، والثاني انفرد به هو والبخاريّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ الراوي عن أبيه: عبد اللَّه، عن أبي قتادة، ورواية تابعي عن تابعيين: يحيى عن أبي سلمة، وعبد اللَّه بن أبي قتادة.
4 -
(ومنها): أن صحابيه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، فارس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ) قال في "الفتح": وصرح أبو نعيم في "المستخرج" من وجه آخر عن هشام -يعني الدّستوائي- أن يحيى كَتَب إليه أن عبد اللَّه بن أبي قتادة حدّثه، فأُمِن بذلك تدليس يحيى. انتهى.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث مما رواه هشام الدستوائيّ، عن يحيى بن أبي كثير مكاتبةً، وقد رواه عن يحيى غير واحد: شيبان، وحجّاج الصوّاف، وأيوب، وأبان العطّار، ومعمر، وغيرهم، خرّجه البخاريّ من رواية شيبان، ومسلم من رواية حجّاج، ومعمر، وفي رواية له من رواية شيبان
ومعمر: "حتى تروني قد خرجتُ"، وقال أبو داود: لم يذكر "قد خرجت" إلا معمرٌ، وذكر البيهقيّ أنها قد رُويت عن حجّاج أيضًا، وخرّجها ابن حبّان في "صحيحه" من رواية معمر، ولفظه:"حتى تروني قد خرجت إليكم". انتهى
(1)
.
(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أي إذا ذكرت ألفاظ الإقامة، ونودي بها (فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي") أي تُبصروني، وفي الرواية التالية:"حتى تروني قد خرجت"، وفي رواية ابن حبان من طريق عبد الرزاق:"حتى تروني خرجت إليكم"؛ ولا بد فيه من التقدير، أي لا تقوموا حتى تروني خرجت، فإذا رأيتموني خرجت فقوموا، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذه اللفظة -يعني "قد خرجتُ"- يُستدلّ بها على مراده صلى الله عليه وسلم برؤيته أن يَخرُج من بيته، فيراه من كان عند باب المسجد، ليس المراد يراه كلُّ من كان في المسجد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تصوموا حتى تروا الهلال"، متّفق عليه، ومعلوم أنه لو رآه واحد أو اثنان لاكتُفي برؤيتهما، وصام الناس كلُّهم.
ويدلّ على هذا ما أخرجه مسلم بعد هذا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أقيمت الصلاة، فقمنا، فعدّلنا الصفوف قبل أن يخرُج إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . " الحديث.
ويُحمَل ذلك على قيامهم قبل أن يطلع على أهل المسجد من المسجد لما علموا خروجه من بيته وتحقّقوه.
وأخرج أيضًا من حديثه: "إن كانت الصلاة تقام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مصافّهم قبل أن يقوم النبيّ صلى الله عليه وسلم مقامه".
فهذه الرواية تصرّح بأن الصفوف كانت تُعدَّل له قبل أن يبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مصلّاه، ولكنّه كان قد خرج من بيته، ورآه من كان بقرب بيته.
وقد ذكر الدارقطنيّ وغير واحد من الحفّاظ أن هذا الحديث اختصره الوليد بن مسلم من الحديث الذي قبله، فأتى به بهذا اللفظ.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 5/ 413.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 153.
[فإن قيل]: فقد أخرج مسلم من حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: "كان بلالٌ يؤذّن إذا دحضت، فلا يُقيم حتى يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه"، فلو اكتُفي برؤية واحد للنبيّ صلى الله عليه وسلم لاكتُفي برؤية بلال له، واكتُفي بإقامة بلال في قيام الناس، فإنه كان لا يُقيم حتى يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد خَرَجَ.
[أجيب]: بأن هذا إنما ورد في صلاة الظهر بالمدينة خاصّةً، وأما في غيرها من الصلوات، فقد كان بلالٌ يجيء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته، فيُؤْذِنه بالصلاة، فكان يفعل في صلاة الفجر، كما في حديث عائشة وابن عبّاس رضي الله عنهم، وكان أحيانًا يفعله في السفر في غير الفجر، كما رَوَي أبو جُحيفة أنه رأى بلالًا آذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بصلاة الظهر.
فالظاهر أن بلالًا كان إذا آذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصلاة، رجع فأقام قبل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيته، واكتَفَى بتأهّبه للخروج بإيذانه له، فوقع النهي عن قيام الناس إلى الصلاة قبل خروجه في مثل هذه الحالة. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
ببعض تصرّف، وهو بحث مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم.
ثم ذكر المصنّف رحمه الله الاختلاف بين شيخيه: محمد بن حاتم، وعبيد اللَّه بن أبي سعيد، فأشار بأن اللفظ المذكور لعبيد اللَّه، وأما محمد بن حاتم، فذكر لفظه بقوله:(وَقَالَ) وفي نسخة: "قال" بحذف الواو (ابْنُ حَاتِمٍ) هو: محمد شيخه الأول ("إِذَا أُقِيمَتْ، أَوْ نُودِيَ")"أو" للشكّ من الراوي، يعني أن محمد بن حاتم ذكره بالشكّ.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" ظاهره: أن الصلاة كانت تقام قبل أن يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيته، وهو معارض لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما الآتي:"أن بلالًا كان لا يقيم حتى يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم".
ويُجْمَع بينهما بأن بلالًا رضي الله عنه كان يراقب خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأول ما يراه يَشْرَع في الإقامة، قبل أن يراه غالب الناس، ثم إذا رأوه قاموا، فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 5/ 414 - 415.
قال في "الفتح": ويَشْهَد له ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب:"أن الناس كانوا ساعةَ يقول المؤذن: اللَّه أكبر، يقومون إلى الصلاة، فلا يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف".
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي: "أقيمت الصلاة، فقمنا، فعَدّلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتى، فقام مقامه" الحديث، وفي رواية أبي داود:"إن الصلاة كانت تقام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يجيء النبيّ صلى الله عليه وسلم".
فيُجْمَع بينه وبين حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه كان سبب النهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعةَ تقام الصلاة، ولو لم يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك؛ لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج، فيشق عليهم انتظاره.
ولا يَرُدُّ هذا حديث أنس رضي الله عنه: أنه قام في مقامه طويلًا في حاجة بعض القوم؛ لاحتمال أن يكون ذلك وقع منه نادرًا، أو فعله لبيان الجواز. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 1368 و 1369](604)، و (البخاريّ) في "الأذان"(637 و 638)، و"الجمعة"(909)، و (أبو داود) في "الصلاة"(539 و 540)، و (الترمذيّ) فيها (592)، و (النسائيّ) في "الأذان"(686)، و"الكبرى"(790 و 865 و 1651)، و (الحميديّ) في "مسنده"(427)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 405)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 305 و 307 و 308 و 309)،
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 142.
و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 289)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1526)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1755 و 2222 و 2223)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1335 و 1336 و 1337 و 1338 و 1339 و 1340 و 1341)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1340 و 1341 و 1342)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 20)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(440)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الوقت الذي يقوم فيه الناس للصلاة، وهو وقت رؤيتهم الإمام خارجًا إلى الصلاة، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة إلى الخير حيث إنهم كانوا يقومون للصلاة قبل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ مبادرةً إليها.
3 -
(ومنها): بيان شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته حيث نهاهم عن القيام قبل أن يخرج إليهم؛ لئلا يشقّ عليهم، كما قال اللَّه عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
4 -
(ومنها): بيان سماحة الشريعة، وسهولة تكاليفها حيث خفّفت في مواطن المشقّة؛ دفعًا للحرج، وقد بيّن اللَّه تعالى ذلك حيث قال:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"بُعثتُ بالحنيفيّة السمحة"
(1)
.
5 -
(ومنها): أنه يفيد أن المؤذن لا يقيم حتى يرى الإمام قد خرج للصلاة؛ لأن ذلك يؤدي إلى تطويل القيام على الناس؛ انتظارًا له، وربما لا يكون مستعدًّا، أو يَعْرِض له عارضٌ في طريقه، فيتأخر عليهم، وأصرح منه حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الآتي بلفظ:"كان بلالٌ يؤذّن إذا دحَضَت، فلا يُقيم حتى يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هو ما أخرجه أحمد في "مسنده" مطوّلًا برقم (21788)، وفيه:"إني لم أبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بُعِثت بالحنيفية السمحة. . . " الحديث، صححه الشيخ الألباني في "الصحيحة" 6/ 1022.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الوقت الذي يقوم فيه الناس حين يقام للصلاة:
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى في "الموطأ": لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحدّ محدود، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس، فإن منهم الثقيل، والخفيف.
وذهب الأكثرون إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة.
وعن أنس رضي الله عنه أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: "قد قامت الصلاة"، رواه ابن المنذر، وغيره، وكذا رواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق، عن أصحاب عبد اللَّه رضي الله عنه.
وعن سعيد بن المسيب، قال: إذا قال المؤذن: "اللَّه أكبر" وجب القيام، وإذا قال:"حيّ على الصلاة" عُدِّلت الصفوف، وإذا قال:"لا إله إلا اللَّه" كبَّر الإمام.
وعن أبي جحيفة: يقومون إذا قال: "حيّ على الفلاح"، فإذا قال:"قد قامت الصلاة" كبَّر الإمام.
وأما إذا لم يكن الإمام في المسجد، فذهب الجمهور إلى أنهم لا يقومون حتى يروه، وخالف من ذكر على التفصيل المذكور، قال الحافظ رحمه الله: وحديث الباب حجة عليهم. انتهى.
وأخرج الحافظ أبو بكر بن المنذر رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا قيل: "قد قامت الصلاة" وثب فقام، ونحوه عن حسين بن عليّ رضي الله عنهما.
قال: وكان عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن كعب القرظيّ، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، وأبو قلابة، وعراك بن مالك، والزهريّ، وسليمان بن حبيب المحاربيّ يقومون إلى الصلاة في أول بدء الإقامة. وبه قال عطاء، وهو مذهب أحمد، وإسحاق، إذا كان الإمام في المسجد، وكان مالك لا يُوَقّت به وقتًا، يقول: ذلك على قدر طاقة الناس، فيهم القوي، والضعيف.
وقال النعمان، ومحمد: يجب أن يقوموا في الصف إذا قال المؤذن: "حيّ على الفلاح"، فإذا قال:"قد قامت الصلاة" كبَّر الإمام، وكبَّر القوم معه،
وأما إذا لم يكن الإمام معهم، فإني أكره لهم أن يقوموا في الصفوف، والإمام غائب عنهم.
وقال يعقوب: لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.
قال ابن المنذر رحمه الله: إذا كان الإمام معهم في المسجد قاموا إذا قام، وإذا كانوا ينتظرون خروجه، ومجيئه قاموا إذا رأوه، ولا يقوموا حتى يروه؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت". انتهى مُلَخَّص كلام ابن المنذر رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله الإمام ابن المنذر رحمه الله وهو أنه إن كان الإمام معهم قاموا إذا قام، وإن لم يكن معهم، فلا يقوموا حتى يروه، هو الحقّ عندي؛ لوضوح حجّته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1369]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ شَيْبَانَ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَزَادَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ حَدِيثَ مَعْمَرٍ، وَشَيْبَانَ:"حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
4 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
6 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
7 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
8 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) الدمشقيّ، تقدّم قبل بابين.
9 -
(شَيْبَانُ) بن عبدالرحمن النحويّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) يعني ابن أبي شيبة.
وقوله: (وَحَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ) كقول "قال أبو بكر"، فهو معطوفٌ على "حدّثنا سفيان"، والمعنى أن أبا بكر بن أبي شيبة روى هذا الحديث بسندين، الأول: سفيان بن عيينة، عن معمر، والثاني: إسماعيل ابن عُليّة، عن حجّاج بن أبي عثمان.
وقوله: (قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) فاعل "قال" ضمير المصنّف، والظاهر أنه ملحقٌ من الراوي عنه.
وقوله: (أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ) يقدّر قبل قوله: "عن معمر" لفظ "كلاهما"، أي كلا عيسى، وعبد الرزّاق.
وقوله: (وَقَالَ إِسْحَاقُ. . . إلخ) هو: ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، والظاهر أن هذا ليس تعليقًا، بل هو مما سمعه المصنّف من إسحاق، كما يظهر من عبارة الحافظ المزّيّ في "تحفته"
(1)
، فتنبّه.
وحاصل المعنى أن إسحاق بن إبراهيم، روى هذا الحديث بسندين: أحدهما: عيسى بن يونس، وعبد الرزاق، كلاهما عن معمر، والثاني: الوليد بن مسلم، عن شيبان بن عبد الرحمن.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ. . . إلخ) أي كلُّ هؤلاء الثلاثة: معمر، وحجّاج بن أبي عثمان، وهو حجّاج الصوّاف المذكور في السند الماضي، وشيبان النحويّ، رووا عن يحيى بن أبي كثير. . . إلخ.
وقوله: (وَزَادَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ حَدِيثَ مَعْمَرٍ، وَشَيْبَانَ: "حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 539.
خَرَجْتُ") يعني أن زيادة قوله: "حتى تروني قد خرجت" إنما رواها إسحاق من حديث معمر، وشيبان.
ثم إن الزيادة هي قوله: "قد خرجت"، وأما "حتى تروني"، فمذكور عند الجميع، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1370]
(605) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَقُمْنَا، فَعَدَّلْنَا الصُّفُوفَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ، قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ ذَكَرَ، فَانْصَرَفَ، وَقَالَ لَنَا: "مَكَانَكُمْ"، فَلَمْ نَزَلْ قِيَامًا نَنْتَظِرُهُ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، وَقَدِ أَغْتَسَلَ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، فَكَبَّرَ، فَصَلَّى بِنَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) عن (74) سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(ابْنُ وَهْب) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197) عن (72) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
4 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) ذُكر قبل حديث.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول انفرد هو به، والبخاريّ، وأبو داود، والثاني انفرد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، غير شيخه، فمروزيّ، ثم بغداديّ، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) أنه (سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) المراد من الإقامة ذكر الألفاظ المخصوصة المشهورة الْمُشْعِرة بالشروع في الصلاة، وهي أخت الأذان، كذا قاله الكرمانيّ، وقال العينيّ: معناه إذا نادى المؤذن بالإقامة، فأقيم المسبب مقام السبب. انتهى
(1)
.
(فَقُمْنَا، فَعَدَّلْنَا الصُّفُوفَ) أي سوّيناها، وتعديلُ الشيء: تقويمه، يقال: عدّلته، فاعتدل: أي قوّمته، فاستقام (قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"قبل" ظرف تنازعه "قُمنا"، و"فعدّلنا".
وفي رواية البخاريّ: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج، وقد أقيمت الصلاة"، فقال في "الفتح": قوله: "خرج، وقد أقيمت الصلاة" يَحْتَمِل أن يكون المعنى خرج في حال الإقامة، ويَحْتَمِل أن تكون الإقامة تقدمت خروجه، وهو ظاهر قوله:"فسَوَّى الناس صفوفهم، فخرج. . . " لتعقيب الإقامة بالتسوية، وتعقيب التسوية بخروجه بالفاء.
(1)
"عمدة القاري" 3/ 334.
ويحتمل أن يُجْمَع بين الروايتين بأن الجملتين وقعتا حالًا، أي خرج، والحال أن الصلاة أقيمت، والصفوف عدلت.
وقال الكرمانيّ: لفظ "قد" تُقَرِّب الماضي من الحال، وكأنه خرج في حالة الإقامة، وفي حال التعديل، ويَحْتَمِل أن يكونوا إنما شرعوا في ذلك بإذن منه، أو قرينة تدلّ عليه. انتهى
(1)
.
(فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي إلى مصلّاه؛ ليصلّي بالناس (حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ) -بضم الميم- أي موضع صلاته (قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ) هذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن كبر، ودخل في الصلاة، ومثله في رواية البخاريّ:"وانتظرنا تكبيره"، وفي رواية له:"حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر، انصرف. . . ".
[فإن قيل]: يعارض هذا ما أخرجه أبو داود، وابن حبان، عن أبي بكرة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر، فكبر، فأومأ بيده أن مكانكم، ثم جاء ورأسه يقطر، فصلّى بهم".
وأخرج مالك عن عطاء بن يسار مرسلًا: "أنه صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا، فذهب، ثم رجع، وعلى جلده أثر الماء".
[أجيب]: -كما قال في "الفتح"- بإمكان الجمع بينهما بحمل قوله: "كبر" على أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان، كما أبداه عياض، والقرطبيّ احتمالًا، وقال النوويّ: إنه الأظهر، وجزم به ابن حبّان كعادته، فإن ثبت، وإلا فما في الصحيح أصح، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: ادَّعَى ابن بطال أن الشافعيّ احتَجّ بحديث عطاء على جواز تكبير المأموم قبل تكبير الإمام، قال: فناقض أصله، فاحتَجَّ بالمرسل.
وتُعُقِّب بأن الشافعيّ رحمه الله لا يرد المراسيل مطلقًا، بل يحتجّ منها بما يَعْتَضِد، والأمر هنا كذلك؛ لحديث أبي بكرة رضي الله عنه المذكور، قاله في "الفتح"
(2)
.
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 143.
(2)
"الفتح" 2/ 143 - 144.
وقوله: (ذَكرَ) حذف مفعوله في هذه الرواية، وقد ذُكر في رواية البخاريّ، ولفظه:"فلما قام في مصلّاه ذكر أنه جُنُبٌ".
[تنبيه]: "ذَكَرَ" من باب نصر، مبنيًّا للفاعل: ضدّ نَسِيَ، قال الفيّوميّ: ذَكَرته بلساني، وبقلبي ذِكْرَى بالتأنيث، وكسر الذال، والاسم: ذُكْرٌ بالضمّ والكسر، نصّ عليه جماعة، منهم أبو عُبيدة، وابن قُتيبة، وأنكر الفرّاء الكسر في القلب، وقال: اجعلني على ذُكر منك بالضمّ لا غير، ولهذا اقتصر جماعة عليه، ويتعدّى بالألف والتضعيف، فيقال: أذكرته، وذَكَّرته ما كان، فتذكّر. انتهى
(1)
.
(فَانْصَرَفَ) أي رجع إلى حجرته (وَقَالَ لَنَا: "مَكَانَكُمْ") بالنصب: اسم فعل، فسّره النحويون بـ "اثبتوا"، فيتحمل ضميرًا، ومنه قول الشاعر:
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ
…
مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
أي اثبتي، ويدلّ على ذلك جزم جوابه، وهو "تُحْمَدي".
وفسره الزمخشري بـ "الزموا"، واعترض عليه أبو حيان بأنه ليس بجيّد؛ إذ لو كان كذلك لتعدى كما يتعدى ما ناب هذا عنه، فإن اسم الفعل يعامَلُ معاملة مسماه.
وقال الحوفيّ: "مكانكم" نُصِب بإضمار فعل، أي الزموا مكانكم، أو اثبتوا.
وقال السمين الحلبيّ: إن مَن فسر بذلك قصد تفسير المعنى
(2)
.
ثم إن الظاهر أنه قال لهم: "مكانكم" نُطْقًا، ويَحْتَمِل أنه أشار إليهم بذلك، كما صرح به في حديث أبي بكرة رضي الله عنه المذكور، ففيه إطلاق القول على الإشارة، ويَحْتَمِل أنه جمع بين القول والإشارة، واللَّه تعالى أعلم.
(فَلَمْ نَزَلْ قِيَامًا) جمع قائم كتِجَار بكسر التاء، جمع تاجر، ويجوز أن
(1)
"المصباح المنير" 1/ 208 - 209.
(2)
راجع: تفسير السمين الحلبيّ المسمَّى "الدّرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 4/ 26 - 27.
يكون مصدرًا جاريًا على حقيقته، وقال الكرمانيّ: فهو تمييزٌ، أو محمول على اسم الفاعل، فهو حال.
وقال في "العمدة": إذا كان لفظ قيامًا مصدرًا يكون منصوبًا على التمييز؛ لأن في قوله: "فَعَدَّلنا الصفوفَ" فيه إبهام، فيفسِّره قوله:"قِيامًا"، أي من حيث القيام، وإذا كان جمعًا لـ "قائم" يكون انتصابه على الحالية، وذو الحال محذوف تقديره: وعدّلنا الصفوفَ حال كوننا قائمين. انتهى بتصرّف
(1)
.
[فإن قيل]: إن حديث الباب يدلّ على أنهم انتظروه قيامًا، وحديث أبي قتادة رضي الله عنه المذكور قبل هذا:"إذا أُقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت"، يدلّ على النهي عن انتظاره قيامًا، فكيف يوفق بينهما؟.
[قلت]: تقدّم الجواب عن هذا بأن حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم هذا كان سببًا لنهيه صلى الله عليه وسلم لهم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.
(نَنْتَظِرُهُ) أي ننتظر مجيئه (حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، وَقَدِ أَغْتَسَلَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً) -بكسر الطاء، وضمها- لغتان مشهورتان: أي يقطُر، وفي رواية للبخاريّ من طريق محمد بن يوسف، عن الأوزاعي:"ثم خرج ورأسه يقطر ماء، فصلى بهم". وعند الدارقطنيّ من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال:"إني كنت جنبًا، فنسيت أن أغتسل".
(فَكَبَّرَ، فَصَلَّى بِنَا) قال النوويّ رحمه الله: وظاهر هذه الأحاديث أنه لَمّا اغتسل وخرج لم يجددوا إقامة الصلاة، وهذا محمول على قرب الزمان، فإن طال فلا بدّ من إعادة الإقامة، ويدلّ على قرب الزمان في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"مكانكم"، وقوله:"خرج إلينا، ورأسه ينطف ماء". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: في قوله: "فإن طال، فلا بد من إعادة الإقامة" نظر؛ إذ لا دليل على ذلك، بل يردّه أنهم انتظروه طويلًا حين كان يناجي رجلًا بعد الإقامة للصلاة، ثم صلى، ولم تُعَدِ الإقامة
(3)
، كما تقدم
(1)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 332.
(2)
"شرح النوويّ" 5/ 203.
(3)
هو: ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم =
تحقيقه
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 1370 و 1371 و 1372](605)، و (البخاريّ) في "الغسل"(275) و"الأذان"(639 و 640)، و (أبو داود) في "الطهارة"(235)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(792 و 809)، و"الكبرى"(867 و 883)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 237، 238، 259، 283، 448، 518)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1628)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2236)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 258 - 259)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1342 و 1343 و 1344 و 1345)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1343 و 1344 و 1345)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 398)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الإمام إذا تذكر بعد القيام للصلاة أنه على غير طهارة يُنتَظَر حتى يتطهر، ويرجع.
2 -
(ومنها): بيان جواز النسيان على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في أمر العبادة؛ لأجل التشريع.
3 -
(ومنها): بيان طهارة الماء المستعمل.
4 -
(ومنها): جواز الفصل بين الإقامة والصلاة؛ إذ قوله: "فصلى" ظاهر في أن الإقامة لم تعد.
5 -
(ومنها): أنه لا حياء في أمر الدين.
6 -
(ومنها): جواز انتظار المأمومين مجيء الإمام قيامًا عند الضرورة،
= يناجي رجلًا في جانب المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.
(1)
تقدّم الحديث في "كتاب الحيض" برقم (376) رقم محمد فؤاد رحمه الله.
وهو غير القيام المنهي عنه في حديث أبي قتادة رضي الله عنه، كما أسلفنا وجه التوفيق بينهما.
7 -
(ومنها): بيان أنه لا يجب على من احتلم في المسجد، فأراد الخروج منه أن يتيمم، خلافًا لمن قال ذلك.
8 -
(ومنها): جواز الكلام بين الإقامة والصلاة.
9 -
(ومنها): جواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث.
10 -
(ومنها): العناية بإقامة الصفوف.
11 -
(ومنها): شدة عناية الصحابة رضي الله عنهم بامتثال أمره صلى الله عليه وسلم، حيث انتظروه قيامًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الإمام يصلي بالناس، وهو جنب:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختلفوا في الإمام يصلي بالناس وهو جنب؛ فقالت طائفة: يعيد ولا يعيدون، فعل ذلك عمر بن الخطاب، فأعاد الصلاة، ولم يُعِد من خلفه صلاتهم.
وروي هذا القول عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهم.
أخرج ابن المنذر بسنده عن الشريد الثقفي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلّى بالناس الصبح بالمدينة، ثم خرج إلى الْجُرُف، فذهب يَغتسل، فرأى في فخذيه احتلامًا، فقال: ما أراني إلا قد صلّيت بالناس وأنا جنب، فاغتسل، ثم أعاد الصلاة.
وأخرج أيضًا عن الأسود بن يزيد، قال: كنت مع عمر بن الخطاب بين مكة والمدينة، فصلّى بنا، ثم انصرف، فرأى في ثوبه احتلامًا، فاغتسل، وغسل ما رأى في ثوبه، وأعاد صلاته، ولم نُعِد صلاتنا.
وأخرج أيضًا عن محمد بن عمرو بن الحارث بن المصطلق أن عثمان رضي الله عنه صلّى بالناس صلاة الفجر، فلما تعالى النهار رأى أثر الجنابة على فخذه، فقال: كَبِرت، واللَّه كَبِرت، واللَّه أجنبت، ولا أعلم، فاغتسل، وأعاد الصلاة، ولم يأمرهم أن يعيدوا.
وأخرج أيضًا عن الحارث الأعور، عن عليّ رضي الله عنه، قال: إذا صلّى الجنب بالقوم، فأتمّ بهم الصلاة آمره أن يغتسل، ويعيد، ولا آمرهم أن يعيدوا.
وأخرج أيضًا عن سالم بن عبد اللَّه: أن ابن عمر رضي الله عنه صلّى بأصحابه صلاة العصر، وهو على غير وضوء، فأعاد، ولم يعد أصحابه.
وهو قول النخعيّ، والحسن البصريّ، وسعيد بن جبير، وبه قال مالك بن أنس، والشافعيّ، وأحمد، وسليمان بن حرب، وأبو ثور، والمزنيّ، وحُكي ذلك عن عبيد اللَّه بن الحسن.
وقالت طائفة: يعيد ويعيدون، وممن روي عنه هذا القول علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلاف الرواية الأولى، وبالروايتين جميعًا مقال
(1)
، وهو قول ابن سيرين، والشعبيّ، وحماد بن أبي سليمان، وقال الثوريّ: أحب إلينا أن يعيد، ويعيدون، وقال النعمان، وأصحابه: يعيد ويعيدون.
وفيه قول ثالث، قاله عطاء: إن صلّى إمام قوم غير متوضئ، فذكر حين فرغ، قال: يعيد ويعيدون، فإن لم يذكر حتى فاتت الصلاة فإنه يعيد هو، ولا يعيدون، قيل له: فصلّى بهم جنبًا، فلم يعلموا، ولم يعلم حتى فاتت تلك الصلاة، قال: فليعيدوا، فليست الجنابة كالوضوء.
واختُلِف على مالك، والشافعيّ في الإمام تعمد أن يصلي بهم، وهو جنب، فكان مالك يقول: صلاة القوم فاسدة، وكان الشافعيّ يقول: عَمْدُ الإمام ونسيانه سواء، ولا إعادة على القوم، إلا أن الإمام يأثم بالعمد، ولا يأثم بالنسيان.
قال ابن المنذر رحمه الله: ومن حجة بعض من رأى أن لا إعادة على من صلّى خلف جنب خبر أبي هريرة، وخبر أبي بكرة رضي الله عنهما، قال: وفي خبر أبي بكرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر، وفي ذلك دليلٌ على أن لا إعادة على المأموم؛ لأن حكم القليل من الصلاة كحكم الكثير فيمن صلّى خلف
(1)
أما الرواية الأولى ففي سندها الحارث الأعور، متكلَّم فيه، وفي الثانية عمرو بن خالد الواسطيّ، وهو متروك، رماه الحفّاظ بالكذب، كما قاله البيهقيّ في "السنن الكبرى" 2/ 401.
جنب، قال: ولو لم يكن في ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث لكان فيما روي عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم في هذا الباب كفاية، وقد ثبتٌ عن ابن عمر مثل قولهم، ولا نعلم عن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خلافَ قولهم.
فأما ما حَدَث عن عليّ رضي الله عنه ففي الإسنادين جميعًا مقال، فكأن عليًا لم ياتنا عنه في هذا الباب شيء؛ لضعف الروايتين، وتضادهما، واللازم لمن يرى اتباع أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يخالف ما رويناه عن عمر، وعثمان، وابن عمر رضي الله عنهم في هذا الباب، والنظر مع ذلك دالّ على ذلك؛ لأن القوم لما صَلَّوا كما أُمِروا، وأدَّوا فرضهم، ثم اختُلِف في وجوب الإعادة عليهم لم يجز أن يُلْزَموا إعادةَ ما صَلَّوا على ظاهر ما أمروا به بغير حجة. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله ببعض تصرف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن المنذر رحمه الله من ترجيح مذهب من يقول: إنّ من صلى خلف جنب أو نحوه لا إعادة عليه، هو الصواب عندي؛ لقوة دليله، كما تقدّم تحقيقه في كلامه رحمه الله.
وقد ذكرت البحث بأطول وأتمّ مما هنا في شرح النسائيّ، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1371]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، يَعْنِي الْأَوْزَاعِيَّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَصَفَّ النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ مَقَامَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ، أَنْ مَكَانَكُمْ، فَخَرَجَ، وَقَدِ اغْتَسَلَ، وَرَأْسُهُ يَنْطُفُ الْمَاءَ، فَصَلَّى بِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"الأوسط" 4/ 211 - 215.
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، تقدّم قبل حديث.
3 -
(أَبُو عَمْرِو الْأَوْزَّاعِيَّ) هو: عبد الرحمن بن عمرو الفقيه، ثقةٌ إمام جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (وَصَفَّ النَّاسُ صُفُوفَهُمْ)"صَفّ" يُستَعمَل لازمًا، ومتعديًا، يقال: صففتُ القومَ، فاصطفوا، وصَفَفتهم، فصَفُّوا هم، والمراد هنا أنهم عَدَّلوا صفوفهم، وفي رواية البخاريّ:"فسوّى الناس صفوفهم".
(وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ مَقَامَهُ) وفي رواية البخاريّ: "فخرج" بالفاء.
وقوله: (فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ) أي أشار إليهم.
وقوله: (أَنْ مَكَانَكُمْ)"أن" تفسيريّة، أي الزموا مكانكم.
وقوله: (فَخَرَجَ) عطف على محذوف، كما تبيّنه الروايات الأخرى، أي فرجع إلى بيته، فخرج منه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1372]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) بن يزيد التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء الرازيّ، يُلقّب بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10] مات بعد (220)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامَهُ) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذه الرواية تصرّح بأن الصفوف كانت تُعدّل قبل أن يبلغ
النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مصلّاه، ولكنّه قد خرج من بيته، ورآه من كان بقرب بيته.
قال: وقد ذكر الدارقطنيّ وغير واحد من الحفّاظ أن هذا الحديث اختصره الوليد بن مسلم من الحديث الذي قبله، فأتى به بهذا اللفظ. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: هذا الحديث مما انتقده الحافظ أبو الفضل بن عمّار رحمه الله في "علله"، ودونك نصّه:
(11)
- ووجدت فيه
(2)
عن داود بن رُشيد، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال:"كانت الصلاة تُقام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم مقامه".
قال أبو الفضل: وهذا اختصار عندنا من الوليد بن مسلم، اختصر الحديث، والحديث حديث الزُّبيديّ، ومعمر، ويونس، والأوزاعيّ، وأصحاب الزهريّ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"أقيمت الصلاة، وصُفّت الصفوف، ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما أخذ مقامه، أشار إليهم أن مكانكم، ثم دخل، ثم خرج ورأسه يقطر"، فالحديث هو الذي رواه الزهريّ. انتهى كلام أبي الفضل رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي عزاه أبو الفضل إلى "صحيح مسلم" من رواية داود بن رُشيد، لم نجده في النسخ الموجودة عندنا، وإنما رواه مسلم عن إبراهيم بن موسى، عن الوليد، لا عن داود بن رُشيد، ولعلّه وجد نسخة فيها روايته عن داود.
وأما رواية داود، عن الوليد فهي عند أبي داود في "سننه"، ودونك نصّه:
(541)
حدّثنا محمود بن خالد، حدّثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو (ح) وحدّثنا داود بن رُشيد، حدّثنا الوليد، وهذا لفظه، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن الصلاة كانت تقام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 5/ 414.
(2)
أي "صحيح مسلم""كتاب المساجد" رقم (605).
(3)
راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 146.
فيأخذ الناس مقامهم قبل أن يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم مقامه". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1373]
(606) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا دَحَضَتْ، فَلَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ الصَّلَاةَ حِينَ يَرَاهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكّة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الحرّانيّ، أبو عليّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
3 -
(زُهَيْر) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الْجَزِيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
4 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْب) الذُّهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربةٌ، وتغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
5 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة السُّوائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَ بِلَال) بن رَبَاح، أبو عبد اللَّه، مؤذّن النبيّ صلى الله عليه وسلم الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بالشام سنة (17) أو (18) أو (20) تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643. (يُؤَذِّنُ إِذَا دَحَضَتْ) -بفتح الدال، والحاء، والضاد المعجمة-: أي زالت الشمس، يقال: دَحَضَت الحجة دَحْضًا، من باب نَفَعَ: بطلت، وأدحضها اللَّه في التعدّي، ودَحَضَ الرجلُ: زَلِقَ، قاله في "المصباح"
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 190.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذا دَحَضَت" أي زالت عن كَبِد السماء، وأصل الدحض: الزَّلَقُ، وهذا كما قال في الحديث الآخر:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الظهر إذا دَحَضَت الشمس"، أي زالت، وقال الهرويّ في الحديث الأول: إذا انحطّت للغروب؛ لأن الشمس حينئذ يتبيّن زَلَقُها بالكلّيّة، والأول أولى انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قوله: "دَحَضَت" هكذا وقع عند المصنّف بحذف الفاعل؛ للعلم به، فهو على حدّ قوله تعالى:{إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} وأي الروح، وقوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس، وقد صُرّح به عند أبي نعيم في "مستخرجه"، ولفظ:"كان بلالٌ يؤذّن إذا دحَضَت الشمس. . . ".
(فَلَا يُقِيمُ) بضم أوله، من الإقامة (حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته (فَإِذَا خَرَجَ) صلى الله عليه وسلم من حجرته ذاهبًا إلى المسجد (أَقَامَ الصَّلَاةَ حِينَ يَرَاهُ) أي وقت رؤية بلال النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لأبي عوانة في "مسنده" من طريق إسرائيل، عن سماك:"كان بلال يؤذِّن، ثم يُمْهِلُ، فإذا رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد خرج أقام الصلاة"
(2)
.
وفي رواية أحمد في "مسنده": "كان بلال يؤذن إذا زالت الشمس، لا يَخْرِمُ، ثم لا يقيم حتى يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا خرج أقام حين يراه".
قال القاضي عياض رحمه الله: يُجْمَع بين مُختَلِف هذه الأحاديث
(3)
بأن بلالًا رحمه الله كان يراقب خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم من حيث لا يراه غيره، أو إلا القليل، فعند أول خروجه يقيم، ولا يقوم الناس حتى يروه، ثم لا يقوم مقامه حتى يُعَدِّلوا الصفوف.
وقوله في رواية أبي هريرة رضي الله عنه: "فيأخذ الناس مصافّهم قبل خروجه" لعله كان مرّةً أو مرتين ونحوهما؛ لبيان الجواز، أو لعذر، ولعل قوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
"المفهم" 2/ 222 - 223.
(2)
"مسند أبي عوانة" 1/ 272 رقم (1349).
(3)
يعني حديث جابر بن سمرة هذا وحديث أبي قتادة، وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم المتقدّمة.
"فلا تقوموا حتى تروني" كان بعد ذلك
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 1373](606)، و (أبو داود) في "الصلاة"(537)، و (الترمذيّ) فيها (202)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1/ 477)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 86 و 91 و 105 و 106)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1525)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1349 و 1350)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1346 و 1347 و 1348) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 69)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(30) - (بَابُ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1374]
(607) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 2/ 556 - 557.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
2 -
(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد اللَّه الفقيه المجتهد الثقة الثبت الحجة [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، -واللَّه تعالى أعلم-.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ)"من" شرطية، و"ركعةً" منصوب على المفعولية، و"من الصلاة" بيان لـ "ركعة".
ثم إن الظاهر أن هذا أعمّ مما يأتي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من أدرك ركعة من الصبح. . . " الحديث.
قال في "الفتح": ويَحتمل أن تكون اللام عهدية، فيتحدان، ويؤيِّده أن كلًّا منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة
(1)
، وهذا مطلق، وذاك مقيد، فيحمل المطلق على المقيد. اهـ.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الأظهر، ولهذا عقد البخاريّ والنسائيّ لكل من المطلق والمقيد بابًا خاصًّا إشارةً إلى أن كلًّا منهما مقصود، ولا في اعي لحمل المطلق على المقيد، فمن أدرك ركعة من الصلاة، أيَّ صلاة كانت، فقد أدركها.
(1)
رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة سيذكرها المصنّف عن عبد بن حميد.
قال الكرمانيّ رحمه الله: وفي الحديث، أن من دخل في الصلاة فصَلَّى ركعة، وخرج الوقت، كان مدركًا لجميعها، وتكون كلها أداء، وهو الصحيح. انتهى.
وقال التيميّ: معناه من أدرك مع الإمام ركعةً، فقد أدرك فضل الجماعة، وقيل: المراد بالصلاة الجمعة، وقيل غير ذلك
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لفظ الحديث عامّ يَشْمَل كل المعاني فالحمل على العموم أولى، -واللَّه تعالى أعلم-.
وقوله: (فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ") جواب "من"، قال في "الفتح": الإدراك الوصول إلى الشيء، فظاهره أنه يُكْتَفى بذلك، وليس ذلك مرادًا بالإجماع، فقيل: يُحْمَل على أنه أدرك الوقت، فإذا صلّى ركعة أخرى، فقد كملت صلاته، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك في رواية الدراورديّ، عن زيد بن أسلم، أخرجه البيهقي من وجهين، ولفظه:"من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعدما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة"، وأصرح منه رواية أبي غَسّان، محمد بن مُطَرِّف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، وهو ابن يسار، عن أبي هريرة، بلفظ:"من صلّى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، ثم صلّى ما بقي بعد غروب الشمس فلم يفته العصر"، وقال مثل ذلك في الصبح.
وفي رواية للبخاريّ، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أدرك أحدكم سجدةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته".
وللنسائي من وجه آخر: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة كلها، إلا أنه يقضي ما فاته".
وللبيهقي من وجه آخر: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليُصَلِّ إليها أخرى".
ويؤخذ من هذا الرد على الطحاويّ حيث خَصَّ الإدراك باحتلام الصبيّ،
(1)
"الفتح" 2/ 69.
وطُهر الحائض، وإسلام الكافر، ونحوها، وأراد بذلك نُصْرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته؛ لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة، وهو مبني على أن الكراهة تتناول الفرض والنفل، وهي خلافية مشهورة.
قال الترمذيّ: وبهذا يقول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وخالف أبو حنيفة، فقال: من طلعت عليه الشمس، وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته، واحتَجّ لذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس.
وادَّعَى بعضهم أن أحاديث النهي ناسخة لهذا الحديث، وهي دعوى تحتاج إلى دليل، فإنه لا يصار إلى النسخ بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن بأن تُحْمَل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل، ولا شك أن التخصيص أولى من ادِّعاء النسخ.
ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركًا للوقت، وللفقهاء في ذلك تفاصيل بين أصحاب الأعذار وغيرهم، وبين مدرك الجماعة ومدرك الوقت، وكذا مدرك الجمعة، ومقدارُ هذه الركعة قدر ما يكبِّر للإحرام، ويقرأ أم القرآن، ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين بشروط كل ذلك.
وقال الرافعيّ: المعتبر فيها أخف ما يَقْدِر عليه أحدٌ، وهذا في حق غير أصحاب الأعذار، أما أصحاب الأعذار كمن أفاق من إغماء، أو طهرت من حيض، أو غير ذلك، فإن بقي من الوقت هذا القدر، كانت الصلاة في حقهم أداءً، وقد قال قوم: يكون ما أدرك في الوقت أداءً، وبعده قضاءً، وقيل: يكون كذلك لكنه يلتحق بالأداء حكمًا، والمختار أن الكل أداء، وذلك من فضل اللَّه تعالى، ونقل بعضهم الاتفاق على أنه لا يجوز لمن ليس له عذر تأخير الصلاة حتى لا يبقى منها إلا هذا القدر، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا: مفهوم التقييد بالركعة أن من أدرك دون الركعة لا يكون مدركًا لها، وهو الذي استقر عليه الاتفاق، وكان فيه شذوذ قديم، منها أن إدراك الإمام راكعًا يجزئ، ولو لم يدرك معه الركوع، وقيل: يدرك الركعة ولو رفع الإمام رأسه ما لم يرفع بقية من ائتم به رؤوسهم، ولو بقي واحد،
(1)
"الفتح" 2/ 67 - 68.
وعن الثوري، وزفر: إذا كبّر قبل أن يرفع الإمام رأسه أدرك إن وضع يديه على ركبتيه قبل رفع الإمام، وقيل: من أدرك تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الركوع أدرك الركعة، وعن أبي العالية: إذا أدرك السجود أكمل بقية الركعة معهم، ثم يقوم فيركع فقط، وتجزيه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: القول بأن من أن أدرك الإمام راكعًا يجزئ، ولو لم يدرك معه الركوع، وكذا الأقوال التي بعده كلها أقوال لا أثارة عليها من علم، بل الصحيح أن من فاتته الفاتحة يلزمه قضاء تلك الركعة، وإن أدرك الركوع مع الإمام؛ لحديث:"وما فاتكم فاقضوا"، وهذا قد فاتته الفاتحة، وقد تقدّم تحقيق المسألة قبل باب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 1374 و 1375 و 1376](657)، و (البخاريّ) في "الأذان"(580)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1117)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(524)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(553 و 554 و 555)، وفي "الكبرى"(1536 و 1537 و 1538)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1122)، و (مالك) في "الموطأ"(105)، و (الشافعيّ) في "المسند"(142 و 419)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3369 و 3370)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 270 - 271 و 280)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 277)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1849)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1485)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 105)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1529 و 1530 و 1531)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1349 و 1350 و 1351 و 1352 و 1353)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 202 و 203)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2/ 249)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 2/ 69.
(المسألة الثالثة): ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ" في هذا الحديث بحثًا نفيسًا، ودونك عبارته:
روى بعضهم هذا الحديث عن مالك، وقال فيه:"من أدرك ركعةً من العصر"، وهو وَهَمٌ على مالك، وإنما حديث مالك:"من أدرك ركعةً من الصلاة".
وخرّجه مسلم
(1)
عن عبد بن حُميد، ثنا عبد الرزّاق، قال: ثنا معمرٌ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك، عن زيد بن أسلم -يعني الحديث الآتي بعد حديثين-.
وذكر الدارقطنيّ في "العلل" أنه ليس بمحفوظ عنه -يعني عن معمر- وذكر أن عبد الرزّاق رواه بخلاف ذلك، قال: ورُوي أيضًا عن محمد بن أبي حفصة، وسفيان بن حسين، عن الزهريّ -يعني بذكر العصر والفجر-، والمحفوظ عن الزهريّ في حديثه:"من أدرك ركعةً من الصلاة".
وقد اختُلف في معنى ذلك، فقالت طائفةٌ: معناه: إدراك وقت الصلاة، كما في حديث عطاء بن يسار، وبُسْر بن سعيد، والأعرج، عن أبي هريرة الآتي بعد حديثين.
وقد رَوَى هذا الحديث المذكور هنا عمّار بن مطر، عن مالك، وقال فيه:"فقد أدرك الصلاة ووقتها"، قال ابن عبد البرّ: لم يقله عن مالك غير عمّار، وهو مجهول لا يُحتجّ به
(2)
.
وقالت طائفةٌ: معناه: إدراك الجماعة، ويشهد له الحديث التالي عند مسلم بلفظ:"من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة".
وهؤلاء لهم في تفسير إدراك الجماعة قولان:
أحدهما: أن المراد إدراك فضل الجماعة وتضعيفها.
وروى نوح بن أبي مريم هذا الحديث، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي
(1)
هو الحديث الآتي في هذا الباب بعد أربعة أحاديث.
(2)
"التمهيد" 7/ 64.
هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك الإمام جالسًا قبل أن يسلّم، فقد أدرك الجماعة وفضلها"، خرّجه الدارقطنيّ، وقال: نوح متروك.
وقد وَهِمَ في لفظه، وخالف جميع أصحاب الزهريّ، ووَهِمَ أيضًا في إسناده، فإنه عن أبي سلمة، لا عن سعيد بن المسيِّب، مع أنه قد روي عن مالك، والأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن سعيد، وليس بمحفوظ.
ورَوى أبو الحسن بن جَوْصَا في "مسند الأوزاعيّ": حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، ئنا أبي، عن أبيه يحيى بن حمزة، حدّثني الأوزاعيّ، أنه سأل الزهريّ، عن رجل أدرك من صلاة الجمعة ركعةً؟ فقال: حدّثني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من صلاة ركعةً، فقد أدرك فضيلة الجماعة".
وهذا اللفظ أيضًا غير محفوظ، وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ضعّفوه، ذكره الحاكم أبو أحمد في "كتاب الكنى".
ورَوَى أبو عليّ الحنفيّ، واسمه عبيد اللَّه بن عبد المجيد هذا الحديث عن مالك، وقال في حديثه:"فقد أدرك الفضل".
قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا من الرواة قاله عن مالك غيره.
قال: ورواه نافع بن زيد، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الوهاب بن أبي بكر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك ركعةً من الصلاة، فقد أدرك الصلاة وفضلها".
وهذه لفظةٌ لم يقلها أحدٌ عن ابن شهاب غير عبد الوهاب هذا، وليس بحجة على من خالفه فيها من أصحاب ابن شهاب.
على أن الليث بن سعد قد رَوَى هذا الحديث عن ابن الهاد، عن ابن شهاب، لم يذكر في إسناده عبد الوهاب، ولا جاء بهذه اللفظة، أعني قوله: وفضلها.
وقد اختلف العلماء فيما يُدرك به فضل الجماعة مع الإمام:
فقالت طائفةٌ: لا يُدرك بدون إدراك ركعة تامّة؛ لظاهر الحديث.
وقد رواه قرّة بن عبد الرحمن، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة، وزاد فيه:"قبل أن يُقيم الإمام صلبه"، خرّج حديثه ابن خزيمة في "صحيحه"، والدارقطنيّ، وليس هذا اللفظ بمحفوظ عن الزهريّ أيضًا، وقرّة هذا مختلفٌ في أمره، وتفرّد بهذا الحديث عنه يحيى بن حُميد بهذه الزيادة، وقد أنكرها عليه البخاريّ، والعقيليّ، وابن عديّ، والدارقطنيّ، وغيرهم.
وحُكي هذا القول عن مالك أنه لا يُدرِك الجماعة بدون ركعة، وذكره ابن أبي موسى من الحنابلة لأحمد، ولم يَحك فيه خلافًا، وهو قول عطاء حتى قال: إذا سلّم إمامه، فإن شاء تكلّم، فلم يكن في صلاة قد فاتته الركعة، خرّجه عبد الرزّاق، عن ابن جريج عنه.
وخرّج أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك الركعة، فقد أدرك الصلاة"، وخرّجه الحاكم، وصحّحه، وفي إسناده من ضُعِّف.
وخرّجه الطبرانيّ وغيره من رواية عبد الحميد بن عبد الرحمن بن الأزهر، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإسناده جيّد، قال الحافظ محمد بن عبد الواحد المقدسيّ: لا أعلم له علّةً.
وقالت طائفةٌ: تدرَك فضيلة الجماعة بإدراك تكبيرة الإحرام قبل سلام الإمام، وهو قول أبي وائل، وقال قتادة: إن ابن مسعود أدرك قومًا جلوسًا في آخر صلاتهم، فقال: قد أدركتم إن شاء اللَّه، وهو مذهب الشافعيّ، والمشهور عن أحمد عند القاضي أبي يعلى وأتباعه، حتى قال بعضهم: هو إجماع من العلماء، لا نعلم فيه خلافًا، ولكن ليس بإجماع كما تقدّم.
وروى ابن عديّ من طريق محمد بن جابر، عن أبان بن طارق، عن كثير بن شِنْظِير، عن عطاء، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك ركعةً من الصلاة، فقد أدرك فضل الجماعة، ومن أدرك الإمام قبل أن يسلّم، فقد أدرك فضل الجماعة"، قال: وكنّا نتحدّث أن من أدرك قبل أن يتفرّقوا، فقد أدرك فضل الجماعة.
وهذا ليس بمحفوظ، وأبان بن طارق، ومحمد بن جابر ضعيفان، وقد رواه ابن عُليّة، عن كثير بن شِنْظير، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: إذا انتهى إلى القوم، وهم قُعُودٌ في آخر صلاتهم، فقد دخل في التضعيف، وإذا انتهى
إليهم، وقد سلَّم الإمام، ولم يتفرّقوا، فقد دخل في التضعيف، قال عطاء: كان يقال: إذا خرج من بيته، وهو ينويهم، فأدركهم، أو لم يُدركهم، فقد دخل في التضعيف.
هذا الموقوف أصحّ، وكذا قال أبو سلمة: من خرج من بيته قبل أن يسلّم الإمام، فقد أدرك.
ومعنى هذا كلّه أنه يُكتب له ثواب الجماعة لَمّا نواها، وسعى إليها، وإن كانت قد فاتته، كمن نوى قيام الليل، ثم نام عنه، ومن كان له عملٌ، فعجز عنه بمرض، أو سفر، فإنه يُكتب له أجره.
ويشهد لهذا ما أخرجه أبو داود، والنسائيّ من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من توضّأ، فأحسن الوضوء، ثم راح، فوجد الناس قد صَلَّوا، أعطاه اللَّه مثل أجر من صلّاها وحضرها، لا ينقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا"
(1)
.
وأخرج أبو داود من حديث سعيد بن المسيِّب، عن رجل من الأنصار، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا توضّأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد، فصلّى في جماعة غُفِر له، فإن أتى المسجد، وقد صلَّوا بعضًا، وبقي بعضٌ فصلَّى ما أدرك، وأتمّ ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد، وقد صَلَّوا، فأتمّ الصلاةَ، كان كذلك"
(2)
.
وأخرج النسائيّ من حديث عثمان رضي الله عنه، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"من توضّأ للصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلّاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد، غُفِر له ذنبه"
(3)
.
ولا خلاف عن الشافعيّ وأحمد أن الجمعة لا تُدرك بدون إدراك ركعة تامّة؛ لأن الجماعة شرطٌ لها، وهذا مما يقوّي القول بان الجماعة لا تُدرك بدون إدراك ركعة.
والقول الثاني: أن المراد بإدراك الركعة في الجماعة إدراك جميع أحكام
(1)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود 1/ 154، والنسائيّ 2/ 111.
(2)
حديث حسنٌ.
(3)
حديث صحيحٌ أخرجه النسائيّ 2/ 111.
الجماعة من الفضل، وسجود السهو، وحكم الإتمام، وهذا مذهب مالك.
فعلى هذا إذا أدرك المسافر المقيمَ في التشهّد الآخر لم يلزمه الإتمام، وإن أدرك معه ركعةً تامّةً، فأكثر لزمه الإتمام، وإذا خرج من بلده مسافرًا، وقد بقي عليه من وقت الصلاة قدر ركعة قَصَرَ الصلاة، وإن كان أقلّ من قدر ركعة أتمّها، وإذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعةً لزمه أن يسجد معه لسهوه، سواء أدركه في ذلك السهو، أو لم يُدركه، وإن لم يُدرك معه ركعةً لم يلزمه السجود له.
هذا كلّه مذهب مالك، ووافقه الليث، والأوزاعيّ في مسألة سجود السهو، ووافقه أحمد في رواية عنه في المسافر إذا أدرك من صلاة المقيم أقلّ من ركعة، فدخل معه أن له أن يقصر، والمشهور عنه أنه يلزمه الإتمام، كقول الشافعيّ، وأبي حنيفة.
وقالت طائفة أخرى: قوله: "من أدرك ركعةً من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"، يدخل في عمومه إدراك الوقت بالنسبة إلى أداء الصلاة، وإدراك الجماعة كما تقدّم، ويدخل فيه أيضًا إدراك قدر ركعة من وقت الوجوب إذا زال عذر المعذور في آخر وقت الصلاة، فلو طهرت من حيضها في آخر الوقت، وقد بقي منه قدر ركعة، لزمها القضاء، وإن لم يبق منه قدر ركعة فلا قضاء عليها.
وهذا قول مالك، والليث، وأحد قولي الشافعيّ، ورواية عن أحمد.
والمشهور عن الشافعيّ وأحمد أنه يُعتبر إدراك قدر تكبيرة الإحرام من الوقت إذا زال العذر، وهو قول أبي حنيفة، وحُكي عن الأوزاعيّ والثوريّ. انتهى المقصود من كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1375]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 5/ 14 - 22.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الإِمَامِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ").
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم هذا السند بعينه في الباب الماضي.
وقوله: (فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) قال النوويّ رحمه الله أجمع المسلمون على أن هذا الحديث ليس على ظاهره، وأنه لا يكون بالركعة مدركًا لكل الصلاة، وتكفيه، وتحصل براءته من الصلاة بهذه الركعة، بل هو مُتَأَوَّل، وفيه اضمار، تقديره: فقد أدرك حكم الصلاة، أو وجوبها، أو فضلها. قال أصحابنا: يدخل فيه ثلاث مسائل:
[إحداها]: إذا أدرك من لا يجب عليه الصلاة ركعةً من وقتها لزمته تلك الصلاة، وذلك في الصبيّ يبلغ، والمجنون والْمُغْمَى عليه يفيقان، والحائض والنفساء تطهران، والكافر يُسلم، فمن أدرك من هؤلاء ركعةً قبل خروج وقت الصلاة، لزمته تلك الصلاة، وإن أدرك دون ركعة، كتكبيرة، ففيه قولان للشافعي رحمه الله: أحدهما: لا تلزمه؛ لمفهوم هذا الحديث، وأصحهما عند أصحابنا تلزمه؛ لأنه أدرك جزءًا منه، فاستوى قليله وكثيره، ولأنه يشترط قدر الصلاة بكمالها بالاتفاق، فينبغي أن لا يفرق بين تكبيرة وركعة، وأجابوا عن الحديث بأن التقييد بركعة خرج على الغالب، فإن غالب ما يمكن معرفة إدراكه ركعة ونحوها، وأما التكبيرة فلا يكاد يُحَسُّ بها، وهل يشترط مع التكبيرة، أو الركعة إمكان الطهارة؟ فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما أنه لا يشترط.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بعدم وجوب الصلاة على من أدرك دون ركعة هو الأرجح عندي؛ لظاهر هذا الحديث، فمن أوجب ذلك عليه فليأتنا بنصّ، أو إجماع يصرف ظاهره، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): إذا دخل في الصلاة في آخر وقتها، فصلى ركعةً، ثم خرج الوقت، كان مدركًا لأدائها، ويكون كلها أداءً، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: يكون كلها قضاءً، وقال بعضهم: ما وقع في الوقت أداءٌ، وما بعده قضاءٌ.
وتظهر فائدة الخلاف في مسافر نوى القصر، وصلى ركعةً في الوقت،
وباقيها بعده، فإن قلنا: الجميع أداءٌ، فله قصرها، وإن قلنا: كلها قضاءٌ، أو بعضها وجب إتمامها أربعًا، إن قلنا: إن فائتة السفر إذا قضاها في السفر يجب إتمامها. هذا كله، إذا أدرك ركعة في الوقت، فإن كان دون ركعة، فقال بعض أصحابنا: هو كالركعة، وقال الجمهور: يكون كلها قضاءً، واتفقوا على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت، وإن قلنا: إنها أداء، وفيه احتمال لأبي محمد الجوينيّ على قولنا: أداءٌ، وليس بشيء.
(المسألة الثالثة): إذا أدرك المسبوق مع الإمام ركعةً، كان مدركًا لفضيلة الجماعة بلا خلاف، وإن لم يدرك ركعةً، بل أدركه قبل السلام، بحيث لا يحسب له ركعة، ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا يكون مدركًا للجماعة؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعةً من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة"، والثاني: وهو الصحيح، وبه قال جمهور أصحابنا: يكون مدركًا لفضيلة الجماعة؛ لأنه أدرك جزءًا منه، ويجاب عن مفهوم الحديث بما سبق. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقد تقدّم البحث في هذا في الحديث الماضي، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1376]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَيُونُسَ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى
(2)
، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ جَمِيعًا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ:"مَعَ الإِمَامِ"، وَفي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ:"فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا").
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 105 - 106.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا محمد بن المثنّى".
رجال هذا الإسناد: ثمانية عشر:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الستّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نمير، تقدّم قريبًا.
4 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد اللَّه الإمام الحجة المشهور، تقدّم قريبًا أيضًا.
5 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
6 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
7 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم العمريّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون كلّهم تقدّموا في هذا الباب، والبابين قبله.
وقوله: (جَمِيعًا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) راجع إلى عبد اللَّه بن نُمير، وعبد الوهّاب الثقفيّ، يعني أن عبد اللَّه بن نمير، وعبد الوهّاب كليهما رويا هذا الحديث عن عبيد اللَّه بن عمر العمريّ.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنِ الزُّهْرِيِّ) إشارة للستة: وهم: ابن عيينة، ومعمر، والأوزاعيّ، ومالك بن أنس، ويونس بن يزيد، وعبيد اللَّه العمريّ، يعني أن هؤلاء الستّة كلهم رووا هذا الحديث عن الزهريّ.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة عن الزهريّ ساقها ابن الجارود في "المنتقى"(1/ 89)، فقال:
(323)
حدّثنا ابن المقرئ، قال: ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك". انتهى.
وأما رواية ابن المبارك عن شيوخه الأربعة، فقد ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 204)، فقال:
(1352)
حدّثنا أبو زيد محمد بن جعفر بن علي بن بشر التميميّ بالكوفة، ثنا عبد اللَّه بن زيدان، ثنا أبو كريب، ثنا ابن المبارك، عن معمر،
ومالك بن أنس، والأوزاعيّ، ويونس، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك من الصلاة ركعةً، فقد أدركها". انتهى.
وأما رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن الزهريّ، فساقها أيضًا أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 204) فقال:
(1354)
حدّثنا محمد بن نصر، ثنا محمد بن عبد اللَّه بن الحسن، ثنا محمد بن بكر، ثنا عبد اللَّه بن إدريس (ح) وحدّثنا إبراهيم بن إسحاق، ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا أبو سعيد الأشجّ، ثنا ابن إدريس، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعةً من الصبح، فقد أدرك". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1377]
(608) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنِ الْأَعْرَجِ، حَدَّثُوهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
2 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ، من صغار [3](ت 94) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 26/ 213.
3 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) العابد، مولى ابن الحضرميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.
4 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقون تقدّموا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن ثلاثة من التابعين، زيد بن أسلم، عن عطاء، وبُسر، والأعرج.
شرح الحديث:
(عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويّ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَنِ الْأَعْرَجِ، حَدَّثُوهُ) أي حدّث هؤلاء الثلاثة زيد بن أسلم (عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ) أي من صلاتها (قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ) بضمّ اللام، من باب قَعَدَ، يقال: طلع الكوب، والشمس طُلُوعًا ومَطْلَعًا بفتح اللام، وكسرها: إذا ظهر، كأطلع، أفاده في "القاموس"
(1)
. (الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ) أي أدرك حكم صلاة الصبح، أو وجوبها، أو فضلها على خلاف في التأويل (وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ) من باب قعد أيضًا، يقال: غربت الشمس تغرُب غُرُوبًا: إذا بَعُدت، وتوارت في مَغِيبها
(2)
. (الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ") قال النوويّ رحمه الله: هذا دليلٌ صريحٌ في أن من صلّى ركعة من الصبح أو العصر، ثم خرج الوقت قبل سلامه لا تبطل صلاته، بل يُتِمّها، وهي صحيحة، وهذا مجمع عليه في العصر، وأما في الصبح، فقال به مالك، والشافعيّ، وأحمد، والعلماء كافّةً إلا أبا حنيفة رحمه الله، فإنه قال: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس فيها؛ لأنه دخل وقت النهي عن الصلاة، بخلاف غروب الشمس، والحديث حجة عليه. انتهى.
وسيأتي البحث في هذا في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 59.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 444.
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 1377 و 1379](608)، و (البخاريّ) في "الأذان"(579)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(186)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(514)، و"الكبرى"(1501)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 302)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 151)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1054)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1355)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1582)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 367)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(399)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن من أدرك ركعة من صلاة الصبح يكون مدركًا لها عند جمهور العلماء، وخالف في ذلك الحنفية، فقالوا ببطلان الصلاة إذا طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح، وإن أدرك ركعة فما فوقها، ويأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة التالية إن شاء اللَّه تعالى.
2 -
(ومنها): أن من أدرك ركعة من صلاة العصر، كان مدركًا لها حكمًا، فيكمل ما بقي، وبكون ذلك أداء.
3 -
(ومنها): أن من زال عذره؛ كنائم استيقظ، وحائض طَهَرت، وصبي بلغ، وكافر أسلم، وقد بقي من الوقت ما يسع ركعةً وجبت عليه تلك الصلاة.
4 -
(ومنها): بيان سماحة الشريعة، ويُسْرِ أمور الدين حيث وَسَّع اللَّه تعالى على من لم يتمكن من أداء الصلاة إلى هذا الوقت فأدّى، فإنه يكون مؤديًا للواجب في وقته، ذلك من فضل اللَّه ورحمته، واللَّه ذو الفضل العظيم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم من أدرك ركعة من العصر، أو الفجر قبل خروج الوقت:
أجمعوا على أن من صلّى ركعة من العصر، ثم خرج الوقت، لا تبطل صلاته، بل يتمها، واختلفوا فيمن صلّى ركعة من الصبح، ثم خرج الوقت؛ فقال مالك، والشافعيّ، وأحمد، والعلماء كافّةً: يتم صلاته، وهي صحيحه، وخالف في ذلك أبو حنيفة، فقال: تبطل صلاته بطلوع الشمس، واحتَجَّ في ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس.
ورُدَّ عليه بأن أحاديث النهي عامة، تشمل ذوات الأسباب المتقدمة، وغير ذوات الأسباب من النوافل والفرائض، وحديثُ أبي هريرة رضي الله عنه هذا خاص؛ ليس فيه إلا ذكر صلاة ذات سبب متقدم، فتحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل؛ جمعًا بين الحديثين.
قال النوويّ رحمه الله: قال أبو حنيفة رحمه الله: تبطل صلاة الصبح بطلوع الشمس؛ لأنه دخل وقت النهي عن الصلاة بخلاف غروب الشمس، ففَرَّقَ بين فجر اليوم، وعصره، والحديث حجةٌ عليه.
قال القاري بعد ذكر كلام النوويّ هذا ما نصه: وجوابه ما ذكره صدر الشريعة في "شرح الوقاية": أن المذكور في كتب أصول الفقه أن الجزء المقارن للأداء سبب لوجوب الصلاة، وآخر وقت العصر وقت ناقص؛ إذ هو وقت عبادة الشممس، فوجب ناقصًا، فإذا أداه أداه، كما وجب، فإذا اعتَرَضَ الفساد بالغروب لا تفسد، والفجر كل وقته وقت كامل؛ لأن الشمس لا تعبد قبل طلوعها، فوجب كاملًا، فإذا اعتَرَض الفساد بالطلوع تفسد؛ لأنه لم يؤده كما وجب.
[فإن قيل]: هذا تعليل في معرض النصّ، قلنا: لَمّا وقع التعارض بين هذا الحديث، وبين النهي الوارد عن الصلاة في الأوقات الثلاثة رجعنا إلى القياس، كما هو حكم التعارض، والقياس رجَّحَ هذا الحديث في صلاة العصر، وحديث النهي في صلاة الفجر، وأما سائر الصلوات، فلا تجوز في الأوقات الثلاثة المكروهة؛ لحديث النهي الوارد؛ إذ لا معارض لحديث النهي فيها.
قال صاحب "مرعاة المفاتيح": قلت: قد رَدَّ هذا التقرير المزخرف الشيخُ عبد الحيّ اللكنويّ، وهو من الحنفية في "حاشيته على شرح الوقاية"، حيث
قال: فيه بحثٌ، وهو أن المصير إلى القياس عند تعارض النصين إنما هو إذا لم يمكن الجمع بينهما، وأما إذا أمكن يلزم الجمع بينهما، وها هنا العمل بكليهما ممكن بأن يُخَصّ صلاة العصر والفجر الوقتيتان من عموم حديث النهي، ويُعْمَل بعمومه في غيرهما، وبحديث الجواز فيهما، إلا أن يقال: حديث الجواز خاصّ، وحديث النهي عامّ، وكلاهما قطعيان عند الحنفية، متساويان في الدرجة والقوّة، فلا يَخُصّ أحدهما الآخر، وفيه أن قطعية العام كالخاص ليس متفقًا عليه بين الحنفية، فإن كثيرًا منهم وافقوا الشافعية في كون العام ظنيًّا، كما هو مبسوط في "شرح المنتخب" الحسامي وغيرها. انتهى.
وقال صاحب "الكوكب الدريّ" -بعد ذكر وجه الفرق بين الفجر والعصر بنحو ما ذكره صدر الشريعة- ما لفظه: هذا ما قالوا، وأنت تعلم ما فيه من الاختلال، وتزويق المقال، فإن قولهم: النهي عن الأفعال الشرعية يقتضي صحتها في أنفسها، ينادي بأعلى نداء على جواز الصلاتين كلتيهما، وإن اعتراهما حرمة بعارض التشبه بعبدة الشمس، فادّعاء المعارضة بينهما باطل، وإن قطع النظر عن ذلك فلا وجه لعدم الجواز في الفجر، والجواز في العصر، فإن الوقت شرط لكلتيهما، فإذا غربت الشمس بأداء ركعة أو ركعتين لم يبق الوقت المشروط لصحة الباقي، فكيف يمكن لهم القول بأن الصلاة تامة؟، إذ ليس ذلك إلا قولًا بعدم اشتراط الوقت، فعلى هذا يلزم عليهم جواز صلاة من شرع في الصلاة، وثوبه نجس بقدر الدرهم، أو دونه، ثم بعد أدائه ركعة وضع عليه رجل شيئًا نجسًا ليس ذلك إلا أداء الصلاة على الكيفية التي التزمها، أو من أخذ في الصلاة، وهو يدافعه الأخبثان، فلما قضى ركعة أو ركعتين، بال أو تغوّط، أو ليس نظير ما قالوا؟ فإنه أدّى صلاته بعد الحدث على نحو مما التزمه. . . إلى آخر ما قال؟ وأطال في الردّ عليهم.
قال صاحب "المرعاة": قلت: ويلزمهم أيضًا أن يقولوا بفساد صلاة العصر إذا شرع فيها في الجزء الصحيح الكامل، أي قبل الاصفرار، ومدّها إلى أن غربت، مع أنها لا تكره عندهم فضلًا عن أن تفسد، وما اعتذروا عنه بعذر الخشوع والخضوع لا ينفع، كما أقر به صاحب "فيض الباري"، فإن الاحتراز
عن المد إلى غروب الشمس ليس مما يتعذر، كما لا يخفى على المنصف غير المتعسف، واختار صاحب "الكوكب" في معنى الحديث ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة من جواز الصلاتين؛ العصر والصبح، وفراغ الذمة لمن صلّى في هذين الوقتين، وإن لم يخل فعله ذلك من الكراهة.
واعلم أن الحنفية قد عجزوا عن دفع إلزام العمل ببعض هذا الحديث، وترك بعضه مع أن النقص قارن العصر ابتداء، والفجر بقاء، ولذلك ذهب الطحاويّ إلى عدم جواز عصر يومه كالفجر، خلافًا لمذهب الحنفية، قال صاحب "الفيض": إن الحديث لا يفرق بين الفجر والعصر، وظاهره موافقٌ لما ذهب إليه الجمهور، وتفريق الحنفية باشتمال العصر على الوقت الناقص دون الفجر عمل بإحدى القطعتين، وترك الأخرى بنحو من القياس. وذا لا يَرِدُ على الطحاويّ، فإنه ذهب إلى النسخ بالكلية بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، إلا أن المعروف من مذهب الحنفية خلافه، فإنهم قائلون في العصر بصحتها، كما في الحديث، قال: فلم أر جوابًا شافيًا عنه في أحد من كتب الحنفية بعدُ.
ثم حَمَل هو هذا الحديث على المسبوق، وقال: إن المراد بالإدراك إدراك الجماعة، لا إدراك الوقت، وإن الصلاة كلها في الوقت قبل الطلوع في الفجر، وقبل الغروب في العصر، ومعنى الحديث: من أدرك ركعة من الصبح مع الإمام، وركعة أخرى بعد انصرافه، وكلتاهما في الوقت قبل الطلوع، وكذا في العصر أدرك ركعة مع الإمام، وثلاث ركعات بعد سلامه، لكن الصلاة كلها وقعت في الوقت قبل الغروب.
قال صاحب "المرعاة": وهذا تحريف للحديث، وإبطال لمؤدّاه، لا توجيه له مع أنه يبطل شرحه، ويَهْدِمه -كما اعترف هو- ما تقدّم من رواية البيهقي بلفظ:"من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعدما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة".
هذا وقد أطال الكلام في الجواب عن هذه الرواية، وتقرير ما رامه من تحريف الحديث، وأتى بكلام كله تكلفات، ودعاوى محضة، ونسبة الوهم،
وسوء الفهم، والاختصار إلى الرواة من غير دليل وبرهان. انتهى كلام صاحب "المرعاة"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما حقّقه صاحب "المرعاة" تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، وبهذا ظهر لك تعصب هؤلاء، وانحرافهم عن قبول ما صحّ من الحديث إذا خالف مذهبهم، ومنهم العينيّ في شرحه على البخاريّ، فقد أتى هناك بما لا يتناسب مع خدمته للبخاريّ، وقيامه في حلّ عويصات الكتاب اللغوية والنحوية قيامًا حسنًا، ولكن قاتل اللَّه التعصب الذي يُعْمِي عن رؤية الحق حقًّا، ويُصِمّ عن سماعه صدقًا.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه.
والحاصل أن المذهب الصحيح هو مذهب الجمهور القائلين بأن من أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس، فقد أدرك الصبح، فيتم ما بقي، كما أن الكل اتفقوا على أن من أدرك ركعة من العصر، فقد أدرك العصر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1378]
(609) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، وَالسِّيَاقُ لِحَرْمَلَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَهُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَوْ مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ
(3)
، فَقَدْ أَدْرَكَهَا"، وَالسَّجْدَةُ إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَةُ).
(1)
"المرعاة شرح المشكاة" 2/ 309 - 311.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "قبل أن تطلُع الشمس".
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) الْبَجليّ، أبو عليّ الْبُورانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 20 أو 221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
2 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السَرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما، تقدّمت قريبًا أيضًا.
والباقون تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (وَالسَّجْدَةُ إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَةُ) هذا تفسير مدرج من بعض الرُّواة، ويَحْتَمِل أن يكون من الزهريّ؛ لأنه كثيرًا ما يُدرج تفسيره في الحديث، كما في حديث "بدء الوحي"، ويَحْتَمِل أن يكون من غيره، واللَّه تعالى أعلم.
قال الخطّابيّ رحمه الله: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها، فسُمّيت على هذا المعنى سجدةً. انتهى
(1)
.
وقال البغويّ رحمه الله: أراد بالسجود ركعةً بركوعها وسجودها، والصلاة تُسمّى سجودًا كما تُسمّى ركوعًا، قال اللَّه عز وجل:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الإنسان: 26]، أي صلّ، كما قال اللَّه تعالى:{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أي المصلّين، سمَّى الركعة سجدةً؛ لأن تمامها بها. انتهى
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 1378](609)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(551)، و"الكبرى"(1533)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(700)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 78)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(155)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1103)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1356)، و (ابن
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 46.
(2)
"شرح السنّة" 2/ 250 - 251.
حبّان) في "صحيحه"(1584)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 151)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 378)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1379]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا وقع في النسخ تأخير هذا الإسناد عن حديث عائشة رضي الله عنها، وكان الأولى تقديمه عليه؛ لأنه تبع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولعله من تصرّف النسّاخ، فليُتنبّه.
ورجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ) بن نصر الكسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، أبو بكر الحميريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ شهيرٌ، عَمِيَ في آخره، فتغيّر [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكِروا في هذا الباب.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ. . . إلخ) يعني أن معمرًا حدّث عن الزهريّ بمثل ما حدّث به مالك، عن زيد بن أسلم.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 205) فقال:
(1357)
أخبرنا سليمان بن أحمد، أنبا إسحاق بن إبراهيم، أنبا عبد الرزاق، عن معمر (ح) وحدّثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا عبد الأعلى، ثنا معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة،
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك ركعة من صلاة الفجر، قبل أن تطلع الشمسى، فقد أدركها، ومن أدرك ركعة من صلاة العصر، قبل أن تغيب الشمس فقد أدركها".
لفظهما واحدٌ إلا أن عبد الرزاق قَدَّم العصر على الصبح، وقال:"الصبح"، ولم يقل: الفجر. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1380]
(608) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْفَجْرِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ) اليمانيّ، أبو محمد، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان الْحِميريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الفارسيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقون ذُكروا قبل حديث، وشرح الحديث تقدّم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 1380 و 1381](608)، و (أبو داود) في
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
"الصلاة"(412)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(514)، و"الكبرى"(1501)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2227)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 282)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(984)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1582)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1101 و 1102)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1358)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 3689)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1381]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَعْمَرًا، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّاد) بن نصر الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ المعروف بالنَّرْسيّ، ثقةٌ، من كبار [10](ت 6 أو 237) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
2 -
(مُعْتَمِر) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ الملقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
والباقي ذُكِر قبله.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد معمر السابق، وهو: عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن أبي هريرة.
[تنبيه]: رواية معتمر هذه ساقها النسائيّ رحمه الله، فقال:
(515)
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا معتمر، قال: سمعت معمرًا، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغيب الشمس، أو أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس، فقد أدرك". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(31) - (بابُ أوقاتِ الصَّلواتِ الخَمْسِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1382]
(610) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ
(1)
قَدْ نَزَلَ، فَصَلَّى إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نَزَلَ جِبْرِيلُ، فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ"، يَحْسُب بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(هـ) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
3 -
(ابْنُ رُمْحِ) هو: محمد بن رُمح بن المهاجر التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو الأنصاريّ المدنيّ، قيل: إن له رؤيةٌ [2].
رَوَى عن أبيه، وعنه ابنه عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وهلال بن جبر، ويونس بن ميسرة بن حَلْبَس.
(1)
وفي نسخة: "أما عَلِمتَ أن جبرائيل".
قال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبّان في "الثقات" في التابعين، وكذا البخاريّ، ومسلم، وأبو حاتم الرازيّ.
ورَوَى ابن منده من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن ابن حَلْبَس قال: قال بشير بن أبي مسعود، وكان من الصحابة، قال ابن منده: ورَوَى أبو معاوية، عن مِسْعَر، عن ثابت بن عُبيد، قال: رأيت بشير بن أبي مسعود، وكانت له صحبة.
قال الحافظ: وقرأت بخط مغلطاي أن ابن خلفون ذَكَر في "الثقات" أن بشيرًا وُلد بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بقليل، كذا قال، ولفظه: وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بعده بيسير. انتهى.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.
7 -
(أَبُوهُ) عقبة بن عمرو بن الأنصاريّ، أبو مسعود البدريّ الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها، (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسناد بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فتفرّد به هو وابن ماجه، وبشير بن أبي مسعود، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، ومن عداهم مصريّون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعي، والابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه اشتهر بأنه بدريّ، فقيل: لأنه شهد غزوة بدر، وبه قال البخاريّ، ومسلم، وقيل: لم يشهدها، وإنما قيل له: بدريّ؛ لسكناه بدرًا، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الأمويّ، أمير المؤمنين، المتوفّى سنة (101) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46. (أَخَّرَ الْعَصْرَ) أي صلاة العصر (شَيْئًا) أي تأخيرًا قليلًا، فهو مفعول مطلق على
النيابة، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "شيئًا" صفة مصدر محذوف، أي تأخيرًا يسيرًا، يعني أنه أخّر صلاة العصر حتى غَبَر شيءٌ من وقتها. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "شيئًا" يدلّ على أن تأخيرها إنما كان عن أول وقت الاختيار، وإنما أنكر عليه لعدوله عن الأفضل، وهو ممن يُقتدَى به، فيؤدّي تأخيره لها إلى أن يُعتقَدَ أن تأخير العصر سنّة.
ويَحْتَمِل أنه أخّرها إلى آخر وقت أدائها، وهو وقت الضرورة عندنا، معتقِدًا أن الوقت كلّه وقتُ اختيار، كما هو مذهب إسحاق وداود، والأول أشبه بفضله وعلمه، وأظهر من اللفظ. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ) بن الزبير (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم، قال ابن مالك: هي حرف استفتاح بمنزلة "ألا"، ويكون أيضًا بمعنى حقًّا، ذكر ذلك سيبويه، ولا تشاركها "ألا" في ذلك. أنتهى. (إِنَّ جِبْرِيلَ) عليه السلام، بكسرة همزة "إنّ "؛ لوقوعها بعد "أداة الاستفتاح"، وفي نسخة:"أما عَلِمتَ أن جبرائيل"، وجبريل عليه السلام هو الملك الموكّل بالوحي، وقد ذكرت ترجمته في "شرح النسائيّ" في هذا الموضع، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(قَدْ نَزَلَ) أي من السماء صبيحة ليلة الإسراء (فَصَلَّى إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الهمزة، كما بيّنه قوله الآتي:"نزل جبريل، فأمّني، فصلّيتُ معه. . . "، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
، وقال في "الفتح": بفتح الهمزة من "أمام"، وحَكَى ابن مالك أنه رُوي بالكسر، واستشكله؛ لأن "إمام" معرفة، والموضع موضع الحال، فوجب جعله نكرةً بالتأويل. انتهى
(4)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إمام" ضُبط في "شرح مسلم" بكسر الهمزة، وفي "جامع الأصول" مقيّد بالكسر والفتح، فبالفتح ظرفٌ، وبالكسر إما أن يكون منصوبًا بفعل مضمر، أي أعني إِمَامَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو "كان" المحذوفة، قال: وقال ابن مالك: هو من المعارف الواقعة أحوالًا، كقوله [من الوافر]:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 878.
(2)
"المفهم" 2/ 231.
(3)
"شرح النوويّ" 5/ 107.
(4)
"الفتح" 6/ 358 - 359.
فَأَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ وَلَمْ يَذُدْهَا
…
وَلَمْ يُشْفِقْ عَلَى نَغَصِ الدِّخَالِ
أي معتركةً، أي مزدحمةً
(1)
.
ومقصود عروة بذلك: أن أمر الأوقات عظيمٌ، قد نزل لتحديدها جبريل عليه السلام، فعلّمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفعل، فلا ينبغي التقصير في مثل هذا
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
(فَقَالَ لَهُ) أي لعروة (عُمَرُ) بن عبد العزيز (اعْلَمْ) بصيغة الأمر، من عَلِم ثلاثيًّا، وقال السنديّ رحمه الله: بصيغة الأمر من العلم، أي كن حافظًا ضابطًا له، ولا تقل عن غفلة، أو من الإعلام، أي بيّن لي حاله، وإسنادك فيه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "أو من الإعلام" فيه نظرٌ، إذ يَحتاج إلى ثبوته رواية، ولم يذكُر ذلك أحد فيما علمت، واللَّه تعالى أعلم.
(مَا) موصولة مفعول "اعلم"، وهي بمعنى "اعرِفْ"، فتتعدّى لمفعول واحد، كما قال في "الخلاصة":
لِعِلْم عِرْفَانٍ وَظَنِّ تُهَمَهْ
…
تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ
(تَقُولُ يَا عُرْوَةُ) هذا تنبيه من عمر بن عبد العزيز لعروة على إنكاره عليه.
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "اعلم ما تقول. . . إلخ" تنبيه منه على إنكاره عليه، ثم تصديره بـ "أما" التي هي من طلائع القسم، أي تأمّل ما تقول، وعلام تَحلِف وتُنكر؟، ومعنى إيراد عروة الحديث: أي كيف لا أدري ما أقول؟ وأنا صَحِبتُ، وسمعت ممن صحِبَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسمع منه هذا الحديث، فعرفتُ كيفيّة الصلاة وأوقاتها وأركانها. انتهى
(3)
.
وقال في "المرعاة": الظاهر أنه استبعاد لإخبار عروة بنزول جبريل بدون الإسناد، فكأنه أغلظ عليه بذلك مع عظيم جلالته؛ إشارةً إلى مزيد الاحتياط في الرواية؛ لئلا يقع في محظور الكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتعمّده. انتهى
(4)
.
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 879.
(2)
راجع: "المرعاة" 2/ 292.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 879.
(4)
"المرعاة" 2/ 292.
(فَقَالَ) عروة (سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نَزَلَ جِبْرِيلُ) أي من السماء، وذلك صبيحة الليلة التي فُرِضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، كما بيّنه ابن إسحاق (فَأَمَّنِي) أي تقدّم أمامي ليُصلّي بي، يقال: أمّه، وأمّ به: صلّى به إمامًا، قاله الفيّوميّ (فَصَلَّيْتُ مَعَهُ) أي صلاة الظهر، وفيه أن صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت مع صلاة جبريل عليه السلام.
(ثمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ) أي صلاة العصر (ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ) أي صلاة المغرب (ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ) أي صلاة العشاء (ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ) أي صلاة الصبح (يَحْسُبُ) بضمّ السين المهملة، مبنيًّا للفاعل، أي يَعُدّ، والظاهر أن فاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي يقول ذلك حال كونه يَحْسُبُ تلك المرّات بعقد أصابعه.
قال الفيّوميّ رحمه الله: حَسَبتُ المال حَسْبًا، من باب قَتَل: أحصيته عدَدًا، وفي المصدر أيضًا حِسْبَةً بالكسر، وحُسْبَانًا بالضمّ، وأما حَسِبتُ زيدًا قائمًا أَحْسَبُهُ، فهو من باب تَعِبَ عند جميع العرب، إلا بني كِنَانة، فإنهم يكسرون المضارع، مع كسر الماضي أيضًا على غير قياس، حِسْبانًا، بمعنى ظَنَنْتُ. انتهى
(1)
.
(بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ) بنصب "خمسَ" مفعولًا لـ "يَحسُبُ"، أو لـ "صَلَّيتُ".
قال الطيبيّ رحمه الله: وهذا مما يشهد بإتقانه، وضبطه أحوال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ليس فيه حجة واضحة على عمر؛ إذ لم يُعيِّن له الأوقات التي صلَّى فيها، وغاية ما يُتوهّم عليه أنه نبّهه، وذَكَّره بما كان يُعرَف من تفاصيل الأوقات المعروفة من حديث جبريل، كما قد روى ذلك النسائيّ
(2)
،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 134.
(2)
هو ما رواه النسائيّ في "سننه"، فقال:
(513)
- أخبرنا يوسف بن واضح، قال: حدّثنا قُدامة، يعني ابن شهاب، عن بُرْد، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن جابر بن عبد اللَّه، "أن جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، =
وأبو داود
(1)
.
قال: ويظهر لي أن هذا التأويل فيه بُعْدٌ؛ لإنكار عمر بن عبد العزيز على عروة حيث قال له: اعلم ما تُحدّث به يا عروة، أَوَ إنّ جبريل هو الذي أقام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة، وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده خبرٌ من
= فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع مثل ما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى المغرب، فَنِمنا ثم قمنا، ثم نمنا ثم قمنا، فأتاه فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتدّ الفجر وأصبح، والنجوم بادية مشتبكة، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الغداة، ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت". انتهى. وهو حديث صحيح.
(1)
هو ما رواه أبو داود في "سننه" فقال:
(393)
- حدّثنا مسدَّد، حدّثنا يحيى، عن سفيان، حدّثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير بن مُطْعِم، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدرَ الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حَرُم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليّ، فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين". انتهى. وهو حديث صحيح.
حديث إمامة جبريل
(1)
، إما لأنه لم يبلغه، أو بلغه فنسيه، وكلُّ ذلك جائز عليه، والأولى عندي أن حجة عروة عليه إنما هي فيما رواه عن عائشة، من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر، والشمس طالعة في حجرتها قبل أن تَظْهَرَ، وذَكَر له حديث جبريل موطِّئًا له، ومعلِّمًا بأن الأوقات إنما ثبت أصلها بإيقاف جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم عليها، وتعيينها له، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تأتي في الذي بعده -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1383]
(. . .) - (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ، فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتَ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ
(3)
يَا عُرْوَةُ، أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام هُوَ أَقَامَ
(4)
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ)
(5)
.
(1)
سيأتي التعقّب على هذا في كلام الحافظ قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
(2)
"المفهم" 2/ 231 - 232.
(3)
وفي نسخة: "ما تُحدّث به".
(4)
وفي نسخة: "هو الذي أقام".
(5)
وفي نسخة: "قبل أن يظهر الفيء".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا لطائف الإسناد.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا) تقدّم في رواية الليث، عن ابن شهاب، الماضية بيان تلك الصلاة، حيث قال:"أخّر العصر شيئًا"، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: ظاهر سياقه أنَّه فَعَل ذلك يومًا ما؛ لا أن ذلك كان عادةً له، وإن كان أهل بيته معروفين بذلك. انتهى.
وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب:"أَخَّر الصلاة مرةً، يعني العصر"، وللطبرانيّ من طريق أبي بكر بن حزم، أن عروة حَدَّث عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك، وكان ذلك زمان يؤخرون فيه الصلاة، يعني بني أمية.
وفي رواية أبي داود: "وكان قاعدًا على المنبر، فأخّر العصر شيئًا"، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده":"أنَّه كان قاعدًا على المنبر في إمرته على المدينة، ومعه عروة بن الزبير، فأخّر عمر العصر شيئًا، فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل. . ." الحديث.
فتبيّن بهذا سبب تأخيره، وهو اشتغاله بأمور المسلمين، واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: المراد أنَّه أخَّرها حتى خرج الوقت المستحب، لا أنَّه أخّرها حتى غربت الشمس. انتهى.
قال في "الفتح": ويؤيده سياق رواية الليث المتقدمة.
وأما ما رواه الطبرانيّ من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أسامة بن زيد الليثيّ، عن ابن شهاب، في هذا الحديث، قال:"دعا المؤذّن لصلاة العصر، فأمسى عمر بن عبد العزيز قبل أن يصليها"، فمحمول على أنَّه قارب المساء، لا أنَّه دخل فيه، وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فروى الأوزاعيّ، عن
عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز يعني في خلافته، كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة، والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل.
(فَدَخَلَ عَلَيْهِ) أي عمر بن عبد العزيز (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور، توفي رضي الله عنه سنة (50) على الصحيح، وتقدّمت ترجمته في "المقدمة" 1/ 1. (أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا) بَيَّنَ عبدُ الرزاق في روايته، عن ابن جريج، عن ابن شهاب أن الصلاة المذكورة العصر أيضًا، ولفظه: أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر (وَهُوَ بِالْكُوفَةِ) وفي رواية البخاريّ: "وهو بالعراق"، ولا تنافي بينهما؛ لأنَّ الكوفة من جملة العراق، فالتعبير بها أخصّ من التعبير بالعراق، وكان المغيرة رضي الله عنه إذ ذاك أميرًا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ) عقبة بن عمرو البدريّ رضي الله عنه (فَقَالَ: مَا هَذَا) أي التأخير (يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ) كذا الرواية، وهو استعمال صحيح، لكن الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر: "ألستَ"، وفي مخاطبة الغائب: "أليس" (قَدْ عَلِمْتَ) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا يدلّ ظاهره على علم المغيرة رضي الله عنه بذلك، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك على سبيل الظنّ من أبي مسعود رضي الله عنه؛ لعلمه بصحبة المغيرة، قال الحافظ رحمه الله: ويؤيِّد الأوّل رواية شعيب، عن ابن شهاب، عند البخاريّ في "غزوة بدر"، بلفظ: "فقال: لقد علمتَ" بغير أداة استفهام، ونحوه لعبد الرزاق، عن معمر وابن جريج جميعًا. انتهى
(1)
. (أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ) بَيَّنَ ابن إسحاق في "المغازي" أن ذلك كان صبيحةَ الليلة التي فُرِضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق: حدّثني عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير، وقال عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قال نافع بن جبير وغيره: لَمّا أصبح النبيّ صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أُسري به لم يَرُعْهُ إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سُمِّيت الأولى، أي صلاة الظهر، فأَمَرَ، فَصِيح بأصحابه:"الصلاة جامعة"، فاجتمعوا، فصلى به جبريل، وصلَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالناس، فذكر الحديث، وفيه رَدٌّ على مَن زَعَم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحقّ
(1)
"الفتح" 2/ 6.
أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال القاضي عياض رحمه الله: ظاهر أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله:"صلَّى فصلى" على أن جبريل كان كلما فعل جزءًا من الصلاة، تابعه النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله. انتهى. وبهذا جزم النوويّ.
وقال غيره: الفاء بمعنى الواو، واعتُرِض بأنّه يلزم أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتقدَّم في بعض الأركان على جبريل، على ما يقتضيه مطلق الجمع، وأجيب بمراعاة الحيثية، وهي التبيين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه.
وقيل: الفاء للسببية، كقوله تعالى:{فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15].
وفي رواية الليث الماضية: "نَزَل جبريل، فأَمَّني، فصليت معه. . ."، وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر:"نَزَل، فصلى فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى الناس معه"، وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة.
وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله: "الصلاة جامعة"؛ لأنَّ الأذان لم يكن شُرع حينئذ
(2)
.
(ثُمَّ قَالَ) أي جبريل عليه السلام (بِهَذَا أُمِرْتَ) -بفتح المثناة- على المشهور، والمعنى: هذا الذي أُمِرتَ به أن تصليه كل يوم وليلة، ورُويَ بالضم: أي هذا الذي أمرتُ بتبليغه لك.
(فَقَالَ عُمَرُ) بن عبد العزيز (لِعُرْوَةَ) بن الزبير (انْظُرْ) بصيغة الأمر، وتقدّم في رواية الليث بلفظ:"اعْلَمْ"(مَا) موصولة مفعول "انظر"، أي الذي (تُحَدِّثُ يَا عُرْوَةُ) ببناء الفعل للفاعل، وفيه حذف العائد، أي تُحدّث به، وهو موجود في بعض النسخ، والمعنى: تأكّد، وتَثَبّت الشيء الذي تُحدّث به، وإنما قال عمر هذا؛ لكونه لم يبلغه الحديث، فأراد التأكّد منه.
(أَوَ) -بفتح الهمزة- وهي للاستفهام، والواو هي العاطفة، والعطف على
(1)
"الفتح" 2/ 6 - 7.
(2)
"الفتح" 2/ 7.
شيء مقدَّر، والتقدير: أصلّى جبريل بالرسول صلى الله عليه وسلم، و (إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام) بكسر همزة "إنَّ"، ويجوز فتحها (هُوَ أَقَامَ) وفي نسخة:"هو الذي أقام"، أي حدّد، وبيّن (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الصَّلَاةِ؟) هكذا الرواية هنا بإفراد "وقت" والإضافة للجنس، ووقع عند البخاريّ من رواية المستملي:"وقُوت الصلاة" بصيغة الجمع (فَقَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ) هو "بَشِير" -بفتح الموحدة، بعدها معجمة، بوزن فَعِيل، وهو تابعيّ جليلٌ، ذُكِر في الصحابة؛ لكونه ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورآه، قاله في "الفتح".
(يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ) أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه، والمعنى: نعم هكذا سمعته من بشير بن أَبي مسعود، عن أبيه رضي الله عنه.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء؛ لأنَّ ابن شهاب لم يَقُل: حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروةُ لم يقل: حدَّثني بشير، لكن الاعتبار عند الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة، لا بالصيغ. انتهى.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: اعلم أن الحديث بهذا الطريق ليس متصلَ الإسناد؛ إذ لم يقل أبو مسعود: شاهدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: هذا لا يُسَمَّى منقطعًا اصطلاحًا، وإنما هو مرسل صحابيّ؛ لأنه لم يُدرِك القصة، فاحتَمَلَ أن يكون سمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بلغه عنه بتبليغ من شاهده، أو سمعه، كصحابيّ آخر.
على أن رواية الليث عند الشيخين تزيل الإشكال كلّه، ولفظه:"فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود، يقول: سمعت أبي، يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول"، فذكر الحديث، وكذا سياق ابن شهاب، وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابن شهاب قد جُرِّب عليه التدليس، لكن وقع في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب، قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز، فذكره، وفي رواية شعيب، عن الزهريّ: سمعت عروة يحدِّث عمر بن عبد العزيز، الحديث.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كان الأولى للحافظ رحمه الله أن لا يذكر قوله: "فاحتمل. . . إلخ"، بل يكتفي بذكر رواية الليث التي أزالت الإشكال فقط؛
لأنه لا يجيء الاحتمال مع ورود التصريح بالسماع في هذه الرواية، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.
قال القرطبيّ رحمه الله: قولُ عروة: "إن جبريل نزل" ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد العزيز؛ إذ لم يعيّن له الأوقات، قال: وغاية ما يُتَوَهَّم عليه أنَّه نَبَّهه، وذَكَّره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات، قال: وفيه بُعْدٌ؛ لإنكار عمر على عروة، حيث قال له: اعْلَمْ ما تُحَدِّث يا عروة، قال: وظاهر هذا الإنكار أنَّه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل.
وتعقّبه الحافظ بأنّه لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها، أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة، من جهة العمل المستمرّ، لكن لم يكن يعرف أن أصله بتبيين جبريل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكأنه كان يَرَى أن لا مفاضلة بين أجزاء الوقت الواحد، وكذا يُحْمَل عمل المغيرة وغيره من الصحابة.
قال: ولم أقف في شيء من الروايات على جواب المغيرة لأبي مسعود رضي الله عنهما، والظاهر أنَّه رجع إليه، واللَّه أعلم.
وأما ما زاده عبد الرزاق في "مصنَّفه" عن معمر، عن الزهريّ، في هذه القصة، قال:"فلم يَزَل عمر يُعَلِّم الصلاة بعلامة حتى فارق الدنيا"، ورواه أبو الشيخ في "كتاب المواقيت" له، من طريق الوليد، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، قال: ما زال عمر بن عبد العزيز يتعلم مواقيت الصلاة حتى مات، ومن طريق إسماعيل بن حكيم، أن عمر بن عبد العزيز جَعَل ساعات ينقضين مع غروب الشمس، زاد من طريق ابن إسحاق، عن الزهريّ: فما أخرها حتى مات، فكلُّه يدلّ على أن عمر لم يكن يحتاط في الأوقات كثيرَ احتياط، إلا بعد أن حدّثه عروة بالحديث المذكور. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: ورد في هذه القصّة من وجه آخر، عن الزهريّ بيان أبي مسعود للأوقات، وفي ذلك ما يَرْفَع الإشكال، ويوضِّح توجيه احتجاج عروة به، فروى أبو داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره، من طريق ابن وهب، والطبرانيّ!
(1)
"الفتح" 2/ 8.
من طريق يزيد بن أبي حبيب، كلاهما عن أسامة بن زيد، عن الزهريّ، هذا الحديث بإسناده، وزاد في آخره:"قال أبو مسعود: فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر حين تزول الشمس. . ." فذكر الحديث، وذكر أبو داود، أن أسامة بن زيد تفرَّد بتفسير الأوقات فيه، وأن أصحاب الزهريّ لم يذكروا ذلك، قال: وكذا رواه هشام بن عروة، وحبيب بن أبي مرزوق، عن عروة، لم يذكرا تفسيرًا. انتهى.
ورواية هشام أخرجها سعيد بن منصور، في "سننه"، ورواية حبيب أخرجها الحارث بن أبي أسامة، في "مسنده".
قال الحافظ رحمه الله: وقد وجدت ما يَعْضِد رواية أسامة، ويزيد عليها أن البيان من فعل جبريل عليه السلام، وذلك فيما رواه الباغنديّ في "مسند عمر بن عبد العزيز"، والبيهقيّ في "السنن الكبرى" من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن أبي بكر بن حزم، أنَّه بلغه عن أبي مسعود، فذكره منقطعًا، لكن رواه الطبرانيّ من وجه آخر، عن أبي بكر، عن عروة، فرجع الحديث إلى عروة، ووضح أن له أصلًا، وأن في رواية مالك، ومن تابعه اختصارًا، وبذلك جزم ابن عبد البرّ، وليس في رواية مالك ومن تابعه، ما ينفي الزيادة المذكورة، فلا توصف والحالة هذه بالشذوذ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: رواية الطبرانيّ ذكرها أبو بكر الهيثميّ رحمه الله في "المجمع" وقال بعد إيرادها: في "الصحيح" أصله من غير بيان لأول الوقت وآخره، وفي رواية الطبرانيّ هذه أيوب بن عتبة، ضعّفه ابن المدينيّ ومسلم، وجماعة، ووثّقه عمرو بن عليّ في رواية، وكذلك يحيى بن معين في رواية، وضعّفه في روايات، والأكثر على تضعيفه. انتهى
(2)
.
فتبيّن بهذا أن قول الحافظ: ووضح أن له أصلًا. . . إلخ محلّ نظر، واللَّه تعالى أعلم.
(قَالَ عُرْوَةُ) بن الزبير: مستدلًّا على ما قاله لعمر بن عبد العزيز في تأخيره العصر بدليل آخر.
(1)
"الفتح" 2/ 8 - 9.
(2)
"مجمع الزوائد" 1/ 305 - 306.
قال الكرمانيّ: هو إما مقول ابن شهاب، أو تعليقٌ.
وتُعُقِّب بأن احتمال التعليق غير صحيح؛ لأنه سيأتي مسندًا عن ابن شهاب، بلفظ: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرته:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر، والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء في حجرتها"، متّفقٌ عليه.
فتبيّن بهذا أنَّه مقول ابن شهاب، وليس بتعليق، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ) رضي الله عنها، وقوله:(زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) برفع "زوجُ" على البدليّة من "عائشة"(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) أي تعلو وترتفع، وفي نسخة:"قبل أن يظهر الفيء"، وسيأتي شرح حديث عائشة رضي الله عنها هذا في الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1382 و 1383](610)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(521)، و"بدء الخلق"(3221)، و"المغازي"(4007)، و (أبو داود) في "الصلاة"(394)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(494)، و (ابن ماجه)(668)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 3)، وهو أولّ حديث وقع فيه، و (عبد الرزّاق) في "مصنَّفه"(2044)، و (الحميديّ) في "مسنده"(451)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنَّفه"(1/ 319)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 48)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 120 و 121)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(352)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(1448 و 1449 و 1450)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(997 و 998 و 1000)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1359 و 1360)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 711)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 250 و 251)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 192 - 193)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 363 و 441)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنَّه يدلّ على أن مواقيت الصلوات الخمس بيّنها جبريل عليه السلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم بفعله، فكان ينزل، فيُصلي به كلّ صلاة في وقتها إلى أن بيّن له مواقيتها كلّها، وكان ذلك في أول ما افتُرِضت الصلوات الخمس
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان أن الصلوات الخمس لها أوقات محدّدة من قبل الشَّارع الحكيم.
3 -
(ومنها): أن تحديد تلك الأوقات كان ببيان جبريل عليه السلام.
4 -
(ومنها): أنَّه يدلّ على أن أوقات الصلاة من جملة فرائضها، وأنها لا تجزئ قبل وقتها، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إلا شيءٌ روي عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وعن بعض التابعين.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وقد انعقد الإجماع على خلافه، فلم نَرَ لذكره وجهًا؛ لأنه لا يصح عندي عنهم، وقد صَحّ عن أبي موسى رضي الله عنه خلافه بما يوافق الجماعة، فصار اتفاقًا صحيحًا. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): استحباب المبادرة بالصلاة في أول وقتها، ولا ينافي ذلك ما ورد من الإبراد بالظهر في شدة الحرّ؛ لأنَّ المبادرة تكون بما يناسب ذلك الإبراد، فيبادر أول ما يحصل الإبراد المطلوب.
6 -
(ومنها): أن فيه دخول العلماء على الأمراء، وإنكارهم عليهم إذا خالفوا السنّة.
7 -
(ومنها): جواز مراجعة العالم لطلب البيان، والرجوع عند التنازع إلى السنّة.
8 -
(ومنها): أنَّه استَدَلّ به من يَرَى جواز الائتمام بمن يأتم بغيره. قال في "الفتح": ويجاب عنه بما يجاب به عن قصّة أبي بكر في صلاته خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصلاة الناس خلفه، فإنَّه محمول على أنَّه كان مُبَلِّغًا فقط.
9 -
(ومنها): أنَّه استَدّل به بعضهم على جواز صلاة المفترض خلف
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 163.
(2)
"الاستذكار" 1/ 36.
المتنفل، من جهة أن الملائكة ليسوا مكلَّفين بمثل ما كلّف به الإنس، قاله ابن العربيّ، وغيره، وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ.
وتُعُقِّب بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معَلَّقًا بالبيان، فلم يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة، قال: وأيضًا لا نُسَلِّم أن جبريل عليه السلام كان متنفلًا، بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه؛ لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض خلف مفترض. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحقّ أن اقتداء المفترض بالمتنفل جائز؛ لحديث إمامة معاذ رضي الله عنه لقومه بعد الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، كما سبق تحقيقه، وأما الاستدلال بهذا الحديث فغير واضح، واللَّه تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): ما قاله ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: قد يتعلق به من يُجَوِّز صلاة مفترض بفرض خلف مفترض بفرض آخر، كذا قال.
قال الحافظ رحمه الله: وهو مسلَّم له في صورة المؤدّاة مثلًا خلف المقضيّة، لا في الظهر خلف العصر مثلًا. انتهى
(2)
.
11 -
(ومنها): أن فيه بيان فضيلةَ عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى.
12 -
(ومنها): جواز قبول خبر الواحد المثبت.
13 -
(ومنها): أنَّه استَدَلَّ به ابن بطال وغيره على أن الحجة بالمتصل دون المنقطع؛ لأنَّ عروة أجاب عن استفهام عمر له، لَمّا أن أرسل الحديث بذكر من حدّثه به، فرجع إليه، فكأن عمر قال له: تأمل ما تقول، فلعله بلغك عن غير ثبت، فكأن عروة قال له: بل قد سمعته ممن قد سمع صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والصاحب قد سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(3)
.
14 -
(ومنها): أنَّه استَدَلّ به عياض على جواز الاحتجاج بمرسل الثقة، كصنيع عروة حين احتجّ على عمر، قال: وإنما راجعه عمر، لتثبته فيه، لا
(1)
"الفتح" 2/ 7.
(2)
"الفتح" 2/ 7.
(3)
"الفتح" 2/ 9.
لكونه لم يرض به مرسلًا، كذا قال. قال الحافظ: وظاهر السياق يشهد لما قال ابن بطّال.
15 -
(ومنها): أن ابن بطال قال: في هذا الحديث دليل على ضعف الحديث الوارد في أن جبريل أم النبيّ صلى الله عليه وسلم في يومين لوقتين مختلفين لكل صلاة، قال: لأنه لو كان صحيحًا لم ينكر عروة على عمر صلاته في آخر الوقت محتجًّا بصلاة جبريل، مع أن جبريل قد صلّى في اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال:"الوقت ما بين هذين".
وأجيب باحتمال أن تكون صلاة عمر كانت خرجت عن وقت الاختيار، وهو مصير ظل الشيء مثليه، لا عن وقت الجواز، وهو مغيب الشمس، فيتجه إنكار عروة، ولا يلزم منه ضعف الحديث، أو يكون عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الصلاة في أول الوقت، ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضًا.
وقد رَوَى سعيد بن منصور من طريق طلق بن حبيب مرسلًا، قال:"إن الرجل ليصلي الصلاة، وما فاتته، ولما فاتته من وقتها خير له من أهله وماله"، ورواه أيضًا عن ابن عمر من قوله.
ويؤيِّد ذلك احتجاج عروة بحديث عائشة رضي الله عنها حيث قال: ولقد حدثتني عائشة "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر، والشمس في حجرتها قبل أن تظهر"، وهي الصلاة التي وقع الإنكار بسببها، وبذلك تظهر مناسبة ذكره لحديث عائشة رضي الله عنها بعد حديث أبي مسعود رضي الله عنه؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها يشعر بمواظبته صلى الله عليه وسلم على صلاة العصر في أول الوقت، وحديث أبي مسعود رضي الله عنه يشعر بأن أصل بيان الأوقات كان بتعليم جبريل عليه السلام، قاله في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1384]
(611) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 9.
الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي، لَمْ يَفِئِ
(1)
الْفَيْءُ بَعْدُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ بَعْدُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"سفيان": هو ابن عيينة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ) هذه الرواية صريحة في كون هذا الفعل عادة له صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ) أي ظاهر ضوؤها (فِي حُجْرَتِي) مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "يصلي" والرابط الواو، والضمير، كما قال ابن مالك:
وجملة الحال سوى ما قدما
…
بواو أو بمضمر أو بهما
والمعنى: أن الشمس ظاهرة في حجرتي، لم يُغطّها الظلّ تغطيةً كاملةً، وفي الرواية الآتية:"والشمس واقعة في حُجرتي"، والمعنى أن ضوء الشمس باق في حجرتها، فهو على تقدير مضاف.
و"الْحُجْرة" -بضم الحاء المهملة، وإسكان الجيم-: البيت، وكل موضع حُجِر عليه بالحجارة فهو حُجْرة، قاله في "المشارق"، وأصله كما ذكر في "الصحاح": حَظِيرة للإبل، وفي رواية للبيهقي:"والشمس في قعر حجرتها". قال العراقي: وفي هذه الرواية زيادة؛ فإنَّه لا يلزم من كون الشمس في الحجرة أن تكون في قعرها. انتهى
(2)
.
(لَمْ يَفِئِ) وفي نسخة: "ولم يفئ" بالواو (الْفَيْءُ) أي لم يرجع الظلّ إلى موضع ضوء الشمس.
[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: فاء الظلّ يَفِيء فَيئًا: رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق، و"الفيء": الظلّ، والجمع فُيُوءٌ، وأفياء، مثلُ بيت وبُيُوت وأبيات. انتهى.
(1)
وفي نسخة "ولم يفئ".
(2)
"طرح التثريب" 2/ 167.
وقال في مادّة "ظلّ": "الظلُّ"، قال ابن قتيبة: يذهب الناس إلى أن الظلّ والفيء بمعنى واحد، وليس كذلك، بل الظلّ يكون غُدْوةً وعَشيّةً، والفيءُ لا يكون إلا بعد الزوال، فلا يقال لما قبل الزوال: فَيءٌ، وإنما سُمّي بعد الزوال فيئًا؛ لأنه ظلٌّ فاءَ من جانب المغرب إلى جانب المشرق، والفيءُ: الرجوع، وقال ابن السّكِّيت: الظلّ من الطلوع إلى الزوال، والفيء من الزوال إلى الغروب، وقال ثعلب: الظلّ للشجرة وغيرها بالغداة، والْفَيءُ بالعشيّ، وقال رؤبة بن الْعَجّاج: كلُّ ما كانت عليه الشمسُ، فزالت عنه، فهو ظلٌّ وفَيْءٌ، وما لم تكن عليه الشمس، فهو ظلٌّ، ومن هنا قيل: الشمس تنسخ الظلّ، والفيءُ ينسخ الشمس. انتهى
(1)
.
وقوله: (بَعْدُ) من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة ونيّة معناها، أي بعد ظهور الشمس عليه، وقوله:(وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) أي ابن أبي شيبة، شيخه الأوّل (لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ بَعْدُ) أشار به إلى اختلاف شيخيه: أبي بكر، وعمرو الناقد في لفظ الحديث، فقال عمرو:"لم يفئ الفيء بعدُ"، وقال أبو بكر:"لم يظهر الفيء بعدُ"، أي لم يظهر الظلّ في داخل حجرتها بعد ظهور الشمس فيه.
وفي الرواية الماضية: "والشمس في حُجرتها قبل أن تظهر"، أي قبل أن يرتفع ضوءها من داخل الحجرة، وينبسط فيه الظل، فالظهور هنا كما قال الخطابيّ بمعنى الصعود والعلوّ، يقال: ظهرتُ على الشيء: إذا عَلَوته، ومنه قوله تعالى:{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].
وقال في "الفتح": وقوله في رواية الزهريّ: "والشمس في حُجرتها" أي باقية، وقوله:"لم يظهر الفيء" أي في الموضع الذي كانت الشمس فيه، وقد تقدم في أول المواقيت من طريق مالك، عن الزهري بلفظ:"والشمس في حجرتها قبل أن تظهر" أي ترتفع، فهذا الظهور غير ذلك الظهور، ومحصله أن المراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة، وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وليس بين الروايتين اختلاف؛ لأنَّ انبساط الفيء لا يكون إلا بعد
(1)
"المصباح المنير" 2/ 385 - 386 و 486.
خروج الشمس. انتهى
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى قوله: "قبل أن تظهر" قبل أن يظهر الظلّ على الجدار، أي قبل أن يرتفع ظلّ حجرتها على جُدُرها، وكلُّ شيء على شيئًا فقد ظهر عليه، قال اللَّه تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي يعلوا عليه، وقال النابغة الجعديّ [من الطويل]:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُودُنَا
…
وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
أي مُرْتَقًى وعَلُوًّا.
وقيل: معناه: أن يَخرُج الظلّ من قاعة حُجْرتها، وكلُّ شيء خرج أيضًا فقد ظهر.
و"الْحُجْرة": الدار، وكلُّ ما أحاط به حائط، فهو حجرة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
والحديث يدلّ على استحباب تعجيل صلاة العصر في أول وقتها، وهذا هو الذي فهمته عائشة رضي الله عنها، وكذا الراوي عنها عروة، واحتَجَّ به على عمر بن عبد العزيز في تأخيره صلاة العصر، وشَذَّ الطحاويّ، فقال: لا دلالة فيه على التعجيل؛ لاحتمال أن الحجرة كانت قصيرة الجدار، فلم تكن الشمس تحتجب عنها إلا بقرب غروبها، فيدلّ على التأخير، لا على التعجيل.
وتُعُقِّب بأن الذي ذكره من الاحتمال إنما يُتَصَوَّر مع اتساع الحجرة، وقد عُرِف بالاستفاضة والمشاهدة أن حجر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تكن متسعة، ولا يكون ضوء الشمس باقيًا في قعر الحجرة الصغيرة إلا والشمس قائمةً مرتفعةً، وإلا متى مالت جدًّا ارتفع ضوءها عن قاع الحجرة، ولو كانت الجدر قصيرة.
قال النوويّ رحمه الله: كانت الحجرة ضَيِّقة العرصة قصيرة الجدار بحيث كان طول جدارها أقل من مسافة العرصة بشيء يسير، فإذا صار ظل الجدار مثله كانت الشمس بعد في أواخر العرصة. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 2/ 31 - 32.
(2)
"الاستذكار" 1/ 46، 47.
(3)
راجع: "الفتح" 2/ 32.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1384 و 1385 و 1386](611)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(545 و 546 و 555)، و (أبو داود) في "الصلاة"(407)، و (الترمذيّ) فيها (159)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(505)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(683)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 5)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1/ 548)، و (الحميديّ) في "مسنده"(170)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 326)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 37 و 85 و 204)(683)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(1521)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(999)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1361 و 1362)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب التعجيل بصلاة العصر، وهو مذهب جمهور أهل العلم، كما يأتي قريبًا، قال الشافعيّ رحمه الله: وهذا من أبين ما رُوي في أول الوقت؛ لأنَّ حُجَر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في موضع منخفض من المدينة، وليست بالواسعة، وذلك أقرب لها من أن ترتفع الشمس منها في أول وقت العصر، وسيأتي تمام البحث في هذا قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): ما ذكره ابن عبد البرّ رحمه الله، قال: فيه دليل على قِصَر بنيانهم وحيطانهم؛ لأنَّ الحديث إنما قُصِد به تعجيل العصر، وذلك إنما يكون مع قِصَر الحيطان، ثمَّ ذَكَر عن الحسن البصريّ، أنَّه قال: كنت أدخل بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا محتلم، فأنال سقفها بيدي، وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهد، والتقلّل في متاع الدنيا بحيث يصبر على بيت ضيّق المرافق؛ لأنَّ الدنيا متاع قليلٌ، سريعة الزوال، قال اللَّه تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] الآية، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "طرح التثريب" 2/ 168.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1385]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا، لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ فِي حُجْرَتِهَا).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا) على حذف مضاف، أي وضوء الشمس في حجرتها.
وقوله: (لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ فِي حُجْرَتِهَا) أي لم يظهر الظلّ في داخل حُجْرة عائشة رضي الله عنها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1386]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ وَاقِعَةٌ فِي حُجْرَتِي).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمَّد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل باب.
2 -
(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(هِشَام) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [5](ت 145)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
والباقون تقدّموا قبله.
وقولها: (وَالشَّمْسُ وَاقِعَةٌ فِي حُجْرَتِي) هو على حذف مضاف، أي ضوء
الشمس ظاهر في حجرتي، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1387]
(612) - (حَدَّثَنَا
(1)
أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَجْرَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ قَرْنُ الشَّمْسِ الْأَوَّلُ، ثُمَّ إِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْعَصْرُ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْمَغْرِبَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ الشَّفَقُ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وسكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
6 -
(أَبُو أَيُّوبَ) الْمَرَاغيّ الأزديّ الْعَتَكِيّ البصريّ، اسمه يحيى، ويقال: حبيب بن مالك، يقال: إن الْمَرَاغَ: قبيلة من الأزد، ويقال: موضع بناحية عُمَان، ثقةٌ [3].
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
رَوَى عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وسَمُرة بن جُنْدب، وأبي هريرة، وابن عباس، وجُويرية بنت الحارث.
ورَوَى عنه ثابت البنانيّ، وقتادة، وأبو عمران الْجَوْنيّ، وأسلم العجليّ، وأبو الواصل عبد الحميد بن واصل.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد في الطبقة الثانية: كان ثقةً مأمونًا.
وقال أبو حاتم: مات في ولاية الحجاج على العراق، وقال خليفة: مات بعد الثمانين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (612) وكرره في هذا الباب أربع مرّات، و (2612):"إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه. . ."، وكررّه ثلاث مرّات.
7 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد بن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمَّد، أو أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ليالي الحرّة بالطائف على الأصحّ (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنَّه من سداسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي غسّان، فانفرد به هو وأبو داود، وأبي أيوب الأزديّ، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنَّه مسلسل بالبصريين.
4 -
(ومنها): أن شيخه ابن المثنّى أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: قتادة، عن أبي أيوب الأزديّ.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة المذكورين في قول السيوطيّ في "ألفية الحديث":
وَالْبَحْرُ وَابْنَا عُمَرٍ وَعَمْرِو
…
وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي اشْتِهَارٍ يَجْرِي
دُونَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَهُمْ عَبَادِلَهْ
…
وَغَلَّطُوا مَنْ غَيْرَ هَذَا مَال لَهْ
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله عنهما (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَجْرَ) أي صلاة الفجر (فَإِنَّهُ) أي ذلك الوقت (وَقْتٌ) أي وقت صالح للصلاة فيه، ولا تُمنع فيه الصلاة.
قال الأبيّ رحمه الله: ليس في الحديث بيان لأول أوقات هذه الصلوات المذكورة، وإنما فيه بيان أواخرها، فأول وقت الصبح طلوع الفجر، وهو البياض المنتشر في الأُفُق من القبلة إلى الشمال، لا المنتشر من المشرق إلى المغرب؛ لأنَّ ذلك هو الفجر الكاذب.
[فإن قلت]: القياس أن يكون هو المعتبر؛ لأنَّ الفجر هو البياض السابق بين يدي طلوع الشمس، وهي إنما تطلع من المشرق صاعدةً إلى المغرب، فقياس فجرها أن يكون كذلك.
[قلت]: الفجر الصادق هو البياض السابق بين يدي طلوعها، وهو أيضًا إنما يطلع من المشرق صاعدًا إلى المغرب، لكن لاتّساع دائرته يُتوهَّم أنَّه من القبلة إلى الشمال، وقلنا: لاتّساع دائرته؛ لأنَّ الدوائر ثلاثةٌ: دائرة قُرْص الشمس، ودائرة الحمرة المحيطة بها، ودائرة البياض المحدق بالحمرة المذكورة، وهو السابق بين يدي طلوع الشمس المسمّى بالفجر. انتهى
(1)
.
(إِلَى أَنْ يَطْلُعَ) بضمّ اللام، من باب قعد (قَرْنُ الشَّمْسِ الْأَوَّلُ) أي قوسها الأعلى، وقال الأبّيّ رحمه الله: ما بعد "إلى" هنا غير داخل؛ للقرينة، قال: وقرن الشمس الأولُ: هو أول ما يبدو منها، واحترز به عما يلي الأرض، وهو حجة على الإصطخريّ في قوله: آخر وقتها الإسفار البَيِّن
(2)
.
وقال النوويّ: معنى قوله: "فإنَّه وقتٌ": أي وقتٌ لأداء الصبح، فإذا طلعت الشمس فقد خرج وقت الأداء، وصارت قضاءً، ويجوز قضاؤها في كل وقت.
(1)
"شرح الأبيّ" 2/ 297.
(2)
"شرح الأبيّ" 2/ 297 - 298.
وفي هذا الحديث دليل للجمهور أن وقت الأداء يمتدّ إلى طلوع الشمس، قال أبو سعيد الإصطخريّ من أصحابنا: إذا أسفر الفجر صارت قضاءً بعده؛ لأنَّ جبريل عليه السلام صلّى في اليوم الثاني حين أسفر، وقال: الوقت ما بين هذين.
ودليل الجمهور هذا الحديث، قالوا: وحديث جبريل عليه السلام لبيان وقت الاختيار، لا لاستيعاب وقت الجواز؛ للجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة في امتداد الوقت إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، إلا الصبح، وهذا التأويل أولى من قول من يقول: إن هذه الأحاديث ناسخة لحديث جبريل عليه السلام؛ لأنَّ النسخ لا يصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل، ولم نَعْجِز في هذه المسألة، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
(ثُمَّ إِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ) أي صلاته (فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْعَصْرُ) أي يدخل وقت صلاة العصر.
قال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "فإنَّه وقتٌ": أي وقت لأداء الظهر، وفيه دليل للشافعيّ رحمه الله وللأكثرين أنَّه لا اشتراك بين وقت الظهر ووقت العصر، بل متى خرج وقت الظهر بمصير ظل الشيء مثله غير الظل الذي يكون عند الزوال دخل وقت العصر، وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر.
وقال مالك رحمه الله، وطائفة من العلماء: إذا صار ظل كل شيء مثله دخل وقت العصر، ولم يخرج وقت الظهر، بل يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالح للظهر والعصر أداءً، واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام:"صلّى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلّى بي العصر في اليوم الأوّل حين صار ظل كل شيء مثله"، فظاهره اشتراكهما في قدر أربع ركعات.
واحتجّ الشافعيّ، والأكثرون بظاهر الحديث الذي نحن فيه، وأجابوا عن حديث جبريل عليه السلام بأن معناه: فرغ من الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، وشرع في العصر في اليوم الأوّل حين صار ظل كل شيء مثله، فلا اشتراك بينهما، فهذا التأويل متعين؛ للجمع بين الأحاديث، وأنه إذا حُمِل على
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 109.
الاشتراك يكون آخر وقت الظهر مجهولًا؛ لأنه إذا ابتدأ بها حين صار ظل كل شيء مثله، لم يعلم متى فرغ منها، وحينئذ يكون آخر وقت الظهر مجهولًا، ولا يحصل بيان حدود الأوقات، وإذا حمل على ما تأولناه حصل معرفة آخر الوقت، وانتظمت الأحاديث على اتفاق، وباللَّه التوفيق. انتهى.
(فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ) أي صلاته (فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ) أي تتغيّر (الشَّمْسُ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: فإنَّه وقت لأدائها بلا كراهة، فإذا اصفرّت صار وقت كراهة، وتكون أيضًا أداءً حتى تغرب الشمس؛ للحديث السابق:"ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر".
وفي هذا الحديث ردٌّ على أبي سعيد الإصطخريّ في قوله: إذا صار ظل الشيء مثليه صارت العصر قضاءً، وقد تقدم قريبًا الاستدلال عليه.
قال أصحابنا -رحمهم اللَّه تعالى-: للعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة، واختيار، وجواز بلا كراهة، وجواز مع كراهة، ووقت عذر، فأما وقت الفضيلة فأول وقتها، ووقت الاختيار يمتدّ إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ووقت الجواز إلى الاصفرار، ووقت الجواز مع الكراهة حالة الاصفرار إلى الغروب، ووقت العذر وهو وقت الظهر في حقّ من يَجْمَع بين الظهر والعصر لسفر أو مطر، ويكون العصر في هذه الأوقات الخمسة أداءً، فإذا فاتت كلها بغروب الشمس صارت قضاءً، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ. (فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْمَغْرِبَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ الشَّفَقُ) أي يغيب من الأفق، والمراد بالشفق هو الأحمر على الأصحّ، وسيأتي تمام البحث في اختلاف العلماء في معنى الشفق في المسألة الحادية عشرة -إن شاء اللَّه تعالى-.
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث وما بعده من الأحاديث صرائح في أن وقت المغرب يمتدّ إلى غروب الشفق، وهذا أحد القولين في مذهبنا، وهو ضعيف عند جمهور نقلة مذهبنا، وقالوا: الصحيح أنَّه ليس لها إلا وقت واحدٌ، وهو عقب غروب الشمس بقدر ما يتطهر، ويستر عورته، ويؤذِّن ويقيم، فإن أخر الدخول في الصلاة عن هذا الوقت أثم، وصارت قضاءً.
وذهب المحققون من أصحابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق، وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك، ولا يأثم بتأخيرها عن
أول الوقت، وهذا هو الصحيح، أو الصواب الذي لا يجوز غيره.
والجواب عن حديث جبريل عليه السلام حين صلّى المغرب في اليومين في وقت واحد حين غربت الشمس من ثلاثة أوجه:
[أحدها]: أنَّه اقتصر على بيان وقت الاختيار، ولم يستوعب وقت الجواز، وهذا جارٍ في كل الصلوات سوى الظهر.
[والثاني]: أنَّه متقدِّم في أول الأمر بمكة، وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أواخر الأمر بالمدينة، فوجب اعتمادها.
[والثالث]: أن هذه الأحاديث أصح إسنادًا من حديث بيان جبريل عليه السلام، فوجب تقديمها، فهذا مختصر ما يتعلق بوقت المغرب.
قال: وقد بسطت في "شرح المهذب" دلائله، والجواب عن ما يوهم خلاف الصحيح، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
(فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ، فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: وقت لأدائها اختيارًا أما وقت الجواز فيمتدّ إلى طلوع الفجر الثاني؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه الذي ذكره مسلم بعد هذا في "باب من نسي صلاةً، أو نام عنها": "أنه ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".
وقال الإصطخريّ رحمه الله: إذا ذهب نصف الليل صارت قضاءً، ودليل الجمهور حديث أبي قتادة رضي الله عنه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما ذهب إليه الإصطخريّ: هو الحقّ، وسيأتي البحث فيه مستوفًى قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1387 و 1388 و 1389 و 1390 و 1391
و 1392] (612)، و (أبو داود) في "الصلاة"(396)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(522)، و"الكبرى"(1500)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2249)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 319)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 210 و 213 و 223)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(326)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(1473)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 150)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1025 و 1026 و 1027)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1363 و 1364 و 1365 و 1366 و 1367 و 1368)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 365 و 366 و 367 و 371 و 374 و 378)، و (ابن حزم) في "المحلَّى"(3/ 166)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان آخر وقت صلاة الفجر، وهو طلوع قرن الشمس الأوّل، وهذا بالإجماع، إلا قولًا لا يعتدّ به، كما يأتي في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان آخر وقت الظهر، وأنه لا فصل بين الظهر والعصر، ولا اشتراك بينهما على الراجح، كما سيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-.
3 -
(ومنها): بيان آخر وقت العصر، وهو اصفرار الشمس، وهذا هو وقت الاختيار، على الراجح، كما سيأتي تحقيقه أيضًا.
4 -
(ومنها): بيان آخر وقت المغرب، وهو غروب الشفق الأحمر، وهذا هو القول الصحيح، كما سيأتي تحقيقه أيضًا -إن شاء اللَّه تعالى-.
5 -
(ومنها): بيان آخر وقت العشاء، وهو نصف الليل، على القول الصحيح، وخالف في ذلك الجمهور، وسيأتي تحقيقه أيضًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في وقت صلاة الفجر:
قال النوويّ رحمه الله: صلاة الصبح من صلوات النهار، وأول النهار طلوع الفجر الثاني، هذا مذهبنا، وبه قال العلماء كافّة، إلا ما حكاه الشيخ أبو حامد في تعليقه عن قوم أنهم قالوا: ما بين طلوع الشمس والفجر، لا من الليل ولا
من النهار، بل زمن مستقل، فاصل بينهما، قالوا: وصلاة الصبح لا في الليل، ولا في النهار.
وحَكَى الشيخ أبو حامد أيضًا عن حذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري، وأبي مِجْلَزٍ، والأعمش أنهم قالوا: آخر الليل طلوع الشمس، وهو أول النهار، قالوا: وصلاة الصبح من صلوات الليل، قالوا: وللصائم أن يأكل حتى تطلع الشمس، هكذا نقله أبو حامد عن هؤلاء، ولا أظنه يصح عنهم.
وقال القاضي أبو الطيب، وصاحب "الشامل": وحُكي عن الأعمش أنَّه قال: هي من صلوات الليل، وإن ما قبل طلوع الشمس من الليل؛ يحل فيه الأكل للصائم، قالا: وهذه الحكاية بعيد صحتها مع ظهور تحريم الأكل بطلوع الفجر في كل عصر مع ظاهر القرآن، فإن احتُجَّ له بقوله تعالى:{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] وآية النهار هي الشمس، فيكون النهار من طلوعها، وبقول أمية بن أبي الصلت [من الكامل]:
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ
…
حَمْرَاءَ تُبْصَرُ لَوْنُهَا تَتَوَقَّدُ
فالجواب: أنَّه يثبت كونه من النهار بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وبإجماع أهل الأعصار على تحريم الطعام والشراب بطلوع الفجر.
وثبت في حديث جبريل عليه السلام أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثمَّ صلّى الفجر حين برق الفجر، وحَرُمَ الطعامُ على الصائم"، وهو حديث صحيح، كما سبق.
وفي "الصحيحين" أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالًا يُؤَذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، والليل لا يصح الصوم فيه بإجماع المسلمين.
وأما الجواب عن الآية التي احتج له بها، فليس فيها دليل؛ لأنَّ اللَّه تعالى أخبر أن الشمس آية للنهار، ولم يَنْفِ كون غيرها آية، فإذا قامت الدلائل على أن هذا الوقت من النهار وجب العمل بها، ولأن الآية العلامة، ولا يلزم أن يقارن جميع الشيء، كما أن القمر آية الليل، ولا يلزم مقارنته لجميع الليل.
وأما الشِّعْر، فقد نقل الخليل بن أحمد إمام اللغة أن النهار هو الضياء
الذي بين طلوع الفجر، وغروب الشمس، وحينئذ يحمل قول الشاعر أنَّه أراد قريب آخر كل ليلة، لا آخرها حقيقة.
[فإن قيل]: فقد رُويَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صلاة النهار عَجْمَاءُ".
[قلنا]: قال الدارقطني، وغيره من الحفاظ: هذا ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُرْوَ عنه، وإنما هو قول بعض الفقهاء، قال الشيخ أبو حامد: وسألت عنه أبا الحسن الدارقطنيّ، فقال: لا أعرفه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحًا، ولا فاسدًا، مع أن المراد معظم صلوات النهار، ولهذا يُجْهَر في الجمعة والعيد، واللَّه أعلم.
واحتج الأصحاب على من قال: إن ما بين الفجر والشمس، لا من الليل ولا من النهار، بقول اللَّه تعالى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [فاطر: 13]، فَدَلَّ على أنَّه لا فاصل بينهما، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال الإمام النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا -يعني الشافعية-: الفجر فجران:
أحدهما: يُسَمَّى الفجر الأوّل، والفجر الكاذب، والآخر يسمى الفجر الثاني، والفجر الصادق؛ فالفجر الأوّل يَطْلُع مستطيلًا نحو السماء، كذَنَب السِّرْحَان -وهو الذئب- ثمَّ يغيب ذلك ساعةً، ثمَّ يطلع الفجر الثاني الصادق مستطيرًا -بالراء- أي منتشرًا عرضًا في الأفق.
قال أصحابنا: والأحكام كلها متعلقة بالفجر الثاني؛ فيه يدخل وقت صلاة الصبح، ويخرج وقت العشاء، ويدخل في الصوم، ويحرم به الطعام، والشراب على الصائم، وبه ينقضي الليل، ويدخل النهار، ولا يتعلق بالفجر الأوّل شيء من الأحكام بإجماع المسلمين، قال صاحب "الشامل": سمي الأوّل كاذبًا؛ لأنه يضيء ثمَّ يَسْوَدُّ ويذهب، وسمي الثاني صادقًا؛ لأنه صَدَقَ عن الصبح، وبَيَّنَهُ.
ومما يُسْتَدَلُّ به من الحديث للفجرين حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن
(1)
"المجموع" 3/ 45 - 46.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يمنعن أحدكم -أو واحدًا منكم- أذان بلال من سحوره، فإنَّه يؤذن -أو ينادي- بليل، ليَرْجِعَ قائمكم، ولينتبه نائمكم، وليس أن يقول الفجر -أو الصبح- هكذا -وقال بأصابعه، ورفعها إلى فوق، وطأطأها إلى أسفل- حتى يقول هكذا؛ وقال بسبابتيه، إحداهما فوق الأخرى، ثمَّ مَدَّهما عن يمينه وشماله"، رواه البخاري ومسلم.
وعن سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال، ولا هذا العارض، لعمود الصبح، حتى يستطير"، رواه مسلم، ورواه الترمذيّ عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق"، قال الترمذي: حديث حسن.
وعن طلق بن عليّ رضي الله عنه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا، واشربوا، ولا يَهِيدَنَّكُم الساطع المصعد، وكلوا، واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، قال: والعمل عليه عند أهل العلم أنَّه لا يحرم الأكل والشرب على الصائم حتى يكون الفجر المعترض، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في أقوال أهل العلم في وقت صلاة الظهر:
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: أجمع علماء المسلمين في كل عصر، وفي كل مصر بلغنا عنهم أن أول وقت الظهر زوال الشمس عن كَبِد السماء، ووسط الْفَلَك إذا استُوقِن ذلك في الأرض بالتفقد والتأمل، وذلك ابتداء زيادة الظل بعد تناهي نقصانه في الشتاء والصيف جميعًا، وإن كان الظل مخالفًا في الصيف له في الشتاء، وهذا إجماع من علماء المسلمين كلهم في أول وقت الظهر، فإذا تبيّن زوال الشمس بما ذكرنا، أو بغيره فقد حَلّ وقت الظهر، وذلك ما لا خلاف فيه، وذلك تفسير لقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، ودلوكها ميلها عند أكثر العلماء، ومنهم من قال: غروبها، واللغة محتملة للقولين، والأول أكثر. انتهى
(2)
.
(1)
"المجموع" 3/ 44 - 45.
(2)
"التمهيد" 7/ 70.
وقال النوويّ رحمه الله: أجمعت الأمة على أن أول وقت الظهر زوال الشمس، نقل الإجماع فيه خلائق. ودليله الأحاديث الصحيحة، المذكورة في هذا الباب وغيره، وكلها أحاديث صحيحة.
وأما آخر وقت الظهر فهو إذا صار ظل الشيء مثله، غير ظل الزوال الذي يكون له عند الزوال، وإذا خرج هذا دخل وقت العصر متصلًا به، ولا اشتراك بينهما، قال: هذا مذهبنا -يعني الشافعية- وبه قال الأوزاعيّ، والثوريّ، والليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد.
وقال عطاء، وطاوس: إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر، وما بعده وقت للظهر، والعصر على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس.
وقال إسحاق ابن راهويه، وأبو ثور، والمزنيّ، وابن جرير: إذا صار ظله مثله فقدر أربع ركعات بعده وقت للظهر والعصر، ثمَّ يتمحض الوقت للعصر.
وقال مالك: إذا صار ظله مثله فهو آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر بالاشتراك، فإذا زاد على المثل زيادة بيّنة خرج وقت الظهر، وعن مالك رواية: أن وقت الظهر يمتد إلى غروب الشمس، وقال أبو حنيفة: يبقى وقت الظهر حتى يصير الظل مثلين، فإذا زاد على ذلك يسيرًا كان أول وقت العصر.
قال أبو الطيب: قال ابن المنذر: لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة.
واحتجَّ من قال بالاشتراك بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود وغيره، ففيه قال:"فصلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى فيه العصر في اليوم الأوّل"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، قال:"جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر" رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم:"جمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف، ولا مطر"، فدل على اشتراكهما، قالوا: ولأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني، وللاختيار، فينبغي أن يزاد وقت الظهر.
واحتج القائلون بعدم الاشتراك بحديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم الفجر، فإنَّه وقت إلى أن يطلع قرن الشيطان الأوّل، ثمَّ إذا صليتم الظهر، فإنَّه وقت إلى أن تحضر العصر، فإذا صليتم العصر، فإنَّه وقت إلى أن تصفرّ الشمس، فإذا صليتم المغرب، فإنَّه وقت إلى
أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء، فإنه وقت إلى نصف الليل" رواه مسلم من طرُق كثيرة، وفي بعضها: "وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر".
واحتجّوا أيضًا بحديث أبي موسى رضي الله عنه الآتي في هذا الباب، قال فيه؛ في صلاة الظهر في اليوم الثاني:"ثمَّ أخر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس"، ثمَّ قال في آخره:"الوقت ما بين هذين"، وهذا نصّ في أن وقت الظهر لا يمتدّ وراء ذلك، فيلزم منه عدم الاشتراك.
وبحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"، رواه مسلم في جملة حديث طويل.
وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "صلّى بي العصر في اليوم الأول حين صار ظل الشيء مثله، وصلّى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله" بأن معناه بدأ بالعصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، وفرغ من الظهر في اليوم الثاني حين صار الظل مثله، وبهذا التفسير يحصل بيان أول وقت العصر، وآخر وقت الظهر، ولو حمل على الاشتراك لم يحصل تحديد آخر وقت الظهر، ولَفَات بيانه، وقد قال في آخر الحديث:"الوقت بين هذين".
قال الشيخ أبو حامد رحمه الله: ولأن حقيقة الكلام أن يكون فرغ من الصلاتين حين صار ظل الشيء مثله فمنعنا الإجماع من إرادة ذلك في العصر، فتأولناها على أنه ابتدأ حينئذ، وبقيت الظهر على حقيقته، ونظير ما تأولنا عليه لفظ الحديث قول اللَّه تعالى:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231]، وقال تعالى:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] المراد بالبلوغ الأول مقاربته، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل، ويقال: بلغ المسافر البلد: إذا انتهى إليه، وإن لم يدخله، وبلغه: إذا دخله.
وأجابوا عن حديث الجمع بالمدينة من وجهين:
أحدهما: أنه محمول على أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها، فصار صورته صورة جمع، وليس بجمع، وعلى هذا التأويل حمله
إمامان تابعيان من رواته: أبو الشعثاء جابر بن زيد، وعمرو بن دينار، كما في "صحيح مسلم" وغيره.
الثاني: أنه جمع بعذر: إما بمطر، وإما بمرض، عند من يقول به.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: في هذين التأويلين نظر لا يخفى، وسنحققه عند شرح هذا الحديث -إن شاء اللَّه تعالى-.
قال النوويّ رحمه الله: وأما قولهم: زيد في الصلاة على بيان جبريل، فتلك الزيادات ثبتت بنصوص، ولا نصّ هنا في الزيادة، ولا مدخل للقياس.
واحتُجَّ لأبي حنيفة بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، فعجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثمَّ أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملًا، قال اللَّه تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء"، رواه البخاري، ومسلم.
قالوا: فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر، ومن حين يصير ظل الشيء مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار، وليس بأقل من وقت الظهر، بل هو مثله. واحتجوا بأقيسة، ومناسبات لا أصل لها، ولا مدخل لها في الأوقات.
قال النوويّ رحمه الله: واحتج الجمهور عليهم بحديث ابن عباس رضي الله عنهما يعني حديث جبريل عليه السلام فقال إمام الحرمين: عمدتنا حديث جبريل، ولا حجة للمخالف إلا حديث ساقه صلى الله عليه وسلم مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسعات والمجاز، ثمَّ التأويل متطرق إلى حديثهم، ولا يتطرق إلى ما اعتمدناه تأويل، ولا مطمع في القياس من الجانبين.
وأجابوا عن حديث ابن عمر بأربعة أجوبة:
أحدها: هذا الذي ذكره إمام الحرمين.
الثاني: أن المراد بقولهم: أكثر عملًا: أن مجموع عمل الفريقين أكثر.
الثالث: أن ما بعد صلاة العصر مع التأهب لها بالأذان، والإقامة، والطهارة، وصلاة السنة، أقل مما بين العصر ونصف النهار.
الرابع: قال الإصطخري: كثرة العمل لا يلزم منها كثرة الزمان؛ فقد يعمل الإنسان في زمن قصير أكثر مما يعمل غيره في زمن مثله، أو أطول منه. انتهى المقصود من كلام النوويّ رحمه الله ببعض تصرف
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن مما تقدم من الأدلة الكثيرة ترجيح مذهب الجمهور، وهو أن آخر وقت الظهر صيرورة ظل كل شيء مثله، وأنه لا اشتراك بين الظهر والعصر في الوقت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في أول وقت صلاة العصر:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في أول وقت العصر، فقالت طائفة: أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، كذلك قال مالك، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وحُجَّتهم في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين. . ." الحديث.
ثمَّ اختلفوا بعد قصدهم القول بظاهر حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فقالت فرقة منهم: أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، وهو آخر وقت الظهر، فلو أن رجلين قاما في هذا الوقت، فيصلي الواحد الظهر، ويصلي الآخر العصر كانا مصليين الصلاتين في وقتهما، قال بهذا القول إسحاق، وحكي عن ابن المبارك، أنه قال به، قال: وقيل لابن المبارك: كيف يكون وقتًا واحدًا للصلاتين من غير سفر ولا عذر؟ قال ابن المبارك: أيسوؤك ذلك؟ إنما جاء به جبريل هكذا، ولو جاء وقتًا واحدًا لثلاث صلوات، لجعلناه لثلاث.
وقالت فرقة: لا يفوت الظهر حتى يجاوز ظل كل شيء مثله، فإذا جاوزه
(1)
"المجموع" 3/ 21 - 22.
فقد فات، ووقت العصر إذا جاوز كل شيء مثله، وذلك حين ينفصل من آخر وقت الظهر، هذا قول الشافعيّ.
وقد حُكي عن ربيعة قولٌ ثالثٌ، وهو أن وقت الظهر والعصر في الحضر والسفر إذا زالت الشمس.
قال ابن المنذر رحمه الله: وقول الشافعيّ، صحيح تدلّ عليه الأخبار الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، من ذلك حديث عبد اللَّه بن عمرو قوله:"وقتُ الظهر ما لم يحضر العصر"، وحديث أبي قتادة:"إنما التفريط على من لم يصل صلاة حتى يدخل وقت الأخرى".
وفي المسألة قول رابع، وهو أن أول وقت العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال، ومن صلّى قبل ذلك لم تجزه صلاته، هذا قول النعمان، وهو قولٌ خالف صاحبه الأخبار الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والنظرُ غير دال عليه، ولا نعلم أحدًا سبق قائل هذا القول إلى مقالته، وعَدَلَ أصحابه عن القول به، فبقي قوله منفردًا لا معنى له. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح ما ذهب إليه الشافعي، ومن تبعه من أن أول وقت العصر إذا جاوز ظلّ كل شيء مثله، وذلك حين ينفصل من آخر وقت الظهر؛ لصحّة الأحاديث بذلك، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في آخر وقت صلاة العصر:
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختلفوا في آخر وقت العصر، فقال مالك: آخر وقت العصر أن يكون ظل كل شيء مثليه، بعد المثل الذي زالت عليه الشمس، وهذا محمول عندنا من قوله على وقت الاختيار، وما دامت الشمس بيضاء نقية، فهو وقت مختار لصلاة العصر عنده، وعند سائر العلماء.
وقد أجمع العلماء على أن من صلّى العصر، والشمس بيضاء نقية لم
(1)
"الأوسط" 2/ 329 - 330.
تدخلها صفرة فقد صلاها في وقتها المختار، وفي ذلك دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب.
وقال الثوريّ رحمه الله: إن صلاها، ولم تتغير الشمس، فقد أجزأه، وأحب إلي أن يصليها إذا كان ظله مثله إلى أن يكون مثليه.
وقال الشافعيّ رحمه الله: أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان، ومن أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف، أو قدر ذلك في الشتاء فقد فاته وقت الاختيار، ولا يجوز أن يقال: فاته وقت العصر مطلقًا، كما جاز ذلك على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله، قال: وإنما قلت ذلك، لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدركها".
قال أبو عمر: إنما جعل الشافعيّ وقت الاختيار؛ لحديث إمامة جبريل، وحديث العلاء، عن أنس رضي الله عنه:"تلك صلاة المنافقين"، ونحوها من الآثار، ولم يقطع بخروج وقتها؛ لحديث أبي هريرة الذي ذكره، ومذهب مالك نحو هذا.
وقد كان يلزم الشافعيّ أن لا يشرك بين الظهر والعصر في الوقت لأصحاب الضرورات، لخروج وقت الظهر عنده بكمال المثل، ولكن وقت العصر عنده وقت رفاهية ومقام لا يتعدى ما جاء فيه، وأما أصحاب الضرورات فأوقاتهم كأوقات المسافر، لعذر السفر، وضرورته، والسفر عنده تشترك فيه صلاتا النهار، وصلاتا الليل.
وأما مالك فقد روى عنه ابن وهب وغيره أن الظهر والعصر آخر وقتهما غروب الشمس، وهو قول ابن عباس، وعكرمة مطلقًا، ورواية ابن وهب عن مالك لذلك محمولة عند أصحابه لأهل الضرورات، كالمغمى عليه، ومن أشبهه، وروى ابن القاسم عن مالك: آخر وقت العصر اصفرار الشمس.
وقال أبو يوسف، ومحمد: وقت العصر إذا كان ظل كل شيء قامته، فيزيد على القامة إلى أن تتغير الشمس.
وقال أبو ثور: أول وقتها إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الزوال، وزاد على الظل زيادة تبيّن إلى أن تصفر الشمس، وهو قول أحمد بن حنبل، قال:
آخر وقت العصر ما لم تصفر الشمس. وحجة من قال بهذا القول: حديث عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"وقت العصر ما لم تصفر الشمس"، رواه قتادة، عن أبي أيوب الأزديّ، عنه.
وقال إسحاق ابن راهويه: آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب، وهو قول داود لكل الناس، معذور، وغير معذور، صاحب ضرورة، وصاحب رفاهية، إلا أن الأفضل عنده، وعند إسحاق أيضًا أول الوقت.
وقال الأوزاعي: إن ركع ركعة قبل غروبها، وركعة بعد غروبها فقد أدركها.
وحجتهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر. . ." الحديث. انتهى خلاصة ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق من الأقوال وأدلّتها أن أرجحها هو قول من قال: إن آخر وقت العصر غروب الشمس، فمن أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر، وإنما كان هذا أرجح؛ لأنَّ الأدلة تجتمع به، فيُحْمَل حديث جبريل:"الوقت ما بين الوقتين"، وحديث:"ووقت العصر ما لم تصفر الشمس" على بيان وقت الاختيار، لا لاستيعاب وقت الاضطرار والجواز، وحديث:"من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر" على بيان وقت الاضطرار والجواز، وهذا الجمع هو الأولى من قول من قال: إن حديث جبريل منسوخ؛ لأنَّ النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع، وكذا لا يصار إلى الترجيح، مع إمكانه، ويؤيد هذا الجمع، حديث:"تلك صلاة المنافق"، فمن كان معذورًا كان الوقت في حقه ممتدًا إلى الغروب، ومن كان غير معذور كان الوقت له إلى المثلين، وما دامت الشمس بيضاء نقية، فإن أخرها إلى الاصفرار، وما بعده كانت صلاته صلاة المنافق المذكورة في الحديث، أفاده الشوكانيّ رحمه الله
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"التمهيد" 8/ 76 - 79.
(2)
"نيل الأوطار" 2/ 34 - 35.
(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في وقت صلاة المغرب:
(اعلم): أنهم اختلفوا في المغرب هل لها وقت مُوَسَّع كسائر الصلوات، أو لا؟ فذهب قوم إلى أن وقتها واحد، غير موسع، وهذا هو أشهر الروايات عن مالك، والشافعي.
وذهب قوم إلى أن وقتها موسع، وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وقد روي هذا القول عن مالك، والشافعي.
وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل عليه السلام في ذلك لحديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلّى المغرب في اليومين في وقت واحد، وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو قال:"ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق"، فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتًا واحدًا، ومن رجح حديث عبد اللَّه جعل لها وقتًا موسعًا، وحديث عبد اللَّه أخرجه مسلم، ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل، وفي معنى حديث عبد اللَّه بن عمرو حديثُ بريدة الأسلمي، أخرجه مسلم.
قالوا: حديث بريدة أولى؛ لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات، وحديثُ جبريل كان في أول الفرض بمكة، أفاده ابن رُشد رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وفي قوله: "كان بمكة" نظر، يأتي تحقيقه قريبًا.
وقال النوويّ رحمه الله: أما حكم المسألة، فأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وتكامل غروبها، وهذا لا خلاف فيه، نقل ابن المنذر، وخلائق لا يحصون الإجماعَ فيه، قال أصحابنا: والاعتبار سقوط قرصها بكماله، وذلك ظاهر في الصحراء، قال الشيخ أبو حامد، والأصحاب: ولا نَظَرَ بعد تكامل الغروب إلى بقاء شعاعها، بل يدخل وقتها مع بقائه، وأما في العمران، وقُلَلِ الجبال، فالاعتبار بأن لا يُرَى شيء من شعاعها على الجدران، وقُلَلِ الجبال.
وأما آخر وقت المغرب فالمشهور في مذهبنا -يعني الشافعية- أن لها
(1)
"بداية المجتهد" 1/ 95 - 96.
وقتًا واحدًا، وهو أول الوقت، والصحيح أن لها وقتين يمتدّ ثانيهما إلى غروب الشفق.
وممن قال بالوقتين أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، وداود، وابن المنذر. وممن قال بوقت واحد الأوزاعيّ، ونقله أبو علي السنجي في "شرح التلخيص" عن أبي يوسف، ومحمد، وأكثر العلماء.
وعن مالك ثلاث روايات:
الصحيحة منها، وهي المشهورة في كتب أصحابه، وأصحابنا أنه ليس لها إلا وقت واحد، ولم ينقل ابن المنذر عنه غيرها.
والثانية: وقتان إلى مغيب الشفق.
والثالثة: يبقى إلى طلوع الفجر، ونقله ابن المنذر عن طاوس، وعطاء.
قال رحمه الله: نصّ الشافعيّ رحمه الله في كتبه المشهورة -الجديدة والقديمة- أنه ليس لها إلا وقت واحد، وهو أول الوقت، ونقل أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين، الثاني منهما ينتهي إلى مغيب الشفق، هكذا نقله عنه القاضي أبو الطيب، وغيره.
قال القاضي: والذي نصَّ عليه الشافعي في كتبه أنه ليس لها إلا وقت واحد، وهو أول الوقت، وقال صاحب "الحاوي": حَكَى أبو ثور عن الشافعي في القديم: أن لها وقتين، يمتدّ ثانيهما إلى مغيب الشفق، وقال: فمن أصحاب أبي ثور من جعله قولًا ثانيًا، قال: وأنكره جمهورهم؛ لأنَّ الزعفراني، وهو أثبت أصحاب مذهب الشافعي القديم حكَى عن الشافعي أن للمغرب وقتًا واحدًا.
واختلف أصحابنا الْمُصَنِّفُونَ في المسألة على طريقين:
أحدهما: القطع بأن لها وقتًا واحدًا فقط، وبهذا قطع صاحب "المهذب"، والمحاملي، وآخرون من العراقيين، ونقله صاحب "الحاوي" عن الجمهور.
والثاني: على قولين: أحدهما هذا، والثاني يمتدّ إلى مغيب الشفق، وله أن يبدأ بالصلاة في كل وقت من هذا الزمان، وبهذا الطريق قطع أبو إسحاق في "التنبيه"، وجماعات من العراقيين، وجماهير الخراسانيين، وهو الصحيح،
لأنَّ أبا ثور ثقة إمام، ونقل الثقة مقبول، ولا يضره كون غيره لم ينقله، ولا كونه لم يوجد في كتب الشافعي، وهذا مما لا شك فيه.
فعلى هذا الطريق اختُلِف في أصح القولين، فصحح جمهور الشافعية الأصحاب القول الجديد، وهو أنه ليس لها إلا وقت واحد، وصحح جماعة القديمَ، وهو أن لها وقتين، وممن صححه من أصحابنا أبو بكر ابن خزيمة، وأبو سليمان الخطابي، وأبو بكر البيهقي، والغزالي في "إحياء علوم الدين"، وفي درسه، والبغويُّ في "التهذيب"، ونقله الروياني في "الحلية" عن أبي ثور، والمزنيِّ، وابن المنذر، وأبي عبد اللَّه الزبيري، قال: وهو المختار، وصححه أيضًا العجلي، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح.
قال النوويّ: قلت: هذا القول هو الصحيح، لأحاديث صحيحة:
منها: حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "وقت المغرب ما لم يَغِبِ الشَّفَقُ"، وفي رواية:"وقت المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق"، وفي رواية:"وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق"، رواه مسلم بهذه الألفاظ كلها.
وعن أبي موسى الأشعري في بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم مواقيت الصلاة، قال:"ثمَّ أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق"، رواه مسلم.
وعن بريدة رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق"، رواه مسلم.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى"، رواه مسلم.
قال: فإذا عُرِفَت الأحاديثُ الصحيحةُ تعيّن القول به جزمًا؛ لأنَّ الشافعيّ نص عليه في القديم، كما نقله أبو ثور، وعلق القول به في "الإملاء" على ثبوت الحديث، وقد ثبت الحديث، بل أحاديث، و"الإملاء" من كتب الشافعي الجديدة، فيكون منصوصًا عليه في القديم، والجديد، وهذا كله مع القاعدة العامة التي أوصى بها الشافعيّ رحمه الله أنه إذا صح الحديث على خلاف قوله، يُترَكُ قوله، ويُعمَل بالحديث، وأن مذهبه ما صحّ فيه الحديث، وقد صحّ
الحديث، ولا معارض له، ولم يتركه الشافعيّ إلا لعدم ثبوته عنده، ولهذا عَلّق القول به في "الإملاء" على ثبوت الحديث، وباللَّه التوفيق.
وأما حديث صلاة جبريل عليه السلام في اليومين في وقت واحد، فجوابه من ثلاثة أوجه:
أحسنها، وأصحها: أنه إنما أراد بيان وقت الاختيار، لا وقت الجواز، فهكذا هو في أكثر الصلوات، وهي العصر، والعشاء، والصبح، وكذا المغرب.
والثاني: أن حديث جبريل مقدم في أول الأمر بمكة، وهذه الأحاديث متأخرة بالمدينة، فوجب تقديمها في العمل.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الوجه ضعيف؛ لأنَّ حديث جبريل من جملة من رواه أبو هريرة وجابر بن عبد اللَّه، وهما من أهل المدينة، وقد حقّقت في "شرح النسائيّ" أن الراجح تعدد القصة، فلا يمكن أن يكون منسوخًا، بل الوجه الأول هو الصواب في الجواب، ويليه الوجه الثالث الآتي، فتبصر، واللَّه أعلم.
والثالث: أن هذه الأحاديث أقوى من حديث جبريل، لوجهين: أحدهما أن رواتها أكثر. والثاني أنها أصحّ إسنادًا، ولهذا خرّجها مسلم في "صحيح مسلم"، دون حديث جبريل، وهذا لا شك فيه.
فتلخّص من هذا كلّه أن الصحيح المختار أن للمغرب وقتين: يمتدّ ما بينهما إلى مغيب الشفق، ويجوز ابتداؤها في كل وقت من هذا.
فعلى هذا لها ثلاثة أوقات: وقت فضيلة واختيار؛ وهو أول الوقت، والثاني: وقت جواز، وهو ما لم يغب الشفق، والثالث: وقت عذر، وهو وقت العشاء في حق من جمع لسفر أو مطر.
وقد نقل أبو عيسى الترمذي عن العلماء كافّة، من الصحابة فمن بعدهم، كراهة تأخير المغرب. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: فاتَّضَح بهذا كله كون أرجح المذاهب هو
(1)
راجع: "المجموع" للنوويّ 3/ 29 - 31.
مذهب من قال بأن آخر وقت المغرب هو غروب الشفق الأحمر؛ لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك، وإنما أطلت في نقل كلام النوويّ؛ لكونه تحقيقًا بليغًا في عدم التعصب لقول الإمام الشافعيّ المنصوص عليه في كثير من كتبه واتفق عليه معظم أصحابه أنه لا وقت لها إلا واحد، فرأيت هذا الإمام أعطى المسألة حقّها، ولم يُحَابِ فيها، واعتذر عن إمامه بعدم صحة الحديث عنده، أو بأن ما روي عنه من موافقة الجمهور هو الصحيح.
وهكذا يجب على كلّ مسلم أن يكون مع الحقّ حيثما كان، ولا يهاب إلا الحقّ، وإن خالفه جل الناس، ويعتذر عن الأئمة الذين خالفوه بوجه من وجوه الأعذار الصحيحة، ويا ليت أصحاب المذاهب اتبعوا هذا، فإن هذا هو منشأ ائتلاف كلمتهم وتوحيد صفوفهم، وكونهم يدًا واحدة على أعداء الإِسلام، ولا يتفرقون تفرق أهل الأهواء الزائغة، وهذا هو وصيةُ الأئمة لأتباعهم، وليس وصيةً للشافعي فقط، إلا أن أتباعهم ما عملوا بوصاياهم إلا من وفّقه اللَّه، قاتل اللَّه التعصب.
وللَّه در العلامة محمَّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، حيث يقول [من الطويل]:
عَلامَ جَعَلْتُمْ أيُّها النَّاسُ دِينَنَا
…
لأرْبَعَةٍ لا شَكَّ فِي فَضْلِهِمْ عِنْدِي
هُمُ عُلَمَاءُ الدِّينِ شَرْقًا وَمَغْرِبًا
…
وَنُورُ عُيُونِ الْفَضْلِ وَالْحَقِّ وَالزُّهْدِ
وَلَكِنَّهُمْ كَالنَّاسِ لَيْسَ كَلامُهُمْ
…
دَلِيلًا وَلا تَقْلِيدُهُمْ فِي غَدٍ يُنْجِي
وَلا زَعَمُوا -حَاشَاهُمُ- أَنَّ قَوْلَهُمْ
…
دَلِيلٌ فَيَسْتَهْدِي بِهِ كُلُّ مُسْتَهْدِي
بَلَى صَرَّحُوا أَنَّا نُقَابِلُ قَوْلَهُمْ
…
إِذَا خَالَفَ الْمَنْصُوصَ بِالْقَدْحِ وَالرَّدِّ
اللهم أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في وقت صلاة العشاء:
(اعلم): أنهم أجمعوا على أن أول وقت العشاء غروب الشفق، وإنما اختلفوا في معنى الشفق، هل هو الحمرة، كما هو رأي الجمهور، وهو الحقّ، أو هو البياض، كما هو رأي أبي حنيفة؟ وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
وإنما اختلفوا في آخر وقت العشاء، قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في آخر وقت العشاء، فقال بعضهم: آخر وقتها إلى ربع الليل، هذا قول النخعيّ، ولا نعلم مع قائله حجة.
وقالت طائفة أخرى: وقت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل، كذلك قال عمر بن الخطّاب، وأبو هريرة، وعمر بن عبد العزيز، ثمَّ أخرج بسنده إلى أسلم: أن عمر كتب أن وقت العشاء الآخرة إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل الآخر، ولا تؤخروا ذلك إلا من شغل.
وأخرج بسنده عن أبي هريرة، قال: وَصَلِّ صلاة العشاء إذا ذهب الشفق، وادْلأمَّ الليل من ها هنا -وأشار إلى المشرقِ- فيما بينك وبين ثلث الليل، وما عجّلت بعد ذهاب بياض الأفق فهو أفضل.
وبه قال الشافعي وقد كان يقول إذ هو بالعراق: وقتها نصف الليل، ولا يفوت إلى الفجر وهذا أصح قوليه؛ لأنه يجعل على المفيق قبل طلوع الفجر المغرب والعشاء، ولو كان الوقت فائتًا ما وجب القضاء بعد الفوات.
ومن حجة من قال بقول عمر بن الخطّاب، وأبي هريرة: حديث ابن عباس الذي فيه ذكر إمامة جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقالت طائفة: وقتها إلى نصف الليل، وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب.
ثمَّ أخرج بسنده: أن عمر كتب إلى أبي موسى أَنْ صَلِّ صلاة العشاء الآخرة إلى نصف الليل الأول، أي حيث تبيت.
وبه قال الثوري، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وقال أصحاب الرأي: ومن صلَّاها بعدما مضى نصف الليل يجزئه، ونكرهه له.
ومن حجة من قال هذا القول حديث عبد اللَّه بن عمرو.
ثمَّ أخرج بسنده عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وقت العشاء إلى نصف الليل".
قال: وفيه قول رابع، وهو أن آخر وقت العشاء إلى طلوع الفجر، روي هذا القول عن ابن عباس، وقال عطاء: لا تفوت صلاة الليل، المغرب والعشاء حتى النهار، وقال طاوس، وعكرمة: وقت العشاء إلى الفجر.
ومن حجة القائل بهذا القول: حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنما التفريط على من لم يصلِّ صلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".
ثمَّ رجح ابن المنذر قول من قال: إنه إلى طلوع الفجر. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بالاختصار
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحقّ الذي يؤيّده الدليل قول من قال: إن آخر وقت العشاء نصف الليل، فليس للعشاء وقت أداء بعد ذلك، وإنما هو قضاء، وأقوى دليل في ذلك وأصرحه، حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما الذي في "صحيح مسلم":"فإذا صليتم العشاء، فإنه وقت إلى نصف الليل".
فهذا نصّ صريح في أن النصف هو الآخر، لا يزيد عليه، ولا يوجد نصّ صريح يدلّ على تأخره بعده.
قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثًا صريحًا يثبت.
قال: ودليل الجمهور حديث أبي قتادة رضي الله عنه: "إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى"، قال: وعموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح، وعلى قول الشافعي الجديد في المغرب، فللإصطخري -يعني: القائل: إذا ذهب نصف الليل صارت قضاء- أن يقول: إنه مخصوص بالحديث المذكور، وغيره من الأحاديث في العشاء، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
أقول: هذا التقرير من الحافظ رحمه الله هو عين الإنصاف؛ إعطاءً لكل ذي حقٍّ حقّه، وليس فيه تهوّر ولا اعتساف مجاراةً للمذهب، وفقنا اللَّه تعالى لقبول الحق، فإنه أكرم مسؤول.
وقال العلّامة المحدث الألبانيّ رحمه الله في "تمام المنة": ولا دليل فيه -يعني حديث أبي قتادة- على ما ذهبوا إليه؛ إذ ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق من أجل ذلك، وإنما لبيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يُخرجها عامدًا عن
(1)
"الأوسط" 2/ 343 - 346.
(2)
"الفتح" 2/ 62.
وقتها مطلقًا، سواء كان يَعْقُبُها صلاة أخرى مثل العصر مع المغرب، أو لا، مثل الصبح مع الظهر.
ويدلّ على ذلك أن الحديث ورد في صلاة الفجر حين فاتته صلى الله عليه وسلم مع الصحابة رضي الله عنهم، وهم نائمون في سفر لهم، واستعظم الصحابة رضي الله عنهم وقوع ذلك منهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما لكم فِيَّ أسوة؟. . . "، ثمَّ ذكر الحديث، كذلك هو في "صحيح مسلم" وغيره.
فلو كان المراد من الحديث ما ذهبوا إليه من امتداد وقت كل صلاة إلى دخول الأخرى لكان نَصًّا صريحًا على امتداد وقت الصبح إلى وقت الظهر، وهم لا يقولون بذلك، ولذلك اضطروا إلى استثناء صلاة الصبح من ذلك، وهذا الاستثناء على ما بيّنا من سبب الحديث يعود عليه بالإبطال؛ لأنه إنما ورد في خصوص صلاة الصبح، فكيف يصح استثناؤها؟.
فالحق أن الحديث لم يَرِد من أجل التحديد، بل لإنكار تعمد إخراج الصلاة عن وقتها مطلقًا.
ولذلك قال ابن حزم في "المُحَلَّى"(3/ 178) مجيبًا عن استدلالهم المذكور: هذا لا يدلّ على ما قالوه أصلًا، وهم مُجْمِعُون معنا أن وقت صلاة الصبح لا يمتدّ إلى وقت الظهر، فصح أن هذا الخبر لا يدلّ على اتصال وقت كل صلاة بوقت التي بعدها، وإنما فيه معصية من أخر صلاة إلى وقت غيرها فقط، سواء اتصل آخر وقتها بأول الثانية، أم لم يتصل، وليس فيه أنه لا يكون مُفَرِّطًا أيضًا من أخرها إلى خروج وقتها، وإن لم يدخل وقت أخرى، ولا أنه يكون مفرطًا، بل هو مسكوت عنه في هذا الخبر، ولكن بيانه في سائر الأخبار التي فيها نصّ على خروج وقت كل صلاة، والضرورة توجب أن مَن تَعَدَّى بكل عمل وقته الذي حدّه اللَّه -تعالى- لذلك العمل، فقد تعدى حدود اللَّه، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
وإذ قد ثبت أن الحديث لا دليل فيه على امتداد وقت العشاء إلى الفجر، فإنه يتحتم الرجوع إلى الأحاديث الأخرى التي هي صريحة في تحديد وقت العشاء، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط. . ."، رواه مسلم، وغيره.
ويؤيِّده ما كتب به عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعري: ". . . وأن تصلي العشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وإن أخرت فإلى شطر الليل، ولا تكن من الغافلين"، أخرجه مالك، والطحاويّ، وابن حزم، وسنده صحيح.
فهذا الحديث دليل واضح على أن وقت العشاء إنما يمتد إلى نصف الليل فقط، وهو الحقّ، ولذلك اختاره الشوكانيّ في "الدرر البهية"، فقال:". . . وآخر وقت صلاة العشاء نصف الليل"، وتبعه صديق حسن خان في "شرح الدرر البهية"(69 - 70).
وقد رُوي القول به عن مالك، كما في "بداية المجتهد"، وهو اختيار جماعة من الشافعية، كأبي سعيد الإصطخريّ، وغيره، انظر:"المجموع"(3/ 40). انتهى كلام الشيخ الألبانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: والحاصل أن ما اختاره هؤلاء الأئمة من أن آخر وقت العشاء هو نصف الليل هو الذي أختاره، وأرجِّحه؛ لكون الدليل معه، وما عداه ليس عليه دليل صحيح صالح للاعتماد عليه؛ كما تقدم في كلام الحافظ رحمه الله، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في معنى الشفق:
قال المجدّ الفيروزآباديّ رحمه الله: الشَّفَقُ مُحَرَّكَةً: الحمرةُ في الأُفُقِ من الغروب إلى العشاء الآخرة، أو إلى قريبها، أو إلى قريب العَتَمَةِ. انتهى
(2)
.
وقال الفيوميّ رحمه الله: الشفق: الحمرةُ من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب، قيل: غاب الشفقُ، حكاه الخليل، وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب كالشَّفق، وكان أحمر، وقال ابن قُتَيْبَةَ: الشفق: الأحمرُ من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، ثمَّ يغيب ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل، وقال الزَّجَّاج: الشفق: العمرة التي تُرَى في المغرب بعد سقوط الشمس، وهذا هو المشهور في كتب اللغة.
وقال المُطَرّزِيُّ: الشفقُ: الحمرة عن جماعة من الصحابة، والتابعين،
(1)
"تمام المنة"(ص 104 - 142).
(2)
"القاموس المحيط" في مادة شفق.
وهو قول أهل اللغة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه البياض، وبه قال أبو حنيفة، وعن أبي حنيفة قولٌ متَأخِّر أنه الحمرة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات": أجمع العلماء على أن وقت صلاة العشاء يدخل بغيبوبة الشفق، والأحاديث الصحيحة مشهورة بذلك، ولكن اختلفوا في الشفق المراد به، هل هو الأحمر، أو الأبيض؟ والأحمر يتقدم والأبيض يتأخر.
فذهب الشافعي، والجمهور إلى أنه الحمرة، وذهب أبو حنيفة وآخرون إلى أنه البياض.
وَرَوى البيهقيُّ بإسناده الصحيح عن عبد اللَّه بن عُمَر رضي الله عنهما أنه قال: الشفق: الحمرة، ورواه البيهقي أيضًا عن عمر بن الخطّاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبي هريرة، وعُبادَة بن الصامت، وشَدَّادِ بن أوس رضي الله عنهم، ورواه عن مكحول، وسفيان الثوري. ورواه مرفوعًا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس بثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
وحكى ابن المنذر في "الإشراف" أنه الحمرة عن ابن أبي ليلى، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، قال: ورُوِيَ ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعن ابن عباس أيضًا أنه البياض، قال: وَرَوَيْنَا عن أنس، وأبي هريرة، وعمر بن عبد العزيز، ما يدلّ على أنه البياض، وبه قال أبو حنيفة، قال ابن المنذر: الشفق: البياض.
وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي ثور، وداود أنه الحمرة، وعن زُفَرَ، والمُزَنِيّ أنه البياض.
وحكاه غيره عن معاذ بن جبل الصحابيّ رضي الله عنه، ونقل البغوي عن أكثر أهل العلماء أنه الحمرة.
قال: واستَدَلّ أصحابنا -يعني الشافعية- للحمرة بأشياء من الحديث، والمعنى لا يظهر منها دلالةً مُحَقَّقَةً،، والذي ينبغي أن يُعتَمَدَ أن المعروف عند العرب أن الشفق الحمرة، وذلك مشهور في شعرهم، ونثرهم، ويدل عليه نقل أئمة اللغة.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 318.
قال الإمام أبو منصور الأزهريّ في "شرح ألفاظ المختصر": الشفق عند العرب: الحمرة، رَوَى سلمة عن الفراء، قال: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ، كأنه الشفق، وكان أحمرَ.
وقال ابن فارس في "المُجْمَل": قال ابن دُرَيْدٍ: الشفقُ: الحمرة، قال ابن فارس: وقال أيضًا الخليل: الشفق الحمرة التي من غُروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، وذكر قول الفراء، ولم يذكر ابنُ فارس غَيرَ هذا.
وقال الزبيدي في "مختصر العين": الشفق الحمرة بعد غروب الشمس.
وقال الخطابي في "معالم السنن": حُكِيَ عن الفراء أنه الحمرة، قال: وأخبرني أبو عُمَر عن ثعلب أن الشفق: البياض، قال الخطابي: وقال بعضهم: الشفق: اسم للحمرة، والبياض، إلا أنه إنما يُطْلَق على أحمر ليس بِقَانئٍ، وأبيض ليس بنَاصِع، وإنما يُعْلَم المراد به بالأدلة، لا بنفس الاسم، كالقُرّ، وغيره من الأسماء للشتاء. انتهى
(1)
.
وكتب الإمام الناقد أبو محمَّد بن حزم رحمه الله في كتابه النفيس: "المُحَلَّى"، بحثًا نفيسًا في هذه المسألة، فقال:
(مسألة الشفقِ، والفجرِ) قال عليّ: الفجر فجران، والشفق شفقان، والفجر الأول هو المُستطيل المُستَدَقُّ صاعدًا في الفَلَك، كَذَنبِ السّرْحَان، وتَحْدُث بعده ظلمةٌ في الأفُقِ، لا يُحَرِّم الأكلَ، ولا الشربَ على الصائم، ولا يدخل به وقت صلاة الصبح، هذا لا خلاف فيه من أحد من الأمة كلها.
والآخر هو البياض الذي يأخذ في عرض السماء في أفق المشرق في موضع طلوع الشمس، في كل زمان، ينتقل بانتقالها، وهو مقدمة ضوئها، ويزداد بياضه، وربما كان فيه توريد بحمرة بديعة، وبتبيّنه يدخل وقت الصوم، ووقت الأذان لصلاة الصبح، ووقت صلاتها، فأما دخول وقت الصلاة بتبيّنه فلا خلاف فيه من أحد من الأمة.
وأما الشفقان: فأحدهما الحمرة، والثاني البياض، فوقت المغرب عند ابن أبي ليلى، وسفيان الثوري، ومالك، والشافعيّ، وأبي يوسف، ومحمد بن
(1)
"تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 165 - 166.
الحسن، والْحَسَنِ بن حَيٍّ، وداود، وغيرهم: يخرج، ويدخل وقت صلاة العتمة، بمغيب الحمرة، وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق، إلا أن أحمد، قال: يستحب في الحضر خاصة دون السفر أن لا يصلي إلا إذا غاب البياض، ليكون على يقين من مغيب الحمرة، فقد تُواريها الجُدْران، وقال أبو حنيفة، وعبد اللَّه بن المبارك، والمُزَني، وأبو ثَوْر: لا يخرج وقت المغرب، ولا يدخل وقت العَتَمَة إلا بمغيب البياض.
قال ابن حزم: قد صح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حدّ خروج وقت المغرب، ودخول وقت العتمة بمغيب نور الشفق، والشفق يقع في اللغة على الحمرة، وعلى البياض، فإن ذلك كذلك، فلا يجوز أن يَخُصّ قوله صلى الله عليه وسلم بغير نصّ، ولا إجماع، فوجب أنه إذا غاب ما يسمى شفقًا، فقد خرج وقت المغرب، ودخل وقت العتمة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم قط: حتى يغيب كل ما يسمى شفقًا.
وبرهانٌ قاطعٌ، وهو أنه قد ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حدّ وقت العتمة بأن أوله إذا غاب الشفق، وآخره ثلث الليل الأول، ورُوِيَ أيضًا نصف الليل، وقد عَلِمَ كلُّ من له علم بالمطالع، والمغارب، ودَوَرَان الشمسِ: أن البياض لا يغيب، إلا عند ثلث الليل الأول، وهو الذي حدّ صلى الله عليه وسلم خروج أكثر الوقت فيه، فصحّ يقينًا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين.
فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض بلا شك، فإن ذلك كذلك، فلا قول أصلًا، إلا أنه الحمرة بيقين، إذ قد بطل كونه البياض
(1)
.
واحتَجَّ من قَلَّدَ أبا حنيفة بأن قال: إذا صلينا عند غروب البياض، فنحن على يقين بإجماع أننا قد صلينا عند الوقت، وإن صلينا قبل ذلك، فلم نصل بيقين إجماع في الوقت.
(1)
قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المحلّى" 1/ 193: هذه القطعة من أبدع حُجج ابن حزم وأمتنها، وقد نَقَل الشوكانيّ معناها في "نيل الأوطار" 1/ 411 عن "شرح الترمذيّ" لابن سيّد الناس، وأنا أظنّ أنه أخذها عن ابن حزم، ويكاد يكون لفظهما متّحدًا. انتهى.
قال ابن حزم: هذا ليس شيئًا؛ لأنه إن التزموه، أبطل عليهم جمهور الحنفية مذهبهم، فيقال مثل هذا في الوضوء بالنبيذ، وفي الاستنشاق، والاستنثار، وقراءة أم القرآن، والطمأنينة، وكل ما اختلف فيه، مما يبطل الصوم، والحج، ومما تجب فيه الزكاة، فيلزمهم أن لا يؤدوا عملًا من الشريعة إلا حتى لا يختلف اثنان في أنهم قد أدَّوْهُ، كما أُمروا، ومع هذا لا يصح لهم من مذهبهم جزء من مائة جزء بلا شك.
وذكروا حديث النعمان بن بشير: أنه رضي الله عنه: "كان يصلي العتمة لسقوط القمر لليلة ثالثة"، ولو كان لكان أعظم حجةٍ لنا؛ لأنَّ الشفق الأبيض يبقى بعد هذه مدة طويلة بلا خلاف.
واحتَجّ بعضهم بالأثر: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الآخرة إذا اسودّ الليل"، وبقاء البياض يمنع من سواد الأفق.
قال ابن حزم: وهذا خطأ؛ لأنه يصلي العتمة مع بياض القمر، وهو أمنع من سواد الأفق على أصولهم، من البياض الباقي بعد الحمرة الذي لا يمنع من سواد الأفق، لقلته، ودِقَّتِهِ. وذكروا حديث النعمان بن بشير: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العتمة لسقوط القمر لليلة ثالثة.
وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأننا لا نمنع من ذلك، ولا من تأخيرها إلى نصف الليل، بل هو أفضل، وليس في هذا، المنع من دخول وقتها قبل ذلك.
وذكروا حديثًا ساقطًا موضوعًا، فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلّى العتمة قبل غروب الشفق.
وهذا لو صح -ومعاذ اللَّه من ذلك- لما كان فيه إلا جواز الصلاة قبل وقتها، وهو خلاف قولهم، وقولنا.
وذكروا عن ثعلب: أن الشفق البياض. قال ابن حزم: لسنا ننكر أن الشفق البياض، والشفق الحمرة، وليس ثعلب حجة في الشريعة، إلا في نقله، فهو ثقة، وأما في رأيه فلا.
وأظرف ذلك احتجاج بعضهم بأن الشفق مشتق من الشفقة، وهي الرّقَّة، ويقال: ثوب شفيق إذا كان رقيقًا، وقالوا: البياض أحقّ بهذا؛ لأنها أجزاء رقيقة تبقى بعد الحمرة.
قال ابن حزم: وهذا هَوَس، ناهيك به، فإن قيل لهم: بل الحمرة أولى به؛ لأنها تتولد عن الإشفاق، والحياء، وكل هذا تخليط هو في الهزل أدخل منه في الجِدّ.
وقال بعضهم: لما كان وقت صلاة الفجر يدخل بالفجر الثاني وجب أن يدخل وقت صلاة العتمة بالشفق الثاني، فعورضوا بأنّه لما كان الفجر فجرين، وكان دخول وقت صلاة الفجر الذي معه الحمرة وجب أن يكون دخول وقت العتمة بالشفق الذي معه الحمرة.
وقالوا أيضًا: لما كانت الحمرة -التي هي مقدمة طلوع الشمس- لا تأثير لها في خروج وقت صلاة الفجر، وجب أن يكون أيضًا لا تأثير لها في خروج وقت المغرب، فعورضوا بأنّه لما كانت الطوالع ثلاثة، والغوارب ثلاثة، وكان الحكم في دخول وقت صلاة الصبح للأوسط من الطوالع: وجب أن يكون الحكم في دخول صلاة العتمة للأوسط من الغوارب.
وهذه كلها تخاليط، ودعاوٍ فاسدة، متكاذبة، وإنما أوردناها لِيَعْلَمَ من أنعم اللَّه تعالى عليه بأن هداه لإبطال القياس في الدين: عظيمَ نعمة اللَّه تعالى عليه في ذلك، وليتبصر من غَلِطَ، فقال به
(1)
، وما توفيقنا إلا باللَّه تعالى. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبَيَّن بما قال هؤلاء الأئمة أن أرجح الأقوال في معنى الشفق المذكورِ في حديث صلاة العشاء هو الحمرة؛ لقوة مُتَمَسَّكِهِ الذي ذُكِرَ في كلامهم المذكور آنفًا، فتبصّر، واللَّه -تعالى- أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
خاتمة: -نسأل اللَّه تعالى حسنها- في ذكر ثلاث فوائد:
(1)
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا عند المحقّقين في القياس الفاسد، بأن كان في مقابلة النصوص، وأما غيره فلا يُردّ، وأما ابن حزم فمذهبه ردّ القياس مطلقًا، وهو رأي ضعيف، وقد حقّقت البحث في هذا في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعهما، تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(2)
"المحلى" 1/ 192 - 195.
[الأولى]: قال النوويّ رحمه الله: للعشاء أربعة أوقات: فضيلة، واختيار، وجواز، وعذر.
فالفضيلة أول الوقت، والاختيار بعده إلى ثلث الليل في الأصح، وفي قول: نصفه، والجواز إلى طلوع الفجر الثاني، والعذر وقت المغرب لمن جمع بسفر، أو مطر.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: والجواز إلى طلوع الفجر، هذا مذهبه ومذهب أكثر العلماء، وقد تقدّم أن المذهب الصحيح الذي تدلّ عليه الأحاديث الصحيحة أن الجواز إلى نصف الليل فقط، فتنبّه.
[الثانية]: قال صاحب "التتمة": في بلاد المشرق نَوَاحٍ تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم، فأولُ وقت العشاء عندهم أن يَمْضِيَ من الزمان بعد غروب الشمس قدرُ ما يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم.
[الثالثة]: قيل: إن بين المغرب، والعشاء نصف سدس الليل، فإن طال الليل، طال نصف السدس، وإن قصر قصر، ذكر النوويّ رحمه الله هذه الفوائد الثلاثة في "شرح المهذّب"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[1388]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا
(2)
أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، وَاسْمَهْ يَحْيَى بْنُ مَالِكٍ الْأَزْدِيُّ، وَيُقَالُ: الْمَرَاغِيُّ -وَالْمَرَاغُ حَيٌّ مِنَ الْأَزْدِ- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ الْفَجْرِ
(3)
مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ)، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
(1)
"المجموع شرح المهذّب" 3/ 40 - 41.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
(3)
وفي نسخة: "ووقتُ صلاة الفجر".
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحافظ المتقن الحجة الناقد البصير المشهور [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (الْأَزْدِيُّ) بفتح الهمزة، وسكون الزاي: نسبة إلى أزد شَنُوءة، وهو: أزد بن يغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سَبَأ، قاله في "اللباب"
(1)
.
وقوله: (وَيُقَالُ: الْمَرَاغِيُّ) قال في "اللباب": الْمَرَاغيّ -بفتح الميم والراء، وبعد الألف غين معجمة، وقيل: بكسر الميم، والأول أصحّ- هذه النسبة إلى قبيلة، ومدينة، فأما القبيلة، فهي المراغ قبيلة من الأزد، يُنسب إليها أبو يحيى بن مالك الأزدي الْمَرَاغيّ، وأما المدينة، فهي مَرَاغةُ مدينة مشهورة من بلاد أذربيجان. انتهى
(2)
.
وقوله: (حَيٌّ مِنَ الْأَزْدِ) قال في "اللسان": الحيّ: البطن من بطون العرب، وقال الأزهريّ: الحيّ من أحياء العرب يقع على بني أبٍ كَثُرُوا أم قَلُّوا، وعلى شَعْبٍ يَجمع القبائل. انتهى.
وقوله: ("وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ)"ما" مصدرية ظرفية، كما في قوله تعالى:{مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] أصله: مُدّة عدم حضور العصر، فحذف الظرف، وخلفته "ما" وصلتها، كما جاز في المصدر الصريح، نحو: جئتك صلاةَ العصر، وآتيك قُدُومَ الحاج، قاله العلامة ابن هشام
(3)
.
فـ "وقت" متبدأ خبره "ما لم تَحْضُر العصر"، تقديره: وقت صلاة الظهر كائن مُدَّة عدم حضور وقت العصر.
وفي رواية همّام، عن قتادة الآتية: "وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 34.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 316.
(3)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، بحاشية الأمير" 2/ 6.
ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر. . ."، فقوله: "ما لم يحضر العصر" بيان، وتأكيد لقوله: "وكان ظل الرجل كطوله".
وقوله: "إذا زالت الشمس" بيان لأول وقتها، وقوله:"وكان ظل الرجل كطوله" بيان لآخر وقتها.
والمعنى: أن "صلاة" وقت الظهر يدخل بزوال الشمس، ويستمرّ إلى أن يصير ظل الرجل؛ مثل طوله.
وهذا الحديث يدلّ على أنه لا فاصلة بين وقت الظهر والعصر، ولا اشتراك بينهما، بل متى خرج وقت الظهر دخل وقت العصر، وإذا دخل وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر، وأما حديث جبريل الذي يدلّ على الاشتراك، فقد تقدم الجواب عنه، ويدلّ أيضًا على أنه لا كراهة في تأخير الظهر إلى آخر الوقت.
وقوله: (وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ) مبتدأ وخبره، و"تصفرّ" -بكسر الراء، ويجوز فتحها-، وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" حكاية طريفة تتعلّق بقوله:"لم تصفّر الشمس"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
والمعنى: أنه يدخل وقت العصر بما تقدّم، ويستمرّ من غير كراهة مُدّة عدم اصفرار الشمس، فإذا اصفرّت صار وقتَ كراهة، وتكون أيضًا أداءً حتى تغرب الشمس؛ للحديث السابق:"ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر".
وقوله: (وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ) ببناء الفعل للفاعل، أي لم يَغِبْ الشفق الأحمر.
وقوله أيضًا: (ثَوْرُ الشَّفَقِ) -بفتح الثاء المثلثة، وسكون الواو-: أي انتشاره، وثَوَران حمرته، من ثَارَ الشيءُ يَثُور: إذا انتشر، وارتفع، قال في "اللسان": الثَّوْرُ: حُمْرَةُ الشفق الثائرةُ فيه، قال: وفي الحديث: "صلاة العشاء الآخرة إذا سقط ثَوْرُ الشفق"، وهو انتشار الشفَقِ، وثَوَرَانُهُ: حُمْرَتُهُ، ومُعْظَمُهُ، ويقال: قد ثَارَ يَثُور، ثَوْرًا، وثَوَرَانًا: إذا انتشر الشفق في الأفق، وارتفع، فإذا غاب حَلَّت العشاء الآخرة. انتهى
(1)
.
(1)
"لسان العرب" 4/ 109.
ووقع عند أبي داود: "فَوْرُ الشفق" بالفاء المفتوحة، أي بقية حمرة الشمس، في الأفق الغربي، وسُمِّي فَوْرًا، لسُطُوعه وحمرته، قال العراقي: صحَّفه بعضهم بالنون، ولو صحت الرواية لكان له وجه. انتهى
(1)
.
وفيه ردٌّ على من يقول: إن للمغرب وقتًا واحدًا، وهو عقيب غروب الشمس بقدر ما يتطهر، ويستر عورته، ويؤذن، وقد سبق تحقيق الكلام فيه فلا تغفل.
وقوله: (وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) وإعرابه كسابقه، يعني أن وقت صلاة العشاء يدخل بغروب الشفق، ثم يمتدّ إلى نصف الليل، وفيه دليل على أن آخر وقت العشاء نصف الليل، وقد ثبت في الحديث الآخر تحديده بثلث الليل، لكن أحاديث النصف صحيحة، فيجب العمل بها.
واحتجّ به أبو سعيد الإصطخريّ على أن وقت العشاء إلى نصف الليل فقط، وعند غيره محمول على بيان وقت الاختيار، وأما وقت الجواز، فيمتدّ إلى طلوع الفجر، لما رَوَى أبو قتادة مرفوعًا:"إنما التغريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".
قال الحافظ رحمه الله: عموم حديث أبي قتادة رضي الله عنه مخصوص بالإجماع في الصبح، فللإصطخريّ أن يقول: إنه مخصوص بالحديث المذكور، وغيره من الأحاديث في العشاء، قال: ولم أر في امتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر حديثًا صريحًا يثبت. انتهى
(2)
.
قال الجامع: لا يخفاك قوّة ما ذهب إليه الإصطخريّ، وقد سبق ترجيحه في المسألة الثامنة من شرح الحديث الماضي، فلا تغفل.
وقوله: (وَوَقْتُ الْفَجْرِ
(3)
مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ") يعني أن وقت صلاة الفجر يدخل بطلوع الفجر، ويستمرّ مدة عدم طلوع الشمس، وهذا بالإجماع، إلَّا ما رُوِي عن ابن القاسم، وبعض أصحاب الشافعيّ من أن آخر وقت الفجر الإسفار، كما قاله ابن رشد رحمه الله
(4)
.
(1)
"المنهل العذب المورود" 3/ 303.
(2)
"الفتح" 2/ 62.
(3)
وفي نسخة: "ووقتُ صلاة الفجر".
(4)
"البداية والنهاية" 1/ 97.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّمت مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1389]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ: (ع) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمَا: قَالَ شُعْبَةُ: رَفَعَهُ مَرَّةً، وَلَمْ يَرْفَعْهُ مَرَّتَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو عَامِرٍ العَقَدِيُّ) -بفتح العين المهملة، والقاف- هو: عبد الملك بن عَمْرو الْقَيْسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
3 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) واسمه نَسْر -بفتح النون، وسكون السين المهملة- الكِرْمانيّ، كوفيّ الأصل، ونزل بغداد، ثقةٌ [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.
والباقيان تقدّما قبله في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) الضمير لأبي عامر الْعَقَديّ، ويحيى بن أبى بُكير.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد شعبة السابق، وهو: عن قتادة، عن أبي أيّوب الأزديّ، عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِمَا) أي في حديث أبي عامر، ويحيى بن أبي بُكير.
وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: رَفَعَهُ مَرَّةً، وَلَمْ يَرْفَعْهُ مَرَّتَيْنِ) الضمير في "رفعه" لقتادة، وفي رواية النسائيّ:"قال شعبة: كان قتادة يرفعه أحيانًا، وأحيانًا لا يرفعه".
والمعنى: أن قتادة رَوَى هذا الحديث ثلاث مرّات، فرواه مرّةً مرفوعًا، ورواه مرّتين موقوفًا، ومثل هذا لا يضرّ في صحة الحديث؛ لأمرين:
[أحدهما]: أن قتادة لعله نسي رفعه، ثم تذكّر أخيرًا، فرفعه، ويقوّي هذا
الاحتمال قول شعبة في رواية أحمد الآتية بلفظ: لم يرفعه مرّتين، قال: وسألته الثالثة، فقال:"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ"، فهذا يدلّ على أنه تذكّر كونه مرفوعًا فرفعه.
[الثاني]: أن الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6954)
حدّثنا يحيى بن أبي بكير، حدّثنا شعبة، عن قتادة، سمعت أبا أيوب الأزديّ يحدِّث عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: لَمْ يرفعه مرتين، قال: وسالته الثالثة، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وقت صلاة الظهر ما لم يَحْضُر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تَصْفَرَّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط نُور
(1)
الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1390]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا
(2)
هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ، مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ
(3)
مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، مَا لَمْ تَطْلُع الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ")
(4)
.
(1)
هكذا النسخة، ولعلّه مصحّفٌ من "ثور" بالثاء المثلّثة، فليُحرّر، واللَّه تعالى أعلم.
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(3)
وفي نسخة: "ووقت المغرب".
(4)
وفي نسخة: "بين قرني الشيطان".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) النُّكْريّ -بضم النون- البغداديّ، ثقة حافظٌ [10](ت 246)(م ج ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبَريّ التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقة، ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(هَمَّام) بن يحيى الْعَوْذيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: ("وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) قال القرطبيّ رحمه الله: زوال الشمس عبارة عن بداية انحطاطها مُغَرِّبة بعد نهاية ارتفاعها، وهو أول وقت الظهر بالإجماع، ولا خلاف أن الوقت من فُروض الصلاة، ومن شروط صحّتها إلَّا شيئًا رُوي عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وبعض السلف، ولم يصحّ عنهم، وانعقد الإجماع على خلافه، ولا خلاف في أوائل أوقات الصلوات إلَّا في وقت العصر والعشاء، فأبو حنيفة يقول: أول وقت العصر آخر القامتين، وخالفه الناس كلّهم حتى أصحابه، وأما العشاء فاتّفِقَ على أن وقتها بعد مغيب الشفق، لكن ذهب أبو حنيفة والمزنيّ إلى أنه البياض، والجمهور على أنه الحمرة، واختلفوا في تحديد أواخر الأوقات. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كطُولهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بعد طرح اعتبار القدر الذي زالت عليه الشمس، إن كان له قدرٌ، فلو قدّرنا أن الشمس وقفت على رأس ذي الظلّ لَمْ يكن للظلّ قدرٌ، واعتُبر من أصل القائم. انتهى.
[فائدة]: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: إذا أراد الرجل معرفة الزوال في كلّ وقت، وكل بلد، فلينصب عُودًا مستويًا في مُسْتَوي من الأرض قبل الزوال، فإن الظل يتقلَّص إلى العود، فيتفقد نقصانه، فإن نقصانه إذا تناهى زاد، فإذا زاد بعد تناهي نقصانه، فذلك الزوال، وهو أول وقت الظهر، وهذا المعنى محفوظ عن ابن المبارك، ويحيى بن آدم، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم من أهل
(1)
"المفهم" 2/ 234.
العلم. انتهى
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ) فيه بيان أن الوقت ممتدّ متّسِعٌ، وأن آخره أول وقت العصر، وهو انتهاء آخر ظلّ المثل، وهذا مثل ما جاء في حديث إمامة جبريل عليه السلام بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلّى به العصر في اليوم الأول حين كان ظلّ كلّ شيء مثله، وكلاهما حجة على أبي حنيفة في قوله: إن أول وقت العصر إذا كان ظلّ كلّ شيء مثليه، وهو قولٌ شاذّ، خالف فيه هذه النصوص، وجميعَ الناس، خلا أنه حُكي عن الشافعيّ، وقد تبرّأ من هذا القول أصحاب أبي حنيفة والشافعيّ؛ لظهور فساده
(2)
.
(وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ) أي ما لم يدخلها صفرة.
وقوله: (إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أكثر رواة هذا الحديث لم يذكروا فيها "الأوسط"، وإنما يقولون:"إلى نصف الليل"، فقط، وتلك الزيادة هي من حديث همّام عن قتادة، وكلُّ من روى هذا الحديث عن قتادة لم يذكرها غيره، وكأنّ هذه الرواية وهمٌ؛ لأن الأوسط في المقدّرات والمعدودات إنما يقال فيما يتوسّط بين اثنين فأكثر، اللَّهمّ إلَّا أن يريد بالأوسط الأعدل، فحينئذ يصحّ أن يقال: هو أوسط الشيئين، أي أعدلهما، وهذا الشيء أوسط من هذا، أي أعدل منه.
ويُمكن أن تُحمَل رواية تلك الزيادة على الصحّة، ويكون معناه أن النصف الأول أعدل بالنسبة إلى إيقاع الصلاة فيه من النصف الآخر؛ لتأدية الصلاة في الأول، وكثرة الثواب فيه. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ) قال القرطبيّ رحمه الله: الفجر هو انصداع البياض من المشرق، وسُمّي بذلك؛ لانفجاره، أي لظهوره وخروجه كما ينفجر النهر، وهو اثنان: كاذبٌ، وهو المسمّى بذنب السِّرْحان، وهو الصاعد المستطيل، وصادقٌ، وهو الممتدّ المنتشر في الأفق. انتهى
(4)
.
وقوله: (فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلَاةِ) هذا حجة لأبي حنيفة
(1)
"الأوسط" 2/ 328.
(2)
"المفهم" 2/ 234 - 235.
(3)
"المفهم" 2/ 238 - 239.
(4)
"المفهم" 2/ 239.
وأصحاب الرأي في منعهم إيقاع شيء من الصلوات فرضها ونفلها عند الطلوع، وقد غَلَوا في هذا حتى قالوا: لو طلعت الشمس، وقد صلّى ركعة من الصبح بطلت صلاته، وهذا خلاف ما عليه كافّة أهل العلم، فإنهم يرون أن الفرض لا يتناوله هذا العموم بنصّ قوله صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها"، متّفقٌ عليه، وفي رواية للبخاريّ:"وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته"، ولفظ أحمد:"من صلّى ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس، فليتم صلاته".
فانظر أيها العاقل، فهل يوجد أصرح من هذه النصوص؟، فالعجب كلّ العجب ممن يحاول في ردّ هذه النصوص الصريحة بتأويلات فاسدة، وتحويلات كاسدة، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون.
وقوله: (فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ") وفي نسخة: "بين قرني الشيطان"، قيل: المراد بقرنه أمته وشيعته، وقيل: قرنه جانب رأسه، وهذا ظاهر الحديث، فهو أولي، ومعناه: أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذا الوقت؛ ليكون الساجدون للشمس من الكفار في هذا الوقت كالساجدين له، وحينئذ يكون له ولشيعته تسلُّط وتمكّن من أن يَلْبِسوا على المصلى صلاته، فكُرهت الصلاة في هذا الوقت لهذا المعني، كما كرهت في مأوى الشيطان، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[1391]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزدِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَزِينٍ، حَدَّثَنَا
(3)
إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ- عَنِ الْحَجَّاجِ -وَهُوَ ابْنُ حَجَّاجٍ
(4)
- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَقْتِ الصَّلَوَاتِ؟
(5)
فَقَالَ: "وَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 113.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
(3)
وفي نسخة: "حدّثني".
(4)
وفي نسخة: "وهو ابن الحجّاج".
(5)
وفي نسخة: "عن وقت الصلاة".
لَمْ يَطْلُعْ قَرْنُ الشَّمْسِ الْأَوَّلُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ المَاءِ، مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَيَسْقُطْ قَرْنُهَا الْأَوَّلُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، مَا لَمْ يَسْقُطِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله (80) سنة تقدّم في "المقدّمة" 6/ 90.
2 -
(عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَزِين) بن محمد بن بُرْد السَّلَميّ، أبو العبّاس النيسابوريّ، صدوق، له غرائب [9].
رَوَى عن أخيه مبشر بن عبد اللَّه، وإبراهيم بن طهمان، وسفيان بن حسين، وأبي إسحاق، وبكير بن معروف، وأبي الأشهب جعفر بن الحارث الواسطيّ.
ورَوى عنه أحمد بن يوسف السَّلَميّ، وأبو الأزهر، وإسحاق بن عبد اللَّه السليماني، وأيوب بن الحسن الزاهد، والحسين بن منصور بن جعفر السلمي، وسهل بن عمار الْعَتَكيّ، ومسعود بن قتيبة النيسابوريون.
قال الحاكم: خطتهم أشهر خطة بنيسابور، سمع من ابن إسحاق، وذكر غيره بنيسابور، قال: ولم يرحل، وقال سهل بن عمار: لم يكن بخراسان أنبل منه، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: رَوَى عن سفيان بن حسين الغرائب.
وقال السّرّاج: سمعت الحسن بن عبد الصمد يقول: مات عمي عمر بن عبد اللَّه بن رزين سنة ثلاث ومائتين.
انفرد به المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث، وعند أبي داود حديثٌ في ترجمة سعيد بن حكيم.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنَ طَهْمَانَ) بن شعبة الخراسانيّ، أبو سعيد، وُلد بِهَراة، وسكن نيسابور، وقَدِم بغداد، ثم سكن مكة إلى أن مات، ثقةٌ يُغرب، وتُكُلِّم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7].
رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وأبي إسحاق الشيبانيّ وعبد العزيز بن صهيب، وأبي جمرة نصر بن عمران الضُّبَعيّ، ومحمد بن زياد الْجُمَحيّ، وأبي الزبير، والأعمش، وشعبة، وسفيان، والحجاج بن الحجاج الباهليّ، وجماعة.
ورَوَى عنه حفص بن عبد اللَّه السلميّ، وخالد بن نِزَار، وابن المبارك، وأبو عامر الْعَقَديّ، ومحمد بن سنان الْعَوفيّ، ومحمد بن سابق البغداديّ، وغيرهم، ورَوَى عنه صفوان بن سُليم، وهو من شيوخه.
قال ابن المبارك: صحيح الحديث، وقال أحمد، وأبو حاتم، وأبو داود: ثقةٌ، زاد أبو حاتم: صدوقٌ، حسن الحديث، وقال ابن معين، والعجليّ: لا بأس به، وقال عثمان بن سعيد الدارميّ: كان ثقةً في الحديث، لَمْ يزل الأئمة يشتهون حديثه، ويرغبون فيه، ويُوَثِّقونه، وقال صالح بن محمد: ثقةٌ حسن الحديث، يميل شيئًا إلى الإرجاء في الإيمان، حبّب اللَّه حديثه إلى الناس، جَيِّد الرواية، وقال إسحاق ابن راهويه: كان صحيح الحديث، حسن الرواية، كثير السماع، ما كان بخراسان أكثر حديثًا منه، وهو ثقةٌ، وقال يحيى بن أكثم القاضي: كان من أنبل من حَدَّث بخراسان والعراق والحجاز، وأوثقهم وأوسعهم علمًا.
وقال الحسين بن إدريس: سمعت محمد بن عبد اللَّه بن عمار الموصليّ يقول: فيه ضعْفٌ، مضطرب الحديث، قال: فذكرته لصالح -يعني جَزَرَة- فقال: ابن عمار من أين يعرف حديث إبراهيم؟ إنما وقع إليه حديث إبراهيم في الجمعة، يعني الحديث الذي رواه ابن عمار عن المعافى بن عمران، عن إبراهيم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة:"أولُ جمعةٍ جُمِّعَت بِجُوَاثَا"، قال صالح: والغلط فيه من غير إبراهيم؛ لأن جماعة رووه عنه، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، وكذا هو في تصنيفه، وهو الصواب، وتفرد المعافى بذكر محمد بن زياد، فعُلِم أن الغلط منه، لا من إبراهيم، وقال السليمانيّ: أنكروا عليه حديثه عن أبي الزبير، عن جابر، في رفع اليدين، وحديثه عن شعبة، عن قتادة، عن أنس:"رُفِعت لي سدرة المنتهي، فإذا أربعة أنهار. . . ". انتهى.
قال الحافظ: فأما حديث أنس فعلَّقه البخاريّ في "الصحيح" لإبراهيم، ووصله أبو عوانة في "صحيحه"، وأما حديث جابر، فرواه ابن ماجه، من
طريق أبي حذيفة عنه، وقال أحمد: كان يرى الإرجاء، وكان شديدًا على الجهمية، وقال أبو زرعة: ذُكِر عند أحمد، وكان متكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: لا ينبغي أن يُذْكَر الصالحون، فنتكئ، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، إنما تكلموا فيه للإرجاء، وقال البخاريّ في "التاريخ": حدثنا رجلٌ حدّثني عليّ بن الحسن بن شقيق، سمعت ابن المبارك يقول: أبو حمزة السُّكَّريّ، وإبراهيم بن طَهْمان صحيحا العلم والحديث، قال البخاريّ: وسمعت محمد بن أحمد يقول: سألت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل عن إبراهيم؟ فقال: صدوقُ اللَّهجة، وقال ابن حبان في "الثقات": قد رَوَى أحاديث مستقيمةً، تُشْبِه أحاديث الأثبات، وقد تفرد عن الثقات بأشياء معضلات.
قال الحافظ: الحقّ فيه أنه ثقةٌ صحيح الحديث، إذا روى عنه ثقةٌ، ولم يثبت غُلُوُّه في الإرجاء، ولا كان داعية إليه، بل ذَكَرَ الحاكم أنه رجع عنه، واللَّه أعلم، وأورد الحاكم في "المستدرك" من حديثه عن الحكم حديثًا، وتعقبه الذهبيّ في "مختصره" بأنه لَمْ يدركه.
وأسند الخطيب عن يحيى الذُّهْليّ أنه مات سنة (163)، وقال مالك بن سليمان: مات سنة (168) بمكة، ولم يخلف مثله
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (612) و (954) و (1142) و (2277).
4 -
(الْحَجَّاجُ بْنُ الْحَجَّاجِ) الباهليّ البصريّ الأحول، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أنس بن سيرين، وقتادة، ويونس بن عبيد، وأبي الزبير، وأبي قَزَعَة، وغيرهم.
ورَوَى عنه إبراهيم بن طهمان نسخةً كبيرةً، ويزيد بن زريع، وقَزَعَةُ بن سُوَيد بن حُجَير، وروى عنه ابن أبي عروبة، ومحمد بن جُحادة، وهما من أقرانه.
قال أحمد: ليس به بأسٌ، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ثقةٌ من الثقات، صدوقٌ، أروى الناس عنه إبراهيم بن طهمان، وقال ابن خزيمة: هو
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 113.
أحد أصحاب قتادة، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وزَعَم عبد الغني بن سعيد: هو حجاج الأسود زِقُّ العسل الْقَسْمَليّ، وفَرَّق بينهما ابن أبي حاتم وغيره، وهو الصواب
(1)
.
قال يزيد بن زُريع: مات في الطاعون، وقال غيره: كان الطاعون بالبصرة سنة (131).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَقْتِ الصَّلَوَاتِ؟) وفي نسخة: "عن وقت الصلاة".
وقوله: (قَرْنُ الشَّمْسِ الْأَوَّلُ) أي طرفها الأعلي، وهو أول ما يبدو منها في الطلوع، وأول ما يسقط منها في الغروب.
وقوله: (مَا لَمْ يَسْقُطِ الشَّفَقُ) أي يغِبِ الشفق من الأفق.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّمت مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1392]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ الإمام المشهور، تقدّم في الباب.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) اليماميّ، صدوقٌ [8].
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 175.
رَوَى عن أبيه، وجعفر بن محمد بن عليّ، ورَوى عنه زيد بن الحباب، وعبد العزيز الأُويسيّ، ويحيى بن بسطام، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، ومحمد بن سلمان لُوَين، ومسدد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وغيرهم.
قال أبو طالب عن أحمد: ثقةٌ لا بأس به، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، قال البخاريّ: أثنى عليه مسددٌ، لقيه باليمامة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عبد اللَّه بن جعفر بن أعين: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا عبد اللَّه بن يحيى بن أبي كثير، وكان من خيار الناس، وأهل الورع والدين، ما رأيت باليمامة خيرًا منه، وقال ابن عديّ: لَمْ أجد للمتقدمين فيه كلامًا، ولا أَعرف له ما أُنكِره إلَّا حديث النهي عن أكل أُذُني القلب، ورواه عن أبيه، عن رجل من الأنصار مرفوعًا، وأرجو أنه لا بأس به.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (612) و (2263).
3 -
(أَبُوهُ) يحيى بن أبي كثير الطائيّ، تقدّم قبل بابين.
شرح الأثر:
(لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ) ببناء الفعل للمفعول، أي لا يتيسّر، ولا يسهل حصوله، قال في "القاموس": واستَطَاعَ: أطاق، ويقال: اسْطَاعَ، ويَحذفون التاء؛ استثقالًا لها مع الطاء، ويَكرهون إدغام التاء فيها، فتُحرّك السين، وهي لا تُحرّك أبدًا، وقرأ حمزة غير خلّاد:{فَمَا اسْطَاعُوا} بالإدغام، فجمع بين الساكنين، وبعض العرب يقول: استاع يَسْتِيع، وبعضٌ يقول: أَسْطاع يُسطِيعُ بقطع الهمزة، بمعنى أطاع يُطيع. انتهى
(1)
.
وقوله: (بِرَاحَةِ الْجِسْمِ) متعلّق بـ "يُستطاع"، والمعنى: أن العلم لا يوجد بالراحة والدَّعَةِ، وإنما يوجد بإتعاب الجسم، وإرهاق النفس، كما قال القائل [من الوافر]:
تَرُومُ الْعِزَّ ثُمَّ تَنَامُ لَيْلًا
…
يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللَّئَالِي
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 60.
فَمَنْ رَامَ الْعُلُوَّ بِغَيْرِ كَدٍّ
…
أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمُحَالِ
وقال آخر [من الكامل]:
الْعِلْمُ حَرْبٌ لِلْفَتَى الْمُتَعَالِي
…
كَالسَّيْلِ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي
وقال آخر: [من الطويل]:
تُرِيدِينَ إِدْرَاكَ الْمَعَالِي رَخِيصَةً .. وَلَا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ
وقال آخر [من البسيط]:
دَبَبْتَ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا
…
حَدَّ النُّفُوسِ وَأَلْقَوْا دُونَهُ الأُزُرَا
وَكَابَدُوا الْمَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ
…
وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرَا
لَا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ
…
لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: جَرَت عادة الفضلاء بالسؤال عن إدخال مسلم هذه الحكاية عن يحيى، مع أنه لا يذكر في كتابه إلَّا أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم محضةً، مع أن هذه الحكاية لا تتعلق بأحاديث مواقيت الصلاة، فكيف أدخلها بينها؟ وحَكَى القاضي عياض رحمه الله عن بعض الأئمة أنه قال: سببه أن مسلمًا: أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبد اللَّه بن عمر، وكثرة فوائدها، وتلخيص مقاصدها، وما اشتملت عليه من الفوائد في الإحكام وغيرها، ولا نعلم أحدًا شاركه فيها، فلما رأى ذلك أراد أن يُنَبِّه مَن رَغِبَ في تحصيل الرتبة التي يُنَالُ بها معرفة مثل هذا، فقال: طريقه أن يُكثر اشتغاله وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم، هذا شرح ما حكاه القاضي رحمه الله. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1393]
(613) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَزْرَقِ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا سَأَلهُ
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 577 - 578، و"شرح النوويّ" 5/ 113 - 114.
عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ لَهُ: "صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ" -يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ- فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي
(1)
أَمَرَهُ، فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ، فَأَبْرَدَ بِهَا، فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا، وَصَلَّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ:"أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ "، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيد) أبو قُدامة السرخسيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ) المخزوميّ الواسطيّ، ثقة [9](ت 195) عن (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 191.
4 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقة حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجةٌ، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.
6 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الحُصيب الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3](ت 105) عن (90) سنة (م 4) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.
7 -
(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصَيب أبو عبد اللَّه، وقيل غير ذلك، الصحابيّ، مات رضي الله عنه سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.
(1)
وفي نسخة: "فلما كان اليوم الثاني".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلَّا شيخيه، فالأول ما أخرج له ابن ماجه، والثاني انفرد به هو، والبخاريّ، والنسائيّ، وسليمان، ما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، واللَّه -تعالى- أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحصيب رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسمّ (سَأَلهُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟) أريد به جنس الصلاة، أي الصلوات الخمس، وفي رواية شعبة التالية:"فسأله عن مواقيت الصلاة"(فَقَالَ لَهُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ("صَلِّ مَعَنَا) وفي رواية شعبة: "اشهد معنا الصلاة"(هَذَيْنِ" -يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ) هكذا في رواية المصنّف، وفي رواية النسائيّ:"صلّ معنا هذين اليومين"، بدون "يعني"، أي إذا أردت أن تتعلم أوقات الصلاة، أوائلها، وأواخرها، صلّ معنا في هذين اليومين الآتيين؛ إذ المشاهدةُ أقوى من السمع (فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ) صلى الله عليه وسلم (بِلَالًا) رضي الله عنه، أي بالأذان، فحُذف مفعوله؛ اختصارًا؛ للعلم به (فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ) أي بالإقامة (فَأَقَامَ الظُّهْرَ) أي لأجل صلاة الظهر، وفي رواية شعبة:"ثمّ أمره بالظهر حين زالت الشمس عن بطن السماء"(ثُمَّ أَمَرَهُ) أي بلالًا رضي الله عنه بالإقامة (فَأَقَامَ) أي بعد الأذان (الْعَصْرَ) لأجل صلاتها (وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، والرابط الواو (بَيْضَاءُ) أي لم تخالطها صفرة (نَقِيَّةٌ) أي صافيةٌ، والمراد أنه أول وقت العصر (ثُمَّ أَمَرَهُ) أي بالإقامة (فَأَقَامَ) أي بعد الأذان (الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ) وفي رواية شعبة:"حين وجبت الشمس"، وفي رواية النسائيّ:"ثم أمره حين وقع حاجب الشمس"، أي حين غاب وسقط حاجب الشمس، أي طرفها الأعلى الذي بغيبته تغيب الشمس كلها.
وقال في "زَهْر الرُّبَى": قيل هو طرف قرص الشمس الذي يبدو عند
الطلوع، ويغيب عند الغروب، وقيل: النَّيَازِك التي تبدو إذا كان طلوعها، وفي "الصحاح": حواجب الشمس: نواحيها. انتهى.
و"النَّيَازِك": جمع نَيْزَك بفتح فسكون: الرمح القصير.
(ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ) فيه أنه صلاها في أول وقتها (ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا أَنْ) بفتح الهمزة، وسكون النون زائدة، كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} ، وسقطت من بعض النسخ (كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ) أي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بلالًا رضي الله عنه، والمفعول الثاني محذوف، أي بالإبراد (فَأَبْرَدَ بِالظُّهْرِ) أي أدخلها في البرد، يقال: أبرد بالظهر: إذا أدخل صلاة الظهر في البرد، وهو سكون شدّة الحر، فالباء للتعدية
(1)
.
وقال الخطابيّ رحمه الله: الإبراد: أن يَتَفَيَّأ الأفْياء، ويَنكَسِر وَهَجُ الحرّ، فهو بَرْدٌ بالإضافة إلى حرّ الظهيرة. انتهى.
(فَأَبْرَدَ بِهَا) هكذا في رواية المصنّف، والظاهر أنه كرّره للتأكيد، وفي رواية النسائيّ:"ثم أبرد بالظهر، وأنعم أن يُبرد"(فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا) أي أطال الإبراد، وأخّر الصلاة، ومنه قولهم: أنعم النظر في الشيء: إذا أطال التفكر فيه، قاله ابن الأثير رحمه الله
(2)
.
والمعنى أنه أخّر الظهر، وبالغ في التأخير، وفي حديث أبي موسى الآتي بعده:"ثم أخّر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس"، فتبيّن به أن المراد تأخيره إلى قبيل صيرورة الظل مثليه.
(وَصَلَّى الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ) أي في اليوم الأول، يعني أنه أخّر العصر تأخيرًا زائدًا على الوقت الذي صلاها فيه في اليوم الأول (وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ) يعني أنه صلاها في آخر الوقت، وفيه حجة على الشافعيّ ومالك القائِلَينِ بأن للمغرب وقتًا واحدًا، وقد تقدّم البحث في ذلك مستوفًى في شرح حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
(وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَمَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا) أي دخل بها في وقت الإسفار، يقال: سَفَرَ الصبحُ يَسْفِرُ، من باب ضرب: أضاء،
(1)
راجع: "المصباح المنير" مادة برد.
(2)
"النهاية: لابن الأثير 5/ 83.
وأشرق، كأسفر، أفاده في "القاموس"
(1)
.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ ") أي عن أوقاتها، وفيه بيان لاهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر السائل (فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَقْتُ صَلَاتِكُمْ بَيْنَ مَا رَأَيْتُمْ") مبتدأ وخبره، فـ "وقت" مبتدأ مضاف إلى "صلاتكم"، و"بين" منصوب على الظرفية متعلق بخبر المبتدأ، وهو مضاف إلى "ما" الموصولة، وجملة "رأيتم" صلة "ما"، والتقدير: وقت صلاتكم كائنٌ بين الوقت الذي رأيتموه، وفي رواية النسائيّ:"وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم".
والمعنى: أن الوقت المختار للصلوات الخمس، بين الوقت الذي صليناها فيه في اليوم الأول، والوقت الذي صليناها فيه في اليوم الثاني، أي مع إدخال الوقت الذي صلّى فيه في اليومين، فيكون بيانًا بالفعل والقول.
وإنما قلنا: الوقت المختار؛ لأنه يجوز تأخير الصلوات بعد ذلك؛ لأدلة أخرى؛ كتأخير العصر ما لم تغرب الشمس، وتأخير العشاء إلى نصف الليل على الراجح، أو إلى الفجر على رأي الجمهور، وتأخير صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا خطاب للسائل وغيره، وتقديره: وقت صلاتكم في الطرفين اللذين صليت فيهما، وفيما بينهما، وترك ذكر الطرفين بحصول علمهما بالفعل، أو يكون المراد ما بين الإحرام بالأولى والسلام من الثانية. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث بريدة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1393 و 1394](613)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(152)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(519)، وفي "الكبرى"
(1)
"القاموس المحيط" 2/ 49.
(2)
"شرح مسلم" 5/ 114 - 115.
(1515)
، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(667)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 349)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(151)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(323 و 324)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1492)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1108 و 1109 و 1110)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1369 و 1370)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 148)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 371)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أوقات الصلوات الخمس حيث بيّن صلى الله عليه وسلم للسائل بصلاته في اليومين.
2 -
(ومنها): وجوب الاهتمام بتعلم أحكام الدين، ولا سيما ما يتعلق بالصلاة.
3 -
(ومنها): بيان أن للصلاة وقت فضيلة، ووقت اختيار.
4 -
(ومنها): أن وقت صلاة المغرب يمتدّ إلى غيبوبة الشفق.
5 -
(ومنها): استحباب البيان بالفعل؛ لأنه أبلغ في الإيضاح، والفعل تعم فائدته السائل وغيره.
6 -
(ومنها): جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهي مسألة اختلف فيها الأصوليون، قال المازريّ رحمه الله: قد انفُصِل عن هذا بأن البيان الذي وقع فيه الخلاف إنما هو أول بيان يكون، ولعله صلى الله عليه وسلم إنما أخّر إخباره هذا؛ لأنه قد تقدّم بيانه لغيره وإشاعة هذا الحكم.
قال: وإنما يكون هذا انفصالًا إذا علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يُلزَم البيان إلَّا أوّل مرّة، ولم يتحقّق عندي الآن ما كُلِّف به صلى الله عليه وسلم من هذا؛ لأنه يجوز أن يُتعبَّد بالبيان لكلّ من سأله. انتهى.
قال القاضي عياض رحمه الله بعد نقل كلام المازريّ هذا: قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صلّ معنا هذين اليومين" رَفَعَ الإشكال في تأخيره، وفَسَّرَ ما أجمله في غيره من الحديث في سكوته صلى الله عليه وسلم عن الجواب، كما جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه الآتي، وأن معنى سكوته هناك سكوته عن الجواب إن كان الحديث واحدًا، وأنه رأى البيان له بالفعل أبلغ وأشمل له ولغيره ممن يصلّي معه من المسلمين؛
إذ القول لا يبلغ مبلغ الفعل؛ إذ القول يسمعه البعض، والفعل يعلمه كلُّ من صلّى معه صلى الله عليه وسلم.
وقال الباجيّ رحمه الله: ليس هذا من تأخير البيان الذي تكلّم شيوخنا في جواز تأخيره عن وقت الخطاب بالعبادة إلى وقت الحاجة، وهو مذهب الباقلّانيّ والجمهور، ومنعه الأبهريّ وغيره؛ لأن الخطاب هنا بالصلاة، وبيان أحكامها، وقد تقدّم قبل هذا للسائل، فلم يسأل إلَّا عما ثبت بيانه، وعُرف حكمه، ولا خلاف أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخّر جواب السائل له عن وقت سؤاله، وأن لا يُجيبه أصلًا، وقد فَعَل ذلك في مسائل كثيرة، ولا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل.
وتكلَّم الشيوخ في وجه تأخيره صلى الله عليه وسلم مع جواز موته قبل التعليم، فقيل: يَحْتَمِل أنه أوحي إليه بأن ذلك لا يكون، وقيل؛ هدا لا يلزم؛ لأن العادةَ غالبًا في مثل هذا، وظاهرَ الأمر حياته هذين اليومين، واستصحاب حال السلامة.
وقد يقال: إن هذا سؤال لا يلزم في حقّ السائل؛ لأنه إن اختُرِم قبل علمه ما سأل عنه من دينه فلم يضرّه جهله به؛ إذ لَمْ تأت عليه عبادة يَحتاج إليها فيه؛ لموته قبلها. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): جواز تأخير الصلاة عن أول وقتها، وترك فضيلة أول الوقت؛ لمصلحة راجحة، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1394]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(3)
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَن رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ
(4)
: "اشْهَدْ مَعَنَا
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 575 - 576.
(2)
"شرح النوويّ" 5/ 114.
(3)
وفي نسخة: "حدّثني".
(4)
وفي نسخة: "فقال له".
الصَّلَاةَ"، فَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ بِغَلَسٍ، فَصَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّمَاءِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْمَغْرِبِ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعِشَاءِ حِينَ وَقَعَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ الْغَدَ فَنَوَّرَ بِالصُّبْحِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالظُّهْرِ فَأَبْرَدَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعَصْرِ، وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، لَمْ تُخَالِطْهَا صُفْرَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْعِشَاءِ عِنْدَ ذَهَابِ ثُلُثِ اللَّيْلِ، أَوْ بَعْضِهِ -شَكَّ حَرَمِيٌّ- فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ؟، مَا بَيْنَ مَا رَأَيْتَ وَقْتٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ) هو: إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرَة -بفتح العينين المهملتين، وإسكان الراء بينهما- ابن الْبرِند بن النعمان بن علجة الساميّ
(1)
، أبو إسحاق البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ [10].
رَوَى عن جرير بن عمارة، وابن مهديّ، وجعفر بن سليمان، وجدّه عَرْعَرة، وعبد الرزاق، ويحيى القطان، وغندر، ومعاذ بن هشام، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، والصنعانيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن أبي خيثمة، وإبراهيم الحربيّ، وأبو يعلى الموصليّ، وجماعة.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه: تحفظ عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كلّ ليلة"؟، فقال: كتبوه من كتب معاذ بن هشام لم يسمعوه، قلت: ها هنا إنسان يزعم أنه سمعه من معاذ، فأنكر ذلك، قال: من هو؟ قلت: إبراهيم بن عرعرة، فتغير وجهه، ونفض يده، وقال: كَذِبٌ وزُورٌ، ما سمعوه منه، قال فلان: كتبناه من كتابه، سبحان اللَّه، واستعظم ذلك، قال الخطيب: وقد أخبرنا بالحديث المذكور عثمان بن محمد بن يوسف العلاف، ثنا أبو بكر الشافعيّ، ثنا إسماعيل القاضي، ثنا عليّ ابن المدينيّ، قال: رَوَى قتادة حديثًا غريبًا لا يحفظ عن أحد من أصحاب قتادة، إلَّا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن
(1)
بالسين المهملة: منسوب إلى سامة بن لُؤيّ بن غالب، وهو من نسله قرشيّ ساميّ.
هشام، وهو حاضر، لم أسمعه منه، عن قتادة، وقال لي معاذ: هاته حتى أقرأه، قلت: دَعْهُ اليوم، قال: حدثنا أبو حسان، عن ابن عباس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كلّ ليلة، ما أقام بمنى"، قال: وما رأيت أحدًا واطأه عليه، قال عليّ ابن المدينيّ: هكذا هو في الكتاب، قال الخطيب: وما الذي يمنع أن يكون إبراهيم بن محمد بن عرعرة سمع هذا الحديث من معاذ، مع سماعه منه غيره، وقد قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": سئل أبي عن إبراهيم بن عرعرة؟، فقال: صدوق، وقال ابن معين: ثقة معروف بالحديث، مشهور بالطلب، كَيِّس الكتاب، ولكنه يفسد نفسه يدخل في كلّ شيء، وقال عثمان بن خُرّزاد: أحفظ من رأيت أربعة، فذكر فيهم إبراهيم، وقال صالح جَزَرة: ما رأيت أعلم بحديث أهل البصرة من القَوَاريريّ، وعليّ ابن المدينيّ، وإبراهيم بن عرعرة، وقال الحاكم: هو إمام من حفاظ الحديث، وقال الخليليّ: حافظ كبير ثقة مُتَّفَقٌ عليه، وقال ابن قانع: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال البغويّ، وموسى بن هارون، ومطين: مات سنة (231)، زاد البغويّ، وموسى: في رمضان.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث، برقم (613) و (955) و (1059) و (1369) و (2298) و (2474) و (2957).
2 -
(حَرَمِّيُ بْنُ عُمَارَةَ) بن أبي حفصة نابت -بنون، وموحّدة، ثم مثنّاة- ويقال: ثابت -بالثاء المثلّثة- كالجادّة الْعَتَكِيّ مولاهم، أبو رَوْح البصريّ، صدوقٌ يَهِمُ [9].
رَوَى عن أبي خَلْدة، وقُرّة بن خالد، وأبي طلحة الراسبيّ، وعَزْرَة بن ثابت، وغيرهم.
وروى عنه عبد اللَّه بن محمد المسنَديّ، وعلي ابن المديني، وبندار، وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومحمد بن عمرو بن جَبَلة، وغيرهم.
قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: صدوقٌ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ليس هو في عداد القطان، وابن مهديّ، وغُندر، هو مع وهب بن جرير، وعبد الصمد، وأمثالهما، وذكره العقيلي في "الضعفاء"، وحَكَى عن الأثرم، عن أحمد رحمه الله ما معناه: إنه صدوق، كانت فيه غفلة، وأنكر عليه أحمد
حديثين من حديثه، عن شعبة: أحدهما: حديث حارثة بن وهب، وقد صححه الشيخان، والآخر حديث أنس:"مَن كَذَب عليّ".
قيل: إنه مات سنة إحدى ومائتين، هكذا أرّخه ابن قانع.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (613) و (1393) و (2298) و (2484) و (2767).
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: ("اشْهَدْ مَعَنَا") أي احضر.
وقوله: (فَأَذَّنَ بِغَلَسٍ) بفتحتين: ظلام آخر الليل
(1)
.
ثم إن هذه الرواية مخالفة للرواية السابقة؛ لأنه هنا بدأ بالفجر، وهناك بدأ بالظهر، والظاهر أن الاختلاف من تصرّف الرواة، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَصَلَّى الصُّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ) أي عند أول طلوعه.
وقوله: (حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ) أي غابت ودخلت في مغربها.
وقوله: (حِينَ وَقَعَ الشَّفَقُ) أي غاب.
وقوله: (ثُمَّ أَمَرَهُ الْغَدَ) منصوب على الظرفيّة، أي في اليوم الثاني.
وقوله: (فَنَوَّرَ بِالصُّبْحِ) أي أسفر، وهو من النور، وهو الإضاءة.
وقوله: (وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ) جملة في محل النصب على الحال.
وقوله: (قَبْلَ أَنْ يَقَعَ الشَّفَقُ) أي يغيب.
وقوله: ("مَا بَيْنَ مَا رَأَيْتَ وَقْتٌ")"ما" الأولى موصولة مبتدأ، و"بين" منصوب على الظرفية، متعلّق بصلتها، وهو مضاف إلى "ما" الثانية، وهي أيضًا موصولة، و"رأيت" صلتها، والعائد محذوفٌ، أي رأيته، وقوله:"وقتٌ" خبر المبتدأ.
والتقدير: الوقت الذي استقرّ بين الوقتين الذين رأيتني صلّيت فيهما في هذين اليومين وقتٌ للصلوات الخمس الذي سألت عنه.
(1)
"المصباح" 2/ 450.
وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1395]
(614) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا بَدْرُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ
(1)
، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَأَقَامَ الْفَجْرَ
(2)
حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ
(3)
، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالْمَغْرِبِ
(4)
حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ، فَقَالَ:"الْوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل باب أيضًا.
3 -
(بَدْرُ بْنُ عُثْمَانَ) الأُمويّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [6].
رَوَى عن أبي بكر بن أبي موسى، وعكرمة، والشعبيّ، والْعَيْزار بن حُريث، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "عن مواقيت الصلوات".
(2)
وفي نسخة: "فأقام بالفجر".
(3)
وفي نسخة: "فأقام العصر".
(4)
وفي نسخة: "فأقام المغرب".
وروى عنه ابن نُمير، وعبد اللَّه بن داود الْخُريبيّ، وأبو داود الْحَفَريّ، ووكيع، وأبو نُعيم، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقة، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال العجليّ، والدارقطنيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو العباس بن سُريج في "كتاب الردّ على ابن أبي داود": بدر بن عثمان ليس بالمشهور.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه في "التفسير"، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث فقط.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ الكوفيّ، واسمه عَمْرو، أو عامر، ثقة [3](ت 156) وكان أسنّ من أخيه أبي بُرْدة (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.
5 -
(أَبُوهُ) أبو موسى الأشعريّ عبد اللَّه بن قيس بن سُلَيم بن حَضَّار الصحابي الجليل، مات رضي الله عنه (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى بدر بن عثمان، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وبالتحديث أيضًا.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.
شرح الحديث:
عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَتَاهُ سَائِلٌ) لَمْ يُعرف اسمه (يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ) وفي نسخة: "عن مواقيت الصلوات"، وجملة "يسأله. . . إلخ" صفة لـ "سائلٌ"(فَلَمْ يَرُدَّ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْهِ) أي على ذلك السائل (شَيْئًا) أي من الجواب، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يردّ عليه جوابًا ببيان الأوقات باللفظ بل قال له: "صلِّ معنا" لتعرف ذلك، ويحصل لك البيان بالفعل، وإنما تأولناه لنجمع بينه وبين حديث بريدة رضي الله عنه، حيث قال له:"صلِّ معنا هذين اليومين"، ولأن من المعلوم من أحواله صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيب إذا
سئل عما يحتاج إليه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلم يرُدّ عليه شيئًا" يعني على السائل، أي لَمْ يرُدّ عليه ما يَحصُلُ له به بيان ما سأل عنه، وإلا فقد قال له:"صلّ معنا هذين اليومين"، كما جاء في الرواية الأخرى، وفي هذا جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وجاز للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤخّر بيان ما سأله عنه، وإن جاز على السائل أن يُختَرَم قبل ذلك؛ لأن الأصل استصحاب السلامة والبقاءُ إلى مثل هذه المدّة، أو أوحي إليه أن يبقى إلى هذه المدّة. انتهى
(2)
.
(قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (فَأَقَامَ الْفَجْرَ) معطوف على محذوف، أي فأمر بلالًا أن يؤذّن، فأذّن، فأقام الفجر، وفي نسخة:"فأقام بالفجر"، أي بسبب حضور صلاة الفجر، أو الباء بمعنى اللام، أي لأجل صلاة الفجر (حِينَ انْشَقَّ) أي طلع (الْفَجْرُ) يقال: شق الفجر، وانشق: إذا طلع، كأنه شَقَّ محلّ طلوعه، وخرج منه (وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) أراد به أنه صلّى أول طلوع الفجر (ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ) أي بطن السماء (وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ) أي ويشكّ الآخر في ذلك، ويوضّح هذا المعنى رواية النسائيّ بالاستفهام، ولفظه:"أنتصف النهار؟ "، قال الشيخ وليّ الدين رحمه الله: قوله: "أنتصف" بفتح الهمزة على سبيل الاستفهام، وهمزة الوصل محذوفة، كقوله تعالى:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ} [الصافات: 153]. وقال السنديّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن تكون بكسرها على أن حرف الاستفهام مقدَّر، كما في قول القائل: طلعت الشمس؟. انتهى.
والجملة في محل نصب على الحال، والتقدير: أمره صلى الله عليه وسلم بالإقامة للظهر حين زالت الشمس، والحال أن القائل يقول -من شدة تبكيره-: هل انتصف الآن النهار؟.
(وَهُوَ) صلى الله عليه وسلم (كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ) والجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "أمره"، أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بانتصاف النهار، ودخولِ وقت الظهر، وإنما خفي على غيره، ولذلك استفهم (ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالْعَصْرِ) أي بعد الأذان،
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 116.
(2)
"المفهم" 2/ 241.
وفي نسخة: "فأقام العصر"(وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) أي في أول وقتها، كما قال في حديث بريدة رضي الله عنه:"بيضاء نقية"(ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ بِالْمَغْرِبِ) وفي نسخة: "فأقام المغرب"(حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ) أي غربت، والمراد أول وقتها (ثُمَّ أَمَرَهُ، فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ) والمراد به الأحمر، كما سبق تحقيقه (ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنَ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا) أي من صلاة الفجر (وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "انصرف"، أي سلّم منها، والحال أن القائل يقول: قد طلعت الشمس، والمراد أنه أخّر صلاة الفجر في اليوم الثاني حتى إنه حين انصرافه من الصلاة يتخيل بعض من رأى أن الشمس قد طلعت، وهي لم تطلع (أَوْ كَادَتْ) أي قاربت الطلوع (ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ) يعني أنه أخّر صلاة الظهر حتى اقترب وقت العصر في اليوم الأول (ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا، وَالْقَائِلُ يَقُولُ: قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ) أي من شدّة تأخيره (ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ) اسمها ضمير يعود إلى الوقت، أي حتى كان الوقت، وخبرها قوله:(عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ) أي غروبه، والمراد قربه من الغروب؛ يدل عليه رواية وكيع التالية:"فصلى المغرب قبل أن يَغِيبَ الشفق في اليوم الثاني".
(ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ) وفي رواية النسائيّ: "ثمّ أخّر العشاء إلى ثلث الليل"، وفي حديث بريدة رضي الله عنه الماضي:"وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل"، وفي لفظ:"عند ذهاب ثلث الليل، أو بعضه" والمعنى متقارب، يعني أنه صلّى العشاء في اليوم الثاني في وقت الثلث، بحيث انتهى منها بعد الثلث.
(ثُمَّ أَصْبَحَ) أي دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي وقت الصباح (فَدَعَا السَّائِلَ، فَقَالَ: "الْوَقْتُ بَيْنَ هَذيْنِ") وفي رواية النسائيّ: "الوقت فيما بين هذين"، فقوله:"الوقت" مبتدأ، خبره قوله:"بين هذين"، أي الوقتُ المقتصد الذي لا إفراط فيه تعجيلًا، ولا تفريط فيه تأخيرًا، بين هذين الوقتين، فقد بيَّنْتُ لك بما فعلتُ أولَ الوقت، وآخره، والصلاة جائزة في جميعه، أوّلهِ، وأوسطه، وآخره.
والمراد بالآخر هنا آخر الوقت المختار، لا الجواز؛ إذ يجوز تأخير
الظهر ما لم يدخل وقت العصر، وتأخير العصر ما لم تغرب الشمس، والعشاء إلى نصف الليل، كما تقدّم تحقيق ذلك كلّه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الوقت بين هذين"، وقوله:"وقت صلاتكم بين ما رأيتم"، وكذلك في حديث جبريل عليه السلام:"الوقت بين هذين"، هي كلّها حجة لمالك وأصجابه على قولهم: إن الوقت الموسّع كلّه للوجوب من أوله إلى آخره، وأن المكلّف مخئرٌ بين تقديم الصلاة وتأخيرها إلى آخر الوقت، فأيُّ وقت صلّى فيه المكلّف، فقد أدَّى ما عليه، وقد تخبّط كثير من الناس في هذا المعنى، وطال فيه نزاعهم، وما ذكرناه واضحٌ موافقٌ لظاهر الحديث.
وقد ذهب بعض أصحابنا، وأصحاب الشافعيّ إلى أن وقت الوجوب وقت واحد غير معيّن، وإنما يُعيِّنه المكلّف بفعله.
وذهب الشافعيّ إلى أن أول الوقت هو الواجب، وإنما ضرب آخره فصلًا بين القضاء والأداء، وهذا باطلٌ بما أنه لو تعيَّن ذلك الوقت للوجوب لأثِمَ من أخّر الصلاة عنه إلى غيره، والإجماع أنه لا يأثم.
وذهب الحنفيّة إلى أن وقت الوجوب آخر الوقت، وهذا أيضًا باطلٌ؛ إذ لو كان كذلك لما جاز لأحد أن يوقع الصلاة قبل آخر الوقت، وقد جاز بالإجماع ذلك، ثم الحديث الذي ذكرناه يرُدّ على هذه الفرق كلّها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1395 و 1396](614)، و (أبو داود) في "الصلاة"(395)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(523)، و"الكبرى"(1499)،
(1)
"المفهم" 2/ 242 - 243.
و (أحمد) في "مسنده"(4/ 416)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1111)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1371 و 1372)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 263)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 374)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 148)، واللَّه تعالى أعلم.
وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1396]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، سَمِعَهُ مِنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَائِلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
كلّهم تقدّموا في هذا الباب.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ) يعني أن وكيعًا حدّث عن بدر بن عثمان بمثل ما حدّث به عبد اللَّه بن نمير عنه.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن بدر بن عثمان هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 211) فقال:
(1372)
حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا عبدان، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن بدر بن عثمان، عن أبي بكر بن أبي موسى، سمعه من أبيه، أن سائلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله عن مواقيت الصلاة؟ فلم يرُدّ عليه شيءً
(1)
فأمر بلالًا، فأقام حين انشق الفجر فصلاها، ثم أمره فأقام الظهر،
(1)
هكذا النسخة "شيء"، والظاهر أنه "شيئًا"، ويَحْتَمِل أن يكون منصوبًا على لغة لربيعة، وعادة قدماء المحدّثين الذين يكتبون المنصوب المنون بصورتي المرفوع والمجرور، واللَّه تعالى أعلم.
والقائل يقول: قد زالت الشمس أم لم تزل، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام المغرب حين وقعت الشمس، وأمره فأقام العشاء عند سقوط الشفق، ثم صلّى الفجر من الغد، والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو لم تطلع، وهو كان أعلم منهم، فصلى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس، وصلى العصر، والقائل يقول: قد احمرّت الشمس، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، فصلى العشاء ثلث الليل الأول، ثم قال:"أين السائل عن الوقت؟، ما بين هذين الوقتين وقتٌ". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(32) - (بَابُ بَيَانِ الأَمْرِ بِالإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ)
(1)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1397]
(615) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ع) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدوا بِالصَّلَاةِ
(2)
، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْن سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(محَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
(1)
من الغريب أن النوويّ رحمه الله ترجم هنا بما يوافق مذهبه، فقال:"باب استحباب الإبراد بالظهر في شدّة الحرّ لمن يمضي إلى جماعة، ويناله الحرّ في طريقه"، وهذا عجيب، فإن هذا القيد لَمْ يُذكر في أحاديث الباب، ولا في غيره، فكيف يُترجم بما لا يدلّ عليه؟، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(2)
وفي نسخة: "فأبردوا الصلاة".
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
5 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ حجة، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فتفرّد به هو وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيين: ابن شهاب عن ابن المسيب، وأبي سلمة.
5 -
(ومنها): أن ابن المسيِّب، وأبا سلمة من الفقهاء السبعة، على خلاف في أبي سلمة.
6 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ مَن رَوَى الحديث في عصره؛ روى (5374) حديثا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إن" لوقوعها مقولًا لـ "قال"، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
أَوْ حُكِيَتْ بِالْقَوْلِ أَوْ حَلَّتْ مَحَلْ
…
حَالٍ كَـ "جِئْتُهُ وَإِنِّي ذُو أَمَلْ"
(قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ) من الاشتداد، من باب الافتعال، وأصله "اشتدد"
أدغمت الدال الأولى في الثانية (الْحَرُّ) بالرفع فاعل "اشتد"، وهو: ضدُّ البرد، جمعه: حُرُور، وأحارر، كما في "القاموس"، ومفهومه أن الحرّ إذا لَمْ يشتد لَمْ يُشْرَع الإبراد، وكذا لا يُشْرَع في البرد من باب أولى، قاله في "الفتح".
(فَأَبْرِدُوا) -بفتح الهمزة، وكسر الراء- أمر من الإبراد، أي أخِّروا إلى أن يبرُد الوقتُ، يقال: أبرد: إذالمدخل في البرد، كأظهر: إذا دخل في الظهيرة، ومثله في المكان أنجد: إذا دخل نجدًا، وأتهم: إذا دخل تهامة، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الزمخشري في "الفائق": حقيقة الإبراد الدخول في البرد، والمعنى: إدخال الصلاة في البرد، ويقال: معناه: افعلوها في وقت البرد، وهو الزمان الذي يتبين فيه شدّة انكسار الحر؛ لأن شدّته تُذْهِب الخشوع.
وقال السفاقسيّ: أبردوا: أي ادْخُلُوا في وقت الإبراد، مثل أظلم: إذا دخل في الظلام، وأمسى: إذا دخل في المساء.
وقال الخطابيّ رحمه الله: الإبراد: انكسار شدّة حرّ الظهيرة، وذلك أن فتور حرّها بالإضافة إلى وهج الهاجرة برد، وليس ذلك بأن يؤخَّر إلى آخر برد النهار، وهو برد العشي، إذ فيه الخروج عن قول الأئمة، ذكره في "العمدة"
(2)
.
(بِالصَّلَاةِ) وفي نسخة: "فأبردوا الصلاةَ"، وفي الرواية الآتية:"فأبردوا عن الصلاة"، وقال في "الفتح": قوله: "بالصلاة" كذا للأكثر، والباء للتعدية، وقيل: زائدة، ومعنى "أبردوا" أخِّروا على سبيل التضمين، أي أخِّروا الصلاة، وفي رواية الكشميهني:"عن الصلاة"، فقيل:"عن" زائدة أيضًا، أو هي بمعنى الباء، أو للمجاوزة، أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدّة الحرّ. انتهى
(3)
.
وقال الحافظ وفي الدين العراقيّ رحمه الله: تَحْتَمِل "عن" أوجهًا:
[أحدهما]: أن تكون بمعنى الباء، كما أن الباء تكون بمعنى "عن"، فمن الأول فيما قيل، قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3]، أي
(1)
2/ 21.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 20.
(3)
"الفتح" 2/ 22.
بالهوي، ومن الثاني: قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وتسمى هذه باء المجاوزة.
[ثانيها]: أن تكون زائدة، أىِ أبردوا الصلاة، يقال: أبرد الرجل كذا: إذا فعله في برد النهار، ذكره القاضي عياض، وغيره، وفيه نظر؛ لأن من جعل "عن" زائدة قيَّد ذلك بأن تزاد للتعويض من أخرى محذوفة، ومثّلوه بقول الشاعر [من الطويل]:
أَتَجْزَعُ إِنْ نَفْسىٌ أَتَاهَا حِمَامُهَا
…
فَهَلَّا الَّتِي عَنْ بَيْنِ جَنْبَيْكَ تَدْفَعُ
قال أبو الفتح: أراد تدفع عن التي بين جنبيك، فحذفت "عن" من أول الموصول، وزيدت بعده.
[ثالثها]: تضمين "أبردوا" معنى أَخِّروا، وحذف مفعوله، تقديره: أَخِّروا أنفسكم عن الصلاة.
قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: معنى قوله "أبردوا" أخروا إلى زمان البرد، ولا ينتظم ذلك مع قوله:"عن"؛ فإن صورته أخِّروا عن الصلاة إلَّا بإضمار، وتقديره: أخروا أنفسكم عن الصلاة، وهو قريب من قول الخطابيّ رحمه الله: معنى قوله: "أبردوا عن الصلاة": تأخروا عنها مبردين، أي داخلين في وقت البرد. انتهى. وهو مثل كلام ابن العربي إلَّا أنه ضمّن "أبردوا" معنى فعل قاصر، لا يحتاج إلى تقدير مفعول، وهو "تأخروا". انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
ثم إن المراد بـ "الصلاة" هنا: الظهر؛ لأنها الصلاة التي يشتدّ الحر غالبًا في أول وقتها، وقد جاء صريحًا في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أبردوا بالظهر، فإن شدّة الحرّ من فيح جهنم"، رواه البخاري.
وقد حَمَلَ بعضهم الصلاة على عمومها بناءً على أن المفرد المعرف يعمّ، فقال به أشهب في العصر، وقال به أحمد في رواية عنه في العشاء؛ حيث قال: تُؤخر في الصيف دون الشتاء، ولم يقل أحد به في المغرب، ولا في الصبح؛ لضيق وقتهما، أفاده في "الفتح"
(2)
.
(1)
"طرح التثريب" 2/ 156 - 157.
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 22.
وسيأتي مزيد بسط للبحث في المسألة السادسة -إن شاء اللَّه تعالى-.
(فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ) الفاء فيه للتعليل، أراد به أن علة الأمر بالإبراد هي شدة الحر.
واختُلِف في حكمة هذا التأخير؛ فقيل: دفع المشقّة؛ لكون شدة الحر مما يذهب الخشوع. قال الحافظ رحمه الله: وهذا أظهر، وقيل: لأنه وقت تُسْجَر فيه جهنم، ويؤيِّده حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه عند مسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم له:"أَقْصِرْ عن الصلاة عند استواء الشمس، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم"
(1)
.
وقد استُشْكِل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة، ففعلها مظنة لطرد العذاب، فكيف أمر بتركها؟.
وأجاب أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله، وإن لَمْ يُفْهَم معناه.
واستَنْبَط له الزين ابن الْمُنَيِّر معنى يناسبه، فقال: وقت ظهور أثر الغضب، لا يَنْجَع فيه الطلب، إلَّا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبًا، ودعاءً، فناسب الاقتصار عنها حينئذ، واستَدَلَّ بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن اللَّه غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، سوى نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يَعْتَذِر، بل طلب؛ لكونه أُذِن له في ذلك.
ويمكن أن يقال: سَجْرُ جهنم سبب فَيْحِها، وفَيْحُها سبب وجود الحرّ، وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع، فناسب أن لا يصَلَّى فيها، لكن يرد عليه أن سجرها مستمرّ في جميع السنة، والإبراد مختص بشدة الحرّ، فهما متغايران، فحكمة الإبراد المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها؛ لكونه وقت ظهور أثر الغضب، واللَّه أعلم. قاله في "الفتح"
(2)
.
(مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ") أي من سعة انتشارها، وتنفسها، ومنه: مكان أفيح: أي متسع، قاله في "الفتح".
(1)
راجع الحديث الطويل الآتي للمصنّف في "كتاب صلاة المسافرين وقصرها" برقم (832).
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 32.
وقال العراقيّ رحمه الله: فَيْحُ جهنم وفَوْحُها، بالياء والواو، مع فتح الأول فيهما، وبالحاء المهملة: سُطُوع حرّها، وانتشاره، يقال: فاحت القِدْر، تفيح، وتفوح: إذا غلت. انتهى
(1)
.
و"جهنم": اسم من أسماء النار نعوذ باللَّه منها، قال الأزهريّ: في جهنم قولان: قال يونس بن حبيب، وأكثر النحويين: جهنم اسم النار التي يعذب اللَّه بها في الآخرة، وهي أعجمية، لا تُجَرُّ للتعريف والعجمة.
وقال آخرون: جهنم عربي، سميت نار الآخرة بها؛ لبعد قعرها، وإنما لَمْ تُجَرَّ؛ لثقل التعريف، وثقل التأنيث، وقيل: هو تعريب كهنام بالعبرانية، وقال ابن خالويه: بئر جِهِنّام، للبعيدة القعر، ومنه سميت جهنم، أفاده في "اللسان"
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: اختَلَف العلماء في معنى قوله: "فإن شدة الحرّ من فيح جهنم" هل هو حقيقة، أو مجاز؟.
فحمله الجمهور على الحقيقة، وقالوا: إن وَهَجَ الحرّ من فيح جهنم، ويؤيِّده حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي في هذا الباب:"اشتكت النار إلى ربها، فأذن لها بنفسين. . . " الحديث.
وقيل: إنه كلام خرج مخرج التشبيه، أي كأنه نار جهنم في الحرّ، فاجتنبوا ضرره.
قال القاضي عياض رحمه الله: وكلا الوجهين ظاهرٌ، وحمله على الحقيقة أولى.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: القول الأول يَعْضِده عموم الخطاب، وظاهر الكتاب، وهو أولى بالصواب. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: حمل الحديث على الحقيقة هو الصواب، فلا ينبغي العدول عنه؛ إذ لا داعي إلى ذلك.
وخلاصة القول أنه إذا أمكن حمل النصّ على ظاهره لا يجوز العدول عنه إلَّا لدليل يدلّ على الخروج عن ظاهره، وما هنا لا يوجد دليل على ذلك،
(1)
"طرح التثريب" 2/ 157.
(2)
"لسان العرب" 12/ 112.
بل ظواهر نصوص الكتاب والسنّة مؤيّدة وعاضدة للحمل على حقيقته، كما أشار إليه ابن عبد البرّ رحمه الله في كلامه المذكور آنفًا، فتبصر.
وعليه فيستفاد منه أن النار مخلوقة الآن موجودة، وهذا إجماع ممن يعتدّ به، وخالفت في ذلك المعتزلة، فقالوا: إنها إنما تخلق يوم القيامة، قال العراقيّ رحمه الله: والأدلة السمعية متوافرة على خلاف ذلك. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1397 و 1398 و 1399 و 1400 و 1401](615)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(533 و 534 و 536)، و (أبو داود) في "الصلاة"(402)، و (الترمذيّ) فيها (157)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(500)، وفي "الكبرى"(1487 و 1488 و 1489)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(677 و 678)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 16)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2049)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 48)، و (الحميديّ) في "مسنده"(942)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2302)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 324 و 325)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 229 و 256 و 266 و 285 و 348 و 393 و 462 و 501 و 507)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(156)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(329)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1506 و 1507)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 187)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1014 و 1015 و 1016 و 1017)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1373 و 1374 و 1375 و 1376 و 1377)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 437)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(361 و 362)، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال في "التلخيص الحبير": حديث: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم" متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأبي
ذرّ، وأخرجه البخاري من حديث ابن عمر، ولفظ ابن ماجه فيه:"أبردوا بالظهر".
وفي الباب عن أبي موسى، وعائشة، والمغيرة، وأبي سعيد، وعمرو بن عَبَسَة، وصفوان والد القاسم، وأنس، وابن عباس، وعبد الرحمن بن علقمة، وعبد الرحمن بن جارية، وصحابي لَمْ يُسَمَّ، ورواه مالك من رواية عطاء بن يسار مرسلًا، وروي عن عمر موقوفًا.
فحديث أبي موسى رواه النسائي بلفظ: "أبردوا بالظهر؛ فإن الذي تجدونه في الحر من فيح جهنم".
وحديث عائشة رواه ابن خزيمة بلفظ: "أبردوا بالظهر في الحر"، وحديث المغيرة رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وتفرد به إسحاق الأزرق، عن شريك، عن طارق، عن قيس، عنه. وفي رواية للخلال: وكان آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الإبراد.
وسئل عنه البخاريّ، فعدّه محفوظًا، وذكر الميمونيّ عن أحمد أنه رجح صحته، وكذا قال أبو حاتم الرازي: هو عندي صحيح.
وأعلّه ابن معين بما روى أبو عوانة عن طارق، عن قيس، عن عمر موقوفًا، وقال: لو كان عند قيس عن المغيرة مرفوعًا لَمْ يفتقر إلى أن يحدث به عن عمر موقوفًا، وقَوَّى ذلك عنده أن أبا عوانة أثبت من شريك، واللَّه أعلم.
وحديث أبي سعيد رواه البخاريّ بلفظ: "أبردوا بالظهر".
وحديث عمرو بن عَبَسَة رواه الطبراني، وحديث صفوان رواه ابن أبي شيبة، والحاكم والبغوي، من طريق القاسم بن صفوان، عن أبيه، بلفظ:"أبردوا بصلاة الظهر. . . " الحديث.
وحديث أنس
(1)
، وحديث ابن عباس رواه البزار بلفظ:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك يؤخر الظهر حتى يبرد، ثم يصلي الظهر، والعصر. . . " الحديث، وفيه عمر بن صُهْبان، وهو ضعيف.
(1)
لم يدكر في "التلخيص" 1/ 462 من أخرج حديث أنس، بل قال:"وحديث أنس رواه. . . " بياض، كما لم يذكره ابن الملقّن في "البدر المنير" 3/ 220، فليُنظر.
وحديث عبد الرحمن بن جارية رواه الطبرانيّ، وحديث عبد الرحمن بن علقمة رواه أبو نعيم.
وحديث الصحابيّ المبهم رواه الطبراني. وحديث عُمَر تقدم مع المغيرة. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعية الإبراد بصلاة الظهر إذا اشتد الحرّ، وسيأتي حكم الإبراد، واختلاف العلماء فيه، في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان حكمة الأمر بالإبراد، وهو كون شدة الحر من فيح الحر.
3 -
(ومنها): بيان كون النار، وكذا الجنة مخلوقة الآن وهو مذهب أهل السنة والجماعة، كما مرَّ قريبًا.
4 -
(ومنها): بيان سماحة الشريعة، حيث سَهَّلت في تأخير الصلاة، مع أن المبادرة إلى الطاعة هو المطلوب، دفعًا للحرج، قال اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الإبراد بالصلاة:
(اعلم): أنه اختَلَف القائلون بمشروعية الإبراد في الأمر الوارد في هذا الحديث، هل هو للوجوب، أم للاستحباب؟.
فقال الجمهور: إنه للاستحباب، وحَكَى القاضي عياض وغيره: أن بعضهم ذهب إلى الوجوب، قال الحافظ: وغفل الكرماني، فنقل الإجماع على عدم الوجوب، وقال البدر العينيّ:[فإن قلتَ]: ما القرينة الصارفة عن الوجوب، وظاهر الكلام يقتضيه؟.
[قلت]: لما كانت العلة فيه دفع المشقة عن المصلي لشدة الحرّ، وكان ذلك للشفقة عليه، فصار من باب النفع له، فلو كان للوجوب يصير عليه، ويعود الأمر على موضوعه بالنقض. انتهى
(2)
.
(1)
"التلخيص" 1/ 181 - 182.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 20 - 21.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى ضعف هذا التعليل؛ إذ الحقّ أن الأمر بالإبراد معلّل في الحديث بأن شدّة الحرّ من فيح جهنّم، لا دفع المشقّة فقط، ولو سلّمنا فلا ملازمة بين دفع المشقّة وإيجاد الإبراد؛ إذ المشقّة التي اعتبرها الشرع عند الأمر بالإبراد تناسب الإيجاب، ولا تعارضه، ولا نقض فيها، فافهم، واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن حزم رحمه الله: وإنما لم نحمل الأمر على الوجوب؛ لحديث خباب رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء، فلم يشكنا"
(1)
، قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر في تعجيلها؟ قال: نعم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وفيما قاله ابن حزم نظر؛ لأن الراجح أن حديث خبّاب منسوخ بأحاديث الأمر بالإبراد، كما سيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-، فلا يكون صارفًا للوجوب.
والحاصل أن قول من قال بإيجاب الإبراد هو الأرجح؛ لقوّة حجّته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم هل الإبراد في شدة الحر مطلقٌ، أم مقيّد بمن يصلّي جماعة، أو غير ذلك من القيود؟:
قال الحافظ وفي الدين العراقيّ رحمه الله: في هذا الحديث استحباب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحرّ، وهو تأخيرها إلى أن يبرد الوقت، وينكسر وَهَجُ الحر، وبه قال الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء من السلف والخلف، لكن أكثر المالكية على اختصاص الإبراد بالجماعة، فأما المنفرد، فتقديم الصلاة في حقّه أفضل، وكذا قال ابن حزم الظاهرىِّ؛ أنه يختص الإبراد بالجماعة.
وحَكَى ابن القاسم عن مالك أن الظهر تصلى إذا فاء الفيء ذراعًا في الشتاء والصيف للجماعة والمنفرد، على ما كتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عماله.
وقال ابن عبد الحكم، وغيره: معنى كتاب عمر مساجد الجماعة، فأما المنفرد، فأول الوقت أولى به. قال ابن عبد البر: وإلى هذا مال فقهاء المالكية من البغداديين، ولم يلتفتوا إلى رواية ابن القاسم. انتهى.
(1)
هو الحديث الآتي في الباب التالي.
(2)
راجع: "المحلى" 3/ 184 - 185.
وقال الشافعي: إنما يستحب الإبراد في شدة الحرّ بشروط:
الأول: أن يكون في بلد حار، وقال الشيخ أبو محمد الجويني وغيره: يستحب في البلاد المعتدلة والباردة أيضًا إذا اشتد الحرّ.
الثاني: أن تصلى في جماعة، فلو صلّى منفردًا، فتقديم الصلاة له أفضل.
الثالث: أن يقصد الناس الجماعة من بُعْد، فلو كانوا مجتمعين في موضع صَلَّوا في أول الوقت.
الرابع: أن لا يجدوا كِنًّا يمشون تحته، يقيهم الحرّ، فإن اختل شرط من الشروط، فالتقديم أفضل.
وقال الشيخ موفق الدين ابن قدامة في "المغني": ظاهر كلام أحمد استحباب الإبراد بها على كلّ حال، قال الأثرم: وهذا على مذهب أبي عبد اللَّه سواء، يستحب تعجيلها في الشتاء، والإبراد بها في الحر، وهو قول إسحاق، وأصحاب الرأي، وابن المنذر؛ لظاهر قوله:"إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة"، وهذا عامّ.
وقال القاضي: إنما يستحب الإبراد بثلاث شرائط:
شدّة الحر، وأن يكون في البلدان الحارّة، ومساجد الجماعات، فأما من صلاها في بيته، أو في مسجد بفناء بيته فالأفضل تعجيلها، وقال القاضي في "الجامع": لا فرق بين البلدان الحارّة، وغيرها، ولا بين كون المسجد ينتابه الناس، أو لا؛ فإن أحمد كان يؤخِّرها في مسجده، ولم يكن بهذه الصفة، والأخذ بظاهر الخبر أولى. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: سيأتي ترجيح هذا القول إن شاء اللَّه تعالى.
وذهبت طائفة إلى عدم استحباب الإبراد مطلقًا، وحكاه ابن المنذر عن عمر، وابن مسعود، وجابر رضي الله عنهم، وحكاه ابن بطال عنهم، وعن أبي بكر، وعليّ، وحكاه ابن عبد البر عن الليث بن سعد، والمشهور عنه موافقة الجمهور.
احتجّ الجمهور القائلون باستحباب الإبراد في شدَّة الحر مطلقًا بأحاديث الباب، وغيرها، فإنه ليس فيها سوى ذلك.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: واستنبط الشافعيّ رحمه الله هذه الشروط التي اعتبرها من الحديث، وجعله تخصيصًا للنص بالمعنى، فحُكي عنه أنه قال: إن أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالإبراد كان بالمدينة لشدة حرّ الحجاز، ولأنه لم يكن بالمدينة مسجد غير مسجده يومئذ، وكان يُنتاب من البعد، فيتأذون بشدة الحرّ، فأمرهم بالإبراد؛ لما في الوقت من السعة، حكاه ابن عبد البر.
واستَدَلَّ الترمذيّ في "جامعه" بحديث أبي ذرّ رضي الله عنه الثابت في "الصحيحين": "أذن مؤذِّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أبرد، أبرد"، أو قال: "انتظر، انتظر"، وقال: "شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحرّ، فأبردوا عن الصلاة"، حتى رأينا فيء التلول.
وفي رواية للبخاريّ أن ذلك كان في سفر، على خلاف ما ذهب إليه الشافعيّ، وقال: لو كان على ما ذهب إليه لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى؛ لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعده انتهى.
وأجاب الشافعية عما قاله الترمذيّ بأن اجتماعهم في السفر قد يكون أكثر مشقة منه في الحضر، فإنه يكون كلّ واحد منهم في خبائه، أو مستقرًّا في ظل شجرة، أو صخرة، ويؤذيه حرّ الرمضاء إذا خرج من موضعه، وليس هناك ظل يمشون فيه، وأيضًا فليس هناك خباء كبير يجمعهم، فيحتاجون إلى أن يصلوا في الشمس، والظاهر أيضًا أن أخبيتهم كانت قصيرة، لا يتمكنون من القيام فيها.
وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يأمر مناديه، في الليلة الباردة، أو المطيرة في السفر أن يقول: ألا صلوا في الرحال"، فلما كان وجود البرد الشديد، أو المطر في السفر مرخِّصًا في ترك الجماعة، كذلك وجود الحر الشديد في السفر مُقْتَضٍ للإبراد بالظهر.
وقال ابن المنذر رحمه الله: ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر،
فأبردوا بالظهر"، وبخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نقول، وهو على العموم، لا سبيل يستثنى من ذلك البعض. انتهى.
قال العراقيّ رحمه الله: وقد عرفت أن التخصيص إنما هو بالمعنى، والصحيح في الأصول أنه يجوز أن يُستَنْبَط من النصّ معنى يُخَصِّصه.
لكن قد يقال: لا يتعين أن تكون العلة ما أشار إليه الشافعيّ من تأذيهم بالحر في طريقهم، فقد تكون العلة ما يجدونه من حرّ الرمضاء في جباههم في حالة السجود، وقد ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه، قال:"كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالظهائر جلسنا على ثيابنا اتقاء الحر"، ورواه أبو عوانة في "صحيحه" بلفظ:"سجدنا" بدل: "جلسنا".
وفي "سنن أبي داود" وغيره: "كنت أصلي الظهر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فآخذ قبضة من الحصى؛ لتبرد في كفي، أضعها لجبهتي، أسجد عليه، لشدة الحر".
وفي حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح: "فإذا لَمْ يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه"، فهذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، ولم نجد عنهم أنهم شَكَوا مشقة المسافة، ولا بُعْد الطريق.
ويمكن أن تكون العلة في ذلك أنه وقت يفوح فيه حرّ جهنم، ولهيبها، وهو ظاهر قوله:"فإن شدة الحر من فيح جهنم"، وكونها ساعة يفوح فيها لهب جهنم وحرها، يقتضي الكفّ عن الصلاة، كما في حديث عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه:"فإذا اعتدل النهار، فأقصِرْ"، يعني عن الصلاة، فإنها ساعة تُسجَر فيها جهنّم.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذه العلة هي أوضح ما يُعَلَّل به الأمر "بالإبراد"؛ لكون الحديث نصًّا فيها، فلا معنى للتعليل بغيرها، فحينئذ يستوي في الحكم الجماعة، والمنفرد، والحضري، والمسافر، فالقول بالعموم هو الحقّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
واحتجّ القائلون بعدم استحباب الإبراد مطلقًا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبحديث خباب رضي الله عنه:"شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الرمضاء، فلم يشكنا" الآتي في الباب التالي.
وأجابوا عن حديث الباب، وغيره من الأحاديث الدالة على الإبراد بأن معناها: صَلُّوها في أول وقتها، أخذًا من بَرْد النهار، وهو أوله.
ورُدّ عليهم بأن هذا تأويل بعيد، يبطله قوله:"فإن شدة الحرّ من فيح جهنم"؛ لأن أول وقت الظهر أشدّ حرًّا من آخره، وحديث أبي ذرّ المتقدم صريح في أن المراد بالإبراد التأخير إلى وقت البرد.
وقال الخطابيّ رحمه الله: ومن تأول الحديث على برد النهار، فقد خرج من جملة قول الأئمة.
وأجيب عما تمسكوا به، بأن أحاديث أول الوقت عامة، أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص؛ فهو مقدم، ولا التفات إلى من قال: التعجيل أكثر مشقة، فيكون أفضل؛ لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل، كما في قصر الصلاة في السفر، قاله في "الفتح"
(1)
.
وأجيب عن حديث خباب رضي الله عنه بأوجه:
أحدها: أنه إنما لم يجبهم لِمَا سألوا؛ لأنهم أرادوا أن يؤخروا الصلاة بعد الوقت الذي حدّه لهم، وأمرهم بالإبراد إليه، ويزيدوا على الوقت المرخَّص لهم فيه، ومن المعلوم أن حر الرمضاء الذي يسجد عليه، لا يزول إلَّا بعد خروج الوقت كله، ذكر المازريّ هذا الجواب، وقال: إنه الأشبه، يعني أشبه الأجوبة.
ثانيها: أن هذا الحديث ونحوه من الأحاديث الدالة على التقديم، منسوخة بأحاديث الإبراد؛ لأنها رُويت من حديث أبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، ونحوهما ممن تأخر إسلامه، بخلاف أحاديث التعجيل، كحديث خباب، وحديث عبد اللَّه بن مسعود.
ويدل عليه ما رواه ابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:"كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهاجرة، فقال لنا: أبردوا بالصلاة، فإن شدّة الحر من فيح جهنم"، ورواه الطحاويّ بلفظ:"ثم قال: أبردوا"، وأعله أبو حاتم بأنه رُوي عن قيس بن أبي حازم، عن عمر بن الخطاب من قوله.
وذكر الخلال عن الميمونيّ: أنهم ذاكروا أبا عبد اللَّه، يعني أحمد بن
(1)
راجع: 2/ 22.
حنبل حديث المغيرة بن شعبة، فقال: أسانيدها جياد، ثم قال: خباب يقول: "شكونا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُشْكِنا"، والمغيرة -كما ترى- روى القصتين جميعًا، قال: وفي رواية غير الميمونيّ: وكان آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الإبراد.
وقال الأثرم بعد ذكر أحاديث التعجيل والإبراد: فأما التي ذكر فيها التعجيل في غير الحر فإن الأمر عليها، وأما حديث خباب، وجابر، وما كان فيها من شدّة الحر، فإن ذلك عندنا قبل أن يأمر بالإبراد.
وقد جاء بيان ذلك في حديثين: أحدهما حديث بيان، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة: قال: كنا نصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فقال لنا:"أبردوا" فتبيّن لنا أن الإبراد كان بعد التهجير، والحديث الآخر أبين من هذا: خالد بن دينار أبو خلدة، قال: سمعت أنسًا، يقول:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان البرد بَكَّر بالصلاة، وإذا كان الحرّ أبرد بالصلاة".
ثالثها: أن الإبراد رخصة، وتقديمه صلى الله عليه وسلم كان أخذًا بالأشق، قال العراقيّ: وبهذا قال بعض أصحابنا، ونصّ عليه الشافعيّ في البويطيّ، وصححه أبو علي السنجي، لكن الصحيح من مذهبنا أن الإبراد هو الأفضل، فلا يمشي عليه هذا الجواب.
رابعها: أن معنى قوله: "فلم يُشْكِنا" لم يُحْوِجنا إلى شكوى، بل رَخَّص لنا في الإبراد، حكاه القاضي أبو الفرج المالكيّ عن ثعلب، ويرُدّه أن في بعض طرقه:"في أشكانا"، وقال:"إذا زالت الشمس فصَلُّوا"، روى هذه الزيادة أبو بكر بن المنذر، كما ذكره ابن القطان.
خامسها: أن الإبراد أفضل، وحديث خباب فيه بيان جواز التعجيل، دلّ عليه كلام ابن حزم، فإنه ذكر استحباب الإبراد، ثم قال: وإنما لم نحمل هذا الأمر على الوجوب؛ لحديث خباب، قال العراقيّ: لكن في هذا نظر؛ لأن ظاهر حديث خباب المنع من التأخير، أو أنه مرجوح بالنسبة إلى التقديم، واللَّه أعلم. انتهى كلام العراقيّ ببعض تصرف، وبعض زيادة من "الفتح"
(1)
.
(1)
راجع: "طرح التثريب" 2/ 151 - 155.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي أظهر الأجوبة وأرجحها جواب من قال بنسخ حديث خباب رضي الله عنه بحديث المغيرة رضي الله عنه الذي استدلّ به الطحاويّ عليه، قال:"كنا نصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا: أبردوا بالصلاة"، وهو حديث رجاله ثقات، رواه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، ونقل الخلال عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما قاله الحافظ في "الفتح"
(1)
.
وقال في "التلخيص": وسئل البخاريّ عنه، فعدّه محفوظًا، وذكر الميمونيّ عن أحمد أنه رجح صحته، وكذا قال أبو حاتم الرازي: هو عندي صحيح، وأعله ابن معين بما رَوَى أبو عوانة عن طارق، عن قيس، عن عمر موقوفًا، وقال: لو كان عند قيس، عن المغيرة مرفوعًا، لَمْ يفتقر إلى أن يُحَدِّث به عن عمر موقوفًا، وقوّى ذلك عنده أن أبا عوانة أثبت من شريك، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع: فتبيّن بهذا كلِّه أن الأكثرين على تصحيحه، ويؤيِّد ذلك ما تقدّم من حديث أنس رضي الله عنه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان البرد بكّر بالصلاة، وإذا كان الحرّ أبرد بالصلاة".
والحاصل: أن الراجح كون حديث خباب رضي الله عنه منسوخًا، وأن أرجح المذاهب مذهب من قال بالإبراد في اشتداد الحرّ مطلقًا، سواء كان جماعةً، أو منفردًا؛ لقوة حجّته، ووضوحها، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه أعلم.
وقال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكر نحو ما تقدم-: ولو سلّمنا جهل التاريخ، وعدم معرفة المتأخر لكانت أحاديث الإبراد أرجح؛ لأنَّها في "الصحيحين"، بل في جميع الأمهات بطرق متعددة، وحديث خباب في مسلم فقط، ولا شك أن المتفق عليه مقدم، وكذا ما جاء بطرُقٍ. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله
(3)
، وهو تحقيق حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 21.
(2)
"التلخيص الحبير" 1/ 181.
(3)
"نيل الأوطار" 2/ 32 - 33.
(المسألة السادسة): قيل: لفظ "الصلاة" عامّ بناء على أن المفرد المعرّف بالألف واللام للعموم، فيتناول سائر الصلوات، وذلك يقتضي تأخير كل منها في شدة الحر، وبه قال الجمهور في الظهر، كما تقدم، وقال به أشهب وحده في صلاة العصر؛ قال: تؤخر ربع القامة، وقال به أحمد بن حنبل في رواية عنه في صلاة العشاء، فرأى تأخيرها في الصيف، وتعجيلها في الشتاء، وعكس ابن حبيب من المالكية، فرأى تأخيرها في الشتاء؛ لطول الليل، وتعجيلها في الصيف؛ لقصره.
قال العراقيّ رحمه الله: وهو أظهر في المعنى، ولا نعلم أحدًا قال بالإبراد في المغرب، وكأن ذلك لضيق وقتها، ولا في الصبح، وكأن ذلك لأن وقتها أبرد الأوقات مطلقًا، فلا معنى للإبراد بها.
وجواب الجمهور عن ترك القول بالإبراد في العصر والعشاء: أن المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر، كما ورد بيانه في بعض الطرق الصحيحة المتقدمة؛ ففي رواية البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فقال:"أبردوا بالظهر"، وهي رواية النسائيّ من حديث أبي موسى رضي الله عنه، فتكون الألف واللام في الصلاة في الرواية المطلقة للعهد.
وأيضًا فإن أول وقت العصر، وأول وقت العشاء لا يكون في الغالب أشدّ حرًّا من آخر وقت الظهر، فإذا فعلت الظهر في آخر وقتها، ففعلُ العصر في أول وقتها، والعشاء في أول وقتها، وهما أقلّ حرًّا أولى بذلك.
وأيضًا فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه في خبر الإبراد، لا بالعصر، ولا بالعشاء، بل كان يأتي بكل منهما في أول وقتها صيفًا وشتاءً، وأما تأخيره العشاء في بعض الأوقات، فهو إما لاجتماع الناس، كما ورد بيانه، أو لما في تأخيرها من الفضل، وليس ذلك لأجل الإبراد، ولا فرق فيه بين الصيف والشتاء. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح الأقوال في المسألة قول الجمهور، وهو أن الإبراد المأمور به إنما في الظهر، ومثله
(1)
"طرح التثريب" 2/ 155.
الجمعة، وأما ما عدا ذلك من الصلوات فلا يُشرع فيه الإبراد؛ لعدم نصّ يُعتمد عليه في ذلك، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1398]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 15.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ سَوَاءً) يعني أن حديث يونس عن ابن شهاب، مثل حديث الليث عنه سواء.
[تنبيه]: رواية يونس هذه ساقها الحافظ أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(2/ 212) فقال:
(1374)
حدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يونس، أن ابن شهاب أخبره، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب أنهما سمعا أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتد الحرّ، فأبردوا عن الصلاة، فإن شدّة الحرّ من فيح
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
جهنّم". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1399]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَي، قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، وَسَلْمَانَ الْأَغرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الْحَارُّ، فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَمنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"، قَالَ عَمْرُو: وَحَدَّثَنِي أَبُو يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ"، قَالَ عَمْرُو: وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) نزيل مصر، أبو جعفر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ) -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ المعروف بابن التَّسْتُريّ، صدوقٌ، تُكُلّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) ذُكر قبله.
5 -
(عَمْرُو) بَن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيّوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
6 -
(بُكَيْر) بن عبد اللَّه بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو أُسامة المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
7 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) مولى ابن الحضرميّ المدنيّ العابد، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.
8 -
(سَلْمَانُ الْأَغَرُّ) أبو عبد اللَّه الجُهنيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المدنيّ، أصبهانيّ الأصل، ثقةٌ، من كبار [3](ع) تقدم في "الإيمان" 53/ 319.
9 -
(أَبُو يُونُسَ) سُليم بن جُبير الدوسيّ المصريّ، مولى أبي هريرة، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ) قد تقدّم البحث على مثل هذه الكلام غير مرّة، وخلاصته: أن قوله: "ابن وهب" تنازعه كل من "أخبرنا"، و"حدّثنا"، وغرضه بذلك بيان الاختلاف بين شيوخه الثلاثة في كيفيّة التحمل والأداء، فعمرو بن سوّاد سمعه عن ابن وهب بقراءة غيره عليه، ولذا قال:"أخبرنا"، وأما هارون، وأحمد فسمعاه من لفظ ابن وهب، ولذا قالا:"حدّثنا"، فتنبّه، فإنه مهمّ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: ("إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الْحَارُّ")"كان" هنا تامّة، ولذا اكتفت بمرفوعها، أي جاء اليوم الجارّ، ووقع.
وقوله: (قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي أَبُو يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. . . إلخ)"عمرو" هو ابن الحارث، وقائل "قال" هو ابن وهب، وأراد بذلك أن عمرو بن الحارث حدّثه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بطرق ثلاث:
الأولى: طريق بكير، عن بسر بن سعيد، وسلمان الأغرّ كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والثانية: طريق أبي يونس، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذه أعلى من الأولى والثالثة؛ لأنَّها خماسيّة، وهما سُداسيّان.
والثالثة: طريق ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (بِنَحْوِ ذَلِكَ) أي بنحو ما تقدّم من طريقي بُكير، وأبي يونس.
[تنبيه]: رواية عمرو عن ابن شهاب هذه لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1400]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْحَرَّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن محمد بن عُبيد الدّراوَرْديّ الجهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
2 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع و (130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجهنيّ الْحُقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقيان ذُكرا في الباب، والحديث مضى شرحه، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1401]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْرِدُوا عَنِ الْحَرِّ فِي الصَّلَاةِ، فَمنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد بن رافع، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قبل بابين.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد، تقدّم قبل بابين أيضًا.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّه) بن كامل الأَبْناويّ، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213، والحديث مضى شرحه، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1402]
(616) - (حَدَّثَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُهَاجِرًا أَبَا الْحَسَنِ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ زيدَ بْنَ وَهْبٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَبْرِدْ أَبْرِدْ"، أَوْ قَالَ:"انْتَظِرِ انْتَظِرْ"، وَقَالَ:"إِنَّ شِد الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ"، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(مُهَاجِرٌ أَبُو الْحَسَنِ) التيميّ الكوفيّ الصائغ، مولى بني تيم اللَّه، ثقةٌ [4].
رَوَى عن البراء بن عازب، وابن عباس، ورجل من الحضرميين له صحبة، وعمرو بن ميمون الأوديّ، وزيد بن وهب، وأبي وائل، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، والثوريّ، وأبو معاوية النخعيّ، ومِسْعَرٌ، ومالك بن مِغْوَل، وإسرائيل، وشريك، وأبو عوانة، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال أبو زرعة: حدّثنا عبد اللَّه بن أبي بكر الْعَتَكيّ، حدّثنا شعبة، عن أبي الحسن، يعني مهاجرًا الصائغ، وأحسن شعبة عليه الثناء، وذكره ابن حبان في
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا"، وفي أخرى:"وحدّثنا".
"الثقات"، وقال يعقوب بن سفيان، والعجليّ: كوفيّ ثقةٌ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
5 -
(زيدُ بْنُ وَهْبٍ) الْجُهنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، ثقة جليل مخضرم، لم يُصب من قال: في حديثه خللٌ [21] مات بعد (80) وقيل: سنة (96)(ع) تقدم في "الإيمان" 67/ 374.
6 -
(أَبُو ذَرٍّ) الغفاريّ، جندب بن جُنادة، وقيل غيره، الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى مهاجر، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين، سوى أبي ذرّ رضي الله عنه، فرَبَذيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) رضي الله عنه، ووقع عند البخاريّ من طريق أخرى عن شعبة بهذا الإسناد:"سمعت أبا ذرّ"
(1)
. (قَالَ: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة عن شبابة، ومسدد، عن أمية بن خالد، والترمذيّ من طريق أبي داود الطيالسيّ، وأبي عوانة، من طريق حفص بن عمر، ووهب بن جرير، والطحاويّ، والجوزقيّ من طريق وهب أيضًا كلهم عن شعبة التصريح بأنه بلال رضي الله عنه.
ولفظ أبي عوانة في "مسنده": "كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مسير فأراد بلال أن يؤذّن بالظهر، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أبرد. . . "، وفي رواية: "كنّا مع
(1)
"الفتح" 2/ 23.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فأذّن بلالٌ، فقال: مه يا بلال. . . " الحديث.
(بِالظُّهْرِ) متعلّق بـ "أذّن"، أي أعلم الناس بدخول وقت الظهر (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَبْرِدْ أَبْرِدْ") أمر من الإبراد، مكرّرًا، وظاهر هذا أن الأمر بالإبراد وقع بعد تقدّم الأذان منه، ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ:"فأراد أن يؤذّن للظهر"، وظاهره أن ذلك وقع قبل الأذان، فيُجمع بينهما بأنه شَرَع في الأذان، فقيل له: أَبْرِدْ، فترك، فمعنى "أذّن": شَرَع في الأذان، ومعنى "أراد أن يؤذّن": أي يُتمّ الأذان، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأقرب في وجه الجمع -كما قاله في "العمدة"
(2)
- أن يقال: إن معنى قوله: "أذّن" أراد الشروع في الأذان، فهذا أسهل وأوفق في الجمع، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية البخاريّ: "فأراد المؤذّن أن يؤذّن للظهر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أبرد، ثم أراد أن يؤذّن، فقال له: أبرد"، زاد أبو داود في روايته، عن أبي الوليد، عن شعبة:"مرتين أو ثلاثًا"، وجزم مسلم بن إبراهيم، عن شعبة بذكر الثالثة، وهو عند البخاريّ في "باب الأذان للمسافرين".
[فإن قيل]: الإبراد للصلاة، فكيف أمر المؤذن به للأذان؟.
[فالجواب]: أن ذلك مبنيّ على أن الأذان هل هو للوقت، أو للصلاة؟، وفيه خلاف مشهور، والأمر المذكور يُقَوِّي القول بأنه للصلاة.
وأجاب الكرمانيّ بأن عادتهم جرت بأنهم لا يتخلفون عند سماع الأذان عن الحضور إلى الجماعة، فالإبراد بالأذان لغرض الإبراد بالعبادة، قال: ويَحْتَمِل أن المراد بالتأذين هنا الإقامة.
قال الحافظ: ويشهد له رواية الترمذيّ من طريق أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، بلفظ:"فأراد بلال أن يقيم"، لكن رواه أبو عوانة من طريق حفص بن عمر، عن شعبة، بلفظ:"فأراد بلال أن يؤذن"، وفيه:"ثم أمره، فأذَّن وأقام".
ويُجْمَع بينهما بأن إقامته كانت لا تتخلف عن الأذان؛ لمحافظته صلى الله عليه وسلم على الصلاة في أول الوقت، فرواية:"فأراد بلال أن يقيم"، أي أن يؤذِّن ثم يقيم،
(1)
2/ 23.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 33.
ورواية: "فأراد أن يؤذِّن" أي ثم يقيم. انتهى
(1)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: "انْتَظِرِ انْتَظِرْ") وهو بمعنى "أبرد"؛ لأن المقصود بالانتظار هو الإبراد (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم معلّلًا أمره بالإبراد، أو الانتظار ("إِنَّ شِد الْحَرّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) -بفاء مفتوحة، ثم مثنّاة من تحتُ ساكنة، ثم حاء مهملة-: أي سُطُوع حرّها، وانتشاره، وغليانها، يقال: فاحت القِدْرُ تفيح، وتفوح: إذا هاجت وغَلَت (فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ،) قال القرطبيّ رحمه الله: أي أخّروها عن ذلك الوقت، وادخلوا بها في وقت البرد، وهو الزمن الذي يَتَبَيَّن فيه انكسار شدّة الحرّ، وتوجد فيه برودةٌ ما، يقال: أبرد الرجل: أي صار في بَرْد النهار.
قال: و"عن" بمعنى الباء، كما قد روي في بعض طرقه:"أبردوا بالصلاة"، و"عن" تأتي بمعنى الباء، كما يقال: رميت عن القوس، أي به، كما تأتي الباء بمعنى "عن"، كما قال الشاعر [من الطويل]:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
…
بَصِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
أي عن النساء، وكما قيل في قوله تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، أي عنه، وقيل: إن "عن" زائدة، أي أبردوا الصلاةَ، يقال: أبرد الرجلُ كذا: إذا فعله في بَرْد النهار. انتهى
(2)
.
(قَالَ أَبُو ذَرٍّ) رضي الله عنه (حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ) بالضمّ: جمع تَلّ، وهي الروابي، وظلّها لا يظهر إلا بعد تمكّن الفيء، واستطالته جدًّا، بخلاف الأشياء المنتصبة التي يظهر فيئها سريعًا في أسفلها؛ لاعتدال أعلاها وأسفلها، قاله القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أنه أخّر تأخيرًا كثيرًا حتى صار للتُّلُول فيءٌ، والتُّلُول منبطحة غير منتصبة، ولا يصير لها فيء في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير، قاله النوويّ رحمه الله
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "حتى رأينا. . . إلخ" هذه الغاية متعلقة بقوله:
(1)
"الفتح" 2/ 26.
(2)
"المفهم" 2/ 244.
(3)
"المفهم" 2/ 246.
(4)
"شرح النوويّ" 5/ 119.
"فقال له: أَبْرِد" أي كان يقول له في الزمان الذي قبل الرؤية: أبرد، أو متعلقة بـ "أَبْرِد"، أي قال له: أبرد إلى أن ترى، أو متعلقة بمقدر: أي قال له: أبرد، فأبرد إلى أن رأينا.
و"الفيء" -بفتح الفاء، وسكون الياء، بعدها همزة-: هو ما بعد الزوال من الظل.
و"التُّلُول" جمع تَل -بفتح المثناة، وتشديد اللام-: كلُّ ما اجتمع على الأرض، من تراب، أو رمل، أو نحو ذلك، وهي في الغالب منبطحة، غير شاخصة، فلا يظهر لها ظلّ إلا إذا ذهب أكثر وقت الظهر.
وقال ابن رجب رحمه الله: قوله: "حتى رأينا فيء التُّلُول" يعني حتى مالت الشمس، وبَعُدت عن وسط السماء، حتى ظهر للتُّلول فيءٌ.
و"الفيء": هو الظلّ بعد زواله، فإن الشمس إذا طلعت كان للتلول ونحوها ظلّ مستطيلٌ، ثم يقصُر حتى يتناهى قِصَرُهُ وقت قيام الشمس بالظهيرة، ثم إذا زالت الشمس عاد الظلّ، وأخذ في الطول، فما كان قبل الزوال يُسمَّى ظلًّا، وما كان بعده يُسمّى فيئًا؛ لرجوع الظلّ بعد ذهابه، ومنه سُمّي الفيء فيئًا، كأنه عاد إلى المسلمين ما كانوا أحقّ به ممن كان في يده. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: اختَلَفَ العلماء في غاية الإبراد، فقيل: حتى يصير الظل ذراعًا بعد ظل الزوال، وقيل: ربع قامة، وقيل: ثلثها، وقيل: نصفها، وقيل غير ذلك.
ونزّلها المازريّ على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنه يَخْتَلف باختلاف الأحوال، لكن يُشتَرط أن لا يمتد إلى آخر الوقت، وأما ما وقع عند البخاريّ في "الأذان" عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، بلفظ:"حتى ساوى الظلّ التُّلُول"، فظاهره يقتضي أنه أخَّرها إلى أن صار ظل كل شيء مثله.
ويَحْتَمِل أن يراد بهذه المساواة ظهور الظل بجنب التَّلّ بعد أن لم يكن ظاهرًا، فساواه في الظهور، لا في المقدار، أو يقال: قد كان ذلك في السفر،
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 247 - 248.
فلعله أخّر الظهر حتى يجمعها مع العصر، قاله في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1402](616)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(535 و 539)، و"الأذان"(629)، و"بدء الخلق"(3258)، و (أبو داود) في "الصلاة"(401)، و (الترمذيّ) فيها (158)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(445)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 324)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 155 و 162 و 176)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(328)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1509)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1017 و 1018 و 1019)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1378)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 186)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 438)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(363)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الإبراد في الظهر في السفر، وفيه الردّ على ما نُقل عن الشافعيّ رحمه الله حيث قيّد الإبراد بالحضر دون السفر، وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله عليه بابًا في "صحيحه"، فقال:"باب الإبراد بالظهر في السفر"، ثم أورد حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: مقصود البخاري بهذا الباب أن الإبراد بالظهر مشروع في الحضر والسفر، وسواء كان جماعةُ المصلّين مجتمعين في مكان الصلاة أو كانوا غائبين، وقد استدلّ الترمذيّ في "جامعه" بهذا الحديث على أن الإبراد لا يختصّ بالمصلّي في مسجدٍ ينتابه الناس من الْبُعْد، كما يقوله الشافعيّ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه مجتمعين في السفر، وقد أبرد بالظهر. انتهى.
(1)
2/ 26.
وعبارة الترمذيّ رحمه الله قال: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحرّ، فهو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذرّ ما يدل على خلاف ما قاله الشافعيّ، قال أبو ذرّ رحمه الله: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فأذَّن بلال بصلاة الظهر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا بلال أبرد، ثم أبرد"، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعيّ لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى؛ لاجتماعهم في السفر، فكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البُعْد. انتهى.
وأجاب الكرمانيّ، فقال: لا نسلم اجتماعهم؛ لأن العادة في القوافل سيما في العساكر الكثيرة تفرقهم في أطراف المنزل لمصالح، مع التخفيف على الأصحاب، وطلب المرعى وغيره خصوصًا إذا كان فيه سلطان جليل القدر، فإنهم يتباعدون عنه احترامًا وتعظيمًا له.
وتعقّبه العينيّ، فقال: هذا ليس بردّ مُوَجَّهٍ لكلام الترمذيّ، فإن كلامه على الغالب، والغالب في المسافرين اجتماعهم في موضع واحد؛ لأن السفر مظنة الخوف، سيما إذا كان عسكر خرجوا لأجل الحرب مع الأعداء.
وقال بعضهم -يريد الحافظ ابن حجر- عقيب كلام الكرمانيّ رحمه الله: وأيضًا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، ليس هناك كِنٌّ يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعيّ، وغايته أنه استَنْبَط من النصّ العامّ معنى يخصه. انتهى.
فقال العينيّ رحمه الله: قلت: هذا أكثر بُعْدًا من كلام الكرمانيّ؛ لأن فيه إسقاط العمل بعموم النصوص الواردة في الإبراد بالظهر بأشياء مُلَفَّقة من الخارج، وقوله: فليس في سياق الحديث إلى آخره غير صحيح؛ لأن الخلاف لظاهر الحديث صريح لا يخفى؛ لأن ظاهره عامّ، والتقييد بالمسجد الذي ينتاب أهله من البعد خلاف ظاهر الحديث، والاستنباط من النصّ العامّ معنى يخصصه لا يجوز عند الأكثرين، ولئن سلّمنا فلا بد من دليل للتخصيص، ولا دليل لذلك ههنا. انتهى كلام العينيّ رحمه الله
(1)
، وهو تعقّب وجيهٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"عمدة القاري" 5/ 37.
2 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن حدّ الإبراد إلى أن يظهر فيء التُّلول ونحوها.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن رجب رحمه الله: ظاهر حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا يدلّ على أنه يُشرع الإبراد بالأذان عند إرادة الإبراد بالصلاة، فلا يؤذّن إلا في وقت يُصلَّى فيه، فإذا أُخّرت الصلاة أُخِّر الأذان معها، وإن عُجّلت عُجّل معها. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[14303]
(617) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لِحَرْمَلَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ
(2)
، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
(3)
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم تقدّموا في هذا الباب.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي) وفي نسخة: "أخبرني"(أَبُو سَلَمَةً بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، هكذا أخرج المصنّف هذا الحديث عن ابن شهاب، عن أبي سلمة.
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 249.
(2)
وفي نسخة: "قال: أخبرنا ابن وهب"، وفي أخرى:"قالا: أخبرنا ابن وهب".
(3)
وفي نسخة: "أخبرني".
وأخرجه البخاريّ من طريق سفيان بن عيينة، قال: حفظناه الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب، قال في "الفتح": قوله: "عن سعيد بن المسيب"، كذا رواه أكثر أصحاب سفيان عنه، ورواه أبو العباس السّرّاج، عن أبي قُدَامة، عن سفيان، عن الزهريّ، عن سعيد أو أبي سلمة، أحدهما أو كلاهما، ورواه أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، عن أبي سلمة وحده، والطريقان محفوظان، فقد رواه الليث، وعمرو بن الحارث، عند مسلم، ومعمر، وابن جريج، عند أحمد، وابن أخي الزهريّ، وأسامة بن زيد، عند السرّاج، ستتهم عن الزهريّ، عن سعيد وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: فقد رواه الليث، وعمرو بن الحارث، عند مسلم، يريد به قوله:"إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا. . . إلخ"، وأما قوله:"اشتكت النار. . . إلخ" فإنما أخرجه مسلم عن الزهريّ، عن أبي سلمة فقط.
والحاصل أنه قد تبيّن بما ذُكر أن الحديث محفوظ عن الزهريّ، عن ابن المسيّب، وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.
(أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا) اختُلِفَ في هذه الشكوى، هل هي بلسان المقال، أو بلسان الحال، واختار كلًّا طائفة، وقال ابن عبد البرّ: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح، وقال عياض: إنه الأظهر، وقال القرطبيّ: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته، قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى، وقال النوويّ نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب، وقال نحو ذلك التُّورِبِشْتِيّ.
ورجَّح البيضاويّ حمله على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: واختُلف في معنى هذا الحديث، فمن العلماء من
(1)
"الفتح" 2/ 24.
(2)
"الفتح" 2/ 24.
حَمَله على ظاهره، وقال: هو لسان مقال مُحقَّق، وشكوى محقّقة، وتنفّس محقّقٌ؛ إذ هو إخبار من الصادق بأمر جائز، فلا يُحتاج إلى تأويله.
وقيل: إن هذا الحديث خرج مخرج التشبيه والتقريب، أي كأنه نار جهنّم في الحرّ، وقد تكون هذه الشكوى، وهذه المقالة لسان حال، كما قال [من الرجز]:
شَكَى إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى
…
صَبْرٌ جَمِيلٌ فَكِلَانَا مُبْتَلَى
والأول أولى؛ لأنه حمل اللفظ على حقيقته، ولا إحالة في شيء من ذلك. انتهى
(1)
.
وقال الزين ابن الْمُنَيِّر: المختار حمله على الحقيقة؛ لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال، وإن عُهِدت وسُمِعت، لكن الشكوى وتفسيرها، والتعليل له، والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز، خارج عما أُلِف من استعماله. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن الْمُنَيّر: هو التحقيق الحقيق بالقبول.
والحاصل أن حمل الشكوى هنا على حقيقتها هو الصواب؛ إذ لا داعي لدعوى المجاز هنا، فإن المجاز لا يُصار إليه إلا عند تعذّر الحقيقة، أو تعسّرها، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (فَقَالَتْ) تفسير وتوضيح لمعنى قوله: "اشتكت النار"(يَا رَبِّ) تقدّم أنه يجوز في مثله ستّة أوجه، أشار إلى خمسة منها ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا
…
كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا
والسادسة "ياربُّ" بالضم تشبيهًا له بالمنادى المفرد.
(أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ) تثنية "نَفَس" -بفتح الفاء- وهو ما يخرج من الجوف، ويدخل فيه من الهواء (نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ) بجرّ "نَفَسٍ" في الموضعين على البدل، أو البيان، ويجوز فيهما الرفع على أنه
(1)
"المفهم" 2/ 244.
(2)
"الفتح" 2/ 24.
خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أحدهما نفسٌ في الشتاء، والآخر نفس في الصيف، ويجوز فيهما النصب على تقدير: أعني نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف.
(فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ") المراد بالزمهرير شدة البرد، ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النار؛ لأن المراد من النار محلُّها وهو جهنم، وفيها طبقة زمهريرية، ويقال: لا منافاة في الجمع بين الحرّ والبرد في النار؛ لأن النار عبارة عن جهنم، وقد ورد أن في بعض زواياها نارًا، وفي الأخرى الزمهرير، وليس محلّا واحدًا يستحيل أن يجتمعا فيه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [32/ 1403 و 1404 و 1405](617)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(537)، و"بدء الخلق"(3260)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنّم"(2517)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 16)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 48 - 49)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 238)، و (الدارميّ) في "سننه"(2722)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1015 و 1016 و 1020)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1379 و 1380)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 187)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 438)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2/ 205)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الردّ على من زعم من المعتزلة وغيرهم، أن النار لا تُخلَق إلا يوم القيامة.
2 -
(ومنها): بيان أن النار تفهم وتعقل، وتتكلّم.
3 -
(ومنها): بيان مشروعيّة الإبراد بالظهر عند اشتداد الحرّ في الصيف؛
لأن الحديث جزء من حديث الأمر بالإبراد، كما ساقه في الرواية التالية مساقًا واحدًا، وكذلك ساقه البخاريّ مساقًا واحدًا، فقال:
(537)
حدّثنا عليّ بن عبد اللَّه المدينيّ، قال: حدّثنا سفيان، قال: حفظناه من الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اشتدّ الحرّ، فأبردوا بالصلاة، فإن شدّة الحرّ من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشدّ ما تجدون من الحرّ، وأشدّ ما تجدون من الزمهرير".
فقوله: "واشتكت النار. . . إلخ معطوف على: "إذا اشتدّ الحرّ. . . إلخ"، فهو بالسند المذكور، وليس معلقًا، ولا موقوفًا، خلافًا لمن زعم ذلك، كما أفاده في "الفتح".
4 -
(ومنها): بيان أن الشكوى تُتَصَوَّر من جَمَاد ومن حيوان أيضًا، كما جاء في معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم شكوى الْجِذْع، وشكوى الْجَمَل على ما عُرف في موضعه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1404]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَيِ هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّارَ اشْتَكَتْ إِلَى رَبِّهَا، فَأَذِنَ لَهَا فِي كُلِّ عَامٍ بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ) أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
2 -
(مَعْن) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.
3 -
(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ) المخزوميّ المقرئ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 148)(ع) تقدم في "المساجد" 20/ 1302.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ) القرشيّ العامريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وفاطمة بنت قيس، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن عباس، ومحمد بن إياس بن البكير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.
ورَوَى عنه أخوه سليمان، ويحيى بن أبي كثير، ويزيد بن عبد اللَّه بن الهاد، ويزيد بن عبد اللَّه بن خصيفة، والزهريّ، وعبد اللَّه بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: هو من التابعين لا يسأل عن مثله، وقال ابن سعد، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وضعّف حديثه ابن حزم في "الأضاحي" من "المحلَّى"، قال الحافظ: فإن كان ضعّف الخبر لإرساله، ففي العطف نظرٌ، وإن كان ضعّف محمدًا، فليس له في ذلك سلفٌ.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ) أي أخّرها إلى البرد، واطلبوا البرد لها، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1405]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ
(2)
، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَتِ النَّارُ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ
(3)
، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ، أَوْ زَمْهَرِيرٍ، فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ، أَوْ حَرُورٍ، فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صفوان التُّجِيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ) الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ له أفراد [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
والباقون تقدّموا في الباب.
وقوله: (فَمَا وَجَدْتمْ مِنْ بَرْدٍ، أَوْ زَمْهَرِيرٍ، فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ، أَوْ حَرُورٍ، فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ) قال النوويّ رحمه الله قال العلماء: الزمهرير شدّةُ البرد، والْحَرُور شدّة الحرّ، قالوا: وقوله: "أو" يَحْتَمِل أن يكون شكًّا من الراوي، ويَحْتَمِل أن يكون للتقسيم. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "أو" هذه يَحْتَمِل أن تكون شكًّا من الراوي، فيكون
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني"، وفي أخرى:"حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "ابن الهادي".
(3)
وفي نسخة: "أن أتنفّس".
(4)
"شرح النوويّ" 5/ 120.
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال أحدهما، فشكّ فيه الراوي، فجمعهما بـ "أو"، ويَحْتَمِلُ أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر اللفظين، فتكون "أو" للتقسيم والتنويع.
و"الْحَرُور": اشتداد الحرّ، وفيحه بالليل والنهار، فأما السموم فلا يكون إلا بالليل، و"الزمهرير": شدّة البرد. انتهى
(1)
.
وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث، فراجعها تستفد، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(33) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ شِدَّةِ الْحَرِّ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1406]
(618) - (حَدَّثَنَا
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ (ح) قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ (ح) قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ
(3)
، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِنِ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّار) بن عثمان الْعَبديّ، المعروف ببُندار أبو بكر البصريّ، ثقة فاضلٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيد) بن فَرُّوخ الْقَطَّانُ التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
(1)
"المفهم" 2/ 245.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "عن سماك بن حرب".
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
5 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الْوَرْد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسْطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظ متقنٌ، أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتّش بالعراق عن الرجال، وذبّ عن السنّة [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
6 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْب) بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره، مضطرب في عكرمة خاصّةً [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
7 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنَادة السُّوَائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، وسماك علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان.
5 -
(ومنها): كتابة (ح) مرّتين، وفائدة التحويل بيان اختلاف شيخه ابن المثنّى في كيّفية التحمّل والأداء عن شيخيه: يحيى القطّان، وعبد الرحمن بن مهديّ.
ففي التحويل الأول بيّن أنه سمعه من يحيى القطّان وحده، ولذا قال:"حدّثني يحيى بن سعيد"، ونسبه إلى أبيه أيضًا، وصرّح شعبة بتحديث سماك له، وفي التحويل الثاني بيّن أنه سمعه من عبد الرحمن بن مهديّ مع غيره، ولذا قال:"وحدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ"، وعنعن بعده، وأما محمد بن بشّار فالظاهر ما فصّل هذا التفصيل، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ") وفي رواية أبي داود من طريق هشام الدستوائيّ، عن شعبة، بلفظ:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دَحَضت الشمس صلى الظهر، وقرأ بنحو من {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}، والعصر كذلك، والصلوات كذلك، إلا الصبح، فإنه كان يطيلها".
وقوله: "دَحَضَت" -بفتح الدال والحاء المهملة-: أي زَلَقَت وزالت عن كَبِد السماء، والدَّحْضُ: الزّلَقُ، قال القرطبيّ رحمه الله: وكان هذا منه صلى الله عليه وسلم في زمن البرد، كما قد رواه أنسّ رضي الله عنه:"أنه إذا كان الحرّ أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عَجَّلَ"، رواه النسائيّ.
وفيه دليلٌ على استحباب تقدم صلاة الظهر في أول وقتها، وبه قال الشافعيّ والجمهور، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وأخرج ابن عبد البرّ رحمه الله: عن الأثرم قال: قلت لأبي عبد اللَّه -يعني أحمد بن حنبل-: أيُّ الأوقات أعجب إليك؟ قال: أول الأوقات أعجب إليَّ في الصلوات كلِّها إلا في صلاتين: صلاة العشاء الآخرة، وصلاة الظهر في الحرّ يبرد بها، وأما في الشتاء فيعجل بها. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 121.
(2)
راجع: "التمهيد" لابن عبد البر 5/ 7 - 8.
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 1406](618)، و (أبو داود) في "الصلاة"(806)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(673)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 106)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1382)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 438)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1407]
(619) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ فِي الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ، سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمٍ) الحنفيّ الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ [7](179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ اختلط بآخره [3](ت 129)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ وَهْبِ) الْهَمْداني الْخَيْوَانيّ -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء التحتانيّة- ابن أبي خَيْرة، يقال له: القُرَاد -بضم القاف، وتخفيف الراء- الكوفي، ثقة مخضرم من [2].
أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمع من معاذ بن جبل باليمن في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وعليّ، وسلمان، وأبي مسعود، وحذيفة، وخباب بن الأرت، وأم سلمة رضي الله عنهم.
ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، وأبو إسحاق، وعُمارة بن عُمير، والسّريّ بن إسماعيل.
قال ابن معين: ثقة، وقال ابن سعد: عُرِف بالقُراد للزومه عليّ بن أبي
طالب رضي الله عنه، ووثقه العجليّ، وابن نمير، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: وهو الذي يقال له: سعيد بن أبي خيرة. انتهى.
قال ابن أبي عاصم: توفي سنة 75، وقال عمرو بن علي: سنة 76.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
5 -
(خَبَّاب) بن الأَرَتّ بن جَندَلة بن سعد التميميّ، أبو عبد اللَّه، شهد بدرًا، وكان قَيْنًا في الجاهلية.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه أبو أمامة الباهليّ، وابنه عبد اللَّه بن خبّاب، وأبو معمر عبد اللَّه بن سَخْبرة، وقيس بن أبي حازم، ومسروق بن الأجدع، وعلقمة بن قيس، وأبو وائل، وحارثة بن مُضَرِّب، وأبو الْكَنُود الأزديّ، وأبو ليلى الكِنديّ، وأرسل عنه، ومجاهد، والشعبي، وسليمان بن أبي هند، ويقال: ابن أبي هندية، نزل الكوفة، ومات بها سنة (37) وهو ابن (73) سنة، وقيل: ابن ثلاث وستين، وصَلَّى عليه عليّ بن أبي طالب، وكان من المهاجرين الأولين. قال ابن سعد: أصابه سِبَاءٌ، فبيع بمكة، ثم حالف بني زُهْرة، وأسلم قبل أن يدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وكان من المستضعفين الذين يُعَذَّبون بمكة، وحَكَى الباروديّ أنه أسلم سادس ستة، وحَكَى ابن عبد البر في "الاستيعاب" أنه شَهِد صِفِّين مع عليّ، ثم قال: وقيل: مات سنة (19)، وصلى عليه عمر، وقال أبو الحسن ابن الأثير: الصحيح أنه لم يشهد صفين، منعه من ذلك مرضه، وقال ابن حبان: مات منصرف عليّ من صفين، وصلى عليه عليّ، وقيل: توفي سنة (19)، والأول أصح.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (619) وأعاده بعده، و (940) و (2681)(2795).
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وسعيد بن وهب فانفرد به هو والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن سعيد بن وهب، وخبابًا هذا أول محل ذكرهما في هذا الكتاب، وجملة ما رواه المصنف لسعيد هذا الحديث فقط، ولخباب رضي الله عنه أربعة أحاديث.
5 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، وفيه التحديث، والعنعنة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ) وقد صرّح أبو إسحاق بالسماع من سعيد بن وهب، وسماع سعيد من خبّاب، ولفظه من طريق شعبة، عنه:"قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبّابًا يقول. . . "(عَنْ خَبَّاب) بن الأَرَتّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يقال: شَكَوته، شَكْوًا، من باب قَتَلَ، والاسم شَكْوَى، وشِكَايَةَ، وشَكَاةً، فهو مَشْكُوٌّ، ومَشْكِيٌّ، واشتكيت منه، والشَّكِيَّة اسم للمَشْكُوّ، كالرّمِيَّة: اسمٌ للمَرميّ، والشَّكِيّ: الشاكي، والشَّكِيّ: الْمَشْكُوُّ، وأشكيته بالألف: فعلت به ما يُحْوِج إلى الشَّكْوَى، وأشكيته: أزلتُ شِكَايته، فالهمزة للسلب، مثلُ أعربته: إذا أزلت عَرَبَه، وهو فساده، ومنه:"شَكَونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضَاء في جباهنا، فلم يُشْكِنَا"، أي لم يُزِلْ شِكَايتنا، وشكا إليّ، فما أشكيتُ، أي لم أَنْزِع عمّا يشكو، قاله في "المصباح"
(1)
.
وقال ابن بَرِّيّ: الشِّكَايةُ، والشَّكِيّةُ: إظهار ما يَصِفُك به غيرُك من المكروه، والاشتكاءُ: إظهار ما بك من مكروه ومَرَضٍ، ونحوه، قاله في "اللسان".
ومعنى الحديث كما قال ابن الأثير في "النهاية": أنهم شَكَوا إليه حَرّ الشمس، وما يصيب أقدامهم منه إذا خرجوا إلى صلاة الظهر، وسألوه تأخيرها قليلًا، فلم يُشْكِهم: أي لم يُجِبهم إلى ذلك، ولم يُزِل شكواهم.
قال ابن الأثير رحمه الله: وهذا الحديث يُذكَر في مواقيت الصلاة لأجل قول
(1)
"المصباح المنير" 1/ 321.
أبي إسحاق لما قيل له: في تعجيلها؟ قال؟ نعم، والفقهاء يذكرونه في السجود، فإنهم كانوا يضعون أطراف ثيابهم تحت جباههم في السجود من شدّة الحر، فنُهُوا عن ذلك، وإنهم لما شَكَوا إليه ما يجدون من ذلك لم يَفْسَح لهم أن يسجدوا على أطراف ثيابهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن الأثير نقلًا عن الفقهاء غير صحيح؛ لمخالفته ما صحّ من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: "كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شدّة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه، فسجد عليه"، رواه مسلم.
ودعوى كون المراد بالثوب الثوب المنفصل -كما قالت الشافعية- مما لا دليل عليه، واللَّه تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمروا بالإبراد، ويَحْتَمِل أنهم طلبوا زيادة تأخير الظهر على وقت الإبراد، فلم يُجبهم إلى ذلك، وقد قال ثعلب في قوله: فلم "يُشْكِنا": أي لم يُحْوِجنا إلى الشكوى، ورَخَّص لنا في الإبراد، حكاه القاضي أبو الفرج، وعلى هذا تكون الأحاديث كلها متواردة على معنى واحد. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: تفسير ثعلب يرده -كما قال الحافظ- أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله: "فلم يُشْكِنا" وقال: "إذا زالت الشمس فصلُّوا"، فالأولى أن يحمل معنى "فلم يُشْكِنا" على المعنى الأول، فيكون المعنى: لم يُزِلْ شكوانا، وذلك أنهم طلبوا منه تأخيرًا زائدًا عن وقت الإبراد، وهو زوال حرّ الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت، فلم يجبهم إليه، واللَّه تعالى أعلم.
(الصَّلَاةَ فِي الرَّمْضَاءِ) بضاد معجمة بوزن الحمراء: هي الرمل الحارّ لحرارة الشمس، قاله السندي. وفي "المصباح": الرمضاء: الحجارة الحامية من حرّ الشمس.
(1)
"النهاية" 2/ 497.
(2)
"المفهم" 2/ 247.
والمعنى: أنهم شَكَوا إليه شدّةَ ما يَلْقَونَ من حرّ الأرض الحماة بالشمس في أقدامهم إذا صَلَّوْا.
(فَلَمْ يُشْكِنَا) -بضمّ أوله-: مضارع أشكى رباعيًّا، يقال: أشكيت فلانًا: إذا أزلت شكايته، فالهمزة للسلب، مثل أعربته: إذا أزلت عَرَبه، وهو فساده. قاله في "المصباح"، وتقدم أنه يقال: أشكيته بالألف: إذا فعلت به ما يحوج إلى الشكوى، فهو من الأضداد.
وقال القرطبيّ رحمه الله
(1)
: قوله: "لم يُشكنا": أي لم يُسْعِفْ طَلَبَنا، ولم يُجبنا إلى مطلوبنا، يقال: شكوت إلى فلان: إذا رفعت إليه حاجتك، وأشكيته: إذا نزعت عنه الشَّكْوى، وأشكيته: إذا ألجأته إلى الشكوى، كما قال [من البسيط]:
تُشْكِي الْمُحِبَّ وَتَشْكُو وَهْيَ ظَالِمَةٌ
…
كَالْقَوْسِ تُصْمِي الرَّمَايَا وَهْيَ مِرْنَانُ
(2)
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث خباب رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 1407 و 1408](619)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(497)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(675)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2055)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1052)، و (الحميديّ) في "مسنده"(152 و 153)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 323 - 324)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 108 و 110)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3676 و 3678 و 3686 و 3704)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 185)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1480)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (1/ 438 -
(1)
"المفهم" 2/ 247.
(2)
يقال: أصميتُ الصيد: إذا رميته، فقتلته، وأنت تراه، وأصمى الرميّة: أنفذها، و"الْمِرْنان: مِن أنّت القوسُ في إنباضها: إذا صَوَّتت".
439 و 2/ 104 - 105)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(358)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب التعجيل بصلاة الظهر في شدة الحر، وقد تقدّم أن هذا كان قبل الأمر بالإبراد، فالصحيح أن هذا الحديث منسوخ بأحاديث الأمر بالإبراد، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من مراجعتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم، ولا يتقدمون بين يديه؛ امتثالًا لقول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1].
3 -
(ومنها): أنه ينبغي للعبد أن يُكَلِّف نفسه تَحَمُّل ما يَشُقّ عليها في طاعة اللَّه تعالى؛ لينال به الأجر العظيم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله: أنه استَدَلّ بعضُ من لم ير السجود على الثوب بحديث خبّاب رضي الله عنه هذا، قالوا: المراد بذلك أنهم شَكَوْا إليه صلى الله عليه وسلم مشقّة السجود على الحصى في شدّة الحرّ، واستأذنوه أن يسجدوا على ثيابهم، فلم يُجبهم إلى ما سألوا، ولا أزال شكواهم، واستدلُّوا على ذلك بما روى محمد بن جُحَادة، عن سليمان بن أبي هند، عن خبّاب رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شدّة الحرّ في جباهنا وأكفّنا، فلم يُشكنا.
قال: ويُجاب عن ذلك بأن حديث خبّاب اختُلِف في إسناده على أبي إسحاق، فرُوي عنه، عن سعيد بن وهب، عن خبّاب رضي الله عنه، ورُوي عنه، عن حارثة بن مُضرِّب، عن خبّاب، وقد قيل: إنهما من مشايخ أبي إسحاق المجهولين الذين لمن يَرْوِ عنهم غيره.
وفي إسناده اختلاف كثيرٌ، ولذلك لم يُخرّجه البخاريّ.
قال: وأما معنى الحديث، فقد فسَّره جمهور العلماء بأنهم شَكَوْا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شدّة الحرّ، وطلبوا منه الإبراد بها، فلم يُجبهم، وبهذا فسّره رُواةُ الحديث، منهم أبو إسحاق، وشَرِيك.
وقد أخرجه البزّار في "مسنده"، وزاد فيه:"وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلّي الظهر بالهَجِير"
(1)
.
وأخرجه ابن المنذر، وزاد في آخره:"وقال: إذا زالت الشمس فصلُوا"
(2)
.
وأما رواية من زاد فيه: "في جِبَاهنا وأكفّنا"، فهي منقطعةٌ، حَكَى إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: هي مرسلةٌ - يعنى أن سليمان بن أبي هند لم يسمع من خبّاب
(3)
.
وعلى تقدير صحّتها فقد يكون شَكَوا إليه ما يلقونه من شدّة حرّ الحصى في سجودهم، وأنه لا يقيهم منه ثوب ونحوه، وأيضًا فلو كانوا قد طلبوا منه السجود على ثوب يقيهم حرّ الرمضاء لأمرهم بالسجود على ثوب منفصل؛ فإن ذلك لا يُكره عند الشافعيّ ولا عند غيره لشدّة الحرّ كما سبق.
[فإن قيل]: فحمله على هذا ترُدّه أحاديث الأمر بالإبراد بالظهر في شدّة الحرّ.
[قيل]: عنه جوابان:
أحدهما: أن ذلك كان قبل أن يُشرع الإبراد، ثمّ نُسخ، وقد رُوي من حديث المغيرة ما يدلّ على ذلك.
والثاني: أن شدّة الحرّ في الصيف لا يزول في المدينة إلا بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وهو الذي طلبوه، فلم يُجبهم إلى ذلك، وإنما أمرهم بالإبراد اليسير، ولا يزول به شدّة حرّ الحصى.
وقد قيل: إنهم إنما شَكَوا إليه أنهم كانوا يُعذَّبون في اللَّه بمكة في حرّ الرمضاء قبل الهجرة، وطلبوا منه أن يدعو لهم، ويستنصر، فأمرهم بالصبر في اللَّه، وقد رَوَى قيس بن أبي حازم عن خبّاب هذا المعنى صريحًا، وبهذا فسّره ابن المدينيّ وغيره، والصحيح الأول. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"مسند البزّار" 6/ 78.
(2)
"الأوسط" 2/ 358.
(3)
"المراسيل" لابن أبي حاتم (ص 84).
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1408]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، وَعَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَ عَوْنٌ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ ابْنُ يُونُسَ، وَاللَّفْظُ لَهُ: حَدَّثَنَا زُهَبْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا، قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: أَفِي الظُّهْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفِي تَعْجِيلِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد اللَّه بن يونس بن عبد اللَّه بن قيس التميميّ الْيَرْبُوعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ) -بتشديد اللام- أبو جعفر الكوفيّ، مولى بني هاشم، ثقةٌ [10](230)(م) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
3 -
(زُهَيْر) بن معاوية بن حُدَيج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الْجَزِيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه عن أبىِ إسحاق بأَخَرَة [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: [إن قلت]: كيف أخرج المصنّف رواية زُهير، عن أبي إسحاق، مع أن سماعه بآخره بعد اختلاطه؟.
[قلت]: إنما أخرج له متابعة لأبي الأحوص، وأيضًا روى الحديث شعبة والثوريّ، عن أبي إسحاق، وهما ممن روى عنه قبل اختلاطه، قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":
(20547)
حدّثنا سليمان بن داود، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبّابًا يقول: شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الرمضاء، فلم يُشكِنا، قال شعبة: يعني في الظهر. انتهى.
وقال أيضًا:
(20558)
حدّثنا عبد الرحمن، عن سفيان (ح) وابنُ جعفر قال: حدّثنا
شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خبّاب، قال: شكونا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم شدّة الرَّمْضَاء، فما أشكانا، يعني في الصلاة، وقال ابن جعفر: فلم يشكنا. انتهى.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (حَرَّ الرَّمْضَاءِ) أي الرجل الذي اشتدّت حرارته.
وقوله: (فَلَمْ يُشْكِنَا) أي لم يُزل شكوانا.
وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ) أي ابن معاوية.
وقوله: (قُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ) أي السبيعيّ.
وقوله: (أَفِي الظُّهْرِ؟) أي أكان طلبهم تأخير الصلاة في صلاة الظهر؟.
وقوله: (أَفِي تَعْجِيلِهَا؟) أي أكانت الشكوى في شأن تعجيل صلاة الظهر؟.
وقوله: (قَالَ: نَعَمْ) أي قال أبو إسحاق: نعم، كانت في ذلك.
وحاصل المعنى: أن زهيرًا لَمّا حدّثه أبو إسحاق بهذا الحديث، قال له: هل هذه الشكوى من أجل تعجيل صلاة الظهر الذي تسبب لإيذاء حر الرمضاء لهم؟، فقال أبو إسحاق: نعم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1409]
(620) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُوَل اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(غَالِبٌ الْقَطَّانُ) بن خُطَاف -بضم المعجمة، وقيل: بفتحها، وتشديد
الطاء- ابن أبي غَيْلان القَطّان أبو سليمان البصريّ، مولى ابن كُرَيز، وقيل: مولى بني تَمِيم، وقيل غير ذلك، صدوق [6].
رَوَى عن أنس، فيما قيل، ومحمد بن سيرين، والحسن، وبكر بن عبد اللَّه المزنيّ، وغيرهم. وعنه شعبة، وابن عُلَيّة، وخالد بن عبد الرحمن السلميّ، وغيرهم.
قال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه: ثقة ثقة، وقال ابن معين، والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق صالح، وقال عمار بن عمر بن المختار، عن أبيه: حدثنا غالب القَطّان، وكان واللَّه من خيار الناس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وقال ابن عديّ بعد أن ساق له أحاديث: الضُّعْفُ على أحاديثه بيّنٌ، وفي حديثه النكرة، ثم أورد له حديثًا منكرًا، الحمل فيه على الراوي عنه، عمر بن المختار، وقال الذهبي: لعل الذي ضعّفه ابن عديّ آخر.
أخرج له الجماعة، وليس له عند المصنّف، والنسائي إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: "خطّاف" ضبطه أحمد بالفتح، وابن المديني، وابن معين بالضم.
و"القطان": نسبة إلى بيع القطن
(1)
.
4 -
(بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المزَنيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ نبيلٌ [3](ت 106)(ع)(خت م 4) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 82.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِك) بن النضر الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
(1)
راجع: "لب اللباب" 2/ 183.
4 -
(ومنها): أن فيه أنسًا أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ) وفي رواية النسائيّ: "كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالظهائر"، وهي: جمع ظَهِيرة، وهي شدة الحرّ نصفَ النهار، ولا يقال في الشتاء: ظهيرة (فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ) أي من شدّة الحرّ (بَسَطَ ثَوْبَهُ) قال في "الفتح": والثوب في الأصل يُطْلَق على غير المخيط، وقد يُطْلَق على المخيط مجازًا. انتهى.
ثم إن الظاهر أن المراد بالثياب الثيابُ التي هم لابسوها، ضرورةَ أن الثياب في ذلك الوقت قليلة، فمن أين لهم ثياب فاضلة؟، فهذا يدلّ على جواز أن يسجد المصلي على ثوب، هو لابسه، كما عليه الجمهور، أفاده السنديّ رحمه الله.
(فَسَجَدَ عَلَيْهِ) وفي رواية البخاريّ: "كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ في مكان السجود"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.
[تنبيه]: قد كتب الإمام ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث بحثًا مفيدًا، حيث قال بعد أن ساق نصّ البخاريّ عن أبي الوليد -هشام بن عبد الملك- عن بشر بن المفضّل بسند المصنّف ومتنه:
وقد خرّجه في موضع آخر من كتابه من طريق ابن المبارك، عن خالد بن عبد الرحمن -وهو ابن بكير السلميّ البصريّ: حدّثني غالب القطّان، عن بكر المزنيّ، عن أنس قال: كنّا إذا صلّينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ.
ثم أورد رواية مسلم هذه، ثم قال: وخرّجه البخاريّ في أواخر الصلاة
كذلك، وقد خرّجه الترمذيّ من طريق خالد بن عبد الرحمن، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
قال: وإنما ذكرت هذا؛ لأن الْعُقيليّ قال: حديث أنس في هذا فيه لينٌ، ولعلّه ظنّ تفرّد خالد به، وقد قال هو في خالد: يخالف في حديثه، وقد تبيّن أنه تابعه بشر بن المفضّل على جلالته وحفظه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن حديث أنس رضي الله عنه هذا لا كلام فيه، وأن تليين العقيليّ له غير مقبول، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وقد أدخل بعض الرواة في إسناد هذا الحديث الحسن البصريّ بين بكر وأنس، وهو وَهَمٌ، قاله الدارقطني
(1)
.
قال: وقد رُوي عن أنس رضي الله عنه حديث يخالف هذا، أخرجه أبو بكر بن أبي داود في "كتاب الصلاة": ثنا محمد بن عامر الأصبهانيّ، حدّثني أبي، ثنا يعقوب، عن عنبسة، عن عثمان الطويل، عن أنس بن مالك قال:"كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرمضاء، فإذا كان في ثوب أحدنا فضلة، فجعلها تحت قدميه، ولم يجعل تحت جبينه؛ لأن صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت خفيفة في إتمام".
قال: سنةٌ تفرّد بها أهل البصرة.
قال ابن رجب: يشير إلى تفرّد عثمان الطويل به عن أنس، وهما بصريّان، وعثمان هذا قد رَوى عنه شعبة وغيره، وقال أبو حاتم: هو شيخٌ.
وأما من قبل عثمان فهم ثقاتٌ مشهورون، فعنبسة هو ابن سعيد قاضي الريّ، أصله كوفيّ ثقةٌ مشهور، وثّقه أحمد، ويحيى، ويعقوب هو الْقُمّيّ ثقةٌ مشهور أيضًا، وعامرٌ هو ابن إبراهيم الأصبهانيّ، ثقةٌ مشهورٌ من أعيان أهل أصبهان، وكذلك ابنه محمد بن عامر.
ولكن إسناد حديث بكر أصحّ، ورُواته أشهر، ولذلك خُرَّج في "الصحيح" دون هذا، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التحقيق الذي ذكره ابن رجب رحمه الله حسنٌ جدًّا، حاصله أن حديث أنس رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان هو الأصحّ والأرجح
(1)
راجع: "علل الدارقطنيّ" 4/ 40.
(2)
"فتح الباري" 3/ 35 - 37.
مما أخرجه أبو بكر بن أبي داود، فلا معارضة بينهما، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 1409](620)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(385)، و"المواقيت"(542)، و"العمل في الصلاة"(1208)، و (أبو داود) في "الصلاة"(660)، و (الترمذيّ) فيها (584)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(1116)، و"الكبرى"(703)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1033)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 269)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100)، و (الدارميّ) في "سننه"(1343)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4152 و 4153)، و (ابن خزيمة)(675)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2354)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1385)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 105 - 106)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(357)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز استعمال الثياب وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض؛ لاتقائه بذلك حرّ الأرض وكذا بردها.
2 -
(ومنها): أن مباشرة ما باشر الأرض بالجبهة واليدين هو الأصل؛ لأنه علّق بسط الثوب بعدم الاستطاعة، وذلك يُفهم منه أن الأصل والمعتاد عدم بسطه، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.
3 -
(ومنها): جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي. قال النوويّ رحمه الله: وبه قال أبو حنيفة، والجمهور، وحمله الشافعيّ على الثوب المنفصل. انتهى.
قال في "الفتح": وأيَّد هذا الحمل البيهقيُّ بما رواه الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: "فيأخذ أحدنا الحصى في يده، فإذا برد وضعه، وسجد عليه"، قال: فلو جاز السجود على شيء متصل به لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه.
وتُعُقِّب باحتمال أن يكون الذي كان يبرد الحصى لم يكن في ثوبه فضلة، يسجد عليها، مع بقاء سترته له. انتهى.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: يَحتاج من استَدَلّ به على الجواز إلى أمرين:
(أحدهما): أن تكون لفظة "ثوبه" دالّة على المتصل به، إما من حيث اللفظ، أو من أمر خارج عنه، ونعني بالخارج قلة الثياب عندهم، ومما يدلّ عليه من جهة اللفظ قوله:"بسط ثوبه، فسجد عليه" يدلّ على أن البسط معَقّب بالسجود عليه، لدلالة الفاء على ذلك ظاهرًا.
(الثاني): أن يدلّ الدليل على تناوله لمحل النزاع؛ إذ من منع السجود على الثوب المتصل به يشترط في المنع أن يكون متحركًا بحركة المصلي، وهذا الأمر الثاني سهل الإثبات؛ لأن طول ثيابهم إلى حيث لا تتحرك بالحركة بعيد. انتهى كلام ابن دقيق رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: يُستفاد من كلام ابن دقيق العيد رحمه الله هذا أن استدلال من استَدَلّ بهذا الحديث على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي الذي يتحرك بحركته ظاهر؛ إذ تعقيبه بالفاء التعقيبية في قوله: "بسط ثوبه، فسجد عليه" كما في رواية مسلم ظاهر في ذلك، ويؤيد ذلك قلة ثيابهم، ويؤيده أيضًا بُعْدُ حمله على غير المتحرك بحركته؛ لأن طول ثيابهم بهذا القدر بعيد كل البعد.
والحاصل أن مذهب الجمهور هو الراجح؛ لظهور دليله، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): جواز العمل القليل في الصلاة، ومراعاة الخشوع فيها؛ لأن الظاهر أن صنيعهم هذا لإزالة التشويش العارض من حرارة الأرض.
5 -
(ومنها): تقديم الظهر في أول الوقت، لكن يعارض هذا ما ورد من الأحاديث في الأمر بالإبراد.
قال في "الفتح": فمن قال: الإبراد رخصة، فلا إشكال، ومن قال: سنة، فإما أن يقول: التقديم المذكور رخصة، وإما أن يقول: منسوخ بالأمر بالإبراد.
وأحسن منهما أن يقال: إن شدّة الحرّ قد توجد مع الإبراد، فيحتاج إلى السجود على الثوب، أو إلى تبريد الحصى؛ لأنه قد يستمرّ حره بعد الإبراد، وتكون فائدة الإبراد وجود ظل يُمْشَى فيه إلى المسجد، أو يُصَلَّى فيه في المسجد، أشار إلى هذا الجمع القرطبيّ، ثم ابن دقيق العيد -رحمهما اللَّه تعالى- وهو أولى من دعوى تعارض الحديثين. انتهى.
6 -
(ومنها): أن قول الصحابيّ: "كنا نفعل كذا" من قبيل المرفوع؛ لاتفاق الشيخين على تخريج هذا الحديث في "صحيحيهما"، بل ومعظم المصنفين، لكن قد يقال: إن في هذا زيادة على مجرد الصيغة، لكونه في الصلاة خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد كان يرى فيها مَنْ خلفه كما يرى مَنْ أَمَامه، فيكون تقريره فيه مأخوذًا من هذه الطريق، لا من مجرد صيغة "كنا نفعل"، قاله في "الفتح"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في سجود المرء على ثوبه في الحرّ والبرد، فكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رحمه الله يقول: إذا اشتدّ الحر، فليسجد على ثوبه، وقال عباس بن سهل: أدركت الناس في زمن عثمان بن عفان رحمه الله يضعون أيديهم على الثياب، يتقون بها حرّ الحصى.
وممن رَخَّص في السجود على الثوب في الحرّ والبرد إبراهيم النخعي، والشعبي، ورَخَّص طاوس، وعطاء في السجود على الثوب في الحرّ، وكان مالك بن أنس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي لا يرون بأسًا بالسجود على الثوب في الحر والبرد.
وكان الشافعي يقول: ولو سجد على جبهته، ودونها ثوب لم يجزه. إلا أن يكون جريحًا، فيكون ذلك عذرًا، وأحب أن يباشر براحتيه الأرض، فإن سترهما من حرّ، أو برد، فسجد عليهما، فلا إعادة عليه.
قال ابن المنذر رحمه الله: أقول كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن تبعه من أهل العلم.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي رجَّحه الإمام ابن المنذر رحمه الله من جواز السجود على الثوب المتصل، سواء تحرك بحركة المصلي أم لا، هو الحقّ عندي؛ لوضوح حجّته، وهو ظاهر حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب، كما أسلفنا تحقيقه في المسألة الماضية.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ومن تأول حديث أنس رضي الله عنه هذا على أنهم كانوا يسجدون على ثياب منفصلة عنهم، فقد أبعد، ولم يكن أكثر
الصحابة رضي الله عنهم، أو كثير منهم يَجِد ثوبين يصلّي فيهما، فكانوا يصلّون في ثوب واحد -كما سبق- فكيف كانوا يجدون ثيابًا كثيرةً يصلّون في بعضها، ويتّقون الأرض ببعضها؟. انتهى
(1)
.
والحاصل أن أرجح المذاهب في المسألة مذهب الجمهور، وهو صحّة السجود على الثوب المتّصل بالمصلي، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في السجود على كَوْر العمامة:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في السجود على كَوْر العمامة، فرُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: ليرفعها عن جبهته، ويسجد على الأرض، وحَسَر عبادة بن الصامت رضي الله عنه العمامة عن جبهته، وكره السجود عليها ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال مالك: أُحِبّ أن يرفعها عن بعض جبهته حتى يمس بعض جبهته الأرض.
وقال الشافعيّ: لا يجوز السجود عليها، وقال أحمد: لا يُعجبني إلا في الحرّ والبرد، وكذلك قال إسحاق.
ورخصت طائفة في السجود على كور العمامة، وممن رخص فيه الحسن البصريّ، ومكحول، وعبد الرحمن بن يزيد. وكان شريح يسجد على برنسه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: القول الراجح عندي قول من قال بجواز السجود على كور العمامة؛ لدلالة حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب، ولما أخرجه البيهقيّ عن الحسن بسند صحيح:"كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسجدون، وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل على عمامته"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"فتح الباري" 3/ 36.
(34) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1410]
(621) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِيَ، فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ
(1)
قُتَيْبَةُ: "فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن مُهاجِر، تقدّم قبل باب أيضًا.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعَد الإمام المشهور، تقدّم قبل باب أيضًا.
4 -
(ابْنُ شِهَاب) محمد بن مسلم الإمام المشهور، تقدّم قبل باب أيضًا.
5 -
(أنسُ بْنُ مَالِك) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (82) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فتفرّد به هو وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن أنسًا وابن شهاب مدنيّان، والباقون مصريّون، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا، إلا أنه سكن مصر.
4 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه هو الخادم المشهور، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ومن المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن المعمرين، قد جاوز المائة، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "لم يذكر".
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ) أي أَنَسًا (أَخْبَرَهُ) أي ابنَ شهاب (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) في تأويل المصدر مفعول ثانٍ لـ "أخبر"(كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) جملة حاليّة من الفاعل، والرابط الواو محذوف (حَيَّةٌ) قال الخطّابيّ رحمه الله: حياتها صفاء لونها قبل أن تصفرّ، أو تتغيّر، وهذا مثل قوله:"بيضاء نقيّة"، وقال هو أيضًا وغيره: حياتها بقاء حرّها
(1)
.
(فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ) أي بعد الصلاة، وفي رواية الطحاويّ:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر، والشمس بيضاء نقيّةٌ، ثم أرجع إلى قومي. . . " الحديث.
(إِلَى الْعَوَالِي) قال في "اللسان": "العوالي": أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عَالِيّ على القياس، وعَلَوِيّ نادرٌ على غير قياس. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": "العوالي": عبارة عن القرى المجتمعة حول المدينة من جهة نجدها، وأما ما كان من جهة تهامتها، فيقال لها: السافلة. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: وقع عند البخاري من رواية شعيب بن أبي حمزة لهذا الحديث عن الزهريّ في آخره زيادة: "وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال، أو نحوه".
قال في "الفتح": كذا وقع هنا أي بين بعض العوالي والمدينة المسافة المذكورة.
وروى البيهقيّ حديث الباب من طريق أبي بكر الصغاني، عن أبي اليمان شيخ البخاريّ فيه، وقال في آخره:"وبُعْدُ العوالي"، بضم الموحدة، وبالدال المهملة، وكذلك أخرجه البخاريّ في "الاعتصام" تعليقًا، ووصله البيهقيّ من طريق الليث، عن يونس، عن الزهريّ، لكن قال:"أربعة أميال، أو ثلاثة".
وروى هذا الحديث أبو عوانة في "صحيحه"، وأبو العباس السّرّاج جميعًا
(1)
"المفهم" 2/ 248.
(2)
"لسان العرب" 4/ 3090.
(3)
"الفتح" 2/ 36.
عن أحمد بن الفرج أبي عتبة، عن محمد بن حمير، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة، عن الزهريّ، ولفظه:"والعوالي من المدينة على ثلاثة أميال"، أخرجه الدارقطنيّ عن المحامليّ، عن أبي عتبة المذكور بسنده، فوقع عنده:"على ستة أميال"، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، فقال فيه:"على ميلين، أو ثلاثة".
فتحصّل من ذلك أن أقرب العوالي من المدينة مسافة ميلين، وأبعدها مسافة ستة أميال، إن كانت رواية المحامليّ محفوظة.
ووقع في "المدونة" عن مالك: "أبعد العوالي مسافة ثلاثة أميال"، قال عياض: كأنه أراد معظم عمارتها، وإلا فأبعدها ثمانية أميال. انتهى. وبذلك جزم ابن عبد البرّ، وغير واحد، آخرهم صاحب "النهاية".
ويَحْتَمِل أن يكون أراد أنه أبعد الأمكنة التي كان يذهب إليها الذاهب في هذه الواقعة، قاله في "الفتح".
وقال القرطبيّ رحمه الله: فسّر مالك العوالي بثلاثة أميال من المدينة، وقال غيره: هي مفترقة، فأدناها ميلان وأبعدها ثمانية أميال.
[تنبيه آخر]: ثم إن هذه الزيادة في هذا الحديث مدرجة من كلام الزهريّ في حديث أنس رضي الله عنه، بيّنه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ في هذا الحديث، فقال فيه -بعد قوله:"والشمس حيّة"- قال الزهريّ: "والعوالي من المدينة على ميلين، أو ثلاثة"، قاله في "الفتح".
(فَيأْتِي الْعَوَالِيَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) جملة حاليّة أيضًا من الفاعل، والارتفاع هنا دون الارتفاع في قوله:"كان يصلي العصر، والشمس مرتفعة"، ولكن لا تَصِل إلى أن توصف بالانخفاض، كما أفاده في "الفتح".
قال القرطبيّ: وهذا إنما يتّفق في الأيام الطويلة إذا عُجّلت العصر في أول وقتها، وفي الرواية الأخرى:"إلى قباء" مكانَ العوالي، وكلاهما صحيحُ الرواية والمعنى، فإن قباء من أدنى العوالي، وبينها وبين المدينة ميلان أو نحوهما، قاله الباجيّ. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد بهذه الأحاديث، وما بعدها المبادرة لصلاة
(1)
"المفهم" 2/ 249.
العصر أول وقتها؛ لأنه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة، والشمس بعدُ لم تتغير بصفرة ونحوها، إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشيء مثله، ولا يكاد يَحصل هذا الا في الأيام الطويلة.
(وَلَمْ يَذْكُرْ) بالبناء للفاعل، وفي نسخة:"لم يذكر" بحذف الواو (قُتَيْبَةُ) يعني شيخه الأول، وقوله:("فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ") مفعول به لـ "يذكر"، محكيّ لقصد لفظه.
وغرض المصنّف رحمه الله بهذا بيان اختلاف شيخيه، في قوله:"فيأتي العوالي"، فذكره محمد بن رُمْح، ولم يذكره قتيبة، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1410 و 1411 و 1412 و 1413](621)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(548 و 550 و 551)، و"الاعتصام"(7329)، و (أبو داود) في "الصلاة"(404)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(507)، و"الكبرى"(1495)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(682)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 9)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2093)، و (الشافعيّ) في "المسند"، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2069)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 326)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 131 و 161 و 169 و 184 و 209 و 214 و 217)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 49 و 1/ 274)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1518 و 1519 و 1520)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1032 و 1033 و 1034 و 1035)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1386 و 1387 و 1389)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 253)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 190)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 440)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(336 و 365)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في استحباب التعجيل بالعصر:
قال الحافظ ابن المنذر رحمه الله؛ اختلفوا في تعجيل العصر وتأخيرها؛ فقالت طائفة: تعجيلها أفضل.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن وقت العصر، والشمس بيضاء نَقِيّة، بقدر ما يسير الراكب فرسخين، أو ثلاثة، وقال جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما: صلى أبو بكر العصر، ثم جاءنا، ونحن في دور بني سلمة، وعندنا جَزُور، وقد تشركنا عليها، فنحرناها، وجزيناها، وصنعنا له، فأكل قبل أن تغرب الشمس، وقال نافع: كان ابن عمر يصلي العصر، والشمس بيضاء لم تتغير، مَن أسرع السير سار قبل الليل خمسة أميال.
قال ابن المنذر: وهذا مذهب أهل المدينة، وبه قال الأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والأخبار الثابتة دالّة على صحة هذا القول.
وذهبت طائفة إلى أن تأخير العصر أفضل، ورُوي ذلك عن أبي هريرة، وابن مسعود، وطاوس، وأبي قلابة، وابن سيرين، وحُكي عن أبي قلابة أنه قال: إنما سميت العصر لِتُعْصَر، وكذلك قال ابن شبرمة، وعن إبراهيم، وهمام، وعلقمة أنهم كانوا يؤخرون العصر، وقال أصحاب الرأي: يصلي العصر في آخر وقتها، والشمس بيضاء لم تتغير في الشتاء والصيف. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما العصر فتقديمها في أول الوقت أفضل، وبه قال جمهور العلماء، وقال الثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه: تأخيرها أفضل ما لم تتغير الشمس، واحتجُّوا بقول اللَّه تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]، وبحديث عليّ بن شيبان قال:"قَدِمتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس نقيّة"، وعن عبد الواحد بن نافع، عن ابن رافع بن خديج، عن أبيه رضي الله عنه قال:"أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتأخير العصر"، ولأنها إذا أُخِّرت اتسع وقت النافلة.
قال: واحتجّ أصحابنا بقول اللَّه تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] الآية، ومن المحافظة تقديمها في أول الوقت؛ لأنه إذا
(1)
راجع: "الأوسط" 2/ 362 - 365.
أخّرها عَرَّضها للفوات، وبقوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] والصلاة تُحَصِّل دْلك، وبقوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، وبحديث أنس رضي الله عنه قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى قباء، فيأتيهم، والشمس مرتفعة"، متّفقٌ عليه.
وبحديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال:"صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي الحصر، فقلت: يا عم ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: العصر، وهذه صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي كنا نصلي معه"، متّفقٌ عليه.
وبحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "كنا نصلي العصر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم ننحر الجزور، فتقسم عشر قسم، فنأكل لحمًا نضيجًا قبل مغيب الشمس"، متّفقٌ عليه.
وبحديث أنس رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العصر، فلما انصرف أتاه رجل من بني سَلِمَة. . . " الحديث، رواه مسلم.
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه:"أن صل العصر، والشمس بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب ثلاث فراسخ"، رواه مالك في "الموطأ" عن هشام.
وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية، فقال أصحابنا: قال أهل اللغة: الطَّرَفُ ما بعد النصف.
وعن حديث عليّ بن شيبان: أنه باطل، لا يُعْرَف، وعن حديث رافع: أنه ضعيف، رواه الدارقطنيّ، والبيهقيّ، وضعّفاه، وبَيَّنا ضعفه، ونَقَل البيهقيّ عن البخاريّ أنه ضعّفه، وضعّفه أيضًا أبو زرعة الرازيّ، وأبو القاسم اللالكائي، وغيرهم.
وعن قولهم: يتسع وقت النافلة، أجيب بأن هذه فائدة لا تلتحق بفائدة فضيلة أول الوقت. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه أعلم بالصواب.
(1)
راجع: "المجموع شرح المهذّب" 3/ 54 - 55.
وقال العلامة المباركفوريّ رحمه الله في "تحفة الأحوذيّ": وقال محمد -يعني ابن الحسن- في "الموطأ": تأخير العصر أفضل عندنا من تعجيلها إذا صليتها، والشمس بيضاء نقيّة، لم تدخلها صفرة، وبذلك جاء عامة الآثار، وهو قول أبي حنيفة. انتهى.
وعلله صاحب "الهداية" وغيره من فقهاء الحنفية بأن في تأخيرها تكثير النوافل، وقد ردّه صاحب "التعليق الممجد"، وهو من علماء الحنفية بأنه تعليل في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة الدالّة على أفضلية التعجيل، وهي كثيرة مروية في الكتب الستة وغيرها. انتهى.
وقد استدلّ العيني في "البناية شرح الهداية" على أفضلية التأخير بأحاديث:
الأول: أخرجه أبو داود عن يزيد بن عبد الرحمن بن عليّ بن شيبان، عن أبيه، عن جدّه قال:"قدمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية".
والثاني: حديث رافع بن خديج: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة" يعني العصر، أخرجه الدارقطنيّ.
والثالث: حديث أم سلمة رضي الله عنها: " (كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أشدّ تعجيلًا للظهر منكم، وأنتم أشد تعجيلًا للعصر منه"، أخرجه الترمذيّ.
الرابع: حديث أنس رضي الله عنه: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس بيضاء".
وأجاب عن هذه الأحاديث صاحب "التعليق الممجد"، فقال: ولا يخفى على الماهر ما في الاستدلال بهذه الأحاديث.
أما الحديث الأول، فلا يدلّ إلا على أنه كان يؤخر العصر ما دام كون الشمس بيضاء، وهذا أمر غير مستنكر، فإنه لم يقل أحد بعدم جواز ذلك، والكلام إنما هو في أفضلية التأخير، وهو ليس بثابت منه.
لا يقال: هذا الحديث يدل على أن التأخير كان عادته، يشهد به لفظ "كان" المستعمل في أكثر الأحاديث لبيان عادته المستمرة؛ لأنا نقول: لو دلّ على ذلك لعارضه كثير من الأحاديث القوية الدالّة على أن عادته كانت
التعجيل، فالأولى أن لا يُحْمَل هذا الحديث على الدوام دفعًا للمعارضة، واعتبارًا لتقديم الأحاديث القويّة.
قال المباركفوريّ رحمه الله: حديث عبد الرحمن بن عليّ بن شيبان ضعيف، فإنه رواه عنه يزيد بن عبد الرحمن بن عليّ بن شيبان، وهو مجهول، كما صرّح به في "التقريب" و"الخلاصة" و"الميزان"، فهذا الحديث الضعيف لا يصلح للاحتجاج به.
قال اللكنويّ رحمه الله: وأما الحديث الثاني، فقد رواه الدارقطني في "سننه" عن عبد الواحد بن نافع، قال: دخلت مسجد الكوفة، فأذَّن مؤذن بالعصر، وشيخ جالس، فلامه، وقال: إن أبي أخبرني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتأخير هذه الصلاة، فسألت عنه؟ فقالوا: عبد اللَّه بن رافع بن خديج، رواه البيهقي في "سننه"، وقال: قال الدارقطنيّ فيما أخبرنا عنه أبو بكر بن الحارث: هذا حديث ضعيف الإسناد، والصحيح عن رافع ضدّه، ولم يروه عن عبد اللَّه بن رافع غير عبد الواحد بن نافع، وهو يروي عن أهل الحجاز المقلوبات، وعن أهل الشام الموضوعات، لا يحلُّ ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه. انتهى.
ورواه البخاريّ في "التاريخ الكبير" في ترجمة عبد اللَّه بن رافع: حدّثنا أبو عاصم، عن عبد الواحد بن نافع، وقال: لا يتابع عليه، يعني عن عبد اللَّه بن رافع، وقال ابن القطان: عبد الواحد بن نافع مجهول الحال، مختلف في حديثه، كذا ذكره الزيلعيّ في تخريج أحاديث "الهداية".
وأما الحديث الثالث: فإنما يدلّ على كون التعجيل في الظهر أشد من التعجيل في العصر، لا على استحباب التأخير.
وأما الحديث الرابع: فلا يدلّ أيضًا على استحباب التأخير.
قال المباركفوريّ رحمه الله: بل يدلّ على استحباب التعجيل، فإن الطحاويّ رواه هكذا عن أنس مختصرًا، ورواه أصحاب الكتب الستة عنه بلفظ:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال"، أو نحوه.
فالعجب من العينيّ أنه كيف استدلّ بهذه الأحاديث التي الأول والثاني
منها لا يصلحان للاستدلال، والثالث، لا يدلّ على استحباب التأخير، والرابع يدلّ على استحباب التعجيل.
قال العلامة المباركفوريّ رحمه الله: ولم أر حديثًا صحيحًا صريحًا يدل على أفضلية تأخير العصر. انتهى خلاصة ما كتبه المباركفوريّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله المباركفوريّ رحمه الله: تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. والحاصل أن أحاديث استحباب التعجيل صحاح، وأصرح في المقصود، ولا ينبغي لطالب الحقّ أن يعارضها بهذه الأدلة التي لا يصحّ أكثرها للاستدلال به، وما صحّ منها ليس صريحًا في الدلالة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1411]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، بِمِثْلِهِ سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: خمسة، وكلهم تقدّموا، فأما الثلاثة الأولون، فتقدّموا قبل، وأما الباقيان، ففي السند الماضي، و"عمرو": هو ابن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ الحافظ المصريّ.
وقوله: (بِمِثْلِهِ سَوَاءً) أي بمثل حديث الليث عن ابن شهاب المذكور قبله.
[تنبيه]: رواية عمرو هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 217) فقال:
(1387)
حدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني عَمْرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن أنس بن
(1)
راجع: "تحفة الأحوذيّ" 1/ 495 - 496.
مالك: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة العصر، والشمس مرتفعة، حيّةٌ، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتي العوالي والشمس مرتفعة"، قال: رواه مسلم عن هارون الأيليّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1412]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى قُبَاءٍ فَيَأْتِيهِمْ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (83) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، وقد دخل المدينة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ) وللبخاريّ: "ثم يذهب الذاهب منا"، قال الحافظ: كأن أنسًا أراد بالذاهب نفسه، كما تشعر بذلك رواية الطحاويّ من طريق أبي الأبيض عن أنس. قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر، والشمس بيضاء مُحَلِّقة، ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة، فأقول لهم: قوموا، فصلوا، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد صلى". انتهى.
(إِلَى قُبَاءٍ) متعلِّق بـ "يذهب"، وهو بضم القاف، والباء الموحَّدة، والقصر، والمدّ، والصرف، وعدمه، والتذكير، والتأنيث، والأفصح فيه المد، والصرف، والتذكير، قاله في "الطرح"
(1)
.
والمراد أهل قباء، وهو على حدّ قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]
(2)
.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لم يُخْتَلَف على مالك أنه قال في هذا الحديث: "إلى قباء"، ولم يتابعه أحد من أصحاب الزهريّ، بل كلهم يقولون:"إلى العوالي"، وهو الصواب عند أهل الحديث، قال: وقول مالك: "إلى قباء" وَهَمٌ، لا شك فيه.
قال الحافظ رحمه الله: وتُعُقِّب بأنه رُوي عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ:"إلى قباء"، كما قال مالك، نقله الباجي عن الدارقطني، فنسبة الوَهَم فيه إلى مالك مُنتقَدٌ، فإنه إن كان وَهَمًا احتَمَل أن يكون منه، وأن يكون من الزهريّ حين حدَّث مالكًا.
وقد رواه خالد بن مخلد عن مالك، فقال فيه:"إلى العوالي" كما قال الجماعة، فقد اختُلِف فيه على مالك، وتوبع عن الزهريّ بخلاف ما جزم به ابن عبد البرّ.
وأما قوله: الصواب عند أهل الحديث "العوالي"، فصحيح من حيث اللفظ، ومع ذلك فالمعنى متقارب، لكن رواية مالك أخصّ؛ لأن قباء من العوالي، وليست العوالي كل قباء، ولعل مالكًا لما رأى أن في رواية الزهريّ إجمالًا حملها على الرواية المفسَّرة، وهي روايته عن إسحاق، حيث قال فيها:"ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف"، وسيأتي أنهم أهل قباء، فبنى مالك على أن القصّة واحدة؛ لأنهما جميعًا حدّثاه عن أنس، والمعنى متقارب، فهذا الجمع أولى من الجزم بأن مالكًا وهم فيه.
وأما استدلال ابن بطال على أن الوَهَم فيه ممن دون مالك برواية خالد بن مخلد المتقدمة الموافقة لرواية الجماعة عن الزهريّ، ففيه نظرٌ؛ لأن مالكًا أثبته
(1)
"طرح التثريب" 2/ 164.
(2)
"الفتح" 2/ 37.
في "الموطأ" باللفظ الذي رواه عنه كافّة أصحابه، فرواية خالد بن مخلد عنه شاذّة، فكيف تكون دالّة على أن رواية الجماعة وَهَمٌ؟ بل إن سلّمنا أنها وَهَمٌ فهو من مالك، كما جزم به البزار، والدارقطنيّ، ومن تبعهما، أو من الزهريّ حين حدّثه به، والأولى طريق الجمع التي أوضحناها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا.
(فَيَأْتِيهِمْ) أي أهل قباء، وقوله:(وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول، والرابط الواو.
والمعنى: أن ذلك الذاهب يأتي أهل قباء، ويصل إليهم في حال ارتفاع الشمس، دون ذلك الارتفاع الذي صلى فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تَصِلْ إلى الحدّ الذي توصف به بأنها منخفضة.
وفي هذا الحديث استحباب تقديم صلاة العصر في أول وقتها؛ لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضي مسافة أربعة أميال، أو نحو ذلك، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور، خلافًا للحنفية، فإنهم قالوا باستحباب تأخيرها، وذهب إليه طائفة من السلف، كما تقدم تفصيل ذلك قريبًا.
قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: وحاول الطحاويّ تأويل هذا الحديث، وأنه لا يدلّ على التعجيل؛ لجواز أن تكون الشمس مرتفعة، قد اصفرّت، فرَوَى عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس أنه قال:"ما أحد أشد تعجيلًا لصلاة العصر من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إن كان أبعد رجلين من الأنصار دارًا من مسجد رسول صلى الله عليه وسلم لأبو لبابة بن عبد المنذر أخو بني عمرو بن عوف، وأبو عبيس بن جبر أحد بني حارثة، ودار أبي لبابة بقباء، ودار أبي عبيس في بني حارثة، ثم إن كانا ليصليان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العصر، ثم يأتيان قومهما، وما صلَّوها، لتبكير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بها".
ثم رَوَى عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه، قال:"كنا نصلي العصر، ثم يخرج الإنسان إلى بني عمرو بن عوف، فيجدهم يصلون العصر"، ثم رَوَى حديث الزهريّ عن أنس هذا.
(1)
"الفتح" 2/ 36.
ثم رَوَى عن أبي الأبيض، قال: حدّثنا أنس بن مالك، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، والشمس بيضاء، ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة، فأقول لهم: قوموا، فصلوا، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد صلى".
ثم قال الطحاويّ: فقد اختُلِف عن أنس في هذا الحديث، فكان ما رَوَى عاصم بن عمر بن قتادة، وإسحاق بن عبد اللَّه، وأبو الأبيض عنه يدلّ على التعجيل بها؛ لأن في حديثهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها ثم يذهب الذاهب إلى المكان الذي ذكروا، فيجدهم لم يصلوا العصر، ونحن نعلم أن أولئك لم يكونوا يصلونها إلا قبل اصفرار الشمس، فهذا دليل التعجيل.
وأما رواية الزهري عن أنس، فقد يجوز أن تكون الشمس مرتفعة، قد اصفرّت، فقد اضطرب حديث أنس؛ لأن معنى ما روى الزهريّ منه بخلاف ما روى إسحاق، وعاصم، وأبو الأبيض عنه. هذا كلام الطحاويّ.
وفيه نظر من أوجه:
[أحدها]: أن هذا الاحتمال الذي ذكره من كونه يأتيهم، والشمس مرتفعة، قد اصفرّت يردّه قوله في رواية أبي داود عن قتيبة، عن الليث، عن الزهريّ، عن أنس:"والشمس مرتفعة حيّة"، كذا رواه البيهقي في "السنن" من طريق ابن داسة، عن أبي داود، وقال في "المعرفة": وفي رواية الليث: "فيأتيهم، والشمس مرتفعة حيّة". انتهى، وحياتها بقاء حرّها ولونها، وهذا ينافي أن تكون قد اصفرّت.
[ثانيها]: لو لم ترد هذه اللفظة: "وهي حيّة"، وكان ارتفاعها لا ينافي صفرتها على ما قرره الطحاويّ، فذلك لا يُحَصِّل مقصوده؛ لأن المصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذا وصل إلى قباء التي هي على ثلاثة أميال، والشمس مرتفعة، فذلك دليل التعجيل، ولو كانت الشمس مصفرّة، ولا سيما الرواية التي فيها العوالي وقدّروها أنها على أربعة أميال، وفي رواية ستة أميال، ولو لم يعجل بالعصر أول وقتها لما وصل إلى هذه المسافة إلا بعد الغروب.
[ثالثها]: كيف يَجعَلُ حديث أنس مضطربًا مع أن الروايات عنه لم يتحقق اختلافها؟ وغاية ما ذكره أن رواية الزهريّ عن أنس تحتمل مخالفة رواية الباقين، وقد صرّح هو بذلك في قوله: فقد يجوز أن تكون الشمس مرتفعة قد
اصفرّت، ومع احتمال المخالفة والموافقة لا يكون اضطرابًا، بل الواجب حمل الرواية المحتملة على الروايات المصرّحة، وجعلها على نسق واحد، لا اختلاف بينها، ولا تضادّ، وكيف نجيء إلى الرواية التي هي صريحة في المقصود، لا تَحْتَمِل التأويل، فنردّها بورود رواية أخرى تحتمل أن تخالفها احتمالًا مرجوحًا؟ بل لو كان احتمال المخالفة راجحًا لكان الواجب الحمل على المرجوح؛ ليوافق بقية الروايات، فكيف واحتمال المخالفة هو المرجوح، أو الاحتمالان مستويان إن تنزلنا؟ والواقف على كلام الطحاويّ في هذا الموضع يفهم منه التعَصُّب ببادئ الرأي؛ لأنه ذَكَر أولًا أن رواية الزهريّ عن أنمس محتملة لأن تكون الشمس قد اصفرّت، ثم إنه نزّل هذا الاحتمال منزلة المجزوم به، وقال: فقد اضطرب حديث أنس، ثم جزم بأن معنى ما روي عن الزهري بخلاف ما رواه غيره، مع قوله أولًا: إنه يحتمل المخالفة فقط.
ثم ذكر الطحاويّ حديث أبي الأبيض عن أنس، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة العصر، والشمس بيضاء محلِّقة"، وقال: ذلك دليل على أنه قد كان يؤخرها، ثم ذكر أنه رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه كان يصليها، والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين، أو ثلاثة"، فذكر أنه دليل على التأخير أيضًا، وهذا من أعجب العجب، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله ولي الدين رحمه الله: تحقيق نفيسٌ جدًّا في الردّ على من يتعصب لمذهب الحنفية في قولهم باستحباب تأخير العصر، مثل الطحاويّ، ومن تبعه كالعينيّ، وصاحب العرف الشذيّ، من المنهمكين في التقليد.
والواجب على المسلم أن يكون ناصرًا للحقّ، ومتبعًا للدليل، يدور حيثما دار، ولا يلتفت إلى من خالفه، أيًا كان قدره ومنزلته من العلم، ولا يمنعه من ذلك تقليده لإمام من الأئمة المجتهدين، فإنهم يصيبون ويخطئون، ولكنهم مأجورون على خطئهم أجرًا واحدًا، كما أنهم يؤجرون على إصابتهم أجرين،
(1)
"طرح التثريب" 2/ 165 - 167.
فإنهم ما خالفوا النصّ، إلا لعدم وصوله إليهم، أو بلغهم إلا أنه عن طريق لا يرتضونها، أو تأوّلوه على حسب ما ظهر لهم، فأخطئوا في تأويله، إلى غير ذلك من الأعذار التي تبرئ ساحتهم أن ينزل فيها لوم وتوبيخ.
وأما هؤلاء الذين يقلِّدونهم في أخطائهم فليس لهم عذر، إلا أنهم يقولون: إن إمامهم أعلم من غيره، فلا ينبغي مخالفته، يا للعجب! هل إمامهم أعلم من الصحابة والتابعين، المخالفين له في تلك المسألة، القائلين بما وافق النصّ الصريح الصحيح؟! إن هذا لشيء عجاب!.
[تنبيه]: قد ذكرت جملة الأعذار التي يُعتذر بها عن الأئمة في "التحفة المرضيّة"، فقلت:
ثُمَّ اعْلَمَنَّ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ
…
مِنَ الأَئِمَّةِ إِمَامٌ يُلْحِدُ
بِخُلْفِهِ الرَّسُولَ مُطْلَقًا لِذَا
…
يَلْزَمُنَا إِعْذَارُهُمْ يَا حَبَّذَا
قَدْ فَصَّلَ الْمَسْأَلَةَ الْعَلَامَةُ
…
أَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ ذَاكَ الْهَامَةُ
فَقَالَ الاعْذَارُ
(1)
ثَلَاثَةً تُرَى
…
أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ يَرَى
أَنَّ النَّبِيَّ قَالَهُ وَالثَّانِي
…
عَدَمُ الاعْتِقَادِ بِذَا الشَّانِ
أَيْ بِإِرَادَةِ النَّبِي وَالثَّالِثُ
…
تَوَهُّمُ النَّسْخِ فَمَا هُوْ لَابِثُ
وَهَذِهِ الأَصْنَافُ قَدْ تَفَرَّعَتْ
…
لِعِدَّةِ الأَسْبَاب فَاضْبِطْ مَا حَوَتْ
أَوَّلُهَا أَنْ لَا يَكُونَ وَصَلَا
…
لَهُ الْحَدِيثُ فالتَّكْلِيفُ قَدْ خَلَا
وَالثَّانِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَصَلَهُ
…
لَكِنْ لِضُعْفِهِ أَبَى قَبُولَهُ
ثَالِثُهَا اعْتِقَادُ ضُعْفٍ خَالَفَهْ
…
سِوَاهُ فِيهِ لاجْتِهَادٍ حَالَفَهْ
رَابِعُهَا اشْتِرَاطُهُ فِي الْخَبَرِ
…
شَرْطًا يُخَالِفُهُ أَهْلُ النَّظَرِ
خَامِسُهَا أَنَّ الْحَدِيثَ ثَبَتَا
…
لَدَيْهِ لَكِنْ نَاسِيًا قَدْ فَوَّتَا
سَادِسُهَا عَدَمُ فَهْمِ مَا يَدُلْ
…
لَهُ الْحَدِيثُ أَيْ لأَسْبَابٍ تُخِلْ
سَابِعُهَا اعْتِقَادُهُ أَنْ لَيْسَ فِي
…
هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ دَلَالَةٍ تَفِي
ثَامِنُهَا اعْتِقَابٌ أَنْ عَارَضَا
…
تِلْكَ الدَّلَالَةَ دَلِيلٌ نَاقَضَا
تَاسِعُهَا اعْتِقَادُ أَنْ قَدْ وُجِدَا
…
مُعَارِضُ الْحَدِيثِ مِمَّا أَفْسَدَا
(1)
بدرج الهمزة للوزن.
مِنْ ضُعْفٍ أَوْ نَسْخٍ أَوِ التَّأْوِيلِ
…
مِمَّا يَصُدُّهُ عَنِ التَّعْوِيلِ
عَاشِرُهَا إِتْيَانُهُ مُعَارِضَا
…
لَهُ بِمَا لَيْس دَلِيلًا مُرْتَضَى
كَرَدِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ الصَّحِيحَ منْ
…
حَدِيثِهِ حَيْثُ رَأَوْهُ قَدْ وَهِنْ
بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ثُمَّ قَدْ رَأَوْا
…
ظُهُورَ مَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ نَأَوْا
وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى
…
نَصِّ الْكِتَابِ يَبْدُو نَسْخًا حُصِلَا
وَرَدِّهِمْ بَعْضَ الأَحَادِيثِ بِمَا
…
رَأَوْا مِنَ الْقَيْسِ الْجَلِيِّ بِئْسَمَا
فَهَذِهِ الْعَشَرَةُ الأَسْبَابُ
…
ظَاهِرَةٌ يَأْتِي بِهَا احْتِجَابُ
وَقَدْ يَكُونُ مَانِعٌ لِلْعَالِمِ
…
لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ لِلتَّفَاهُمِ
لأَنَّ مُدْرَكَ الْعُلُومِ وَاسِعُ
…
يَصْعُبُ حَصْرُهُ لِمَنْ يُطَالِعُ
وَكُلُّهَا لَهُ مِنَ الأَعْذَارِ لَا
…
لَنَا إِذِ الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَنَا
أَنْ نَتْبَعَ الظَّاهِرَ حُجَّةً فَمَا
…
صَحَّ وَوَافَقَهُ بَعْضُ الْعُلَمَا
لَزِمَنَا قَبُولُهُ وَلَا نَحِيدْ
…
لِعَالِمٍ خَالَفَهُ وَلَوْ مَجِيدْ
إِذِ النُّصُوصُ حُجَّةٌ عَلَى الْعِبَادْ
…
خِلَافَ رَأْيِ عَالِمٍ بِلا عِنَادْ
إِذْ هُوَ عُرْضَةٌ لِكَوْنِهِ خَطَا
…
وَهْيَ بَرِيئَةٌ لَهَا نُورٌ سَطَا
فإن أردت شرح معاني الأبيات، فارجع إلى الشرح "المنحة الرضيّة"، وباللَّه تعالى التوفيق.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبيان بقيّة مسائله قبل حديث، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1413]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ إِلَى بَني عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَيَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ).
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجّةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
والباقون تقدّموا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (84) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: منازل بني عمرو بن عوف على ميلين من المدينة، وهذا يدلّ على المبالغة في تعجيل صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت صلاة بني عمرو في وسط الوقت، ولولا هذا لم يكن فيه حجةٌ، ولعل تأخير بني عمرو؛ لكونهم كانوا أهل أعمال في حروثهم وزروعهم وحوائطهم، فإذا فَرَغُوا من أعمالهم تأهبوا للصلاة بالطهارة وغيرها، ثم اجتمعوا لها، فتتأخر صلاتهم إلى وسط الوقت لهذا المعنى.
قال: وفي هذه الأحاديث وما بعدها دليلٌ لمذهب مالك، والشافعىّ، وأحمد، وجمهور العلماء أن وقت العصر يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله.
وقال أبو حنيفة: لا يدخل حتى يصير ظل الشيء مثليه، وهذه الأحاديث حجةٌ للجماعة عليه، مع حديث ابن عباس رضي الله عنه في بيان المواقيت، وحديث جابر رضي الله عنه، وغير ذلك. انتهى
(1)
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1414]
(622) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ، حِينَ انْصَرَفَ مِنَ
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 122 - 123.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
الظُّهْرِ، وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ، قَالَ: فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَقُمْنَا، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ
(1)
، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقابريّ البغداديّ، العابد، ثقةٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر بن إياس بن مقاتل بن مُشَمْرِج بن خالد، السعديّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ حافظٌ مأمونٌ، من صغار [9](خ م ت س)(ت 244) وقد قارب (100) أو جاوزها تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدني، ثقة ثبتٌ [8](تَ 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن) الحرقيّ تقدّم قبل باب.
6 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه المذكور قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، كسابقيه، وهو (85) من رباعيّات الكتاب، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، كما تقدم غير مرة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وابن حجر، كما أسلفته آنفًا، والعلاء، فأخرج له البخاريّ في "جزء القراءة" فقط.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من إسماعيل.
(1)
وفي نسخة: "تلك صلاة المنافقين".
شرح الحديث:
(عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ دَخَلَ) وفي رواية أبي داود: "دخلنا"(عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ) بفتح، فسكون، وزانُ تَمْرَة: ومعناه في الأصل: الحجارة الرِّخْوَة، وقد تحذف الهاء مع فتح الباء، وكسرها، وبها سُمّيت البلدة المعروفة، وأنكر الزجاج فتح الباء، مع الحذف، ويقال في النسبة: بَصريّ بالوجهين، وهي مُحْدَثة إسلامية، بُنِيت في خلافة عمر رضي الله عنه سنة (17) من الهجرة، بعد وقف السواد، ولهذا دخلت في حدّه، دون حكمه، قاله في "المصباح"
(1)
.
(حِينَ انْصَرَفَ) الظرف متعلّق بـ "دخل"، أي دخل العلاء على أنس رضي الله عنه وقت انصرافه (مِن) صلاة (الظُّهْرِ، وَدَارُهُ) أي دار أنس رضي الله عنه (بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ) وفي رواية أبي داود: "دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر، فقام يصلي العصر. . . " الحديث.
يعني أنه صلى في أول وقتها، وصلى في بيته، ولم يصلها مع الإمام؛ لأن الأمراء كانوا يؤخرون الصلاة عن أول وقتها، وقد أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَن يدركهم أن يصلي الصلاة أول وقتها، ويجعل صلاته معهم نافلة، كما تقدم في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه
(2)
.
(فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ) أي على أنس رضي الله عنه (قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ) أي في هذه الساعة الحاضرة، فأل للعهد الحضوريّ (مِنَ الظُّهْرِ) أي من صلاتها (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَصَلُّوا الْعَصْرَ) قال العلاء (فَقُمْنَا، فَصَلَّيْنَا) أي صلاة العصر (فَلَمَّا انْصَرَفْنَا) أي سلمنا من العصر (قَالَ) أنس رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تِلْكَ) أي الصلاة المتأخرة عن الوقت، فـ "تلك": إشارة إلى مذكور حكمًا، كما قدّرناه، وقال الطيبيّ: إشارةٌ إلى ما في الذهن من الصلاة المخصوصة، والخبر بيان لما في الذهن.
(صَلَاةُ الْمُنَافِقِ) وفي بعض النسخ: "تلك صلاة المنافقين"، وفي رواية أبي داود:"تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين"،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 50.
(2)
سيأتي للمصنّف برقم (648).
بالتكرار ثلاث مرات، مبالغةً في ذمّ من يؤخر الصلاة إلى هذا الوقت بدون عذر.
ثم إن المنافق هنا إما محمول على حقيقته بأن يكون بيانًا لصلاته، أو يكون تغليظًا، يعني أن من أخر صلاة العصر إلى قبيل الغروب، فقد شبّه نفسه بالمنافق، فإن المنافق لا يعتقد حقيَّة الصلاة، بل إنما يصلي لدفع السيف عن نفسه، ولا يبالي بالتأخير؛ إذ لا يطلب فضيلةً، ولا ثوابًا، والواجب على المسلم أن يخالف المنافق
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تلك صلاة المنافقين" إشارة إلى صلاة العصر المخرجة عن وقتها، ومعناه أن الذي يُخرجها عن وقتها يُشبه فعله ذلك فعلَ المنافق الذي يتهاون بأمرها، ويُضيّعها حتى يُخرجها عن وقتها، ولذلك وصفه بقوله:"يَجلس يرقُب الشمس"، وهذه عبارة عن عدم مبالاته بها، وتضييعه لها حتى إذا رأى الشمس قد حان غروبها قام يُصليها على ما ذُكر رياءً وتلبيسًا. انتهى
(2)
.
(يَجْلِسُ) وللنسائيّ: "جلس"، بصيغة الماضي، ولأبي داود:"يجلس أحدهم"، والجملة مستانفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما يقع جوابًا لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما هي صفة تلك الصلاة، التي وُصفت بأنها صلاة المنافق، فقال: يجلس ينتظر قرب غروب الشمس. . . إلخ.
(يَرْقُبُ الشَّمْسَ) -بضمّ القاف- يقال: رَقَبتهُ أَرقُبُه، من باب نصر، وترقّبته، وارتقبته: انتظرته، فأنا رقيبٌ، والجمع الرُّقباءُ
(3)
، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل.
والمعنى: أنه يجلس حال كونه منتظرًا قرب غروب الشمس.
ولفظ النسائيّ: "جلس يرقُب صلاة العصر"، أي ينتظر قرب آخر وقتها، وهو غروب الشمس.
(حَتَّى إِذَا كَانَتْ) أي الشمس (بَيْنَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ) وفي رواية أبي داود:
(1)
"المرعاة" 2/ 302.
(2)
"المفهم" 2/ 249 - 250.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 234.
"حتى إذا اصفرّت الشمس، فكانت بين قرني شيطان، أو على قرني شيطان".
ومعنى "قرني الشيطان": جانبا رأسه، وهو كناية عن قرب الغروب، وذلك لأن الشيطان عند طلوع الشمس، واستوائها، وغروبها ينتصب دون الشمس، بحيث يكون الطلوع والغروب بين قرنيه، فهو محمول على حقيقته، قاله في "المرعاة".
وقال النوويّ رحمه الله: اختلفوا فيه، فقيل: هو على حقيقته، وظاهر لفظه، والمراد أن يحاذيها بقرنيه عند غروبها، وكذا عند طلوعها؛ لأن الكفار يسجدون لها حينئذ، فيقارنها؛ ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، ويُخَيِّل لنفسه، ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له.
وقيل: هو على المجاز، والمراد بقرنيه علوّه، وارتفاعه، وسلطانه، وتسلّطه، وغلبة أعوانه، وسجود مطيعه من الكفار للشمس. انتهى
(1)
.
وقال الخطابيّ رحمه الله: اختلفوا في تأويله على وجوه؛ فقال قائل: معناه: مقارنة الشيطان للشمس عند دنوها للغروب، على معنى ما روي أن الشيطان يقارنها إذا طلعت، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، فحرمت الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة لذلك.
وقيل: معنى "قرن الشيطان" قوته، من قولك: أنا مُقْرِنٌ لهذا الأمر، أي مطيق له، قويّ عليه.
وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات؛ لأنه يُسَوِّل لعَبَدَة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأزمان الثلاثة، وقيل: قرنه: حزبه، وأصحابه الذين يعبدون الشمس، يقال: هؤلاء قرن، أي نشء جاءوا بعد قرن مضى.
وقيل: إن هذا تمثيل، وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم وتزيينه ذلك في قلوبهم، وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، فكأنهم لما دَفَعوا الصلاة، وأخّروها عن أوقاتها بتسويل
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 124.
الشيطان لهم حتى اصفرّت الشمس، صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها، وتدفعه بأرواقها.
وفيه وجه خامس قاله بعض أهل العلم، وهو أن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها، وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه، وهما جانبا رأسه، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له، وقرنا الرأس: فَوْدَاهُ، وجانباه، وسُمِّي ذو القرنين بذلك؛ لأنه ضرب على جانبي رأسه، فلقّب به. انتهى كلام الخطابيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أرجح هذه الأقوال عندي هذا الوجه الخامس، وقريب منه الوجه الأول، أو هو تفصيل له، وإنما كان هذا أرجح؛ لأن ظاهر النصّ لا يُعْدَل عنه إلا إذا كان فيه ما يصرفه عن ظاهره، وهنا لا داعي لذلك؛ لأن كون الشيطان ينتقل من مكان إلى مكان بحيث يصل إلى محل طلوع الشمس وغروبها غير مستبعد، فلا حاجة لصرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
فقوله: "حتى إذا كانت. . . إلخ" غاية لمراقبته للشمس، يعني أنه يجلس مراقبًا للشمس، ومنتظرًا لها إلى أن صارت بين قرني الشيطان، فعند ذلك قام يسابق غروبها.
وقوله: (قَامَ) جواب "إذا"، أي إلى أداء الصلاة (فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا) من نَقَرَ الطائر الحب نَقْرًا، من باب قتل: التقطه، أي نقر صلاة العصر نقرًا كنقر الطائر الحبّ.
قال ابن الأثير الجزريّ رحمه الله: يريد تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا النقر عبارة عن سُرْعة حركاته في أركان الصلاة، في ركوعها وسجودها، وخِفّة ذلك، بحيث لا يُتمّ ركوعها، ولا سجودها، فشَبّهه بنقر الطائر، وهو ذمّ لمن فَعَل ذلك. انتهى
(3)
.
(1)
"معالم السنن" 1/ 241 - 242.
(2)
"النهاية" 5/ 104.
(3)
"المفهم" 2/ 250.
وقال السنديّ رحمه الله: كأنه شبّه كل سجدتين من سجداته من حيث إنه لا يمكث فيهما، ولا بينهما، بنقر طائر إذا وضع منقاره يلتقط شيئًا. انتهى.
يعني إنما قال: أربعًا، أي أربع سجدات مع أن في العصر ثماني سجدات؛ لأنه لا يمكث بينهما، فكأنه سجد أربعًا.
وفيه تصريحٌ بذمّ من صلى مسرعًا بحيث لا يكمل الخشوع، والطمأنينة، والأذكار.
وقيل: معنى "نقر أربعًا" أي لقط أربع ركعات سريعًا، فالنقر عبارة عن السرعة في أداء الصلاة.
وقيل: عن سرعة القراءة، وقلّتها، وقلة الذكر فيها
(1)
.
وفي "المنهل": وتخصيص الأربع بالنقر، وفي العصر ثماني سجدات اعتبارًا بالركعة، أو أن الحديث جاء حين كانت صلاة العصر ركعتين، ثم زيدت بعده.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الأقرب، كما لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم.
وإنما خَصّ العصر بالذكر؛ لأنها الصلاة الوسطى، ولأنها تأتي في وقت تعب الناس من مقاساة أعمالهم، وإلا فتأخير غيرها من المكتوبة إلى آخر وقتها بدون عذر مذموم، وفيه الوعيد الشديد. انتهى.
(لَا يَذْكُرُ اللَّهَ) عز وجل لعدم اعتقاده، أو لخلوه عن الإخلاص (فِيهَا) أي في تلك الصلاة (إِلَّا قَلِيلًا) أي إلا ذكرًا قليلًا، وقيل: الاستثناء منفصل، أي لكنه في زمن قليل يذكر اللَّه فيه بلسانه فقط.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يذكر اللَّه فيها إلا قليلًا" أي لسرعة حركاته فيها، وليُرائي بالقليل الذي يذكره عند تخلّيه عمن يلاحظه من الناس. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المرعاة" 2/ 302.
(2)
"المفهم" 2/ 251.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
المسألة الثانية: في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [34/ 1414](622)، و (أبو داود) في "الصلاة"(413)، و (الترمذيّ) فيها (160)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(511)، وفي "الكبرى"(1497)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 221)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2130)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 102 و 103 و 247)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(259 و 260 و 261 و 262)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1050)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1390 و 1391)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 192)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 444)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(368)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الوعيد الشديد لمن أخّر العصر عن وقتها المستحب إلى قرب غروبها.
2 -
(ومنها): التصريح بذمّ من أخّر صلاة العصر، والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق، ولا أقبح من هذا الوصف عند العاقل.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على أن آخر وقت إباحة العصر ما لم تصفرّ الشمس، وما لم يصر ظلُّ كل شيء مثليه. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): التصريح بذمّ من صلى مسرعًا بحيث لا يُكْمِل الطمأنينة، والخشوع، والأذكار.
5 -
(ومنها): أن فيه الردَّ على من زعم أن الواجب من أركان الصلاة، ومن الفصل بين أركانها أقلّ ما ينطلق عليه الاسم؛ لأن من اقتصر على ذلك صَدَقَ عليه أنه نقر الصلاة، فدخل في الذّمّ المترتّب على ذلك.
6 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن صلاة المؤمن إنما تكون بالطمأنينة، والخشوع، والأذكار على الصفة الواردة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المشار إليها
(1)
"المفهم" 2/ 250.
بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، رواه البخاريّ، وهي الصلاة التي عَلَّق اللَّه عز وجل الفلاح بها حيث قال:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1، 2].
7 -
(ومنها): أنه يتّضح بهذا الحديث أن صلاة غالب العوامّ من أهل هذا الزمان ليست صلاة شرعية، وإنما هي صلاة المنافقين الذين إن صَلَّوا يصلون في آخر الوقت، ثم تراهم ينقرونها كنقر الديك، ويلعبون، وتظن إذا رأيتهم فيها كأنهم خارج الصلاة، لا خشوعَ ولا طمأنينةَ، ويلتفتون يمنةً ويسرةً كالتفات الثعلب، نواصيهم بيد الشيطان، فهو الذي يحركهم، ويتولى توجيههم فيها، وكأنهم من تضايقهم منها في سجن أليم، نعوذ باللَّه تعالى من شرور أنفسنا، وعمى بصيرتنا، واستحواذ الشيطان علينا، ونسأله أن يجعلنا من عباده الذين قال فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، إنه قريب مجيب الدعوات، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1415]
(623) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ يَقُولُ: صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الظُّهْرَ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَقُلْتُ
(2)
: يَا عَمِّ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟ قَالَ: الْعَصْرُ، وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بشير التركيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقةٌ [10](ت 235) عن (80) سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) الْحَنظليّ، أبو عبد الرحمن المروزيّ الإمام الحجة المشهور [8](181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "فقلنا".
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) الأنصاريّ الأوسيّ المدنيّ، مقبول، من [6].
رَوَى عن عمه أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وعنه الثوريّ، ومالك، وابن المبارك، وأبو ضمرة، ذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْل) بن حُنَيف، اسمه أسعد، وقيل: سعد، وقيل: قتيبة، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقةٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِك) رضي الله عنه، تقدّم قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه فانفرد به هو وأبو داود، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من أبي بكر، وابن المبارك مروزيّ، وشيخه بغداديّ، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُثْمَانِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) -بضم الحاء مصغرًا- وأبو بكر لا يعرف اسمه، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ) هو عم الراوي عنه، وتقدّم الخلاف في اسمه آنفًا (يَقُولُ: صَلَّيْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الخليفة الراشد الأمويّ، المتوفى سنة (101)، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46. (الظُّهْرَ) أي صلاة الظهر (ثُمَّ خَرَجْنَا) أي من المسجد (حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فَوَجَدْنَاهُ يُصَلِّي الْعَصْرَ) قال أبو بكر (فَقُلْتُ) وفي نسخة:"فقلنا"(يَا عَمِّ) هذا قاله على سبيل التوقير، ولكونه أكبر منه سنًّا، مع أن نسبهما يجتمع في الأنصار، لكنه ليس عمه حقيقة، قاله في "الفتح"، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: "يا عمّ" يجوز في ميمه الأوجه الثلاثة: الكسرة، والفتحة،
والضمّة؛ لأن القاعدة أنه إذا كان المنادَى المضاف إلى ياء المتكلم صحيحًا، كيا عمي، ويا أخي، جاز فيه ستة أوجه:
(الأول): حذف الياء، والاستغناء بالكسرة، نحو يا عمّ، وهو الأكثر.
(الثاني): إثبات الياء ساكنة، نحو يا عمِّيْ، وهو دون الأول في الكثرة.
(الثالث): إثبات الياء مفتوحة، نحو يا عمِّيَ بفتح الياء، وهو يلي ما قبله.
(الرابع): قلب الياء ألفًا، نحو يا عمَّا، وهو يلي ما قبله.
(الخامس): حذف الألف اكتفاءً بالفتحة، نحو يا عَمَّ، بفتح الميم، وهو أضعف الأوجه، ولذا منعه الأكثرون، وأجازه الأخفش، والفارسيّ.
وإلى هذه الخمسة أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا
…
كَـ "عَبْدِ""عَبْدِي""عَبْدَ""عَبْدَا""عَبْدِيَا"
(السادس): ضَمُّ الاسم بعد حذف الألف، كالمفرد اكتفاء بنية الإضافة، وهذا فيما يكثر نداؤه مضافًا، كالرب، والأبوين، والعمّ، والقوم، لا في نحو الغلام. انظر التفاصيل في شروح ألفية ابن مالك، وحواشيها في "باب المنادى المضاف إلى ياء المتكلم" تستفد، واللَّه تعالى أعلم.
(مَا) استفهاميّةٌ، أي أيُّ شيء (هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّيْتَ؟) بحذف العائد، أي صلّيتها الآن، وحذف عائد الموصول في مثل جائزٌ، كما قال ابن مالك: في "الخلاصة":
. . . . . . . . . . . .
…
وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (الْعَصْرُ) يَحْتَمِل الرفع على أنه خبر لمحذوف، أي هي العصرُ، ويَحْتَمِل النصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي صليت العصرَ.
ثم قال أنس رضي الله عنه مبينًا دليله على تعجيله العصر في مثل هذا الوقت الذي يصلي فيه الناس الظهر (وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتي كُنَّا نُصَلِّي) أي نصلّيها، ففيه حذف العائد كما سبق آنفًا (مَعَهُ) أي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه":"فقلت: إنما انصرفنا الآن مع عمر بن عبد العزيز من الظهر، قال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّي هكذا، فلا أتركها أبدًا".
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث صريح في التبكير بصلاة العصر في أول وقتها، وأن وقتها يدخل بمصير ظل الشيء مثله، ولهذا كان الآخرون يؤخرون الظهر إلى ذلك الوقت، وإنما أخَّرها عمر بن عبد العزيز على عادة الأمراء قبله قبل أن تبلغه السنّة في تقديمها، فلما بلغته صار إلى التقديم.
ويَحْتَمِل أنه أخرها لشغل وعذر عَرَض له، وظاهر الحديث يقتضي التأويل الأول، وهذا كان حين ولي عمر بن عبد العزيز المدينة نيابةً، لا خلافةً؛ لأن أنسًا رضي الله عنه تُوُفِّي قبل خلافة عمر بن عبد العزيز بنحو تسع سنين. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وصلاة عمر بن عبد العزيز هذه كانت بالمدينة حيث كان أميرًا من قبل الوليد، وقد تقدّم أنه حينئذ لم يكن عنده علم بالسنّة من مواقيت الصلاة المسنونة، فكان يجري على عادة أهل بيته، وعموم الناس معهم في تأخير الصلاة أحيانًا، فلما بلغته السنّة اجتهد حينئذ على العمل بها، ولكنّه لم يعمل القيام بها على وجهها إلا في أيّام خلافته، فإنه بالغ حينئذ في إقامة الحقّ على وجهه، ولم يترخّص في شيء مما يقدر عليه، ولا أخذته في اللَّه لومة لائم رضي الله عنه. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وفي القصّة دليل على أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي العصر في آخر وقتها تبعًا لسلفه، إلى أن أنكر عليه عروة، فرجع إليه، كما تقدم، وإنما أنكر عليه عروة في العصر دون الظهر؛ لأن وقت الظهر لا كراهة فيه بخلاف وقت العصر.
وفيه دليل على صلاة العصر في أول وقتها أيضًا، وهو عند انتهاء وقت الظهر، ولهذا تشكك أبو أمامة في صلاة أنس، أهي الظهر أو العصر؟ فيدل أيضًا على عدم الفاصلة بين الوقتين. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: وما اعترض به العينيّ كلام النوويّ بأن هذا الحديث ليس فيه تصريح في التبكير لصلاة العصر، ومثل عمر بن عبد العزيز كان يتبع الأمراء، ويترك السنة، مما لا قيمة له، بل جرى على
(1)
"شرح النووي" 5/ 124.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 282.
(3)
"فتح الباري" 2/ 35.
عادته في التعصب لمذهبه، مع كون أحاديث الباب صريحة في مخالفته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [34/ 1415](623)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(549)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(509)، وفي "الكبرى"(1496)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1517)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 443)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1037)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1391)، وبقيّة المسائل تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1416]
(624) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي
(1)
عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ مُوسَى بْنَ سَعْدٍ الأنصَارِيَّ حَدَّثَهُ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: صلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْحَرَ جَزُورًا لَنَا، وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا، قَالَ:"نَعَمْ"، فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، فَوَجَدْنَا الْجَزُورَ لَمْ تُنْحَرْ، فَنُحِرَتْ، ثُمَّ قُطِّعَتْ، ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا، ثُمَّ أَكَلْنَا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ
(2)
.
وَقَالَ الْمُرَادِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ)
(3)
.
(1)
وفي نسخة: "قال: أخبرني".
(2)
وفي نسخة: "قبل مغيب الشمس".
(3)
وفي نسخة: "بهذا الحديث".
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
وقوله: (الْمُرَادِيُّ) بضم الميم: نسبة إلى مُراد، واسمه يحابر بن مالك بن أُدَد بن زيد بن يشجُب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ومالك بن أُدد هو مَذْحِج، ويُنسب إلى مُراد خلق كثير من الجاهليّة، والصحابة، ومن بعدهم، قاله في "اللباب"
(1)
.
2 -
(يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيب) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 128) وقد قارب (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(مُوسَى بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ) هو: موسى بن سعد بن زيد بن ثابت الأنصاريّ المدنيّ، ويقال: ابن سعيد، صدوقٌ
(2)
[4].
رَوَى عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام، وحفص بن عبد اللَّه بن أنس، وحبيب بن عبد اللَّه بن الزبير، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وسالم بن عبد اللَّه، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، وناجية بن عبد اللَّه بن عتبة.
ورَوَى عنه يزيد بن أبي حَبِيب، وعمر بن محمد زيد العُمَريّ، وسعيد بن أبي هلال، وعطاء بن خالد.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر أنه رَوَى عن زيد بن ثابت، وكذا ذكر البخاريّ.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 315.
(2)
هذا أولى مما قاله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ووثّقه ابن حبّان، وأخرج له مسلم هنا، فمثله لا يقال فيه: مقبول، وقد غفل الحافظ عما ذكره في "هدي الساري" (484) حيث قال: إن تخريج صاحب "الصحيح" لأيّ راو كان في الأصول مقتضٍ لعدالته عنده، وصحّة ضبطه، وعدم غفلته. انتهى، وهذا هو الحقّ، فتأمله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) بن أنس بن مالك، صدوقٌ [3].
رَوَى عن جدّه، وجابر، وابن عمر، وأبي هريرة.
ورَوَى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ويحيى بن أبي كثير، وابن إسحاق، وموسى بن ربيعة، وموسى بن سعد ابنا زيد بن ثابت، وعلقمة بن مَرْثَد، وأسامة بن زيد الليثيّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: لا يثبت له السماع إلا من جدّه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: هو أحب إليّ من حفص بن عمر، ولا ندري أسمع من جابر وأبي هريرة أم لا؟.
وقال البخاريّ: وقال بعضهم: عبيد اللَّه بن حفص، ولا يصح عبيد اللَّه. انتهى.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (624)، وحديث (897):"اللهم أغثنا، اللَّه أغثنا. . . ".
والباقون تقدّموا قبل باب، و"أنس" ذُكر في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى يزيد، والباقون مدنيّون.
3 -
(ومنها): أن قوله: (قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ) فيه بيان اختلاف ألفاظ شيوخه، فعمرو سمعه من وهب بقراءة غيره عليه، ولذا قال:"أخبرنا"، ومحمد بن سلمة، وأحمد بن عيسى سمعاه من لفظه مع جماعة، ولذا قالا:"حدّثنا".
فقوله: "ابْنُ وَهْبٍ" مرفوع على الفاعليّة، تنازعه كل من "أخبرنا" و"حدّثنا"، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: يزيد، عن موسى، عن حفص.
5 -
(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، ومن المعمّرين، فقد جاوز عمره المائة، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا) أي لأجلنا، أو اللام بمعنى الباء (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ) أي صلاتها (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي سلّم من صلاته (أَتَاهُ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه، كما قال في "التنبيه"
(1)
. (مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) بفتح السين المهملة، وكسر اللام: بطن من الأنصار، وهو: سَلِمة بن سعد بن عليّ بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جُشَم بن الخزرج، والنسبة إليه سَلَميّ بفتح اللام، كذلك ينسبه النحويون، والمحدّثون يكسرونها، قاله في "اللباب"
(2)
، وإلى هذا أشرت بقولي:
وَالسَّلَمِيُّ نِسْبَةٌ لِسَلِمَهْ
…
بَطْنٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَهْلِ الْمَكْرَمَهْ
وَهْيَ بِكَسْرِ اللَّامِ لَكِنِ النَّسَبْ
…
فَتَحَهُ النُّحَاةُ وَفْقًا لِلْعَرَبْ
وَالْفَتْحُ لِلْمُحَدّثِينَ نُسِبَا
…
فَإِنْ يَصِحَّ فَالصَّوَابَ جَانَبَا
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْحَرَ) من باب نَفَعَ (جَزُورًا لَنَا) بفتح الجيم من الإبل خاصّةً، يقع على الذكر والأنثى، والجمع جُزُر بضمّتين، مثلُ رَسُول ورُسُل، ويُجمع أيضًا على جُزُرات، ثم على جَزَائر، ولفظ الْجَزور أُنثى، يقال: رَعَتِ الْجَزُورُ، قاله ابن الأنباريّ، وزاد الصّغَانيّ: وقيل: الجَزُور: الناقة التي تُنْحَرُ، أفاده في "المصباح"
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الْجَزُور من الإبل، والْجَزْرَة من غيرها، وهو ما يُعدّ من ذلك للْجَزْر، وهو الشقّ والقطعُ. انتهى
(4)
.
وقال في "القاموس": الْجَزُورُ: البعيرُ، أو خاصّ بالناقة المجزورة، جمعه جَزَار، وجُزُرٌ -بضمّتين- وجُزُراتٌ، وما يُذبح من الشاة، واحدتها جَزْرَةٌ. انتهى
(5)
.
(1)
"تنبيه العلم بمهمات صحيح مسلم"(ص 146).
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 447.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 98.
(4)
"المفهم" 2/ 251.
(5)
"القاموس المحيط" 1/ 389.
(وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا) الظاهر أنه أراد حضور أكل لحمها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") -بفتحتين-: حرف جواب، وهي هنا للْعِدَة، أي أنه صلى الله عليه وسلم وَعَدَهم بأن يأتيهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: وقولهم في الجواب: نَعَم معناها: التصديق إن وقعت بعد الماضي، نحو: هل قام زيدٌ؟، والْوَعْدُ إن وقعت بعد المستقبل، نحو: هل تقوم؟. انتهى
(1)
، وقد تقدّم البحث فيها مستوفًى.
(فَانْطَلَقَ) أي ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيوتهم (وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ) أي حال كوننا مصاحبين له صلى الله عليه وسلم (فَوَجَدْنَا الْجَزُورَ لَمْ تُنْحَرْ، فَنُحِرَتْ، ثُمَّ قُطِّعَتْ، ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا) ببناء الأفعال الأربعة للمفعول (ثُمَّ أَكَلْنَا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ) وفي نسخة: "قبل مغيب الشمس"، وفي حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه التالي:"فنأكل لحمًا نضيجًا قبل مغيب الشمس".
وقوله: (وَقَالَ الْمُرَادِيُّ) هو محمد بن سلمة شيخه الثاني (حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ) بفتح اللام، وكسر الهاء، هو: عبد اللَّه بن لهيعة (وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ) وفي بعض النسخ: "بهذا الحديث".
وغرض المصنّف بهذا بيان اختلاف شيوخه في إسناد هذا الحديث، فعمرو بن سوّاد، وأحمد بن عيسى، روياه عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث. . . إلخ، وأما محمد بن سلمة المراديّ، فرواه عن ابن وهب، عن ابن لَهِيعة، وعمرو بن الحارث. . . إلخ.
و (ابن لَهيعة) هو: عبد اللَّه بن لهيعة بن عُقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان الحضرميّ الأعدوليّ، ويقال: الغافقيّ، أبو عبد الرحمن المصريّ الفقيه القاضي، صدوقٌ خلط بعد احتراق كتبه [7].
رَوى عَن الأعرج، وأبي الزبير، ويزيد بن أبي حبيب، وجعفر بن ربيعة، وعبيد اللَّه بن أبي جعفر، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن دينار، وكعب بن علقمة، وأبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، وابن المنكدر، وأبي يونس مولى أبي هريرة، وجماعة.
ورَوَى عنه ابن ابنه أحمد بن عيسى، وابن أخيه لَهِيعة بن عيسى بن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 614.
لَهِيعة، والثوريّ، وشعبة، والأوزاعيّ، وعمرو بن الحارث، وماتوا قبله، والليث بن سعد، وهو من أقرانه، وابن المبارك، وربما نسبه إلى جده، وابن وهب، والوليد بن مسلم، وعبد اللَّه بن يزيد المقرئ، وأسد بن موسى، وأشهب بن عبد العزيز، وجماعة.
قال رَوح بن صلاح: لَقِي ابنُ لهيعة اثنين وسبعين تابعيًّا، وقال البخاريّ، عن الحميديّ: كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئًا، وقال ابن المدينيّ، عن ابن مهديّ: لا أحمل عنه قليلًا ولا كثيرًا، ثم قال عبد الرحمن: كتب إلي ابن لهيعة كتابًا فيه حديث عمرو بن شعيب، قال عبد الرحمن: فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة، قال: أخبرني إسحاق بن أبي فَرْوَة، عن عمرو بن شعيب، وقال الميمونيّ، عن أحمد، عن إسحاق بن عيسى: احتَرَقَت كتب ابن لهيعة سنة تسع وستين ومائة - ومات سنة ثلاث أو أربع وسبعين ومائة، وقال البخاريّ، عن يحيى بن بكير: احتَرَقَت كتب ابن لهيعة سنة سبعين ومائة، وكذا قال يحيى بن عثمان بن صالح السهميّ عن أبيه، ولكنه قال: لم تحترق بجميعها، إنما احترق بعض ما كان يُقرأ عليه، وما كتبت كتاب عمارة بن غَزِيّة إلا من أصله، وقال أبو داود: قال ابن أبي مريم: لم تحترق.
وقال البخاريّ: تركه يحيى بن سعيد، وقال ابن مهديّ: لا أحمل عنه شيئًا، وقال ابن خزيمة في "صحيحه": وابن لهيعة لست ممن أخرج حديثه في هذا الكتاب إذا انفرد، وإنما أخرجته لأن معه جابر بن إسماعيل، وقال عبد الغني بن سعيد الأزديّ: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة، فهو صحيح: ابن المبارك، وابن وهب، والمقرئ، وذكر الساجيّ وغيره مثله، وقال يحيى بن حسان: رأيت مع قوم جزءًا سمعوه من ابن لهيعة، فنظرت، فإذا ليس هو من حديثه، فجئت إليه، فقال: ما أصنع؟ يجيئوني بكتاب، فيقولون: هذا من حديثك، فأحدثهم، وقال ابن قتيبة: كان يقرأ عليه ما ليس من حديثه، يعني فضُعِّف بسبب ذلك، وحَكَى الساجيّ عن أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة من الثقات، إلا أنه إذا لُقِّن شيئًا حدث به، وقال ابن خِرَاش: كان يكتب حديثه، احترَقَت كتبه، فكان من جاء بشيء قرأه عليه، حتى لو وَضَع أحد حديثًا وجاء
به إليه قرأه عليه، قال الخطيب: فمن ثَمّ كثرت المناكير في روايته لتساهله، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن الإفريقيّ وابن لهيعة، أيهما أحبّ إليك؟ فقال: جميعًا ضعيفان، وابن لهيعة أمره مضطرب، يُكتب حديثه على الاعتبار، قال عبد الرحمن: قلت لأبي: إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك، فابن لهيعة يُحتجّ به؟ قال: لا، قال أبو زرعة: كان لا يضبط.
وقال ابن حبان: سَبَرتُ أخباره، فرأيته يدلِّس عن أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم، ثم كان لا يبالي ما دُفِع إليه قرأه، سواء كان من حديثه أو لم يكن، فوجب التنكُّب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه؛ لما فيها من الأخبار المدلَّسة عن المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين بعد احتراق كتبه؛ لما فيها مما ليس من حديثه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن حبّان: تحقيقٌ دقيقٌ ينبغي اعتماده؛ لأنه حكم صدر بعد تتبع أخباره، فتأمل.
وقال يحيى بن بكير وغيره: وُلِد سنة ست وتسعين، وقال ابن يونس، وابن سعد: سنة سبعين، وقالا: ومات يوم الأحد نصف ربيع الأول سنة أربع وسبعين ومائة، وفيها أرّخه غير واحد، وقال هشام بن عمار: مات سنة سبعين ومائة، ولم يوافقه أحد على هذا.
أخرج له المصنّف مقرونًا، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، مقرونًا بعمرو بن الحارث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1416](624)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1038)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1392)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"
(1516)
، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 255)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 442)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب التعجيل بصلاة العصر.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بالمبالغة في التبكير بالعصر.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من محبّتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث يطلبون حضوره إلى بيوتهم؛ ليُكرموه بالطعام.
4 -
(ومنها): مشروعيّة إجابة الدعوة.
5 -
(ومنها): بيان أن الدعوة للطعام مستحبّة في كل وقت، سواء كان أول النهار أو آخره.
6 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث وما قبله يدلّ على فساد مذهب أبي حنيفة، إذ قال: إن أول وقت العصر إذا صار ظلُّ كل شيء مثليه؛ إذ لا يتّسع الوقت على رأيه لمثل هذا الفعل، ولا لأن يأتوا العوالي، والشمس مرتفعةٌ، بل يُتمكّن من مثل كلّه إذا صُلِّيت في أول المثل الثاني، وكان النهار طويلًا. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1417]
(625) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تُنْحَرُ الْجَزُورُ، فَتُقْسَمُ عَشَرَ قِسَمٍ، ثُمَّ تُطْبَخُ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ).
(1)
"المفهم" 2/ 250.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) أبو جعفر الْجَمّال، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ إمامٌ [7](157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(أَبُو النَّجَاشِيِّ) -بنون وجيم خفيفة، بعد الألف معجمة- هو: عطاء بن صُهَيب الأنصاريّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن مولاه رافع بن خديج، وروى عنه الأوزاعيّ، ويحيى بن أبي كثير، وعكرمة بن عَمّار، وأيوب بن عُتْبة.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان صَحِبَ رافع بن خَدِيج ست سنين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (625) و (637) و (1548) و (2362).
5 -
(رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ) بن رافع بن عَدِيّ الحارثي الأوسيّ الأنصاري الصحابي الجليل، أول مشاهده أُحُد، ثم الخندق، مات رضي الله عنه سنة (3 أو 74) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 489.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو والبخاريّ، وأبو داود، وأبي النجاشيّ، فما أخرج له أبو داود، والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه ما بين مدنيين، وهما رافع، وأبو النجاشيّ، وشاميين، وهما الأوزاعيّ، والوليد، ورازيّ، وهو شيخه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي النَّجَاشِيِّ) عطاء بن صُهيب، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ) -بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة، آخره جيم رضي الله عنه (يَقُولُ: كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تُنْحَرُ الْجَزُورُ) فعلٌ ونائب فاعله، وتقدّم بيان معنى الجزور في الحديث الماضي (فَتُقْسَمُ) بالبناء للمفعول، أي تجزّأ تلك الجزور (عَشَرَ قِسَمٍ) بكسر القاف، وفتح السين المهملة: جمع قِسْمة -بكسر، فسكون-: أي أجزاء (ثُمَّ تُطْبَخُ) بالبناء للمفعول أيضًا، يقال: طَبَختُ اللحمَ طَبْخًا، من باب نصر: إذا أنضجته بمرق، قاله الأزهريّ، ومن هنا قال بعضهم: لا يُسمّى طَبِيخًا إلا إذا كان بمرق، ويكون الطّبْخُ في غير اللحم، يقال: خُبْزَةٌ جيِّدةُ الطبخ، وآجُرّةٌ جيِّدةُ الطبخ، قاله في "المصباح"
(1)
.
(فَنَأْكُلُ) بالبناء للفاعل (لَحْمًا نَضِيجًا) -بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة-: فَعِيلٌ بمعنى مفعول، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَضِجَ اللحمُ والفاكهةُ نَضَجًا، من تَعِبَ: طاب أكله، والاسم: النُّضْجُ بضمّ النون، وفتحها لغةٌ، والفاعل ناضجٌ، ونَضِيجٌ، وأنضجته بالطبخ، فهو مُنْضَجٌ، ونَضِيجٌ أيضًا. انتهى
(2)
.
(قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ) أي غروبها، و"المغيب": -بفتح الميم، وكسر الغين المعجمة- مصدر غاب، يقال: غاب الشيءُ يَغِيبُ غَيْبًا، وغَيْبةً، وغِيَابًا -بالكسر- وغُيُوبًا -بالضمّ- ومَغِيبًا: إذا بَعُد
(3)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 368.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 609.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 457.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث رافع بن خديج رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1417 و 1418](625)، و (البخاريّ) في "الشرِكة"(2485)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(687)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1036)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1393)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 242)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2/ 210)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب المبادرة في أداء صلاة العصر في أول الوقت، وفيه الردّ على من زعم أن أول وقت العصر مصير ظلّ كلّ شيء مثليه.
2 -
(ومنها): جواز الشَّرِكَة في الأشياء.
3 -
(ومنها): مشروعيّة جمع الحظوظ ثم اقتسامها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1418]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَشُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَنْحَرُ الْجَزُورَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَقُلْ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ المعروف بابن راهويه المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن راشد الدِّمَشقيّ الأمويّ، مولى رَملة بنت عثمان، أصله من البصرة، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9].
رَوَى عن أبيه، وأبي حنيفة، وتَمذهب له، وابن جريج، والأوزاعيّ، وسعيد بن أبي عروبة، وعبيد اللَّه بن عُمَر، وهشام بن عروة، والثوريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الصمد بن شعيب، وداود بن رُشيد، والحكم بن موسى، وأبو النضر الفَرَاديسي، وعَمرو بن عون، وإبراهيم بن موسى الرازيّ، وإسحاق ابن راهويه، وسُويد بن سعيد، وأبو كريب محمد بن العلاء، وهشام بن عمار، وغيرهم، وحدّث عنه الليث بن سعد، وهو في عداد شيوخه.
قال أبو طالب عن أحمد: ثقة، ما أصح حديثه وأوثقه. وقال أبو داود: ثقة، وهو مرجئ، سمعت أحمد يقول: سمع من سعيد بن أبي عروبة بآخر رَمَقٍ. وقال هشام بن عمار عن شعيب: سمعت من سعيد سنة (144). وقال ابن معين، ودحيم، والنسائيّ: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يقربه ويدنيه. ونقل أبو الوليد الباجيّ عن أبي حاتم قال: شعيب بن إسحاق ثقة مأمون.
قال دُحيم: وُلد سنة (18)، ومات سنة (89). وفيها أرّخه ابن حبان في "الثقات"، وكذا أرّخه ابن مُصَفَّى، وزاد: في رجب، وفيها أرّخه غير واحد، ووقع في "الكمال" سنة (98) وهو وَهَم.
أخرج له البخاري، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بحديث الأوزاعيّ الماضي، وهو: عن أبي النجاشيّ، عن رافع بن خَدِيج.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لإسحاق بن إبراهيم.
[تنبيه]: رواية عيسى وشعيب هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(35) - (بَابُ التَّغْلِيظِ فِي تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1419]
(626) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الَّذِي تَفُوتُهُ
(2)
صَلَاةُ الْعَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(نَافِع) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه رضي الله عنهما العدويّ، أبو عبد الرحمن، وُلد بعد المبعث بيسير، واستُصغِر يوم أحد، وهو ابن (14) سنةً، ومات (73)(ع) تقدم في "الايمان" 1/ 102.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "إن الذي تفوته".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (86) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ الأسانيد مطلقًا، على ما نُقل عن البخاريّ رحمه الله.
4 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الَّذِي) مبتدأ خبره قوله: "كأنما. . . إلخ"، وفي نسخة:"إن الذي"(تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ) قيل: فيه جواز قول الشخص فاتتنا الصلاة، خلافًا لمن كرهه، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأن الكلام سيق مساق الذمّ، فكيف يستفاد منه هذا؟.
[تنبيه]: اختُلِف في المراد بفوات العصر في هذا الحديث، فقال ابن وهب وغيره: هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار، وقال سحنون، والأصيلي، وابن عبد البر: هو أن تفوته بغروب الشمس، وقيل: هو تفويتها إلى أن تصفرّ الشمس، وقد ورد مُفَسَّرًا من رواية الأوزاعيّ في هذا الحديث، قال فيه:"وفواتها أن تدخل الشمس صفرة".
قال العراقيّ رحمه الله: كذا ذكر القاضي عياض، وتبعه النوويّ، وظاهر إيراد أبي داود في "سننه" أن هذا من كلام الأوزاعيّ، قاله من عند نفسه، لا أنه من الحديث، فإنه رُوي بإسناد منفرد عن الحديث عن الأوزاعيّ أنه قال: وذلك أن تَرَى ما على الأرض من الشمس صفراء.
وفي "العلل" لابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه الوليد عن الأوزاعيّ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من فاتته صلاة العصر؛ وفواتها أن تدخل الشمس صفرة، فكأنما وتر أهله، وماله"، قال أبي: التفسير من قول نافع. انتهى.
وكلام القاضي أبي بكر ابن العربيّ يقتضي أنه من كلام ابن عمر، فإنه قال: وقد اختُلِف عن ابن عمر فيه، فروى الوليد، عن الأوزاعيّ، عن نافع، عن ابن عمر:"من فاتته صلاة العصر، وفواتها أن تدخل الشمس صفرة"، وابن جريج يروي عنه:"إن فواتها غروب الشمس". انتهى.
وكيفما كان فليس هذا الكلام مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا حجة فيه.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في هذا القول: إنه ليس بشيء.
وقال ابن بطال رحمه الله: إنما أراد فواتها في الجماعة، لا فواتها باصفرار الشمس، أو مغيبها؛ لما يفوته من صلاتها في الجماعة من حضور الملائكة فيها، فصار ما يفوته من هذا المشهد العظيم الذي يجتمع فيه ملائكة الليل، وملائكة النهار أعظم من ذهاب أهله وماله، ولو كان المراد فوات وقتها كله باصفرار، أو غيبوبة لبطل الاختصاص؛ لأن ذهاب الوقت كله موجود في كل صلاة. بهذا المعنى فسره ابن وهب، وابن نافع، وذكره ابن حبيب عن مالك، وابن سحنون عن أبيه، قال ابن حبيب: وهو مثل حديث يحيى بن سعيد: "إن الرجل ليصلي الصلاة، وما فاتته، ولما فاته من وقتها أكثر من أهله وماله"، يريد أن الرجل ليصلي الصلاة في الوقت المفضول، ولما فاته من وقتها الفاضل الذي مضى عليه اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وكُتُبُ عمر إلى عماله أفضل من أهله وماله، وليس في الإسلام حديث يقوم مقام هذا الحديث؛ لأن اللَّه تعالى قال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، ولا يوجد حديث فيه تكييف المحافظة غيره. انتهى.
ورَوَى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من ترك العصر حتى تغيب الشمس
من غير عذر، فكأنما وتر أهله وماله". انتهى كلام العراقيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ") قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله: "وُتر أهله وماله" قيل: معناه: خَرِبَ أهله وماله، وسُلِبهما، من وَتَرْتُ فلانًا: إذا قتلتَ حَمِيمه، والْوِترُ: الْحْقد، بكسر الواو، ولا يجوز فتحها، وذلك أبلغ من ذهاب الأهل والمال على غير هذا الوجه؛ لأن الموتور يهمّ بذهاب ما ذهب منه، ويطلُب ثأره حتى يأخذ به.
وقيل: معناه: أُفرد عن أهله وماله، من الوتر بكسر الواو وفتحها، وهو الفرد، أي صار هو فردًا عن أهله وماله، وعلى هذا والذي قبله، فالمعنى ذهاب جميع أهله وماله.
وقيل: معناه قُلِّل ونُقِصَ، ومنه قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
و"أهلَهُ ومالَه" روايتهما بنصب اللام على أنه مفعول ثانٍ لـ "وُتِرَ"؛ لأن وَتَرَ وَنَقَصَ يتعدّيان إلى مفعولين، ولو رُوي بضمّ اللام على المفعول الأول لم يكن لحنًا، غير أن المحفوظ في الرواية الأول، قاله الحافظ أبو موسى المدينيّ.
وقال أبو الفرج ابن الجوزيّ في "كشف المشكل": في إعراب الأهل والمال قولان:
أحدهما: نصبهما، وهو الذي سَمِعناه، وضبَطناه على أشياخنا في كتاب أبي عُبيد وغيره، ويكون المعنى: فكأنما وُتِرَ في أهله وماله، فلَمّا حُذف الخافض انتصب.
والثاني: رفعهما على ما لم يُسمَّ فاعله، والمعنى: نُقصا، وكأنه يشير إلى أن النصب والرفع ينبني على الاختلاف في معنى "وُتِرَ"، هل هو بمعنى سُلِبَ، أو بمعنى نقص؟ واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(2)
.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: يُرْوَى بنصب "أهله، وماله"، ورفعهما، والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، كما قال النوويّ، وقال
(1)
"طرح التثريب" 2/ 180 - 181.
(2)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 300 - 301.
القاضي عياض: وهو الذي ضبطناه عن جماعة شيوخنا، ووجهه أنه مفعول ثان، أي وُتِرَ هو أهلَهُ ومالَهُ، وقيل: إنه منصوب على نزع الخافض، أي وتر في أهله وماله، فلما حذف الخافض انتصب، قال القاضي عياض والنوويّ: ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله، قال العراقيّ: وفيما قالاه نظر؛ إذ الفعل لم يُسَمَّ فاعله، وهو مبني للمفعول على كل حال، فرواية النصب على أن التارك هو المنقوص، فأقام ضميره مقام الفاعل، فانتصب أهله وماله؛ لأنه مفعول ثان، ورواية الرفع على أن أهله، وماله هم المنقوصون، فأقامه مقام الفاعل، فرفعه.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: إن رفعت فعلى البدل من الضمير في "وُتِرَ". انتهى.
فأما على رواية النصب، فاختلفوا في معناه، فقال الخطابيّ وغيره: معناه نُقِص هو أهله وماله، وسُلِبهم، فبقي وِترًا فردًا بلا أهل ولا مال، فليحذر من تفويتها، كحذره من ذهاب أهله وماله، جزم به الخطابيّ في "المعالم"، وقال في "أعلام الجامع الصحيح":"وُتِرَ": أي نقص، ومنه قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، وقيل: سُلِب أهله وماله، فبقي وترًا، لا أهل له ولا مال. انتهى.
فجعلهما قولين متغايرين، تفسيره بنُقِصَ، وتفسيره بسُلِبَ.
قال العراقيّ: وهذا يخالف ما حكيته عنه أوّلًا، وكذا غاير بينهما غيره، قال ابن بطال: قال "صاحب العين": الوِتْرُ، والتِّرَةُ: الظلم في الدم، يقال منه: وتر الرجل وِترًا، وتِرَةً، فمعنى وتر أهله وماله: سلب ذلك، وحُرِمه، فهو أشدّ لغمه وحزنه؛ لأنه لو مات أهله، وذهب ماله من غير سلب، لم تكن مصيبته في ذلك عنده بمنزلة السلب؛ لأنه يجتمع عليه في ذلك غمان، غم ذهابهم، وغم الطلب بوترهم، وإنما مثّله صلى الله عليه وسلم فيما يفوته من عظيم الثواب، ثم قال: وقد يَحْتَمِل أن يكون عنى بقوله: "فكأنما وُتِرَ أهله وماله" أي نُقِص ذلك، وأُفرِد منه، من قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، أي لن يَنقُصَكم، والقول الأول أشبه بمعنى الحديث. انتهى.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
: معناه عند أهل اللغة، والفقه: أنه يصاب بأهله وماله إصابةً يطلب بها وترًا، والوترُ: الجناية التي يُطْلَب ثأرها، فيجتمع عليه غمان، غم المصيبة بذهاب ماله، وغم مقاساة طلب الثأر.
يقول: فالذي تفوته صلاة العصر لو وُفِّق لرشده، وعَرَف قدر ما فاته من الخير والفضل كان كالذي أصيب بأهله وماله على ما ذكرنا.
قال: وأصل الكلمة من اللغة فإنها مأخوذة من الوتر والتِرة، وهو أن يَجْني الرجلُ على الآخر جناية في دم أو مال، فيطلبه به حتى يأخذ منه ذلك المال أو مثله، ومثل ذلك الدم، وقَلّما يكون ذلك إلا أكثر من الجناية الأولى، فيذهب المال، ويُجْحِف به وبالأهل، وقد يسمى كل واحد منهما موتورًا؛ لذهاب ماله وأهله، قال الأعشى:
عَلْقَمُ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ
…
النَّاقِضِ الأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ
وقال أعرابيّ:
كَأَنَّمَا الذِّئْبُ إِذْ يَعْدُو عَلَى غَنَمِي
…
فِي الصُّبْحِ طَالِبَ وَتْرٍ كَانَ فَاتَّأَرَا
وقال منقذ الهلاليّ:
وَكَذَاَك يَفْعَلُ فِي تَصَرُّفِهِ
…
وَالدَّهْرُ لَيْسَ يَنَالُهُ وَتْرُ
وهذا عندنا أن تفوته صلاة العصر بغير عذر حتى تغيب الشمس ولا يدرك منها ركعة قبل الغروب، ومن قال: إن ذلك أن يؤخرها حتى تصفرّ الشمس فليس بشيء، والدليل على ذلك أن مالكًا قال في "الموطأ" في رواية ابن القاسم في هذا الموضع:"ووقت صلاة الظهر والعصر إلى غروب الشمس".
وقد يَحْتَمِل أن يكون خروج قوله عليه السلام في هذا الحديث على جواب سؤال السائل، كأنه قال: يا رسول اللَّه، ما مَثَلُ الذي تفوته صلاة العصر، فقال: هو كمن وتر أهله وماله، فإن كان هذا هكذا فيدخل في معنى العصر حينئذ الصبح والعشاء بطلوع الشمس وطلوع الفجر. انتهى
(2)
.
وقال الداوديّ من المالكية: معناه يتوجه عليه من الاسترجاع ما يتوجه على مَن فَقَد أهله وماله، فيتوجه عليه الندم، والأسف بتفويت الصلاة، وقيل:
(1)
"التمهيد" 14/ 121 - 124.
(2)
"الاستذكار" 65 - 66.
معناه: فاته من الثواب ما يلحقه من الأسف عليه كما يَلحق من ذهب أهله وماله.
وقال الباجي: يَحْتَمل أن يريد وُتِرَ دون ثوابٍ يُدَّخَر له، فيكون ما فات من ثواب الصلاة، كما فات هذا الموتور. انتهى.
وأما رواية الرفع، فمعناه: انتُزِعَ منه أهله وماله، وهذا تفسير مالك بن أنس رحمه الله.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يقال: إنما خَصَّ الأهل والمال بالذكر؛ لأن الاشتغال في وقت العصر إنما هو بالسعي على الأهل، والشغل بالمال، فذكر صلى الله عليه وسلم أن تفويت هذه الصلاة نازل منزلة فقد الأهل والمال، فلا معنى لتفويتها بالاشتغال بهما، مع كون تفويتها كفواتهما أصلًا ورأسًا. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 1419 و 1420 و 1421](626)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(552)، و (أبو داود) في "الصلاة"(414)، و (الترمذيّ) فيها (165)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(512)، وفي "الكبرى"(1498)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(685)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 11 - 12)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1803 و 1808)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2075)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 342)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 13 و 27 و 48 و 54 و 75 و 76 و 102 و 124)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 280)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(335)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1469)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13108)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1042 و 1043)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1394 و 1395 و 1396)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 444 و 445)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(371)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان التشديد في تفويت صلاة العصر.
2 -
(ومنها): بيان عِظَم قدر صلاة العصر عند اللَّه عز وجل، وموقعها من الدين، وأن الذي تفوته قد فُجِع بدينه بما ذهب منه كما يُفجَع من ذهب أهله وماله، قاله ابن رجب رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان تعظيم فعل الصلاة في وقتها، وهي خير أعمالنا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، أخرجه أحمد، وابن ماجه بإسناد صحيح، وقد سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أحب إلى اللَّه؟ فقال: "الصلاة على وقتها"، متّفقٌ عليه، ورُوي:"في أول وقتها".
4 -
(ومنها): بيان تحقير الدنيا وأن قليل عمل البر خير من كثير من الدنيا، فالعاقل العالم بمقدار هذا الخطاب يَحْزَن على فوات صلاة العصر إن لم يدرك منها ركعة قبل غروب الشمس، أو قبل اصفرارها فوق حزنه على ذهاب أهله وماله، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
5 -
(ومنها): أنه قد احتَجَّ بهذا الحديث من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهو القول الراجح، كما سيأتي في الباب التالي -إن شاء اللَّه تعالى- فقال: خَصّها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالذكر من أجل أن اللَّه خَصّها بقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، فجمعها في قوله:{الصَّلَوَاتِ} ، ثم خَصّها بالذكر تعظيمًا لها، كما قال عز وجل:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7]، فعَمّ النبيين، ثم قال:{وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، فخَصّ هؤلاء تعظيمًا لهم، وهم أولو العزم من الرسل، وقد اختَلَفَ العلماء من الصحابة والتابعين، وسائر علماء المسلمين في الصلاة الوسطى
(3)
، وسيأتي بيان أقوالهم في الباب التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.
6 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد زعم بعض العلماء أن هذا لا يختصّ بفوات العصر، وأن سائر الصلوات فواتها كفوات العصر في
(1)
"فتح الباري" لابن رجب 4/ 301.
(2)
"التمهيد" 14/ 121.
(3)
راجع: "التمهيد" 14/ 122.
ذلك، وأن تخصيص العصر بالذكر إنما كان بسؤال سائل سأل عنه، فأُجيب، ورجحه ابن عبد البرّ
(1)
، وفيه نظرٌ. وقد يُستدلّ له بما أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عمرو بن شُعيب، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَن ترك الصلاة سُكْرًا مرة واحدة، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها، فسُلِبها. . . " الحديث
(2)
.
واستدلّ من قال: إن جميع الصلوات كصلاة العصر في ذلك بما رَوَى ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن نوفل بن معاوية الديليّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من فاتته الصلاة، فكأنما وتر أهله وماله"، قال: وهذا يعمّ جميع الصلوات، فإن الاسم المعرَّف بالألف واللام يعمّ، كما في قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
قال: وهذا ليس بمتعيّن؛ لجواز أن يكون الألف واللام هنا للعهد، كما قوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106] على تأويل من فسّرها بصلاة العصر. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد كتب الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله بحثًا نفيسًا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا، أحببت إيراده هنا؛ لنفاستة، وغزارة فوائده، قال رحمه الله:
هذا حديث صحيح بإسناده هذا، لم يُخْتَلف فيه على مالك، وكذلك رواه أيوب، وعبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.
قال: وهو عند ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، رواه عن ابن شهاب جماعة من أصحابه، منهم ابن عيينة، ومحمد بن أبي عتيق، وإبراهيم بن سعد.
(1)
فيه نظر؛ لأن كلامه في "التمهيد" ليس فيه ترجيح لهذا القول، بل هو مجرّد ذكر، فليُتأمل.
(2)
إسناده صحيح.
قال: ورواه سعد بن إبراهيم، عن الزهريّ، عن ابن عمر مرفوعًا بغير اللفظ، ثم أخرجه بسنده، عن سعد بن إبراهيم، عن الزهريّ، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجل ليُدْرك الصلاة، وما فاته منها خير من أهله وماله".
قال: وعند ابن شهاب أيضًا في هذا الحديث إسناد آخر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن نوفل بن معاوية الدئليّ، رواه عنه مالك وغيره، إلا أنه محفوظ من ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، وغير محفوظ عن مالك، إلا من حديث خَلَف بن سالم، عن مَعْن، عن مالك، قال أبو عبد الرحمن النسائيّ: أخاف أن لا يكون محفوظًا من حديث مالك، ولعله أن يكون مَعْنٌ، عن ابن أبي ذئب.
قال: فأما حديث مالك، عن ابن شهاب في ذلك، فقرأته على أحمد بن فتح بن عبد اللَّه، أن حمزة بن محمد حدثهم، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، قال: حدّثنا خلف بن سالم المخزوميّ، قال: حدّثنا مَعْن بن عيسى، عن مالك، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، عن نوفل بن معاوية الدئليّ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من فاتته صلاة العصر، فكأنما وُتِرَ أهله وماله".
وخالفه ابن أبي ذئب في هذا الإسناد، فجعله عن الزهريّ، عن أبي سلمة، فيما رَوَينا من حديث أسد، حدّثناه خلف بن القاسم، قراءةً مني عليه، قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن الْمِسْوَر، قال: حدّثنا مِقْدام بن داود، قال: حدّثنا أسد بن موسى، قال: حدّثنا ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن نوفل بن معاوية، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من فاتته صلاةٌ فكأنما وُتِرَ أهله وماله"، هكذا قال:"صلاة"، فيما كتبنا عنه، وقرأنا عليه.
وذِكْرُ أبي سلمة بن عبد الرحمن في هذا الحديث خطأ من قائله، وإنما هو أبو بكر بن عبد الرحمن، وليس ذلك من ابن أبي ذئب، وإنما الخطأ فيه من أسد، أو ممن دون أسد، وأما من ابن أبي ذئب فلا.
ثم أخرجه بسنده عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن
عبد الرحمن، عن نوفل بن معاوية الدُّئَليّ، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من فاتته الصلاة، فكأنما وُتِرَ أهله وماله"، قلت: ما هذه الصلاة؟ قال: صلاة العصر، قال: وسمعت ابن عمر يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وُتِر أهله وماله".
هكذا في هذا الحديث بهذا الإسناد: "وسمعت ابن عمر"، فإن صَحّ هذا، فالحديث لابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن نوفل بن معاوية، وابن عمر جميعًا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن سالم أيضًا، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومما يُصَحِّح ذلك أن محمد بن إسحاق، رَوَى هذا الحديث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عِرَاك بن مالك الغِفَاريّ، قال: سمعت نوفل بن معاوية الدئليّ، وهو جالس مع عبد اللَّه بن عمر بسوق المدينة، يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "صلاةٌ من فاتته، فكأنما وُتر أهله وماله"، فقال عبد اللَّه بن عمر: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هي العصر، ذكره الطحاوي في "فوائده" عن علي بن معبد، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق.
ثم ساقه بسنده، عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن نوفل بن معاوية، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من فاتته صلاة العصر، فكأنما وُتِر أهله وماله".
وهذا يدلك على أن قوله في حديث نوفل الدئليّ: "من فاتته الصلاة" أراد صلاة العصر، فيكون معناه، ومعنى حديث ابن عمر سواءً، وتكون صلاة العصر مخصوصة بالذكر في ذلك غيرها بالمعنى
(1)
.
وقد ذهب قوم من أهل العلم إلى أن حديث نوفل بن معاوية أعمّ، وأولى بصحيح المعنى، من حديث ابن عمر، وقالوا فيه: قوله: "من فاتته الصلاة" -وقد فاتته صلاةٌ- يريد كلَّ صلاة؛ لأن حرمة الصلوات كلها سواءٌ، قال: وتخصيص ابن عمر لصلاة العصر، هو كلام خرج على جواب السائل، كأنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أجاب من سأله عن صلاة العصر بأن قال له: "الذي
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب: عن غيرها بالمعنى، واللَّه تعالى أعلم.
تفوته صلاة العصر، فكأنما وُتر أهله وماله"، ولو سئل عن الصبح وغيرها كان كذلك جوابه أيضًا -واللَّه أعلم- بدليل حديث نوفل بن معاوية: "الذي تفوته الصلاة، أو تفوته صلاةٌ، فكأنما وُتر أهله وماله". انتهى ملخّص كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1420]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عَمْرٌو: يَبْلُغُ بِهِ، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَفَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الحافظ الحجة المشهور، أبو محمد المكيّ، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(سَالِم) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة، ثقةٌ ثبت عابدٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
وقوله: (قَالَ عَمْرٌو: يَبْلُغُ بِهِ، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَفَعَهُ) أشار به إلى اختلاف شيخيه في صيغ الأداء، فقال عمرو الناقد:"يبلغ به"، والفاعل ضمير ابن عمر رضي الله عنهما، وضمير "به" للحديث.
والمعنى: أن ابن عمر رضي الله عنهما رفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
"التمهيد" 14/ 115 - 121.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: "رَفَعَه" أي بصيغة الماضي، أي رفع ابن عمر رضي الله عنهما الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي اختلف فيه شيخا المصنّف لا اختلاف فيه من حيث المعنى، وإنما ذكره المصنّف رحمه الله من باب المحافظة على ألفاظ الشيوخ، قال النوويّ رحمه الله: هما بمعنًى، لكن عادة مسلم رحمه الله: المحافظة على اللفظ، وإن اتّفق المعنى، وهي عادة جميلة، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، فقد ساقها في "مصنّفها (1/ 301) فقال:
(3442)
حدّثنا أبو بكر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه رفعه، قال:"إن الذي تفوته العصر، فكأنما وُتِرَ أهله وماله". انتهى.
وأما رواية عمرو الناقد، عن سفيان، فلم أجدها، إلا أن البيهقيّ: ساقها في "الكبرى"(1/ 444) من طريق آخر، فقال:
(1932)
وأخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، أنبأ حاجب بن أحمد الطوسيّ، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا سفيان، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم في الذي تفوته صلاة العصر:"كأنما وتر أهله وماله". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1421]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ").
(1)
"شرح النووي" 5/ 126.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه الحافظ الفقيه المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) الحافظ المصريّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (وَاللَّفْظُ لَهُ) يعني أن هذا اللفظ لهارون بن سعيد، وأما أبو بكر، وعمرو الناقد، فروياه بمعناه، وعادة صنيع المصنّف رحمه الله في مثل هذا أن يكتب لفظ (ح)، كما سيأتي نظيره في الباب التالي، ويَحْتَمل أن يكون سقطت من النسّاخ، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ) تقدّم شرحه مستوفًى في الحديث الماضي، ونذكر هنا فائدة نحويّة مهمّةً، وهي: أن الفاء في قوله "فكأنما وتر. . . إلخ"، إنما دخلت في خبر المبتدأ؛ لما فيه من معنى العموم، فأشبه الشرط الذي يربط جوابه بها.
قال الْخُضَرِيّ في "حاشيته على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك":
[فائدة]: لا يقترن الخبر بالفاء إلا إذا كان المبتدأ يشبه الشرط في العموم، والاستقبال، وترتب ما بعده عليه، وذلك لكونه موصلًا بفعل صالح للشرطية بان يخلو من عَلَم الاستقبال، كالسين، وأداة الشرط، ومن "قد"، و"ما" النافية، أو بظرف، أو مجرور، كالذي يأتيني، أو هو هنا، أو في الدار، فله درهم، أو نكرة موصوفة بذلك، كرجل يأتيني، أو هنا، أو في الدار، فله درهم، أو مضافًا إلى الموصول والموصوف المذكورين بشرط كونه لفظ "كل" في الثاني، كما قاله السيد البليديّ، كلُّ الذي يأتيني، أو كل رجل يأتيني. . . إلخ، أو موصوفًا بالموصول المذكور، كالرجل الذي يأتيني. . . إلخ، وكذا المضاف لذلك، فيما يظهر، كغلام الرجل الذي يأتيني. . . إلخ، فتلك ثماني عشرة صورة يكثر اقتران خبرها بالفاء، لتنص على مراد المتكلم من ترتب الدرهم على الإتيان مثلًا، فلو عُدِم العموم، كالسعيُ الذي تسعاه في الخير
ستلقاه، أو الاستقبالُ، كالذي زارني أمس له كذا، أو اقترن الفعل بشيء مما مرّ، كالذي سيأتيني، أو إن يأتيني أكرمه، أو قد أتاني، أو ما أتاني له كذا، امْتَنَعَت الفاء؛ لفوات الشَّبَه بالشرط، وكذا لو كانت الصفة، أو الصلة غير ما ذُكِر، كالذي أبوه محسن مكرَم، والقائم زيد، ولا يجوز: فمكرم، ولا فزيد، خلافًا لابن مالك في الثاني، وأما آية السرقة، والزنا، فخبرهما محذوف، أي مما يتلى عليكم حكم السارق، والزاني. . . إلخ، وقوله {فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، و {فَاجْلِدُوا} [النور: 2] بيان للحكم.
وتدخل الفاء بقلّة في خبر "كل" إذا أضيف لغير ما مرّ، بأن أضيف لغير موصوف أصلًا، ككلّ نعمة فمن اللَّه، أو لموصوف بغير ما ذكر، كقوله [من الخفيف]:
كُلُّ أَمْرٍ مُبَاعِدٍ أَوْ مُدَانٍ
…
فَمَنُوطٌ بِحِكْمَةِ الْمُتَعَالِي
ومنه حديث: "كل أمر ذي بال. . . إلخ"
(1)
بناءً على أن العبرة الصفةُ الأولى، فإن اعْتُبِرت الثانية، وهي "لا يبدأ" كان من الكثير؛ لصلوحه للشرط، كما في "حاشية الصبان"، والظاهر أن مثل ذلك إضافتها لموصول بغير ما مرّ، ككلُّ الذي أبوه قائم، فله درهم.
فجملة ما تدخل الفاء في خبره إحدى وعشرون صورة، ما لم يدخلها ناسخٌ، فيمنع الفاء، بإجماع المحققين، إلا "إنَّ"، و"أَنّ" و"لكنّ" على الصحيح، كآية {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30] الآية، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] الآية، وذلك كثير. انتهى ما كتبه الْخُضَريّ رحمه الله في "حاشيته"
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: إنما كتبت هذه المسألة وإن كان فيها طولٌ؛ لكثرة دورانها في الأحاديث، فينبغي معرفتها تمام المعرفة، وقد قدّمت في أوائل هذا الشرح أن المقصود الأساسيّ في وضع الشرح هو إيضاح الكتاب
(1)
تقدّم الكلام على هذا الحديث في "شرح المقدّمة" عند الكلام على البسملة، وأنه حديث ضعيف، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(2)
"حاشية الخضري" 1/ 103.
المشروح بما يتطلبه من الفوائد الإسنادية، والمتنية، والمصطلحات الحديثية، والمعاني اللغوية، والنحوية، والفقهية، وغير ذلك من أنواع العلوم التي يَحتاج إليها طالب العلم، فإيّاك أن تلومني بما جمعت له من هذه الفوائد، واللَّه عز وجل يتولاني وإياك بما تولّى به عباده الصالحين، إنه رؤوف رحيم آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(36) - (بَابُ بَيَانِ أَدِلَّةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1422]
(627) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا حَبَسُونَا، وَشَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن سلمة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(هِشَام) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(مُحَمَّد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
5 -
(عَبِيدَةُ) بن عَمْرو السلمانيّ المراديّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة ثبتٌ فقيه مخضرمٌ، فاضلٌ [2] مات قبل (70) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 89/ 468.
6 -
(عَلِيّ) بن أبي طالب الهاشميّ الخليفة الراشد رضي الله عنه، استُشهد سنة (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنهم كوفيّون إلا هشامًا وابن سيرين، فبصريّان.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: محمد، عن عَبيدة.
5 -
(ومنها): أن عليًا رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَلِيٍّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ)"كان" هنا تامّةٌ بمعنى جاء، فلا تحتاج إلى خبر، كما قال الحريريّ في "مُلحته":
وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ
…
فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ
ويومُ الأحزاب هو: يوم الخندق، وكان في شوال سنة أربع من الهجرة، كما قال موسى بن عُقْبَةَ، واختاره البخاريّ، وقيل: سنة خمس، وعليه كثيرون.
وسميت الْغَزْوَةُ بالأحزاب؛ لاجتماع طَوَائِفَ من المشركين: قريشٍ، وغَطَفَانَ، وبني أسد، وبني سُلَيم، وبني سعد، واليهود على حرب المسلمين، وهم كانوا ثلاثة آلاف، والمشركون عشرة آلاف، وقيل: أربعة وعشرين ألفًا.
وسُمِّيَت بالخندق؛ لأجل الخندق الذي حُفِرَ بأمره صلى الله عليه وسلم حولَ المدينة لَمَّا أشار به سلمانُ الفارسيُّ رضي الله عنه، فإنه من مكائد الفُرْس دون العرب، وعمِلَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه ترغيبًا للمسلمين، فإنهم قَاسَوا في حَفْرِهِ شدائدَ، منها شدةُ الجوع والبرد، وكثرةُ الحفر، والتعب، وأقاموا في عمل الحفر عشرين ليلة، أو
خمسة عشر يومًا، أو أربعًا وعشرين، أو أشهرًا، على أقوال
(1)
.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَلَأَ اللَّهُ) دعاء عليهم، وأخرجه في صورة الخبر تأكيدًا، وإشعارًا بأنه من الدعوات المجابة سريعًا، وملأَ بالماضي ثقةً بالاستجابة، فكأنه أُجيب سؤاله، فأخبر عن حصول إجابته ووقوعها
(2)
. (قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا) قال الأشرف رحمه الله: خصّهما بالذكر لأن أحدهما مسكن الأحياء، والآخر مضجع الأموات، أي جَعَلَ النار ملازمة لهم، لا تنفك عنهم، لا في حياتهم، ولا في مماتهم.
وقال الطيبيّ رحمه الله: دعا عليهم بعذاب الدارين، من خراب بيوتهم في الدنيا بنهب أموالهم، وسَبْي ذراريّهم، وهَدْم دُورهم، ومن عقاب الآخرة باشتعال قبورهم نارًا، ووقوع الزجر والنكال في جهنم خالدًا، فالأسلوب إما من المشاكلة؛ لذكره النار في البيوت، أو من الاستعارة، استعيرت النار للفتنة، وعلى الثاني هو من باب قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] حيث استعمل "ملأ" في الحقيقة والمجاز. انتهى
(3)
.
(كمَا حَبَسُونَا) من باب ضرب: أي منعونا (وَشَغَلُونَا) أي منعونا، فهو مؤكّد لمعنى "حبسونا"، يقال: شَغَلَهُ الأمر شَغْلًا، من باب نَفَعَ، فالأمر شاغلٌ، وهو مشغولٌ، والاسم: الشُّغْل، بضمّ الشين، وتُضمّ الغين، وتسكّن للتخفيف، وقد تقدّم أن أشغل بالهمزة لا تثبت، وجعلها بعضهم لغة رديئة، فمن الأخطاء الشائعة ما اشتهر على الألسنة من قولهم في الدعاء: اللهم أشغله بنفسه، فتنبّه لذلك، وقوله:(عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى) تنازعه الفعلان قبله، وهو بتعريف "الصلاة"، و"الوُسطى" صفة لها.
والوُسْطى: فُعْلَى، مؤنثة الأوسط، وهي من الوسَطَ الذي هو الخِيَارُ، وليست من الوَسَط الذي معناه متوسط بين شيئين؛ لأن فُعْلى معناها التفضيل، ولا يُبْنَى للتفضيل إلا ما يَقْبَلُ الزيادة والنقص، والوسط بمعنى العدل والخيار
(1)
راجع: "المرعاة شرح المشكاة" 2/ 339.
(2)
"المرعاة" 2/ 340.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 900.
يقبلهما بخلاف التوسط بين الشيئين، فإنه لا يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل للتفضيل
(1)
.
وأشار الشيخ زاده في حاشيته على البيضاويّ إلى جواز كونه من الوسط بمعنى المتوسط بين شيئين؛ فقال: ثم إن الأوسط قد يكون من الوسط بين الشيئين، وقد يكون اسم تفضيل من الوسط بمعنى العدل والخيار، فالوسط بهذا المعنى يقبل الزيادة والنقصان، فَيُبْنَى منه أفعل التفضيل، بخلاف الوسط بمعنى المتوسط بين الشيئين، فإنه لا يقبلهما، ولا يبنى منه أفعل التفضيل، فالأوسط الذي يكون من الوسط بهذا المعنى يكون صفة كأحمر لا اسم تفضيل، فيحتمل حمل الآية على كل من المعنيين. اهـ. باختصار وتصرف 1/ 551.
وكذا ذكر الزمخشريّ، وابن العربيّ القولين على الاحتمال
(2)
.
وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": والوُسْطَى تأنيث الأوسط، ووَسَطُ الشيءِ خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقال أعرابي يمدح النبيّ صلى الله عليه وسلم[من البسيط]:
يَا أوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرهِمْ
…
وأَكْرَمَ النَّاسِ أمًّا بَرّةً وَأبَا
ووَسَطَ فُلانٌ القومَ يَسِطُهُم، أي صار في وسطهم.
وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر، وقد دخلت قبلُ في عموم الصلوات؛ تشريفًا لها، كقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية [الأحزاب: 7]، وقوله:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]. انتهى
(3)
.
وقوله: (حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ") غاية "لحبسهم، وشغلهم، يعني أنهم منعوهم عن أداء صلاة العصر إلى غروب الشمس، فما صَلَّاها إلا بعده.
قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم نسيها لشغله بالعدوّ، ويَحْتَمِل أن يكونوا لم يُمكّنوه منها، ولم يُفرّغوه لفعلها، ويَحْتَمِل أن يكون أخّرها قصدًا؛ لأجل شغله بالعدوّ، وعلى هذا يكون هذا التأخير لأجل القتال مشروعًا، ثم
(1)
"الفتوحات الإلهيّة على تفسير الجلالين" 1/ 194.
(2)
"المرعاة" 2/ 340.
(3)
"الجامع لأحكام القرآن" 3/ 208 - 209.
نُسِخ بصلاة الخوف، وقد ذهب مكحول والشاميّون إلى جواز تأخير صلاة الخوف إذا لم يكن أداؤها معه في الوقت إلى وقت الأمن، والصحيح الذي عليه الجمهور أن يؤخّرها، ويُصلّيها على سنّتها، على ما يأتي -إن شاء اللَّه تعالى- انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (36/ 1422 و 1423 و 1424 و 1425 و 1426 و 1427)(627)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2931)، وفي "المغازي"(4111)، وفي "الدعوات"(4533)، وفي "التفسير"(6396)، و (أبو داود) في "الصلاة"(409)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2984)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(473)، وفي "الكبرى" في "التفسير"(11045)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(684)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 122 و 135 و 137 و 153 و 154)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 280)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1044 و 1045 و 1046 و 1047)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1397 و 1398 و 1399 و 1400 و 1401 و 1402)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
2 -
(ومنها): بيان وجوب المحافظة على صلاة العصر.
3 -
(ومنها): بيان وقوع إيذاء الكافر للمسلم في الدنيا التي هي دار أكدار.
4 -
(ومنها): جواز حصول الأعراض البشرية التي ليس فيها نقص لأفضل المرسلين -عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم-.
(1)
"المفهم" 2/ 256.
5 -
(ومنها): جواز الدعاء على الظالم بما يليق به.
6 -
(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أخَّرُوا صلاة العصر حتى خرج وقتها؛ لاشتغالهم بالعدوّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): حديث عليّ رضي الله عنه هذا يقتضي أن الأحزاب شَغَلُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن العصر فقط، وأخرج أحمد، والنسائيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه:"أنهم شَغَلُوه صلى الله عليه وسلم عن الظهر والعصر والمغرب، وصَلَّوا بعد هُويّ من الليل، وذلك قبل أن يُنزِلَ اللَّهُ في صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} الآية [البقرة: 239] ".
وأخرج الترمذيّ، والنسائيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أنهم شغلوه عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء اللَّه".
[فإن قيل]: كيف يُجمَعُ بين هذا الاختلاف؟.
[قلت]: يُجْمَعَ -كما قال النوويّ رحمه الله: بأن وَقْعَة الخَنْدَق دامت أيامًا، فكان هذا في بعض الأيام، وذلك في بعضها الآخر.
وقوله في حديث ابن مسعود: "عن أربع صلوات"، فيه تجوّز؛ لأن العشاء ما خرج وقتها، أو يُحْمَل على تأخيرها عن وقتها المعتاد، ويدل عليه قوله:"حتى ذهب من الليل ما شاء اللَّه".
ثم إن هذا التأخير لهذه الصلوات كان عن عمد، لاشتغاله بالعدو فكان عذرًا، ويَحْتَمِل أن يكون نسيانًا، والأول هو الظاهر؛ لقوله في حديث أبي سعيد:"قبل أن يُنزل اللَّه في صلاة الخوف"، وأما بعد نزول صلاة الخوف فلا يجوز هذا التأخير، بل يصلون صلاة الخوف على حسب الحال، رجالًا أو ركبانًا، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في معنى الصلاة الوسطى:
(اعلم): أنه قد اختَلَف السلف في المراد بالصلاة الوسطى على أقوال:
[الأول]: أنها الصبح، وبه قال أبو أمامة، وأنس، وجابر، وأبو العالية، وعُبَيد بن عُمَير، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم، نقله عنهم ابن أبي
حاتم، وهو أحد قولي ابن عمر، وابن عباس، نقله مالك والترمذيّ عنهما، ونقله مالك بلاغًا عن عليّ، والمعروف عنه خلافه.
ورَوَى ابنُ جرير من طريق عوف الأعرابي، عن أبي رَجَاء العُطَارديّ، قال:"صليت خلف ابن عباس الصبح، فقَنَتَ فيها، ورفع يديه، ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمِرْنَا أن نقوم فيها قانتين". وأخرجه أيضًا من وجه آخر عنه، وعن ابن عمر، ومن طريق أبي العالية:"صليت خلف عبد اللَّه بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة، فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هي هذه الصلاة".
وهو قول مالك، والشافعيّ فيما نص عليه في الأمِّ، واحتجّوا له بأن فيها القنوت، وقد قال اللَّه تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وبأنها لا تقصر في السفر، وبأنها بين صلاتي جهر، وصلاتي سرّ.
وأجيب بأن ما استدلّوا به لا يصلح لمعارضة ما ثبت من الأحاديث الصحيحة الصريحة بأنها العصر؛ ولذا قال النووي في "شرح المهذَّب": الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو المختار، وقال صاحب "الحاوي": نصَّ الشافعيّ: أنها الصبح، وصحّت الأحاديث أنها العصر، ومذهبه اتّباع الحديث، فصار مذهبه أنها العصر، ولا يكون في المسألة قولان، كما وَهِمَ بعض أصحابنا. انتهى.
[القول الثاني]: أنها الظهر، وبه قال زيد بن ثابت، أخرجه أبو داود من حديثه، قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية".
وجاء عن أبي سعيد وعائشة القول بأنها الظهر، أخرجه ابن المنذر، وغيره، ورَوَى مالًا في "الموطأ" عن زيد بن ثابت الجزم بأنها الظهر، وبه قال أبو حنيفة في رواية، ورَوَى الطيالسيّ من طريق زُهْرَةَ بن مَعْبَد، قال:"كنا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة، فسألوه عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي الظهر".
ورواه أحمد من وجه آخر، وزاد:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان، والناس في قائلتهم، وفي تجارتهم، فنزلت".
[القول الثالث]: أنها العصر، وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد رَوَى الترمذيّ، والنسائيّ من طريق زِرّ بن حُبَيش، قال: قلنا لعبيدة: سَلْ عَلِيًّا عن الصلاة الوسطى، فسأله؟ فقال: كنا نُرَى أنها الصبح، حتى سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر". انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وهذه الرواية تَدْفَعُ دَعْوَى من زَعَمَ أن قوله: "صلاة العصر"، مُدْرَجٌ من تفسير بعض الرواة، وهي نصّ في أن كونها العصر من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن شُبْهَة من قال: إنها الصبح قويّة، لكن كونها العصر هو المعتمد.
وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد، والذي صار إليه معظم الشافعية؛ لصحة الحديث فيه، قال الترمذي: هو قول أكثر علماء الصحابة رضي الله عنهم، وقال الماورديّ: هو قول جمهور التابعين، وقال ابن عبد البرّ: هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية: ابنُ حبيب، وابن العربيّ، وابن عَطِيَّة، ويؤيّده أيضًا ما رواه مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما:"نزلت حافظوا على الصلوات، وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء اللَّه، ثم نُسِخت، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فقال رجل: فهي إذن صلاة العصر، فقال: أخبرتك كيف نزلت".
[القول الرابع]: أنها المغرب، نقله ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس، قال:"صلاة الوسطى هي المغرب"، وبه قال قَبِيصَةُ بن ذُؤَيب، أخرجه ابن جرير، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات، وأنها لا تُقْصَر في الأسفار، وأن العمل مَضى على المُبَادَرَةِ إليها، والتعجيل لها في أول ما تغرب الشمس، وأن قبلها صلاتي سر، وبعدها صلاتي جهر.
[القول الخامس]: أنها جميع الصلوات، وهو آخر ما صحّحه ابن أبي حاتم، أخرجه أيضًا بإسناد حسن عن نافع، قال:"سُئِلَ ابنُ عمر؟ فقال: هي كلهن، فحافظوا عليهن"، وبه قال معاذ بن جبل، واحتج له بأن قوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} يتناول الفرائض، والنوافل، فعطف عليه الوسطى، وأريد بها كلّ الفرائض تأكيدًا لها، واختار هذا القول ابن عبد البرّ.
[القول السادس]: أنها الجمعة، ذكره ابن حبيب من المالكية، واحتَجَّ بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه، ورجّحه أبو شامة.
[القول السابع]: أنها الظهر في الأيام، والجمعة يوم الجمعة.
[القول الثامن]: العشاء؛ نقله ابن التين، والقرطبيّ، واحتج له بأنها بين صلاتين، لا تُقْصَرَانِ، ولأنها تقع عند النوم، فلذلك أمِرَ بالمحافظة عليها، واختاره الواحديّ.
[القول التاسع]: الصبح، والعشاء؛ للحديث الصحيح في أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، وبه قال الأبهريّ من المالكية.
[القول العاشر]: الصبح والعصر؛ لقوة الأدلة في أن كلًا منهما قيل: إنها الوسطى، فظاهر القرآن الصبح، ونص السنّة العصر.
[القول الحادي عشر]: صلاة الجماعة.
[القول الثاني عشر]: الوتر، وصنّف فيه عَلَمُ الدين السخاويّ جزءًا، ورجّحه القاضي تقيّ الدين الأخنائيّ، واحتجَّ له في جزء، قال الحافظ: رأيته بخطه.
[القول الثالث عشر]: صلاة الخوف.
[القول الرابع عشر]: صلاة عيد الأضحى.
[القول الخامس عشر]: صلاة عيد الفطر.
[القول السادس عشر]: صلاة الضحى.
[القول السابع عشر]: واحدة من الخمس غير معينة، قاله الربيع بن خُثَيْم، وسعيد بن جبير، وشُرَيح القاضي، وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعيّة، ذكره في "النهاية"؛ قال: كما أُخفيت ليلة القدر.
[القول الثامن عشر]: أنها الصبح، أو العصر على الترديد، وهو غير القول المتقدم الجازم بأن كلًّا منهما يقال له: الصلاة الوسطى.
[القول التاسع عشر]: التوقّف، فقد رَوَى ابنُ جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه.
[القول العشرون]: صلاة الليل، قال الحافظ: وجدته عندي، وذَهِلْت الآن عن معرفة قائله.
وقال النوويّ رحمه الله بعد ذكر الأقوال ما نصّه: والصحيح من هذه الأقوال قولان: العصر والصبح، وأصحهما العصر؛ للأحاديث الصحيحة، ومن قال: هي الصبح يتأول الأحاديث على أن العصر تُسَمَّى وسطًا، ويقول: إنها غير الوسطى المذكورة في القرآن، وهذا تأويل ضعيف.
ومن قال: إنها الصبح يَحتجّ بأنها تأتي في وقت مشقة، بسبب بَرْد الشتاء، وطيب النوم في الصيف، والنعاس، وفتور الأعضاء، وغفلة الناس، فخُصَّت بالمحافظة؛ لكونها مُعَرَّضةً للضَّيَاع، بخلاف غيرها.
ومن قال: هي العصر يقول: إنها تأتي في وقت اشتغال الناس بمعايشهم وأعمالهم.
وأما من قال: هي الجمعة، فمذهب ضعيف جدًّا؛ لأن المفهوم من الإيصاء بالمحافظة عليها، إنما كان لأنها مُعَرَّضةٌ للضَّيَاع، وهذا لا يليق بالجمعة، فإن الناس يحافظون عليها في العادة أكثر من غيرها؛ لأنها تأتي في الأسبوع مرةً بخلاف غيرها.
ومن قال: هي جميع الخمس فضعيفٌ، أو غلطٌ؛ لأن العرب لا تَذكُر الشيء مُفَصَّلًا، ثم تُجْمِلُهُ، وإنما تذكره مُجْمَلًا ثم تُفَصِّله، أو تُفَصِّل بعضه؛ تنبيهًا على فضيلته. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر الأقوال أيضًا ما نصّه: وأضعف الأقوال من قال: هي الصلوات كلّها؛ لأن ذلك يؤدّي إلى خلاف عادة الفصحاء من أوجه:
(أحدها): أن الفصحاء لا يذكرون شيئًا مُفَصَّلًا مُبيّنًا، ثم يذكُرونه مُجْمَلًا، وإنما عادتهم أن يُشيروا إلى مجمل، أو كلّيّ، ثم يفصِّلوه، كقوله تعالى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]، وقد قال اللَّه تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، والصلوات مبيَّنٌ، والصلاة الوسطى مُجمَلٌ.
(1)
"شرح النووي" 5/ 129.
(وثانيها): أن الفصحاء لا يُطلقون لفظ الجمع، ويَعطفون عليه أحدَ مفرداته، ويريدون بذلك المفرد ذلك الجمع؛ فإن ذلك في غاية الْعِيّ والإلباس.
(وثالثها): أنه لو أريد بالصلاة الوسطى الصلوات لكان كأنه قال: حافظوا على الصلوات والصلوات، ويريد بالثاني الأولَ، ولو كان كذلك لما كان فَصِيحًا في لفظه، ولا صحيحًا في معناه؛ إذ لا يحصل باللفظ الثاني تأكيد للأوّل؛ لأنه معطوف، ولا يفيد معنى آخر، فيكون حشوًا، وحَمْلُ كلام اللَّه تعالى على شيء من هذه الثلاثة عير مُسَوَّغٍ ولا جائزٍ.
قال: وسبب اختلاف العلماء القائلين بالتعيين صلاحية "الوسطى" لأن يراد بها التوسّط في العدد، أو في الزمان.
فإن راعينا أعداد الركعات أدَّى إلى أنها المغرب؛ لأن أكثر أعداد الصلوات أربع ركعات، وأقلّها ركعتان، وأوسطها ثلاثٌ، وهي المغرب.
وإن راعينا أعداد الصلوات أنفسها، فما من صلاة إلا وهي متوسّطة بين شفعين؛ إذ الصلوات خمسٌ.
وإن راعينا الأوسط من الزمان كان الأبين أنها الصبح؛ لأنها بين صلاتي نهار مُحَقَّق، وهما: الظهر والعصر، وبين صلاتي ليلٍ مُحَقَّق، وهما: المغرب والعشاء، فأما وقت الصبح فوقتٌ متردّدٌ بين النهار والليل.
قال القرطبيّ رحمه الله: قلت -واللَّه أعلم-: لا يصلح هذا الذي ذُكر أن يكون سببًا في الخلاف فيها؛ إذ لا مناسبة لما ذُكر؛ لكون هذه الصلاة أفضل، أو أوكد من غيرها، أما أعداد الركعات فالمناسب هو أن تكون الرباعيّة أفضل؛ لأنها أكثر ركعات، وأكثر عملًا، والقاعدة أن ما كثُر عمله كثُر ثوابه.
وأما مراعاة أعداد الصلوات، فيلزم منه أن تكون كلُّ صلاة هي الوسطى، وهذا الذي أبطلناه، وأيضًا فلا مناسبة بين ذلك وبين أكثريّة الثواب.
وأما اعتبارها من حيث الأزمانُ، فغير مناسب أيضًا؛ لأن نسبة الصلوات إلى الأزمان كلّها من حيث الزمانيّة واحدةٌ، فإن فُرِض شيء يكون في بعض الأزمان فذلك لأمر خارج عن الزمان.
قال: والذي يظهر لي أن السبب في اختلافهم فيها اختلافهم في مفهوم
الكتاب والسنّة في ذلك المعنى، ونحن نتكلّم على ما ورد في ذلك بحسب ما يقتضيه مساق الكلام، وصحيح الأحاديث -إن شاء اللَّه تعالى- فنقول: إن قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] هو من باب قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]، وقوله:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فخصَّ الرمان والنخل، وجبريل وميكال بالذكر، وإن كانوا قد دخلوا فيما قبلُ بحكم العموم تشريفًا وتكريمًا، وإذا كان ذلك كذلك، فلهذه الصلاة المعبّر عنها بالوسطى شرفيّةٌ وفضيلةٌ ليست لغيرها، غير أن هذه الصلاة الشريفة لم يُعيِّنها اللَّه تعالى في القرآن، فوجب أن يُبحَثَ عن تعيينها في السنّة، فبحثنا عن ذلك، فوجدنا ما يُعيّنها، وأصحّ ما في ذلك أنها العصر على ما في حديث عليّ رضي الله عنه، وأنصّ ذلك ما ذكره الترمذيّ، وصحّحه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة الوسطى صلاة العصر"
(1)
، وهذا نصّ في الغرض، غير أنه قد جاء ما يشعّث التعويل عليه، وهو ما ذكره البراء بن عازب رضي الله عنهما وذلك أنه قال:"نزلت هذه الآية: "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر"، فقرأناها ما شاء اللَّه، ثم نسخها اللَّه، فنزلت:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فلزم من هذا أنها بعد أن عُيِّنت نُسخ تعيينها، وأُبهمت، فارتفع التعيين، ولم يُمكنا أن نتمسّك بالأحاديث المتقدّمة، فلما أُبهم أمر تعيينها، أخذ العلماء يستدلّون على تعيينها بما ظهر لكلّ واحد منهم بما يناسب الأفضليّة، فذهب مالك وأهل المدينة إلى أن الصبح أولى بذلك؛ لكونها تأتي في وقت نوم وركون إلى الراحة، واستصعاب الطهارة، فتكثر المشقّة في المحافظة عليها أكثر من غيرها، فتكون هي الأحقّ بكونها أفضل، وأيضًا فإنه وقتٌ يتمكّن الإنسان فيه من إحضار فهمه وتفرّغه للصلاة؛ لأن علاقات الليل قد انقطعت بالنوم، وأَشْغال النهار بعدُ لم يأت، ولذلك قال اللَّه تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي يحضره القارئ بفراغ ذهنه على أحد التأويلات، وهو أحسنها، وبنحو من هذا يُستدلّ لسائرها من الصلوات، إلا أن الصبح أدخل في هذا المعنى.
(1)
رواه الترمذيّ برقم (2986 و 2988) من حديث سمرة بن جندب، وابن مسعود رضي الله عنهما.
وعلى الجملة فهذا النحو هو الذي يمكن أن يكون باعثًا لكلّ من المختلفين على تعيين ما عيّنه من الصلوات بحسب ما غَلَب على ظنّه من أرجحيّة ما عيّن.
قال: والذي يظهر لي بعد أن ثبت نسخ التعيين أن القول قول من قال: إن اللَّه تعالى أخفاها في جملة الصلوات؛ ليُحافَظَ على الكلّ، كما فَعَل في ليلة القدر، وساعة الجمعة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تحقيق القرطبيّ رحمه الله حسن إلا أن ترجيحه عدم تعيينها فيه نظر لا يخفى، بل الراجح أنها معيّنة، وأنها صلاة العصر، كما يأتي تحقيقه بعد هذا، فتأمّل.
قال الحافظ رحمه الله: وأقوى شُبْهَة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديثُ البراء الذي تقدّم لمسلم، فإنه يُشعر بأنها أبهمت بعدما عُيِّنَت، كذا قاله القرطبيّ، قال: وصار إلى أنها أُبهمت جماعة من العلماء المتأخرين، قال: وهو الصحيح؛ لتعارض الأدلة، وعسر الترجيح.
قال الحافظ رحمه الله: وفي دعوى أنها أُبهمت، ثم عُيِّنت من حديث البراء نظر؛ بل فيه أنها عُيِّنت، ثم وصفت، ولهذا قال الرجل: فهي إذن العصرُ، ولم ينكر عليه البراء، نعم جواب البراء يُشْعِر بالتوقّف؛ لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث عليّ. ومن حجتهم أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، ففيه:"وصلاة العصر" بالعطف، ورَوَى مالكٌ عن عَمْرو بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفًا لحفصة، فقالت: إذا بلغتَ هذه الآية، فآذِنِّي، فَأمْلَتْ عليَّ:"حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاة العصر"، وأخرجه ابن جرير من وجه آخر حسن عن عمرو بن رافع.
ورَوَى ابن المنذر من طريق عبيد اللَّه بن رافع: "أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفًا" فذكر مثل حديث عمرو بن رافع سواءً، ومن طريق سالم بن عبد اللَّه بن عمر أن حفصة أمرت إنسانًا أن يكتب لها مصحفًا نحوه، ومن طريق نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفًا، فذكر مثله، وزاد:"كما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولها"، قال نافع: فقرأت ذلك المصحف، فوجدت فيه الواو.
(1)
"المفهم" 2/ 255 - 256.
فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة، فتكون صلاة العصر غير صلاة الوسطى. وأجيب بأن حديث عليّ، ومن وافقه أصح إسنادًا، وأصرح، وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها:"وهي العصر"، فيحتمل أن تكون الواو زائدة، ويؤيده ما رواه أبو عبيدة بإسناد صحيح عن أُبَيّ بن كعب أنه كان يقرؤها:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر" بغير واو، أو هي عاطفة، لكن عطف صفة، لا عطف ذات، وبأن قوله:"والصلاة الوسطى والعصر" لم يقرأ بها أحدٌ، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولًا:"والعصر"، ثم نزلت ثانيًا بدلها:"والصلاة الوسطى" فجمع الراوي بينهما، ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدَّمًا على النصّ الصريح بأنها صلاة العصر؟. انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في الردّ على من زعم أن العطف يقتضي المغايرة ما نصّه: وتقرير المعارضة أنه عطف "صلاة العصر" على "الصلاة الوسطى" بواو العطف التي تقتضي المغايرة، فدلّ ذلك على أنها غيرها.
وأجيب عن ذلك بوجوه:
[أحدها]: أن هذا إن رُوي على أنه خبر، فحديث عليّ أصحّ، وأصرح منه، وهذا يَحْتَمِل أن تكون الواو زائدة، كما في قوله:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام: 55]، {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: 75]، أو تكون لعطف الصفات، لا لعطف الذوات، كقوله تعالى:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وأشباه ذلك كثيرة، وقال الشاعر:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ
…
وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ
وقال أبو داود الإياديّ:
سُلِّطَ الْمَوْتُ وَالْمَنُونُ عَلَيْهِمْ
…
فَلَهُمْ فِي صَدَى الْمَقَابِرِ هَامُ
والموت هو المنون، وقال عديّ بن زيد العتاديّ:
فَقَدَّدَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ
…
فَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا
والكذب هو الْمَيْنُ، وقد نَصَّ سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل: مررت بأخيك وصاحبك، ويكون الصاحب هو الأخ نفسه، واللَّه أعلم. انتهى
كلام ابن كثير رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ صلاح الدين العلائيّ رحمه الله: حاصل أدلة من قال: إنها غير صلاة العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع:
(أحدها): تنصيص بعض الصحابة، وهو معارض بمثله ممن قال منهم: إنها العصر، ويترجح قول العصر بالنصّ الصريح المرفوع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره، فتبقى حجة المرفوع قائمة.
(ثانيها): معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحثّ على المواظبة على الصبح والعشاء، وهو معارَض بما هو أقوى منه، وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر.
(ثالثها): ما جاء عن عائشة، وحفصة من قراءة:"حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاة العصر" فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يَرِدُ عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد، وهو ممتنع، وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلَفٌ فيه، سلّمنا لكن لا يصلح معارضًا للمنصوص صريحًا، وأيضًا فليس العطف صريحًا في اقتضاء المغايرة؛ لوروده في نسق الصفات، كقوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]. انتهى كلام العلائيّ رحمه الله ملخصًا
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن لك بما سبق من التحقيقات أن أرجح الأقوال، قول من قال: إنها العصر؛ لقوّة حجّته، ووضوحه؛ فإن حديث عليّ رضي الله عنه المذكور في الباب نصّ صريحٌ لا خفاء فيه، وكلُّ ما ذكروه مما يُعارضه فليس في قوّته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1423]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 409 - 410.
(2)
"الفتح" 8/ 43 - 45، وذكر في "الفتح" أيضًا أن الدمياطيّ جمع في ذلك جزءًا مشهورًا سماه "كشف الغِطَا عن الصلاة الوسطى"، فبلغ تسعة عشر قولًا، ثم ساقها كما تقدم.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُ) هو: محمد بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم، أبو عبد اللَّه الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل بابين.
4 -
(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن طرخان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفَيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
وهشام، وهو ابن حسّان المذكور في السند السابق.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَاد) يعني أن يحيى بن سعيد، والمعتمر بن سليمان كليهما رويا هذا الحديث عن هشام بن حسّان بالسند الماضي، وهو: عن محمد بن سيرين، عن عَبِيدة، عن عليّ رضي الله عنهم.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 227) فقال:
(1397)
حدّثنا أبو عليّ محمد بن أحمد، ثنا عبد اللَّه بن أحمد، حدّثني أبي، ثنا يزيد، أنبا هشام (ح) وحدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عبد اللَّه بن محمد، ثنا أبو أسامة، عن هشام (ح) وحدّثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا يحيى بن سعيد، عن هشام (ح) وحدّثنا أبو أحمد الغطريفيّ، ثنا عبد اللَّه بن محمد شيرويه، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا المعتمر بن سليمان، عن هشام، قالوا: عن محمد، عن عَبِيدة، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال -يوم الخندق-:"شغلونا عن صلاة الوسطى، حتى غربت الشمس، ملأ اللَّه قبورهم وأجوافهم نارًا".
ثمّ قال: لفظ يحيى بن سعيد.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أراد بهذا بيان أن اللفظ الذي ساقه هو لفظ يحيى بن سعيد القطّان، ولهذا أورده هنا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وأما رواية المعتمر، فساقها ابن خزيمة في "صحيحه" (2/ 289) فقال:
(1335)
أنا أبو طاهر، نا أبو بكر، نا محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ، نا المعتمر، قال: سمعت هشامًا، نا محمد، عن عَبِيدة، عن عليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال -يوم الأحزاب-:"ما لهم؟ ملأ اللَّه قبورهم وبيوتهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى، حتى غابت الشمس". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1424]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى آبَتِ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا، أَوْ بُيُوتَهُمْ، أَوْ بُطُونَهُمْ"، شَكَّ شُعْبَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالْبُطُونِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، تقدّم قبل بابين أيضًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفرٍ) غندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل بابين أيضًا.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
6 -
(أَبُو حَسَّانَ) الأعرج الأجْرَدُ البصريّ، مشهور بكنيته، واسمه مسلم بن عبد اللَّه، صدوق رُمي برأي الخوارج [4].
رَوَى عن عليّ، وابن عبّاس، وأبي هريرة، وعائشة، وابن عَمْرو، وناجية بن كعب، والأشتر، والأسود بن يزيد، وعَبِيدة السلمانيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه قتادة، وعاصم الأحول، قال أبو حاتم: زعموا أن ابن سيرين كان يروي عنه.
قال الأثرم عن أحمد: مستقيم الحديث، أو مقارب الحديث، وقال
(1)
وفي نسخة: "حدّثناه".
إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال يعقوب بن شيبة: قلت لابن المديني: من رَوَى عن أبي حسان غير قتادة؟ قال: لا أعلم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الآجري عن أبي داود: سُمِّي الأجرد؛ لأنه كان يمشي على عَقِبِه، خَرَجَ مع الخوارج، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة، ويقال: إنه كان يَرَى رأي الخوارج.
وقال ابن عبد البر: الأجردُ الذي يمشي على ظهر قدميه وقدماه مُلْتَوِيَتَانِ، وهو عندهم ثقة في حديثه، إلا أنه رُوِي عن قتادة، قال: سمعت أبا حسان الأعرج، وكان حَرُورِيًا، وقال ابن سعد: كان ثقةً إن شاء اللَّه تعالى. قُتِلَ يوم الحَرَّة سنة (130).
رَوَى له البخاريّ تعليقًا، والباقون، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (627) و (1243) و (1244) وأعاده بعده و (2635).
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
وقوله: (عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى) بتنكير "صلاة" وإضافتها إلى "الوُسطى"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ، وأصول السماع:"صلاة الوسطى"، وهو من باب قوله تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44]، وفيه المذهبان المعروفان؛ مذهب الكوفيين جواز إضافة الموصوف إلى صفته، ومذهب البصريين منعه، ويُقَدِّرون فيه محذوفًا، وتقديره هنا: عن صلاةِ الصلاةِ الوسطى، أي عن فِعْل الصلاةِ الوسطى. انتهى
(1)
.
وقوله: (حَتَّى آبَتِ الشَّمْسُ) قال الحربيّ: معناه رجعت إلى مكانها بالليل، أي غربت، من قولهم: آب: إذا رجع، وقال غيره: معناه: سارت للغروب، والتأويب: سَيْرُ النهار
(2)
.
وقوله: (شَكَّ شُعْبَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالْبُطُونِ) يعني أن شعبة شكّ في أيّ اللفظين ذُكر مع "قبورهم"، هل هو "بيوتهم"، أم هو "بطونهم"؟ واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1425]
(. . .) - (وحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ
(1)
"شرح النوويّ" 5/ 129.
(2)
"شرح النوويّ" 5/ 129.
سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:"بُيُوتَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ"، وَلَمْ يَشُكَّ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عَمْرو البصريّ، ثقةٌ [10](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
2 -
(سَعِيد) بن أبي عَرُوبة مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة السابق، وهو: عن أبي حسّان، عن عَبِيدة، عن عليّ رضي الله عنه.
وقوله: (وَلَمْ يَشُكَّ) الفاعل ضمير سعيد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1426]
(. . .) - (وَحَدَّثنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَاه
(1)
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا
(2)
أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى، سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ:"شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ، أَوْ قَالَ: قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَارًا").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبت [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(وَكِيع) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
3 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(يَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ) -بالجيم، والزاي، وآخره راء- الْعُرَنيّ -بضمّ العين المهملة، وفتح الراء، ثم نون- الكوفيّ، قيل: اسم أبيه زَبّان -بزاي، وموحّدة- وقيل: بل لقبه، صدوقٌ، رُمي بالغلوّ في التشيّع [3](م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
5 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبَريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
6 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 186)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيٍّ) وقال في الطريق الثاني: (عَنْ يَحْيَى، سَمَعَ عَلِيًّا) قال النوويّ رحمه الله: إنما أعاده مسلم؛ للاختلاف في "عن"، و"سَمِعَ". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه النوويّ رحمه الله: في كلامه هذا أن المصنّف إنما أعاد سند هذا الحديث؛ لبيان الاختلاف الواقع في صيغتي الأداء، حيث وقع في رواية وكيع، عن شعبة بلفظ "عن"، ووقع في رواية معاذ، عن شعبة بلفظ "سَمِعَ"، ومعلوم أن سمع صريحٍ في الاتصال، بخلاف "عن"، ففيها خلاف مشهور، قد سبق البحث فيه مستوفى في "شرح المقدّمة" حيث ذكره المصنّف، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقوله: (عَلَى فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ) بضمّ الفاء، وإسكان الراء، وبالضاد المعجمة، وهي المدخل من مداخله، والمنفذ، وأصلها المشارع إلى المياه
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: فُرْضَةُ القوس: موضع حَزِّها للوَتَر، والجمع فُرَضٌ، وفِرَاضٌ، مثلُ بُرْمَةٍ وبُرَمٍ، وبِرَامٍ، والْفُرْضةُ في الحائط ونحوه: كالْفُرْجة، وجمعها فُرَضٌ، وفُرْضةُ النهر: الثُّلْمَةُ التي يَنحَدر منها الماء، وتَصعَدُ منه السُّفُنُ، وفَرَضْتُ الخشبةَ فَرْضًا، من باب ضَرَبَ: حَزَزتها. انتهى
(2)
.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 594، و"شرح النووي" 5/ 130.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 468 - 469.
وقوله: (مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ، أَوْ قَالَ: قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَارًا) قال بعضهم: ذكر القبور في جميع الروايات، والبيوت في أكثرها، والبطون والأجواف في بعضها، فقد يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الجميع، فاقتصر بعض الرواة على بعضها، أو ذكر بعضها، وشكّ الراوي فيما ذَكَر، والمقصود بالدعاء عليهم بملء القبور نارًا تعذيبهم في قبورهم، وبملء البيوت نارًا احتراقهم في الدنيا، أو اشتعال الفِتَن في بيوتهم، وبملء البطون والأحشاء نارًا كثرة مصائبهم، واحتراق قلوبهم بالكوارث والبلوى في أموالهم وأبدانهم، وأولادهم، ونحو ذلك
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1427]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "شَغَلُوَنَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ نَارًا"، ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 190)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورع، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 297.
4 -
(مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ) -بالتصغير- الْهَمْدانيّ، أبو الضُّحَى الكوفيّ العطّار، ثقةٌ فاضلٌ [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.
(1)
راجع: "فتح المنعم" 3/ 334.
5 -
(شُتَيْرُ -بشين معجمة، فمثنّاة فوقيّة، مصغّرًا- ابْنُ شَكَلٍ) -بفتح المعجمة، والكاف- ابن حُميد الْعَبسيّ، أبو عيسى الكوفيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وأمه، وعليّ، وابن مسعود، وحفصة، وأم حبيبة، إن كان محفوظًا، وغيرهم.
ورَوَى عنه بلال بن يحيى، وأبو الضُّحَى، والشعبيّ، وعبد اللَّه بن قيس.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية ابن الزبير، وقال ابن سعد: توُفّي زمن مصعب، وكان ثقةً، قليل الحديث، وقال العجليّ: ثقةٌ من أصحاب عبد اللَّه، وقال أبو موسى في "ذيل الصحابة": يقال: إنه أدرك الجاهلية.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (627)، و (1107):"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبّل، وهو صائم".
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (صَلَاةِ الْعَصْرِ) بالجرّ بدلًا عن "الصلاة الوسطى"، أو عطف بيان لها، والحديث نصّ في أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا هو القول الراجح، كما سبق تحقيقه.
وقوله: (ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ)"بين" بدل من "بين" الأول.
قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا أنه صلّى العصر المتروكة بعد أن صلّى المغرب، وليس بصحيح، بدليل ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال:"فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلّى بعدها المغرب"
(1)
.
وهذا نصّ، وإنما أراد بقوله:"بين العشاءين" بين وقتي العشاءين، فإن التأخير كان منه إلى أن غربت الشمس، ثم توضّأ، ثم أوقعها بعد الغروب قبل أن يصلي المغرب.
وقد روى الترمذيّ عن أبي عُبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه: "أن
(1)
رواه البخاريّ برقم (598)، وأحمد (3/ 129)، والترمذيّ (180)، والنسائيّ 3/ 84.
المشركين شَغَلُوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء اللَّه، فأمر بلالًا، فأذّن، ثم أقام فصلّى الظهر، ثم أقام فصلّى العصر، ثم أقام فصلّى المغرب، ثم أقام فصلّى العشاء"
(1)
.
قال: وبهذه الأحاديث استدَلَّ جميع العلماء على أن من فاتته صلوات قضاها مرتَّبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد، واختلفوا إذا ذَكَر صلاةً فائتةً في ضيق وقت حاضرة، هل يبدأ بالفائتة، وإن خرج وقت الحاضرة، أو يبدأ بالحاضر، أو يتخيّر، فيقدَّم أيتها شاء؟، ثلاثة أقوال، وبالأول قال مالك، والليث، والزهريّ، وبالثاني قال الحسن، وابن المسيِّب، وفقهاء أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، والشافعيّ، وابن وهب من المالكيّة، وبالثالث قال أشهب من المالكيّة.
وهذا ما لم تكثُر الصلوات، فلا خلاف عند جميعهم على ما حكاه القاضي عياضٌ أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة، واختلفوا في مقدار اليسير، فعن مالك قال: إن الخمس فدونها من اليسير، وقيل: الأربع فدونها، ولم يختلف المذهب أن الستّ كثير. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1428]
(628) - (وَحَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ سَلّامٍ الْكُوفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْيَامِيُّ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ نَارًا، أَوْ قَالَ: حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ نَارًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ
(3)
الْكُوفِيُّ) أبو جعفر الكوفيّ، مولى بني هاشم، ثقةٌ [10](ت 230)(م) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
(1)
رواه الترمذيّ برقم (179).
(2)
"المفهم" 2/ 256 - 257.
(3)
بتشديد اللام.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْيَامِيُّ) الكوفيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [7](ت 177)(خ م د ت عس ق) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
3 -
(زُبَيْد) بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب الياميّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
4 -
(مُرَّةُ) بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ، أبو إسماعيل الكوفيّ، يقال له: مرّة الطيب، ثقةٌ عابدٌ [2](76) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 55.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو، وشيخ شيخه، فما أخرج له النسائيّ إلا في "مسند عليّ رضي الله عنه".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه جمّ المناقب، فهو من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد فقهاء الصحابة، وأقرؤهم، فقد أثنى النبيّ صلى الله عليه وسلم على قراءته، وأمر أن يقرأ بها، فقد أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر وعمر بشّراه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب أن يقرأ القرآن غَضًّا، كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".
وأخرج أحمد أيضًا بإسناد حسن عن عبد اللَّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه بين أبي بكر وعمر، وعبد اللَّه يصلي، فافتتح النساء، فسَحَلَها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أحبّ أن يقرأ القرآن غَضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، ثم تقدّم يسأل، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"سَلْ تعطه، سل تعطه، سل تعطه"، فقال فيما سأل:"اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتدّ، ونعيمًا لا يَنْفَد، ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد"، قال: فأتى عمر رضي الله عنه عبد اللَّه ليبشّره، فوجد أبا بكر رضي الله عنه قد سبقه، فقال: إن فعلتَ لقد كنت سَبّاقًا بالخير
(1)
.
(1)
حديث حسنٌ، أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (4243).
وفي رواية: عن ابن مسعود قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد، وهو بين أبي بكر وعمر، وإذا ابن مسعود يصلي، وإذا هو يقرأ "النساء"، فانتهى إلى رأس المائة، فجعل ابن مسعود يدعو، وهو قائم يصلي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اسأل تعطه، اسأل تعطه"، ثم قال:"مَن سَرّه أن يقرأ القرآن غَضًّا كما أُنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد"، فلما أصبح غدا إليه أبو بكر رضي الله عنه ليبشّره، وقال له: ما سألت اللَّه البارحة؟ قال: قلت: "اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتدّ، ونعيمًا لا ينفد، ومرافقة محمد في أعلى جنة الخلد"، ثم جاء عمر رضي الله عنه، فقيل له: إن أبا بكر قد سبقك، قال: يرحم اللَّه أبا بكر، ما سبقته إلى خير قط، إلا سبقني إليه
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: حَبَسَ) من باب ضرب، أي منع (الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ) أي عن أدائها في وقتها (حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ) ظاهر أن وقتها لم يخرج، وهو مخالف لما سبق من الأحاديث الصريحة بأن الشمس غربت، ويمكن أن يُجمع بحمل هذا على بعض الأيام؛ لأن الخندف كان أيامًا، واللَّه تعالى أعلم (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى) أي منعونا عن أدائها في وقتها المستحبّ، وقوله: (صَلَاةِ الْعَصْرِ) بالجرّ بدل، أو عطف بيان لـ "الصلاة الوسطى"، كما سبق بيانه (مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ) بفتح الهمزة: جمع جوف، وهو بمعنى الرواية الأخرى: "بطونهم" (وَقُبُورَهُمْ نَارًا، أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: حَشَا) هو بمعنى "ملأ"، يقال: حشوت الوسادة وغيرها بالقطن أحشوه حَشْوًا، من باب نصر: إذا ملأته (اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ، وَقُبُورَهُمْ نَارًا") قال الحافظ رحمه الله: قد استُشكل هذا الحديث بأنه تضمّن دعاء صدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم على من يستحقّه، وهو من مات منهم مشركًا، ولم يقع أحد الشقّين، وهو البيوت، أما القبور فوقع في حقّ من مات منهم مشركًا لا محالة.
ويُجاب بأن يُحمل على سكّانها، وبه يتبيّن رجحان الرواية بلفظ:"قلوبهم، أو أجوافهم" أي بدل بيوتهم. انتهى.
(1)
أخرجه أحمد برقم (4328).
وفي هذا الحديث بيان أن الصلاة التي فاتت كانت العصر، وظاهره أنه لم يفُت غيرها، وفي "الموطّأ" أنها الظهر والعصر، وفي غيره أنه أخّر أربع صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء حتى ذهب هويّ من الليل.
وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أيّامًا، فكان هذا في بعض تلك الأيام
(1)
، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1428](628)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(181)، و"التفسير"(2985)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(686)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(366)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 392 و 403 و 404 و 456)، و (الحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 174)، و (الطبري) في "تفسيره"(5420 و 5421 و 5430)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1746)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1049)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1403)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 461)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1429]
(629) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، مَوْلَى عَائِشَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ، فَآذِنِّي:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا
(2)
آذَنْتُهَا، فَأَمْلَتْ
(1)
راجع: "المرعاة" 2/ 340.
(2)
وفي نسخة: "قال: فلمّا بلغتها".
عَلَيَّ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى -وَصَلَاةِ الْعَصْرِ- وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَالِك) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ، مولى عمر بن الخطاب، أبو عبد اللَّه، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، كان يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(الْقَعْقَاعُ بْنُ حَكِيم) الكِنَانيّ المدنيّ، ثقةٌ [4](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 25/ 204.
5 -
(أَبُو يُونُسَ) مولى عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثقةٌ [3].
روى عن عائشة رضي الله عنها، وعنه زيد بن أسلم، وأبو طُوالة الأنصاريّ، والقعقاع بن حكيم، ومحمد بن أبي عَتِيق.
ذكره مسلم في الطبقة الأولى من المدنيين، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وذكره ابن حبّان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب والسنن حديثان فقط، هذا برقم (629)، وحديث (1110):"إني لأرجو أن أكون أخشاكم للَّه. . . "، وأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد" حديثًا آخر.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير القعقاع؛ فأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبي يونس؛ فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح"، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين رَوَى بعضهم عن بعض: زيد بن أسلم، عن القَعْقَاع، عن أبي يونس.
5 -
(ومنها): أن أبا يونس، هذا الباب أول محلّ ذكره من الكتاب، وهو من المُقِلِّين، فليس له عند المصنّف، وأصحاب السنن إلا حديثان فقط، كما أسلفته آنفًا.
6 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي يُونُسَ) لا يُعرف اسمه (مَوْلَى عَائِشَةَ) بنت الصدّيق رضي الله عنها (أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا) قال في "القاموس": المصحف -مثلثة الميم، من أُصْحِفَ بالضم- أي جُعِلَت فيه الصُّحُفُ. انتهى
(1)
.
وذكر في "المصباح": أنه بضم الميم أشهر من كسرها. انتهى
(2)
.
وقال في (اللسان: والمُصْحَف -أي بالضم- والمِصْحَفُ -أي بالكسر-: الجامع للصُّحُفِ المكتوبة بين الدَّفَّتَيْنِ، كأنه أصْحِفَ، وكذا يقال: مُطْرَفٌ ومِطْرَفٌ، من أُطرف، إذا جُعِل في طرفيه الْعَلَمان، استُثقلت الضمّة، فكسرت الميم، فأصلها الضمّ، فمن ضمّ جاء به على أصله، ومن كسر فلاستثقال الضمّة. انتهى باختصار
(3)
.
(وَقَالَتْ: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الْآيَةَ) الآتي ذكرها (فَآذِنِّي) بالمدّ، وتشديد النون بإدغام نون الكلمة في نون الوقاية، من الإيذان، وهو الإعلام، أي أعلمني ببلوغك إيّاها، وإنما أمرته بذلك لتُمِليَ عليه ما ظنّته من الآية، ثم ذكرت الآية المشار إليها بقولها:({حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}) أَمَر اللَّه تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات بأدائها في أوقاتها، وحفظ حدودها وآدابها، وقال القرطبيّ رحمه الله: هو خطاب لجميع الأمة، والآية أَمْرٌ بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها، والمحافظة هي المداومة على الشيءِ، والمواظبة عليه.
({وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}) بالجرّ عطفًا على {الصَّلَوَاتِ} ، أي وحافظوا على أداء الصلاة الوُسْطَى، وقرأ أبو جعفر الواسطيّ:"والصلاةَ الوُسْطَى" بالنصب
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 161.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 334.
(3)
راجع: "لسان العرب" 9/ 186.
على الإغراء، أي الزموا الصلاة الوُسْطى، وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالون عن نافع:"الوُصْطَى" بالصاد لمجاورة الطاء لها؛ لأنهما من حَيِّز واحد، وهما لغتان كالصراط ونحوه. انتهى.
قال أبو يونس (فَلَمَّا بَلَغْتُهَا) أي الآية المذكورة (آذَنْتُهَا) أي أعلمتها ببلوغي إياها (فَأَمْلَتْ عَلَىَّ) من الإملاء، ولأبي داود:"فأملّت" بتشديد اللام، أي ألقت عليّ لأكتب، وهما لغتان فصيحتان.
قال الفَيُّوميُّ رحمه الله: وأَمْلَلْتُ الكتابَ على الكاتب إملالًا: ألقيته عليه، وأمْلَيْتُ عليه إملاء، والأولى لغة الحجاز، وبني أسد، والثانية لغة بني تميم، وقيس، وجاء بهما الكتاب العزيز {فَلْيُمْلِلْ} [البقرة: 282] الذي عليه الحق، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. انتهى
(1)
.
({حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} -صَلَاةِ الْعَصْرِ) هكذا الرواية بواو العطف، واستَدَلّ به بعضهم على أن صلاة العصر ليست هي صلاة الوسطى؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وَرُدَّ عليه بأن العطف للتفسير، بدليل الأحاديث الصحيحة المرفوعة، كحديث عليّ رضي الله عنه الماضي.
وقال النوويّ رحمه الله: واستَدَلّ به بعض أصحابنا على أن الوُسْطَى ليست العصر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، لكن مذهبنا أن القراءة الشاذّة لا يُحْتَجُّ بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع، وإذا لم يثبت قرآنًا لا يثبت خبرًا، والمسألة مقررة في الأصول، وفيها خلاف بيننا وبين أبي حنيفة رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أرجح الأقوال في هذه المسألة قول من قال: إن ما قُرئ في الشواذّ يكون حجةً، كسائر أخبار الآحاد، كما أوضحت ذلك في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:
وَكُلُّ مَا تَوَاتَرًا لَمْ يَنَلِ
…
عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ شَاذًا
(2)
يَنْجَلِي
وَاتَّفَقُوا أَنْ لَيْسَ قُرْآنًا تُلِي
…
وَاخْتَلَفُوا هَلْ مِثْلُهُ فِي الْعَمَلِ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 580.
(2)
بتخفيف الذال؛ للوزن.
وَكَوْنُهُ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
…
وَجُوبِ الاحْتِجَاجِ رَاجِحًا يَفِي
وإن أردت مزيد إيضاح فراجع شرحها "المنحة الرضيّة" تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقال السنديّ رحمه الله: والظاهر أن هذا كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله تفسيرًا للآية، فَزَعَمَت عائشة أنه جزء من الآية، أو كان جزءًا فنُسِخ، وزعمت عائشة بقاءه، واللَّه أعلم. انتهى.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "المحلَّى":
[فإن قيل]: فكيف تصنعون أنتم في هذه الروايات التي أُوردت عن حفصة، وعائشة، وأم سلمة، وأُبَيّ، وابن عباس التي فيها "وصلاة العصر" -أي بواو- والتي فيها "صلاة العصر" عنهم بلا واو حاشا حفصة؟، وكيف تقولون في القراءة بهذه الزيادة، وهي لا تحلّ القراءة بها اليوم؟.
[فجوابنا]: -وباللَّه تعالى التوفيق- أن الذي يظن من اختلاف الرواية في ذلك، فليس اختلافًا، بل المعنى في ذلك مع الواو ومع إسقاطها سواءٌ، وهو أنها تعطف الصفة على الصفة، لا يجوز غير ذلك، كما قال اللَّه تعالى:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وكما تقول: أَكْرِم إخوانك، وأبا زيد الكريم والحسيب، أخا محمد، فأبو زيد هو الحسيب، وهو أخو محمد.
فقوله: "وصلاة العصر" بيان للصلاة الوسطى، فهي الوسطى، وهي صلاة العصر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر"، فلا يَحْتَمِل تأويلًا أصلًا، فوجب بذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم:"والصلاة الوسطى، وصلاة العصر" على أنها عطف صفة على صفة، ولا بُدَّ.
ويُبَيِّن أيضًا صحة هذا التأويل عنهم ما قد أوردناه عنهم أنفسهم، من قولهم:"والصلاة الوسطى، صلاة العصر".
وصحت الرواية عن عائشة بأنها العصر، وهي التي رَوَت نزول الآية، وفيها:"وصلاة العصر"، فصح أنها عَرَفَت أنها صفة لصلاة العصر، وهي سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يتلوها كذلك، وبهذا ارتفع الاضطراب عنهم، وتتفق أقوالهم، ويصح كلُّ ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وينتفي عنه الاختلاف،
وحاشا للَّه أن يأتي اضطراب عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
({وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}) أي خاشعين ذليلين، مستكينين بين يديه، قاله ابن كثير رحمه الله
(2)
، وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلِف في معنى {قَانِتِينَ} على أقوال:
[الأول]: أن معناه ساكتين، وبه قال السُّدّيّ.
[الثاني]: طائعين، وبه قال الشعبيّ، وجابرُ بنُ زيد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقال الضحاك: كل قنوت في القرآن، فإنما يُعْنَى به الطاعة.
[الثالث]: خاشعين، وبه قال مجاهد، قال: والقنوت طول الركوع، والخشوع، وغَضّ البصر، وخفض الجَنَاح.
[الرابع]: القنوت طول القيام، وبه قال ابن عمر، وقرأ:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} ، وأخرج مسلم في "صحيحه":"أفضلُ الصلاةِ طولُ القنوت"، وقال الشاعر [من الرَّمَل]:
قَانِتًا للَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ
…
وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَالْ
[الخامس]: معناه داعين، لما في "الصحيحين" من حديث أنس رضي الله عنه:"قَنَتَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا. . . " الحديث. أي دعا، وقال قوم: معناه طَوَّلَ قيامه.
قال الجامع: أرجح هذه الأقوال عندي أولها؛ لما في "الصحيحين" من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: "كنا نتكلم في الصلاة يُكَلِّمُ الرجلُ منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فأمرنا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام".
فهذا نصّ واضحٌ في كون معنى القنوت في الآية هو السكوتَ، فتبصر، واللَّه أعلم.
وقيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء جاز أن يُسَمَّى مديمُ الطاعة قانتًا، وكذلك من أطَالَ القيامَ، والقراءةَ والدعاءَ في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت كل هؤلاء فاعلون للقنوت
(3)
.
(1)
"المحلَّى" 4/ 257 - 258.
(2)
"تفسير ابن كثير" 1/ 411.
(3)
انظر تفاصيل الأقوال في: "تفسير القرطبيّ" 3/ 213 - 214.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (سَمِعْتُهَا) أي الآية على هذه القراءة (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا الكلامُ من عائشة رضي الله عنها يَحْتَمِل وجهين:
[أحدهما]: أن تكون هذه اللفظة الزائدة من القرآن، ثم نُسِخَت كما أخرجه مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما الآتي بهذا، فلعل عائشة رضي الله عنها لم تعلم بنسخها، فأرادت إثباتها في المصحف، أو اعتقدت أنها مما نُسِخَ حكمها، وبَقِيَ تلاوتها، فأرادت إثباتها.
[الثاني]: أن تكون عائشة سمعت اللفظة من النبيّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا على أنها من القرآن لتأكيد فضيلة العصر مع الصلاة الوسطى، كما ثبت في حديث جرير بن عبد اللَّه البَجَلِيّ رضي الله عنه قال: كنَّا جلوسًا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ نَظَرَ إلى القمر ليلةَ البدر، فقال:"أمَا إنكم سَتَرَوْنَ ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تُضَامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها -يعني العصرَ والفجرَ- ثم قرأ جرير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} "[ق: 39]. أخرجه الجماعة، فأكَّد فضيلتها، فأرادت عائشة أن تثبتها في المصحف؛ لما ظنت أنها من القرآن، أو لأنها اعتقدت جواز إثبات غير القرآن مع القرآن، كما رُوِيَ عن أُبَيِّ بن كعب، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أنهم جَوَّزُوا إثبات القنوت، وبعض التفسير في المصحف، وإن لم يعتقدوه قرآنًا، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعانُ، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1429](629)، و (أبو داود) في "الصلاة"(410)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2982)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(472)، وفي "الكبرى"(366)، وفي "الكبرى" أيضًا في "التفسير"(11046)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 138)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 199)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1539)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1404)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب المحافظة على صلاة العصر؛ لأنها الصلاة الوسطى، وأن العطف فيه للتفسير، كما مرّ تحقيقه.
2 -
(ومنها): كون الصحابة رضي الله عنهم يعتنون بكتابة المصحف.
3 -
(ومنها): أن من عرف شيئًا خفي على غيره ينبغي له التنبيه عليه.
4 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به من قال إن الوسطى غير العصر؛ لأن العطف للمغايرة، وقد عرفت الردّ عليه، فتنبّه، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[1430]
(630) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ، فَنَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ شَقِيقٍ لَهُ: هِيَ
(1)
إِذَنْ صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ، وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكريّا الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(الْفُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ) الأغرّ -بالغين المعجمة، والراء- الرَّقَاشيّ، ويقال: الرُّؤَاسيّ، مولى بني عَنَزَة، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالتشيّع [7].
رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، وعديّ بن ثابت، وعطية الْعَوْفيّ، والأعمش، وميسرة بن حبيب، وشقيق بن عقبة، وغيرهم.
ورَوَى عنه زهير بن معاوية، ووكيع، وعبد الغفار بن الحكم، وحسين بن
(1)
وفي نسخة: "فهي".
عليّ الْجُعْفيّ، وأبو أسامة، والفضل بن مُوفَّق، ويحيى بن آدم، ويحيى بن أبي بكير، وغيرهم.
قال معاذ بن معاذ: سألت الثوريّ عنه؟ فقال: ثقةٌ، وقال الحسن بن عليّ الحلوانيّ: سمعت الشافعيّ يقول: سمعت ابن عيينة يقول: فضيل بن مرزوق ثقةٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: صالح الحديث، إلا أنه شديد التشيع، وقال أحمد: لا أعلم إلا خيرًا، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: صالح الحديث، صدوقٌ، يَهِمُ كثيرًا، يُكتب حديثه، قلت: يُحتَجُّ به؟ قال: لا، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وقال الحسين بن الحسن المروزيّ: سمعت الهيثم بن جَمِيل يقول: جاء فضيل بن مرزوق، وكان من أئمة الهدى زهدًا وفضلًا إلى الحسن بن صالح بن حيّ، فذكر قصة، وقال مسعود، عن الحاكم: ليس هو من شرط الصحيح، وقد عيب على مسلم إخراجه لحديثه، قال ابن حبان في "الثقات": يخطئ، وقال في "الضعفاء": كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات، وقال ابن شاهين في "الثقات": اختَلَفَ قول ابن معين فيه، وقال في "الضعفاء": قال أحمد بن صالح: حديث فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد، حديث:"اللَّه الذي خلقكم من ضعف. . . " ليس له عندي أصل، ولا هو بصحيح، وقال ابن رشدين
(1)
: لا أدري من أراد أحمد بن صالح بالتضعيف، أعطية، أم فضيل بن مرزوق؟ وقال العجليّ: جائز الحديث صدوقٌ، وكان فيه تشيع، وقال أحمد: لا يكاد يُحَدِّث عن غير عطية.
أخرج له البخاريّ في "جزء رفع اليدين"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (630)، وحديث (1015):"إن اللَّه طيّبٌ، لا يقبل إلا طيّبًا. . . "، وله عند النسائيّ حديثُ عبد اللَّه بن عمر:"إياكم والشُّحّ".
4 -
(شَقِيقُ بْنُ عُقْبَةَ) الْعَبْديّ الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن البراء، وقُرّة بن الحارث، وعنه الأسود بن قيس، وفضيل بن مرزوق، ومِسْعَرٌ.
(1)
هكذا نسخة "التهذيب": "ابن رشدين"، ولعله "ابن شاهين"، فليُحرّر.
قال أبو داود: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف هذا الحديث فقط، وأخرج له أبو داود في "الناسخ والمنسوخ".
[تنبيه]: ذكر في "التهذيب": أن لشقيق بن عُقبة في "صحيح مسلم" حديثًا واحدًا في الصلاة الوسطى، قال: وهو مُعَلَّق، قال مسلم: رَوَى الأشجعيّ، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن شقيق بن عقبة، عن البراء، وقد سمعناه متصلًا في الخامس من حديث المزكي. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا من أغرب الغرائب، فإن مسلمًا رواه أوّلًا متّصلًا، ثم قال: ورواه الأشجعيّ، فكيف ترك المتّصل الذي أورده مسلم أوّلًا، وذكر المعلّق الذي أورده بعده متابعةً، ثم ذكر أنه سمعه متّصلًا في الخامس من حديث المزكي؟ وهذا الجزء غريب، والحديث أخرجه أبو عوانة، وأبو نعيم في "مستخرجيهما" على "صحيح مسلم" متّصلًا من طريق الأشجعيّ، كما سأذكره قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- فكان العزو إليهما أحقّ من العزو إلى هذا الجزء الغريب، فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
5 -
(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِب) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
شرح الحديث:
(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) وقوله: ({حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}) بدل من اسم الإشارة محكيّ؛ لقصد لفظه (وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) بالجرّ عطفًا على "الصلوات"، من عطف الخاصّ على العامّ؛ تشريفًا وتكريمًا، كقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية، وقوله:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ، وقوله:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} الآية (فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ) ولفظ "ما" مصدريّة ظرفيّة، أي مدّة مشيئة اللَّه تعالى، وفي رواية أبي عوانة في "مسنده": فقرأناها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 179.
ما شاء اللَّه أن نقرأها" (ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ) عز وجل، أي رفع حكم كونها قرآنًا (فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}) فقوله: {حَافِظُوا}. . . إلخ مرفوع على الفاعليّة بـ "نزلت"، محكيّ؛ لقصد لفظه (فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ شَقِيقٍ) أي ابن عقبة، وهذا الرجل اسمه زاهر، سمّاه أبو عوانة في "مسنده"، ولفظه: "فقال زاهر، وكان مع شقيق: أفهي صلاة العصر؟ "، وكذا هو عند أبي نعيم في "مستخرجه"، ولفظه: "فقال له زاهر، رجلٌ كان مع شقيق: أفهي العصر؟ "، وقيل: اسمه أزهر، سمّاه به الإمام أحمد في "مسنده"، ولفظه: "فقال له رجل، كان مع شقيق، يقال له: أزهر"، وقوله: (لَهُ) متعلّق بـ "قال"، أي قال للبراء رضي الله عنه (هِيَ إِذَنْ صَلَاةُ الْعَصْرِ؟) أي إذا كان الأمر كما ذكرت من أن الآية نزلت أوّلًا بلفظ: "حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاة العصر"، ثم نُسِخت إلى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، فتكون الصلاة الوسطى هي العصر؛ لأنها نزلت بدلها، وظاهر هذا أن نسخها إنما هو في اللفظ، لا في المعنى، فهي مما نسخ لفظه، وبقي حكمه، كآية الرجم، أفاده ابن حزم رحمه الله
(1)
.
(فَقَالَ الْبَرَاءُ) لأنَّه (قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ، وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ) قال القرطبيّ رحمه الله: قول البراء للسائل: "قد أخبرتك. . . إلخ" يظهر منه تردّد، لكن فيما ذا؟ هل نُسخ تعيينها، وبقيت هي الوسطى، أو نُسخ كونها وُسطى؟ في هذا تردّدٌ -واللَّه تعالى أعلم- وإلا فقد أخبر بوقوع النسخ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الترديد الذي ذكره القرطبيّ إنما هو مبنيّ على نسخته، فإن نصّ نسخته هكذا:"نزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء اللَّه، ثم نسخها اللَّه، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}. . . إلخ"، فقد ذكر فيها:"والصلاة الوسطى" في الآية الأولى كالثانية، والظاهر أن النسخة غلطٌ، فإن جميع نسخ "صحيح مسلم" التي بين أيدينا، سوى نسخته نصّها:"عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء اللَّه، ثم نسخها، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}. . . إلخ".
(1)
راجع: "المحلّى" 4/ 258.
(2)
"المفهم" 2/ 259.
وهكذا وقع عند كل من أخرج الحديث، فقد أخرجه أبو عوانة، وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، والإمام أحمد في "مسنده"، ونصّ أبي عوانة رحمه الله (1/ 295):
(1040)
حدّثنا الصائغ بمكة، والصغاني قالا: ثنا يحيى بن أبي بكير (ح) وحدّثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم (ح) وحدّثنا ابن ثور القيسرانيّ، قال: ثنا الفريابيّ، قالوا: ثنا فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عُقبة، عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر"، فقرأناها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما شاء اللَّه أن نقرأها، ثم نسخها اللَّه صلى الله عليه وسلم:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} قال الصائغ، عن يحيى بن أبي بكير: قال: فقال زاهر، وكان زاهر، مع شقيق: أفهي صلاة العصر؟ فقال: قد حَدَّثتك كيف نزلت، وكيف نسخها اللَّه، واللَّه أعلم. انتهى.
ونصّ أبي نعيم رحمه الله (2/ 235):
(1407)
حدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا عبد اللَّه بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا يحيى بن آدم (ح) وحدّثنا أبو محمد بن حيّان، ثنا أبو يحيى الرازيّ، ثنا سهل بن عثمان، ثنا ابن فضيل، قالا: ثنا فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عُقبة، عن البراء بن عازب، قال: نزلت: "حافظوا على الصلوات والصلاة العصر"، فقرأناها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما شاء اللَّه، ثم نسخها اللَّه، فأنزل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، فقال له زاهرٌ، رجلٌ كان مع شقيق: أفهي العصر؟ قال: حدّثتك كيف نزلت، وكيف نسخها، واللَّه أعلم. انتهى.
ونصّ الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(30/ 613 - 614):
(18198)
حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثنا فُضيل -يعني ابن مرزوق- عن شقيق بن عُقبة، عن البراء بن عازب، قال: نزلت: "حافظوا على الصلوات، وصلاة العصر"، فقرأناها على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما شاء اللَّه أن نقرأها، لم ينسخها اللَّه
(1)
، فأنزل:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فقال له رجل كان مع شقيق يقال له أزهر: وهي صلاة العصر؟ قال: قد أخبرتك، كيف
(1)
هكذا نسخ "المسند": "لم ينسخها اللَّه"، وهو في المصادر المتقدّمة:"ثم نسخها اللَّه"، والظاهر أن ما وقع في "المسند" مصحّف، ومما يؤيّد ذلك قول البراء في الآخر:"وكيف نسخها اللَّه"، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.
نزلت، وكيف نسخها اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
فتبيّن بما ذُكر أن ما وقع في نسخة القرطبيّ من زيادة قوله: "والصلاة الوسطى" قبل "وصلاة العصر" غلط، والصواب ما وقع في هذه الروايات من قوله:"نزلت حافظوا على الصلوات وصلاة العصر. . . إلخ"، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وعلى هذا فيكون عدم جزم البراء بأنها الوسطى هي صلاة العصر؛ لاحتمال أن تكون غيرها، ومما يدلّ على ذلك عدم إنكاره على السائل قوله:"هي إذن صلاة العصر".
والحاصل أن تردّد البراء رضي الله عنه لا يمنع أن نجزم بأنها صلاة العصر بالأدلّة الأخرى التي لا تردّد فيها كحديث عليّ رضي الله عنه المتقدّم وغيره، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1430](630)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 301)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(5437)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 173)، و"مشكل الآثار"(2071)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1040)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1407)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 281)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 459)، و (ابن حزم) في "المحلَّى"(4/ 258)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
(قَالَ مُسْلِم: وَرَوَاهُ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَرَأْنَاهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَمَانًا، بِمِثْلِ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ).
(1)
"المسند" 30/ 613 - 614.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: غرض المصنّف بإيراد هذا المعلَّق هنا تقوية رواية فُضيل بن مرزوق المتقدّمة، حيث إنه مختلف فيه، حتى عابه بعضهم بإخراج حديثه، كما تقدّم في ترجمته، فأراد بيان أنه لم ينفرد بروايته عن شقيق بن عُقبة، بل تابعه فيه الأسود بن قيس المتّفق على توثيقه.
[فإن قلت]: لماذا أورد المصنّف رواية الأسود بن قيس تعليقًا مع أنها أصحّ بلا خلاف، ولم يوردها أصلًا، ثم يذكر رواية فضيل متابعةً؟.
[قلت]: إنما فعل ذلك لكون رواية الأسود لم يقع له سماعها، وإنما سمع رواية فضيل، فأورد الحديث كما سمع، ثم أزال ما يُطعن فيه من تضعيف بعضهم رواية فضيل بن مرزوق بإيراد رواية الأسود، هذا ما ظهر لي، واللَّه تعالى أعلم.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْأَشْجَعِيُّ) عبيد اللَّه بن عبيد الرحمن، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ مأمون، من أثبت الناس كتابًا في الثوريّ، من كبار [9](ت 182)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
2 -
(سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ) سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ عابدٌ حجة، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ) الْعَبديّ، ويقال: البجليّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، وثعلبة بن عباد، وجندب بن عبد اللَّه البجليّ، وسعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وشقيق بن عُقبة، ونُبَيح الْعَنَزيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، والثوريّ، وشريك، والحسن بن صالح، وزهير بن معاوية، وأبو عوانة، وابن عيينة، وجماعة.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ حسن الحديث، وقال الْفَسَويّ في "تاريخه": كوفيّ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وقال شريك بن عبد اللَّه النخعيّ: أما واللَّه إن كان لصدوق الحديث، عظيم الأمانة، مُكْرِمًا للضيف.
وقال ابن البراء، عن ابن المدينيّ: رَوَى عن عشرة مجهولين لا يعرفون.
قال الحافظ: سَمَّى مسلم منهم في "الوُحْدان" أربعةً، وذكره ابن حبان في
"الثقات"، فجعله اثنين، فالذي يروي عن جندب ذكره في التابعين، والذي يروي عن نُبَيح ذكره في أتباع التابعين.
قال الحافظ: كذا قال، والظاهر أنه وَهَمٌ.
أخرج له الستّة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (630) و (1080) و (1796) و (1797) وأعاده بعده، و (1960) وكرّره ثلاث مرّات.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ) يعني أن حديث الأسود بن قيس، عن شقيق بن عُقبة مثل حديث فضيل بن مرزوق، عنه.
[تنبيه]: رواية الأشجعيّ هذه، ساقها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 295)، فقال:
(1041)
حدّثنا موسى بن سعيد الطرسوسيّ، ثنا إبراهيم بن أبي الليث، ثنا الأشجعيّ، عن سفيان -يعني الثوريّ- عن الأسود بن قيس، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب، قال: قرأنا بها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زمانا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، ولا أدري أهي هيه أم لا؟. انتهى.
وساقها أيضًا أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 230)، فقال:
(1408)
حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا أبو بكر بن معدان، ومحمد بن إبراهيم، قالا: ثنا يزيد بن الهيثم، ثنا إبراهيم بن أبي الليث، ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن شقيق بن عُقبة، عن البراء بن عازب، قال: قرأنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم زمانًا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ، فلا أدري هي هي أم لا؟.
ثم قال: رواه مسلم بلا سماع، قال: رواه الأشجعيّ، عن سفيان. انتهى.
وقد سبق كلام الحافظ رشيد الدين العطّار في مقدّمة "قرّة عين المحتاج" على هذا الحديث
(1)
، وأخرجه بسنده من طريق ابن المزكي كما مرّ عن الحافظ، وإنما عدلت هنا إلى "مسند أبي عوانة"، و"مستخرج أبي نعيم"؛ لأنهما ألصق بكتاب مسلم، ولأنهما أشهر من ابن المزكي، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "قرة عين المحتاج" 1/ 94 - 95 الطبعة الأولى، و 1/ 92 - 93 الطبعة الثانية.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغني القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيت من كتابة الجزء الثالث عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله، بعد صلاة الجمعة يوم الجمعة المبارك (27/ 12/ 1426 هـ الموافق 27 يناير - كانون الثاني 2006 م).
أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".
ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الرابع عشر مفتتحًا بـ (37) - (بَابٌ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ، أَوْ أَكْثَرُ كَيْفَ يَقْضِيهَا؟) رقم الحديث [1431](631).
"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *