المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الاثنين المبارك بعد صلاة المغرب 1/ - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ١٤

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الاثنين المبارك بعد صلاة المغرب 1/ 1/ 1427 هـ أول الجزء الرابع عشر من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه اللَّه تعالى.

(37) - (بَابٌ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ، أَوْ أَكْثَرُ كَيْفَ يَقْضِيهَا؟)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1431]

(631) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ، حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ

(2)

، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَوَاللَّهِ إِنْ صَلَّيْتُهَا"، فَنَزَلْنَا إِلَى بُطْحَانَ

(3)

، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَوَضَّأْنَا، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

(2)

وفي نسخة: "حتى كادت تغرب الشمس".

(3)

وفي نسخة: "فنزلنا بُطحان".

ص: 5

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب.

3 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَام) الدستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربما وهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

5 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

6 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

7 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد (70) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي غسّان، فانفرد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين إلى يحيى، والباقيان مدنيان.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا سلمة مشهور بكنيته، والأصحّ أنها اسمه، وهو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

5 -

(ومنها): أن فيه جابر بن عبد اللَّه صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، ومن المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما (أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (يَوْمَ الْخَنْدَقِ) ظرف متعلّق بـ "جَعَلَ"، وأراد به غزوة الخندق، وهي غزوة الأحزاب، وكانت سنة أربع من الهجرة، وقيل: سنة خمس، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى في شرح حديث عليّ رضي الله عنه المتقدّم في الباب (جَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ)"جعل" هي

ص: 6

من أفعال الشروع التي ترفع المبتدأ، وتنصب الخبر، واسمها ضمير عمر، وخبرها جملة "يَسُبّ".

وإنما سبّهم لأنهم كانوا السببَ في تأخيرهم الصلاة عن وقتها، إما المختار، كما وقع لعمر رضي الله عنه، وإما مطلقًا، كما وقع لغيره.

(وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ) لفظة "كاد" من أفعال المقاربة، فإذا قلت: كان زيد يقوم فُهم منه أنه قارب القيام، ولم يقم، والغالب فيها أن لا يقترن خبرها بـ "أن"، بخلاف "عسى"، فإن الغالب فيها أن يقترن بها، كما قال في "الخلاصة":

كَكَانَ كَادَ وَعَسَى لَكِنْ نَدَرْ

غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذيْنِ خَبَرْ

وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ عَسَى

نَزْرٌ وَكَادَ الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا

وقد وقع خبرها في رواية المصنف مقترنًا بها هنا، وفي قوله:"أن تغرب"، وكذا هو في رواية البخاريّ في "غزوة الأحزاب".

قال في "الفتح" هو من تصرّف الرواة، وهل تسوغ الرواية بالمعنى في مثل هذا، أو لا؟ الظاهر الجواز؛ لأن المقصود الإخبار عن صلاته العصر، كيف وقعت، لا الإخبار عن عمر هل تكلّم بالراجحة، أو المرجوحة؟.

وإذا تقرر أن معنى "كاد" المقاربة، فقول عمر رضي الله عنه:"ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب": معناه أنه صلى العصر قُرْب غروب الشمس؛ لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها، وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فتحصّل من ذلك لعمر ثبوت الصلاة، ولم يثبت الغروب، قاله اليعمريّ رحمه الله.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: لا يلزم من هذا السياق وقوع الصلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أن لا تقع الصلاة؛ لأنه يقتضي أن كيدودته كانت عند كيدودتها، قال: وحاصله عُرفًا: ما صليت حتى غربت الشمس. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: ولا يخفى ما بين التقريرين من الفرق، وما ادّعاه من العرف ممنوع، وكذا العندية، للفرق الذي أوضحه اليعمري من الإثبات والنفي؛ لأن "كاد" إذا أثبتت نَفَت، وإذا نَفَت أثبتت، كما قال فيها الْمَعَرِّيُّ مُلغزًا:

إِذَا نُفِيَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَثْبَتَتْ

وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ

ص: 7

هذا إلى ما في تعبيره بلفظ "كيدودة" من الثقل، واللَّه الهادي إلى الصواب.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ من ترجيح قول اليعمريّ، والردّ على الكرمانيّ بناء على القول المرجوح عند النحاة، فما قاله الكرمانيّ هو الموافق للقول الراجح عندهم، وهو أن "كاد" كسائر الأفعال، نفيها نفي، وإثباتها إثبات، ودونك عبارة السمين الحلبي في "تفسيره" عند قوله تعالى:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20].

[واعلم]: أن خبرها إذا كانت هي منفية منفيّ في المعنى؛ لأنها للمقاربة، فإذا قلت: كان زيد يفعل كان معناه قارب الفعل، إلا أنه لم يفعل، فإذا نفيت انتفى خبرها بطريق الأولى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أولى، ولهذا كان قوله تعالى:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أبلغ من أن لو قيل: لم يرها؛ لأنه لم يقارب الرؤية، فكيف له بها؟.

وزعم جماعة، منهم ابن جنّي، وأبو البقاء، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي، حتى ألغز أبو العلاء المعَرّيّ فيها، فقال:

أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ

جَرَتْ فِي لِسَانَي جُرْهُمٍ وَثَمُودِ

إِذَا نُفِيَتْ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَثْبَتَتْ

وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ

انتهى

(1)

.

فتبيّن بما ذُكر أن الصحيح في معناها أن إثباتها إثبات، ونفيها نفي، كسائر الأفعال، فعلى هذا فما قاله الكرمانيّ هو الراجح، فظاهر الحديث أن عمر رضي الله عنه لم يصل العصر، مثل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقية "الصحابة" رضي الله عنهم.

فقول الحافظ رحمه الله: فإن قيل: الظاهر أن عمر كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكيف اختصّ بأن أدرك صلاة العصر قبل غروب الشمس، بخلاف بقية الصحابة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم؟.

فالجواب أنه يَحْتَمِل أن يكون الشغل وقع بالمشركين إلى قرب غروب الشمس، وكان عمر حينئذ متوضئًا، فبادر، فأوقع الصلاة، ثم جاء إلى

(1)

"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 1/ 139 - 140.

ص: 8

النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعلمه بذلك في الحال التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها قد شرع يتهيأ للصلاة، ولهذا قام عند الإخبار هو وأصحابه إلى الوضوء.

مبنيّ على القول المرجوح أيضًا.

وقد اختُلف في سبب تأخير النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة ذلك اليوم، فقيل: كان ذلك نسيانًا، واستُبعد أن يقع ذلك من الجميع.

قال الحافظ: ويمكن أن يُستدَلّ له بما رواه أحمد من حديث أبي جمعة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوم الأحزاب، فلمّا سلّم قال:"هل علم رجل منكم أني صلّيت العصر؟ "، قالوا: لا يا رسول اللَّه، فصلى العصر، ثم صلى المغرب. انتهى.

وفي صحّة هذا الخبر نظر؛ لأنه مخالف لما في "الصحيحين" من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "واللَّه ما صليتها"، ويمكن الجمع بينهما بتكلّف.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أسخف هذا الجمع! كيف يتكلّف للجمع بين ما هو في "الصحيحين" من قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فواللَّه إن صلّيتها" يعني العصر، وبين ما لا يصحّ مما أورد من "مسند أحمد" من سؤاله هل صلاها أم لا؟ هذا شيء عجيب!!!.

وقيل: كان عمدًا، لكونهم شغلوه، فلم يمكّنوه من ذلك، وهو أقرب، لا سيما، وقد وقع عند أحمد، والنسائي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أن ذلك كان قبل أن يُنزل اللَّه في صلاة الخوف:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].

وقد اختُلف في هذا الحكم، هل نُسخ أو لا؟، كما سيأتي في "كتاب صلاة الخوف"، إن شاء اللَّه تعالى. انتهى

(1)

.

(حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ) وفي نسخة: "حتى كادت تغرب الشمس"(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَوَاللَّهِ إِنْ صَلَّيْتُهَا")"إن" نافية، أي لم أصلّها، قال النوويّ رحمه الله: وإنما حَلَف النبيّ صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلب عمر رضي الله عنه، فإنه شَقّ عليه تأخير العصر إلى قريب من المغرب، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يصلّها بعدُ؛ ليكون لعمر به أسوة، ولا يشق عليه ما جرى، وتَطِيب نفسُهُ، وأكد ذلك الخبر

(1)

"الفتح" 2/ 266 - 267.

ص: 9

باليمين، وفيه دليل على جواز اليمين من غير استحلاف، وهي مستحبة إذا كان فيه مصلحة، من توكيد الأمر، أو زيادة طمأنينة، أو نفي توهم نسيان، أو غير ذلك، من المقاصد السائغة، وقدأكثرت في الأحاديث، وهكذا القسم من اللَّه تعالى، كقوله تعالى:{وَالذَّارِيَاتِ} ، {وَالْمُرْسَلَاتِ} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ، {وَالتِّينِ} ، {وَالْعَادِيَاتِ} ، {وَالْعَصْرِ (1)} ، ونظائرها كل ذلك لتفخيم المقسَم عليه وتوكيده، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(فَنَزَلْنَا إِلَى بُطْحَانَ) وفي نسخة: "فنزلنا بُطحان"، قال النوويّ رحمه الله: هو بضم الباء الموحّدة، وإسكان الطاء، وبالحاء المهملتين، هكذا هو عند المحدّثين في رواياتهم، وفي ضبطهم وتقييدهم، وقال أهل اللغة: هو بفتح الباء، وكسر الطاء، ولم يُجيزوا غير هذا، وكذا نقله صاحب "البارع" أبو عُبيد البكريّ، وهو وَادٍ بالمدينة. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "فواللَّه إن صفيتها" يُقَوِّي قول من قال: إنه كان ناسيًا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الاستنباط محلّ نظرٌ، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.

(فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَوَضَّأْنَا) يعني الصحابة رضي الله عنهم (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ) أي صلاها بهم جماعةً، كما وقع التصريح بذلك في رواية الإسماعيليّ من طريق يزيد بن زُريع، عن هشام، بلفظ:"فصلَّى بنا العصر".

وهذا يقتضي أن الذي فاتهم من الصلاة العصرُ.

لكن وقع في "الموطأ" من طريق أخرى أن الذي فاتهم الظهر والعصر، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه الظهر والعصر، والمغرب، وأنهم صلَّوا بعد هُويّ من الليل، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أن المشركين شغلوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء اللَّه"، وفي قوله:"أربع" تجوّز؛ لأن العشاء لم تكن فاتت.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 131 - 132.

(2)

"المفهم" 2/ 259.

ص: 10

قال اليعمريّ رحمه الله: من الناس مَن رجّح ما في "الصحيحين"، وصرّح بذلك ابن العربيّ رحمه الله، فقال: إن الصحيح أن الصلاة التي شُغل عنها واحدة، وهي العصر.

قال الحافظ رحمه الله: ويؤيِّده حديث عليّ في مسلم: "شغلونا عن الصلاة الوُسطَى صلاة العصر".

ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعته أيامًا، فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام، قال اليعمري: وهذا أولى.

قال الحافظ: ويقرّبه أن روايتي أبي سعيد، وابن مسعود رضي الله عنهما ليس فيهما تعرّض لقصّة عمر رضي الله عنه، بل فيهما أن قضاءه للصلاة وقع بعد خروج وقت المغرب، وأما رواية حديث الباب، ففيها أن ذلك كان عقب غروب الشمس.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما رجحه اليعمريّ رحمه الله هو الأرجح عندي.

وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم شُغِل في أيام عن صلوات مختلفة، ففي يوم عن صلاة العصر فقط، وفي يوم عن العصر والمغرب، وفي يوم عن أربع صلوات، فبهذا تجتمع الأحاديث المختلفة في الباب، والجمع مهما أمكن أولى من إهمال بعض الروايات الصحيحة، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ صَلّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا ظاهره أنه صلاهما في جماعة، فيكون فيه دليل لجواز صلاة الفريضة الفائتة جماعةً، وبه قال العلماء كافّةً إلا ما حكاه القاضي عياض عن الليث بن سعد أنه منع ذلك، وهذا إن صحّ عن الليث مردود بهذا الحديث، والأحاديث الصحيحة الصريحة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بأصحابه جماعةً حين ناموا عنها، كما ذكره مسلم بعد هذا بقليل.

وفي هذا الحديث دليل على أن من فاتته صلاةٌ، وذكرها في وقتِ أُخرى ينبغي له أن يبدأ بقضاء الفائتة، ثم يصلي الحاضرة، وهذا مجمع عليه، لكنه عند الشافعيّ وطائفة على الاستحباب، فلو صلى الحاضرة ثم الفائتة جاز، وعند مالك، وأبي حنيفة، وآخرين على الإيجاب، فلو قَدَّم الحاضرة لم يصح.

وقد يَحْتجّ به من يقول: إن وقت المغرب متسعٌ إلى غروب الشفق؛ لأنه

ص: 11

قَدَّم العصر عليها، ولو كان ضيقًا لبدأ بالمغرب لئلا يفوت وقتها أيضًا، ولكن لا دلالة فيه لهذا القائل؛ لأن هذا كان بعد غروب الشمس بزمن بحيث خرج وقت المغرب عند من يقول: إنه ضيقٌ فلا يكون في هذا الحديث دلالة لهذا، وإن كان المختار أن وقت المغرب يمتد إلى غروب الشفق كما سبق إيضاحه بدلائله، والجواب عن معارضها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 1431](631)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(596 و 598)، و"الأذان"(641)، و"الخوف"(945)، و"المغازي"(4112)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(180)، و (النسائيّ) في "السهو"(1366)، وفي "الكبرى"(1289)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(995)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2889)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1051 و 1052 و 1053)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1405 و 1406)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(396)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعية قضاء الفوائت في الجماعة؛ لما تقدّم من رواية الإسماعيلي، وبه قال أكثر أهل العلم، إلا الليث، مع أنه أجاز صلاة الجمعة جماعة، إذا فاتت.

2 -

(ومنها): جواز اليمين من غير استحلاف، إذا اقتضت مصلحة ذلك، من زيادة طمأنينة، أو نفي توهّم.

3 -

(ومنها): أنه إذا سئل الإنسان، هل صلّيتَ؟ جاز أن يقول: ما

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 132 - 133.

ص: 12

صلّيتُ، وعليه بوّب النسائيّ رحمه الله، فقال:"باب إذا قيل للرجل: هل صلّيتَ؟ هل يقول: لا"، ثم أورد الحديث احتجاجًا على الجواز.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه، وتألفهم، وما ينبغي الاقتداء به في ذلك.

5 -

(ومنها): أن فيه مشروعية الترتيب بين الفائتة والوقتية، وكذلك بين الفوائت، والأكثرون على وجوبه مع الذكر، لا مع النسيان، وقال الشافعيّ رحمه الله: لا يجب الترتيب فيها، وسيأتي بيان الخلاف في ذلك في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

6 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به من قال: لا يُشرع الأذان للفائتة، وأجاب من قال به بأن المغرب كانت حاضرةً، ولم يَذْكُر الراوي الأذان لها، وقد عُرف منا عادته صلى الله عليه وسلم الأذان للحاضرة، فدلّ على أن الراوي ترك ذكر ذلك، لا أنه لم يقع في نفس الأمر.

وتُعُقّب باحتمال أن تكون المغرب لم يتهيأ إيقاعها إلا بعد خروج وقتها على رأي من يذهب إلى القول بتضييقه، وعكس ذلك بعضهم، فاستدلّ بالحديث على أن وقت المغرب متسع؛ لأنه قدّم العصر عليها، فلو كان ضيقًا لبدأ بالمغرب، ولا سيما على قول الشافعي في قوله بتقديم الحاضرة، وهو الذي قال بأن وقت المغرب ضيّق، فيحتاج إلى الجواب عن هذا الحديث.

وهذا في حديث جابر رضي الله عنه، وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فلا يتأتى فيه هذا؛ لما تقدّم أن فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد مضيّ هُويّ من الليل، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الترتيب بين الفوائت المقضيّة والمؤداة:

ذهب الأئمة: أبو حنيفة، ومالك، والليث، والزهريّ، والنخعيّ، وربيعة إلى القول بوجوب تقديم الفائتة، على خلاف بينهم.

وذهب الشافعي إلى أنه لا يجب.

(1)

"الفتح" 2/ 268.

ص: 13

واستدل الأولون بحديث الباب، وغيره، قال الشوكانيّ رحمه الله: ولا ينتهض الاستدلال به؛ لأن الفعل بمجرده لا يدلّ على الوجوب، قال الحافظ رحمه الله: إلا أن يُسْتدلّ بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فيَقْوَى، قال: وقد اعتَبَر ذلك الشافعية في أشياء غير هذا. انتهى.

قال الشوكانيّ: وقد استُدِلَّ للموجبين أيضًا بأن توقيت المقضيّة بوقت الذكر أضيق من توقيت المؤدّاة، فيجب تقديم ما تضيق.

ومثله الترتيب بين الفوائت نفسها، فقال بوجوبه أبو حنيفة وطائفة، وقال الشافعي، وطائفة: إنه غير واجب، قال الشوكانيّ رحمه الله: وهو الظاهر؛ لأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، إلا أن يُستَدَلّ بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رَأَيْتُموني أصلي"، ولكنه غير خالص عن شوب اعتراض، ومعارضة. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يترجح عندي هو القول بوجوب الترتيب، سواء كان بين الوقتية والفائتة، أو بين الفوائت نفسها؛ لأمور:

(الأول): فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يُنقَل عنه غير الترتيب.

(الثاني): قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي".

(الثالث): أنها وجبت في الأصل مرتبة، ولم يوجد دليل يعارض هذا الأصل، فلزم القول به.

والحاصل أن مجموع هذه الأمور يفيد وجوب الترتيب، وأما القائلون بعدمه، فليس عندهم دليل قويّ يعارض ما ذكرنا، فتبصر، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء فيمن ذكر صلاةً فائتةً، وهو في أخرى:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في الرجل يكون في الصلاة، فيذكر أن عليه صلاة قبلها، فقالت طائفة: تفسد عليه صلاته التي هو فيها، فعليه أن يصلي التي ذكرها، ثم التي كان فيها، هذا قول النخعيّ،

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 91 - 92.

ص: 14

والزهريّ، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وقال الأوزاعي: إذا دخل مع الإمام في العصر، فذكر الظهر، يجعل صلاته معه سبحة، ثم يصلي الظهر، ثم يصلي العصر.

وقالت طائفة: يصلي الصلاة التي دخل فيها، ثم يقضي الفائتة، وليس عليه أن يعيد الصلاة التي صلاها، وهو ذاكر الفائتة، هذا قول طاوس، والحسن البصريّ، وبه قال الشافعيّ، وأبو ثور.

وفيه قول ثالث، قاله الحكم، وحماد، قالا: إن ذكرها قبل أن يتشهد، أو يجلس مقدار التشهد ترك هذه وعاد إلى تلك، وإن ذكرها بعد ذلك اعتد بهذه، وعاد إلى تلك، وثبت عن ابن عمر أنه قال: من نسي صلاة، فلم يذكرها إلا وهو وراء الإمام، فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي، ثم يصلي بعدُ الصلاةَ الأخرى، وبه قال مالك بن أنس، والليث بن سعد، ويحيى بن عبد اللَّه بن سالم.

وعن أحمد، وإسحاق قالا: إذا فاتته الظهر، وهو مع الإمام في العصر، فذكرها يتم، ويعيدها.

وذكر ابن المنذر تفريق أصحاب الرأي بين كون الفوائت ستًا، وبين كونها أقل، فقالوا بوجوب الترتيب في الأقل دون الأكثر، ثم ردّ عليهم، ورجّح عدم البطلان مطلقًا

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يترجح عندي -واللَّه أعلم- وجوب الترتيب مطلقًا؛ للأدلة التي ذكرناها في المسألة الرابعة، لكن إن نسي فدخل في صلاة، فإن الترتيب يسقط بسبب النسيان؛ لحديث:"إن اللَّه -تعالى- تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد وغيره، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

[1432]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،

(1)

راجع: "الأوسط" لابن المنذر 2/ 416 - 419.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 15

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ

(1)

، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة

كلهّم تقدّموا في البابين الماضيين، سوى:

1 -

(عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقةٌ، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين فيه شيء، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف لعليّ بن المبارك من رواية وكيع، وهو كوفيّ، وقد عرفت أن رواية الكوفيين عنه فيها شيء؟.

[قلت]: إنما أخرج له المصنّف على سبيل المتابعة لرواية هشام الدستوائيّ، لا استقلالًا، فتنبّه.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء، أي بإسناد يحيى بن أبي كثير المتقدّم، وهو: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر رضي الله عنه.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن عليّ بن المبارك حدّث عن يحيى بن أبي كثير بمثل ما حدّث به هشام الدستوائيّ عنه.

[تنبيه]: رواية عليّ بن المبارك هذه ساقها الإمام البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(945)

حدّثنا يحيى بن جعفر البخاريّ، قال: حدّثنا وكيع، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: جاء عمر يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يا رسول اللَّه ما صليت العصر، حتى كادت الشمس أن تغيب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وأنا واللَّه ما صليتها بعدُ"، قال: فنزل إلى بُطْحان، فتوضأ، وصلى العصر بعدما غابت الشمس، ثم صلى المغرب بعدها. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "عليّ بن مبارك".

ص: 16

(38) - (بَابُ فَضْلِ صَلَاتَي الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1433]

(632) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ

(3)

، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ المدنيّ، كنيته أبو عبد الرحمن، وأبو الزناد لقبه، ثقةٌ فقيه [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدني، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الدَّوْسِيّ الصحابيّ الجليل رضي الله عنه عبد الرحمن بن صخر، أو عبد اللَّه بن عمرو على ما قاله البخاريّ، وصححه الترمذيّ في "جامعه" مات سنة (59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقيان تقدّما قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "عن أبي هريرة، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم".

(3)

وفي نسخة: "فيسألهم، وهو أعلم بهم".

ص: 17

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ: أبو الزناد، عن الأعرج.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثًا، رَوَى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ) أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية، قال ابن عبد البر رحمه الله: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين، أو رجلين بأن يأتي هذا مرة، ويعقبه هذا، ومنه تعقيب الجيوش؛ أن يُجَهِّز الأمير بعثًا إلى مئة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يُجَهِّز غيرهم إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجوز الأولين.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى التعاقب: إتيان طائفة بعد أخرى، فكأن الثانية تأتى عقب الأولى. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: الواو في قوله: "يتعاقبون" علامة الفاعل المذكر المجموع، وهي لغة بني الحارث، يُلحقون علامة للفاعل المثنّى والمجموع، وهم القائلون:"أكلوني البراغيث"، وهي لغة معروفة فاشية، وعليها حمل الأخفش قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] الآية، ومنه قول الفرزدق [من الطويل]:

وَلَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ

بِحُوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقَارِبُهْ

(2)

قال: وقد تعسف بعض النحويين في تأويلها وردّوها للبدل، وهو تكلُّف مستغنى عنه، مع أن تلك اللغة مشهورة، ولها وجه من القياس واضح يُعرضي موضعه

(3)

.

(1)

"المفهم" 2/ 261.

(2)

"ديافيّ": نسبة إلى دياف: قرية بالشام، و"حُوران": اسم موضع بالشام، والمراد بالسليط: الزيت، انظر:"لسان العرب" 7/ 321.

(3)

"المفهم" 2/ 260 - 261.

ص: 18

وقال غيره في تأويل الآية: قوله: {وَأَسَرُّوا} عائد على الناس المذكورين أوّلًا {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الضمير. وقيل: التقدير أنه لَمَّا قيل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قيل: من هم؟ قال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، حكاه الشيخ محيي الدين، والأول أقرب؛ إذ الأصل عدم التقدير.

وقد أشار ابن مالك إلى هذه اللغة، مع لغة جمهور العرب في "الخلاصة"، حيث قال:

وَجَرِّدِ الْفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا

لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَـ "فَازَ الشُّهَدَا"

وَقَدْ يُقَالُ "سَعِدَا وَسَعِدُوا"

وَالْفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ

وذكر الحريريّ لغة جمهور العرب في "مُلْحة الإعراب"، فقال:

وَوَحِّدِ الْفِعْلَ مَعَ الْجَمَاعَهْ

كَقَوْلِهِمْ "سَارَ الرِّجَالُ السَّاعَهْ"

وَإِنْ تَشَأْ فَزِدْ عَلَيْهِ التَّاءَ

نَحْوُ "اشْتَكَتْ عُرَاتُنَا الشِّتَاءَ"

وقد توارد جماعة من الشرّاح على أن حديث الباب من هذا القبيل، ووافقهم ابن مالك، وناقشه أبو حيّان زاعمًا أن هذه الطريق اختصرها الراوي، واحتجَّ بما رواه البزار من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ:"إن للَّه ملائكةً يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار. . . " الحديث.

قال الحافظ رحمه الله: وقد سومح في العزو إلى "مسند البزار" مع أن الحديث بهذا اللفظ في "الصحيحين"، فالعزو إليهما أولى، وذلك أن هذا الحديث رواه عن أبي الزناد مالك في "الموطأ"، ولم يُختَلف عليه باللفظ المذكور، وهو:"يتعاقبون فيكم"، وتابعه على ذلك عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، أخرجه سعيد بن منصور عنه.

وقد أخرجه البخاريّ في "بدء الخلق" من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد بلفظ:"الملائكة يتعاقبون؛ ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار"، وأخرجه النسائي أيضًا من طريق موسى بن عقبة، عن أبي الزناد بلفظ:"إن الملائكة يتعاقبون فيكم"، فاختلف فيه على أبي الزناد، فالظاهر أنه كان تارة يذكره هكذا، وتارة هكذا، فيقوى بحث أبي حيّان.

ويؤيِّد ذلك أن غير الأعرج من أصحاب أبي هريرة قد رواه تامًّا، فأخرجه مسلم من طريق هَمَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة مثل رواية موسى بن عُقْبَةَ، لكن

ص: 19

بحذف "إنَّ" من أوله، وأخرجه ابن خزيمة والسَّرَّاج من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ:"إنَّ للَّه ملائكة يتعاقبون"، وهذه هي الطريقة التي أخرجها البزار، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" بإسناد صحيح من طريق أبي موسى، عن أبي هريرة بلفظ:"إن الملائكة فيكم يتعاقبون".

وإذا عرفت ذلك فالعزو إلى الطريق التي تتحد مع الطريق التي وقع القول فيها أولى من طريقٍ مغايرة لها، فليُعْزَ ذلك إلى تخريج البخاريّ، والنسائيّ من طريق أبي الزناد؛ لما أوضحته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(فِيكُمْ) أي المصلين، أو مطلق المؤمنين (مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ) الملائكة: جمع مَلَكٍ، واختُلِف في اشتقاقه، قيل: من الألُوكِ، وقيل: من المألُك، وقيل غير ذلك.

قال في "المصباح": ألَكَ بين القوم، ألْكًا، من بَابِ ضَرَبَ، وألُوكًا، أيضًا: تَرَسَّلَ، واسم الرِّسَالة مَألُكٌ بضم اللام، وَمَألُكَةٌ أيضًا بالهاء، ولامُها تضم وتفتح، والملائكةُ مشتقة من لفظ الألُوك، وقيل: من المَألَكِ، الواحد: ملك، وأصله مَلأك، ووزنه مَعْفَل، فنقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، فوزنه مَعَلٌ، فإنَّ الفاء هي الهمزة، وقد سقطت، وقيل: مأخوذ من لأكَ: إذا أرسل، فَمَلأك مَفْعَل، فنقلت الحركة، وسقطت الهمزة، وهي عين، فوزنه مَفَلٌ، وقيل غير ذلك. انتهى

(2)

.

فـ "ملائكةٌ" بالرفع فاعلُ "يتعاقبون" على كون الواو علامةً، أو بدلٌ من الضمير على جعل الواو ضميرًا، أو بيانٌ، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: ملائكة، أو مبتدأ خبره قبله.

[تنبيه]: قيل: المراد بالملائكة هنا هم: الحفظة، نقله عياض، وغيره عن الجمهور، وتردد ابن بزيزة، وقال القرطبيّ: الأظهر عندي أنهم غيرهم، قال الحافظ: ويقوِّيه أنه لم يُنْقَل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غيرُ حَفَظَة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن

(1)

"الفتح" 2/ 42.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 18 - 19.

ص: 20

حالة الترك دون غيرها في قوله: "كيف تركتم عبادي"، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وعبارة القرطبيّ رحمه الله: وهؤلاء الملائكة إن كانوا هم الحفظة، فسؤال اللَّه تعالى لهم بقوله:"كيف تركتم عبادي؟ " إنما هو سؤال عما أمرهم به من حفظهم لأعمالهم، وكَتْبهم إياها عليهم، وعلى أنهم هم الحَفَظَةُ مذهب الجمهور، وإن كانوا غيرهم، وهو الأظهر عندي، فسؤاله تعالى لهم إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وإظهارًا لما سبق في معلومه؛ إذ قال لهم:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وهذه حكمة اجتماعهم في صلاتي الفجر والعصر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: أو يكون سؤاله لهم استدعاءً لشهادتهم لهم، ولذلك قالوا:"تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون"، وهذا من خفيّ لطفه تبارك وتعالى، وجميل سَتْره؛ إذ أطلعهم بكرمه عليهم حالة عباداتهم، ولم يُطلعهم عليهم، ولا جمعهم لهم في حال خلواتهم بلذّاتهم، وانهماكهم في معاصيهم وشهواتهم، فسبحانه من حليم كريم جليل؛ إذ سَتَرَ القبيح، وأظهر الجميل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله مبنيّ على ما استظهر من أن المراد بالملائكة هنا غير الحفظة، وهو الظاهر، وأما على ما ذهب إليه غيره من أنهم هم الحفظة، فسيأتي توجيهه في كلام الحافظ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم.

(وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) قال الزين ابن المُنَيِّر رحمه الله: التعاقب مغاير للاجتماع، لكن ذلك مُنَزَّل على حالين، قال الحافظ رحمه الله: وهو ظاهر.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة، واللفظ محتمل للجماعة وغيرها، كما يَحْتَمل أن التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم، وأن يقع التعاقب بينهم في النوع، لا في الشخص.

وقال القاضي عياض رحمه الله: والحكمة في اجتماعهم في هاتين الصلاتين

(1)

"الفتح" 2/ 43.

(2)

"المفهم" 2/ 261.

ص: 21

من لطف اللَّه تعالى بعباده، وإكرامه لهم بأنْ جَعَل اجتماعَ ملائكته في حال طاعة عباده؛ لتكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة.

قال الحافظ رحمه الله: وفيه شيء؛ لأنه رجَّحَ أنهم الحفظة، ولا شك أن الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات، فالأولى أن يقال: الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم إلا عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذُكِر، ويَحْتَمِل أن يقال: إن اللَّه تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين، لكنه بناء على أنهم غير الحفظة، وفيه إشارة إلى الحديث الآخر:"إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما"، فمن ثَمَّ وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه.

(ثُم يَعْرُجُ) من باب قتل، أي يَصْعَد الملائكة (الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ) يقال: بَاتَ يَبِيتُ بَيْتُوتَة، ومَبِيتًا، وَمَبَاتًا، فهو بَائِتٌ: إذا فَعَلَ فِعْلًا بالليل، كما اختصّ الفعل في "ظَلَّ" بالنهار، وقد تأتي بمعنى "صار"، يقال: بات بموضع كذا، أي صَارَ بِهِ، سواء كان في ليل، أو نهار، وبَاتَ يَبَاتُ من باب تَعِبَ لغة، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: المناسب هنا معنى "صار"، فيَشْمَل الحديثُ الذين كانوا معهم ليلًا، والذين كانوا معهم نهارًا، ولا داعي إلى التكلفات الآتية.

وقال في "الفتح": اختُلِفَ في سبب الاقتصار على سؤال الذين باتوا دون الذين ظَلُّوا، فقيل: هو من باب الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر، كقوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)} [الأعلى: 9] أي وإن لم تنفع، وقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أي والبرد، وإلى هذا أشار ابن التين وغيره.

ثم قيل: الحكمة في الاقتصار على ذلك أن حكم طرفي النهار يعلم من حكم طرفي الليل، فلو ذكره لكان تكرارًا.

ثم قيل: الحكمة في الاقتصار على هذا الشِّقِّ دون الآخر أن الليل مظنة

(1)

"المصباح المنير" 1/ 67 - 68.

ص: 22

المعصية، فلما لم يقع منهم عصيان مع إمكان دواعي الفعل من إمكان الإخفاء ونحوه، واشتغلوا بالطاعة كان النهار أولى بذلك، فكان السؤال عن الليل أبلغ من السؤال عن النهار؛ لكون النهار محل الاشتهار.

وقيل: الحكمة في ذلك أن ملائكة الليل إذا صَلَّوُا الفجرَ عَرَجُوا في الحال، وملائكة النهار إذا صلوا العصر لَبِثُوا إلى آخر النهار؛ لضبط بقية عمل النهار، قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأنه يقتضي أن ملائكة النهار لا يسألون عن وقت العصر، وهو خلاف ظاهر الحديث، كما سيأتي، ثم هو مبني على أنهم الحفظة، وفيه نظر؛ لما سنبيّنه، وقيل: بناه أيضًا على أنهم الحفظة أنهم ملائكة النهار فقط، وهم لا يبرحون عن ملازمة بني آدم، وملائكة الليل هم الذين يعرجون، ويتعاقبون، ويؤيده ما رواه أبو نعيم في "كتاب الصلاة" له من طريق الأسود بن يزيد النخعي، قال:"يلتقي الحارسان -أي ملائكة الليل، وملائكة النهار- عند صلاة الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، فتصعد ملائكة الليل، وتلبث ملائكة النهار".

وقيل: يَحْتَمِل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصّة، وأما النزول فيقع في الصلاتين معًا، وفيه التعاقب، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر، وتبيت، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فقط، ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر، فتنزل الطائفة الأخرى، فيحصل اجتماعهم عند العصر أيضًا، ولا يصعد منهم أحد، بل تبيت الطائفتان أيضًا، ثم تعرج إحدى الطائفتين، ويستمرّ ذلك، فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر، والعروج بالفجر، فلهذا خُصَّ السؤال بالذين باتوا، واللَّه تعالى أعلم.

وقيل: إن قوله في هذا الحديث: "ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر" وَهَمٌ؛ لأنه ثَبَتَ في طرق كثيرة أن الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر، كما في "الصحيحين" من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة في أثناء حديث قال فيه:"وتجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر"، وقال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].

ص: 23

وفي الترمذيّ، والنسائيّ من وجه آخر بإسناد صحيح عن أبي هريرة في قوله تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: تشهده ملائكة الليل والنهار، ورَوَى ابنُ مَرْدويه من حديث أبي الدرداء نحوه.

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: ليس في هذا دَفْعٌ للرواية التي فيها ذكر العصر، إذ لا يلزم من عدم ذكر العصر في الآية، والحديثِ الآخرِ عدمُ اجتماعهم في العصر؛ لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر، قال: ويَحْتَمِل أن يكون الاقتصار وقع في الفجر لكونها جهرية.

قال الحافظ رحمه الله وبحثه الأول مُتَّجِهٌ؛ لأنه لا سبيل إلى ادّعاء توهيم الراوي الثقةِ مع إمكان التوفيق بين الروايات، ولا سيما أن الزيادة من العدل الضابط مقبولة، وَلِمَ لا يُقاَلُ: إن رواية مَن لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النهار واقعٌ من تقصير بعض الرواة، أو يُحْمَلُ قوله:"ثم يعرج الذين باتوا" على ما هو أعم من المبيت بالليل، والإقامة بالنهار، فلا يختص ذلك بليل دون نهار، ولا عكسه، بل كل طائفة منهم إذا صَعِدَت سُئِلَت، وغاية ما فيه أنه استعمل لفظ "بات" في "أقام" مجازًا، ويكون قوله:"فيسألهم" أي كُلًّا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه، ويَدُلُّ على هذا الحملِ رواية موسى بنِ عقبة، عن أبي الزناد عند النسائي، ولفظه:"ثم يعرج الذين كانوا فيكم"، فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار، ولا اقتصار، وهذا أقرب الأجوبة.

قال: وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحًا، وفيه التصريح بسؤال كل من الطائفتين.

وذلك فيما رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو العباس السَّرَّاج جميعًا عن يوسف بن موسى، عن جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تجتمع ملائكة الليل، وملائكة النهار في صلاة الفجر، وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة الليل، وتبيت ملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة العصر، فتصعد ملائكة النهار، وتبيت ملائكة الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ " الحديث.

وهذه الرواية تزيل الإشكال، وتُغْنِي عن كثير من الاحتمالات المتقدمة،

ص: 24

فهي المعتمدة، ويُحْمَل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: بل الأولى والأرجح عندي ما رجحه الحافظ قبل هذا، وهو عدم دعوى الاختصار، والاقتصار في رواية الباب؛ لأن معنى "باتوا فيكم": صاروا معكم، وقد تقدم ما نقلته من عبارة الفيّومي في "المصباح" في ذلك، ويؤيِّد ذلك رواية النسائيّ المتقدمة:"ثم يعرج الذين كانوا فيكم". وهذه الرواية رواية ابن خزيمة والسَّرَّاج مُوَضِّحَة لهذا المعنى، فلا داعي لدعوى التقصير من بعض الرواة.

والحاصل أن معنى: "ثم يعرج الذين باتوا فيكم" ثم يصعد الذين كانوا معكم، سواء الذين كانوا معهم ليلًا، والذين كانوا معهم نهارًا، فيشمل السؤال الطائفتين بنصّ هذا الحديث، فلا إشكال، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]:

استَدَلَّ بعض الحنفية بهذا الحديث على استحباب تأخير صلاة العصر ليقع عروج الملائكة إذا فرغ آخر النهار.

وتُعُقِّب بأن ذلك غير لازم؛ إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة، بل جائز أن تفرغ الصلاة، ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار، ولا مانع أيضًا من أن تصعد ملائكة النهار، وبعضُ النهار بافي، وتقيم ملائكة الليل، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التوجيه الثاني هو الصواب، وأما الأول فلا يصحّ؛ لأن دعوى تأخرهم بعد الصلاة ينافيه قوله في الحديث:"تركناهم وهم يصلّون"، وأيضًا الاستدلال المذكور تعارضه النصوص التي تدل على استحباب تعجيل صلاة العصر، وهي صريحة تقدّم على هذا المفهوم لو سُلِّم، وقد تقدّم تحقيق ذلك في محلّه، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وأما اعتراض العينيّ على الحافظ في هذا التوجيه فهو مجرّد اعتراض لم يستند إلى دليل، وإنما هو لشغفه في الدفاع عن مذهبه، وإن كان غير صحيح، فتبصر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(1)

"الفتح" 2/ 44.

(2)

راجع: "فتح الباري" 2/ 43.

ص: 25

(فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ) قال النوويّ رحمه الله: هذا السؤال على ظاهره، وهو تعبّد منه لملائكته، كما أمر بكَتْبِ الأعمال، وهو أعلم بالجميع. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قيل: الحكمة في سؤالهم استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة مَنْ قَالَ من الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، أي وقد وُجد فيهم من يسبح، ويقدس مثلكم بنص شهادتكم.

وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة، كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو عز وجل أعلم من الجميع بالجميع.

[تنبيه آخر]: وقع في بعض النسخ: "فيسألهم، وهو أعلم بهم"، بدون ذكر الفاعل، وهو الذي في رواية النسائيّ، وعليه يقدّر الفاعل ضميرًا يعود إلى المعلوم من السياق، يدلّ عليه قوله:"عبادي"، أي يسألهم هو، أي ربّهم، وهذا على رأي جمهور النحاة، وأما على رأي الكسائيّ، فيكون من باب حذف الفاعل؛ لأنه يجوّز حذفه.

(وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي بالمصلين من الملائكة، فحذف صلة أفعل التفضيل، وفي بعض النسخ:"فيسألهم، وهو أعلم"(كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟) قال ابن أبي جمرة رحمه الله: وقع السؤال عن آخر الأعمال؛ لأن الأعمال بخواتيمها، قال: والعباد المسؤول عنهم هم المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42](فَيَقُولُونَ) أي الملائكة المسؤولون (تَرَكْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأتيْنَاهُمْ، وَهُمْ يُصَلُّونَ") لم يراعوا الترتيب الوجوديّ؛ لأنهم بَدَؤُوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه أنهم طابقوا السؤال؛ لأنه قال:"كيف تركتم"، ولأن الْمُخْبَر به صلاة العبادة، والاْعمال بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله.

وقوله: "تركناهم وهم يصلون" ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر سواء تَمَّت أم مَنَعَ مانع من إتمامها، وسواء شَرَع الجميع فيها، أم لا؛

(1)

"شرح النووي" 5/ 133.

ص: 26

لأن المنتظر في حكم المصلي، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقولهم:"وهم يصلون" أي ينتظرون صلاة المغرب.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول أولى؛ لأنه الذي يقتضيه ظاهر الحديث، واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن التين: الواو في قوله "وهم يصلون" واو الحال، أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة، فلم يشهدوها معهم، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها؛ لأنا نقول: هو محمول على أنهم شَهِدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها وشَهِدوا من دخل فيها بعد ذلك، ومن شرع في أسباب ذلك.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أنهم فارقوهم، وهم يصلون، ولا يلزم من ذلك معارضة النصوص التي تدلّ على شهودهم؛ لأن الشهود لا يستلزم انقضاء الصلاة، على أن هؤلاء الذين فارقوا قد اجتمعوا مع الذين بَقُوا معهم، فالصلاة لم تَخْلُ من شهود الملائكة من أولها إلى آخرها، واللَّه أعلم.

وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: أجابت الملائكة بأكثر مما سُئِلُوا عنه؛ لأنهم عَلِمُوا أنه سؤال يَسْتَدْعِي التَّعَطُّفَ على بني آدم، فزادوا في مُوجَب ذلك.

ووقع في "صحيح ابن خزيمة" من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه في آخر هذا الحديث:"فاغفر لهم يوم الدين"، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 433 و 1434](632)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(555)، و"بدء الخلق"(3223)، و"التوحيد" (7429

(1)

"الفتح" 2/ 45.

ص: 27

و 7486)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(485)، وفي "النعوت" من "الكبرى"(4/ 418)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 170)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 257 و 312 و 344)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(321 و 322)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1736 و 1737 و 2061)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1118 و 1119 و 1120)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1409 و 1410)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(380)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل صلاة الجماعة في الفجر والعصر.

2 -

(ومنها): أن الصلاة أعلى العبادات بعد الشهادتين؛ لأنه وقع عنها السؤال والجواب.

3 -

(ومنها): أن فيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة.

4 -

(ومنها): الإشارة إلى شرف الوقتين المذكوربن، قال الحافظ: وقد ورد أن الرزق يُقْسَم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه، وفي عمله، ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما، والاهتمام بهما.

5 -

(ومنها): أن فيه تشريفَ هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيّها صلى الله عليه وسلم على غيره.

6 -

(ومنها): أن فيه الإخبارَ بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان.

7 -

(ومنها): الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رُسُلِ ربنا، وسؤال ربنا عنّا.

8 -

(ومنها): إعلامنا بحبّ الملائكة لنا؛ لنزداد فيهم حبًا، ونتقرب إلى اللَّه بذلك.

9 -

(ومنها): إثبات كلام اللَّه تعالى مع ملائكته الكرام.

10 -

(ومنها): ما استنبطه منه بعض الصوفية من أنه يُستَحَبّ أن لا يفارق الشخص شيئًا من أموره إلا وهو على طهارة، كشعره إذا حلقه، وظفره إذا قَلَمَهُ، وثوبه إذا أبدله، ونحو ذلك.

ص: 28

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بعدُ هذا الاستنباط مما لا يخفى على بصير، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1434]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَر) بن راشد الأسديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّه) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ) كان الظاهر أن يقول: بمثل حديث الأعرج، يعني أن همّام بن منبّه حدّث عن أبي هريرة رضي الله عنه بما حدّث به الأعرج عنه.

[تنبيه]: رواية همّام هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"(1/ 315 - 316) فقال:

(1120)

حدّثنا السلميّ، قال: حدّثنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا معمر، عن همّام بن منبّه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، وقال: يجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرُج إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم، كيف تركتم عبادي؟، فقالوا:

ص: 29

تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلون"، انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1435]

(633) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُّونَ

(1)

فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا" -يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ- ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ) أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الْبَجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

4 -

(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2] مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.

5 -

(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن جابر البجليّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (51) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

وفي نسخة: "لا تضامون" بتخفيف الميم.

ص: 30

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: إسماعيل، عن قيس.

5 -

(ومنها): أن قيسًا هو التابعي الوحيد الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، على خلاف في عبد الرحمن بن عوف.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، فهو وإن كان متأخّر الإسلام، حيث كان إسلامه في السنة التي توفّي فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن كانت له حِظْوَة عنده صلى الله عليه وسلم فإنه قال رضي الله عنه: ما حجبني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم، رواه الشيخان، وكان من أجمل الناس، قال عبد الملك بن عمير: رأيت جرير بن عبد اللَّه وكان وجهه شقّة قمر، وقال له عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: يرحمك اللَّه، نعم السيّد كنت في الجاهليّة، ونعم السيّد أنت في الإسلام رضي الله عنهما، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنه (وَهُوَ يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "جرير"(كُنَّا جُلُوسًا) جمع جالس (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أي ليلة تمام القمر، قال الفيّوميّ رحمه الله البدرُ: القمر ليلة كماله، وهو في الأصل مصدرٌ، يقال: بَدَرَ القمرُ بَدْرًا، من باب قتل. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: البدرُ: القمر الممتلئ كالبادر. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا"(إِنَّكُمْ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد "أما" الاستفتاحيّة، فهي في الابتداء، قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: شَبّهَ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 38.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 369.

ص: 31

الرؤية بالرؤية، لا المرئيّ بالمرئيّ، وإنما شَبّه الرؤية برؤية البدر لمعنيين:

[أحدهما]: أن رؤية القمر ليلة البدر لا يُشَكّ فيه، ولا يُمْتَرَى.

[والثاني]: يستوي فيه جميع الناس من غير مشقّة. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة":

[فإن قلت]: الكاف في "كما ترون" للتشبيه، ولا بد أن تكون مناسبةٌ بين الرائي والمرئيّ.

[قلت]: معنى التشبيه فيه أنكم ترونه رؤية محقَّقةً، لا شك فيها، ولا مشقة ولا خفاء، كما ترون القمر كذلك، فهو تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي انتهى

(2)

.

(لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) بضم أوله مُخَفَّفًا، أي لا يحصل لكم ضَيْمٌ حينئذ، ورُوي بفتح أوله، والتشديد من الضمّ، والمراد نفي الازدحام، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": رُوِي بضم التاء، وبتخفيف الميم، من الضيم، وهو التعب، وبتشديدها من الضمّ، وبفتح التاء وتشديد الميم.

قال الخطابيّ رحمه الله: يُروَى على وجهين:

أحدهما: مفتوحة التاء مشددة الميم، وأصله تتضامُّون، حذفت إحدى التائين: أي لا يُضَامُّ بعضُكم بعضًا، كما يفعله الناس في طلب الشيء الخفي الذي لا يَسهُل دَرْكُهُ، فيتزاحمون عنده، يريد أن كل واحد منهم وادع مكانه

(3)

، لا ينازعه في رؤيته أحد.

والآخر: "لا تُضَامُون"، من الضيم، أي لا يَضِيم بعضكم بعضًا في رؤيته.

وقال التيميّ رحمه الله: "لا تضامُّون"، بتشديد الميم، مراده أنكم لا تختلفون إلى بعض فيه، حتى تجتمعوا للنظر، وينضم بعضكم إلى بعض، فيقول واحد:

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 320.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 43 - 44.

(3)

أي مستقرّ فيه، يقال: وَدُعَ، كَكَرُم، ووَضَعَ، فهو وَدِيعٌ، ووادِعٌ: سكن، واستقرّ، أفاده في "القاموس" 3/ 92.

ص: 32

هو ذاك، ويقول الآخر: ليس ذاك، كما يفعله الناس عند النظر إلى الهلال أول الشهر، وبتخفيفها معناه: لا يَضِيم بعضكم بعضًا بأن يدفعه عنه أو يستأثر به دونه.

وقال ابن الأنباريّ: أي لا يقع لكم في الرؤية ضيم، وهو الذُّلّ، وأصله تُضْيِمُون، فأُلقيت حركة الياء على الضاد، فصارت الياء ألفًا؛ لانفتاح ما قبلها.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: "لا تُضَامُون" بضم التاء المثناة من فوقُ، وتخفيف الميم، وعليه أكثر الرواة، والمعنى: لا ينالكم ضَيْمٌ، والضيم أصله الظلم، وهذا الضيم يَلْحَق الرائي من وجهين:

أحدهما: من مزاحمة الناظرين له، أي لا تزدحمون في رؤيته، فيراه بعضكم دون بعض، ولا يظلم بعضكم بعضًا.

والثاني: من تأخُّره عن مقام الناظر المحقِّق، فكأن المتقدمين ضامُوه، ورؤية اللَّه عز وجل يستوي فيها الكلّ، فلا ضَيْمَ، ولا ضرر، ولا مشقّة. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(فَإِنِ استَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا) بصيغة المجهول، وكلمة "أن" مصدرية، والتقدير من أن لا تغلبوا، أي من الغلبة بالنوم، والاشتغال بشيء من الأشياء المانعة عن الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة، كالنوم، والشغل، ومقاومةُ ذلك بالاستعداد له. انتهى

(3)

.

(عَلَى صَلَاةٍ) متعلّق بـ "تُغلبوا"(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) ظرف متعلّقٌ بـ "صلاة"(وَقَبْلَ غُرُوبِهَا") وقوله: (يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ) أي يريد بقوله: "على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها" صلاة العصر والفجر، وهذه العناية من باب الرواة، ولم يبيّن لي من هو؟، ولابن مردويه من وجه آخر، عن إسماعيل:"قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر".

(1)

"عمدة القاري" 5/ 41 - 42.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 42.

(3)

"الفتح" 2/ 41.

ص: 33

[تنبيه]: جواب "إن" محذوف في رواية المصنّف، وقد ذُكر عند البخاريّ، ولفظه:"فافعلوا"، أي افعلوا عدم الغلبة، وهو كناية عما ذُكِر من الاستعداد، ووقع في رواية شعبة عن إسماعيل عند ابن مروديه:"فلا تغفلوا عن صلاة. . . "، الحديث، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "فافعلوا" أي الصلاة في هذين الوقتين.

وقال الكرمانيّ: [فإن قلت]: ما المراد بلفظ: "افعلوا"؛ إذ لا يصحّ أن يراد افعلوا الاستطاعة، أو افعلوا عدم المغلوبية؟.

[قلت]: عدمُ المغلوبية كناية عن الإتيان بالصلاة؛ لأنه لازم الإتيان، فكأنه قال: فأتوا بالصلاة، فاعلين لها. انتهى.

فتعقّبه العينيّ، فقال: لو قدَّر مفعول "افعلوا" مثل ما قدّرنا لكان استغنى عن هذا السؤال والجواب. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا فرق بين ما قاله الكرمانيّ، وما تعقّبه به العينيّ، فإن حاصلها واحد، فلا وجه للتعقّب، وغايته أن الكرمانيّ: بيّن طريق تقدير المفعول المحذوف، فأفاد، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن بطال: قال المهلب: قوله: "فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة": أي في الجماعة، قال: وخَصَّ هذين الوقتين؛ لاجتماع الملائكة فيهما، ورفعهم أعمال العباد؛ لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم.

قال الحافظ رحمه الله: وعُرِف بهذا مناسبة إيراد حديث: "يتعاقبون" عقب هذا الحديث

(2)

، لكن لم يظهر لي وجه تقييد ذلك بكونه في جماعة، وإن كان فضل الجماعة معلومًا من أحاديثَ أُخَر، بل ظاهر الحديث يتناول من صلاهما ولو منفردًا؛ إذ مقتضاه التحريض على فعلهما، أَعَمَّ من كونه جماعةً أو لا

(3)

.

(ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ) أي ابن عبد اللَّه الصحابيّ الراوي للحديث رضي الله عنه، هكذا

(1)

"الفتح" 2/ 41.

(2)

يعني في "صحيح البخاريّ"، وأما في "صحيح مسلم"، فقدّم حديث:"يتعاقبون إلخ"، فتنبّه.

(3)

"الفتح" 2/ 41.

ص: 34

وقع التصريح في رواية المصنّف بأن الذي قرأ هو جرير رضي الله عنه، ولم يقع في رواية البخاريّ، ولفظه:"ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}. . . إلخ"، فقال في "الفتح": قوله: "ثم قرأ" كذا في جميع روايات "الجامع"، وأكثر الروايات في غيره بإبهام فاعل:"قرأ"، وظاهره أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن لم أر ذلك صريحًا، وحَمَله عليه جماعة من الشراح. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا غريب من الحافظ رحمه الله، فكيف يقول: وظاهره أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع التنصيص الواضح في رواية المصنّف أنه جرير؟، وكذلك وقع التنصيص عليه في رواية أبي عوانة في "مسنده" من طريق يعلى بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد

(1)

، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

({وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}) أمر من التسبيح، والمراد به الصلاة ({قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}) قال العلماء: وجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية، أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبتٌ لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذُكِر من اجتماع الملائكة فيهما، ورفع الأعمال، وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يُجَازَى المحافظ عليهما بأفضل العطايا، وهو النظر إلى اللَّه تعالى.

وقيل: لَمّا حُقِّق رؤية اللَّه تعالى برؤية القمر والشمس -وهما آيتان عظيمتان، شُرِعت لخسوفهما الصلاة والذكر- ناسب مَن يُحبّ رؤيةَ اللَّه تعالى أن يحافظ على الصلاة عند غروبها، ولا يخفى بُعْدُه وتكلفه، قاله في "الفتح"

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليها المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جرير بن عبد اللَّه البجليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 314.

(2)

"الفتح" 2/ 42.

ص: 35

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1435 و 1436](633)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(554 و 573)، و"التفسير"(4851)، و"التوحيد"(7434 و 7435)، و (أبو داود) في "السنّة"(4729)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2551)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(177)، و (النسائيّ) في "التفسير" وفي "الكبرى"(6/ 407)، و (الحميديّ) في "مسنده"(799)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 360 و 365 و 366)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7442 و 7443 و 7444)، و (ابن منده) في "الإيمان"(798)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2227)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 167 - 168)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1112)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1411 و 1412)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(446 و 447 و 448 و 449 و 461)، و (عبد اللَّه بن أحمد) في "السنّة"(219 و 221 و 225 و 226 و 227)، و (الآجرّيّ) في "التصديق بالنظر"(23 و 24 و 25)، و (اللالكائيّ) في "شرح أصول الاعتقاد"(825 و 826 و 828 و 829)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(ص 128 - 129)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(378 و 379)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما.

2 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى عظَم قدر هذين الصلاتين، وأنهما أشرف الصلوات الخمس، ولهذا قيل في كلّ منهما: إنها الصلاة الوسطى، والقول بأن الوسطى غيرهما لا تعويل عليه، قاله ابن رجب رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": فيه زيادة شرف الصلاتين، وذلك لتعاقب الملائكة في وقتيهما، ولأن وقت صلاة الصبح وقتُ لذّة النوم، كما قيل: ألذُّ الكرى عند الصباح يطيب، والقحِام فيه أشقّ على النفس من القيام في غيره، ووقتُ صلاة العصر وقت الفراغ عن الصناعات، وإتمام الوظائف، والمسلم إذا حافظٌ عليها مع ما فيه من التثاقل والتشاغل، فَلَأن يحافظ على غيرها بالطريق الأولى. انتهى

(2)

.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 323.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 44.

ص: 36

3 -

(ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله: قوله: "فافعلوا"، هذا يدلّ على أن الرؤية قد يُرْجَى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين. انتهى، وقد يُستَشهَد لذلك بما أخرجه الترمذيّ من حديث ابن عمر يرفعه، قال:"إن أدنى أهل الجنة منزلةً. . . " فذكر الحديث، وفيه:"وأكرمهم على اللَّه مَن ينظر إلى وجهه غدوة وعشية"، وفي سنده ضعف، قاله في "الفتح"

(1)

.

4 -

(ومنها): أنه قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين عقب ذكر الرؤية: إن أعلى ما في الجنّة رؤية اللَّه عز وجل، وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان، فالمحافظة عليهما يُرجى بها دخول الجنّة، ورؤية اللَّه عز وجل فيها كما في الحديث الآخر:"من صلّى البردين دخل الجنّة".

وقيل: هو إشارة إلى أن دخول الجنّة إنما يحصُل بالصلاة مع الإيمان، فمن لا يصلي فليس بمسلم، ولا يدخل الجنّة، بل هو من أهل النار، ولهذا قال أهل النار لَمّا قيل لهم:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدّثر: 42 - 43].

ويظهر وجه آخر في ذلك، وهو أن أعلى أهل الجنّة منزلةً من ينظر إلى وجه اللَّه عز وجل مرّتين بُكرةً وعشيًّا، وعموم أهل الجنّة يرونه في كل جمعة في يوم المزيد.

والمحافظة على هاتين الصلاتين على ميقاتهما، ووضوئهما، وخشوعهما، وآدابهما يُرجى به أن يوجب النظر إلى اللَّه عز وجل في الجنّة في هاتين الوقتين، ويدلّ على هذا ما رَوَى ثُوير بن أبي فاختة قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنّة منزلةً لَمَنْ ينظر إلى جنّاته، وأزواجه، ونعيمه، وخَدَمه، وسُرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على اللَّه من يَنظُر إلى وجهه غدوةً وعشيًّا، ثم قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] "، أخرجه الإمام أحمد، والترمذيّ، وهذا لفظه، وأخرجه أيضًا موقوفًا على ابن عمر، وثُويرٌ فيه ضعفٌ.

وقد رُوي هذا المعنى من حديث أبي بَرْزة الأسلميّ مرفوعًا أيضًا، وفي

(1)

"الفتح" 2/ 41.

ص: 37

إسناده ضعف، وقاله غير واحد من السلف، منهم: عبد اللَّه بن بُريدة وغيره.

فالمحافظة على هاتين الصلاتين يكون سببًا لرؤية اللَّه في الجنّة في مثل هذين الوقتين، كما أن المحافظة على الجمعة سبب لرؤية اللَّه في يوم المزيد في الجنّة، كما قال ابن مسعود:"سارعوا إلى الجمعات، فإن اللَّه يبرُزُ لأهل الجنّة في كلّ جمعة على كثيب من كافور أبيض، فيكونون منه في الدنوّ على قدر تبكيرهم إلى الجمعات"، ورُوي عنه مرفوعًا، أخرجه ابن ماجه، ذكر هذا كلّه الحافظ ابن رجب في "شرح البخاريّ"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث نصّ في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، كما دلّ على ذلك قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، ومفهوم قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، قال الشافعيّ وغيره: لَمّا حَجَبَ أعداءه في السخط دلّ على أن أولياءه يرونه في الرضا.

والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، في "الصحيحين" وغيرهما.

وقد أجمع على ذلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة، وأتباعهم، وإنما خالف فيه طوائف من أهل البدع من الجهميّة، والمعتزلة، ونحوهم، ممن يردّ النصوص الصحيحة لخَيالات فاسدة، وشُبُهات باطلة يُخيِّلها لهم الشيطان، فيسرعون إلى قبولها منه، ويوهمهم أن هذه النصوص الصحيحة تستلزم باطلًا، وتسمّيه تشبيهًا، أو تجسيمًا، فينفرون منه، كما خَيَّل إلى المشركين قبلهم أن عبادة الأوثان ونحوها تعظيم لجناب الربّ، وأنه لا يُتوصّل إليه من غير وسائطَ تُعبَد، فتقرِّب إليه زُلْفًا، وأن ذلك أبلغ في التعظيم والاحترام، وقاسه لهم على ملوك بني آدم، فاستجابوا لذلك، وقَبِلوه منه، وإنما بحث اللَّه الرسل، وأنزل الكتب لإبطال ذلك كلّه، فمن اتّبع ما جاءوا به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه، أو عن شيء منه، واعتَرَضَ، فقد ضلّ.

قال: وقد ظنّ المريسيّ ونحوه ممن ضلّ وافترى على اللَّه أن هذا

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 323 - 324.

ص: 38

الحديث يُردّ لما يتضمّن من التشبيه، فضلّ وأضلّ، واتّفق السلف الصالح على تلقّي هذا الحديث بالقبول والتصديق، قال يزيد بن هارون: من كذّب بهذا الحديث، فهو بريء من اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقال وكيعٌ: من ردّ هذا الحديث، فاحسَبُوه من الجهميّة، وكان حسين بن عليّ الجعفيّ إذا حدّث بهذا الحديث قال: زعم المريسيّ

(1)

. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا.

وقال في "العمدة": استَدَلّ بهذه الأحاديث، وبالقرآن، وإجماع الصحابة، ومن بعدهم على إثبات رؤية اللَّه في الآخرة للمؤمنين، وقد رَوَى أحاديث الرؤية أكثر من عشرين صحابيًّا، وقال أبو القاسم: رَوَى رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في القيامة أبو بكر، وعليّ بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عباس، وابن عمر، وحذيفة، وأبو أمامة، وأبو هريرة، وجابر، وأنس، وعمّار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وعُبادة بن الصامت، وبُريدة بن حُصيب، وجُنادة بن أبي أمية، وفَضالة بن عُبيد، ورجل له صحبة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أحاديثهم بأسانيد غالبها جَيِّد.

وذكر أبو نعيم الحافظ في "كتاب تثبيت النظر" أبا سعيد الخدريّ، وعُمارة بن رؤيبة، وأبا رَزِين العُقَيليّ، وأبا برزة، وزاد الآجُريّ في "كتاب الشريعة"، وأبو محمد عبد اللَّه بن محمد المعروف بأبي الشيخ في "كتاب السنة الواضحة"، تأليفهما: عديَّ بن حاتم الطائيّ بسند جيّد.

والرؤية مختصة بالمؤمنين ممنوعة من الكفّار، وقيل: يراه منافقو هذه الأمة، وهذا ضعيف، والصحيع أن المنافقين كالكفار باتفاق العلماء، وعن ابن عمر، وحذيفة:"مِن أهل الجنة مَن ينظر إلى وجهه غُدوةً وعشيةً".

ومَنَعَ من ذلك المعتزلة، والخوارج، وبعض المرجئة، واحتجُّوا في ذلك بوجوه:

[الأول]: قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وقالوا: يلزم من نفي الإدراك بالبصر نفي الرؤية.

(1)

هكذا النسخة، ولعل المعنى: أي قال قولًا باطلًا حيث أنكره.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 319 - 320.

ص: 39

[الثاني]: قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، و"لن" للتأبيد، بدليل قوله تعالى:{قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15]، وإذا ثبتٌ في حقّ موسى عليه السلام عدم الرؤية ثبت في حقّ غيره.

[الثالث]: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، فالآية دَلَّت على أن كل من يتكلم اللَّه معه، فإنه لا يراه، فإذا ثبتٌ عدم الرؤية في وقت الكلام، ثبت في غير وقت الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفصل.

[الرابع]: أن اللَّه تعالى ما ذكر في طلب الرؤية في القرآن إلَّا وقد استعظمه، وذَمّ عليه، وذلك في آيات، منها قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} [البقرة: 55].

[الخامس]: لو صحت رؤية اللَّه تعالى لرأيناه الآن، والتالي باطل، والمقدَّم مثله.

ولأهل السنة ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة، قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]، وقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، فهذا يدل على أن المؤمنين لا يكونون محجوبين.

والجواب عن قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أن المراد من الإدراك الإحاطة، ونحن أيضًا نقول به.

وعن قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] أنّا لا نسلم أن "لن" تدلّ على التأبيد بدليل قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] مع أنهم يتمنونه في الآخرة.

قال ابن مالك رحمه الله:

وَمَنْ رَأَى النَّفْيَ بِـ "لَنْ" مُؤَبَّدَا

فَقَوْلَهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا

وعن قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية [الشورى: 51] أن الوحي كلام يُسْمَع بالسرعة، وليس فيه دلالة على كون المتكلم محجوبًا عن نظر السامع، أو غير محجوب عن نظره.

وعن قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى} الآية [البقرة: 55] أن الاستعظام لِمَ لا

ص: 40

يجوز أن يكون لأجل طلبهم الرؤية على سبيل التعنت والعناد؟، بدليل الاستعظام في نزول الملائكة في قوله:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} [الفرقان: 21]، ولا نزاع في جواز ذلك.

والجواب عن قولهم: لو صحت رؤية اللَّه تعالى. . . إلخ أن عدم الوقوع لا يستلزم عدم الجواز، فإن قالوا: الرؤية لا تتحقق إلا بثمانية أشياء: سلامة الحاسّة، وكون الشيء بحيث يكون جائز الرؤية، وأن يكون المرئي مقابلًا للرائي، أو في حكم المقابل، فالأول كالجسم المحاذي للرائي، والثاني كالأعراض المرئية، فإنها ليست مقابلة للرائي؛ إذ العَرَض لا يكون مقابلًا للجسم، ولكنها حالّة في الجسم المقابل للرائي، فكان في حكم المقابل، وأن لا يكون المرئيّ في غاية القرب، ولا في غاية البعد، وأن لا يكون في غاية الصِّغَر، ولا في غاية اللطافة، وأن لا يكون بين الرائي والمرئي حجاب.

قلنا: الشرائط الستة الأخيرة لا يمكن اعتبارها إلَّا في رؤية الأجسام، واللَّه تعالى ليس بجسم فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط في رؤيته، ولا يعتبر في حصول الرؤية إلَّا أمران: سلامة الحاسّة، وكونه بحيث يصحّ أن يُرَى وهذان الشرطان حاصلان. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره صاحب "العمدة" في الردّ على نفاة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، إلا أن قوله:"واللَّه تعالى ليس بجسم" فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه لم يأت نصّ في جواز إطلاق الجسم على اللَّه تعالى، ولا في منعه، فلا ينبغي الخوض فيه، فتنبّه.

وقد ذكر العلامة ابن أبي العزّ رحمه الله في "شرح العقيدة الطحاويّة" بحثًا نفيسًا في مسألة الرؤية، بما يكفي ويشفي، فراجعه تستفد علمًا جمًّا

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 43.

(2)

راجع: "شرح العقيدة الطحاويّة" لابن أبي العزّ (ص 189 - 201).

ص: 41

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1436]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَوَكِيعٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ

(1)

: "أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ، فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ"، وَقَالَ: ثُمَّ قَرَأَ، وَلَمْ يَقُلْ: جَرِيرٌ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة، تقدّم قبل باب.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) هكذا النسخ، بدون ذكر إسماعيل بن أبي خالد، وهذا خلاف عادته، وذلك أنه إذا أحال بقيّة الإسناد ذكر الشيخ الذي تلتقي فيه الأسانيد، ولعلّه هنا سقط من النسّاخ، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَ) وفي نسخة: "قال" بدون واو، والظاهر أن الفاعل ضمير شيخه أبي بكر بن أبي شيبة.

وقوله: (سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ) ببناء الفعل للمفعول، قال في "القاموس": عَرَضَ له كذا يَعْرِضُ: ظهر عليه، وبدا، كعَرِضَ، كسَمِعَ، والشيءَ له:"أظهر له، وعليه" أراده إيّاه، والْعُودَ على الإناء، والسيفَ على فخذه يَعْرِضُهُ وَيَعْرُضُهُ فيهما، والجندَ عَرْضَ عَيْنٍ: أمرَّهُم عليه، ونظر حالهم. انتهى باختصار

(2)

.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن إسماعيل، ساقها الترمذيّ رحمه الله، فقال:

(2474)

حدّثنا هنّاد، حدّثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد اللَّه البجليّ، قال: كنا جلوسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم ستُعْرَضون على ربكم،

(1)

وفي بعض النسخ: "قال" بدون واو.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 334.

ص: 42

فترونه كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ فـ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [ق: 39]، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

وأما رواية أبي أسامة، فساقها أبو داود في "سننه" مقرونًا بجرير بن عبد الحميد، ووكيع، فقال:

(4729)

حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جرير، ووكيع، وأبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد اللَّه، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جلوسًا، فنظر إلى القمر ليلة البدر ليلة أربع عشرة، فقال:"إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ هذه الآية فـ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]. انتهى.

وأما رواية ابن نمير، فساقها ابن ماجه رحمه الله، مقرونًا بوكيع، وأبي معاوية، فقال:

(177)

حدّثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير، حدّثنا أبي، ووكيع (ح) وَحدّثنا عليّ بن محمد، حدّثنا خالي يعلى، ووكيع، وأبو معاوية، قالوا: حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد اللَّه، قال: كنّا جلوسًا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، قال:"إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1437]

(634) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابنِ

ص: 43

أَبِي خَالِدٍ، وَمِسْعَرٍ، وَالْبَخْتَرِيِّ بْنِ الْمُخْتَارِ، سَمِعُوهُ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا"، يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(مِسْعَر) بن كِدام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

4 -

(الْبَخْتَرِيِّ بْنِ الْمُخْتَارِ) هو: البَخْتَريّ بن أبي البَخْتَريّ -بفتح الموحّدة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح المثنّاة، وكسر الراء- واسم أبيه المختار بن رُوَيح العبديّ البصريّ، صدوق [6].

رَوَى عن أبي بكر، وأبي بُردة ابني أبي موسى الأشعريّ، وأبي بكر بن عُمارة، وغيرهم.

ورَوى عنه شعبة، وعيسى بن يونس، ووكيع، وابن أخيه محمد بن بِشر بن الفُرَافِصَة بن المختار العبديّ، وغيرهم.

قال شعبة: كان كخير الرجال، وقال وكيع: كان ثقةً، وقال ابن المديني: ثقةٌ، وقال البخاري: يُخَالِف في بعض حديثه، وقال ابن عديّ: ليس له كثير رواية، ولا أعلم له حديثًا منكرًا.

قال عمرو بن عليّ: مات سنة (148).

قال الحافظ الْمِزّيّ رحمه الله: فَرَّق في الأصل -يعني صاحب الكمال- بين البختريّ بن أبي البختريّ، والبختريّ بن المُخْتَار، وهما واحد، والحديث الذي أخرجاه -يعني مسلمًا والنسائي- وهو من رواية وكيع عنه، عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة.

قال الحافظ رحمه الله: قد سبقه إلى التفرقة بينهما البخاريّ وابن حبان في

ص: 44

"الثقات"، فذكر ابن أبي البختريّ في التابعين، ثم قال في أتباع التابعين: البختريّ بن المختار؛ كان يُخطئ، وأَرَّخ وفاته كما قال عمرو بن عليّ. اهـ.

أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وله عندهما هذا الحديث فقط.

5 -

(أَبُو بَكْرِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ) -براء وموحّدة مصغّرًا- الثقفيّ الكوفيّ، ثقةٌ

(1)

[3].

رَوَى عن أبيه، وعنه مِسْعَر بن كِدَام، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وغيرهم.

وثقه ابن حبان، وقال الذهبيّ في "الكاشف": ثقةٌ

(2)

.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله عندهم هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

6 -

(أَبُوهُ) عُمارة بن رُؤَيبة الثقفيّ، أبو زُهَير، صحابيّ نزل الكوفة، وتأخّر إلى ما بعد الستين.

وفي "تهذيب التهذيب"(7/ 416): رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ رضي الله عنه، ورَوى عنه ابنه أبو بكر بن عُمارة، وأبو إسحاق السَّبِيعِيّ، وعبد الملك بن عُمَير، وحُصَين بن عبد الرحمن.

قال الحافظ رحمه الله: الراوي عن عليّ آخَرُ غيره؛ وبيان ذلك أن ابن أبي حاتم ذكر في "الجرح والتعديل": عُمَارَةَ بن رُويبة رَوَى عن عليّ بن أبي طالب أنه خَيَّره بين أبيه وأمه، وهو صغير، فاختار أمَّه، رَوَى عنه يونس الْجَرميّ، فتبيّن أنه غيره، الصحابيّ، ثقفيّ، والراوي عن عليّ جَرْميّ، ولأن الذي رَوَى عن عليّ كان صغيرًا في زمن عليّ، فليس بصحابيّ. واللَّه أعلم. انتهى.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله عندهم حديثان فقط

(3)

، هذا الحديث عند المصنّف، برقم (634) وأعاده بعده، وعند أبي داود برقم (427) وعند النسائيّ برقم (471 و 487)، وحديث: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

قال في "التقريب": مقبول، والحقّ أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم في الأصول، فهو ثقةٌ عنده، ووثّقه ابن حبّان، والذهبيّ، فتنبّه.

(2)

"الكاشف" 3/ 316.

(3)

له تسعة أحاديث، انفرد مسلم بحديثين. انتهى. "قرّة العين"(ص 325).

ص: 45

ما يزيد على أن يقول بيده. . . " عند المصنّف برقم (874) وعند أبي داود برقم (1104) وعند النسائيّ برقم (1412).

والباقون تقدّموا قبله، واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين إلا شيخه إسحاق، فمروزيّ، والبَخْتَريّ فبصريّ.

3 -

ومنها: أن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا حديثان فقط، كما أسلفته آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَارَةَ) بضمّ العين المهملة، وتخفيف الميم (ابْنِ رُؤَيْبَةَ) بضم الراء، بعدها همزة، وتُبدل واوًا (عَنْ أَبِيهِ) عُمارة بن رُؤيبة رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى) وفي الرواية التالية: "لا يلج النار من صلّى" (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا"، يَعْنِي) أي يقصد بهذا (الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ) أي داوم على أداء صلاتهما، قال القرطبي رحمه الله: أي لن يدخل النار من عاهد وحافظ على هاتين الصلاتين ببركة المداومة عليهما. انتهى

(1)

.

وقال في "المنهل": المراد أنه لا يدخلها أصلًا للتعذيب، بل يدخلها أو يَمُرُّ عليها تَحِلَّةَ القسمِ، وهذا إذا وُفِّقَ لِبَقِيَّةِ الأعمال، أو لا يدخلها على وجه التأبيد، وهذا لا ينافي أنه قد يُعَذَّبُ؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرون من المفلس؟ "، قالوا: المفلس فينا من لا درهمَ له، ولا مَتَاعَ، فقال: "إن المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فَيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت

(1)

"المفهم" 2/ 262.

ص: 46

حسناته قبل أن يُقْضَى ما عليه أخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَت عليه، ثم طُرِحَ في النار"، رواه مسلم

(1)

. انتهى

(2)

.

وإنما خَصَّ هاتين الصلاتين بالذكر؛ لأن وقتَ الصبح وقتُ لَذَّةِ النوم، والقيامُ فيه أشقّ على النفس من القيام في غيره، ووقتُ العصر وقتُ قوَّةِ الاشتغال بالتجارة أو غيرها، فلا يَتَفَرَّغُ للصلاة فيه إلا مَن كان قَوِيَّ الإيمان، كما قال اللَّه تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} الآية [النور: 37].

فالمسلم إذا حافَظَ على هاتين الصلاتين مع ما فيه من التثاقل والتشاغل كان الظاهر من حاله أن يحافظ على غيرهما أشَدَّ، ولأن الوقتين مشهودان، تشهدهما ملائكة الليل، وملائكة النهار، وتُرْفَعُ فيهما الأعمال إلى اللَّه تعالى، فبالحَرِيِّ أن من داوم عليهما لا يدخل النار أصلًا، ويدخل الجنة؛ لصيرورة ذلك مكفرًا لذنوبه، وإن كان هذا ينافي ما عليه الجمهور من اختصاص كفارة الصلاة بالصغائر، ولكن فضل اللَّه واسع.

وقيل: خُصَّتَا بالذكر؛ لأن أكرم أهل الجنة على اللَّه من ينظر إلى وجهه غَدْوَةً، وعَشِيَّةً، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد، والترمذيّ

(3)

.

(فَقَالَ لَهُ) أي لعُمارة بن رؤيبه رضي الله عنه (رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) اسمه إسماعيل، كما بيّنه في "الإصابة"، ونصّه:

(140)

إسماعيلُ رجل من الصحابة، نزل البصرة، رَوَى مسلم من طريق وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، ومِسْعَر بن كِدام، والْبَخْتريّ بن المختار، والنسائيّ من طريق أبي إسحاق السبيعيّ، ومسلم أيضًا من طريق عبد الملك بن عُمير، كلهم عن أبي بكر بن عُمارة بن رُويبة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار رجل صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها".

(1)

سيأتي للمصنّف في "كتاب البرّ والصلة" برقم (2581).

(2)

"المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود" 4/ 7.

(3)

راجع: "المرعاة في شرح المشكاة" 2/ 331.

ص: 47

ورَوَيناه في خبر عبد اللَّه الجابريّ

(1)

قال: حدّثنا ابن أبي المثنى، حدّثنا جعفر بن عون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن عُمارة بن رُويبة، قال: جاء شيخ من أهل البصرة إلى أبي، فقال: حدِّثنا ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكره، فقال الشيخ: أنت سمعته؟ قال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، فقال الشيخ: وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوله، وما علمت أحدًا وافقني عليه.

ورواه ابن خزيمة في "صحيحه"

(2)

عن بُندار، عن يزيد بن هارون، عن إسماعيل، فقال فيه: شيخٌ من أهل البصرة، يقال له: إسماعيل، أخرجه ابن منده، عن إبراهيم بن محمد، عن ابن خزيمة.

ولا نَعْرِف تسمية هذا الشيخ إلا في هذه الرواية، وهي رواية صحيحة، واللَّه أعلم. انتهى

(3)

.

(آنْتَ) بالمدّ، أصله "أأنت" بهمزتين، أولاهما همزة الاستفهام، فأبدلت الثانية مدًّا، ويجوز تحقيقها (سَمِعْتَ هَذَا) الحديث (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) عمارة رضي الله عنه (نَعَمْ) وفي رواية أبي عوانة في "مسنده":"قال: نعم سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتّى ردّد عليه ثلاثًا"، وفي رواية أبي نعيم في "مستخرجه":"قال: نعم، أشهد لسمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، سمعته أذناي، ووعاه قلبي"(قَالَ الرَّجُلُ) البصريّ (وَأَنَا أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ) أشار إلى دفع المجاز في السماع، وذلك بأن يسمعه عن شخص سمعه منه صلى الله عليه وسلم، ثم يسنده إليه تجوّزًا، وقوله:(وَوَعَاهُ قَلْبِي) أشار به إلى أنه لم ينسه منذ أسمعه منه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

هكذا نسخة "الإصابة""في خبر" بالخاء، والباء، ولعل الصواب في "جزء عبد اللَّه الجابريّ" بالجيم والزاي، فليُحرّر، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

لا يوجد في النسخة المطبوعة من "صحيحه" 1/ 164، ولعله لاختلاف النسخ، واللَّه تعالى أعلم.

(3)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 65.

ص: 48

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عُمَارة بن رُؤَيْبَةَ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1437 و 1438](634)، و (أبو داود) في "الصلاة"(427)، و (النسائيّ) فيها (471 و 487)، وفي "الكبرى"(354)، و (الحميديّ) في "مسنده"(861)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 386)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 136 و 261)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(318 و 319 و 320)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1738 و 1740)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1113 و 1115)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1413 و 1414)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 466)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(382 و 383)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): وهو بيان فضل صلاتي العصر والفجر، والمحافظة عليهما.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من حرصهم على طلب العلم، والتثبّت في نقله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1438]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا"، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: آنْتَ سَمِعْتَ

(2)

هَذَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَ: نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ

(3)

عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ بِالْمَكَانِ الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنْهُ).

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "فقال: أنت سمعت".

(3)

وفي نسخة: "قال: نعم، وأشهد به".

ص: 49

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252) وله (96) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209، وهو أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرِ) واسمه نَسْر

(1)

الكرمانيّ كوفيّ الأصل، نزل بغداد، ثقةٌ [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

4 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْر) بن سُويد اللَّخْميّ الفرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

والباقيان تقدّما قبله.

وقوله: (عَنِ ابْنِ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ) هو أبو بكر المذكور في السند الماضي.

وقوله: (لَا يَلِجُ النَّارَ)"لا" هنا نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها.

وقوله: (بِالْمَكَانِ الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنْهُ) ظاهره أنه سمعه مع عمارة في مكان واحد، فعلى هذا يكون قوله:"أنت سمعته. . . إلخ" من باب التأكيد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1439]

(635) - (وَحَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي

(2)

أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ الْأَزْدِيُّ) القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ويقال له: هُدْبةُ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

(1)

بفتح النون، وسكون السين المهملة.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 50

2 -

(هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى) بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ) نصر بن عمران بن عِصَام البصريّ، نزيل خُرَاسان، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

4 -

(أَبُو بَكْر) بن أبي موسى الأشعريّ، اسمه عمرو، أو عامر الكوفيّ، ثقة [3](ت 106) وكان أسنّ من أخيه أبي بُردة (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

[تنبيه]: اختُلف في أبي بكر هذا، هل هو ابن أبي موسى، أو هو أبو بكر بن عُمارة المذكور في الحديث الماضي؟.

فصنيع الشيخين أنه الأول، فأما المصنّف فقد صرّح في الطريق التالية بأن بشر بن السريّ، وعمرو بن عاصم نسبا أبا بكر، فقالا: ابن أبي موسى.

فهذا يدل على أن المصنّف رحمه الله يرى ترجيح كون أبي بكر هنا هو أبا بكر بن أبي موسى الأشعريّ، لا أبا بكر بن عمارة.

وأما البخاريّ، فقد أخرجه عن هُدْبة بن خالد بسند المصنّف، وفيه: عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، ثم قال: وقال ابن رجاء: حدّثنا همّام، عن أبي جمرة، أن أبا بكر بن عبد اللَّه بن قيس أخبره بهذا، ثم رواه من طريق حَبّان بن هلال، وفيه: عن أبي بكر بن عبد اللَّه، عن أبيه. انتهى.

قال في "الفتح": أبو بكر هو ابن أبي موسى الأشعريّ، بدليل الرواية التي بعده، حيث وقع فيها أن أبا بكر بن عبد اللَّه بن قيس، وعبد اللَّه بن قيس هو أبو موسى، وقد قيل: إنه أبو بكر بن عُمارة بن رُويبة، والأول أرجح.

وقال أيضًا: فاجتمعت الروايات عن همام بأن شيخ أبي جمرة هو أبو بكر بن عبد اللَّه، فهذا بخلاف مَن زَعَم أنه ابنُ عُمارة بن رُويبة، وحديث عمارة أخرجه مسلم وغيره من طُرُق عن أبي بكر بن عمارة، عن أبيه، لكن لفظه:"لن يلج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها"، وهذا اللفظ مغاير للفظ حديث أبي موسى، وإن كان معناهما واحدًا، فالصواب أنهما حديثان. انتهى.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما أبو بكر فقد أشار البخاريّ إلى أنه أبو بكر بن أبي موسى الأشعريّ عبدِ اللَّه بن قيس، واستشهَدَ له بشيئين:

ص: 51

[أحدهما]: رواية ابن رجاء التي ذكرها تعليقًا عنه، عن همّام، عن أبي جمرة أن أبا بكر بن عبد اللَّه بن قيس أخبره.

[والثاني]: أنه أسنده من رواية حَبّان بن هلال، عن همّام، ثنا أبو جمرة، عن أبي بكر بن عبد اللَّه - وهو ابن أبي موسى، عبد اللَّه بن قيس.

وأخرجه مسلم من طريق بشر بن السريّ، وعمرو بن عاصم قالا: ثنا همّام بهذا الإسناد، ونسبا أبا بكر، فقالا: ابنُ أبي موسى.

قال: وإنما احتيج إلى هذا؛ لاختلافٍ وقع بين الحفّاظ في نسبة أبي بكر هذا.

فمنهم من قال: هو أبو بكر بن أبي موسى، وتصرُّف الشيخين في "صحيحيهما" يدلّ على ذلك.

ومنهم من قال: هو أبو بكر بن عُمَارة بن رؤيبة، واستدلُّوا بما أخرجه مسلم من رواية وكيع، عن ابن أبي خالد، ومشعَرٍ، والبَخْتريّ بن المختار، سمعوا من أبي بكر بن عُمارة بن رؤيبة، عن أبيه، قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يلج النار أحدٌ صلَّى قبل طلوع الشمس. . . " الحديث.

فمن هنا قال بعضهم: أبو بكر الذي روى عنه أبو جمرة هو ابن عُمارة بن رؤيبة، عن أبيه عُمارة بن رؤيبة؛ لأن معنى الحديثين متقارب.

قال ابن أبي خيثمة في "كتابه": سألت يحيى بن معين عن أبي بكر الذي رَوَى حديث البردين من أبوه؟ قال: يَرَون أنه أبو بكر بن أبي موسى، فلذلك استغربوه، قال: فقال له أبي: يُشبه أن يكون أبا بكر بن عُمارة بن رؤيبة؛ لأنه يروي عن أبيه عُمارة: "من صلَّى قبل الغداة، وقبل غروب الشمس".

وقال صالح بن محمد، عن عليّ ابن المدينيّ: هو عندي أبو بكر بن عُمارة؛ لأن معنى الحديثين واحدٌ، قيل له: إن أبا داود الطيالسيّ، وهُدبة نسباه، فقالا: عن أبي بكر بن أبي موسى؟ فقال: ليسا ممن يَضبِط هذا، حدّثناه بهزٌ وحَبّان، ولم ينسباه.

قال أبو بكر الخطيب: قد نسبه جماعة عن همّام، منهم بشر بن السريّ، وعبد اللَّه بن رجاء، وعمرو بن عاصم، وللناسب فضلُ تَعَرُّفٍ وبيانٍ على من لم ينسبه، قال: وكان عفّان ينسبه كذلك حتى قال له بُلْبُلٌ، وعليّ ابن المدينيّ: إنه

ص: 52

أبو بكر بن عُمارة، فترك نسبته، وقال: عن أبي بكر، عن أبيه

(1)

.

ونَقَل الْبَرْقَانيّ، عن الدارقطنيّ أنه كان يقول: هو أبو بكر بن عُمارة بن رؤيبة.

وعن الإسماعيليّ، عن مطيَّن مثله.

وقال أبو الحسن الْعَقِيليّ

(2)

: اختُلف فيه، فالأقوى أنه أبو بكر بن أبي موسى الأشعريّ، عن أبيه، ويقال: هو أبو بكر بن عُمارة بن رؤيبة، عن أبيه، وكذلك قال مطيَّنٌ، وإليه يميل شيخنا أبو الحسن -يعني الدارقطنيّ رحمه الله. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن أبا بكر هنا هو ابن أبي موسى الأشعريّ؛ لأمور:

[أحدها]: اتفاق الشيخين على ترجيح هذا.

[الثاني]: أن الذين نسبوه ثقات حفّاظ، يُعتمد على زيادتهم، وهم: حَبّان بن هلال، وعبد اللَّه بن رجاء، عند البخاريّ، وبشر بن السريّ، وعمرو بن عاصم عند المصنّف، فزيادة هؤلاء مقبولة، ولا يضرّهم من لم ينسبه؛ فمن حفظ حجة على من لم يحفظ.

[الثالث]: أن الذين رجّحوا كونه ابن عُمارة حجتهم كون الحديث هذا بمعنى حديث ابن عمارة الماضي، وهذا لا يكفي حجةً، فكم من أحاديث تتشابه بمعناها، وتكون أسانيدها مختلفة.

(1)

وعبارة أبي عوانة في "مسنده"(1/ 315): قال عفّان: كان همّام قال لنا: عن أبي بكر بن أبي موسى، فقال لي بلبل، وعليّ ابن المدينيّ: إنما هو عن أبي بكر بن عُمارة بن رؤيبة، عن أبيه، فأنا أقول: أبو بكر، عن أبيه، وقال حبّان: عن أبي بكر بن عبد اللَّه، عن أبيه. انتهى.

(2)

هو: عيسى بن زيد بن عيسى بن زيد بن محمد بن عَقِيل، بفتح العين الأديب الشافعيّ، مترجم في "الأنساب" للسمعانيّ 4/ 218، وهو غير أبي جعفر الْعُقيليّ، صاحب الضعفاء.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 416 - 419.

ص: 53

والحاصل أن كونه ابن أبي موسى هو الأرجح، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(أَبُوهُ) أبو موسى الأشعريّ، عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، إلى أبي بكر، وهو وأبوه كوفيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبي جمرة، عن أبى بكر، وهو من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكنى، سوى همّام، وهدّاب.

5 -

(ومنها): أن هدّابًا يقال له هُدْبة -بضمّ، فسكون- واختلف في أيهما الاسم، وأيهما اللقب؟.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، أمّره عمر، ثم عثمان رضي الله عنه، وهو أحد الحَكَمين بصفّين، وكان حسن الصوت بالقرآن، فقد أخرج الشيخان أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له لَمّا سمع قراءته:"يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود"، وفي رواية لمسلم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي موسى:"لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود"، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرٍ) تقدّم الخلاف في اسمه قريبًا (عَنْ أَبِيهِ) أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ) تثنية بَرْد -بفتح الباء الموحّدة، وسكون الراء- والمراد بهما: صلاة الفجر والعصر.

قال القرطبي: قال كثير من العلماء: البردان: الفجر والعصر، وسمّيا بذلك؛ لأنهما يفعلان في وقت البرد.

وقال الخطابيّ: لأنهما يصليان في بردي النهار، وهما طرفاه، حين يطيب الهواء، وتذهب سَوْرَة الْحَرّ.

ص: 54

وقال السفاقسيّ رحمه الله عن أبي عبيدة: المراد الصبح والعصر والمغرب، وفيه نظر؛ لأن المذكور تثنية، ومع هذا لم يتبعه على هذا أحد.

وقال في "الفتح": المراد صلاة الفجر والعصر، ويدلّ على ذلك قوله في حديث جرير رضي الله عنه:"صلاةٌ قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها"، زاد في رواية لمسلم:"يعني العصر والفجر"، قال الخطابيّ: سمّيتا بردين؛ لأنهما تصليان في بردي النهار، وهما طرفاه، حين يطيب الهواء، وتذهب سَوْرة الحرّ.

ونقل عن أبي عبيد أن صلاة المغرب تدخل في ذلك أيضًا، وقال القزّاز في توجيه اختصاص هاتين الصلاتين بدخول الجنة دون غيرهما من الصلوات ما مُحَصَّله: إن "مَن" موصولة، لا شرطية، والمراد الذين صَلَّوهما أولَ ما فُرِضت الصلاة، ثم ماتوا قبل فرض الصلوات الخمس؛ لأنها فُرِضت أوّلًا ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشيّ، ثم فُرضت الصلوات الخمس، فهو خبر عن ناس مخصوصين، لا عموم فيه.

قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلُّف، والأوجه أن "مَن" في الحديث شرطية، وقوله:"دَخَلَ الجنّةَ" جواب الشرط، وعَدَلَ عن الأصل، وهو فعل المضارع، كأن يقول: يدخل الجنة؛ إرادةً للتأكيد في وقوعه، بجعل ما سيقع كالواقع، كما في قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية [الأعراف: 44]. انتهى

(1)

.

وعبارة "العمدة": وزَعَم القَزّاز أنه اجتهد في تمييز هذين الوقتين؛ لعظم فائدتهما، فقال: إن اللَّه تعالى أدخل الجنة كلَّ مَن صلّى تلك الصلاة، ممن آمن به في أول دعوته، وبَشَّر بهذا الخبر أن مَن صلاهما معه في أول فرضه إلى أن نُسِخ ليلة الإسراء أدخلهم اللَّه الجنة، كما بادروا إليه من الإيمان؛ تفضلًا منه تعالى. انتهى.

قال العينيّ رحمه الله: كلامه يؤدّي إلى أن هذا مخصوص لأناس معينين، ولا عموم فيه، وأنه منسوخ، وليس كذلك من وجوه:

(1)

"الفتح" 2/ 64 بزيادة الآية.

ص: 55

(الأول): أن راويه أبا موسى سمعه في آواخر الإسلام، وأنه فَهِمَ العموم، وكذا غيره فَهِم ذلك؛ لأنه خير فضل لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته.

الثاني: أن الفضائل لا تُنْسَخ.

الثالث: أن كلمة "مَن" شرطية، وقوله:(دَخَلَ الْجَنَّةَ) جواب الشرط، فكلُّ من أتى بالشرط، فقد استحقّ المشروط؛ لعموم كلمة الشرط.

ولا يقال: إن مفهومه يقتضي أن مَن لم يصلها لم يدخل الجنة؛ لأنا نقول: المفهوم ليس بحجة

(1)

.

وأيضًا فإن قوله: "دخل الجنة" خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن مَن صلاهما، وراعاهما انتَهَى عما ينافيهما، من فحشاء ومنكر؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أو يكون آخر أمره دخول الجنة.

وأما وجه التخصيص بهما، فهو لزيادة شرفهما، وترغيبًا في حفظهما؛ لشهود الملائكة فيهما. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: والبردان: صلاة الصبح والعصر؛ لأنهما تُصلّيان في برد النهار من أوله، وأما الظهر فتُسمّى الْهَجِير، كما في حديث أبي بردة؛ لأنها تُصلّى بالهاجرة، ويقال للعصر والفجر: العصران، كذلك رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث فضالة الليثيّ، وأنه أوصاه بالمحافظة عليهما، أخرجه أحمد، وأبو داود.

وصلاة الصبح من صلاها فهو في ذمة اللَّه، كما في حديث جندب بن عبد اللَّه يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلّى الصبح، فهو في ذمة اللَّه، فلا تُخفروا اللَّه في ذمته"، رواه مسلم، وفي رواية له:"فلا يطلبنكم اللَّه من ذمته بشيء، فيدركه، فيَكُبّه في نار جهنم".

وقد رُوي مثله في صلاة العصر أيضًا أخرجه نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" عن عبد العزيز الدراورديّ، عن زيد بن أسلم، عمن حدّثه أن

(1)

هذا مذهب العينيّ، وهو مذهب الحنفيّة، والجمهور يرون كونه حجة بشروط مذكورة في كتب الأصول، فتنبّه.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 71 - 72.

ص: 56

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من صلّى الصبح كان في جوار اللَّه حتى يُمسي، ومن صلى العصر كان في جوار اللَّه حتى يُصبح، فلا تُخفروا اللَّه في جِواره، فإنه من أخفر اللَّه في جواره طلبه اللَّه، ثم أدركه، ثم كبّه على منخره"، أي في جهنّم. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [138/ 1439 و 1440](635)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(574)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 80)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 331 - 332)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1739)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1117)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1415)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 466)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2/ 228)، وفوائد الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1440]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَنَسَبَا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَا: ابْنُ أَبِي مُوسَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ) أبو عمرو الأفوه البصريّ، سكن مكة، وكان

(1)

"فتح الباري" لابن رجب: 4/ 419 - 420.

ص: 57

واعظًا، ثقةٌ متقن، طُعن فيه برأي جهم،، ثم اعتَذَر وتاب [9](ت 5 أو 196)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(ابْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش، أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242)(م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.

4 -

(عَمْرُو بْنُ عَاصِم) بن عبيد اللَّه الكلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ، في حفظه شيءٌ من صغار [9](ت 213)(ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

و"همّام" ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَا جَمِيعًا) ضمير التثنية فيه، وفي "نَسَبَا" لبشر بن السريّ، وعمرو بن عاصم.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد همّام السابق، وهو: عن أبي جمرة، عن أبي بكر، عن أبيه.

[تنبيه]: رواية بشر بن السريّ، وعمرو بن عاصم، عن همّام هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 233) فقال:

(1415)

حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، من أصل كتابه، ثنا أبو شعيب الحرّانيّ، ثنا عفان، ثنا همام، عن أبي جمرة، وعبد اللَّه بن محمد بن حيان، قالا: ثنا أحمد بن عليّ، ثنا هدبة بن خالد، ثنا همام، ثنا أبو جمرة (ح) وحدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن أحمد الخزاعيّ، ثنا محمد بن أبي عمر، ثنا بشر بن السريّ، ثنا همّام

(1)

، عن أبي جمرة الضبعيّ، وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا حمزة، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا عمرو بن عاصم، ثنا همام، ثنا أبو جمرة الضبعيّ، عن أبي بكر، عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من صلّى البردين دخل الجنة"، لفظهم واحد.

قال عمرو بن عاصم: "عن أبي بكر بن أبي موسى"، وسمّاه، ونسبه إلى أبيه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا أفرد أبو نعيم عمرو بن عاصم بقوله: "عن أبي بكر بن أبي موسى"، وهو مخالف لما قاله المصنّف، حيث جعل معه

(1)

وقع في النسخة: "حماد"، وهو غلط، فتنبّه.

ص: 58

بشر بن السريّ، ولعله وقع المصنّف له عنهما جميعًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(39) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَاستِحْبَابِ التَّعْجِيلِ بِهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1441]

(636) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِمُ، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميّ، مولى سلمة بن الأكوع المدنيّ، ثقةٌ [4] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ المشهور، شهد بيعة الرضوان، ومات رضي الله عنه سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (87) من رباعيّات الكتاب، وهو من ثلاثيّات البخاريّ رحمه الله، فإنه رواه عن شيخه المكيّ بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة رضي الله عنه.

ص: 59

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة أيضًا.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، كان شجاعًا، راميًا، وكان يَسبق الفرس شَدًّا على قدميه، فلما قُتل عثمان رضي الله عنه خرج من المدينة، فسكن الرَّبَذَة، وتزوّج بها امرأةً، فولدت له أولادًا، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال، فنزل المدينة، فمات بها، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ) أي ساعة تغرُب، وهذا يدلّ على تأهّبه لها قبل وقتها، ومُراقبة وقتها، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

. (وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي استترت بما يحجبها عن الأبصار، يعني به غيبوبة جِرْم الشمس، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

ولفظ أبي عوانة من طريق صفوان بن عيسى، عن يزيد بن أبي عُبيد:"كان يصلي المغرب ساعة غربت الشمس، حين يغيب حاجبها".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إذا غربت الشمس، وتوارت بالحجاب" اللفظان بمعنًى، وأحدهما تفسيرٌ للآخر، وفي هذين الحديثين

(3)

أن المغرب تُعَجّل عقب غروب الشمس، وهذا مجمع عليه، وقد حُكِي عن الشيعة فيه شيء لا التفات إليه، ولا أصل له، وأما الأحاديث السابقة في تأخير المغرب إلى قريب سقوط الشفق، فكانت لبيان جواز التأخير، كما سبق إيضاحه، فإنها كانت جواب سائل عن الوقت، وهذان الحديثان إخبار عن عادة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتكررة التي واظب عليها، إلا لعذر، فالاعتماد عليها، واللَّه أعلم. انتهى

(4)

.

ومما يدلّ على استحباب تعجيل صلاة المغرب، ما أخرجه أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح، عن مَرْثَد بن عبد اللَّه الْيَزنيّ، قال: لَمّا قَدِم علينا أبو

(1)

"المفهم" 2/ 263.

(2)

"المفهم" 2/ 263.

(3)

يعني حديث سلمة رضي الله عنه هذا، وحديث رافع رضي الله عنه بعده.

(4)

"شرح النوويّ" 5/ 135 - 136.

ص: 60

أيوب غازيًا، وعقبة بن عامر يومئذ على مِصْرَ، فأخَّر المغرب، فقام إليه أبو أيوب، فقال له: ما هذه الصلاة يا عقبة؟ فقال: سغِلنا، قال: أما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال أمتي بخير، أو قال: على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب، إلى أن تشتبك النجوم"؟

(1)

.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ بلفظ: "كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغرب إذا توارت بالحجاب"، قال في "الفتح": قوله: "إذا توارت بالحجاب": أي استترت، والمراد الشمس، قال الخطابيّ: لم يذكرها اعتمادًا على أفهام السامعين، وهو كقوله في القرآن:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . انتهى.

وقد رواه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، بلفظ:"إذا غربت السْمس، وتوارت بالحجاب"، فدلّ على أن الاختصار في المتن من شيخ البخاريّ، وقد صرَّح بذلك الإسماعيليّ، ورواه عبد بن حميد، عن صفوان بن عيسى، وأبو عوانة، والإسماعيليّ، من طريق صفوان أيضًا عن يزيد بن أبي عبيد، بلفظ:"كان يصلي المغرب ساعةَ تَغْرُب الشمس، حين يغيب حاجبها"، والمراد حاجبها الذي يبقى بعد أن يغيب أكثرها، والرواية التي فيها "توارت" أصرح في المراد.

قال: واستُدِلّ بهذه الأحاديث على ضعف

(2)

حديث أبي بَصْرَة -بالموحدة، ثم المهملة- رفعه في أثناء حديث:"ولا صلاة بعدها حتى يُرَى الشاهد، والشاهد النجم". انتهى

(3)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله: "توارت" الضمير يعود إلى غير مذكور، وهو الشمس، وقرينة صلاة المغرب يدلّ عليه، وهو كقوله تعالى في قصّة سليمان عليه السلام:{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} [ص: 31 - 32]، فحذف ذكر الشمس؛ لدلالة العشيّ عليها.

(1)

حديث صحيح، صححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.

(2)

دعوى ضعفه فيه نظر؛ لأنه أخرجه مسلم، وسيأتي في موضعه إن شاء اللَّه تعالى.

(3)

"فتح الباري" 2/ 43.

ص: 61

والمعنى بتواريها بالحجاب تواري قُرصها عن أعين الناظرين بما حجبها عنها من الأرض. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 1441](636)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(561)، و (أبو داود) في "الصلاة"(417)، و (الترمذيّ) فيها (164)، و (ابن ماجه) فيها (688)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 54)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 297)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1523)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1062 و 1063 و 1064)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1416)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 446)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(372)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال الحافظ ابن رجب رحمه الله ما حاصله: هذا الحديث، ومثله حديث جابر رضي الله عنه يعني الآتي لمسلم (646):"والمغرب إذا وجبت"، أي يصلي المغرب إذا غربت الشمس يدلان على أن مجرّد غيبوبة القرص يدخل به وقت صلاة المغرب، كما يُفطر به الصائم، وهذا إجماع من أهل العلم، حكاه ابن المنذر وغيره.

قال العلماء: ولا عبرة ببقاء الحمرة الشديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس، وغيبوبته عن الأبصار، ومنهم من حكى رواية عن أحمد باعتبار غيبوبة هذه الحمرة، وبه قال الماورديّ من الشافعيّة، ولا يصحّ ذلك.

وأما إن بقي شيء من شُعاعها على الجدران، أو الجبال، فلا بدّ من ذهابه، وحكى الطحاويّ عن قوم أنهم اعتبروا مع مغيب الشمس طلوع النجم،

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 351 - 352.

ص: 62

ولم يسمّهم، والظاهر أنه قول طائفة من أهل البدع، كالروافض، ونحوهم، ولم يقل ذلك أحدٌ من العلماء المعتدّ بهم.

ورَوَى أبو نعيم الفضل بن دُكين: ثنا إسرائيل، عن طارق، عن سعيد بن الْمُسيّب، قال: كَتَبَ عمر إلى أمراء الأمصار: لا تصلّوا المغرب حتى تشتبك النجوم، وهذا إنما يدلّ على استحباب ذلك، وقد رُوي عن عمر خلاف ذلك موافقةً لجمهور الصحابة رضي الله عنهم.

والأحاديث، والآثار في كراهة التأخير حتى يطلع النجم كثيرة جدًّا، ومن أجودها ما روى محمد بن إسحاق، حدّثني يزيد بن أبي حبيب، عن مَرْثد بن عبد اللَّه، قال: لَمّا قَدِم علينا أبو أيوب غازيًا، وعقبة بن عامر يومئذ على مصر، فأَخَّر المغرب، فقام إليه أبو أيوب، فقال له: ما هذه الصلاة يا عقبة؟ فقال: شُغِلنا، قال: أما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قول: "لا تزال أمتي بخير -أو قال: على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم"، أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم وصحّحه.

وقد خولف ابن إسحاق في إسناده، فرواه حيوة بن شُريح، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، عن أبي أيوب، قال:"كنّا نصلي المغرب حين تجب الشمس"

(1)

، ورواه ابن لَهِيعة، عن يزيد، ورفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال أبو زرعة: حديث حيوة أصحّ.

وأخرج الإمام أحمد معناه من حديث السائب بن يزيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن ماجه من حديث العباس بن عبد المطّلب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد رُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخّر ليلة المغرب حتى طلع نجمان، فأعتق رقبتين كفّارةً لتأخيره، ذكر هذا كله الحافظ ابن رجب رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة أن تعجيل صلاة المغرب هو المستحبّ، وقد تقدّم أن هذا مجمع عليه، ولا اعتداد بمن خالف في ذلك، وسيأتي -إن شاء اللَّه تعالى- الكلام على حديث: "ولا صلاة بعدها

(1)

رواه الطبراني في "الكبير" 4/ 176.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 352 - 354.

ص: 63

حتى يطلُع الشاهد"، في "باب الأوقات المنهيّ عن الصلاة فيها"، فإن للعلماء أقوالًا في تأويله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1443]

(637) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا

(2)

الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو النَّجَاشِيِّ، قَالَ: سَمِعتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: كنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا، وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْن مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) أبو جعفر الجمّال، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو التي قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.

2 -

(الْوَلِيدُ بْن مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(أَبُو النَّجَاشِيِّ) -بفتح النون، وتخفيف الجيم، وبالشين المعجمة- عطاء بن صُهيب -بضم الصاد المهملة- الأنصاريّ، ثقةٌ [4](خ م س ق) تقدم في "المساجد" 34/ 1417.

5 -

(رَافِعُ بْنُ خَدِيج) -بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة، وبالجيم- ابن عديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، أول مشاهده أحُدٌ، ثم الخندق، مات رضي الله عنه سنة (3 أو 74) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 489.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 64

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع إلى آخره.

3 -

(ومنها): أنه مما اتّفق عليه الشيخان، فإن البخاريّ رحمه الله رواه أيضًا عن محمد بن مهران شيخ المصنّف بسنده.

4 -

(ومنها): أنه ما بين رازيّ، وهو شيخه، وشاميينِ، وهما: الوليد، والأوزاعيّ، ومدنيينِ، وهما أبو النجاشيّ، ورافع رضي الله عنهم أجمعين، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي النجاشيّ، عطاء بن صُهيب أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا) أي يسلّم من الصلاة، ويرجع إلى أهله (وَإِنَّهُ) الواو للحال (لَيُبْصِرُ) بضمّ أوله، مبنيًّا للفاعل، من الإبصار، واللام للتأكيد، والجملة حال من "أحدُنا" وقوله:(مَوَاقِعَ نَبْلِهِ) منصوب على المفعوليّة لـ "يُبْصِرُ"، وهو جمع موقع، وهو موضع الوقوع، و"النَّبْلُ" -بفتح النون، وسكون الموحّدة، آخره لام-: السهام العربيّة، وهي مؤنّثة، ولا واحد لها من لفظها، بل الواحد سَهْمٌ، فهي مفردة اللفظ مجموعة المعنى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وإنه لَيُبْصِر مواقع نبله": أي المواضع التي تَصِلُ إليها سهامه إذا رَمَى بها، و"النبل" -بفتح النون، وسكون الموحّدة-: هي السهام العربية، وهي مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، قاله ابن سِيدَهْ، وقيل: واحدها نَبْلةٌ، مثل تَمْرٍ وتَمْرة.

ورَوَى أحمد في "مسنده" من طريق عليّ بن بلال، عن ناس من الأنصار، قالوا:"كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نرجع فنترامى، حتى نأتي ديارنا، فما يخفى علينا مواقع سهامنا"، وإسناده حسن.

ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باقٍ. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 591.

(2)

"الفتح" 2/ 50.

ص: 65

وقال النوويّ رحمه الله: معناه أنه يُبَكِّر بها في أول وقتها بمجرد غروب الشمس، حتى ننصرف، ويرمى أحدنا النبل عن قوسه، ويبصر موقعه؛ لبقاء الضوء.

وقال في "العمدة": معنى الحديث أنه يُبَكِّر بالمغرب في أول وقتها بمجرد غروب الشمس، حتى ينصرف أحدنا، ويرمي النبل عن قوسه، ويبصر موقعه لبقاء الضوء.

قال: ودلّ الحديث المذكور على أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب عند غروب الشمس، وبادر بها بحيث إنه لَمّا فَرَغ منها كان الضوء باقيًا.

وهو مذهب الجمهور، وذهب طاووس، وعطاء، ووهب بن منبه إلى أن أول وقت المغرب حين طلوع النجم، واحتجُّوا في ذلك بحديث أبي بَصْرَة

(1)

الغفاريّ رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العصر بالْمَحْمَض

(2)

، فقال:"إن هذه الصلاة عُرِضت على من كان قبلكم، فَضَيَّعوها، فمن حافظٌ عليها كان له أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يَطْلُع الشاهد"، والشاهد النجم، أخرجه مسلم، والنسائيّ، والطحاويّ.

وأجاب الطحاويّ عنه بأن قوله: "ولا صلاة بعدها حين يرى الشاهد"، يَحْتَمِل أن يكون هو آخر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذكره الليث، ولكن الذي رواه غيره تأوَّل أن الشاهد هو النجم، فقال ذلك برأيه، لا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن الآثار قد تواترت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي المغرب إذا توارت الشمس بالحجاب. انتهى

(3)

.

(1)

و"أبو بَصْرَة" -بفتح الباء الموحدة، وسكون الصاد المهملة- واسمه حُمَيل -بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون الياء، آخر الحروف، وقيل: جَمِيل بالجيم، والأول أصح. انتهى. "عمدة القاري" 5/ 55.

(2)

و"الَمَحْمَض" -بفتح الميمين، وسكون الحاء المهملة، وفي آخره ضاد معجمة- وهو الموضع الذي تَرْعَى فيه الإبل الحمض، وهو ما حَمُضَ، ومَلُح، وأمرَّ من النبات، كالرمث، والأثل، والطرفاء، ونحوها، والخلة من النبت ما كان حُلْوًا، تقول العرب: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها. انتهى. "العمدة" 5/ 55.

(3)

"عمدة القاري" 5/ 55.

ص: 66

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي الكلام على حديث أبي بَصْرة الغفاريّ رضي الله عنه، في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.

[تنبيه]: حديث رافع بن خديج رضي الله عنه هذا قد تقدّم للمصنّف في "باب استحباب التبكير بالعصر" بسياق آخر، ونصّه:

(625)

حدّثنا محمد بن مِهْران الرازيّ، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا الأوزاعيّ، عن أبي النجاشيّ، قال: سمعت رافع بن خديج يقول: "كنا نصلي العصر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم تنحر الجزور، فتقسم عشر قِسَم، ثم تطبخ، فنأكل لحمًا نضيجًا قبل مغيب الشمس".

حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عيسى بن يونس، وشعيب بن إسحاق الدمشقيّ قالا: حدّثنا الأوزاعيّ، بهذا الإسناد، غير أنه قال:"كنا ننحر الجزور على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بعد العصر"، ولم يقل: كنا نصلي معه. انتهى، ولتُراجع شرحه، ومسائله هناك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [39/ 1442 و 1443](637)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(559)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(687)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1417)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4422)، وفوائد الحديث تقدّمت.

(المسألة الثالثة): في ذكر اختلاف ألفاظ هذا الحديث، واختلاف رواته:

(اعلم): أنه رُوي معنى هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم في صلاتهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغرب، إلا أنه لم يخرّج في "الصحيحين" من غير هذه الطريق، قاله ابن رجب رحمه الله

(1)

.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 348.

ص: 67

أخرج أبو داود بإسناد صحيح، عن أنس بن مالك، قال:"كنا نصلي المغرب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نرمي، فيرى أحدنا موضع نبله".

وأخرج النسائيّ بإسناد صحيح أيضًا عن حسان بن بلال، عن رجل من أسلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنهم كانوا يصلون مع نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم يرجعون إلى أهاليهم إلى أقصى المدينة، يرمون، ويُبصرون مواقع سهامهم".

وروى الإمام أحمد، عن هشيم، عن أبي بشر، عن عليّ بن بلال، عن ناس من الأنصار، قالوا:"كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم ننصرف، فنترامى، حتى نأتي ديارنا، فما يخفى علينا مواقع سهامنا".

ورواه عن أبي عوانة، قال: حدثنا أبو بشر، عن علي بن بلال الليثيّ، قال: صليت مع نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فحدثوني أنهم:"كانوا يصلون المغرب، مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم ينطلقون يترامون، لا يخفى عليهم مواقع سهامهم، حتى يأتون ديارهم في أقصى المدينة".

وأخرج أحمد، وابن خزيمة في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال:"كنا نصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نأتي بني سَلِمَة، ونحن نبصر مواقع النبل".

وأخرجه أحمد من رواية عبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل، عن جابر بن عبد اللَّه، قال:"كنا نصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نرجع إلى منازلنا، وهي ميل، وأنا أبصر مواقع النبل".

وعند الطبراني في "المعجم الكبير" من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "كنا نصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم ننصرف، حتى نأتي السوق، وإنَّا لنرى مواضع النبل".

وعن كعب بن مالك رضي الله عنه: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب، ثم يرجع الناس إلى أهليهم ببني سَلِمة، وهم يُبصِرون مواقع النبل حين يرمى بها"، قال أبو حاتم: صحيح مرسلٌ.

قال ابن رجب رحمه الله: وهذا كلّه يدلّ على شدّة تعجيل النبيّ صلى الله عليه وسلم لصلاة المغرب، ولهذا كانت تُسمّى صلاة البصر، كما أخرجه الإمام أحمد، من رواية أبي طَرِيف الهذليّ رضي الله عنه قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حين جاء خبر أهل الطائف،

ص: 68

فكان يصلي بنا صلاة البصر، حتى لو أن رجلًا رَمَى لرأى موقع نبله

(1)

.

قال أحمد بن حنبل: صلاة البصر المغرب

(2)

.

وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان نحوه، ذكره أبو عليّ الطوسيّ في "الأحكام".

قال في "العمدة": فإن قلت: وردت أحاديث تدلّ على تأخيره إلى قرب سقوط الشفق، قلت: هذه لبيان جواز التأخير. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1443]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(4)

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا

(5)

شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي

(6)

أَبُو النَّجَاشِيِّ، حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ، بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

2 -

(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ الدِّمَشْقِيُّ) ابن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن راشد الدّمَشقيّ الأمويّ مولى رَمِلة بنت عثمان، أصله من البصرة، ثقةٌ رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 189)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد" 34/ 1418.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِنَحْوِهِ) يعني أن شُعيب بن إسحاق حدّث عن الأوزاعي، بنحو حديث الوليد، عنه المتقدّم.

[تنبيه]: شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعيّ هذه لم أجد من ساقها تامّةً، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 348 - 351.

(2)

وفسّر بعضهم صلاة البصر بصلاة الفجر، قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (1/ 446 - 447): الأظهر أن صلاة البصر صلاة الفجر. انتهى.

(3)

"عمدة القاري" 5/ 55 - 56.

(4)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(5)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(6)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 69

(40) - (بَابُ بَيَانِ اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1444]

(638) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهِيَ الَّتِي تُدْعَى الْعَتَمَةَ، فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، حِينَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ:"مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ"، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الإِسْلَامُ فِي النَّاسِ، زَادَ حَرْمَلَةُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَنْزُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّلَاةِ

(2)

"، وَذَاكَ

(3)

حِينَ صَاحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ) -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عمران التُّجِيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "للصلاة".

(3)

وفي نسخة: "وذلك".

ص: 70

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ فقيه حجة، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

7 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق أم المؤمنين، ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والقول.

4 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة.

7 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بنت حبيبه رضي الله عنهما، أفقه نساء الأمة، ومن الفقهاء السبعة، روت من الأحاديث (2210)، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (قَالَتْ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي أخّرها حتى اشتدّت عَتَمَةُ الليل، وهي ظلمته، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، وقال في "المصباح": أَعْتَمَ: إذا دخل في العَتَمَة، مثل أصبح: إذا دخل في الصباح. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 137.

ص: 71

و"العَتَمَةُ" محرَّكَةً: ثلثُ الليل الأول بعد غيبوبة الشفق، وقيل: عبارة عن وقت صلاة العشاء الآخرة، وقيل: هي بقية الليل، أفاده في "العمدة"

(1)

.

(لَيْلَةً) منصوبٌ على الظرفيّة متعلّق بـ "أعتم"(مِنَ اللَّيَالِي) متعلّق بصفة لـ "ليلةً"(بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ) متعلق بـ "أَعتم"، أي دَخَلَ بصلاة العشاء العَتَمَةَ، أي أخّر أداءها.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن غالب أحواله صلى الله عليه وسلم تقديمها؛ رفقًا بهم؛ لئلا يشقّ عليهم، كما بيّنه في آخر الحديث.

وقال الخطّابيّ رحمه الله: إنما أخّرهم ليقلّ حظّ النوم، وتطول مدّة الصلاة، فيكثر أجرهم؛ لأنهم في صلاة ما داموا ينتظرونها.

وقال بعض الحكماء: النوم المحمود مقدار ثمان ساعات. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَهِيَ الَّتِي تُدْعَى) بالبناء للمفعول، أي يسمّيها الناس (الْعَتَمَةَ) فيه إشارة إلى أن هذا الاسم مشهور بينهم، وفي "المصنّف": حدّثنا وكيع، حدّثنا شريكٌ، عن أبي فزارة، عن ميمون بن مِهْرَان، قال: قلت لابن عمر: من أول من سمّاها العتمة؟ قال: الشيطان، أفاده في "العمدة"

(3)

.

وسيأتي حديث النهي عن تسمية العشاء بالعتمة آخر الباب -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَلَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته إلى المسجد (حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (نَامَ النِّسَاءُ) بالكسر، ومثله النِسْوَة، بكسر النون أيضًا، أفصح من النُّسوة بضمها، اسمان لجماعة إناث الأناسيّ، الواحدة امرأة من غير لفظ الجمع، أفاده في "المصباح".

(وَالصِّبْيَانُ) بكسر الصاد، وتضم: جمع صَبِيّ، وهو من لدن يُولد إلى أن يُفْطَم، قاله في "اللسان"، وقال في "القاموس": الصَّبِيّ مَن لم يُفْطَم بعد، جمعه أصْبِيَةٌ، وَأصْبٍ، وَصِبْوَة -بالكسر- وصَبْيَة، بالفتح، وصِبْيَةٌ، وصُبْوانٌ، وصُبْيَانٌ بكسر الثلاثة، وتضم. انتهى بإيضاح.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 63.

(2)

"المفهم" 2/ 264.

(3)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 63.

ص: 72

وأراد عمر رضي الله عنه النساء والصبيان الحاضرين في المسجد، لا النائمين في بيوتهم، وإنما خَصّ هؤلاء بالذكر؛ لأنهم مَظِنّة قلة الصبر على النوم، ومحل الشفقة والرحمة بخلاف الرجال.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "نام النساء والصبيان": أي مَن ينتظر الصلاة منهم في المسجد، وإنما قال عمر رضي الله عنه:"نام النساء والصبيان"؛ لأنه ظنَّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما تأخر عن الصلاة ناسيًا لها، أو لوقتها. انتهى

(1)

.

(فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته إلى المسجد (فَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ، حِينَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ: "مَا) نافيةٌ (يَنْتَظِرُهَا) أي صلاة العشاء في هذه الساعة (أَحَدٌ) بالرفع على الفاعليّة (مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ") أي غير أهل المدينة، فقوله:"غيركم" بالرفع صفة لـ "أحدٌ"، ووقع صفة لنكرة؛ لأنه لا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة، لِتَوغّلِهِ في الإبهام، اللهم إلا إذا أضيف إلى المشتهر بالمغايرة، ويجوز أن يكون بدلًا من لفظ "أحد"، ويجوز أن ينتصب على الاستثناء، قاله في "العمدة"

(2)

.

ثم بيّن سبب عدم انتظار غير أهل المدينة لهذه الصلاة بقوله: (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الإِسْلَامُ فِي النَّاسِ) وفي رواية للبخاريّ: "قال: ولا تُصلَّى يومئذ إلا بالمدينة"، ولفظ النسائيّ:"ولم يكن يومئذ أحذ يصلي غيرُ أهل المدينة".

والمراد به أنها لا تُصَلَّى بالهيئة المخصوصة، وهي الجماعة إلا بالمدينة، وبه صرَّح الداوديّ؛ لأن مَنْ كَانَ بمكة من المستضعفين لم يكونوا يصلون إلا سِرًّا، وأما غير مكة والمدينة من البلاد، فلم يكن الإسلام دخلها، قاله في "الفتح"

(3)

.

زاد في رواية البخاريّ: "وكانوا يصلّون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول"، قال في "الفتح": قوله: "وكانوا" أي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي هذا بيان الوقت المختار لصلاة العشاء؛ لما يشعر به السياق من المواظبة على ذلك، وقد ورد بصيغة الأمر في هذا الحديث عند النسائيّ، من رواية

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 137.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 64.

(3)

راجع: 2/ 67.

ص: 73

إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ، عن الزهريّ، ولفظه:"ثم قال: صَلُّوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل"، وليس بين هذا وبين قوله في حديث أنس:"إنه أخّر الصلاة إلى نصف الليل"، معارضة؛ لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(زَادَ حَرْمَلَةُ) بن يحيى (فِي رِوَايَتِهِ)، وقوله:(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) مفعول به لـ "زاد" محكيّ؛ لقصد لفظه، وقوله:(وَذُكِرَ لِي) بالبناء للمفعول مقولُ "قال"(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَنْزُرُوا) هو بتاء مثناة من فوقُ مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم زاء مضمومة، ثم راء: أي تُلِحُّوا عليه، ونقل القاضي عن بعض الرواة أنه ضبطه "تُبْرِزُوا" -بضم التاء، وبعدها باء موحدة، ثم راء مكسورة، ثم زاي- من الإبراز، وهو الإخراج، والرواية الأولى هي الصحيحة المشهورة التي عليها الجمهور.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أن تُبْرِزوا" رواه الرازيّ بالباء، وتقديم الراء، وضمّ التاء، وكسر الراء، من الإبراز، وهو الإخراج، ورواه سائر الرواة:"تَنْزُرُوا" بفتح التاء، وبالنون، وتقديم الزاي، وضمّها، وهو الصحيح، ومعناه الإلحاح عليه في الخروج، وهذا إنما قاله صلى الله عليه وسلم مؤدّبًا لهم، ومعلِّمًا لَمّا صاح عمر رضي الله عنه:"نام النساء والصبيان"، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة لـ "تنزُروا"(عَلَى الصَّلَاةِ") وفي نسخة: "للصلاة"(وَذَاكَ) وفي نسخة: "وذلك" أي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وما كان لكم أن تنزُروا. . . إلخ"(حِينَ صَاحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) أي بقوله: "نام النساء والصبيان".

[تنبيه]: قول ابن شهاب رحمه الله: "وذُكر لي. . . إلخ"، مرسلٌ؛ لم يذكر من ذكره له، قال الحافظ الرشيد العطّار رحمه الله: هكذا هو في كتاب مسلم، وقد أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، والنسائيّ في "سننه"، فلم يذكرا هذه الزيادة التي في آخره من قول الزهريّ، ولا أعلم الآن من أسندها من الرواة، واللَّه عز وجل

(1)

"الفتح" 2/ 60.

(2)

"المفهم" 2/ 266.

ص: 74

أعلم. انتهى كلام العطّار

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1444 و 1445 و 1446](638)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(566 و 569)، وفي "الأذان"(862) وفي (864)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(482)، وفي "المواقيت"(535 و 536)، وفي "الكبرى"(389)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 199 و 215 و 272)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(348)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1535)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1075 و 1076)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1418 و 1419 و 1420)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 374)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(375)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب تأخير صلاة العشاء.

2 -

(ومنها): مشروعية الإعلام للإمام؛ ليخرج إلى الصلاة.

3 -

(ومنها): مشروعيّة تنبيه الصغير للكبير إذا ظنّ أنه غفل عن الصلاة.

4 -

(ومنها): أنه استَدَلَّ به من ذهب إلى أن النوم لا ينقض الوضوء.

قال في "الفتح": ولا دلالة فيه؛ لاحتمال أن يكون الراقد منهم كان قاعدًا متمكنًا، أو لاحتمال أن يكون مضطجعًا لكنه توضأ، وإن لم ينقل، اكتفاءً بما عُرِف من أنهم لا يصلون على غير وضوء.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من اهتمامهم بصلاة الجماعة؛ حتى يحضر النساء والصبيان.

(1)

راجع: "قرّة عين المحتاج في شرح مقدمة صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" 1/ 133.

ص: 75

6 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: إن التأخير المذكور في هذا الحديث وما بعده كلُّه تأخير لم يَخرُج به عن وقت الاختيار، وهو نصف الليل، أو ثلث الليل على الخلاف المشهور الذي قدّمنا بيانه في أول المواقيت. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد قدّمنا أن الراجح أن نصف الليل هو آخر وقت العشاءء، فلا وقت لها بعده، وإن قال به الجمهور؛ لحديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، مرفوعًا:"ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1445]

(. . .) -وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ: وَذُكِرَ لِي، وَمَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المصريّ ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شُعيب بن الليث بن سعد الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصرىّ، ثقةٌ فقيهٌ نَبِيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(عُقَيْل) -بالضمّ- ابن خالد بن عَقِيل -بالفتح- الأيليّ أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، سكن المدينة، ثمّ الشام، ثم مصر [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد ابن شهاد الماضي، وهو: عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 137 - 138.

ص: 76

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل حديث يونس، يعني أن الليث بن سعد حدّث عن ابن شهاب، مثل حديث يونس عنه، لكنه لم يذكر كلام الزهريّ الأخير.

[تنبيه]: رواية الليث هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(566)

حدّثنا يحيى بن بكير، قال: حدّثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة أخبرته، قالت: أعتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلةً بالعشاء، وذلك قبل أن يفشو الإسلام، فلم يخرج حتى قال عمر: نام النساء والصبيان، فخرج، فقال لأهل المسجد:"ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1446]

(. . .) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ:(ح) وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالُوا جَمِيعًا: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: قَالَ: أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ

(1)

أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، وَحَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى، فَقَالَ:"إِنَّهُ لَوَقْتُهَا، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي"، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:"لَوْلَا أَنَّ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي").

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(ح د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْر) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

(1)

وفي نسخة: "ابنة".

ص: 77

4 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن مروان الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

5 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمِصّيصيّ الأعور، أبو محمد، ترمذيّ الأصل، نزل بغداد، ثم الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

6 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

8 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ شهير، عَمِي فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

9 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كان يدلّس ويرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

10 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ) الصنعانيّ الأَبناويّ، ثقة [4].

رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وأبي هريرة، ووهب بن مُنَبِّه، وعبد اللَّه بن سعد بن خيثمة الأنصاريّ، وعمر بن عبد العزيز، وطاووس، وصفية بنت شيبة، وفاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وأم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.

ورَوَى عنه مجاهد، وهو أكبر منه، ونافع مولى ابن عمر، وهو من أقرانه، وعمرو بن شعيب، وبُدَيل بن ميسرة، وصدقة بن يسار، وجرير بن حازم، وابن جريج، وأبو الْعُمَيس، وإبراهيم بن عمر بن كيسان الصنعانيّ، وآخرون.

قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي، والعجلي. وقال الدُّورِيُّ: هو الذي روى عنه ابن جريج، وجرير بن حازم، ليس مغيرة غيره.

وقال عُبَيد بن عمير، عن نافع: سألني عمر بن عبد العزيز عن زكاة

ص: 78

العسل؟ فقلت: أخبرني المغيرة بن حكيم أنه ليس فيه زكاة، فقال: عَدْلٌ مَرْضِيٌّ، فكتب إلى الناس بذلك.

وقال الآجريّ عن أبي داود: المغيرة بن حكيم: أحد الآخذين، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج البخاريّ في التعاليق، والمصنّف هذا الحديث فقط، والترمذيّ، والنسائيّ، وله حديثان، حديث الباب، وحديث:"لا يُقطَعُ الوادي إلا شَدًّا".

11 -

(أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق، أمها حبيبة بنت خارجة، وتُوُفّي أبوها، وهي حَمْلٌ، ثقة [2](بخ م س ق) تقدمت في "الحيض" 21/ 792.

[فائدة]: وقع السؤال عن "أم كلثوم" هل يُمْنَع عجزه من الصرف؛ للعلمية والتأنيث المعنويّ، كما منع في "أبي هريرة"، و"أبي بكرة" للتأنيث اللفظيّ؟.

فأجاب الشيخ محمد الدمياطيّ الخُضَريّ في "حاشيته" على "ألفية ابن مالك" بالفرق بينهما بأن العلة الثانية، وهي التأنيث في "هريرة" تامة مستقلّة به قبل التركيب وبعده، فانضمّت لجزء العلمية الحاصلة بعد التركيب، ومنعته، بخلاف "كلثوم"، فإن فيه جزء كل من العلمية والتأنيث المعنويّ؛ لأنه مدلولٌ لمجموع الجزأين، لا للعجز وحده، فالظاهر أن لا يُمْنَعَ، وهو الجاري على ألسنة المحدثين كما في الدمامينيّ على "المغني"؛ لِتَجَزُّئِ كل من العلتين فيه. انتهى

(1)

.

12 -

(عَائِشَةُ) رضي الله عنها ذُكرت قبله.

وقوله: (أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي أخّر العشاء الأخيرة إلى عَتَمة الليل، وهي ظلمته.

وقوله: (ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلةً من الليالي.

وقوله: (حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ) قال النوويّ: أي كثير منه، وليس المراد أكثره، ولا بدّ من هذا التأويل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنه لوقتها"، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل؛ لأنه لم يقل أحد من العلماء أن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" 2/ 102.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 139.

ص: 79

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل الأدلة الصحيحة قاضيةٌ بأنَّ ما بعد النصف ليس وقتًا لها، فلا بدّ من التأويل المذكور؛ جمعًا بين الأدلة، فتبصر، واللَّه أعلم.

وقوله: ("إِنَّهُ لَوَقْتُهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني الأفضل، ولهذا وشبهه قال مالك: إن تأخير العشاء أفضل، وقيل عنه: تعجلها أفضل أخذًا بالتخفيف، ولأن التعجيل كان غالب أحوال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد اختار بعض أصحابنا تقديمها إذا اجتمعوا، وتأخيرها إذا أبطئوا؛ أخذًا بحديث جابر رضي الله عنه الآتي. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله هذا البعض هو الحقّ؛ لقوّة دليله، وسيأتي تحقيق ذلك -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقوله: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي") قال النوويّ رحمه الله: معناه إنه لوقتها المختار، أو الأفضل، ففيه تفضيل تأخيرها، وأن الغالب كان تقديمها، وإنما قدَّمها للمشقة في تأخيرها، ومن قال بتفضيل التقديم، قال: لو كان التأخير أفضل لواظب عليه، ولو كان فيه مشقة، ومن قال بالتأخير قال: قد نَبَّه على تفضيل التأخير بهذا اللفظ، وصَرَّح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة، ومعناه -واللَّه أعلم- أنه خَشِي أن يواظبوا عليه، فيفرض عليهم، ويتوهموا إيجابه، فلهذا تركه كما ترك صلاة التراويح، وعَلَّل تركها بخشية افتراضها، والعجز عنها، وأجمع العلماء على استحبابها؛ لزوال العلة التي خيف منها، وهذا المعنى موجود في العشاء، قال الخطابيّ وغيره: إنما يستحب تأخيرها؛ لتطول مدة انتظار الصلاة، ومنتظر الصلاة في صلاة. انتهى

(1)

.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1447]

(639) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ نَافِعٍ،

(1)

"شرح النووي" 5/ 138.

ص: 80

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ، نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا

(1)

حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَقَالَ حِينَ خَرَجَ:"إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً، مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي، لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ"، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبرَاهِيمَ) ذُكر في السند الماضي.

3 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مَنْصُور) بن المعتَمِر بن عبد اللَّه السَّلَمي، أبو عَتَّاب الكوفي، ثقة ثبت [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

5 -

(الْحَكَمُ) بن عُتَيبَةَ، أبو محمد الكِنْدِي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، ربما دلّس [5](ت 113)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

6 -

(نَافِع) مولى ابن عمر العدويّ، أبو عبد اللَّه المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور [3](ت 117) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

7 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، مات (73) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم ثقات نبلاء، وأنه اتفق الأئمة بالتخريج لهم، إلا شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن زهيرًا نسائيّ، ثم بغداديّ، وإسحاق مروزيّ، ثم نيسابوريّ، وجريرًا كوفيّ، ثم رازيّ، ومنصورًا والحكم كوفيان، ونافعًا وابن عمر مدنيان.

(1)

وفي نسخة: "علينا".

ص: 81

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: مَكَثْنَا) -بفتح الكاف، وضمها- قال في "المصباح": مَكَثَ مَكْثًا، من باب قَتَلَ: أقام، ولَبِثَ، فهو ماكِثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثل قَرُبَ قُرْبًا، فهو قريبٌ، لغة، وقرأ السبعة:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] باللغتين، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتَمَكَّث في أمره، إذا لم يَعْجَل فيه. انتهى: أي لَبِثنا في المسجد (ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلةً من الليالي (نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة فعليّةٌ في محلّ نصب على الحال من فاعل "مَكَثَ".

(لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ) أي لأجل صلاة العشاء الآخرة، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على جواز وصف العشاء بالآخرة، وأنه لا كراهة فيه؛ خلافًا لما حُكِيَ عن الأصمعيّ من كراهة هذا، وقد سبق بيان المسألة. انتهى

(1)

.

(فَخَرَجَ إِلَيْنَا) وفي نسخة: "فخرج علينا"، أي من الحجرة الشريفة (حِينَ ذَهَبَ) أي مضى (ثُلُثُ اللَّيْلِ، أَوْ) للشك من الراوي (بَعْدَهُ) أي بعد الثلث (فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ) أي لا نعلم سبب تأخّره إلى ذلك الوقت، هل شيء يتعلّق بأهله؟، كمرض، أو نحو ذلك.

لكن بيّن سببه الإمام أحمد في روايته، فقد أخرج الحديث من رواية أفلح، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخَّر ليلةً العشاء، حتى رقدنا، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا، وإنما حبسنا لوفد جاءه، ثم خرج، فذكر الحديث

(2)

.

فتبيّن بهذا أن سبب تأخّره هو اشتغاله بالوفد.

وأخرج الإمام أحمد أيضًا من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن

(1)

"شرح النووي" 5/ 138 - 139.

(2)

راجع: "المسند" 2/ 126.

ص: 82

جابر رضي الله عنه قال: جهّز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشًا ليلةً حتى ذهب نصف الليل، أو بلغ ذلك، ثم خرج، فقال:"قد صَلَّى الناس، ورقدوا، وأنتم تنتظرون هذه الصلاة، أما إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتموها"

(1)

.

(أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟) كأن ينزل عليه وحي (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (حِينَ خَرَجَ) من الحجرة إلى المسجد ("إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً، مَا) نافية (يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ) بالرفع على البدل لـ "أهلُ"، وبالنصب على الاستثناء، والأول المختار، قاله القاري رحمه الله، قال في "الخلاصة":

وَاسْتَثْنِ مَجْرُورًا بِغَيْرٍ مُعْرَبَا

بِمَا لِمُسْتَثْنًى بِإلا نُسِبَا

وقد بَيَّن قبله حكم المستثنى بـ "إلا" بقوله:

مَا اسْتَثْنَتِ "إلَّا" مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ

وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوْ كَنَفْيٍ انْتُخِبْ

إتْبَاعُ مَا اتَّصَلَ وَانْصِبْ مَا انْقَطَعْ

وَعَنْ تَمِيمٍ فِيه إبدَالٌ وَقَعْ

يعني أن انتظار هذه الصلاة من بين سائر الأمم من خصوصياتكم التي اختصكم اللَّه بها، فكلما زدتم يكون الأجر أكمل، مع أن الوقت يقتضي الاستراحة، فالمثوبة على قدر المشقة، قاله القاري رحمه الله.

وفيه أنه يستحب للإمام والعالم إذا تأخر عن أصحابه، أو جرى منه ما يَظُنُّ أنه يشقّ عليهم أن يعتذر إليهم، ويقول: لكم في هذا مصلحة من جهة كذا، أو كان لي عذر، أو نحو هذا، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي)"يَثْقُلَ": بالياء، وهكذا عند المصنّف، والنسائيّ، والضمير يعود إلى التأخير، أو الفعل، أي لولا أن يثقل التأخير، أو هذا الفعلُ، وعند أبي داود:"تثقل" بالتاء، أي الصلاة في هذه الساعة (لَصَلَّيْتُ بِهِمْ) أي دائمًا (هَذِهِ السَّاعَةَ") قال الطيبيّ رحمه الله: أي لَزِمت على صلاتها في مثل هذه الساعة.

وفيه تصريح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقّة، والثقل على الأمة، وقد تقدم بيان اختلاف العلماء في الأفضل من التقديم والتأخير، وترجيح القول بأفضلية تأخير العشاء إذا لم تكن مشقة، قريبًا فراجعه.

(1)

راجع: "المسند" 3/ 367.

(2)

"شرح النووي" 5/ 139.

ص: 83

(ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ) الظاهر أن الأذان تقدّم قبل خروجه، وهو الذي يدلّ عليه قول عمر رضي الله عنه:"الصلاة"، في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم، ويَحْتَمِل أن يكون تقدير الكلام، فأمر المؤذن بالأذان، فأذّن، ثم بالإقامة، فأقام (وَصَلَّى) أي العشاء، ولفظ النسائيّ:"ثم صلّى"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1447 و 1448](639)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(570)، و (أبو داود) في "الصلاة"(420)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(537)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2116)، (وابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 331)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 88 و 126)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(343 و 347)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1099 و 1536)، و (البزّار) في "مسنده"(376)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1083 و 1084 و 1085)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1421 و 1422)، وفوائد الحديث، تعرف مما سبق، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في استحباب تعجيل العشاء وتأخيرها:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: تأخيرها أفضل، كان ابن عباس يرى أن تأخيرها أفضل، ويقرأ:{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الآية [هود: 114]، ورَوَينا عن ابن مسعود أنه كان يؤخر العشاء، وقال مالك: أما العشاء فتؤخر بعد غيبوبة الشفق أحبّ إليّ.

وكان الشافعيّ يقول: وأُحِبّ أن يؤخرها الإمام ساعةً لا يبلغ فيها المشقة على الناس.

وقال أصحاب الرأي: أحب إلينا أن يؤخرها ما بينه وبين ثلث الليل.

وقال أبو ثور كنحو قول الشافعي.

ص: 84

ومن حجة من يقول بهذا القول الأخبار الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الآتي:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء الآخرة".

وحديث أبي بَرْزَة الأسلميّ رضي الله عنه مرفوعًا: "وكان يَستحبّ أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة"، متفق عليه، وهذا لفظ البخاريّ.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشُقّ على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء، والسواك لكل صلاة"، رواه أحمد، وأصحاب السنن بإسناد صحيح.

وقال آخرون: تعجيلها أفضل، وقال قائل ذلك بعد أن يغيب البياض؛ لأنهم مجمعون على دخول الوقت إذا غاب البياض.

واحتَجّ من رأى تعجيل العشاء بعد دخول الوقت أفضل بالأخبار التي وردت في تعجيل الصلوات في أوائل أوقاتها، وبحديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما لما سئل عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر العشاء، قال:"كان إذا كثر الناس عَجّل، وإذا قَلُّوا أَخَّر"، متّفق عليه.

وقال: إن الأخبار التي رُويت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تأخير العشاء دالّة على أنه إنما فَعَل ذلك ليلة واحدة؛ لعارض عَرَض له، شَغَله ذلك عنه، فأخّر العشاء في تلك الليلة، وذكر أخبارًا تدل على ما قال، فمنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور هنا:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم شُغِل عنها ليلة، فأخّرها، حتى رقدنا. . . " الحديث

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الراجح عندي أن التأخير هو الأفضل إلا لأجل المشقة، بأن كان إمام جماعة يشُقّ عليهم التأخير، فيكون في حقه التقديم أفضل، وهو الذي كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث إنه بيّن أن تأخيرها هو الأولى، فقال في حديث عائشة رضي الله عنها:"إنه لوقتها لولا أن أشُقّ على أمتي"، رواه مسلم، وقال في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء الآخرة"، رواه مسلم، وفي حديث أبي برزة رضي الله عنه:"وكان يَستحبّ أن يؤخر العشاء"، متّفقٌ عليه، وقال:"لولا أن أشُقّ على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء"

(1)

راجع: "الأوسط" 2/ 369 - 373.

ص: 85

الحديث، وهو حديث صحيح رواه أحمد، وأصحاب السنن، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الآتي:"لولا أن يشقّ على أمتي لأمرتهم أن يصلّوها هكذا"، متّفقٌ عليه.

فهذه الأحاديث الصحيحة، نصوص صريحة، بيّنة المبنى، واضحة المعنى، لا تقبل التأويل، تدلّ دلالةً واضحة كالشمس في رابعة النهار على أن تأخير العشاء لمن لا يشقّ عليه هو الأفضل.

وبهذا تجتمع الأدلة بدون إهمال لبعضها، وأما ما ورد من أفضلية أول الوقت على العموم، فأحاديث الباب خاصّة، فتقدم عليه، كما بيّنه العلامة الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

والحاصل أن التأخير لمن لا يشُقّ عليه هو الأفضل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1448]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا

(2)

ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً، فَأَخَّرَهَا، حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:"لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اللَّيْلَةَ، يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ غَيْرُكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

كلّهم تقدّموا في السند الماضي، والذي قبله.

وقوله: (شُغِلَ) بالبناء للمفعول، قال الجوهريّ: يقال: شُغِلتُ عنك بكذا، على ما لم يُسمّ فاعله.

وقوله: (عَنْهَا لَيْلَةً) الضمير للعشاء، أي عن أدائها في أول وقتها.

وقوله: (حَتَّى رَقَدْنَا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ رَقَدْنَا، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا) وفي رواية عائشة رضي الله عنها المتقدّم: "نام أهل المسجد".

(1)

راجع: "نيل الأوطار" 2/ 64.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 86

قال القرطبيّ رحمه الله: يعني به نوم الجالس المحتبي، وخطرات السنات، لا نوم المستغرق، كما قال في الحديث الآخر:"كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينامون حتى تَخفق رؤوسهم، ثم يصلّون، ولا يتوضّؤون"، رواه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على نوم لا ينقض الوضوء، وهو نوم الجالس ممكِّنًا مقعده، وفيه دليل على أن نوم مثل هذا لا ينقض، وبه قال الأكثرون، وهو الصحيح في مذهبنا، وقد سبق إيضاح هذه المسألة في آخر "كتاب الطهارة". انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1449]

(640) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَنَسًا عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، أَوْ كَادَ يَذْهَبُ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: "إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ، مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ"، قَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ مِنْ فِضَّةٍ، وَرَفَعَ إِصْبَعَهُ الْيُسْرَى بِالْخِنْصِرِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعِ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

2 -

(بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ الْعَمِّيُّ) أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد (200) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت

(1)

"المفهم" 2/ 165 - 166.

(2)

"شرح النووي" 5/ 139.

ص: 87

الناس في ثابت، وتغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أنس) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو والترمذيّ، والنسائيّ، وحمّاد علّق له البخاريّ، بل قيل: أخرج له حديثًا واحدًا في "الرقاق".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن حمّادًا أثبت الناس في ثابت، وثابتٌ ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنة.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ودعا له بطول العمر، والأموال والأولاد، فاستجيب له، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَابِتٍ) الْبُنَانيّ (أَنَّهُمْ) أي التابعون الذين حضروا مجلس أنس رضي الله عنه (سَأَلُوا أَنَسًا) رضي الله عنه (عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "سئل أنس: هل اتّخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم خاتمًا؟ قال: نعم"، وعند ابن حبّان:"قالوا لأنس بن مالك: هل كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاتم؟ "، وعند أبي عوانة:"أنهم سألوا أنس بن مالك عن خاتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاتم؟ قال: نعم".

و"الخاتم": حَلْيٌ للأصبع، كما في "القاموس"، وفي "المصباح": حلقة ذات فَصٍّ من غيرها، فإن لم يكن لها فَصّ، فهي فَتَخَةٌ، بفاء وتاء مثناة من فوق، وخاء معجمة، وزان قَصَبَة. انتهى.

وفيه لغات: الخاتَم بفتح التاء، وكسرها، والخَاتَام، والْخِيْتَامُ بفتح

ص: 88

الخاء، وكسرها، والخَتَمُ مُحَرَّكَةً، والخَاتِيَام، وجمعه خَوَاتِم، وخَوَاتِيم، قاله المجد.

وقد نظم الحافظ العراقيّ رحمه الله لغاته، بقوله [من البسيط]:

خُذْ عَدَّ نَظْمِ لُغَاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَتْ

ثَمَانِيًا مَا حَوَاهَا قَبْلُ نَظَّامُ

خَاتَامُ خَاتَمُ خَتْمٌ خَاتِمٌ وَخِتَا

مٌ خَاتِيَامٌ وَخَيْتُومٌ وَخَيْتَامُ

وَهَمْزُ مَفْتُوحِ تَاءٍ تَاسِعٌ وَإِذَا

سَاغَ الْقِيَاسُ أَتَمَّ الْعَشْرَ خَأْتَامُ

قال المرتضى رحمه الله: ولم يذكر الناظم خَتَمًا محركة، وقد ذكره صاحب "القاموس" وابن سيده، وابن هشام في "شرح الكعبية". انتهى

(1)

.

أي فتصير اللغات مع ما قاله الناظم إحدى عشرة لغةً

(2)

.

وقد بَيَّن سبب اتخاذه صلى الله عليه وسلم الخاتم فيما أخرجه الشيخان من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال:"كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم كتابًا -أو أراد أن يكتب- فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة، نقشه محمد رسول اللَّه، كأني أنظر إلى بياضه في يده".

(فَقَالَ) أنس رضي الله عنه (أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة مستأنفة، أتى بها أنس رضي الله عنه لبيان كونه شاهد النبيّ صلى الله عليه وسلم لابسًا خاتمًا في تلك الليلة.

(الْعِشَاءَ) ولفظ النسائيّ: "صلاة العشاء الآخرة"(ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلة من الليالي (إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ) أي نصفه (أَوْ كَادَ) من باب تَعِبَ: أي قارب (يَذْهَبُ شَطْرُ اللَّيْلِ) كون خبر "كاد" بدون "أن" هو الغالب، كقوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ، وقد يقترن بها بقلّة، كقوله [من الخفيف]:

كَادَتِ النَّفْسُ أَنْ تَفِيضَ عَلَيْهِ

إِذْ فَدَا حَشْوَ رَيْطَةٍ وَبُرُودِ

وهذا بعكس "عسى"، فإن الغالب فيها اقتران خبرها بـ "أن"، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ "عَسَى"

نَزْرٌ وَ"كَادَ" الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا

قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا كقوله في حديث ابن عمرو: "ووقتُ العشاء إلى

(1)

"تاج العروس" 8/ 266.

(2)

تقدّم ذكر هذه الأبيات، وإنما أعدت؛ لطول العهد به.

ص: 89

نصف الليل"، فكلاهما حجة لِمَا صار إليه ابن حبيب من أن آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن أرجح المذاهب أن آخر وقت العشاء هو نصف الليل، لا وقت لها بعده؛ لظاهر النصوص، وقد تقدّم القائلون بهذا القول، وهو أيضًا مذهب الإمام البخاريّ رحمه الله، فقد ترجم في "صحيحه" بقوله:"باب وقتُ العشاء إلى نصف الليل".

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد ذكر قول من قال بامتداد وقت العشاء إلى طلوع الفجر ما نصّه: والأحاديث كلّها تدلّ على ذلك، مثل أحاديث صلاة جبريل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم عند مغيب الشفق في اليوم الأول، وفي الثاني إلى ثلث الليل، وقوله:"الوقت ما بين هذين".

ومثلُ حديث بُريدة رضي الله عنه الذي فيه أن سائلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة، فأمره أن يشهد معه الصلاة، فصلى بهم في أول مرّة العشاء لَمّا غاب الشفق، وفي الثانية إلى ثلث الليل، وقال:"ما بين هذين وقتٌ"، وقد أخرجه مسلم، وأخرج نحوه من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

وأخرج أيضًا من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "وقتُ العشاء إلى نصف الليل".

قال: وهذا كلّه يدلّ على أن ما بعد ذلك ليس بوقت، والمراد أنه ليس بوقت اختيار، بل وقت ضرورة، وذهب الإصطخريّ من أصحاب الشافعيّ إلى أن الوقت بالكليّة يخرُج بنصف الليل، أو ثلثه، ويبقى قضاءً، وقد قال الشافعيّ: إذا ذهب ثلث الليل لا أراها إلا فائتةً، وحمله عامّة أصحابه على فوات وقت الاختيار خاصّةً. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره ابن رجب بعد ذكر الأدلة أن ما بعد النص ليس بوقت تحقيق نفيس، وأما قوله بعده رحمه الله:"والمراد أنه ليس بوقت اختيار. . . إلخ"، فمحلّ نظر؛ لأنه نقض لما بناه أوّلًا.

(1)

"المفهم" 2/ 266.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 410 - 411.

ص: 90

فالحقّ أن ما بعد النص ليس وقتًا أصلًا، وإنما هو قضاء، وقد مرّ البحث مستوفًى، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ جَاءَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيته إلى المسجد (فَقَالَ) أي بعد أن صلّى، ففي رواية النسائيّ:"فلما أن صلى أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه، ثم قال: إنكم لن تزالوا في صلاة. . . "("إِنَّ النَّاسَ) أي الذين لم يحضروا المسجد (قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ) أي في ثوابها وأجرها المستمرّ (مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ")"ما" مصدريّة ظرفيّة، أي مدّة انتظاركم الصلاة (قَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ)"الوبيص" بفتح الواو، وكسر الموحّدة، آخره صاد مهملة: البَرِيق واللَّمَعَانُ (مِنْ فِضَّةٍ) فيه جواز لبس خاتم الفضّة، وهو إجماع المسلمين، قاله النوويّ

(1)

. (وَرَفَعَ) أي أنس رضي الله عنه، ولفظ ابن حبّان:"ورفع أنس يده اليسرى"، ومثلة لأبي نعيم في "مستخرجه" (إِصْبَعَهُ) فيه عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الباء، فيكون تسعة، والعاشرة أصبُوع، وأفصحهنّ كسر الهمزة، وفتح الموحّدة (الْيُسْرَى بِالْخِنْصِرِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول "بالخنصر"، وفيه محذوف، تقديره: مشيرًا بالخنصر، أي أن الخاتم كان في خنصر اليد اليسرى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1449 و 1450 و 1451](640)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(572 و 600)، و"الأذان"(661 و 847)، و"اللباس"(5869)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(529)، و"الكبرى"(1519)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 182 و 189 و 200 و 267)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 157)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1070 و 1071)، و (أبو

(1)

"شرح النووي" 5/ 139 - 140.

ص: 91

نعيم) في "مستخرجه"(1423 و 1424)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1537)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(376)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب تأخير صلاة العشاء إلى قريب نصف الليل وقد تقدم تمام البحث فيه قريبًا.

2 -

(ومنها): بيان جواز اتخاذ الخاتم من الفضة للرجال، قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على جواز اتخاذ الخواتم من الورق -وهي الفضة- للرجال، إلا ما رُوي عن بعض أهل الشام من كراهة لبسه إلا لذي سلطان، وهو شاذ مردود، وأجمعوا على تحريم خاتم الذهب على الرجال، إلا ما رُوي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من إباحته، ورُوي عن بعضهم كراهته، قال النوويّ رحمه الله: هذان النقلان باطلان.

وحَكَى الخطابيّ: أنه يكره للنساء التختم بالفضة؛ لأنه من زِيِّ الرجال، ورُدَّ عليه ذلك، قال النوويّ: الصواب أنه لا يكره لها ذلك، وقول الخطابيّ ضعيف، أو باطل، لا أصل له.

3 -

(ومنها): بيان مشروعيّة لبس الخاتم في اليد اليسرى، قال القرطبيّ رحمه الله: وهو الأفضل، والأحسن عند مالك، وسيأتي الكلام على ذلك. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن في قوله: "فاتخذ خاتمًا من فضة، نقشه: محمد رسول اللَّه" جواز نقش الخاتم، ونقش اسم صاحبه، ونقش اسم اللَّه -تعالى- فيه؛ بل فيه: كونه مندوبًا، وهو قول مالك، وابن المسيّب، وغيرهما، وكرهه ابن سيرين، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم أن ينقش أحد على نقش خاتمه، فلأنه إنما نَقَشَ فيه ذلك ليختم به كُتُبَهُ إلى الملوك، فلو نُقِش على نقشه لدخلت المفسدة، وحصل الخلل، قاله في "العمدة"

(2)

.

5 -

(ومنها): استحباب انتظار الصلاة بعد الصلاة، وفيه فضل عظيم، وسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم الرّباط.

(1)

"المفهم" 2/ 267.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 30.

ص: 92

6 -

(ومنها): بيان مشروعية إقبال الإمام على المأمومين عند إرشادهم، أو بيان فضل العبادة لهم؛ ليكون صوته مسموعًا للجميع، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1450]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ، سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، حَتَّى كَانَ قَرِيبٌ

(2)

مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ، فَصَلَّى، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ فِي يَدِهِ مِنْ فِضَّةٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم في الباب.

2 -

(أَبُو زْيدٍ، سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ) العامريّ الْحَرَشيّ الْهَرَويّ البصريّ، كان يبيع الثياب الهروية، ثقةٌ، من صغار [9](ت 211) وهو أقدم شيخ للبخاريّ وفاةً.

رَوَى عن شعبة، وقُرّة بن خالد، وهشام الدستوائيّ، وسعيد بن أبي عروبة، وعلي بن المبارك، وعبد القدوس بن حبيب الشاميّ.

ورَوَى عنه البخاريّ، ورَوَى له هو ومسلم، والترمذيّ بواسطة محمد بن عبد الرحيم البزار، وحجاج بن الشاعر، وبندار، وعبد بن حُميد، وعبد اللَّه بن إسحاق الجوهريّ، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وأحمد بن سفيان النسائيّ، وإبراهيم الجوزجاني، وزيد بن أخرم الطائي، وأبو داود الحرانيّ، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: شيخ ثقةٌ، لم أسمع منه شيئًا، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال البخاريّ وغيره: مات سنة إحدى عشرة ومائتين.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "قريبًا".

ص: 93

الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (640) وحديث (1018):"أمرنا بالصدقة، قال: كنا نحامل. . . ".

3 -

(قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ ضابطٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دعامة السدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس، رأس [4](117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) تقدم.

وقوله: (نَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي انتظرناه، يقال: نظرته، وانتظرته بمعنى واحد.

وقوله: (حَتَّى كَانَ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض الأصول "قريبٌ" بالرفع، وفي بعضها "قريبًا"، وكلاهما صحيح، وتقدير المنصوب: حتى كان الزمانُ قريبًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه النوويّ رحمه الله أن "قريبٌ" رُوي بالرفع والنصب، ووجه الرفع أن "كان" تامّة، أي إلى أن جاء قريبٌ من نصف الليل، ووجه النصب أنها ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى الزمان المفهوم من السياق.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1451]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ

(1)

الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ:"ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ").

(1)

وفي نسخة: "عبد اللَّه بن صبّاح".

ص: 94

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ) بن عبد اللَّه الهاشميّ العطار البصريّ الْمِرْبدِيّ، مولى بني هاشم، ثقةٌ، من كبار [10].

رَوَى عن معتمر بن سليمان، ومحبوب بن الحسن، ويزيد بن هارون، وبَدَل بن الْمُحَبَّر، وسعد بن عامر الضبعيّ، وأبي قتيبة، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وعبد العزيز العميّ، وعبيد اللَّه بن عبد المجيد، وغيرهم.

ورَوَى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن أبي الدنيا، وأبو بكر البزار، وابن خزيمة، وابن أبي عاصم، ويحيى بن محمد بن صاعد، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صالحٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال أبو بكر بن أبي عاصم: مات سنة خمسين ومائتين، وقال السراج: مات سنة (251)، وقال ابن حبان: مات سنة خمس وخمسين ومائتين.

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط

(1)

.

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ) أبو عليّ الحنفيّ البصريّ، صدوقٌ [9].

رَوَى عن عكرمة بن عمار، وإسرائيل، وإسماعيل بن مسلم، ورَباح بن أبي معروف، وسَلْم بن زَرِير، وسَلِيم بن حيان، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار، وقرة بن خالد، وابن أبي ذئب، ومالك بن مِغْوَل، ومالك بن أنس، وهمام، وغيرهم.

ورَوَى عنه علي ابن المدينيّ، وأبو خيثمة، وأبو موسى، وبندار، وعمرو بن عليّ، وإسحاق بن منصور، وأحمد بن سعيد الدارميّ، وعبد اللَّه بن الصباح العطار، وحجاج بن الشاعر، وإبراهيم بن يعقوب الْجُوزَجانيّ، والذُّهْليّ، وآخرون.

(1)

هكذا ثبت في "برنامج الحديث"، ولكن نقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة": روى عنه البخارىّ ستة أحاديث، ومسلم وثلاثةً. انتهى، فليُنظر.

ص: 95

وقال الدارميّ، عن ابن معين، وأبو حاتم: ليس به بأسٌ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه العجليّ، والدارقطنيّ، وابن قانع، وضعفه العُقَيليّ، ورَوَى عن ابن معين أنه قال: ليس بشيء، ولم يثبت هذا عن ابن معين.

وقال ابن حبّان، والْكُدَيميّ: مات سنة تسع ومائتين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (640) و (682) و (706) وأعاده في "كتاب الفضائل"، و (1180) و (1226) و (1536) وأعاده بعده، و (1807).

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قرّة بن خالد السابق، وهو: عن قتادة، عن أنس بن مالك.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ. . . إلخ) الفاعل ضمير عبيد اللَّه بن عبد المجيد.

[تنبيه]: رواية عبيد اللَّه بن عبد المجيد هذه ساقها أبو نعيم، في "مستخرجه" (2/ 236) فقال:

(1424)

حدّثنا محمد بن علي بن حُبيش، ثنا القاسم بن زكريا، ثنا الحسن بن يونس، ومحمد بن حسان الأزرق، قالا: ثنا عمرو بن الهيثم، عن قُرّة بن خالد (ح) قال: وحدّثنا القاسم بن زكريا، ثنا يزيد بن عمرو بن البراء، ثنا عبيد اللَّه بن عبد المجيد (ح) وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدّثنا عبد اللَّه بن الصباح، ثنا عبيد اللَّه بن عبد المجيد، ثنا قُرّة بن خالد، عن قتادة، عن أنس، قال:"انتظرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كان قريبًا من نصف الليل، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلى لنا، وكأنما أنظر إلى وبيص خاتمه، حلقة فضة".

قال: لفظ عبيد اللَّه بن عبد المجيد، عن ابن حبيش. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1452]

(641) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنْتُ أَنَا

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 96

وَأَصْحَابِي الَّذِينَ قَدِمُوا مَعِي فِي السَّفِينَةِ نُزُولًا فِي بَقِيعِ بُطْحَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَتَنَاوَبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ كُلُّ لَيْلَةٍ نَفَرٌ مِنْهُمْ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَوَافَقْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَصْحَابِي، وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي أَمْرِهِ، حَتَّى أَعْتَمَ بِالصَّلَاةِ، حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: "عَلَى رِسْلِكُمْ، أُعْلِمُكُمْ، وَأَبْشِرُوا أَنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ

(1)

غَيْرُكُمْ"، أَوْ قَالَ: "مَا صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ"، لَا نَدْرِي أَيَّ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَرَجَعْنَا فَرِحِينَ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ) عبد اللَّه بن برّاد بن يوسف بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) وهو ابن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

4 -

(بُرَيْد) بن عبد اللَّه بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ يُخطئ قليلًا [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

5 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3] (ت 104) وقيل: غير ذلك، وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

(1)

وفي نسخة: "يصلي هذه الصلاة الساعة".

ص: 97

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي عامر، فانفرد به هو، وعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبا كريب، أحد التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكنى، سوى بُريد، وكنيته أبو بردة، كجدّه.

6 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، بريد، عن أبي بُردة، عن أبي موسى رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنْتُ أَنَا) أكّد الضمير المتّصل بالمنفصل؛ ليعطف عليه ما بعده، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَأَصْحَابِي الَّذِينَ قَدِمُوا مَعِي فِي السَّفِينَةِ) كان قدومهم عند فتح خيبر لَمّا قَدِم جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وقيل: إن أبا موسى قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة قبل الهجرة، ثم كان ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم قَدِمَ الثانية صحبةَ جعفر، والصحيح أنه خرج طالبًا المدينة في سفينة، فألقتهم الريح إلى الحبشة، فاجتمعوا هناك بجعفر، ثم قَدِموا صحبته، وذلك سنة سبع من الهجرة، عند فتح خيبر، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(نُزُولًا) جمع نازل، كشُهُود جمع شاهد (فِي بَقِيعِ بُطْحَانَ)"البقيع" -بفتح الباء الموحّدة، وكسر القاف، وسكون الياء، آخر الحروف، وبالعين المهملة- وهو من الأرض: المكانُ الْمُتَّسِع، ولا يسمى بقيعًا إلا وفيه شجرٌ، أو أصولها.

و"بُطحان" -بضم الباء الموحّدة، وسكون الطاء المهملة، وبالحاء المهملة- غير منصرف، أحد أودية المدينة المشهورة، وهي ثلاثة: بطحان، والعقيق، وقَنَاة

(2)

، وقال ابن قرقول:"بطحان" بضم الباء، يرويه المحدثون

(1)

"الفتح" 7/ 700 "كتاب المغازي" رقم (4386 - 4390).

(2)

راجع: "فتح الباري" لابن رجب 4/ 377.

ص: 98

أجمعون، وحَكَى أهل اللغة فيه بَطِحان -بفتح الباء، وكسر الطاء- ولذلك قَيَّده أبو المعالي في "تاريخه"، وأبو حاتم، وقال البكريّ: بفتح أوله، وكسر ثانيه، على وزن فَعِلان لا يجوز غيره، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "النهاية": "بَطْحان" بفتح الباء: اسم وادي المدينة، والبطحانيّون منسوبون إليه، وأكثرهم يضمّون الباء، ولعله الأصحّ. انتهى

(2)

.

(وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من "نزولًا"، والرابط الواو (فَكَانَ يَتَنَاوَبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسولَ" على المفعوليّة، مقدّمًا على الفاعل، وهو "نفرٌ"(عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ) ظرف متعلّق بـ "يتناوب"، وكذا قوله:(كُلَّ لَيْلَةٍ) وقوله: (نَفَرٌ) بالرفع فاعل "يتناوب"، و"النفر" بفتحتين: جماعةُ الرجال، من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نفرٌ فيما زاد على العشرة، قاله الفيّوميّ

(3)

. (مِنْهُمْ) أي من أصحابه الذين قَدِموا معه (قَالَ أَبُو مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (فَوَافَقْنَا) بلفظ المتكلّم، فقوله:(رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) منصوب على المفعوليّة، وقوله:(أَنَا وَأَصْحَابِي) توكيد للفاعل، وهو لفظ "نا"(وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي أَمْرِهِ) جملة حاليّة من "رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم" وجاء تفسير بعض الشغل المذكور فيما رواه الطبرانيّ في "معجمه" من وجه صحيح، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر أنه كان في تجهيز جيش، أفاده في "الفتح"

(4)

.

(حَتَّى أَعْتَمَ بِالصَّلَاةِ) أي أَخَّرها عن أول وقتها، وفيه دلالةٌ على أن تأخير النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية لم يكن قصدًا، ومثله قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي:"شُغِلَ عنها ليلةً"، وكذا قوله في حديث عائشة رضي الله عنها الماضي أيضًا:"أعتم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصلاة ذات ليلةٍ" كلُّ ذلك يدلّ على أن ذلك لم يكن من شأنه، والفيصل في هذا حديث جابر-رضي الله عنه:"كانوا إذا اجتمعوا عَجَّلَ، وإذا أبطئوا أَخَّرَ"، متّفقٌ عليه

(5)

.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 65.

(2)

"النهاية" 1/ 135.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 617.

(4)

"الفتح" 2/ 58.

(5)

راجع: "الفتح" 2/ 58.

ص: 99

(حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ) -بتشديد الراء-، على وزن افعالّ، كاحمارّ، ومعناه: انتصف، وعن سيبويه: كثرت ظلمته، وابْهَارَّ القمرُ: كثر ضوؤه، ذكره في "الموعب"، وفي "المحكم": ابهارَّ الليلُ: إذا تراكمت ظلمته، وقيل: إذا ذهبت عامّته، وفي "كتاب الواعي": ابْهِيرَارُ الليلِ: طلوعُ نجومه، وفي "الصحاح": ابهارّ الليلُ ابهيرارًا: إذا ذهب معظمه وأكثره، وابهارّ علينا الليل: أي طال، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "حتى ابهارّ الليل" -بالموحّدة، وتشديد الراء-: أي طلعت نجومه، واشتَبَكَت، والباهر الممتلئ نورًا، قاله أبو سعيد الضرير، وعن سيبويه: ابهارّ الليل: كَثُرَت ظلمته، وابهارّ القمرُ: كثر ضوؤه، وقال الأصمعيّ: ابهارّ: انتصف، مأخوذ من بُهْرَة الشيء: وهو وسطه، ويؤيِّده أن في بعض الروايات:"حتى إذا كان قريبًا من نصف الليل"، كما سبق في حديث أنس رضي الله عنه، وفي "الصحاح": ابهارّ الليل: ذهب معظمه وأكثره، وعند مسلم من رواية أم كلثوم، عن عائشة رضي الله عنها:"حتى ذهب عامة الليل". انتهى ببعض تصرّف

(2)

.

وقال ابن رجب رحمه الله: وقيل: معنى ابهارّ: استنار الليل باستهام طلوع نجومه بعد أن يذهب فَحمة الليل وظلمته بساعة، وهذا بعيدٌ. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته إلى المسجد (فَصَلَّى بِهِمْ) أي صلّى العشاء إمامًا لهم (فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ) أي انتهى منها، وسلم (قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: "عَلَى رِسْلِكُمْ) -بكسر الراء وفتحها، لغتان، والكسر أفصح-: أي تأنَّوْا (أُعْلِمُكُمْ) بضمّ الهمزة، وكسر اللام المخفّفة، من الإعلام، أو بتشديد اللام، من التعليم، ثُمّ يَحْتَمل أن يكون مجزومًا على أنه جواب الأمر، ويَحْتَمل أن يكون مرفوعًا، على أنه جملة مستأنفة، ذكرت تعليلًا لأمره بالتأني (وَأَبْشِرُوا) بقطع الهمزة، ووصلها، أمرٌ من بَشَرَ، أو من أبشر إبشارًا: يقال: بَشَرتُ الرجل، من باب نصر، وأبشرته، وبَشَّرته بالتشديد، ثلاث لغات،

(1)

"عمدة القاري" 5/ 65.

(2)

راجع: "الفتح" 2/ 58.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 377.

ص: 100

بمعنى، ويقال: بَشَرته بمولود، فأبشر إبشارًا: أَيْ سُرّ، أفاده في "العمدة"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى أن المناسب هنا هو المعنى اللازم؛ لأن المراد به حصول السرور لهم، واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بفتح همزة "أنّ"؛ لوقوعها في موضع المفعول، وقد تنازعه كل من "أُعلمكم"، على أنه مفعول ثان له، و"أبشروا" على أنه مفعوله أيضًا بحذف الخافض، أي أبشروا بأن من نعمة اللَّه. . . إلخ، وقوله:(أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ) بفتح همزة "أنه"؛ لوقوعها في موضع اسم "أن" الأولى، وخبرها قوله:"من نعمة اللَّه".

ولفظ البخاري: "أبشروا إن من نعمة اللَّه عليكم أنه ليس أحدٌ. . . إلخ"، فقال في "الفتح": بكسر همزة "إن"، ووهِمَ من ضبطه بالفتح، وأما قوله:"أنه ليس أحد" فهو بفتح "أنّه" للتعليل". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "ووهِمَ. . . إلخ" إن أراد أن الرواية بالكسر، فمسلّم، وإن أراد غير ذلك، فلا وهم، كما ذكرت وجهه آنفًا.

وأيضًا قوله: "بفتح أنه للتعليل"، غير صحيح؛ لأنه اسم "أن" الأولى مؤخّرًا من خبرها، كما أسلفته آنفًا، وقد تعقّبه العينيّ في هذا، وأصاب.

وقد ذكر العينيّ وجهًا آخر، فقال: قوله: "إن من نعمة اللَّه" كلمة "من" للتبعيض، وهو اسم "إنّ"، وقوله:"أنه" بالفتح؛ لأنه خبره. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الوجه الذي أسلفته أولى مما قاله العينيّ؛ لأن ما سُبك من "أنّ" و"أَنْ" أحقّ بكونه مسندًا إليه؛ لكونه بمنزلة الضمير، كما هو معروف في محلّه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ) منصوب على الظرفيّة، وفي نسخة:"هذه الصلاةَ الساعة"(غَيْرُكُمْ").

قال ابن رجب رحمه الله: يَحْتَمل أنه أراد به أهل الأديان، أو أراد به المسلمين. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 65.

(2)

"الفتح" 2/ 58.

(3)

"عمدة القاري" 5/ 65.

(4)

"فتح الباري" 4/ 377.

ص: 101

(أَوْ) للشكّ من الراوي، والظاهر أنه أبو موسى رضي الله عنه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا) نافيةٌ (صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ"، لَا) نافية (نَدْرِي أَيَّ الْكَلِمَتَيْنِ قَالَ) الظاهر أن الفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ أَبُو مُوسَى) رضي الله عنه (فَرَجَعْنَا) أي من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى رحالنا (فَرِحِينَ) منصوب على الحال (بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الجارّ الأول متعلّق بـ "فرحين"، و"ما" موصولة، والعائد محذوف، أي بالذي سمعناه، والثاني بـ "سمعنا".

[تنبيه]: وقع في "صحيح البخاريّ" لغير الكشميهني بلفظ "فَرْحَى"، على وزن فَعْلَى، قال الكرمانيّ: إما جمع فَرِيح على غير قياس، وإما مؤنث الأَفْرَح، وهو نحوُ: الرجالُ فَعَلَت، قال العينيّ: بل هو جمع فَرْحَان، كعَطْشان يُجْمَع على عَطْشَى، وسَكْران على سَكْرى، ويُرْوَى:"فرجعنا فَرَحًا" بفتح الراء، مصدرًا، بمعنى الفَرِحين، وهو نحوُ: الرجالُ فَعَلُوا، وعلى الوجهين أعني فَرْحَى وفَرَحًا نُصِب على الحال من الضمير الذي في "رجعنا".

[فإن قلت]: المطابقة بين الحال وذي الحال شرط في الواحد، والتثنية، والجمع، والتذكير، والتأنيث، وفي رواية " فَرَحًا" غير موجود.

[قلت]: الفَرَح مصدر في الأصل، ويستوي فيه هذه الأشياء. انتهى

(1)

.

وسبب فَرحهم علمهم باختصاصهم بهذه العبادة التي هي نعمة عُظْمَى مستلزمة للمثوبة الحسنى، مع ما انضاف إلى ذلك من تجمُّعهم فيها خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قاله في "الفتح"

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1452](641)، و (البخاريّ)(567)، و (أبو

(1)

"عمدة القاري" 5/ 65.

(2)

"الفتح" 2/ 59.

ص: 102

يعلى) في "مسنده"(7300)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1075)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1425)، واللَّه تعالى أعلم. (المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه استُدِلّ بذلك على فضل تأخير صلاة العشاء، ولا يعارض ذلك فضيلة أول الوقت؛ لما في الانتظار من الفضل، لكن قال ابن بطال: ولا يصلح ذلك الآن للأئمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، وقال:"إن فيهم الضعيفَ، وذا الحاجة"، فتَرْكُ التطويل عليهم في الانتظار أولى.

وقد رَوَى أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن خزيمة، وغيرهم، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: صلَّينا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة، فلم يَخْرُج حتى مضى نحوٌ من شطر الليل، فقال:"إن الناس قد صَلَّوا، وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضُعْفُ الضَّعِيف، وسُقْمُ السَّقِيم، وحاجة ذي الحاجة، لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل"، وسيأتي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما التالي:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها كذلك"، وللترمذيّ، وصححه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل، أو نصفه".

قال الحافظ رحمه الله: فعلى هذا مَن وجد به قُوّةً على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يَشُقَّ على أحد من المأمومين، فالتأخير في حقه أفضل.

وقد قَرَّر النوويّ ذلك في "شرح مسلم"، وهو اختيار كثير من أهل الحديث، من الشافعية وغيرهم، واللَّه أعلم.

ونقل ابن المنذر، عن الليث، وإسحاق: أن المستحب تأخير العشاء إلى قبل الثلث، وقال الطحاويّ: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك، وأحمد، وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال في القديم: التعجيل أفضل، وكذا قال في "الإملاء"، وصححه النوويّ، وجماعة، وقالوا: إنه مما يُفْتَى به على القديم.

وتُعُقِّب بأنه ذكره في "الإملاء"، وهو من كتبه الجديدة، والمختار من

ص: 103

حيث الدليل أفضلية التأخير، ومن حيث النظر التفصيل، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن الأرجح استحباب التأخير لمن لا يشقّ عليه، وأما إذا شقّ عليه، أو على المأمومين، فالتقديم أفضل، وبهذا تجتمع الأدلةُ، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): جواز الحديث بعد صلاة العشاء، إذا كان في خير، وإنما نُهي عن الكلام في غير الخير.

3 -

(ومنها): أن التأني في الأمور مطلوب.

4 -

(ومنها): أن التبشير لأحد بما يَسُرّه محبوب؛ لأن فيه إدخال السرور في قلب المؤمن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله: المذكور أولَ الكتاب قال:

[1453]

(642) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيُّ حِينٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ: الْعَتَمَةَ، إِمَامًا وَخِلْوًا؟، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَعْتَمَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ الْعِشَاءَ

(3)

، قَالَ: حَتَّى رَقَدَ نَاسٌ، وَاسْتَيْقَظُوا، وَرَقَدُوا، وَاسْتَيْقَظُوا، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: الصَّلَاةَ، فَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَخَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ الْآنَ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ، قَالَ

(4)

: "لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا كَذَلِكَ"، قَالَ: فَاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً، كَيْفَ وَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ؟ كَمَا أَنْبَأَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيدٍ، ثُمَّ وَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ عَلَى قَرْنِ الرَّأْسِ، ثُمَّ صَبَّهَا، يُمِرُّهَا كَذَلِكَ عَلَى الرَّأْسِ، حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامُهُ طَرَفَ الْأُذُنِ، مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ، ثُمَّ عَلَى الصُّدْغِ، وَنَاحِيَةِ اللِّحْيَةِ، لَا يُقَصِّرُ، وَلَا يَبْطِشُ بِشَيْءٍ، إِلَّا كَذَلِكَ،

(1)

"الفتح" 2/ 58.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "بالعشاء".

(4)

وفي نسخة: "فقال".

ص: 104

قُلْتُ لِعَطَاءٍ: كَمْ ذُكِرَ لَكَ أَخَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَئِذٍ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ عَطَاءٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَهَا إِمَامًا وَخِلْوًا مُؤَخَّرَةً، كَمَا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَئِذٍ، فَإِنْ شَقَّ

(1)

عَلَيْكَ ذَلِكَ خِلْوًا، أَوْ عَلَى النَّاسِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَأَنْتَ إِمَامُهُمْ، فَصَلِّهَا وَسَطًا، لَا مُعَجَّلَةً، وَلَا مُؤَخَّرَةً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب أيضًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم في الباب أيضًا.

4 -

(عَطَاء) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وعبد الرزّاق، فصنعانيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع.

5 -

(ومنها): أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وبحر الأمة، وحبرها رضي الله عنه، وآخر من مات من الصحابة بالطائف، مات سنة (68)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

وفي نسخة: "قال: فإن شقّ".

ص: 105

شرح الحديث:

عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ) أي ابن أبي رباح (أَيُّ حِينِ أَحَبُّ إِلَيْكَ)"أَيُّ" اسم استفهام مبتدأ، مضاف إلى "حين"، وخبره قوله:"أحب إليك"(أَنْ أُصَلِّيَ الْعِشَاءَ)"أن" بفتح الهمزة مصدريّة، و"أصلي" صلتها، ومتعلقه محذوف، تقديره "فيه"، و"أن" وصلتها في تأويل المصدر مجرور بحرف جر مقدَّر، أي لصلاتي، وتقدير الكلام: أيُّ وقت أحبُّ إليك لصلاتي العتمةَ فيه.

(الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ: الْعَتَمَةَ) أي يسمّونها بها، وهي بفتحات، والمراد بها هنا العشاء، وتقدم الخلاف في معناها. (إِمَامًا) حال من فاعل "أصلي"، وهو المُقْتَدَى به في الصلاة.

قال الفيوميّ رحمه الله: الإمام: الخليفة، والعالِمُ المقتدَى به، ومن يُؤْتَمّ به في الصلاة، ويُطْلَق على الذكر، والأنثى، قال بعضهم: وربما أنث إمام الصلاة بالهاء، فقيل: امرأة إمامة، وقال بعضهم: الهاء فيها خطأ، والصواب حذفها؛ لأن الإمام اسم لا صفة. انتهى

(1)

.

(وَخِلْوًا؟) وفي رواية النسائيّ: "أو خِلْوًا" بـ "أو"، وهو بكسر الخاء وسكون اللام: أي منفردًا (قَالَ) عطاء (سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَعْتَمَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي أبطأ، وتأخر (ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي ليلةً من الليالي، فـ "ذات" مقحمةً (الْعِشَاءَ) بالعشاء (قَالَ: حَتَّى رَقَدَ نَاسٌ) أي ناموا، ويقال: رَقَدَ، رَقْدًا، ورُقَادًا، بالضم: نام، ليلًا كان، أو نهارًا، وبعضهم يخُصّه بنوم الليل، والأول هو الحقّ، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]. قاله في "المصباح".

والمراد بالناس: هم الحاضرون في المسجد.

(وَاسْتَيْقَظُوا، وَرَقَدُوا، وَاسْتَيْقَظُوا) يعني أن النوم والاستيقاظ تكرّر منهم؛ لطول الانتظار (فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (فَقَالَ: الصَّلَاةَ) منصوب بفعل مقدّر، أي صلّ الصلاة، وفي رواية النسائيّ:"الصلاةَ الصلاةَ" بالتكرار،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 23.

ص: 106

والتكرار للتأكيد، ويَحْتمل أن يكون منصوبًا على الإغراء، وعامله محذوفٌ وجوبًا؛ لكون المُغْرَى به مكرَّرًا، كما قال في "الخلاصة":

وَكَمُحَذَّرٍ بِلا "إيَّا" اجْعَلَا

مُغْرًى بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا

بعد بيان حكم المحذَّر بقوله:

إيِّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ

مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ

وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإيَّا انْسُبْ وَمَا

سِوَاه سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا

إلا مَعَ الْعَطْفِ أوِ التَّكْرَار

كَالضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي

أي الزم الصلاة، وزاد في رواية البخاريّ:"نام النساء، والصبيان".

(فَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَخَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته إلى المسجد (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ الْآنَ) أي كأني أشاهده في الوقت الذي أحدثكم فيه، وهذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما تأكيدًا لكلامه، وأنه ما نَسِيَ الواقعة، بل استحضرها في ذهنه، حتى كأنها مشاهَدَةٌ له حين التحديث بها.

و"الآن" منصوب على الظرفية، متعلق بـ "أنظر"، وهو ظرف للوقت الحاضر الذي أنت فيه ويلزم دخول الألف واللام، وليس ذلك للتعريف؛ لأن التعريف تمييز للمشترِكات، وليس لهذا ما يَشْرَكُهُ في معناه.

قال ابن السَّرَّاج: ليس هو آنَ، وآنّ، حتى يدخل عليه الألف، واللام للتعريف، بل وُضِعَ مع الألف واللام للوقت الحاضر، مثل "الثُّرَيَّا"، "والذي"، ونحوِ ذلك، قاله في "المصباح".

والجملة في محل نصب حال من محذوف، أي أخبركم به حال كوني مُشَبِّهًا نفسي ناظرةً إليه في الوقت الحاضر.

(يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً) وكأنه اغتسل قبيل خروجه، والجملة حال من الضمير في "إليه"، ويَحْتَمِل أن تكون حالًا من "نبي اللَّه"، و"ماءً" تمييز محوَّل عن الفاعل.

(وَاضِعًا يَدَهُ) حال أيضًا، إما مترادف، أو متداخل (عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ) أي على جانب رأسه، وإنما وضع يده عليه ليعصر ما فيه من الماء (قَالَ) وفي نسخة:"فقال"، أي قال صلى الله عليه وسلم حين خرج إليهم، مبيِّنًا استحباب تأخير العشاء ("لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي)"لولا" حرف امتناع لوجود، و"أن يشُقّ" في تأويل

ص: 107

المصدر مبتدأ خبره محذوف وجوبًا، لقيام جواب "لولا" مقامه، وهو قوله:(لَأَمَرْتُهُمْ) أي لولا خوف المشقة على أمتي في تأخير صلاة العشاء إلى هذا الوقت لأمرتهم (أَنْ يُصَلُّوهَا) في تأويل المصدر مجرور بباء مقدرة قياسًا، أي بصلاتها (كَذَلِكَ") أي في حالٍ مشابهٍ لهذا، وهو كونها مؤخَّرة إلى هذا الوقت، ولفظ البخاريّ:"أن يصلّوها هكذا"، وفي رواية النسائيّ:"أن لا يصلّوها إلا هكذا"، وفي رواية له:"إنه الوقت، لولا أن أشق على أمتي"، واللَّه أعلم.

[فائدة]: وقع في رواية الطبرانيّ من طريق طاوس في هذا الحديث بمعناه، قال: وذهب الناس إلا عثمان بن مظعون في ستة عشر رجلًا، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما صلى هذه الصلاة أمة قبلكم"، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) ابن جريج (فَاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً) أي طلبت منه التثبيت، يقال: اسْتَثْبَتَ في أمره: إذا شاور، وفحص عنه، قاله في "اللسان"(كيْفَ وَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ؟ كَمَا أَنْبَأَهُ) أي أخبره (ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ) أي فَرَّق، من التبديد، وهو التفريق (بَيْنَ أَصَابِعِهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيدٍ) أي تفريقًا قليلًا (ثُمَّ وَضَعَ أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ عَلَى قَرْنِ الرَّأْسِ) أي جانبه (ثُمَّ صَبَّهَا) بالصاد المهملة، ثم الموحّدة المشدّدة، وللبخاريّ:"ثم ضمّها" بالضاد المعجمة، والميم، وصوّب القاضي عياض الأول، قال: لأنه يصف عصر الماء من الشعر باليد، وقال الحافظ: ورواية البخاري، أيضًا مُوَجَّهة، بأنّ ضم الأصابع صفة للعاصر، فلا اختلاف بين المعنيين.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ثم صبّها"، هكذا هو في أصول روايتنا، قال القاضي: وضبطه بعضهم: "قَلَبَها"، وفي البخاريّ:"ضمّها"، والأول هو الصواب بدليل لفظ الحديث. انتهى

(2)

.

(يُمِرُّهَا) بضم أوله، من الإمرار رباعيًّا، وللنسائيّ:"يَمُرّ بها" من المرور ثلاثيًّا، والجملة حال من "أطراف الأصابع"، وقوله:(كَذَلِكَ) أي على مثل تلك الحال من الصبّ، والجارّ والمجرور: متعلِّق بحال مقدر، أي حال كون

(1)

2/ 62.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 606، و"شرح النوويّ" 5/ 141.

ص: 108

الإمرار كائنًا كذلك (عَلَى الرَّأْسِ) متعلّقٌ بـ "يُمِرّ"(حَتى مَسَّتْ إِبْهَامُهُ طَرَفَ الْأُذُنِ)"إبهامه" مرفوع على الفاعلية، و"طَرَفَ الأذن" منصوب على المفعولية (مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ، ثُمَّ عَلَى الصُّدْغِ) بضم، فسكون: ما بين لَحْظِ العين إلى أصل الأذن، والجمع: أَصْداغ، مثل: قُفْل، وأقْفَال، ويُسَمَّى الشعر الذي تَدَلَّى على ذلك الموضع صُدْغًا، قاله في "المصباح"(وَنَاحِيَةِ اللِّحْيَةِ) أي جانب اللحية، وفي رواية النسائيّ:"وناحية الجَبِين": و"الجبينُ": ناحية الجبهة من مُحَاذَاة النَّزَعَةِ إلى الصُّدْغ، وهما جبينان، عن يمين الجبهة، وشمالها، قاله الأزهريّ، وابن فارس، وغيرهما؛ فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جُبُن، بضمتين، مثل بَرِيد، وبُرُد، وأجْبِنَةٌ، مثل أسْلِحَةٍ، قاله في "المصباح".

(لَا يُقَصِّرُ) من التقصير بالقاف؛ أي لا يبطئ. قال في "الفتح": ووقع عند الكشميهنيّ: "لا يَعُصُر" بالعين، والأولى أصوب. انتهى. (وَلَا يَبْطِشُ) من بابي نصر، وضرب، أي لا يستعجل.

وقال النوويّ: قوله: "ولا يقصّر، ولا يبطِش" هكذا هو في "صحيح مسلم"، وفي بعض نسخ البخاريّ، وفي بعضها:"ولا يعصر"، بالعين، وكلّه صحيح. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِشَيْءٍ) متعلّق بـ "يقصّر"، و"يبطِش" على سبيل التنازع، وللنسائيّ:"شيئًا" بالنصب (إِلَّا كَذَلِكَ) أي إلا مثل ما وصفه ابنُ عباس لعطاء، وعطاءٌ لابن جريج.

قال ابن جريج: (قُلْتُ لِعَطَاءٍ: كَمْ ذُكِرَ لَكَ أَخَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَئِذٍ؟) أي ليلة إذ أعتم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعشاء (قَالَ) عطاء (لَا أَدْرِي) هكذا قال عطاء، وقد تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها:"حتى ذهب عامّة الليل"، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"حين ذهب ثلث الليل، أو بعده"، وفي حديث أنس رضي الله عنه:"إلى شطر، أو كاد يذهب شطر الليل".

(قَالَ عَطَاءٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ) بصيغة اسم التفضيل، وهو خبر مقدّم لقوله:(أَنْ أُصَلِّيَهَا) و"أن" مصدريّة (إِمَامًا وَخِلْوًا مُؤَخَّرَةً) حال كـ "إمامًا"، فهما حالان

(1)

"شرح النووي" 5/ 142.

ص: 109

مترادفان، أو متداخلان (كَمَا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَئِذٍ) أي ليلة إذ أعتم بالعشاء (فَإِنْ شَقَّ) وفي نسخة:"قال: فإن شقّ"(عَلَيْكَ ذَلِكَ) أي صلاتها مؤخّرةً (خِلْوًا، أَوْ) شقّ ذلك (عَلَى النَّاسِ) الذين يريدون أن يصلّوها (فِي الْجَمَاعَةِ، وَأَنْتَ إِمَامُهُمْ) حال من الناس (فَصَلِّهَا وَسَطًا) أي بين التعجيل والتأخير، كما بيّنه بقوله (لَا مُعَجَّلَةً، وَلَا مُؤَخَّرَةً) فيه أن عطاءً يرى استحباب تاخير العشاء إذا لم يشقّ على الناس، وهذا هو الأرجح من أقوال العلماء، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1454](642)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(571)، و"التمنّي"(7239)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(531 و 532)، وفي "الكبرى" أيضًا (1531)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2113)، و (الحميديّ) في "مسنده"(492)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 331)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 476)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 276)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(342)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1532 و 1533)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1073)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1426)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11424)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 449)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب التأخير بصلاة العشاء، وقد مرّ تفصيل مذاهب العلماء في ذلك قريبًا.

2 -

(ومنها): بيان حرص السلف -رحمهم اللَّه تعالى- في طلب الأوْلَى والأفضل من الأوقات لإيقاع أفضل الطاعات بعد الشهادتين، وهي الصلاة فيه.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي لمن استُفْتِيَ أن يذكر الجواب مقرونًا بدليله.

ص: 110

4 -

(ومنها): أنه ينبغي للسائل أن يتثبت في نقل العلم، ويُشَدِّد في الأخذ؛ ليكون على بصيرة.

5 -

(ومنها): أن النوم لا ينقض الوضوء، وهذا محمول على نوم الممكِّن مقعدته على الأرض؛ توفيقًا بين هذا وبين النصوص الدالة على أن النوم ينقض الوضوء، كما تقدم البحث عنه مُسْتَوْفًى في "كتاب الطهارة".

6 -

(ومنها): بيان فضيلة صلاة العشاء، حيث إنها خُصّت بها هذه الأمة، كما سبق آنفًا في حديث الطبرانيّ:"ما صلى هذه الصلاة أمة قبلكم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1454]

(643) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

5 -

(سِمَاك) بن حرب بن أوس بن خالد الذُّهْليّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، إلا في عكرمة، فمضطرب فيه، وتغيّر بآخره، فربّما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف لسماك بن حرب في الأصول، وقد وُصف بالتغيّر؟.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 111

[قلت]: إن صاحبي "الصحيحين" يُخرجان للمختلطين ما تأكّدا أنهم حفظوه، ولم يختلطوا فيه، وذلك يُعرف بأحد أمرين:

[الأول]: أن يكون الراوي عنهم ممن روى قبل اختلاطهم.

[والثانى]: أن يوافقهم غيرهم فيه، بأن تابعهم عليه، أو يروى بمعنى ما رووا، وما هنا من هذا الصنف؛ لأن حديث سماك عن جابر قد أخرج له المصنّف وغيره في الباب أحاديث بمعناه، فأحاديث الباب كلها تشهد له.

والحاصل أن حديث جابر بن سمُرة رضي الله عنهما من رواية سماك عنه محفوظ، لم يؤثّر فيه تغيّره.

وقد ذكرت ضابط أحاديث المختلطين التي تُقبل منهم في منظومتي "عمدة المحتاط في معرفة من رُمي بالاختلاط" مع بيان معنى الاختلاط، فقلت:

الاخْتِلَاطُ لُغَةً قَدْ فُسِّرَا

بِأَنَّهُ فَسَادُ عَقْلٍ قَدْ عَرَا

وَفِي اصْطِلَاحِهِمْ فَسَادُ عَقْلِ

وَفَقْدُ ضَبْطِ قَوْلِهِ وَالْفِعْلِ

بِسَبَبٍ كَمَوْتِ حِبٍّ أَوْ مَرَضْ

أَوْ خَرَفٍ أَوْ فَقْدِ مَالٍ قَدْ عَرَضْ

وَحُكْمُهُ رَدُّ رِوَايَتِهِ إِنْ

بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ أَتَتْ إِنْ لَمْ تَبِنْ

مِمَّنْ رَوَى قَبْلُ وَهَكَذَا ذَكَرْ

ابْنُ الصَّلَاحِ وَاقْتَفَاهُ مَنْ أَثَرْ

وَالْحَقُّ مَا الْبُسْتِيُّ قَالَهُ لَدَى

كِتَابِهِ الصَّحِيحِ حَيْثُ أَرْشَدَا

بِأَنَّ مَا أُخِذَ عَنْهُمْ قَبْلُ أَوْ

قَدْ وَافَقُوا الثِّقَاتِ فِيهِ إِذْ رَوَوْا

يُقْبَلُ إِذْ هُمُ عُدُولٌ فَوَجَبْ

قَبُولُهُمْ وَغَيْرُ هَذَا يُجْتَنَبْ

وَذَا هُوَ الْحَقُّ لِمَنْ أَمْعَنَ فِي

نَظَرِهِ وَالسَّبْرِ لِلْمُؤَلَّفِ

سَلَكَهُ الشَّيْخَانِ فِيمَا صَنَعَا

لَدَى الصَّحِيْحَيْنِ وَنِعْمَ مَصْنَعَا

قَدْ أَخْرَجَا لِبَعْضِ مَنْ خَلَطَ عَنْ

طَرِيقِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ فِي الْوَهَنْ

إِذْ وَافَقُوا الثِّقَاتِ فِيمَا نَقَلُوا

فَرَاجِعِ الْكُتْبَ تَجِدْ مَا مَثَّلُوا

6 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنَادة السُّوَائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

ص: 112

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالسند التالي، وهو (88) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وأبي بكر، فالأول ما أخرج له أبو داود، والترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، و"سماك" علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أبي بكر بن أبي شيبة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ) وفي الرواية التالية: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نَحْوًا من صلاتكم، وكان يؤخِّر العتمة بعد صلاتكم شيئًا"، فدلّ على أن المراد بإطلاق التأخير هنا هو التأخير قليلًا، وذلك إلى ثلث الليل، كما بيّن في الروايات الآخرى، ففي حديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه الآتي:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤخّر العشاء إلى ثلث الليل"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1454 و 1455](643)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(533)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 330)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 89 و 93 و 95)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1527 و 1534)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1959 و 1974 و 2016)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 113

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1455]

(. . .)(وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى الصَّلَوَاتِ نَحْوًا مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ بَعْدَ صَلَاتِكُمْ شَيْئًا، وَكَانَ يُخِفُّ الصَّلَاةَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كَامِلٍ: يُخَفِّفُ).

هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حُسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من (80) سنة (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (89) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ نَحْوًا مِنْ صَلَاتِكُمْ) أي مشابهًا لما تصلّونه من حيث الوقت.

وقوله: (وَكَانَ يُؤَخِّرُ الْعَتَمَةَ بَعْدَ صَلَاتِكُمْ شَيْئًا) أي تأخيرًا قليلًا من الوقت الذي تصلّون فيه.

وقوله: (وَكَانَ يُخِفُّ الصَّلَاةَ) بضم حرف المضارعة، وكسر الخاء المعجمة، وتشديد الفاء بمعنى يُخفّف بفاءين في الرواية الأخرى، قال في "اللسان": وأخفّ الرجل، فهو مُخِفُّ، وخَفِيفٌ وخِفٌّ: أي خفّت حاله، ورَقّت، وإذا كان قليل الثِّقَل. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1456]

(644) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،

ص: 114

قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَغْلِبَنَكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالإِبِلِ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجة إمام، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

4 -

(ابْنُ أَبِي لَبِيدٍ) -بفتح اللام- مولى الأخنس بن شَرِيق، أبو المغيرة المَدني، نزيل الكوفة، ثقة، رُمِي بالقدر [6].

رَوَى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والمطّلب بن عبد اللَّه بن حنطب، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، وعبد اللَّه بن سُليمان بن يسار.

وروى عنه ابن إسحاق، وإبراهيم بن أبي يحيى، ومحمد بن عمرو بن علقمة، والسفيانان، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه: مَدَنِيٌّ قَدِمَ الكوفة، ما أعلم به بأسًا، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق في الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال الحميديّ عن سفيان: وكان من عباد أهل المدينة.

وقال الدَّرَاوَرْدِيّ: كان يُرْمَى بالقدر، فلم يُصَلِّ عليه صفوان بن سُلَيم، وقال ابن عديّ: أما في الروايات، فلا بأس به، وقال ابن سعد: كان من العباد المنقطعين، وكان يقول بالقدر، وكان قليل الحديث، وقال العجليّ: ثقة، وقال الساجيّ: كان صدوقًا، غير أنه اتُّهِمَ بالقدر، وقال العقيليّ: يخالف في بعض حديثه، وكان من المجتهدين في العبادة، وذكره ابن حبّان في "الثقات".

قال الواقدي: مات في خلافة أبي جعفر سنة بضع وثلاثين ومائة.

ص: 115

أخرج له الجماعة إلا الترمذيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا الحديث برقم (644) وأعاده بعده، وحديث (738):"كانت صلاته في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة"، و (1156):"يصوم حتى نقول: قد صام. . . ".

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قبل بابين.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، ذُكر في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى زهير وابن أبي لبيد فما أخرج لهما الترمذيّ، وابن أبي عمر فما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.

3 -

(ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا) ناهيةٌ (تَغْلِبَنَّكُمُ) فعل مضارع مؤكد بالنون الثقيلة، يقال: غَلَبَهُ على كذا: غصبه منه، أو أخذه منه قهرًا، قاله الطيبيّ رحمه الله.

(الْأَعْرَابُ) بفتح الهمزة: أهل البدو من العرب، واحده أعرابيّ، بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَةٍ، وارتِيَادٍ لِلْكَلِأ، قال الأزهريّ: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، قال: فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَنَ بِظَعْنهم، فهم: أعْرَاب، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن المُدُن، والقُرَى العربية، فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فُصَحَاء.

ويقال: سُمُّوا عَرَبًا؛ لأن البلاد التي سَكَنُوهَا تسمى العَرَبَاتَ، ويقال: العَرَبُ العَارِبَةُ: هم الذين تكلموا بلسان يَعْرُب بن قحطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعربة: هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- وهي لغات الحجاز، وما والاها، قاله في "المصباح".

(عَلَى اسْمِ صَلَاِتِكُمْ) وفي رواية النسائيّ: "على اسم صلاتكم هذه"،

ص: 116

فاسم الإشارة نحتٌ، أو بدلٌ من "صلاتكم"، والإشارة إلى العشاء (أَلا) أداة استفتاح وتنبيه (إِنَّهَا) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة (الْعِشَاءُ) أي سمّاها اللَّه تعالى في كتابه بهذا الاسم، فلا تتعرضوا لما هو من عادتهم، من تسميتها بالعَتَمة، فتَغْصِبَ منكم اسمَ العشاء التي سماها اللَّه تعالى به.

والمعنى: أنه لا ينبغي العدول عما في كتاب اللَّه تعالى من تسميتها عشاء، إلى ما ألِفَهُ الأعراب من تسميتها عَتَمَةً، ولعل حكمةَ العدول عنه قُبْحُ لفظه؟ إذ العتمة شدة الظلام، والصلاة هي النور الأعظم، فلا يليق أن يوضع لها لفظ يدل على نقيضها، قاله القاري رحمه الله

(1)

.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: المعنى فيه: أن العادة أن العُظَماء، إذا سَمَّوا شيئًا باسم، فلا يليق العدول عنه إلى غيره؛ لأن ذلك تنقيص لهم، ورغبة عن صنيعهم، وترجيح لغيره عليه، وذلك لا يليق، واللَّه عز وجل سماها في كتابه العشاء، في قوله:{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]، فيَقْبُح بعد تسمية ذي الجلال والإكرام العدولُ إلى غيره. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: قال الأزهريّ: أرباب النَّعَم في البادية يُريحون الإبل، ثم يُنيخونها في مراحها حتى يُعْتِموا، أي يدخلوا في عَتَمَة الليل، وهي ظلمته، وكانت الأعراب يُسمُّون صلاة العشاء صلاة العَتَمة؛ تسميةً بالوقت، فنهاهم عن الاقتداء بهم، واستَحَبّ لهم التمسّك بالاسم الناطق به لسان الشريعة. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": ونَقَل القرطبيّ عن غيره إنما نُهِي عن ذلك؛ تنزيهًا لهذه العبادة الشرعية الدينية عن أن يُطْلَق عليها ما هو اسم لفِعْلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت، ويسمونها العتمة.

وذكر بعضهم أن تلك الحلبة إنما كانوا يَعتمدونها في زمان الْجَدْب؛

(1)

"المرقاة شرح المشكاة" 2/ 325.

(2)

"ازهر الربى في شرح المجتبى" للسيوطيّ رحمه الله 1/ 270.

(3)

"النهاية" 3/ 180.

ص: 117

خوفًا من السُّؤَّال والصعاليك، فعلى هذا فهى فِعْلة دنيوية مكروهة، لا تُطْلَق على فِعْلة دينية محبوبة.

ومعنى الْعَتْم في الأصل تأخير مخصوص، وقال الطبريّ: الْعَتَمة بقية اللبن، تُغْبَق

(1)

بها الناقة بعد هويّ من الليل، فسُمِّيت الصلاة بذلك؛ لأنهم كانوا يصلونها في تلك الساعة.

وروى ابن أبي شيبة، من طريق ميمون بن مهران، قال: قلت لابن عمر: مَن أول مَن سَمَّى صلاة العشاء العتمة؟ قال: الشيطان. انتهى

(2)

.

وقال السنديّ رحمه الله ما حاصله: الاسمُ الذي ذكره اللَّه تعالى في كتابه لهذه الصلاة اسمُ العشاء، والأعراب يسمونها العتمةَ، فلا تُكثِروا استعمالَ ذلك الاسم؛ لما فيه من غلبة الأعراب عليكم، بل أكثروا استعمال اسم العشاء؛ موافقة للقرآن، فالمراد النهي عن إكثار اسم العتمة، لا عن استعماله أصلًا، فاندفع ما يتوهم من التنافي بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى التي سبقت في الباب، وغيرها.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره العلامة السنديّ رحمه الله من الجمع بين الأحاديث بحمل النهي على إكثار الاستعمال، حسنٌ جدًا، وهو الذي يدلّ عليه تعبيره بقوله:"لا تغلبنكم"، فإن الغلبة تكون بإكثار الاستعمال، لا بالاستعمال أحيانًا للحاجة، مثل أن يُعرّفها لمن لا يعرف إلا اسم العَتَمَة، كما سبق في قوله:"التي تسمّونها العتمة"، واللَّه تعالى أعلم.

(وَهُمْ) أي الأعراب، ولفظ النسائيّ:"فإنهم" بالفاء التعليليّة (يُعْتِمُونَ) من الإعتام رباعيًّا، يقال: أعْتَمَ الرجل: إذا دخل في العَتَمَة وهي الظلمة، كأصبح: إذا دخل في الصباح، أفاده في "المصباح".

(بِالإِبِلِ") بحلب الإبل، وللنسائيّ:"على الإبل"، فـ "على" بمعنى اللام،

(1)

غبق الإبلَ والغنم، من بابي نصر، وضرب: حلبها بالعشيّ، أفاده في "لسان العرب" 10/ 281.

(2)

"الفتح" 2/ 54.

ص: 118

للتعليل، كما في قوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، أي يؤخرون الوقت لأجل حِلاب الإبل، في الظلام.

وقال السنديّ رحمه الله: أي يؤخرون الصلاة، ويدخلون في ظلمة الليل بسبب الإبل، وحلبها. انتهى.

وقيل: كانوا يؤخرون الحلاب إلى الظلمة، وشممون ذلك الوقتَ العَتَمَةَ، فهو من باب تسمية الشيء باسم وقته، أي لا تُطلقوا هذا الاسم على العشاء؛ لئلا يغلب مصطلَحُهُم على ما جاء في كتاب اللَّه عز وجل تعالى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بحديث الباب:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ" بعد ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من رواية مسلم رحمه الله ما نصّه: كذا رواه ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة، وابنُ أبي لبيد كان يُتّهم بالقدر، وقال العقيليّ: كان يُخالف في بعض حديثه، وتابعه عليه ابنُ أبي ليلى، عن أبي سلمة، وابنُ أبي ليلى ليس بالحافظ، ورواه عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي سلمة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وقيل: عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة مرفوعًا، وأخرجه ابن ماجه، وليس بمحفوظ، وفيه أيضًا: عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده جهالة. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: رواية المصنّف لا طعن فيها، وابن أبي لبيد وثقه جماعة، وإنما تكلموا فيه للقدر، ولم يتكلموا في روايته، وأما قول العقيليّ، فلم يتابعه عليه غيره، وأما المخالفة المذكورة في الروايات المذكورة فلا يُلتفت إليها؛ لأن أسانيدها ضعيفة.

والحاصل أن رواية المصنّف رحمه الله صحيحة دون شكّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 364.

ص: 119

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1456 و 1457](644)، و (أبو داود) في "الأدب"(4984)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(541 و 542)، و"السنن الكبرى"(1522 و 1523)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(704)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2151 و 2152)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 50)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 10 و 19 و 49)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1541)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1088 و 1089 و 1090)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1429 و 1430)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 372)، و (البغوي) في "شرح السنّة"(377)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن تسمية العشاء بالعتمة؛ حملًا على كثرة الاستعمال، أو حملًا على التنزيه، وتقدم أنه محمول على كثرة استعماله حتى يغلب على الاسم الشرعيّ، أو محمول على التنزيه.

2 -

(ومنها): أن الاسم الذي سماها اللَّه تعالى به في كتابه هو العشاء، حيث قال:{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58].

3 -

(ومنها): أن الأسماء الشرعية إذا خالفت الأسماء العرفية ينبغي أن تقدم عليها.

4 -

(ومنها): أنه ينبغي للمسلم أن لا يُقَلِّد الجاهلية حتى في الأسماء، بل يتبع الشرع في جميع أموره، فإن للشارع حكمةً في اختيار الأسماء وغيرها، فلا ينبغي العدول عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في كراهة تسمية العشاء بالعتمة:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب ذكر العشاء، والْعَتَمَة، ومن رآه واسعًا".

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرحه": مراده أن العشاء الآخرة تُسمّى العشاء، وتُسمّى الْعَتَمة، وأنه يجوز تسميتها بالعتمة من غير كراهة، وإن كان تسميتها بالعشاء أفضل؟ اتّباعًا لقول اللَّه عز وجل:{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور:

ص: 120

58]، وهذا قول كثير من العلماء، أو أكثرهم، وهو ظاهر كلام أحمد، وقول أكثر أصحابه، وكذا قال الشافعيّ في "الأمّ": أحبُّ إليّ أن لا تُسمّى العشاء الآخرة عتمةً، وهو قول كثير من أصحابه، أو أكثرهم.

ومنهم من قال: يكره أن تسمّى عتمةً، وهو وجه ضعيفٌ لأصحابنا، وقد روي عن طائفة من السلف منهم ابن عمر، وكان يكرهه كراهة شديدةً، ويقول: أول من سقاها بذلك الشيطان، وكرهه أيضًا ابنه سالم، وابن سيرين.

قال: وقد حمله -يعني حديث: "لا تغلبنّكم الأعراب. . . إلخ"- بعض أصحابنا على كراهة نفي الكمال دون الكراهة، وحمله بعضهم على كراهة هجران اسم العشاء، وغلبة اسم العتمة عليها كفعل الأعراب، وتسميتها في كتاب اللَّه بالعشاء، لا يدلّ علىكراهة تسميتها بغيره، كما أن اللَّه تعالى سمّى صلاة الصبح صلاة الفجر، ولا يُكره تسميتها صلاة الصبح. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": واختَلَف السلف في ذلك، فمنهم من كرهه، كابن عمر راوي الحديث، ومنهم من أطلق جوازه، نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره، ومنهم من جعله خلاف الأولى، وهو الراجح، وكذلك نقله ابن المنذر، عن مالك، والشافعيّ، واختاره.

وقال أيضًا بعد ذكره أنه ورد تسميتها بالعتَمَة في حديث ابن عمر، وأبي برزة، وعائشة رضي الله عنهم ما نصّه: وفي كل ذلك إشعار بغلبة استعمالهم لها بهذا الاسم، فصار مَن عَرَفَ النهي عن ذلك يَحتاج إلى ذكره؛ لقصد التعريف.

قال النوويّ وغيره: يُجْمَع بين النهي عن تسميتها عَتَمَةً وبين ما جاء من تسميتها عتمة بأمرين:

[أحدهما]: أنه استَعْمَل ذلك لبيان الجواز، وأن النهي للتنزيه، لا للتحريم.

[والثاني]: بأنه خاطب بالعَتَمَة مَن لا يعرف العشاء؛ لكونه أشهر عندهم من العشاء، فهو لقصد التعريف، لا لقصد التسمية.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 363 - 365.

ص: 121

ويَحْتَمِل أنه استَعْمل لفظ العتمة في العشاء؛ لأنه كان مشتهرًا عندهم استعمال لفظ العشاء للمغرب، فلو قال:"لو يعلمون ما في الصبح والعشاء" لتوهموا أنها المغرب.

قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأنه قد ثبت في نفس هذا الحديث: "لو يعلمون ما في الصبح والعشاء"، فالظاهر أن التعبير بالعشاء تارة، وبالعتمة تارةً من تصرف الرواة.

وقيل: إن النهي عن تسمية العشاء عَتَمَةً نسخ الجواز.

وتُعُقّب بأن نزول الآية كان قبل الحديث المذكور، وفي كل من القولين نظر؛ للاحتياج في مثل ذلك إلى التاريخ، ولا بُعْد في أن ذلك كان جائزًا، فلما كَثُر إطلاقهم له نُهُوا عنه؛ لئلا تغلب ألسنة الجاهلية على السنّة الإسلامية

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق من ذكر أقوال أهل العلم، وأدلّتها أن الأرجح أنه يجوز إطلاق اسم العتمة على العشاء؛ لصحّة الأحاديث بذلك، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لو يعلمون ما في الصبح والعتمة لأتوهما ولو حبوًا"، متّفقٌ عليه، وغير ذلك، وأيضًا فان الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة، فدلّ على جواز ذلك، لكن الأولى اجتنابه؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الباب، وبهذا تجتمع الأدلّة دون تخالف وتعارض، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أنه ورد النهي أيضًا عن تسمية المغرب بالعشاء:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب من كِره أن يقال للمغرب: العشاء".

قال الزين ابن الْمُنِّير رحمه الله: عَدَلَ البخاريّ رحمه الله عن الجزم كأن يقول: باب كراهية كذا؛ لأن لفظ الخبر لا يقتضي نهيًا مطلقًا، لكن فيه النهي عن غلبة الأعراب على ذلك، فكأن المصنف رأى أن هذا القدر لا يقتضي المنع من إطلاق العشاء عليه أحيانًا، بل يجوز أن يُطلَق على وجه لا يُتْرَك له التسمية

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 46.

ص: 122

الأخرى، كما ترك ذلك الأعراب وقوفًا مع عادتهم، قال: وإنما شُرع لها التسمية بالمغرب؛ لأنه اسم يُشعِر بمسماها، أو بابتداء وقتها، وكَرِه إطلاق اسم العشاء عليها؛ لئلا يقع الالتباس بالصلاة الأخرى، وعلى هذا لا يكره أيضًا أن تسمى العشاء بقيد، كأن يقول: العشاء الأولى، ويؤيِّده قولهم: العشاء الآخرة، كما ثبت في الصحيح.

ونَقَلَ ابن بطال عن غيره أنه لا يقال للمغرب: العشاء الأولى، ويَحتاج إلى دليل خاصّ، أما من حديث الباب فلا حجة له، قاله في "الفتح".

ثمّ أخرج البخاريّ بسنده عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تغلبنَّكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب"، قال:"وتقول الأعراب: هي العشاء"، وأخرجه أحمد، وابن خزيمة.

قال الطيبيّ رحمه الله: يقال: غلبه على: غصبه منه، أو أخذه منه قهرًا، والمعنى: لا تتعرضوا لما هو من عادتهم من تسمية المغرب بالعشاء، والعشاء بالعتمة، فيَغْصِبَ منكم الأعراب اسمَ العشاء التي سماها اللَّه بها، قال: فالنهي على الظاهر للأعراب، وعلى الحقيقة لهم.

وقال غيره: معنى الغلبة أنكم تسمونها اسمًا، وهم يسمونها اسمًا، فإن سميتموها بالاسم الذي يسمونها به وافقتموهم، وإذا وافق الخصم خصمه: صار كأنه انقطع له حتى غلبه، ولا يحتاج إلى تقدير غصب، ولا أخذ.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: المعنى: لا تطلقوا هذا الاسم على ما هو متداول بينهم، فيَغْلِبَ مصطلحُهم على الاسم الذي شرعته لكم. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قد استدلّ بحديث ابن مغفّل رضي الله عنه هذا من كره تسمية المغرب العشاء، وهو قول أصحاب الشافعيّ وغيرهم، وقال أصحابنا -يعني الحنابلة-: لا يُكره ذلك، واستدلُّوا بأن العشاء تسمّى العشاء الآخرة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أيّما امرأة أصابت بَخُورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة"، رواه مسلم، فهذا يدلّ على أن المغرب العشاء الأولى.

(1)

"الفتح" 2/ 52.

ص: 123

وأجاب بعضهم بأن وصف العشاء بالآخرة؛ لأنها آخر الصلوات، لا لأن قبلها عشاء أخرى.

وقد حُكي عن الأصمعيّ أنه أنكر تسميتها العشاء الآخرة، ولا يُلتَفت إليه.

وفي "صحيح مسلم" عن عليّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم العصر يوم الأحزاب بين العشاءين: المغرب والعشاء.

قال أصحابنا -يعني الحنابلة-: وحديث ابن مُغفَّل رضي الله عنه يدلّ على أن تسميتها بالمغرب أفضل، ونحن نقول بذلك، ومن متأخّريهم من قال: حديث ابن مغفَّل إنما يدلّ على النهي عن أن يغلب اسم العشاء على المغرب، حتى يُهجَر اسم المغرب، أو يقِلّ تسميتها بذلك، كما هي عادة الأعراب، فأما إذا لم يغلب عليها هذا الاسم فلا يتوجّه النهي حينئذ إليه.

وقد تقدّم أنها تُسمّى صلاة البصر أيضًا، فإذا سُمّيت بذلك من غير أن يُهجر تسميتها بالمغرب، ويَغلب تسميتها بذلك جاز. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق من ذكر الأقوال وأدلّتها أن الأرجح جواز تسمية المغرب بالعشاء؛ لصحّة الأحاديث بذلك، لكن الأولى تسميتها بالمغرب؛ لحديث عبد اللَّه بن مغفّل رضي الله عنه، كما سبق القول في تسمية العشاء بالعتمة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1457]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَغْلِبَنَكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّهَا في كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ، وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلَابِ الإِبِلِ").

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 361 - 362.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 124

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ حجةٌ إمامٌ، رأس [4](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلَابِ الإِبِلِ) أي إن الأعراب تؤخّر حلب إبلها إلى شدّة الظلام، فمن ثمّ يسمّون العشاءَ العتمة، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(41) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّغْلِيسِ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَيَانِ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1458]

(645) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ عَمْرٌو

(1)

: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ كُنَّ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَرْجِعْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

(1)

وفي نسخة: "عن سفيان، قال عمرو".

ص: 125

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) عن (74) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجةٌ إمامٌ، رأس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

7 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما، ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثالث ما أخرج لهما الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، من الزهريّ، وسفيان مكيّ، وأبو بكر كوفيّ، والباقيان بغداديّان.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210)، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ) قال النوويّ رحمه الله: صورته صورة إضافة الشيء إلى نفسه، واختُلِف في تأويله وتقديره، فقيل: تقديره: نساء

ص: 126

الأنفس المؤمنات، وقيل: نساء الجماعات المؤمنات، وقيل: إن "نساء" هنا بمعنى الفاضلات، أي فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم: أي فضلاؤهم، ومقدموهم. انتهى

(1)

. (كُنَّ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ، مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "لقد كان نساء المؤمنات يشهدن الفجر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ يَرْجِعْنَ) أي إلى بيوتهنّ (مُتَلَفِّعَاتٍ) بالعين المهملة بعد الفاء: أي متجلّلات، ومتلفّفات، وهو منصوب على الحال من "نساء المؤمنات"، اسم فاعل من التَّلَفُّع -بالفاء والعين المهملة- أي ملتحفات، ورُويَ بالفاء المكررة، بدل العين، والأكثرون على خلافه.

قال الأصمعي: التلفع بالثوب أن يَشتمل به حتى يُجَلِّل به جسده، وهو اشتمال الصماء عند العرب؛ لأنه لم يرفع جانبًا منه، فيكون فيه فُرْجَة، وهو عند الفقهاء مثل الاضطباع، إلا أنه في ثوب واحد، وعن يعقوب: اللِّفَاعُ: الثوبُ، تَلْتَفِعُ به المرأة، أي تلتحف به، فيُغَيِّبُهَا، وعن كُرَاع: وهو المِلْفَع أيضًا.

وعن ابن دُرَيدٍ: اللِّفَاع الْمِلْحَفَةُ، أو الكِسَاء، وقال أبو عمرو: وهو الكساء، وعن صاحب "العين": تَلَفَّعَ بثوبه: إذا اضطبع به، وتلفع الرجل بالشيب: كأنه غطى سواد رأسه، ولحيته.

وفي "شرح الموطأ": التلفع أن يُلْقِيَ الثوب على رأسه، ثم يلتف به، لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس، وقد أخطأ من قال: الالتفاع مثل الاشتمال، وأما التلفُّف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه.

وفي "المحكم": الملْفَعَة ما يُلْفَعُ به من رِدَاء، أو لِحَافٍ، أو قِنَاعٍ، وفي "المُغِيث": وقيل: اللِّفَاع: النطع، وقيل: الكساء الغليظ. وفي "الصحاح": لَفَّعَ رأسه تَلْفِيعًا: أي غطاه، قاله في "العمدة"

(2)

.

(بِمُرُوطِهِنَّ) أي بأكسيتهنّ، وهو: جمع مِرْط -بكسر الميم- قال القزاز: المِرْط: مِلْحَفَة يُتَّزَرُ بها، والجمع أمْرَاط، ومُرُوط، وقيل: يكون المِرْطُ كِساءً من خَزٍّ، أو صوف، أو كَتَّان، وفي "المحكم": وقيل: هو الثوب الأخضر،

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 143.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 89.

ص: 127

وفي "مجمع الغرائب": أكسية من شعر أسود، وعن الخليل: هي أكسية معلمة، وقال ابن الأعرابي: هو الإزار، وقال النضر بن شميل: لا يكون المرط إلا درعًا، وهو من خَزّ أخضر، ولا يسمى إلا أخضر، ولا يلبسه إلا النساء، وقال عبد الملك بن حبيب في "شرح الموطأ": هو كساء صوف رقيق، خفيف، مربع، كُنّ النساء في ذلك الزمان يتزرن به، ويتلفعن، أفاده في "العمدة".

(لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ) أي من شدّة الغَلَس، قال في "الفتح": قال الداوديّ: لا يُعْرَفن أنساء هنّ أم رجال؟، فلا يظهرن للرائي، إلا أشخاصًا خاصة.

وقيل: لا يُعْرَف أعيانهن، فلا يفرق بين خديجة، وزينب، وضعّفه النوويّ؛ لأن المتلفعة في النهار، لا تُعْرَف عينها، فلا تبقى في الكلام فائدة.

قال الحافظ: يريد لا تبقى فائدة للتقييد بمتلفعات، وهذا بناء على أن عدم معرفتهنّ لأجل التلفع، وليس كذلك، بل عدم المعرفة للغلس، وإلا لم يكن الحديث حجة على التغليس، وإنما ذكرت عائشة التلفع بيانًا للواقع.

قال: وتعقب -يعني كلام النوويّ- بأن المعرفة إنما تعلق بالأعيان، ولو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم، وما ذكره من أن المتلفعة بالنهار لا تعرف عينها فيه نظر؛ لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مُغَطّى.

وقال الباجيّ: هذا يدل على أنهن كنّ سافرات؛ إذ لو كن متغطيات لمنع تغطية الوجه معرفتهن، لا التغليس، وفيه ما فيه؛ لأنه مبني على الاشتباه الذي أشار إليه النووي، وأما إذا كان لكل واحدة منهن هيئة غالبًا ففيه ما سلف. انتهى

(1)

.

قال الصنعانيّ: نعم قد يسلم للحافظ مُدّعاه فيمن تطول مصاحبته من الأهل ونحوهم، فيعرف الهيئة والمشي المعين، كما قال عمر لسودة: قد عرفناك يا سودة، مع أنها كانت متلفعة، ولكن الكلام في أعم من ذلك.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: فيما قال الصنعانيّ رحمه الله في سودة: "مع أنها

(1)

"فتح الباري" 2/ 66 - 67.

ص: 128

كانت متلفعة" نظر؛ لأن القصة كانت قبل الأمر بالحجاب فلا يُعْلَم كونها متلفعة، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 1458 و 1459 و 1460](645)، (والبخاريّ) في "الصلاة"(372)، و"المواقيت"(578)، و"الأذان"(867 و 872)، و (أبو داود) في "الصلاة"(423)، و (الترمذيّ) فيها (153)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(545)، وفي "الكبرى"(1528)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(669)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 5)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 50)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1459)، و (الحميديّ) في "مسنده"(174)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 320)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 178 و 179)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1499)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 176)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1091 و 1092 و 1093 و 1094 و 1095 و 1096)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1431 و 1432 و 1433)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 454)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(353)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب التغليس بصلاة الصبح، وفيه خلاف العلماء سيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

2 -

(ومنها): بيان جواز خروج النساء إلى المساجد لشهود الصلاة بالليل مع الرجال، وليس في الحديث ما يدلّ على كونهن عُجُزًا، أو شوابّ، وكَرِهَ بعضهم الخروج للشوابّ، وهو رأي ابن عمر، وجماعة من السلف، قال الصنعاني: ويحسن حمله على خشية الفتنة عليهن، أو بهن، فإنها مفسدة تربو

ص: 129

على مصلحة حضور الجماعة، ودفع المفاسد أهمّ من جلب المصالح. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله: ويؤخذ منه جوازه في النهار من باب أولى؛ لأن الليل مظنة الريبة أكثر من النهار، ومحل ذلك إذا لم يُخشَ عليهن، أو بهن فتنة. انتهى.

قال الصنعانيّ رحمه الله: ويقال: الفتنة بالنهار أكثر؛ لظهور محاسنهن، ولذا كان نساؤه صلى الله عليه وسلم لا يخرجن لقضاء حاجتهن إلا ليلًا، كما أفاده حديث عائشة في قصة الإفك. انتهى، وستأتي المسألةُ في بابها -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به بعضهم على جواز صلاة المرأة مختمرة الأنف والفم، فكأنه جعل التلفع صفة لشهود الصلاة.

وتعقبه عياض بأنها إنما أخبرت عن هيئة الانصراف، قاله في "الفتح".

قال الصنعانيّ رحمه الله: رواية البخاريّ التي ذكرناها أولًا، ورواية مسلم -يعني قوله:"كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن"- يدل لما قاله ذلك البعض؛ لأنه جعل متلفعات حالًا من فاعل شهود الصلاة، والحال قيد في عاملها، أي شهدنها حال كونهن متلفعات فهو صريح في صلاتهن متلفعات، أي يحضرنها معه على تلك الحال، نعم إحدى الروايات ليست على اللفظ -يعني رواية النسائي- إلا أنه قد يقال: من أين يلزم منه تغطية الأنف والفم؟ إلا أن يكون عرف ذلك العصر كذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أصرح الروايات في ذلك رواية النسائيّ بلفظ: "كُنَّ النساءُ يصلين مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصبح متلفعات بمروطهنّ"، فهذه رواية صريحة في كون الصلاة مع التلفع، فالظاهر جواز صلاتها مختمرةً؛ لظاهر هذا النصّ، مع أنه ليس في المنع دليل مرفوع، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في التغليس بصلاة الصبح:

(1)

"العدة حاشية العمدة" 2/ 70.

(2)

"العدة" 2/ 22.

ص: 130

ذهب أكثرهم إلى أن الأفضل فيها التغليس، وهو مذهب عمر، وعثمان، وابن الزبير، وأنس، وأبي موسى، وأبي هريرة رضي الله عنه، ونقله الحازميّ عن بقية الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وأبي مسعود الأنصاري، وأهل الحجاز، وبه قال الأوزاعيّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وجمهور العلماء.

وذهب بعضهم إلى أن الإسفار أفضل من التغليس، وهو مذهب النخعيّ، والثوريّ، وأبي حنيفة، وأصحابه، والحسن بن حَيٍّ، وأكثر العراقيين، وهو مرويّ عن عليّ، وابن مسعود رضي الله عنهما.

قال النوويّ: احتَجّ هؤلاء بحديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر"، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح وهذا لفظ الترمذي، وفي رواية أبي داود:"أصبحوا بالصبح، فإنه أعظم للأجر".

وعن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسنول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها، إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بجمع -يعني بالمزدلفة- وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها"، رواه البخاريّ، ومسلم، قالوا: ومعلوم أنه لم يصلها قبل طلوع الفجر، وإنما صلاها بعد طلوعه مغلسًا بها، فدل على أنه كان يصليها في جميع الأيام غير ذلك اليوم مسفرًا بها، قالوا: ولأن الإسفار يفيد كثرة الجماعة، واتصال الصفوف، ولأن الإسفار يتسع به وقت التنفل قبلها، وما أفاد كثرة النافلة كان أفضل.

واحتَجَّ الأولون القائلون بأفضلية التغليس بقول اللَّه تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]، ومن المحافظة تقديمها في أول الوقت؛ لأنه إذا أخرها عَرَّضَهَا للفوات، وبقوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، والصلاة تُحَصّل ذلك، وبقوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48].

وبحديث عائشة رضي الله عنها هذا، وهو مُتَّفقٌ عليه، وبحديث أبي برزة رضي الله عنه المذكور في هذا الباب، وفيه:"وكان يصلي الصبح، فينصرف الرجل إلى وجه جليسه الذي يعرف، فيعرفه، قال: وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة"، مُتّفق عليه.

ص: 131

وبحديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد هذا قال: "والصبح كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس"، مُتَّفق عليه.

وبحديث أنس رضي الله عنه قال: "تسحّر نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزيد بن ثابت، فلما فرغا من سحورهما، قام نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى، قال قتادة: قلت لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما، ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية"، رواه البخاري بلفظه، ومسلم بمعناه.

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كنت أتسحَّر في أهلي، ثم يكون سُرْعَةٌ بي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، رواه البخاريّ.

وعن أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس، حتى مات لم يَعُدْ إلى أن يسفر"، رواه أبو داود بإسناد حسن، قال الخطابيّ: هو صحيح الإسناد.

وعن مغيث بن سُمَيّ، قال:"صليت مع ابن الزبير صلاة الفجر، فصلى بغلس، وكان يُسْفِرُ بها، فلما سلّم قلت لابن عمر: ما هذه الصلاة؟ وهو إلى جانبي، فقال: هذه صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلما قُتل عمر أسفر بها عثمان رضي الله عنه"، قال الترمذيّ في "كتاب العلل": قال البخاريّ: هذا حديث حسن.

وأما الجواب عن حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، فمن وجهين:

أحدهما: أن المراد بالإسفار طلوع الفجر، وهو ظهوره، يقال: سَفَرت المرأة، أي كشفت وجهها، فإن قيل: لا يصح هذا التأويل، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فإنه أعظم للأجر"؛ لأن هذا يدل على صحة الصلاة قبل الإسفار، لكن الأجر فيها أقل، فالجواب أن المراد أنه إذا غلب على الظن دخول الوقت، ولم يتيقنه جازت الصلاة، ولكن التأخير إلى إسفار الفجر، وهو ظهوره الذي يتيقن به طلوعه أفضل، وقيل: يَحْتَمِل أن يكون الأمر بالإسفار في الليالي المقمرة، فإنه لا يتيقن فيها القجر إلا باستظهار في الإسفار.

والثاني: ذكره الخطابيّ أنه يَحْتَمِل أنهم لما أمروا بالتعجيل صلوا بين

ص: 132

الفجر الأول، والثاني طلبًا للثواب، فقيل لهم: صلوا بعد الفجر الثاني، وأصبحوا بها، فإنه أعظم لأجركم.

فإن قيل: لو صلَّوا قبل الفجر لم يكن فيها أجر، فالجواب أنهم يؤجرون على نيتهم، وإن لم تصح صلاتهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم، فأخطأ فله أجر".

وأما الجواب عن حديث ابن مسعود رضي الله عنه فمعناه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الفجر في هذا اليوم قبل عادته في باقي الأيام، وصلى في هذا اليوم أول طلوع الفجر، ليتسع الوقت لمناسك الحج، وفي غير هذا اليوم كان يؤخر عن طلوع الفجر قدر ما يتوضأ الْمُحْدِث، ويغتسل الجنب، ونحوه، فقوله قبل ميقاتها معناه قبل ميقاتها المعتاد بشيء يسير، والجواب عن قولهم: الإسفار يفيد كثرة الجماعة، ويتسع به وقت النافلة: إن هذه الفائدة لا تلحق بفائدة فضيلة أول الوقت، ولهذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُغَلِّس بالفجر، ذكر هذا كلّه النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في بعض هذه الأجوبة تعسُّفٌ ظاهر، وأحسن الأجوبة عندي، وأولاها في الجمع بين الأحاديث جواب من أجاب بأن حديث الإسفار معناه مَدّ القراءة إلى الإسفار، فيكون الدخول في القراءة في الغلس، والخروج في الإسفار.

قال العلامة ابن القيّم رحمه الله بعد ذكر حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه ما لفظه: وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار دوامًا، لا ابتداءً، فيدخل فيها مُغَلِّسًا، ويخرج مُسْفِرًا؛ كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم، فقوله موافق لفعله، لا مناقضٌ له، وكيف يُظَنُّ به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه؟!. انتهى.

وهذا هو الذي اختاره الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"، وقد بسط الكلام فيه، وقال في آخره: فالذي ينبغي الدخول في الفجر في وقت التغليس، والخروج منها في وقت الإسفار، على موافقة ما روينا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،

(1)

راجع: "المجموع شرح المهذب" 3/ 51 - 54 نُقل عنه بتصرف يسير.

ص: 133

وأصحابه رضي الله عنهم، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن

(1)

. انتهى.

وأصرح حديث يدلّ على هذا الجمع: ما أخرجه النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه". . . . ويصلي الصبح إلى أن ينفسح البصر"، ولفظ أحمد في "مسنده"

(2)

: ". . . والصبح إذا طلع الفجر إلى أن ينفسح البصر"، ففيه دلالة على أنه كان يدخل في الغلس، ويمدّ القراءة إلى أن يُسْفِرَ، واللَّه تعالى أعلم.

والحاصل أن أرجح المذهبين في هذه المسألة مذهب الجمهور، وهو أن الأفضل في صلاة الصبح التغليس؛ لقوة أدلّته، ولأنه واظب عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر بعده، ولأن فيه العمل بالحديثين جميعًا، حيث يُحمل حديث الإسفار على مدّ القراءة حتى يسفر الصبح، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1459]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ، يَشْهَدْنَ الْفَجْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ، وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ تَغْلِيسِ رَسُولِ اللَّهِ بِالصَّلَاةِ).

قد تقدّم هذا الإسناد بعينه في أول الباب الماضي، والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

هكذا عزا الطحاويّ هذا المذهب إليهم، لكن المشهور عند الحنفيّة أنهم يقولون باستحباب الإسفار دخولًا وخروجًا، انظر:"الدرّ المختار" مع حاشية "ردّ المحتار" 1/ 382، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

راجع: "المسند" 3/ 129 و 169.

ص: 134

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1460]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ، وقَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: مُتَلَفِّفَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلِب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(إِسْحَاق بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ) الْخَطْميّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.

3 -

(مَعْن) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى القزّاز المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.

4 -

(مَالِك) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين.

5 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيد) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 244) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

6 -

(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ، أكثرت عن عائشة رضي الله عنها[3] ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

7 -

(عَائِشَةَ) رضي الله عنها تقدمت في الباب.

وقوله: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"إن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا، أي إنه كان. . . إلخ.

وقوله: (مُتَلَفِّعَاتٍ) بالفاء والعين المهملة، من التلفّع، وهو تغطية الرأس والجسد.

وقوله: (بِمُرُوطِهِنَّ) جمع: مِرْط بكسر الميم: وهو الكساء.

وقوله: (مَما يُعْرَفْنَ) بالبناء للمفعول.

ص: 135

وقوله: (مِنَ الْغَلَسِ) أي من اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل، قال الأزهريّ: الغَلَسُ: بقايا ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر، وفي "القاموس" و"الصحاح": الغَلَس محركةً: ظلمةُ آخر الليل

(1)

.

فمن ابتدائية، أو تعليلية، ولا معارضة بين هذا، وبين حديث أبي برزة الأسلمي السابق أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه؛ لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفعات على بعد، وذاك إخبار عن رؤية الجليس. قاله في "الفتح"(2/ 67).

وقوله: (وقَالَ الْأَنْصَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ) هو إسحاق بن موسى، شيخه الثاني.

(مُتَلَفِّفَاتٍ) بفاءين: ومعناه: متغطّيات، والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1461]

(646) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ

(2)

، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْحَجَّاجُ

(3)

الْمَدِينَةَ، فَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا، وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ، كَانَ إِذَا رَآهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا، أَوْ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أول الباب.

(1)

راجع: "العدة حاشية العمدة" للصنعانيّ 2/ 17 بتصرف.

(2)

وفي نسخة: "محمد بن جعفر، عن شعبة".

(3)

وفي نسخة: "قال: قدم الحجاج".

ص: 136

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الْعَنزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِنِ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشار بُنْدَار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُنْدَر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

5 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسْطام البصريّ واسطيّ الأصل، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجةٌ إمام عابدٌ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

6 -

(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، قاضي المدينة، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [5] (ت 125) وقيل: بعدها، وهو ابن (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) بن أبي طالب، الهاشميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، أمه رَمْلَة بنت عَقِيل بن أبي طالب، ثقةٌ [4].

رَوَى عن عمّة أبيه زينب بنت علي، وابن عباس، وجابر.

وروى عنه سعد بن إبراهيم، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرَارة، وأبو الْجَحّاف داود بن أبي عوف، وعبد اللَّه بن ميمون.

قال أبو زرعة، والنسائيّ، وابن خراش: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله عند جميعهم حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث:"ليس من البرّ الصوم في السفر"

(1)

.

8 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد (70) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

(1)

سيأتي للمصنّف برقم (1115).

ص: 137

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، فرّق بينهم بالتحويل؛ لاختلافهم في صيغ الأداء، فالأول قال:"حدّثنا غندرٌ، عن شعبة"، فذكر شيخه بلقبه، وعنعن في سبعة، والأخيران قالا:"حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة"، ذكرا شيخهما باسمه، وصرّحا بالتحديث في شعبة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، ومحمد بن عمرو، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشّار من المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن نصف السند الأول مسلسلٌ بالبصريين، سوى أبي بكر، فكوفيّ، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.

5 -

(ومنها): أن فيه: روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: سعد عن محمد، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ) بن أبي طالب، وفي رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة التالية، عن سعد، سمع محمد بن عمرو بن الحسن (قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْحَجَّاجُ) جواب "لَمّا" محذوف، تقديره: أخّر الصلوات، وفي الرواية التالية:"كان الحجّاج يؤخّر الصلوات"، وفي نسخة:"قال: قَدِم الحجّاج" بإسقاط "لَمّا".

و"الْحَجّاج -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الجيم، آخره جيم- هو: ابن يوسف الثقفيّ، قال الحافظ رحمه الله: وزعم الكرمانيّ أن الرواية بضم أوله، قال: وهو جمع حاجّ. انتهى. وهو تحريف بلا خلاف، فقد وقع في رواية أبي عوانة في "صحيحه" من طريق أبي النضر، عن شعبة: "سألنا جابر بن عبد اللَّه في زمن الحجاج، وكان يؤخر الصلاة عن وقت الصلاة"، وفي رواية مسلم من طريق معاذ، عن شعبة: "كان الحجّاج يؤخر الصلوات".

ص: 138

(الْمَدِينَةَ) أي النبويّة، وكان قدوم الحجاج إليها أميرًا عليها من قِبَلِ عبد الملك بن مروان سنة (74) وذلك عَقِبَ قتل ابن الزبير، فَأمَّرَهُ عبد الملك على الحَرَمَينِ، وما معهما، ثم نقله بعد هذا إلى العراق، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَسَأَلْنَا) عطف على جواب "لَمّا" المقدّر (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) لم يُبَيَّن المسؤول عنه ما هو؟ وهو معلوم من الجواب، والأصل: سألناه عن مواقيت الصلاة، وكيف كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي فيها؟، وقد جاء مفسرًا في رواية أبي عوانة المتقدمة، حيث قال:"سألنا جابر بن عبد اللَّه في زمن الحجاج، وكان يؤخر الصلاة عن وقت الصلاة"(فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الظُّهْرَ بالْهَاجِرَةِ) هي شدّة الحرّ، والمراد بها نصف النهار بعد الزوال، سميت بها؛ لأَن الهجرة هي الترك، والناس يتركون التصرّف حينئذ لشدّة الحرّ؛ لأجل القيلولة وغيرها، قاله في "العمدة"

(2)

.

قال العلامة ابن دقيق العيد رحمه الله ما حاصله: هذا يدلّ على تقديمها في أول الوقت، فإنه قد قيل في الهاجرة والهَجِيرِ: إنهما شدّة الحرّ وقُوَّتُهُ، ويعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اشتدّ الحرّ، فأبردوا".

ويمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم الهاجرة على الوقت الذي بعد الزوال مطلقًا، فإنه قد يكون فيه الهاجرة في وقت، فيطلق على الوقت مطلقًا بطريق الملازمة، وإن لم يكن وقت الصلاة في حرّ شديد، وفيه بُعْد، وقد يقرب بما نُقِل عن صاحب "العين"، أن الْهَجِير والهاجرة نصف النهار، فإذا أخذ بظاهر هذا الكلام كان مطلقًا على الوقت. انتهى

(3)

.

والذي ارتضاه العلامة الصنعانيّ رحمه الله في "حاشيته" أن يقال: إن أحاديث التهجير منسوخة كما قال أحمد، ودلّ له حديث المغيرة رضي الله عنه، وأنه كان أول الأمر صلاته بالهاجرة، ثم نسخه بالإبراد، وهو خاصّ بأيام شدة الحرّ.

وقد يقال: إن الصحابيّ إذا عبَّر بعبارة تدلّ على أن هِجّيرَاهُ وعادته كان

(1)

"الفتح" 2/ 50.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 56.

(3)

"إحكام الأحكام" 2/ 23 - 24.

ص: 139

التهجيرَ بالصلاة، فمراده الأغلبُ ذلك؛ إذ أيام شدّة الحرّ قليلة بالنسبة إلى خلافها في المدينة. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله

(1)

، وهو جمع حسن، واللَّه تعالى أعلم.

(وَ) كان يصلي (الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ) وفي رواية النسائيّ: "والشمس بيضاءُ نقيّةٌ"، والجملة في محلّ نصب على الحال، والرابط الواو، ومعنى نَقِيَّةٌ: خالصةٌ صافيةٌ، لم يدخلها بَعْدُ صفرةٌ، ولا تغيرٌ.

(وَ) كان يصلي (الْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ) أي غابت الشمس، وأصل الوجوب السقوط، كما سبق، وحُذف ذكر الشمس؛ للعلم بها، كقوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال ابن رجب رحمه الله: وجوبها سقوطها، كقوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]، والمعنى: إذا سقط قُرص الشمس، وذهب في الأرض، وغاب عن أعين الناس. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": المراد سقوط قرص الشمس، وفيه دليلٌ على أن سقوط قرص الشمس يدخل به وقت المغرب، ولا يخفى أن محلّه ما إذا كان لا يحول بين رؤيتها غاربةً، وبين الرائي حائل. انتهى

(4)

.

(وَالْعِشَاءَ) مفعول مقدّم لـ "يؤخّرها"، وقوله:(أَحْيَانًا) ظرف له، وهو بفتح الهمزة: جمع حِينٍ، وهو اسم مبهم يقع على القليل والكثير من الزمان، على المشهور، وهو المراد هنا، وإن كان جاء بمعنى أربعين سنة، وبمعنى ستة أشهر، قاله في "العمدة"

(5)

.

(يُؤَخِّرُهَا، وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ) بحذف المفعول، أي يعجّلها، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء في أوقات مختلفة، يقدِّم في بعضها، ويؤخِّر في بعضها، ثم بيّن معنى قوله:"أحيانًا يعجّل" بقوله: (كَانَ إِذَا رَآهُمْ) أي رأى الصحابة رضي الله عنهم (قَدِ اجْتَمَعُوا) في المسجد لصلاتها (عَجَّلَ) صلاة العشاء.

(1)

"العدة حاشية العمدة" 2/ 26.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 145 - 146.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 351.

(4)

"الفتح" 2/ 50.

(5)

"عمدة القاري" 5/ 57.

ص: 140

والمعنى: أنه إذا رأى الجماعة اجتمعوا عجّل بصلاة العشاء؛ لأن في تأخيرها تنفيرًا لهم.

وبيّن معنى قوله: "أحيانًا يؤخّرها" بقوله: (وَإِذَا رَآهُمْ قَدْ أَبْطَئُوا) من الإبطاء رباعيًّا، أي تأخروا عن الحضور (أَخَّرَ) صلاة العشاء، والمعنى: أنه إذا رأى الجماعة تأخّروا أخّر صلاة العشاء؛ ليحرزوا فضيلة الجماعة، وفي رواية للبخاريّ:"إذا كثر الناس عَجّل، وإذا قَلُّوا أَخَّر"، ونحوه لأبي عوانة في روايةٍ.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: إذا تعارض في شخص أمران: أحدهما أن يُقَدِّم الصلاة في أول الوقت منفردًا، أو يؤخِّرها في الجماعة، أيهما أفضل؟ الأقرب عندي أن التأخير لصلاة الجماعة أفضل، وحديث الباب يدلّ عليه؛ لقوله:"وإذا رآهم أبطئوا أخَّر"، فيؤخر لأجل الجماعة مع إمكان التقديم.

قال الحافظ رحمه الله: ورواية: "إذا كَثُر الناس عَجّل، وإذا قَلُّوا أَخَّر"، تدلّ على أخصّ من ذلك، وهو أن انتظار من تكثر بهم الجماعة أولى من التقديم، ولا يخفى أن محلّ ذلك ما إذا لم يفحُش التأخير، ولم يَشُقّ على الحاضرين. انتهى

(1)

.

(وَالصُّبْحَ) منصوب على الاشتغال، أي وكان يصلّي الصبح (كَانُوا) خبرها محذوف؛ لدلالة ما بعده عليه، أي كانوا يصلّونها، وقوله:(أَوْ قَالَ)"أو" للشكّ من الراوي، أي أو قال الراوي:(كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ) بفتحتين: ظلمة آخر الليل.

ولفظ البخاريّ: "والصبحَ كانوا، أو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّيها بغلس"، قال الكرمانيّ: الشك من الراوي عن جابر رضي الله عنه، ومعناهما متلازمان؛ لأن أيّهما كان يَدْخُل فيه الآخر، إن أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالصحابة في ذلك كانوا معه، وإن أراد الصحابة فالنبيّ صلى الله عليه وسلم كان إمامهم، أي كان شأنه التعجيل لها دائمًا لا كما كان يصنع في العشاء، من تعجيلها، أو تأخيرها.

وخبر "كانوا" محذوفٌ يدلّ عليه قوله: "يصليها"، أي كانوا يصلون.

وقال ابن بطال: ظاهره أن الصبح كان يصلّيها بغلس اجتَمَعوا، أو لم

(1)

"الفتح" 2/ 51.

ص: 141

يجتمعوا، ولا يفعل فيها كما يفعل في العشاء، وهذا من أفصح الكلام، وفيه حذفان: حذف خبر "كانوا"، وهو جائزٌ، كحذف خبر المبتدأ في قوله تعالى:{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} : أي فعدتهن مثل ذلك، ثلاثة أشهر، والحذف الثاني حذف الجملة التي هي الخبر؛ لدلالة ما تقدّم عليه، وحذف الجملة التي بعد "أو" مع كونها مقتضيةً لها.

وقال السفاقسيّ: تقديره: "أو لم يكونوا مجتمعين"، ويصحّ أن تكون "كان" تامّةً، غير ناقصة، فتكون بمعنى الحضور والوقوع، ويكون المحذوف ما بعد "أو" خاصّةً.

وقال ابن الْمُنَيِّر: يَحْتَمِل أن يكون شكًّا من الراوي، هل قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو كانوا، ويَحْتَمِل أن يكون تقديره: والصبح كانوا مجتمعين مع النبيّ، أو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده يصليها بغلس.

قال العينيّ بعد ذكر هذا كلّه: الأوجه ما قاله الكرمانيّ، وقول كلّ واحد من الثلاثة لا يخلو عن تعسّف، لا يخفى ذلك على المتأمّل. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ بعد ذكر نحو ما تقدّم: والتقدير المتقدِّم

(2)

أولى، والحقّ أنه شكّ من الراوي، فقد وقع في رواية مسلم:"والصبح كانوا، أو قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفيه حذف واحد، تقديره: والصبح كانوا يصلونها، أو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس، فقوله:"بغلس" يتعلق بأيّ اللفظين كان هو الواقع، ولا يلزم من قوله:"كانوا يصلونها" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم، ولا من قوله:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم" أنه كان وحده، بل المراد بقوله:"كانوا يصلونها"، أي النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وهكذا قوله:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصليها"، أي بأصحابه. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 57.

(2)

يعني تقدير الكرمانيّ.

(3)

"الفتح" 2/ 51.

ص: 142

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 1461 و 1462](646)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(560 و 565)، و (أبو داود) في "الصلاة"(397)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(527)، وفي "الكبرى"(1505)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1722)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 318)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 303 و 3/ 369)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1528)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 449)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(351)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أوقات الصلوات الخمس.

2 -

(ومنها): بيان استحباب التعجيل بصلاة العشاء، وهو مقيَّد بما إذا اجتمع الناس؛ كما هو المنصوص عليه في الحديث وإلا فالتأخير أولى، كما تقدم بيانه.

3 -

(ومنها): بيان التعجيل بصلاة الظهر، وهذا محمول أيضًا على غير شدة الحرّ، أو محمول على أول الأمر، ثم جاء الأمر بالإبراد، وهذا هو الأولى.

4 -

(ومنها): استحباب التعجيل بصلاة العصر في أول وقتها، وهو قول الجمهور، وهو الحقّ، خلافًا للحنفية، وقد سبق تحقيق ذلك مفصّلًا.

5 -

(ومنها): استحباب التعجيل بصلاة المغرب دائمًا.

6 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من اهتمامهم بسؤال أهل العلم عما يُشكل عليهم، ولا سيّما الأمور المهمّة، كأوقات الصلوات، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1462]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ يُؤَخِّرُ الصَّلَوَاتِ، فَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ غُنْدَرٍ).

ص: 143

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ غُنْدَرٍ) يعني أن معاذ بن معاذ حدّث عن شعبة بمثل ما حدّث به غندر عنه.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1463]

(647) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَسْأَل أَبَا بَرْزَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: فَقَالَ: كَأَنَّمَا أَسْمَعُكَ السَّاعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَسْأَلُهُ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ لَا يُبَالِي بَعْضَ تَأْخِيرِهَا، قَالَ: يَعْنِي الْعِشَاءَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلَا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدُ، فَسَأَلْتُهُ؛ فَقَالَ: وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ يَذْهَبُ الرَّجُلُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، قَالَ: وَالْمَغْرِبَ لَا أَدْرِي أَيَّ حِينٍ ذَكَرَ، قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدُ، فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: وَكَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ الرَّجُلُ، فَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ جَلِيسِهِ الَّذِي يَعْرِفُ فَيَعْرِفُهُ، قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) هو: يحيى بن حبيب بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

ص: 144

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج المذكور في السند الماضي.

4 -

(سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ) الرِّيَاحيّ، أبو الْمِنهال البصريّ، ثقةٌ [4](ت 129)(ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1036.

5 -

(أَبُو بَرْزَةَ) نَضْلة بن عُبيد الأسلميّ الصحابيّ المشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خراسان، ومات بها سنة (65) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1036.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه مشهور بكنيته، وليس في الكتب الستّة من يشاركه في هذه الكنية، ولا في اسمه نَضْلَة بن عُبيد، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ الرياحيّ: أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي) أي: سلامة -بتخفيف اللام-، قال الحافظ رحمه الله: وسلامة والد سَيّار حَكَى عنه ولده هنا، ولم أجد من ترجمه، وقد وقعت لابنه عنه رواية في "معجم الطبرانيّ الكبير" في ذكر الحوض، وفي رواية البخاريّ من طريق عوف الأعرابيّ، عن سيّار، قال:"دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلميّ، فقال له أبي. . . "، وزاد الإسماعيليّ:"زَمَنَ أُخرج ابن زياد من البصرة"، قال الحافظ رحمه الله: وكان ذلك سنة (64). انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 2/ 33.

ص: 145

وقال في "العمدة": وقال الإسماعيليّ: "لما كان زمنَ أُخرِج ابن زياد، ووَثَبَ مروان بالشام، قال أبو المنهال: انطلَقَ أبي إلى أبي بَرْزة، وانطلقت معه، فإذا هو قاعد في ظلّ عِلوٍ له من قصب في يوم شديد الحر. . . " فذكر الحديث. انتهى

(1)

.

(يَسْأَلُ أَبَا بَرْزَةَ) ببناء الفعل للفاعل، "وأبا" مفعول به، والجملة في محل نصب على الحال من "أبي"، على رأي الجمهور، أو مفعول ثان على رأي من يقول إن "سَمع" تعمل عمل "ظَنّ"، على ما هو مقرر في محله.

(عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي المكتوبة، ففي رواية البخاريّ:"فقال له أبي: كيف كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ ".

والمراد: عن الأوقات التي كان يصلي فيها المكتوبة، ويداوم عليها.

(قَالَ) شعبة (قُلْتُ) لسيّار (آنْتَ سَمِعْتَهُ؟) بمدّ الهمزة، أصله أأنت سمعته؟ بهمزة الاستفهام، يعني أن شعبة قال لسيّار مستوثقًا سماعه من أبيه: أأنت سمعت أباك يسأل أبا برزة رضي الله عنه؟.

(قَالَ) شعبة (فَقَالَ) سيّار (كَأَنَّمَا أَسْمَعُكَ السَّاعَةَ) أي سمعته يسأله كسماعي لكلامك في هذه الساعة، وفي رواية النسائيّ:"كما أسمعك الساعة"، وعليه فـ "ما" على الأول كافّة لـ "كأنّ"، وعلى الثاني مصدرية، والفعل في تأويل المصدر مجرور بالكاف، و"الساعة" منصوب على الظرفية متعلق بـ "أسمع"، هذا على جعل "سمع" ثلاثيًّا من السماع.

ويَحْتَمِل أن يكون من الإسماع رباعيًّا، وعليه يكون المعنى: كما أُسْمِعك كلامي، والأول أظهر، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) سيّار (سَمِعْتُ أَبِي) سلامةَ (يَسْأَلُهُ) أي أبا برزة رضي الله عنه (عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الظاهر أن جملة "قال: سمعت أبي. . . إلخ" تأكيد للأولى (فَقَالَ) أبو برزة رضي الله عنه (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (لَا يُبَالِي) أي لا يهتم، ولا يَكْتَرِث، يقال: لا أُباليه، ولا أُبالي به: أي لا أهتم به، ولا أَكْتَرِث له، ولم أُبَالِ، ولم أُبَلْ للتخفيف، كما حذفوا الياء من المصدر، فقالوا:"لا أُبَالِيهِ بَالَةً"، والأصل

(1)

"عمدة القاري" 5/ 34.

ص: 146

بَالِيَةً، مثل عافاه مُعافاة، وعافية، قالوا: ولا تستعمل إلا مع الجحد، والأصل فيه قولهم: تَبَالَى القومُ: إذا تبادروا إلى الماء القليل، فاستَقَوا، فمعنى "لا أبالي": لا أبادر، إهمالا له، وقال أبو زيد: ما باليت مُبالاةً، والاسم البِلاءُ، وزانُ كِتَاب، وهو الهم الذي تُحَدِّث به نفسك، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(بَعْضَ تَأْخِيرِهَا) بالنصب، مفعولًا لـ "يبالي"، وأصل الكلام: كان لا يبالي بتأخير العشاء بعض التأخير (قَالَ: يَعْنِي الْعِشَاءَ) أي يَقْصِد أبو برزة بالضمير في "تأخيرها" العشاء، والعناية من بعض الرواة؛ سَيّارٍ، أو غيرِهِ (إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) وفي الرواية التالية:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يبالي بعض تأخير صلاة العشاء نصف الليل -ثم قال-: أو ثلث الليل" وفي لفظ: "يؤخّر العشاء إلى ثلث الليل"، فتبيّن بهذا أنه لا يصل إلى نصف الليل حقيقةً، وإنما هو قبله، فلا يصحّ الاستدلال به على امتداد وقت العشاء بعد نصف الليل، فتنبّه (وَلَا) نافية، ولذا رفع قوله:(يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا) أي لما فيه من التعرّض لتفويتها، وهذا لمن لا يجد موقظًا، أو يستغرقه النوم حتى يفوت العشاء، وإلا فلا بأس بالنوم قبلها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدّم:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شُغِل عنها ليلةً، فأخرها، حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم رقدنا، ثم استيقظنا. . . " الحديث متفق عليه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أما كراهة النوم قبلها فلما يُخاف من غلبة النوم، فيفوت وقتها، أو أفضل وقتها المستحسن، وقال بهذا جماعة، منهم ابن عمر، وابن عباس، وغيرهم، وهو مذهب مالك، ورخَّص فيه بعضهم، منهم عليّ، وأبو موسى، وغيرهم، وهو مذهب الكوفيين، واشترط بعضهم أن يَجعل معه من يوقظه للصلاة، ورُوي عن ابن عمر مثله، وإليه ذهب الطحاويّ. انتهى

(2)

.

(وَلَا) يُحبّ أيضًا (الْحَدِيثَ بَعْدَهَا) أي حديث الناس، أي المحادثَةَ، وهذا إذا لم يكن الحديث في أمر مهمّ، وإلا فقد ثبتٌ من حديث عمر رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسمر هو وأبو بكر في الأمر من أمور المسلمين، وأنا معهما". حَسّنه الترمذيّ.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 62.

(2)

"المفهم" 2/ 271.

ص: 147

ومن حديث أنس رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم بعد العشاء، فقال:"ألا إنّ الناس قد صَلَّوا، ثم رقدوا، وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة"، متفق عليه.

ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: صَلَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام، فقال:"أرأيتكم ليلتكم هذه. . . "، الحديث، متفق عليه.

والحاصل أن الحديث المكروه هو الحديث الذي لا فائدة فيه، وإنما كرهه لكونه يؤدي إلى ترك قيام الليل، أو للاستغراق في الحديث، ثم يستغرق في النوم، فيخرج وقت الصبح.

وكان عمر رضي اللَّه تعالى عنه يضرب الناس على ذلك، ويقول: أسمرًا أول الليل، ونومًا آخره؟.

قال الحافظ رحمه الله: وإذا تقرّر أن علة النهي ذلك، فقد يُفَرِّق فارق بين الليالي الطوال والقصار، ويمكن أن تُحْمَل الكراهة على الإطلاق حسمًا للمادّة؛ لأن الشيء إذا شُرع لكونه مظنة قد يستمرّ، فيصير مَئِنّة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: حمله على الإطلاق هو المتعيِّن؛ لإطلاق النصّ، ولا بدّ أيضًا من تقييد إباحة الأمر المهمّ بما لا يؤدي إلى ما ذُكِر من التفويت لطوله، وما ثبتٌ عنه صلى الله عليه وسلم لا يؤدي إليه؛ إذ ليس طويلا، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وأما كراهة الحديث بعدها، فلما يؤدّي إليه من السهر، ومخافة غلبة النوم آخر الليل، فينام عن قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح، قال: ويظهر لي أن كراهة ذلك إنما هو لما أن اللَّه جعل الليل سكنًا، أي يُسْكَنُ فيه، فإذا تحدّث الإنسان فيه، فقد جعله كالنهار الذي هو مُتصَرَّف المعايش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة اللَّه تعالى التي أجرى عليها وجوده.

(1)

"الفتح" 2/ 87.

ص: 148

وقيل: يكره ذلك؛ لئلا نلغو في كلامنا، أو نخطئ فيه، فيُختم عملنا بعمل سيّئ، أو بقول سيّئ، والنوم أخو الموت، أو لعله يكون فيه الموت، واللَّه تعالى أعلم.

وقيل: كُره ذلك؛ لتُراح الْكَتَبةُ الكرام، وقد كان بعض السلف يقول لمن أراد أن يتحدّث بعد العشاء: أريحوا الكَتَبة.

وهذه الكراهة تختصّ بما لا يكون من قبيل القُرَب والأذكار، وتعلّم العلم، ومسامرة أهل العلم، وتعلّم المصالح، وما شابه ذلك، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن السلف ما يدلّ على جواز ذلك، بل على ندبيّته، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم آنفًا تقييد عدم كراهة ما ذُكر من القرب ونحوه بعدم طوله المؤدّي إلى تفويت شيء مما شُرع من التهجّد، وصلاة الوتر آخر الليل، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ شُعْبَةُ) بن الحجّاج (ثُمَّ لَقِيتُهُ) أي سيّارًا (بَعْدُ) من الظروف المبنية على الضم؛ لقطعه عن الإضافة، ونية معناها، أي بعدما حَدَّثني بهذا الحديث على الوجه المذكور (فَسَأَلْتُهُ) أي عن صلاة الظهر، وكأن شعبة اكتفى عن سؤال وقت العشاء باللقاء الأول، وكأنه كان هو المطلوب بالسؤال في تلك الساعة، وفي اللقاء الثاني سأل عن وقت الظهر (فَقَالَ) أبو برزة (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يُصَلِّي الظّهْرَ) أي صلاة الظهر (حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ) أي تميل عن وسط السماء إلى جهة المغرب، وفيه إشارة إلى أنه كان يصلي الظهر في أول الوقت، ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد؛ لاحتمال أن يكون ذلك في زمن البرد، أو قبل الأمر بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد؛ لأنه مختصّ بشدة الحرّ، أو لبيان الجواز.

وقد يَتَمَسَّك من قال: إن فضيلة أول الوقت لا تحصل إلا بتقديم ما يمكن تقديمه من طهارة، وسَتْر، وغيرهما قبل دخول الوقت، قال الحافظ رحمه الله: ولكن الذي يظهر أن المراد بالحديث التقريب، فتحصل الفضيلة لمن لم يتشاغل

(1)

"المفهم" 2/ 271.

ص: 149

عند في خول الوقت بغير أسباب الصلاة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ هو التحقيق الصحيح، واللَّه تعالى أعلم.

(وَالْعَصْرَ) أي يصلّي صلاة العصر (يَذْهَبُ الرَّجُلُ) أي بعد الفراغ من الصلاة، كما يدلّ عليه السياق؛ لأن الحديث مسوق لتحديد الوقت الذي يصلي فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي أبعد محلّ في المدينة، وجملة "يذهب" في محل نصب على الحال، أي يصلي العصر، والحال أنه يذهب الرجل الذي صلى معه إلى أبعد محل في المدينة، فيصل إليه (وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "يصل"، ومعنى "حيّةٌ" أي بيضاءُ نقيّةٌ، فحياة الشمس عبارة عن بقاء حرّها لم يتغير، وبقاء لونها لم يتغير، وإنما يدخلها التغير بدنوها إلى الغروب، كأنه جعل مغيبها موتًا لها، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: المراد بحياتها قوّة أثرها حرارةً ولونًا وشُعاعًا وإنارةً، وذلك لا يكون بعد مصير الظل مثلي الشيء. انتهى.

وفي "سنن أبي داود" بإسناد صحيح عن خيثمة أحد التابعين، قال: حياتها أن تجد حرّها. انتهى

(3)

.

(قَالَ: وَالْمَغْرِبَ لَا أَدْرِي أَيَّ حِينٍ ذَكَرَ)"المغربَ" بالنصب مفعول مقدم لقوله "ذَكَرَ"، و"أَيَّ" بالنصب على الظرفية، لإضافتها إلى الظرف، متعلق بـ "ذَكَر"، أي لا أعلم في أيّ وقت ذكر صلاة المغرب، وفي رواية البخاريّ:"ونسيتُ ما قال في المغرب"، وقائل ذلك هو سيار بن سلامة، كما بيّنه أحمد في روايته، عن حجاج، عن شعبة، عنه، قاله في "الفتح".

والمعنى: أن سيارًا نَسِي ما ذكره أبو برزة رضي الله عنه في وقت صلاته صلى الله عليه وسلم للمغرب.

(قَالَ) شعبة (ثُمَّ لَقِيتُهُ) أي سيّارًا (بَعْدُ) أي بعد هذه المساءلة (فَسَأَلْتُهُ) عن حديث أبي برزة استثباتًا أيضًا (فَقَالَ) سيّار (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَيَنْصَرِفُ

(1)

"الفتح" 2/ 33 - 34.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 28.

(3)

"الفتح" 2/ 34.

ص: 150

الرَّجُلُ) أي يسلم من الصلاة (فَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ جَلِيسِهِ) فَعِيل بمعنى فاعل، أي مَن يجالسه، أي الشخص الذي بجنبه، ففي رواية الْجَوْزقيّ من طريق وهب بن جرير، عن شعبة:"فينظر الرجل إلى جليسه، إلى جنبه، فيعرف وجهه"(الَّذِي يَعْرِفُ) صفة لجليسه، وعائده محذوف، أي يعرفه (فَيَعْرِفُهُ) فيه دليلٌ على استحباب التعجيل بصلاة الصبح؛ لأن ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس، وقد صَرّح بأن ذلك كان عند فراغ الصلاة، ومن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم ترتيل القراءة، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيه مُغَلّسًا.

وادَّعَى الزين ابن الْمُنَيِّر أنه مخالف لحديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم، حيث قالت في النساء اللاتي يُصلين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فينصرفن لا يُعْرَفْنَ من الغَلَس".

وتُعُقِّب بأن الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حديث أبي برزة رضي الله عنه متعلق بمعرفة من هو مسفر جالس إلى جنب المصلي، فهو ممكن، وحديث عائشة رضي الله عنها متعلق بمن هو مُتَلَفِّف مع أنه على بُعْدٍ، فهو بعيد، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ) أبو برزة رضي الله عنه (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَقْرَأُ فِيهَا) أي في صلاة الصبح (بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ) يعني من الآي، أي يقرأ بسورة بعد الفاتحة يتراوح عدد آياتها بين الستين والمائة، وقدّرها في رواية الطبراني بـ "سورة الحاقة"، ونحوها.

وقد تقدّم في "باب القراءة في الصبح" رقم [36/ 1036] من طريق خالد الحذّاء، عن أبي المنهال، وهو سيّار بلفظ:"يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آيةً"، ونحوه في رواية للبخاريّ أيضًا، وأشار الكرمانيّ إلى أن القياس أن يقول:"ما بين الستين والمائة"؛ لأن لفظ "بين" يقتضي الدخول على متعدد، قال: ويَحْتَمِل أن يكون التقدير: ويقرأ ما بين الستين، وفوقها إلى المائة، فحذف لفظ فوقها لدلالة الكلام عليه، قاله في "الفتح"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

2/ 34.

ص: 151

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 1463 و 1464 و 1465](647)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(541 و 547 و 568 و 599)، و"الأذان"(771)، و (أبو داود) في "الصلاة"(398)، و (الترمذيّ) فيها (168)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(495 و 525 و 530 و 948)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(674)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(920)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2131)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 318)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 420 و 423)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 298)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(346 و 530)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1503)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1079 و 1080)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1435 و 1436)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 178 و 185 و 193)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 450 و 454)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(350)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب التبكير بصلاة الصبح في أول وقتها.

2 -

(ومنها): بيان استحباب التعجيل بصلاة الظهر، عند زوال الشمس عن وسط السماء، وهو مقيَّد بما إذا لم يشتدّ الحرّ؛ لأنه ورد الأمر بالإبراد فيه.

3 -

(ومنها): بيان استحباب التعجيل بصلاة العصر، وهو مذهب الجمهور، وخالف فيه أبو حنيفة، فقال بتأخيرها، والأحاديث الصحيحة تردّ عليه، وقد مرّ تحقيق القول فيه في موضعه، ودثه الحمد والمنّة.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص على معرفة عبادة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ ليمكنهم الاقتداء به، فكانوا يسألون الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك؛ امتثالًا لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

5 -

(ومنها): بيان عناية المحدثين بالفحص عن سماع من حدثهم، حيث قال شعبة لشيخه: أنت سمعته؟.

ص: 152

6 -

(ومنها): بيان استحباب تأخير العشاء إلى ثلث الليل، أو نصفه، والأول هو الأولى؛ لأن أكثر الروايات على الثلث، ولحديث:"ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط" رواه مسلم، وقد مرّ تحقيق القول فيه في موضعه، وللَّه الحمد والمنّة.

7 -

(ومنها): بيان كراهة النوم قبلها؛ لما فيه من التعرض لتفويتها، وهذا لمن ليس له موقظ أو نحوه.

قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قال العلماء: وسبب كراهة النوم قبلها أنه يُعَرِّضها لفوات وقتها باستغراق النوم، أو لفوات وقتها المختار والأفضلِ، ولئلا يتساهل الناس في ذلك، فيناموا عن صلاتها جماعةً. انتهى.

8 -

(ومنها): بيان كراهة الحديث بعدها، قال النوويّ رحمه الله: وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل، أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز، أو في وقتها المختار، أو الأفضل، ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات، ومصالح الدنيا.

قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء، هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك كمدارسة العلم، وحكايات الصا لحين، ومحادثة الضيف، والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم، والحديث في الإصلاح بين الناس، والشفاعة إليهم في خير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى مصلحة، ونحو ذلك، فكل هذا لا كراهة فيه، وقد جاءت أحاديث صحيحة ببعضه، والباقي في معناه، وقد تقدّم كثير منها في هذه الأبواب، والباقي مشهور.

ثم كراهة الحديث بعد العشاء، المراد بها بعد صلاة العشاء، لا بعد دخول وقتها، واتَّفَق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير، كما ذكرناه.

وأما النوم قبلها، فكرهه عمر، وابنه، وابن عباس، وغيرهم من السلف، ومالك، وأصحابنا -رحمهم اللَّه تعالى أجمعين- ورَخَّص فيه عليّ، وابن

ص: 153

مسعود، والكوفيون -رحمهم اللَّه تعالى أجمعين- وقال الطحاويّ: يُرَخَّص فيه بشرط أن يكون معه من يوقظه، ورُوي عن ابن عمر مثله. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): بيان استحباب التغليس بصلاة الصبح، ولا ينافي ذلك ما ورد من الأمر فيها بالإسفار؛ لأن المراد من الإسفار أن يمد بصلاة الفجر إلى أن يُسْفِر، ومعنى ذلك أنه يبدأ بالغلس، ثم يُطيل القراءة، حتى يُسفر، وبه يحصل الجمع بين الحديث، كما مرّ البحث فيه مستوفًى قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1464]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَرْزَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُبَالِي بَعْضَ تَأَخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ

(2)

إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَلَا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا، قَالَ شُعْبَةُ: ثُمَّ لَقِيتُهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة، وكلّهم تقدّموا في السند الماضي، والذي قبله.

وقوله: (أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ) شكّ من سيّار، هل قال أبو برزة رضي الله عنه:"إلى نصف الليل، أو ثلثه"، هكذا في رواية معاذ عن شعبة بالشكّ، وتقدّم في رواية خالد بن الحارث، عن شعبة:"إلى نصف الليل" بالجزم، وكذا يأتي في رواية حماد بن سلمة، عن أبي المنهال بلفظ:"إلى ثلث الليل" بالجزم، وكذا هو عند أحمد في "مسنده" من رواية حجاج، عن شعبة

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 146 - 147.

(2)

وفي نسخة: "بعض تأخير العشاء".

(3)

ونصّه: (19310) حدّثنا حجاج، حدّثنا شعبة، عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي على أبي برزة، فسألناه عن وقت صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: كان يصلي الظهر حين تزول الشمس، والعصر يرجع الرجل إلى أقصى المدينة، والشمس حية، والمغرب قال سيار: نسيتها، والعشاء لا يبالي بعض تأخيرها إلى ثلث =

ص: 154

فتبيّن بهذا أن رواية الئلث أرجح، وأما رواية النصف على تقدير صحّتها فلا بدّ من تأويلها بكون المراد قرب النصف؛ لتوافق ما ثبت من تحديد آخر وقت العشاء بنصف الليل، كما في حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1465]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ، أَبِي الْمِنْهَالِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَيَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْمِائَةِ إِلَى السِّتِّينَ، وَكَانَ يَنْصَرِفُ حِينَ يَعْرِفُ بَعْضُنَا وَجْهَ بَعْضٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سُوَيْدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ) أبو الوليد الكوفيّ العابد، ثقةٌ، من كبار [10].

رَوَى عن حماد بن سلمة، وزُهير بن معاوية الحمصيّ، وأنس بن حيّ، وأبي عوانة، وغيرهم.

ورَوى عنه أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، وابن نمير، وعَبْدة بن عبد اللَّه الصفّار، وسفيان بن وكيع، وعلي بن حرب الطائيّ، وجماعة.

قال النسائيّ، وابن معين: ثقةٌ، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، وكان رجلًا صالحًا متعبدًا.

= الليل، وكان لا يحب النوم قبلها، والحديث بعدها، وكان يصلي الصبح، فينصرف الرجل، فيعرف وجه جليسه، وكان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة، قال سيار: لا أدري في إحدى الركعتين، أو في كلتيهما. انتهى.

وحجاج: هو ابن محمد الأعور المصّيصيّ.

ص: 155

ونقل ابن خلفون، عن العجليّ أنه قال: مات سُويد سنة ثلاث أو أربع ومائتين، قال: ولم يكن بالكوفة أروى عن زهير بن معاوية منه، وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" كلام ابن حبّان، ولم يتعقّبه، وهذا منه عجيبٌ، إذ مفاده أن سويدًا من الوضّاعين، فإن لم يُرد ابن حبّان بهذا غير سويد المترجم هنا، فلا يُلتفت إليه، فإن سُويدًا قد وثقه من هو أعلم بشأن الرجال من ابن حبّان، ولا سيّما ابن معين، والنسائيّ، فكيف يُقبل كلامه فيه؟ فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: أخرج الإمام أحمد رحمه الله رواية حماد بن سلمة هذه في "مسنده"، فقال:

(19301)

حدّثنا يونس

(1)

، حدّثنا حماد بن سلمة، عن سيّار بن سلامة، عن أبي برزة الأسلميّ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر العشاء الآخرة إلى ثلث الليل، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها، وكان يقرأ في الفجر ما بين المائة إلى الستين، وكان ينصرف حين ينصرف، وبعضنا يعرف وجه بعض. انتهى.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

هو: يونس بن محمد المؤدّب البغداديّ المتوفّى سنة (207 هـ).

ص: 156

(42) - (بَابُ الأَمْرِ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، وَمَاذَا يَفْعَلُ الإِنْسَانُ إذَا أَخَّرَهَا الإِمَامُ؟)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1466]

(648) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ، يُؤَخِّرُونَ الصَّلاة عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ " قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: "صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ"، وَلَمْ يَذْكُرْ

(1)

خَلَفٌ: "عَنْ وَقْتِهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَام) بن ثعلب البزّار المقري البغداديّ، ثقةٌ، له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْد) بن درهم الأزديّ الْجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلّم عليه أَحدٌ بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

4 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر (80) سنةً (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

5 -

(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حَبِيب الأزديّ، أو الكِنديّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [4](ت 128) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

(1)

وفي نسخة: "لم يذكر" بلا واو.

ص: 157

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ) الغِفَاريّ البصريّ، ابن أخي أبي ذرّ رضي الله عنه، ثقةٌ [3] مات بعد السبعين (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 52/ 1142.

7 -

(أَبُو ذَرٍّ) جندب بن جُنادة، وقيل: غيره الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، فرّق بينهم بالتحويل؛ للاختلاف في صيغ الأداء، حيث سمع من خلف مع الجماعة، وقال هو أيضًا: حدّثنا حماد بن زيد، فنسبه إلى أبيه، وأما الباقيان فسمع منهما وحده، وقالا أيضًا: حدّثنا حماد، ولم ينسباه.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير خلف، فبغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ، ثم رَبَذيّ، قرية من قرى المدينة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو عمران، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن عمّه أبي ذرّ رضي الله عنه.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، تقدّم إسلامه، لكن تأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه (أنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أنتَ)"كيف" اسم استفهام خبر مقدّم، و"أنت" مبتدأ مؤخّرُ (إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ) أنّث "كانت"؛ لأن الفاعل، وهو "أمراء"، جمع تكسير، يجوز معه تأنيث الفعل، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:

وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعٍ سِوَى السَّالِمِ مِنْ

مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مَعْ إِحْدَى اللَّبِنْ

(يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ) جملة في محلّ رفع صفة لـ "أُمراء"(عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ) للشكّ من الراوي، قال القرطبيّ رحمه الله: هو شكّ من أحد الرواة، وإماتتُها: إخراجها عن وقتها، حتى تكون كالميت الذي لا روح له، وهذا منه صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوّته؛ إذ قد أخبر بأمر غيبيّ وقع على نحو ما أخبر، وقد ظهر بعده من

ص: 158

تأخير بني أميّة الصلاة ما قد عُرِف، وشُوهد. انتهى

(1)

.

(يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا") ظاهر هذا أنهم يخرجونها عن وقتها، وأصرح منه ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون عليكم بعدي أمراء، تَشْغَلهم أشياء عن الصلاة لوقتها، حتى يذهب وقتها، فصَلُّوا الصلاة لوقتها. . . " الحديث.

وقال النوويّ رحمه الله: المراد تأخيرها عن وقتها المختار، لا عن جميع وقتها، فإن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار، ولم يؤخِّرها أحد منهم عن جميع وقتها، فيجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع. انتهى.

واعترض الحافظ رحمه الله على هذا في "الفتح"، فقال في شرح حديث أنس رضي الله عنه:"لا أعرف شيئًا مما أدركت، إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَتْ"، ما نصُّه: قال المهلَّب: والمراد بتضييعها تأخيرها عن وقتها المستحب، لا أنهم أخرجوها عن الوقت، كذا قال، وتبعه جماعة، وهو مع عدم مطابقته للترجمة -يعني ترجمة البخاريّ رحمه الله بقوله:"باب تضييع الصلاة عن وقتها"- مخالف للواقع، فقد صحّ أن الحجاج، وأميره الوليد، وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة:

(منها): ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: أخر الوليد الجمعة حتى أمسى، فجئت، فصليت الظهر قبل أن أجلس، ثم صليت العصر، وأنا جالس، إيماءً، وهو يخطب. وإنما فعل ذلك عطاء خوفًا على نفسه من القتل.

(ومنها): ما رواه أبو نعيم شيخ البخاريّ في "كتاب الصلاة" من طريق أبي بكر بن عتبة، قال: صليت إلى جنب أبي جُحيفة، فمَسَّى الحجاج بالصلاة، فقام أبو جحيفة، فصلى.

ومن طريق ابن عمر: أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الصلاة ترك أن يشهدها معه. ومن طريق محمد بن أبي إسماعيل، قال: كنت بمنى،

(1)

"المفهم" 2/ 272.

ص: 159

وصحف تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة، فنظرت إلى سعيد بن جبير، وعطاء يومئان إيماء، وهما قاعدان. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الحافظ رحمه الله هو الموافق لظواهر الأحاديث، ففيها:"يصلون الصلاة لغير وقتها"، وفيها:"يميتون الصلاة عن وقتها"، وفيها:"تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها، حتى يذهب وقتها"، وكلها تقدمت، فتأويل هذه النصوص بتأخيرها عن وقتها المستحب تكلف بارد، وتعسف كاسد.

والحاصل أن الأَوْلى أن يُحْمَل الإخراج على ظاهره، فهم يخرجونها عن وقتها لاشتغالهم بأمورهم، لا جحدًا لوجوبها، فإنهم لو أخروها جحدًا وجب مقاتلتهم، وتحرم الصلاة خلفهم، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي) أي أي شيء تأمرني به، هل أصليها لنفسي، أم لا؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا) أي في وقتها المستحبّ، وفي رواية البيهقي:"فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون. . . "(فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا) أي الصلاة التي صلّيتها لنفسك (مَعَهُمْ) وقد بُيِّنَ معنى إدراكها معهم في الرواية الآتية من طريق بُدَيل، عن أبي العالية، ففيها:"صل الصلاة لوقتها، ثم اذهب لحاجتك، فإن أقيمت الصلاة، وأنت في المسجد، فصلّ"، فقد أفادت هذه الرواية أن المراد بالإدراك هو أن تقام الصلاة، وهو في المسجد، فأما إذا ذهب لحاجته قبل أن تقام، فليس عليه أن يرجع.

(فَصَلِّ) تلك الصلاة جماعةً؛ إحرازًا للفضيلتين، فضيلةِ المبادرة بأداء الصلاة في أول الوقت، وفضيلةِ صلاة الجماعة (فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ") أي إن تلك الصلاة التي صلّيتها معهم نافلةٌ؛ لأن الفرض سقط بالصلاة الأولى.

وهذا الأمر للاستحباب، بدليل ما رواه أبو داود بإسناد صحيح، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وفيه: فقال رجل: يا رسول اللَّه، أصلي معهم؟، قال:"نعم إن شئت"، فدلّ على أنه لو ترك الصلاة معهم لا شيء عليه.

(1)

"الفتح" 2/ 196.

ص: 160

والحديث صريحٌ في أن الصلاة الأولى هي الفريضة، وأن الثانية هي نافلة، وإلى هذا ذهب الجمهور، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ) وفي نسخة: "لم يذكر"(خَلَفٌ: "عَنْ وَقْتِهَا") يعني أن شيخه الأول، وهو خلف بن هشام لم يذكر في روايته لفظ:"عن وقتها"، وإنما ذكره أبو الربيع، وأبو كامل في روايتهما، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [42/ 1466 و 1467 و 1468 و 1469 و 1470 و 1471 و 1472](648)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(113)، و (أبو داود) في "الصلاة"(431)، و (الترمذيّ) فيها (176)، و (ابن ماجه) فيها (1256)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(449)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3782)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 381 و 382)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 161 و 169 و 171)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 279)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1718)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2404 و 2405 و 2406 و 2407 و 2408 و 2409)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1437 و 1438 و 1439 و 1440 و 1441 و 1442 و 1443)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 301 و 3/ 124)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(390)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ بالصلاة في أول وقتها، وأن من صلّى أول الوقت، ثم أُقيمت الجماعة صلّى معهم ثانيًا.

2 -

(ومنها): مشروعيّة إعادة الصلاة، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): بيان أن الإمام إذا أخَّر الصلاة عن أول الوقت المستحبّ

ص: 161

ينبغي للشخص أن يصليها في أول الوقت منفردًا، ثم يصليها مع الإمام إن أدركه، فيجمع بين فضيلتي أول الوقت، والجماعة.

قال النوويّ رحمه الله: فلو أراد الاقتصار على إحداهما، فهل الأفضل الاقتصار على فعلها منفردًا في أول الوقت، أم الاقتصار على فعلها جماعة في آخر الوقت؟ فيه خلاف مشهور لأصحابنا -يعني الشافعية- واختلفوا في الراجح، والمختارُ استحباب الانتظار إن لم يَفْحُش التأخير.

4 -

(ومنها): الحثّ على موافقة الأمراء في غير معصية؛ لئلا تتفرق الكلمة، وتقع الفتنة، ولهذا قال أبو ذرّ رضي الله عنه في الرواية الآتية:"إن خليلي أوصاني أن أسمع، وأطيع، وإن كان عبدًا مجدَّع الأطراف".

5 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيكون بعده من تحوّل الأمراء عن طريق الحقّ، بحيث إنهم لا يبالون بتأخير الصلاة التي هي من أعظم أركان الدين، فكيف بما دونها من تغيير السنن، وإحداث البدع، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث وقع طبْقًا لما أخبر به، قال اللَّه تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

6 -

(ومنها): اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الذين يتأخرون بعده، ويتولى عليهم من يغيّر الأمور، فأرشدهم إلى كيفية معايشتهم، وحَثَّهم على عدم الخروج عليهم، وأمرهم بالإحسان معهم إذا أحسنوا، واجتنابهم إذا أساءوا.

7 -

(ومنها): أن العالم ينبغي له أن يبدأ بالمسألة من غير أن يُسألَ، إذا كان الناس في حاجة إليها.

8 -

(ومنها): أنه ينبغي للجاهل أن يطلب من العالم حَلَّ المسألة، وتوضيحها إذا لم يتبين له وجهها، فإن أبا ذر رضي الله عنه قال:"فما تأمرني"، فقد سأل كيف يكون حلّ هذه المشكلة، فبيّن له صلى الله عليه وسلم بأن يحرز بين المصلحتين: مصلحة الصلاة في وقتها، ومصلحة عدم مخالفة الجماعة.

9 -

(ومنها): بيان جواز الصلاة خلف أئمة الجور، وسيأتي تحقيق الخلاف فيه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الصلاة خلف أئمة الجْور، ومن لا يُرضَى حاله؛ من الخوارج، وأهل البدع:

ص: 162

ذهبت طائفة إلى جواز الصلاة خلفهم:

قال الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عُمَير بن هانئ، قال: شَهِدت ابن عمر، والحجاجُ محاصر ابنَ الزبير، فكان منزل ابن عمر بينهما، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء.

حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال: كان الحسن بن عليّ، والحسين يصليان خلف مروان، قال: فقيل له: أما كان أبوك يصلي إذا رجع إلى البيت؛ قال: فيقول: لا واللَّه، ما كانوا يزيدون على صلاة الأئمة.

حدّثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يصلون خلف الأمراء، ما كانوا.

حدّثنا هشيم، عن أبي حُرَّة، عن الحسن، قال: لا يضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا ينفع المنافق صلاة المؤمن خلفه.

حدّثنا أبو أسامة، عن حبيب بن جزي، قال: سألت أبا جعفر عن الصلاة خلف الأمراء؟ قال: صلِّ معهم.

حدّثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرقان، قال: سألت ميمونًا عن الصلاة خلف الأمراء؟ فقال: صلِّ معهم.

حدّثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، قال: سألت ميمونًا عن رجل، فذكر أنه من الخوارج، فقال: أنت لا تصلّ له، إنما تصلِّ للَّه، قد كنا نصلي خلف الحجاج، وكان حروريًا أزرقيًا

(1)

.

حدّثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان عبد اللَّه يصلي معهم إذا أخروا عن الوقت قليلًا، ويرى أن مَأثَم ذلك عليهم.

حدّثنا وكيع عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن رجل، عن سعيد بن جبير، أنه كان يصلي مع الحجاج عند أبواب كِنْدَة، وخرج عليه.

حدّثنا وكيع، ثنا بَسَّام، قال: سألت أبا جعفر عن الصلاة مع الأمراء؟ فقال: صلّ معهم، فإنا نصلي معهم، قد كان الحسن والحسين يبتدران الصلاة

(1)

قال في "القاموس": الأزارقة من الخوارج نُسبوا إلى نافع بن الأزرق. انتهى.

ص: 163

خلف مروان، قال: فقلت: الناس يزعمون أن ذلك تَقِيّة، قال: وكيف إن الحسن بن علي يسبُّ مروان في وجهه، وهو على المنبر حتى تولى!.

حدّثنا وكيع، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن أبي حفصة، قال: قلت لعليّ بن حسين: إن أبا حمزة الثُّمالي، وكان فيه غلوّ يقول: لا نصلي خلف الأئمة، ولا نناكح إلا من يرى مثل ما رأينا، فقال علي بن حسين: بل نصلي خلفهم، ونناكحهم بالسنة.

حدّثنا وكيع، ثنا سفيان، عن الأعمش، قال: كانوا يصلون خلف الأمراء، ويحتسبون بها.

حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن عقبة الأسدي، عن زيد بن أبي سليمان أن أبا وائل كان يجمِّع مع المختار.

حدّثنا وكيع، ثنا سفيان عن مسلم، عن أبي فَرْوة، قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأشار إلى محمد بن سعد، والحجاج يخطب أن اسكت.

حدّثنا الفضل بن دُكَين، عن الأعمش، عن القاسم بن محْيمِرَة أنه كان يصلي خلف الحجاج. انتهى "مصنف ابن أبي شيبة"

(1)

.

وأخرج البيهقيّ بسنده عن مكحول، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير بَرًّا كان أو فاجرًا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًّا كان، أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر، والصلاة واجبة على كل مسلم برًّا كان، أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر"، قال البيهقيّ: وهذا إسناده صحيح، إلا أن فيه إرسالًا بين مكحول وأبي هريرة

(2)

.

وأخرج أيضًا بسنده عن عمير بن هانئ، قال: بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج، فأتيته، وقد نصب على البيت الحرام أربعين مَنْجَنِيقًا، فرأيت ابن عمر إذا حضرت الصلاة مع الحجاج صلى معه، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه؛ فقلت له: يا أبا عبد الرحمن أتصلي مع هؤلاء، وهذه أعمالهم؛ فقال: يا أخا أهل الشام، ما أنا لهم بحامد، ولا نطيع مخلوقًا في

(1)

"المصنّف" 2/ 378 - 379.

(2)

"معرفة السنن والآثار" 2/ 400.

ص: 164

معصية الخالق، قال: قلت: ما تقول في أهل الشام؟ قال: ما أنا لهم بحامد. قلت: فما تقول في أهل مكة؟ قال: ما أنا لهم بعاذر؛ يقتتلون على الدنيا، يتهافتون في النار تهافت الذباب في المرق، قلت: فما تقول في هذه البيعة التي أخذ علينا مروان؟ قال: قال ابن عمر: كنا إذا بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يلقننا "فيما استطعتم".

وأخرج أيضًا بسنده عن يونس بن عبيد، عن نافع، قال: كان ابن عمر يسلم على الخشبية

(1)

، والخوارج، وهم يقتتلون، فقال: من قال: حيّ على الصلاة أجبته، ومن قال: حيّ على الفلاح أجبته، ومن قال: حيّ على قتل أخيك المسلم، وأخذ ماله، قلت: لا. انتهى

(2)

.

ومنعت طائفة الصلاة خلف أهل البدع، وأمر بعضهم من صلى خلفهم بالإعادة، كان سفيان الثوري يقول في الرجل يكذّب بالقدر: لا تقدموه.

وقال أحمد في الجهميّ يصلى خلفه: يعيد، والقدريّ إذا كان يردّ الأحاديث، ويخاصم فليعد، والرافضيّ يصلى خلفه: يعيد. وقال أحمد: لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه.

وقد حُكي عن مالك أنه قال: لا يصلى خلف أهل البدع من القدرية، وغيرهم، ويصلى خلف أئمة الجور، قاله ابن المنذر رحمه الله

(3)

.

وقال العلامة العينيّ رحمه الله: وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى الصلاة خلف المبتدعة، ومثله عن أبي يوسف. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله في "المجموع" ما حاصله:

مَن كُفِّر ببدعته لا تصح الصلاة وراءه، ومن لا يكفر تصح؛ فمِمَّن يكفر: من يجسم تجسيمًا صريحًا، ومن ينكر العلم بالجزئيات، وأما من يقول بخلق القرآن فهو مبتدع، واختَلَف أصحابنا في تكفيره، فأطلق أبو علي الطبري في

(1)

"الخشبيّة" هم: أصحاب المختار بن أبي عُبيد، قاله في "مجمع البحار"، وفي "القاموس": الخشبيّة -محرّكةً- قوم من الجهميّة. انتهى.

(2)

"السنن الكبرى" 3/ 122.

(3)

"الأوسط" 4/ 232.

(4)

"عمدة القاري" 5/ 232.

ص: 165

"الإفصاح"، والشيخ أبو حامد الإسفرايني، ومتابعوه، القول بأنه كافر، قال أبو حامد، ومتابعوه: المعتزلة كفار، والخوارج ليسوا بكفار، ونقل المتولي تكفير من يقول بخلق القرآن عن الشافعيّ، وقال القفال، وكثيرون من الأصحاب: يجوز الاقتداء بمن يقول بخلق القرآن وغيره من أهل البدع، قال صاحب "العمدة": هذا هو المذهب.

قال النووي: وهذا هو الصواب، فقد قال الشافعيّ رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة، ونحوهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء سائر الأحكام عليهم.

وتأول الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين ما نُقل عن الشافعي، وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على أن المراد كفران النعمة، لا كفران الخروج عن الملة، وحَمَلَهم على هذا التأويل ما ذكرته من إجراء أحكام الإسلام عليهم

(1)

.

قال الشافعيّ رحمه الله: ومَن صلى صلاةً مِن بالغ مسلم، يقيم الصلاة، أجزأته، ومَن خلفه صلاتُهم، وإن كان غير محمود الحال في دينه، أيّ غاية بلغ، يخالف الحمد في الدين، وقد صلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خلف من لا يَحْمَدون فعاله، من السلطان وغيره. انتهى كلام الشافعيّ رحمه الله

(2)

.

وقال ابن المنذر: إن كفر ببدعته لم تجز الصلاة وراءه، وإلا فتجوز، وغيره أولى

(3)

.

وقال الإمام المحقق أبو محمد بن حزم رحمه الله:

ما نعلم أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم امتنع من الصلاة خلف المختار، وعبيد اللَّه بن زياد، والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء، وقد قال اللَّه تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

ولا برّ أبرّ من الصلاة وجمعِها في المساجد، فمن دعا إليها ففرض

(1)

"المجموع شرح المهذّب" 4/ 253 - 254.

(2)

"الأمّ" 1/ 140.

(3)

"المجموع" 4/ 254.

ص: 166

إجابته، وعونه على البر والتقوى الذي دعا إليهما، ولا إثم بعد الكفر آثم من تعطيل الصلوات في المساجد، فحرام علينا أن نعين على ذلك، وكذلك الصيام، والحج، والجهاد؛ من عمل شيئًا من ذلك عملناه معه، ومن دعانا إلى إثم لم نجبه، ولم نعنه عليه. وكل هذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان -يعني داود الظاهري- رحمهم اللَّه تعالى. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله

(1)

.

وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله ما ملخصه: قد ثبتٌ إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة، ومن معهم من التابعين إجماعًا فعليًا، ولا يبعد أن يكون قوليًا على الصلاة خلف الجائرين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير، وكان الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحال أمرائهم لا يخفى.

وقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.

وأخرج مسلم، وأهل السنن أن أبا سعيد الخدريّ رحمه الله صلى خلف مروان صلاة في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراج منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنكار بعض الحاضرين.

وأيضًا قد ثبتٌ أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ميتة الأبدان، ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يا رسول صلى الله عليه وسلم اللَّه، بم تأمرنا؟ فقال:"صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة"، ولا شك أن من أمات الصلاة، وفَعَلها في غير وقتها غير عدل، وقد أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك.

والحاصل أن الأصل عدم اشتراط العدالة، وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره.

فالقائل بأن العدالة شرط، كما رُوي عن العترة، ومالك، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب محتاج إلى دليل، ينقل عن ذلك الأصل.

(1)

"المحلّى" 4/ 214.

ص: 167

ثم إن محل النزاع إنما هو في صحة الصلاة خلف من لا عدالة له، وأما أنها مكروهة فلا خلاف في ذلك. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله باختصار

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيس جدًّا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق من ذكر أقوال أهل العلم، وأدلّتهم في المسألة أن أرجحها هو القول بجواز الصلاة خلف من صحت صلاته لنفسه من كل بالغ مسلم، وإن كانت سيرته غير محمودة؛ لأن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون خلف من لا يحمدون سيرته من السلاطين وغيرهم، كما صرح به الشافعيّ رحمه الله فيما سبق، وهو الذي عليه جمهور السلف والخلف، فتصح الصلاة خلف أئمة الجَوْر، وأهل الأهواء الذين لا يكفّرون بأهوائهم، وإن كان الأولى الصلاة خلف الأئمة الصلحاء، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم مَن صلى صلاة، ثم وَجَد جماعة:

ذهب جمهور الفقهاء -كما قال الحافظ أبو عمر رحمه الله إلى أن من صلى في بيته وحده، ثم دخل المسجد، فأقيمت تلك الصلاة يصليها معهم، ولا يخرج حتى يصلي، وأما من صلى جماعة، فلا يعيد، وممن قال بهذا القول مالك بن أنس، وأبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهم. واحتجُّوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"لا تصلوا صلاة في يوم مرتين"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان.

وذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وهو قول داود إلى أنه يصليها ثانية في جماعة، قال أحمد: ولا يجوز له أن يخرج إذا أقيمت الصلاة حتى يصليها، وإن كان قد صلى في جماعة واحتجّ بقول أبي هريرة رضي الله عنه في الذي خرج عند الإقامة من المسجد: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

ورُوي عن أبي موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك،

(1)

"نيل الأوطار" 4/ 61 - 63.

ص: 168

وصلة بن زفر، والشعبيّ، والنخعيّ إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها في جماعة، وبه قال حماد بن زيد، وسليمان بن حرب.

واتفق أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه على أن معنى حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصلوا صلاة في يوم واحد مرتين"، قالا: إنما ذلك أن يصلي الإنسان الفريضة، ثم يقوم، فيصليها ثانية، ينوي بها الفرض مرة أخرى، يعتقد ذلك، فأما إذا صلاها مع الإمام على أنها سنّة تطوع، فليس بإعادة للصلاة.

قال أبو عمر: قد علمنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما أمر الذي صلى في أهله وحده أن يعيد في جماعة من أجل فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ؛ ليتلافى ما فاته من فضل الجماعة، إذا كان قد صلى منفردًا، والمصلي في جماعة قد حصل له الفرض والفضل، فلم يكن لإعادته الصلاة وجه، إلا أن يتطوع بها، وسنة التطوع أن يصلي ركعتين؛ لحديث:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، وللنهي عن القصد إلى التطوع بعد العصر والصبح. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: فيما قاله أبو عمر نظرٌ لا يخفى، بل الظاهر إطلاق الإعادة للجميع، سواء صلى وحده، أو مع الجماعة؛ عملًا بظاهر النصّ؛ لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّل منزلة العموم في المقال، فإنه صلى الله عليه وسلم ما استفصل مِحْجَنًا رضي الله عنه، لَمّا قال له: قد صليت في أهلي، هل صلى وحده، أم صلى مع الجماعة؟ بل قال له:"إذا جئت، فصل مع الناس"

(2)

، وكذا ما استفصل الرجلين، هل صلّيا وحدهما، أم صلّيا مع

(1)

"التمهيد" 4/ 243 - 247.

(2)

هو ما أخرجه النسائيّ من طريق زيد بن أسلم، عن رجل من بني الديل، يقال له: بسر بن مِحْجَن، عن مِحْجن، أنه كان في مجلس مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأُذِّن بالصلاة، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم رجع، ومحجن في مجلسه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما منعك أن تصلي، ألست برجل مسلم؟ " قال: بلى، ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا جئت، فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت"، حديث صحيح.

ص: 169

جماعة، بل قال لهما:"فصلّيا معهم"

(1)

.

والحاصل أن الراجح قول أحمد، وإسحاق، ومن قال بقولهما من مشروعيّة إعادة من صلى إذا وجد جماعة مطلقًا، سواء صلى وحده، أو مع جماعة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم، هل تعاد جميع الصلوت، أم لا؟:

قال أبو عمر رحمه الله: واختلف الفقهاء فيما يعاد من الصلوات مع الإمام لمن صلاها في بيته، فقال مالك رحمه الله: تعاد الصلوات كلها مع الإمام، إلا المغرب وحدها، فإنه لا يعيدها؛ لأنها تصير شفعًا، قال: ومن صلى في جماعة، ولو مع واحد، فإنه لا يعيد تلك الصلاة إلا أن يعيدها في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، وقال: إنه لا يدري أيُّ صلاتيه فريضته، وإنما ذلك إلى اللَّه، يجعلها أيتها شاء، ولا يقول: إنها نافلة، ونقل مثل ذلك عن ابن عمر، وابن المسيب رحمهما اللَّه تعالى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: لكن هذا مُعارِضٌ للنصوص الصحيحة الصريحة؛ حيث جعلت الثانية هي النافلة، ففي حديث الباب:"كانت لك نافلة"، وفي حديث الرجلين:"فإنها لكما نافلة"، وفي حديث ابن مسعود عند النسائيّ:"فصلوها معهم، واجعلوها سُبْحة"، فكلّها نصوص صريحة، في كون الثانية نافلةً، وتأويلهم بأن النافلة بمعنى فضيلة، وزيادة خير، وليس بمعنى التطوع، كما في قوله تعالى:{نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] تأويل بعيد؛ إذ لا دليل عليه.

(1)

هو ما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، من طريق يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود العامريّ، عن أبيه، قال: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته، إذا هو برجلين في آخر القوم، لم يصليا معه، قال:"عليّ بهما"، فأُتي بهما تَرْعَد فرائصهما، فقال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ " قالا: يا رسول اللَّه إنا قد صلينا في رحالنا، قال:"فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة"، حديث صحيح.

ص: 170

وأما حديث: "فصلّ معهم، وإن كنت قد صلّيت، تكن لك نافلة، وهذه مكتوبة"، رواه أبو داود، فضعيف

(1)

، لا يقاوم هذه الأحاديث الصحيحة، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال أبو حنيفة وأصحاب أبو حنيفة رحمهم الله: لا يعيد المصلي وحده العصر مع الإمام، ولا الفجر ولا المغرب، ويصلي معه الظهر والعشاء، ويجعل صلاته مع الإمام نافلة. قال محمد بن الحسن: لأن النافلة بعد العصر والصبح لا تجوز، ولا تعاد المغرب؛ لأن النافلة لا تكون وترًا في غير الوتر.

وقال الأوزاعيّ: يعيد جميع الصلوات، إلا المغرب والفجر، وهو قول عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما؛ لحديث:"لا وتران في ليلة"، وحديث:"لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس"، وأما العصر فقد ثبت جواز الصلاة بعدها ما كانت الشمس بيضاء نقية، والنهي الوارد محمول على ما بعد ذلك.

وهذا مذهب جماعة من السلف، كابن عمر، وقد استوفيت البحث في هذا في "شرح النسائيّ" في [باب الرخصة في الصلاة بعد العصر] برقم (573)، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقال الشافعيّ رحمه الله: تعاد الصلوات كلها؛ لحديث محجن الذي تقدّمت الإشارة إليه، حيث لم يخص له صلى الله عليه وسلم صلاةً من صلاة، بل قال له:"فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت"، قال: والأولى هي الفريضة، والثانية سنة، وهو

(1)

هو: ما أخرجه أبو داود (577) من طريق سعيد بن السائب، عن نوح بن صعصعة، عن يزيد بن عامر، قال: جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فجلست، ولم أدخل معهم في الصلاة، قال: فانصرف علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرأى يزيد جالسًا، فقال:"ألم تسلم يا يزيد؟ "، قال: بلى يا رسول اللَّه، قد أسلمت، قال:"فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ "، قال: إني كنت قد صليت في منزلي، وأنا أحسب أن قد صليتم، فقال:"إذا جئت إلى الصلاة، فوجدت الناس، فصلِّ معهم، وإن كنت قد صليت، تكن لك نافلة، وهذه مكتوبة"، حديث ضعيف؛ لأن في سنده نوح بن صعصعة مجهول الحال، كما قال الدارقطنيّ، ومع هذا فقد خالف حديثه أحاديث الأثبات، فهو منكر، لا يصلح للاحتجاج به فتبصّر، راجع "شرح النسائيّ" 10/ 338.

ص: 171

قول داود بن علي الظاهريّ، إلا أنه يرى الإعادة في الجماعة على من صلى وحده فرضًا، ولا يحتسب عنه بما صلى وحده

(1)

، وأما من صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فالإعادة ههنا استحباب.

واختلف عن الثوريّ رحمه الله، فروي عنه: يعيد الصلوات كلها، كقول الشافعيّ، وروي عنه مثل قول مالك، ولا خلاف عنه أن الثانية تطوع.

وقال أبو ثور رحمه الله: يعيدها كلها إلا الفجر والعصر، إلا أن يكون في مسجد، فتقام الصلاة، فلا يخرج حتى يصليها، وحجته النهي عن صلاة النافلة بعد العصر، وبعد الصبح. انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله بالاختصار.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أرجح المذاهب عندي مذهب الإمام الشافعي، وداود رحمهما اللَّه من إعادة جميع الصلوات، من غير استثناء شيء من الصلوات؛ لقوة دليله؛ حيث عمم النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"فصلِّ مع الناس، وإن كنت قد صليت" من غير استثناء شيء، بل حديث يزيد بن الأسود في قصّة الرجلين، نصّ صريح في أن ذلك كان بعد الصبح.

وأن الصواب أيضًا كون الأولى هي الفريضة، والثانية هي النافلة؛ لما أسلفناه من الأدلة الواضحة، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1467]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(2)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ، يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ، فَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا، كَانَتْ لَكَ نَافِلَةً، وَإِلَّا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ").

(1)

وهذا يردّه ما صحّ أنه صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: أصلي معهم؟ قال: "نعم إن شئت"، فخيّره، فالحقّ أن الإعادة مستحبّة، فتبصّر.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 172

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه كان يتشيّع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ) فيه دليلٌ من دلائل النبوّة، وقد وقع في زمن بني أميّة

(1)

.

وقوله: (فَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا) قال القرطبيّ رحمه الله يعني وقتها الأفضل، بدليل قوله:"فإن أدركتها معهم"، أي في الوقت، وبدليل قوله:"فإن صُلِّيَتْ لوقتها كانت لك نافلةً"، أي زيادة في العمل والثواب. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَإِنْ صَلَّيْتَ لِوَقْتِهَا) بالبناء للمفعول، أي صلى الأمراء الصلاة في وقتها بعد صلاتك وحدك، فصلّها، فإنها تكون نافلة.

وقوله: (كَانَتْ لَكَ نَافِلَةً، وَإِلَّا كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي قد فعلتها في وقتها، وعلى ما يجب أداؤها، وفيه جواز فعل الصلاة مرّتين، ويُحمَل النهي عن إعادة الصلاة على إعادتها من غير سبب. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: إذا علمت من حالهم تأخيرها عن وقتها المختار، فصلّها لأول وقتها، ثم إن صَلَّوها لوقتها المختار فصلّها أيضًا معهم، وتكون صلاتك معهم نافلةً، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك بفعلك في أول الوقت، أي حَصَّلتها، وصُنْتَها، واحتَطْتَ لها. انتهى. وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1468]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ:

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 148.

(2)

"المفهم" 2/ 272.

ص: 173

"إِنَّ خلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّع الْأَطْرَافِ، وَأَنْ أُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَ الْقَوْمَ، وَقَدْ صَلَّوْا، كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ، وَإِلَّا كَانَتْ لَكَ نَافِلَةً").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي أيضًا والباقون ذكروا قبله.

وقوله: (إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ) أي مُقَطَّع الاطراف، والْجَدْعُ -بالدال المهملة-: القطع، والْمُجَدَّع أردأ العبيد؛ لخسته، وقلة قيمته ومنفعته، ونفرة الناس منه، وفي هذا الحثّ على طاعة ولاة الأمور ما لم تكن معصيةً.

[فإن قيل]: كيف يكون العبد إمامًا، وشرط الإمام أن يكون حُرًّا قرشيًّا، سَلِيم الأطراف؟.

[فالجواب]: من وجهين:

[أحدهما]: إن هذه الشروط وغيرها إنما تُشْتَرط فيمن تُعقَد له الإمامة باختيار أهل الحلّ والعقد، وأما مَن قَهَر الناس؛ لشوكته، وقوة بأسه وأعوانه، واستولى عليهم، وانتصب إمامًا، فإن أحكامه تنفُذُ، وتجب طاعته، وتحرم مخالفته في غير معصية، عبدًا كان أو حُرًّا، أو فاسقًا بشرط أن يكون مسلمًا.

[الجواب الثاني]: أنه ليس في الحديث أنه يكون إمامًا، بل هو محمول على من يُفَوِّض إليه الإمام أمرًا من الأمور، أو استيفاء حقّ، أو نحو ذلك، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 149.

ص: 174

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1469]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ بُدَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا العَالِيَةِ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَرَبَ فَخِذِي: "كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ، يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ " قَالَ: قَالَ مَا تَأْمُرُ؟

(1)

قَالَ: "صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِكَ، فَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلِّ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

4 -

(بُدَيْل) بن ميسرة الْعُقيليّ البصريّ، ثقة [5](ت 125) أو (130)(م 4) تقدم في "الصلاة" 47/ 1115.

5 -

(أَبُو الْعَالِيَةِ) الْبَرّاء -بتشديد الراء- البصريّ، مولى قريش، كان يَبْري النَّبْل، قيل: اسمه زياد بن فَيْروز، وقيل: زياد بن أُذَينة، وقيل: أذينة، وقيل: إن أذينة لَقَبٌ، واسمه كلثوم، ثقة [4]، مات يوم الاثنين في شوّال سنة تسعين.

رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأنس، وطلق بن حبيب، وعبد اللَّه بن الصامت، وغيرهم.

ورَوَى عنه أيوب، وبُديل بن ميسرة، ومطر الوراق، والحسن بن أبي الحسناء، ويونس بن عبيد، وغيرهم.

قال أبو زرعة: ثقة، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال ابن عبد البر: زياد بن فيروز أكثر ما قيل فيه، وهو عندهم ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال رحمه الله:

(1)

وفي نسخة: "في تأمر".

ص: 175

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث برقم (648) وكرّره ثلاث مرّات، و (1240) حديث:"من شاء أن يجعلها عمرة. . . "، وكرّره ثلاثًا أيضًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: لا يوجد في الكتب الستة من يسمّى ببديل إلَّا المذكور في هذا السند، وأن أبا العالية يقال له البرّاء بتشديد الراء؛ لأنه كان يبري النبل.

وقوله: (مَا تَأْمُرُ؟) وفي نسخة: "فما تأمر؟ " و"ما" استفهاميّة، أي بأيّ شيء تأمرني إذ أدركت ذلك؟.

وقوله: (صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِكَ. . . إلخ) معناه: صلّ في أول الوقت، وتصرّف في شغلك، فإن صادفتهم بعد ذلك لَمْ يصلّوا فصلِّ معهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1470]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ، قَالَ: أَخَّرَ ابْنُ زِيَادٍ الصَّلَاةَ، فَجَاءَنِي عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الصَّامِتِ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًّا، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ صَنِيعَ ابْنِ زِيَادٍ، فَعَضَّ عَلَى شَفَتِهِ، وَضَرَبَ

(1)

فَخِذِي، وَقَالَ

(2)

: إِنِّي سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ، كَمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ فَخِذِي، كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ، وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ فَخِذِي، كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ، وَقَالَ: "صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ مَعَهُمْ

(3)

فَصَلِّ، وَلَا تَقُلْ: إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ، فَلَا أُصَلِّي").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

(1)

وفي نسخة: "فضرب فخذي" في ثلاثة مواضع.

(2)

وفي نسخة: "ثم قال".

(3)

وفي نسخة: "فإن أدركتك معهم".

ص: 176

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة البصريّ، ثقة ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةُ ثبتٌ حجة فقيهٌ، من كبار [5](ت 131) عن (65) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقون تقدّموا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ) بتشديد الراء، نسبة إلى بَرْي النَّبْل، أنه (قَالَ: أَخَّرَ ابْنُ زِيَادٍ الصَّلَاةَ) وصرح في رواية أحمد باسمه، فقال:"عبيد اللَّه بن زياد".

والظاهر أنه عبيد اللَّه بن زياد بن أبيه المتوفّى سنة (67 هـ) كان واليًا فاتحًا من الشجعان جبارًا خطيبًا ولد بالبصرة سنة (28 هـ)، ويحتمل أن يكون عبيد اللَّه بن زياد بن ظبيان البكري المتوفى سنة (75 هـ) كان فاتحًا من الشجعان، وكان مقربًا من عبد الملك بن مروان.

[تنبيه]: وقع في رواية النسائيّ "زياد" بدل "ابن زياد"، وهو غلطٌ، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَجَاءَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ) الغفاريّ (فَأَلْقَيْتُ لَهُ كُرْسِيًا) فيه إكرام الضيف، والاهتمام به.

و"الكرسي": بضم الكاف أشهر من كسرها، والجمع مثقل وقد يخفف. قال ابن السِّكِّيت في باب ما يشدد: وكل ما كان واحده مشددًا، شدّدت جمعه، وإن شئت خففت.

(فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ صَنِيعَ ابْنِ زِيَادٍ، فَعَضَّ عَلَى شَفَتِهِ) قال في "المصباح": عَضِضتُ اللُّقمة، وبها، وعليها، عَضًّا: أمسكتُها بالأسنان، وهو من باب تَعِبَ في الأكثر، لكن المصدر ساكن، ومن باب نَفَعَ لغة قليلة، وفي أفعال ابن القطان: من باب قتل. انتهى.

وإنما عَضّ عبد اللَّه بن الصامت على شفتيه إظهارًا للكراهة لفعله.

ص: 177

(وَضَرَبَ) وفي نسخة: "فضرب" بالفاء في المواضع الثلاثة (فَخِذِي)"الفَخِذ" -ككتف-: ما بين الساق والوَرِك، مؤنث، كالفَخْذِ - بفتح الفاء، وتكسر، مع سكون الخاء فيهما، ويجوز فيه فِخِذ - بكسرتين

(1)

.

وإنما ضرب فخذه للتنبيه، وجمع الذهن، على ما يقوله له

(2)

.

(وَقَالَ) وفي نسخة: "ثم قال"(إِنِّي سَأَلْتُ أَبا ذَرٍّ) رضي الله عنه (كمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ فَخِذِي، كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ، وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَأَلْتَنِي، فَضَرَبَ) صلى الله عليه وسلم (فَخِذِي، كَمَا ضَرَبْتُ فَخِذَكَ) هذا هو النوع المسمى في مصطلح المحدثين بالمسلسل قولًا، وفعلًا، حيث تسلسل بقول كل من عبد اللَّه بن الصامت، وأبي ذرّ رضي الله عنه:"سألت، كما سألتني، وضرب فخذي، كما ضربت فخذك".

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا) أي في وقتها المأمور أداؤها فيه، جمعًا بين المصلحتين، مصلحةِ أداء الصلاة في الوقت المشروع، ومصلحة عدم شق العصا بإظهار المخالفة.

(فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ) بالرفع على الفاعليّة، وفي رواية النسائيّ:"فإن أدركت الصلاة" بتاء المخاطب، و"الصلاة" منصوب على المفعوليّة (مَعَهُمْ) وفي نسخة:"فإن أدركتك معهم".

(فَصَلِّ) تلك الصلاة جماعةً؛ إحرازًا للفضيلتين: فضيلة أول الوقت،

(1)

وعبارة "القاموس" و"شرحه": "الْفَخِذ" ككَتِفٍ: ما وصل بين الساق والْوَرِكِ، مؤنّثٌ، كالْفَخْذ -بفتح، فسكون، يُكسر مع السكون- فهي ثلاث لغات، وهي مشهورة في كل ثلاثيّ على وزن كَتِفٍ، وزاد الزركشيّ في "شرح البخاريّ" أن فيه لغةَ فِخِذٍ بكسرتين، وفي "التسهيل" لابن مالك: في كل عين حلقيّة أربع لغات، سواء كانت اسمًا، كفخذ، أو فعلًا، كشَهِدَ، الثلاثة، وكسر الفاء والعين، وصرّح بذلك في "الكافية" و"شرحها".

ثم إن الإتباع بكسرتين هو الذي قيّدوه بالحلقيّ، وأما اللغات الثلاث ففي كل ثلاثيّ على وزن كَتِفٍ، ولو لَمْ يكن فيه حرف حلق. انتهى. "القاموس"، و"شرحه التاج" بتصرّف يسير 2/ 572 - 573.

(2)

"شرح النووي" 5/ 149.

ص: 178

وفضيلة الجماعة (وَلَا تَقُلْ: إِنِّي قَدْ صَلَّيْتُ) أي في أول الوقت (فَلَا أُصَلِّي") معهم ثانيًا.

ومسائل الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1471]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي نَعَامَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ

(1)

، أَوْ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ، يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟، فَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ إِنْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلِّ مَعَهمْ، فَمنَّهَا زِيَادَةُ خَيْرٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) الأحول، أبو عمر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد" 26/ 1350.

2 -

(أَبُو نَعَامَةَ) السعديّ البصريّ، قال ابن معين: اسمه عبد ربه، وقال ابن حبّان رحمه الله: قيل: اسمه عَمْرو، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبي عثمان النَّهْديّ، وعبد اللَّه بن الصامت، وأبي نضرة العبديّ، ومُطَرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير، وشهر بن حَوْشب.

ورَوَى عنه أيوب، وأبو عامر الخزاز، ومرحوم بن عبد العزيز العطار، ومبارك بن فَضَالة، وشعبة، وحماد بن سلمة.

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: بصريّ صالح، ولَمّا أخرج الترمذيّ حديثه عن أبي عثمان، عن أبي سعيد، عن معاوية في فضل مجالس الذكر، قال: حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه، وأبو نعامة عمرو بن

(1)

وفي نسخة: "قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أنتم".

ص: 179

عيسي، تَعَقَّبه المزيّ في "الأطراف"، فقال: كذا قال، وأبو نعامة عمرو بن عيسي، شيخ آخر، وهو العدوي، وأما هذا فهو السعديّ، واسمه عبد ربه، فجزم بذلك مع أنه حَكَى عن ابن حبان ما يقتضي أنه اختُلِف فيه، قاله في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (648)، وحديث (2701):"أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم. . . ".

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (فَإِنَّهَا زِيَادَةُ خَيْرٍ) أي إن هذه الصلاة الثانية خير زائد على الخير السابق، وهو أداء الصلاة في أول وقتها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1472]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَّاءِ

(2)

، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ: نُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ أُمَرَاءَ

(3)

، فَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ؟، قَالَ: فَضَرَبَ فَخِذِي ضَرْبَةً أَوْجَعَتْنِي، وَقَالَ: سَأَلْتُ؟ أَبَا ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ؟ فَضَرَبَ فَخِذِي، وَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً"، قَالَ: وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذُكِرَ لِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ فَخِذَ أَبِي ذَرٍّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربما وهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

"تهذيب التهذيب" 12/ 282.

(2)

وفي نسخة بحذف لفظ "البرّاء".

(3)

وفي نسخة: "خلف الأمراء".

ص: 180

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(مَطَر) بن طهمان الورّاق، أبو رجاء السلميّ مولاهم الخُرَاسانيّ، سكن البصرة، صدوق، كثير الخطأ [6](125)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (قَالَ: وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) فاعل "قال" الأول ضمير أبي العالية.

وقوله: (ذُكِرَ لِي أَنِّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ فَخِذَ أَبِي ذَرٍّ) ببناء "ذُكِرَ" للمفعول.

[تنبيه]: ظاهر قوله: "ذُكر لي" أن عبد اللَّه بن الصامت لم يسمع هذا من أبي ذرّ رضي الله عنه، وإنما سمعه من غيره، لكن تقدّم في رواية أيوب السختيانيّ، عن أبي العالية أنه سمعه من أبي ذرّ رضي الله عنه، ولفظه:"وقال: إني سألت أبا ذرّ كما سألتني، فضرب فخذي، كما ضربت فخذك، وقال: إني سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فضرب فخذي، كما ضربت فخذك. . . " الحديث، وأيوب أوثق وأحفظ من مطر الورّاق، فتقدّم روايته عليه، ويؤيّدها أيضًا ظاهر رواية بُديل، عن أبي العالية السابقة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(43) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَالتَّشْدِيدِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا، وَأَنَّهَا فَرِيضَةٌ)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: (اعلم): أن لفظ الجماعة يَحْتَمِل أن يُراد به عموم المجتمعين في الصلاة، ويَحْتَمِل أن يُراد به الاجتماع نفسه، ويكون المعنى صلاة الاجتماع، فعلى الأول تكون الجماعة صفة موصوف محذوف، أي القوم، ونحو ذلك، وعلى الثاني لا حذف؛ لوقوعه على المعنى الذي هو الاجتماع.

والحكمة في مشروعيّة الجماعة وُجوه ذكرها ابن القسطلانيّ في "مقاصد الصلاة":

ص: 181

[أحدها]: قيام نظام الأُلفة بين المصلّين، ولهذه العلّة شُرعت المساجد في المحالّ؛ ليحصل التعاهد باللقاء في أوقات الصلوات بين الجيران.

[ثانيها]: حصر النفس أن تستقلّ بهذه العبادة وحدها، فإنها ربما لم تَفِ بالقيام بها وحدها، فإذا علمت انتظار جماعة لها حرّكها ذلك إلى المبادرة لفعلها، فإن النفوس تُحبّ البطالة، وتركن إليها، فإذا وجدت محرّكًا من خارج أذعنت وأجابت.

[ثالثها]: أن الناس بين عالم بأفعال الصلاة وأحكامها، وجاهل بها، فإذا حصل إقامتها في الجماعة تعلّم الجاهل من العالم، فزال جهله.

[رابعها]: أن الدرجات والمثوبات متفاوتة في العمال؛ لأجل قبول الأعمال، فإذا كانت الجماعة حصل فيها الكامل والناقص بحسب الحضور والغفلة، فيعود من بركة الكامل على الناقص، فتكمل صلاته. انتهي، ذكر هذا كله ابن الملقّن رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وذكر الشيخ شاه وليّ اللَّه الدهلويّ رحمه الله كلامًا حسنًا يتعلّق بأسرار تشريع صلاة الجماعة أيضًا، أحببت إيراده هنا، وإن كان فيه طولٌ، إلَّا أنه مفيد، قال رحمه الله:

(اعلم) أنه لا شيء أنفع من غائلة الرسوم من أن يُجعَل شيء من الطاعات رسمًا فاشيًا، يؤدَّى على رؤوس الخامل والنبيه، ويستوي فيه الحاضر والباد، ويجري فيه التفاخر والتباهي، حتى تدخل في الارتفاقات الضرورية التي لا يمكن لهم أن يتركوها، ولا أن يُهملوها؛ لتصير مؤيِّدًا لعبادة اللَّه، والسنةُ تدعو إلى الحقّ، ويكون الذي يُخاف منه الضرر هو الذي يَجلُبُهم إلى الحقّ، ولا شيءَ من الطاعات أتمّ شأنًا، ولا أعظم برهانًا من الصلاة، فوجب إشاعتها فيما بينهم، والاجتماع لها، وموافقة الناس فيها.

وأيضًا فالملة تجمع ناسًا علماء يُقتَدَى بهم، وناسًا يحتاجون في تحصل إحسانهم إلى دعوة حثيثة، وناسًا ضعفاء الْبِنْية، ولو لَمْ يكلفوا أن يؤدوا على أعين الناس تهاونوا فيها، فلا أنفع، ولا أوفق بالمصلحة في حقّ هؤلاء جميعًا

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 2/ 346 - 347.

ص: 182

أن يكلفوا أن يطيعوا اللَّه على أعين الناس، ليتميز فاعلها من تاركها، وراغبها من الزاهد فيها، ويُقتَدَى بعالمها، ويُعَلَّم جاهلها، وتكون طاعة اللَّه فيهم، كسبيكة تُعْرَض على طائف الناس ينكر منها المنكر، ويعرف منها المعروف، ويرى غِشّها وخالصها.

وأيضًا فلاجتماع المسلمين راغبين في اللَّه، راجين راهبين منه، مسلمين وجوههم إليه عز وجل خاصيةٌ عجيبةٌ في نزول البركات، وتدلي الرحمة، كما بيّنا في الاستسقاء والحج.

وأيضًا فمراد اللَّه من نصب هذه الأمة، أن تكون كلمة اللَّه هي العليا، وألا يكون في الأرض دين أعلى من الإسلام، ولا يُتَصَوَّر ذلك إلَّا بأن يكون سنتهم أن يجتمع خاصتهم وعامتهم، وحاضرهم وباديهم، وصغيرهم وكبيرهم، لِمَا هو أعظم شعائره، وأشهر طاعاته، فلهذه المعاني انصرفت العناية التشريعية إلى شرع الجمعة والجماعات، والترغيب فيها، وتغليظ النهي عن تركها.

والإشاعة إشاعتان: إشاعة في الحيّ، وإشاعة في المدينة، والإشاعة في الحيّ تتيسر في كل وقت صلاة، والإشاعة في المدينة لا تتيسر إلَّا غِبّ طائفة من الزمان، كالأسبوع، أما الأولى فهي الجماعة، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية:"بخمس وعشرين درجةً"، وقد صرح النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لَوَّح أن من المرجحات أنه إذا توضأ، فأحسن وضوءه، ثم توجه إلى المسجد، لا ينهضه إلَّا الصلاة، كان مشيه في حكم الصلاة، وخطواته مكفرات لذنوبه، وأن دعوة المسلمين تحيط بهم من ورائهم، وأن في انتظار الصلوات معنى الرباط والاعتكاف، إلى غير ذلك، ثم ما نَوَّه بأحد العددين المذكورين إلَّا لنكتة بليغة، تمثلت عنده صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناها من قبلُ فراجع، وليس في الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه جِزَافٌ بوجه من الوجوه.

وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قرية أو بَدْوٍ، لا تقام فيهم الصلاة، إلَّا قد استحوذ عليهم الشيطان".

أقول: هو إشارة إلى أن تركها يفتح باب التهاون.

ص: 183

وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لقد هَمَمت أن آمر بحطب، فيُحْطَب. . . " الحديث.

أقول: الجماعة سنة مؤكدة

(1)

، تقام اللائمة على تركها؛ لأنَّها من شعائر الدين، لكنه صلى الله عليه وسلم رأى من بعضِ مَن هنالك تأخّرًا واستبطاءً، وعَرَف أن سببه ضعف النية في الإسلام، فشدد النكير عليهم، وأخاف قلوبهم.

ثم لَمّا كان في شهود الجماعة حرج للضعيف والسقيم، وذي الحاجة، اقتضت الحكمة أن يُرَخَّص في تركها عند ذلك، ليتحقق العدل بين الإفراط والتفريط.

فمن أنواع الحرج: ليلة ذاتُ بَرْد ومطر، ويستحب عند ذلك قول المؤذن:"إلا صَلُّوا في الرحال".

ومنها: حاجة يَعْسُر التربص بها، كالعَشَاء إذا حضر، فإنه ربما تتشوف نفس إليه، وربما يضيع الطعام، وكمدافعة الأخبثين، فإنه بمعزل عن فائدة الصلاة، مع ما به من اشتغال النفس.

ولا اختلاف بين حديث: "لا صلاة بحضرة الطعام"، وحديث:"لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره"

(2)

؛ إذ يمكن تنزيل كل واحد على صورة أو معنى، إذ المراد نفي وجوب الحضور سدًّا لباب التعمُّق، وعدم التأخير هو الوظيفة لمن أَمِن شر التعمق، وذلك كتنزيل فطر الصائم وعدمه على الحالين، أو التأخير إذا كان تشوفٌ إلى الطعام، أو خوف ضياع، وعدمه إذا لَمْ يكن، وذلك مأخوذ من حالة العلة.

ومنها: ما إذا كان خوف فتنةٍ، كامرأة أصابت بَخُورًا، ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد، فلا يمنعها"، وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهنّ؛ إذ المنهي الغيرة التي تنبعث من الأنَفَة دون خوف الفتنة، والجائز ما فيه خوف الفتنة، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الغيرة غيرتان. . . "

(1)

سيأتي أن الصواب أنها فرض؛ للأدلّة الكثيرة، فتنبّه.

(2)

حديث ضعيفٌ، أخرجه أبو داود في "سننه" 3/ 345.

ص: 184

الحديث

(1)

، وحديث عائشة:"إن النساء أحدثن. . . " الحديث

(2)

.

ومنها: الخوف والمرض، والأمر فيهما ظاهرٌ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم للأعمى:"أتسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم، قال:"فأجب" أن سؤاله كان في العزيمة، فلم يُرَخِّص له.

ثم وقعت الحاجة إلى بيان الأحقّ بالإمامة، وكيفية الاجتماع، ووصية الإمام أن يُخفِّف بالقوم، والمأمومين أن يحافظوا على اتباعه، وقصة معاذ رضي الله عنه في الإطالة مشهورة، فبيَّن هذه المعاني بأوكد وجه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًّا، ولا يؤمّنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه"، رواه مسلم. انتهى كلام الشيخ وليّ اللَّه الدهلويّ رحمه الله

(3)

، وهو بحثٌ حسنٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: اختُلف في بدء مشروعيّة صلاة الجماعة، فجزم ابن حجر الهيتميّ الفقيه الشافعيّ في "تحفة المحتاج شرح المنهاج" أنها شُرعت بالمدينة، وفي "روضة المحتاجين" للشيخ رضوان العدل أن أصل مشروعيّتها بمكة، بدليل صلاة جبريل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وبالصحابة صبيحة ليلة الإسراء، وصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا بخديجة، وبعليّ رضي الله عنهما، لكنها لم تظهر، ولم يواظب عليها إلَّا بالمدينة، ولذا قيل: إنها شُرعت بها، وكان الصحابة رضي الله عنهم بمكة يصلّون في بيوتهم لتسلّط المشركين عليهم، وقهرهم لهم، ذكره في "المرعاة"

(4)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(1)

حديث حسن، أخرجه أبو داود، والنسائيّ عن جابر بن عتيك، أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول:"من الغيرة ما يحب اللَّه، ومنها ما يبغض اللَّه، فأما التي يحبها اللَّه فالغيرة في الرِّيبة، وأما الغيرة التي يبغضها اللَّه فالغيرة في غير ريبة، وإن من الخيلاء ما يبغض اللَّه، ومنها ما يحب اللَّه، فأما الخيلاء التي يحب اللَّه، فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض اللَّه فاختياله في البغي".

(2)

متفقٌ عليه.

(3)

"حجة اللَّه المبالغة" 2/ 676 - 680.

(4)

"المرعاة شرح المشكاة" 3/ 479.

ص: 185

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1473]

(649) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ، بِخَمْسَةٍ

(1)

وَعِشْرِينَ جُزْءًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِك) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب، والباقون يأتون في الحديث الآتي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، وإنما أخرتها إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1474]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَفْضُلُ صَلَاةٌ فِي الْجَمِيعِ

(3)

عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، قَالَ: وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

(1)

وفي نسخة: "بخمس".

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "صلاة الجميع"، وفي أخرى:"صلاة في الجمع".

ص: 186

3 -

(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(الزُّهْرِيُّ)، تقدّم قبل باب.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حزن القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام، من كبار [3](94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (59)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من الزهريّ، وشيخه كوفيّ، وعبد الأعلى بصريّ، ومعمر بصريّ، ثم يمنيّ.

4 -

(ومنها): ما قيل: إن أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه: الزهريّ، عن سعيد، عنه.

6 -

(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة، وأبا هريرة رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "تَفْضُلُ) بفتح أوله، ضمّ الضاد، وفتحها، قال في "القاموس": الفضل: ضدّ النقص، جمعه فُضُولٌ، وقد فَضَلَ، كنصَرَ، وعَلِمَ، وأما فَضِلَ كعَلِمَ يفضُلُ كينصُرُ، فمركّبة منهما. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ: فَضَلَ فَضْلًا، من باب قَتَلَ: بَقِيَ، وفي لغة فَضِلَ يَفْضَلُ، من باب تَعِبَ، وفَضِلَ بالكسر يَفْضُلُ بالضمّ لغةٌ ليست بالأصل، ولكنها على تداخل اللغتين، قال: وفَضَلَ فضْلًا، من باب قتل أيضًا: زاد. انتهى

(2)

.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 31.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 475.

ص: 187

قال ابن الأثير في "شرح المسند": لما كانت "تَفْضُل" بمعنى "تزيد"، وهي تتعدى بـ "على" أعطاها معناها، فعداها بها، وإلا فهي متعدية بنفسها، قال: وأما الذي في "صحيح مسلم": "أفضل من صلاة الفذّ"، فجاء بها بلفظ "أفعل" التي هي للتفضيل والتكثير في المعنى المشترك، وهي أبلغ من "تفضل" على ما لا يخفى. انتهى

(1)

.

وقوله: (صَلَاةٌ) بالرفع على الفاعليّة، أي تزيد في الأجر والثواب صلاة الرجل (فِي الْجَمِيعِ) أي مع جماعة الناس، وفي نسخة:"صلاة في الجمع"، وفي أخرى:"صلاة الجميع" بالإضافة، والإضافة بمعنى "في"، لا بمعنى اللام، قاله العيني، وقال السنديّ: الإضافة لأدنى ملابسة، أي صلاة أحدكم مع الجماعة، أو بحذف المضاف، أي صلاة آحاد الجميع، وإلا فليس المطلوب تفضيل صلاة المجموع على صلاة الواحد، بل تفضيل صلاة الواحد على صلاته باعتبار الحالين. انتهى.

(عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ) فيه دليلٌ على أن صلاة المنفرد صحيحة، وفيه ردّ على من جعل الجماعة شرطًا في صحية الصلاة، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا (خَمْسًا وَعِشْرِينَ) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"سبعًا وعشرين درجةً"، فيُحْمَل على أنه أوحِيَ إليه أولًا بخمس وعشرين، ثم بسبع وعشرين، تفضلًا من اللَّه تعالى، حيث زاد درجتين، أو يُحْمَل على أن المراد بالعدد التكثير لا التحديد، وسيأتي تمام البحث فيه.

وقوله: (دَرَجَةً) تمييز العدد المذكور، وفي الروايات كلّها التعبير بـ "درجةً"، أو حذفُ التمييز، إلَّا طرُق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ففي بعضها "ضعفًا"، وفي بعضها "جزءًا"، وفي بعضها "درجةً"، وفي بعضها "صلاةً"، ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس رضي الله عنه، والظاهر أن ذلك من تصرّف الرواة، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من التفنّن في العبارة.

وأما قول ابن الأثير رحمه الله: إنما قال: "درجةً"، ولم يقل: جزءًا، ولا نصيبًا، ولا حظًّا، ولا نحو ذلك؛ لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع،

(1)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 166.

ص: 188

فإن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة؛ لأن الدرجات إلى جهة فوق، فكأنه بناه على أن الأصل لفظ "درجة"، وما عدا ذلك من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود الجزء مردود، فإنه ثابت، وكذلك الضعف، فتنبّه.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ") فيه بيان مَزِيَّة صلاةِ الفجر جماعةً؛ حيث إن الملائكة تجتمع في وقتها، ومثلها صلاة العصر، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر. . . " الحديث، متّفق عليه، فلذلك حَثَّ الشارعُ على المحافظة عليهما؛ ليكون من حضرهما تَرْفَعُ الملائكة عمله، وتشفع له.

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، ظاهر هذا أنه من قول أبي هريرة رضي الله عنه، وليس من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن أخرج الترمذيّ في "التفسير"، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] قال: "تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.

فهذا ظاهر في كونه مرفوعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ويُمكن أن يُجمع بينهما بأن أبا هريرة رضي الله عنه كان تارةً يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتارة يذكره عن نفسه، واللَّه تعالى أعلم.

(اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ) أي إن أردتم أن تعرفوا مصداق ذلك من كتاب اللَّه تعالى، فاقرؤوا هذه الآية ({وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}) بالنصب عطفًا على الصلاة، من قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، أي وأقم قرآنَ الفجر، أو منصوب على الإغراء، أي وعليك قرآنَ الفجر، على رأي من يقول: إن أسماء الأفعال تَعْمَل مقدَّرةً، ويقدر على رأي غيرهم: الْزَمْ قرآنَ الفجر ({إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ}) أي صلاة الصبح، سميت قرآنًا، وهو القراءة؛ لأنها ركن منها، لا تجوز الصلاة إلَّا بها، كما سميت ركوعًا، وسجودًا، وقنوتًا؛ أي قيامًا، وإنما خص القراءة بالتسمية هنا للحثّ على تطويل القراءة فيها.

({كَانَ مَشْهُودًا}) أي محضورًا؛ تحضره الملائكة.

قال السنديّ رحمه الله: ولا يخفى أن طائفة من الملائكة على البدلية تشهد الصلوات كلها، وكلتا الطائفتين لا يحضرون صلاة الفجر أو العصر بتمامهما

ص: 189

أيضًا؛ لقولهم: "تركناهم وهم يصلون"، فكأنهم يشهدون القرآن جميعًا، ثم تذهب طائفة عند تمام الركعة الثانية من الفجر، أو الرابعة من العصر قبل الفراغ من الصلاة، فليتأمل، واللَّه تعالى أعلم. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1473 و 1474 و 1475 و 1476 و 1477](649)، و (البخاريّ) في "الأذان"(648) و"التفسير"(4717)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(216)، و (النسائيّ) فيها (486 و 838) وفي "الكبرى"(461 و 912)، و (ابن ماجه) فيها (787)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 129)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 480)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 464)، و (ابن خُزيمة) في "صحيحه"(1472)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2051 و 3053)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1245 و 1246 و 1247 و 1248)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1444 و 1445 و 1446 و 1447 و 1448)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تأكيد صلاة الجماعة، وفضلها، والحثّ عليها.

2 -

(ومنها): أن فيه بيان أن أقل الجماعة اثنان؛ لأنه جعل هذا الفضل لغير المنفرد، وما زاد على المنفرد فهو جماعة، وقد يقال: إنما رتب هذا الفضل لصلاة الجماعة، وليس فيه تعرّض لنفي درجة متوسطة بين المنفرد والجماعة، كصلاة الاثنين مثلًا، ولكن قد ورد في غير حديثٍ التصريح بكون الاثنين جماعة، فقد روى ابن ماجه، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اثنان في فوقهما جماعة"، ورواه البيهقيّ أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه، وفيهما ضعف، لكن استُدلّ لذلك بما رواه الشيخان من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه:"إذا حضرت الصلاة، فأذِّنا وأقيما، ثم ليؤمكما أكبركما"، وقد بَوَّب عليه الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

ص: 190

"باب اثنان في فوقهما جماعة"، قال النوويّ في "الخلاصة": ويُستَدَلّ فيه أيضًا بالإجماع، قال العراقيّ: وفي الإجماع نظرٌ، وقد حكى ابن الرفعة في "الكفاية" خلافًا في أن أقلّ الجماعة ثلاثة، وهو ضعيف، وحكاه ابن بطال في "شرح البخاريّ"، عن الحسن البصريّ. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه الردَّ على من جعل الجماعة من شروط صحّة الصلاة، وهو داود الظاهريّ، ووجه دلالته أنه صلى الله عليه وسلم أثبت لمن صلّى وحده صلاةً، فلو كانت الجماعة شرطًا لما صحتّ صلاته، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ"، وقال:"تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده"، فجعل لمن صلّى وحده صلاة صحيحة، لها ثواب دون ثواب من صلّى مع الجماعة، واللَّه تعالى أعلم.

وأما قول العراقيّ رحمه الله: فيه ردّ على داود الظاهريّ، وأبي ثور، وابن المنذر، وابن خزيمة، فيما ذهبوا إليه من أن الجماعة فرض عين، وحُكي أيضًا عن أحمد، وعزاه بعضهم قولًا للشافعي فيما حكاه الرافعيّ.

ففيه نظر لا يخفى؛ لأن الحقّ مع هؤلاء في كون الجماعة فرض عين، على ما سيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

4 -

(ومنها): أنه استدَلَّ به بعض المالكية للمشهور عن مالك، أنه لا فضل لجماعة على جماعة؛ لأنه جعل الجماعات كلها بسبع وعشرين، وخمس وعشرين، ولم يفرِّق بين جماعة وجماعة.

وذهب الشافعيّ، والجمهور إلى أن الجماعات تتفاوت؛ لما روى أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، بإسناد حسن، من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثُر فهو أحب إلى اللَّه تعالى"

(2)

.

وليس في حديث الباب حجةٌ لمن تعلق به في تساوي الجماعات؛ لأنا

(1)

"طرح التثريب" 2/ 296.

(2)

حديث حسنٌ، أخرجه أبو داود في "سننه" برقم (554)، والنسائيّ في "المجتبى" برقم (843).

ص: 191

نقول أقلّ ما تحصل به الجماعة محصل للتضعيف، ولا مانع من تضعيف آخر بسبب آخر، من كثرة الجماعة، أو شرف المسجد، أو بُعْد طريق المسجد، أو غير ذلك، قاله العراقيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ.

5 -

(ومنها): ما قاله العراقيّ رحمه الله: هل هذا الفضل المذكور للجماعة مقيَّد بكونها في المسجد، أو التضعيف حاصل بمطلق الجماعة، في أيّ موضع كانت؟، حَكَى صاحب "المفهم" فيه خلافًا، قال: والظاهر الإطلاق؛ لأن الجماعة هو الوصف الذي عُلِّق عليه الحكم.

قال العراقيّ: ولكن ظاهر الرواية المذكورة في "الصحيحين" في آخر الباب يقتضي التقييد بالمسجد؛ لما فيه من الإشارة إلى العلة، فإنه لما ذكر أنها تفضل بخمسة وعشرين ضعفًا، أو ببضع وعشرين درجةً قال:"وذلك أنه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلَّا الصلاة. . . "، فذكر الحديث، فعَلَّل ما ذكر من الثواب أَوّلًا بما ذكره ثانيًا، وفيه الخروج إلى المسجد، وكذا قوله في أول الحديث:"تزيد على صلاته في بيته، وفي سوقه"، وربما كانت صلاته في بيته أو في سوقه جماعةً، فرَتَّب عليها الفضل بالتضعيف المذكور. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم صلاة الجماعة:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب وجوب صلاة الجماعة"، وقال الحسن: إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقةً عليه لم يطعها، ثم أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي في الباب:"لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس. . . " الحديث.

قال الحافظ رحمه الله: هكذا بَتّ الحكم في هذه المسألة، وكأن ذلك لقوة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب، وهو أعمّ من كونه وجوب عين، أو كفاية، إلَّا أن الأثر الذي ذكره عن الحسن يشعر بكونه يريد أنه وجوب عين؛ لما عُرف

(1)

"طرح التثريب" 2/ 300 - 301.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 298 - 299.

ص: 192

من عادته أنه يَستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها، وتكميلها، وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب.

وأثر الحسن وصله الحسين بن الحسن المروزيّ في كتاب "الصيام" بإسناد صحيح عن الحسن في رجل يصوم -يعني تطوعًا- فتأمره أمه أن يفطر، قال: فليفطر، ولا قضاء عليه، وله أجر الصوم، وأجر البر، قيل: فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة؟ قال: ليس ذلك لها، هذه فريضة.

وأما حديث الباب فظاهر في كونها فرض عين؛ لأنها لو كانت سنّة لم يهدَّد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه.

ويَحْتَمل أن يقال: التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية، وفيه نظر؛ لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة؛ ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك.

وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عطاء، والأوزاعيّ، وأحمد، وجماعة من محدثي الشافعية، كأبي ثور، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، وبالغ داود، ومن تبعه، فجعلها شرطًا في صحة الصلاة، وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها، فلما كان الهم المذكور دالًا على لازمه، وهو الحضور، ووجوب الحضور دليلًا على لازمه، وهو الاشتراط، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة، إلَّا أنه لا يتم إلَّا بتسليم أن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها، وقد قيل: إنه الغالب.

ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية، قال أحمد: إنها واجبة غير شرط. انتهى.

وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وقال به كثير من الحنفية، والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة:

(منها): ما تقدم.

(ومنها): -وهو ثانيها-: ونقله إمام الحرمين، عن ابن خزيمة، والذي

ص: 193

نقله عن النوويّ الوجوب حسبما قال ابن بزيزة: إن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم هَمّ بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما همّ بتركها إذا توجه.

وتُعُقِّب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه، قال الحافظ: وليس فيه أيضًا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين.

(ومنها): -وهو ثالثها-: ما قال ابن بطال وغيره: لو كانت فرضًا لقال حين توعد بالإحراق من تخلف عن الجماعة: لم تجزئه صلاته؛ لأنه وقت البيان.

وتعقبه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالتنصيص، وقد يكون بالدلالة، فلما قال صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت. . . إلخ"، دل على وجوب الحضور، وهو كاف في البيان.

(ومنها): -وهو رابعها-: ما قال الباجيّ وغيره: إن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك.

وأجيب: بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزًا بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي في "الجهاد"

(1)

الدال على جواز التحريق بالنار، ثم على نسخه، فحَمْلُ التهديد على حقيقته غير ممتنع.

(ومنها): -وهو خامسها-: كونه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجبًا ما عفا عنهم.

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ في "كتاب الجهاد من "صحيحه" (3016) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال: "إن وجدتم فلانًا وفلانًا، فأحرقوهما بالنار"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا، وإن النار لا يعذب بها إلَّا اللَّه، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".

ص: 194

قال القاضي عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجةٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هَمّ ولم يفعل، زاد النووي: ولو كانت فرض عين لما تركهم.

وتعقبه ابن دقيق العيد، فقال: هذا ضعيف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلَّا بما يجوز له فعله لو فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب؛ لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك، وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك، وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت العشاء، وأمرت فتياني يحرقون. . . " الحديث.

(ومنها): -وهو سادسها-: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا، لا مجرد الجماعة. وهو متعقَّب بأن في رواية مسلم:"لا يشهدون الصلاة،. . . "، أي لا يحضرون.

وفي رواية عجلان عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد: "لا يشهدون العشاء في الجميع"، أي في الجماعة.

وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عند ابن ماجه مرفوعًا: "لينتهين رجال عن تركهم الجماعات، أو لأحرقن بيوتهم".

(ومنها): -وهو سابعها-: أن الحديث ورد في الحثّ على مخالفة فعل أهل النفاق، والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل، أشار إليه الزين ابن الْمُنَيِّر، وهو قريب من الوجه الرابع.

(ومنها): -وهو ثامنها-: أن الحديث ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه، فلا يتم الدليل.

وتُعُقِّب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان مُعْرِضًا عنهم، وعن عقوبتهم مع علمه بطويّتهم، وقد قال:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه".

وتَعَقَّب ابن دقيق العيد هذا التعقب بأنه لا يتم إلَّا إذا ادُّعِي أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبًا عليه، ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيّرًا، فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. انتهى.

ص: 195

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين؛ لقوله في صدر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر. . . " الحديث، ولقوله:"لو يعلم أحدهم. . . إلخ"؛ لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين، لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية، لا نفاق الكفر، بدليل قوله في رواية عجلان:"لا يشهدون العشاء في الجميع"، وقوله في حديث أسامة:"لا يشهدون الجماعة".

وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند أبي داود:"ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم، ليست بهم علة"، فهذا يدل على أن نفاقهم معصية، لا كفر؛ لأن الكافر لا يصلي في بيته، إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه اللَّه به من الكفر والاستهزاء، نَبَّه عليه القرطبيّ.

وأيضًا فقوله في رواية المقبريّ: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية" يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا؛ لأن تحريق بيت الكافر إذا تعيّن طريقًا إلى الغلبة عليه، لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر، فلا يدل على عدم الوجوب؛ لأنه يتضمن أن ترك الجماعة من صفات المنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها.

قال الطيبيّ: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم، بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود رضي الله عنه:"لقد رأيتنا، وما يتخلف عن الجماعة إلَّا منافق". رواه مسلم. انتهى كلامه.

وروى ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس، حدثني عمومتي من الأنصار، قالوا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما يشهدهما منافق" يعني العشاء والفجر.

ولا يقال: فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف؛ لأني أقول: بل هذا يقوّي ما ظهر لي أولًا، أن المراد بالنفاق: نفاق المعصية، لا نفاق

ص: 196

الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل، لا العاصي الذي يجوز إطلاق المنافق عليه مجازًا؛ لما دل عليه مجموع الأحاديث.

(ومنها): -وهو تاسعها-: ما ادّعاه بعضهم أن فرض الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سدّ باب التخلف عن الصلاة على المنافقين، ثم نُسخ، حكاه عياض، ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، وكذا ثبوت نسخ ما تضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ؛ لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: وفيه نظر؛ إذ القول بالفرضية لا ينافي جواز صلاة المنفرد، إلَّا عند من يرى اشتراط الجماعة لصحة الصلاة، والمختار القول بفرضيتها دون اشتراطها للصحة، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.

(ومنها): -وهو عاشرها- أن المراد بالصلاة الجمعة، لا باقي الصلوات، ونصره القرطبيّ.

وتُعُقّب بالأحاديث المصرِّحة بالعشاء، وفيه بحث؛ لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها، هل هي الجمعة، أو العشاء، أو الفجر، أو العشاء والفجر معًا؟ فإن لم تكن أحاديث مختلفة، ولم يكن بعضها أرجح من بعض، وإلا وقف الاستدلال؛ لأنه لا يتم إلَّا إن تعيّن كونها غير الجمعة، أشار إليه ابن دقيق العيد، ثم قال: فليتأمل الأحاديث الواردة في ذلك. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: قد تأملتها، فرأيت التعيين ورد في حديث أبي هريرة، وابن أم مكتوم، وابن مسعود رضي الله عنهم، فحديث الباب من رواية الأعرج عنه، يومئ إلى أنها العشاء لقوله في أَخره:"لَشَهِد العشاء"، وفي رواية مسلم:"يعني العشاء"، ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضًا الإيماء إلى أنها العشاء والفجر، وعيّنها السرّاج في رواية له من هذا الوجه العشاء؛ حيث قال في صدر الحديث:"أخَّر العشاء ليلة، فخرج، فوجد الناس قليلًا، فغضب"، فذكر الحديث، وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: "يعني الصلاتين، العشاء

ص: 197

والغداة"، وفي رواية عجلان، والمقبري عند أحمد التصريح بتعيين العشاء، ثم سائر الروايات عن أبي هريرة على الإبهام.

وقد أورده مسلم من طريق وكيع، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عنه، فلم يسق لفظه، وساقه الترمذي وغيره من هذا الوجه بإبهام الصلاة، وكذلك رواه السرّاج وغيره من طرق عن جعفر، وخالفهم معمر، عن جعفر، فقال:"الجمعة" أخرجه عبد الرزاق عنه، والبيهقي من طريقه، وأشار إلى ضعفها؛ لشذوذها.

ويدلّ على وهمه فيها رواية أبي داود، والطبراني في "الأوسط" من طريق يزيد بن يزيد بن جابر، عن يزيد بن الأصم، فذكر الحديث، قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عني، أو غيرها؟ قال: صُمَّت أُذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ما ذكر جمعة، ولا غيرها.

فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة.

وأما حديث ابن أم مكتوم رضي الله عنه فسأذكره قريبًا، وأنه موافق لأبي هريرة رضي الله عنه.

وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فأخرجه مسلم، وفيه الجزم بالجمعة، وهو حديث مستقلّ؛ لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدهما في الآخر، فيُحْمَل على أنهما واقعتان، كما أشار إليه النوويّ، والمحب الطبريّ.

وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هريرة رضي الله عنه على ذكر العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة، وأحمد، والحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن شداد، عن ابن أم مكتوم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء، فقال:"لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم"، فقام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول اللَّه، قد علمت ما بي، وليس لي قائد، زاد أحمد: وأن بيني وبين المسجد شجرًا، أو نخلًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال:"أتسمع الإقامة؟ " قال: نعم. قال: "فاحضرها"، ولم يرخِّص له.

ولابن حبان من حديث جابر رضي الله عنه، قال:"أتسمع الأذان؟ " قال: نعم، قال:"فأتها ولو حَبْوًا".

ص: 198

وقد حمله العلماء على أنه كان لا يشقّ عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العميان.

واعتمد ابن خزيمة وغيره حديث ابن أم مكتوم هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلها، ورجحوه بحديث الباب، وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكون إلَّا عن واجب، وفيه نظر.

ووراء ذلك أمر آخر، ألزم به ابن دقيق العيد من يتمسك بالظاهر، ولا يتقيد بالمعنى، وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة، فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نوزع في كون القول بما ذكر أولًا ظاهرية محضة، فإن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى؛ لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره، أما العصران فظاهر، وأما المغرب فلأنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت، والأكل، ولا سيما للصائم، مع ضيق وقتها، بخلاف العشاء والفجر، فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضًا الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة، ويفتتحوه كذلك.

وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد.

قال الحافظ رحمه الله: وقد أطلت في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعض، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة، لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح. انتهى كلامه رضي الله عنه.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما ذكره من حمل المطلق على المقيد غير صحيح؛ لأن قاعدة حمل المطلق على المقيد إنما تتمشى إذا لم يكن هناك دليل يمنع من ذلك، وهنا أدلة المنع ظاهرة، كحديث الأعمى المذكور، وكحديث:"من سمع النداء، فلم يأت، فلا صلاة له، إلَّا من عذر".

والحاصل أن القول بفرضية الجماعة هو الراجح، وما استدل به القائلون على عدم الفرضية قد عرفت ما فيها من الخدشات، فيما تقدم من كلام

ص: 199

الحافظ رضي الله عنه، وإن كان آخر كلامه يميل إلى رأيهم، لكنه ما ذكر حجة مقنعة لذلك، فتبصر.

ومن أدلة القائلين بالفرضية حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي في الباب: "لقد هممت. . . " الحديث.

ومنها: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم أعمى، فقال: يا رسول اللَّه، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى، دعاه، وقال له:"هل تسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فأجب".

ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع النداء، فلم يجب، فلا صلاة له، إلَّا من عذر"، أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح، وصححه الحاكم، على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي

(1)

.

ومنها: حديث ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، أنهما سمعا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول على أعواده:"لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات، أو ليختمن اللَّه على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"، أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح، وأخرجه مسلم بلفظ "الجمعة".

فهذه النصوص تدلّ دلالة واضحة على فرضية الجماعة للصلوات المكتوبات.

وقد نقل عن جماعة من السلف ما يوافق النصوص المذكورة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه رأى إنسانًا خرج من المسجد بعد النداء، فقال:"أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، رواه أبو داود، وروى مسلم نحوه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال:"حافظوا على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن. . . " الحديث.

وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: "من سمع المنادي، فلم يجب من غير عذر، فلا صلاة له"، صححه الحاكم، ووافقه عليه الذهبي، وعن ابن مسعود رضي الله عنه مثله.

(1)

انظر: تعليق العلامة أحمد محمد شاكر على "المحلّى" 4/ 190.

ص: 200

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "لأن يمتلئ أذنا ابن آدم رصاصًا مُذابًا خير له من أن يسمع المنادي فلا يجيبه".

وعن عائشة رضي الله عنها: "من سمع النداء فلم يأته، فلم يرد خيرًا، ولم يُرَد به". وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد"، فقيل له: يا أمير المؤمنين: ومَن جار المسجد؛ قال: من سمع الأذان"

(1)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"من سمع النداء، ثم لم يأت فلا صلاة له إلَّا من عذر". وعن عطاء: "ليس لأحد من خلق اللَّه تعالى في الحضر والقرية يسمع النداء والإقامة رخصة في أن يدع الصلاة"، وعنه:"كنا نسمع أنه لا يتخلف عن الجماعة إلَّا منافق".

وعن إبراهيم النخعي: "أنه كان لا يرخص في ترك الصلاة في الجماعة إلَّا لمريض، أو خائف". وعن الحسن، قال:"إذا سمع الرجل الأذان فقد احتبس". وسال رجل سعيد بن المسيِّب عن بعض الأمر، ونادى المنادي، فأراد أن يخرج، فقال له سعيد: قد نودي بالصلاة، فقال له الرجل: إن أصحابي قد مَضَوا، وهذه راحلتي بالباب، فقال له سعيد: لا تخرج، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يخرج من هذا المسجد بعد النداء إلَّا منافق، إلَّا رجل خرج، وهو يريد الرجعة إلى الصلاة"، فأبى الرجل إلَّا الخروج، فقال سعيد: دونكم الرجل، قال: فإني عنده ذات يوم إذ جاءه رجل، فقال: يا أبا محمد، الم تر ذلك الرجل الذي خرج، وقع عن راحلته، فانكسرت رجله؟ قال سعيد: قد ظننت أنه سيصيبه أمر، نقل هذه الآثار الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه "المحلى"

(2)

.

(1)

قد ورد حديث: "لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد" مرفوعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الدارقطنيّ، والحاكم، وفي إسناده سليمان بن داود اليماميّ منكر الحديث، ومن حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطنيّ، وفي إسناده محمد بن سُكين، وهو ضعيف، ولذا قال الحافظ في "التلخيص": حديث: "لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد" مشهور بين الناس، وهو ضعيف، انظر: ما كتبه الشيخ أحمد شاكر على "المحلى" 4/ 190.

(2)

"المحلّى" 4/ 194 - 196.

ص: 201

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ولولا الأحاديث الدالة على جواز صلاة الرجل وحده كحديث: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، وحديث:"صلاة الرجل أفضل من صلاة أحدكم وحده. . . "، وحديث:"صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده. . . " لقلت -كما قالت الظاهرية-: إنها من شروط صحة الصلاة.

وخلاصة القول أن صلاة الجماعة فرض عين على من ليس له عذر من الرجال، وأما النساء فلا خلاف في أن شهودهن الجماعة ليس فرضًا عَليهنّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قد حقّق الحافظ ابن رجب رحمه الله في تفنيد أدلّة القائلين بعدم فرضية صلاة الجماعة، في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"لقد هممت أن آمر. . . " الحديث، فقال بعد قوله:"وهذا الحديث ظاهر في وجوب شهود الجماعة في المساجد" ما نصّه:

وقد اعترض المخالفون في وجوب الجماعة على هذا الاستدلال، وأجابوا عَنْهُ بوجوهٍ:

مِنْهَا: حمل هَذَا الوعيد عَلَى الجمعة خاصة.

واستدلوا عَليهِ بما فِي "صحيح مُسْلِم" عَن ابن مَسْعُود، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لقوم يتخلفون عَن الجمعة:"لَقَدْ هممت أن آمر رجلَّا يصلي بالناس، ثُمَّ أحرق عَلَى رجال يتخلفون عَن الجمعة".

ومنها: أَنَّهُ أراد تحريق بيوت المنافقين لنفاقهم؛ ولهذا قَالَ ابن مَسْعُود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلَّا منافق معلوم نفاقه، وقد سبق ذكره.

والمنافق إذا تخلف عَن الصلاة مَعَ المُسْلِمِين لا يصلي فِي بيته بالكلية، كما أخبر اللَّه عنهم، أنهم {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

وهذا التأويل عَن الشَّافِعِيّ وغيره.

ومنها: أَنَّهُ لَمْ يفعل التحريق، وإنما توعّد بِهِ.

وقد ذهب قوم من العلماء إلى جواز أن يهدِّد الحَاكِم رعيِّته بما لا يفعله بهم، واستَدَلّ بعضهم لذلك بما أخبر بِهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَن سُلَيْمَان، أَنَّهُ قَالَ حِينَ اختصصت إليه المرأتان في الولد:"ايتوني بالسكين حَتَّى أشقه"، ولم يَرِد فعل

ص: 202

ذَلِكَ، إنما قصد بِهِ التوصل إلى معرفة أمه منهما بظهور شفقتها ورقّتها عَلَى ولدها.

والجواب: أَنَّهُ لا يصح حمل الحَدِيْث عَلَى شيء من ذَلِكَ.

أما حمله عَلَى الجمعة وحدها فغير صحيح.

وفي ذكر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شهود العشاء فِي تمام الحَدِيْث مَا يدل عَلَى أن صلاة العشاء الموبَّخ عَلَى ترك شهودها هِيَ المراد.

وقد روي ذَلِكَ عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب، وأنها داخلة فِي عموم الصلاة؛ فإن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يعم، كما فِي قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وهذا قَوْل جماعة من العلماء.

وقد جَاءَ التصريح بالتحريق عَلَى من تخلف عَن صلاة العشاء.

فروى الحميدي عَن سُفْيَان: ثنا أبو الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَقَدْ هممت أن أقيم الصلاة صلاة العشاء، ثُمَّ آمر فتياني فيخالفوا إلى بيوت أقوام يتخلفون عَن صلاة العشاء، فيحرقون عليهم بحزم الحطب"، وذكر بقية الحَدِيْث.

وروى ابن أَبِي ذئب، عَن عجلان مَوْلَى الْمُشْمَعِلّ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لينتهين رجال ممن حول المسجد، لا يشهدون العشاء الآخرة فِي الجمع، أو لأحرقن حول بيوتهم بحزم الحطب".

خرّجه الإمام أحمد.

وخرّج -أيضًا- من حَدِيْث أَبِي معشر، عَن سَعِيد المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لولا مَا فِي البيوت من النِّسَاء والذرية أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون مَا فِي البيوت بالنار".

وروى عاصم، عَن أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أخر رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء حَتَّى تهوّر الليل وذهب ثلثه أو قريبًا مِنْهُ، ثُمَّ خرج إلى المسجد، فإذا النَّاس عزون، وإذا هم قليل، فغضب غضبًا مَا أعلم أني رأيته غضب غضبًا قط أشد مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ أن رجلًا نادى النَّاس إلى عرق أو مرماتين أتوه لذلك [ولم يتخلفوا]، وهم يتخلفون عَن هذه الصلاة، لَقَدْ هممت أن آمر رجلًا

ص: 203

يصلي بالناس، ثُمَّ أتتبع هذه الدور ائَتِي تخلف أهلوها عَن هذه الصلاة، فأحرقها عليهم بالنيران".

وورد التصريح بأن العقوبة عَلَى ترك الجماعة دون الجمعة.

خرّجه الطبراني فِي "أوسطه": حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم -هُوَ ابن هاشم البغوي-، ثنا حوثرة بْن أشرس، ثنا حماد بْن سَلَمَة، عَن ثابت، عَن أنس، أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَوْ أن رجلًا دعا النَّاس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه، وهم يدعون إلى هذه الصلاة فِي جماعة فلا يأتونها، لَقَدْ هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس فِي جماعة، ثُمَّ أنصرف إلى قوم سمعوا النداء، فَلَمْ يجيبوا فأضرمها عليهم نارًا؛ فإنه لا يتخلف عَنْهَا إلَّا منافق".

حوثرة: ضَعِيف، قَالَ ابن نقطة فِي "تكملة الإكمال".

وأما ذكر الجمعة فِي حَدِيْث ابن مَسْعُود، فلا يدل عَلَى اختصاصها بذاك؛ فإنه كما همّ أن يحرق عَلَى المتخلف عَن الجمعة فَقَدْ همّ أن يحرق عَلَى المتخلف عَن العشاء.

وقد قيل إنه عبّر بالجمعة عَن الجماعة للاجتماع لها.

قَالَ البيهقي: هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِيهِ سائر الرواة.

واستدل بما خرّجه من "سنن أَبِي داود" عَن يزيد بْن يزيد، عَن يزيد بْن الأصم، قَالَ:[سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ يَقُول]: سَمِعْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُول: "لَقَدْ هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزمًا من حطب، ثُمَّ آتي قومًا يصلّون فِي بيوتهم، ليس بهم علة فأحرقها عليهم".

قيل ليزيد بْن الأصم: الجمعة عنى أو غيرها؟ فَقَالَ: صمّتا أُذناي إن لَمْ أكن سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يأثره عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، مَا ذكر جمعة ولا غيرها.

وخرّجه -أيضًا- من طريق معمر، عَن جَعْفَر بْن برقان، عَن يزيد بْن الأصم مختصرًا، وفي حديثه:"لا يشهدون الجمعة"، وهذه الرواية، أو أَنَّهُ أراد بالجمعة الجماعة، كما قَالَ البيهقي؛ فإن مسلمًا خرّجه من طريق وكيع، عَن جَعْفَر بْن برقان، وَقَالَ فِي حديثه:"لا يشهدون الصلاة".

ورواية أَبِي داود صريحة فِي أن التحريق عقوبة عَلَى المتخلف عَن الجماعة.

ص: 204

وإن صلى المتخلف فِي بيته.

وأما دعوى أن التحريق كَانَ للنفاق فهو غير صحيح؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صرح بالتعليل بالتخلف عَن الجماعة، ولكنه جعل ذَلِكَ من خصال النفاق، وكل مَا كَانَ علمًا عَلَى النفاق فهو محرَّم.

وفي حَدِيْث أَبِي زرارة الأنصاري، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"من سَمِعَ النداء ثلاثًا فَلَمْ يجب كتب من المنافقين"، وإسناده صحيح؛ لكن أبو زرارة، قَالَ أبو الْقَاسِم البغوي: لا أدري أله صحبة أم لا؟.

وخرّج الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة، عَن زبان بْن فائد، عَن سَهْل بْن معاذ بْن أنس، عَن أبيه، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الجفاء كل الجفاء، والكفر والنفاق من سَمِعَ منادي اللَّه ينادي بالصلاة ويدعو بالفلاح فلا يجيبه".

ورواه رشدين بْن سعد، عَن زبان.

قَالَ الحافظ أبو موسى: رواه جماعة عَن زبان، وتابعه عَليهِ يزيد بْن أَبِي حبيب.

وَقَالَ النخعي: كفى علَمًا عَلَى النفاق أن يكون الرَّجُلُ جار المسجد، لا يُرى فِيهِ.

وقد كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يعلم نفاق خلق من المنافقين ولا يعاقبهم عَلَى نفاقهم، بل يكل سرائرهم إلى اللَّه، ويعاملهم معاملة المُسْلِمِين فِي الظاهر، ولا يعاقبهم إلَّا عَلَى ذنوب تظهر منهم، فَلَمْ تكن العقوبة بالتحريق إلَّا عَلَى الذَّنْب الظاهر، وَهُوَ التخلف عَن شهود الصلاة فِي المسجد، لا عَلَى النفاق الباطن.

وأما دعوى أن ذَلِكَ كَانَ تخويفًا وإرهابًا مِمَّا لا يجوز فعله، فَقَدْ اختلف فِي جواز ذَلِكَ.

فروي جوازه عَن طائفة من السلف، منهم: عَبْد الحميد بْن عَبْد الرحمن عامل عُمَر بْن عَبْد العزيز عَلَى الكوفة، وميمون بْن مهران، وروي -أيضًا- عن عُمَر بْن الخَطَّاب من وجه منقطع ضَعِيف، وعن عَلِيّ بْن أَبِي طالب.

وأنكر ذَلِكَ عُمَر بْن عَبْد العزيز وتغيّظ عَلَى عَبْد الحميد لمّا فعله، وَقَالَ: إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوءٍ.

وقد ذكر هذه الآثار عُمَر بْن شبة البصري فِي "كِتَاب أدب السلطان".

ص: 205

وبكل حال؛ فليس مَا ذكره النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من التحريق من هَذَا فِي شيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه همّ، وأنما يَهُمُّ بما يجوز لَهُ فعله، والتخويف يكون عِنْدَ من أجازه بما لا يجوز فعله ولا الهم بفعله، فتبين أَنَّهُ ليس من التخويف فِي شيء، وإنما امتنع من التحريق لما فِي البيوت من النّسَاء والذرية وهم الأطفال، كما فِي الرواية الَّتِي خرجها الإمام أحمد، وهم لا يلزمون شهود الجماعة؛ فإنها لا تجب عَلَى امرأة ولا طفل، والعقوبة إذا خشي أن تتعدى إلى من لا ذنب لَهُ امتنعت، كما يؤخر الحد عَن الحامل إذا وجب عَلَيْهَا حَتَّى تضع حملها.

فإن زعم زاعم أن التحريق منسوخ؛ لأنه من العقوبات المالية، وقد نُسِخت، وربما عضَّدَ ذَلِكَ بنهي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن التحريق بالنار.

قيل لَهُ: دعوى نسخ العقوبات المالية بإتلاف الأموال لا تصح، والشريعة طافحة بجواز ذلِكَ، كأمره صلى الله عليه وسلم بتحريق الثوب المعصفر بالنار، وأمره بتحريق متاع الغالّ، وأمره بكسر القدور الَّتِي طبخ فيها لحوم الحمر الأهلية، وحرّق عُمَر بيت خمّار.

ونصّ عَلَى جواز تحريق بيت الخمّار أحمد وإسحاق، نقله عنهما ابن منصور فِي "مسائله"، وَهُوَ قَوْل يَحْيَى بْن يَحْيَى الأندلسي، وذكر أن بعض أصحابه نقله عَن مَالِك، واختاره ابن بطة من أصحابنا.

وروي عَن عَلِيّ -أيضًا- وروي عَنْهُ أَنَّهُ أنهب ماله.

وعن عُمَر، قَالَ فِي الَّذِي يبيع الخمر: كسِّروا كل آنية لَهُ، وسَيِّروا كل ماشية لَهُ، خرّجه وكيع فِي "كتابه".

وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عَن التحريق بالنار، فإنما أراد بِهِ تحريق النفوس وذوات الأرواح.

فإن قيل: فتحريق بيت العاصي يؤدي إلى تحريق نفسه، وَهُوَ ممنوع.

قيل: إنما يقصد بالتحريق دارهُ ومتاعهُ، فإن أتى عَلَى نفسه لَمْ يكن بالقصد، بل تبعًا، كما يجوز تبييتُ المشركين وقتلهم ليلًا، وقد أتى القتل عَلَى ذراريهم ونسائهم.

وقد سئل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ، فَقَالَ:"هم منهم"، رواه البخاريّ.

وهذا مِمَّا يحسن الاستدلال بِهِ عَلَى قتل تارك الصلاة؛ فإنه إذا جازت

ص: 206

عقوبة تارك الجماعة فِي ماله وإن تعدت إلى نفسه بالهلاك، فقتل من ترك الصلاة بالكلية أولى بالجواز، فلا جرم كَانَ قتله واجبًا عِنْدَ جمهور العلماء. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وحاصله أن تأويل القائلين بعدم وجوب صلاة الجماعة للأدلّة الواضحة الظاهرة على وجوبها تأويل غير صحيح، فلا يلتفت إليه، فالحقّ أنها فرض من فروض الصلاة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1475]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

2 -

(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ الْحِمصيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

3 -

(شُعَيْب) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابد، من أثبت الناس في الزهري [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"أبو سلمة" هو: ابن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قبل بابين.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 5/ 453 - 461.

ص: 207

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ) يعني أن أبا اليمان، حدّث عن شعيب عن الزهريّ بمثل ما حذث به عبد الأعلى، عن معمر عنه.

[تنبيه]: رواية أبي اليمان، عن شعيب هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(649)

حدّثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني سعيد بن المسيِّب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده، بخمس وعشرين جزءًا، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر"، ثم يقول أبو هريرة: فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ، قال شعيب: وحدّثني نافع، عن عبد اللَّه بن عمر، قال:"تفضلها بسبع وعشرين درجة". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1476]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ سَلْمَانَ الْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القَعْنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابد، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يقدّمان عليه في "الموطّأ" أحدًا، من صغار [9] مات في أول سنة (221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(أَفْلَحُ) بن حُميد بن نافع الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، يقال له: ابن صُفيراء، ثقةٌ [7](ت 158) أو بعدها (خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 9/ 737.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 208

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: كنيته أبا محمد، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.

4 -

(سَلْمَانُ الْأَغَرُّ) أبو عبد اللَّه المدنيّ، مولى جُهينة، أصله من أصبهان، ثقةٌ، من كبار [3](ع) تقدم في "الإيمان" 53/ 319.

5 -

(أبو هريرة) تقدم في الباب.

وقوله: (مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ) بالفاء، والذال المعجمة المشدّدة، أي المنفرد، أي المصلّي وحده، قال صاحب "المطالع": ولغة عبد القيس: الفنذ بالنون، وهي غنّة لا نون حقيقةً، قال: وكذلك يقوله أهل الشام. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1477]

(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ، أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ مَعَ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، إِذْ مَرَّ بِهِمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، خَتَنُ زَيْدِ بْنِ زَبَّانٍ، مَوْلَى الْجُهَنِيِّينَ، فَدَعَاهُ نَافِعٌ، فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةٌ مَعَ الإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أبو موسى الحمّال، تقدّم قبل بابين.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن ميمون، تقدّم قبل بابين أيضًا.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم قبل بابين أيضًا.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 2/ 349.

ص: 209

5 -

(عُمَرُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ) -بضمّ الخاء المعجمة، وتخفيف الواو- المكيّ، مولى بني عامر، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عباس، والسائب بن يزيد، وعبيد اللَّه بن عياض، وعُبيد بن جريج، وعطاء بن بخت، ونافع بن جبير بن مطعم، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ويحيى بن يعمر، ومولى لأبي الأسقع.

ورَوَى عنه ابن جريج، وإسماعيل بن أمية.

قال الدُّوريّ، عن ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووَثّقه يعقوب بن سفيان، والعجليّ.

وقال الآجريّ: سألت أبا داود عن عمر بن عطاء الذي رَوَى عنه ابن جريج؟ فقال: هذا عمر بن عطاء بن أبي الْخُوَار، بلغني عن يحيى أنه ضعَّفه.

قال الحافظ المزيّ رحمه الله: كذا قال، والمحفوظ عن يحيى أنه وَثَّقه، وضعّف الذي بعده.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (649)، وحديث (883):"أن لا توصل صلاة بصلاة. . . " الحديث، وروى أبو داود ثلاثة أحاديث فقط.

6 -

(أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، خَتَنُ زَيْدِ بْنِ زَبَّانٍ، مَوْلَى الْجُهَنِيِّينَ) هو سلمان الأغرّ الذي تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (خَتَنُ زيدِ بْنِ زَبَّانٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الزاي، وتشديد الباء الموحّدة، و"الختنُ": زوج بنت الرجل، أو أخته، ونحوها. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْخَتَنُ" بفتحتين عند العرب كلُّ من كان من قِبَل المرأة، كالأب، والأخ، والجمع أختان، وخَتَنُ الرجل عند العامّة زوج ابنته، وقال الأزهريّ: الْخَتَنُ: أبو المرأة، والْخَتَنَةُ أمها، فالأَخْتان من قِبَل المرأة، والأَحْماءُ من قِبَل الرجل، والأصهارُ يعمّهما، ويقال: المخاتنة: المصاهرة من الطرفين، وخاتنتهم: إذا صاهرتهم. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: زيد بن زبّان هذا لم أجد من ترجمه، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 152.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 164.

ص: 210

7 -

(أبو هريرة): تقدم في الباب.

وقوله: (أَنَّهُ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ) الضمير لعمر بن عطاء.

وقوله: (فَدَعَاهُ نَافِعٌ) أي دعا نافع بن جبير أبا عبد اللَّه.

وقوله: (فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير أبي عبد اللَّه المذكور، وهو عطف على مقدَّر، أي فسأله نافع أن يُخبره ما سمع من أبي هريرة رضي الله عنه في فضل صلاة الجماعة، فقال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه. . . إلخ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1478]

(650) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذَ، بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(نافع) مولى ابن عمر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابن عمر) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل بابين.

والباقيان ذُكرا أول الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (90) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، وقد دخلها.

4 -

(ومنها): أنه أصحّ الأسانيد على الإطلاق، كما نُقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله.

5 -

(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتيا، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 211

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ) الإضافة لأدنى ملابسة، أي صلاة أحدكم مع الجماعة، أو بحذف مضاف، أي صلاة آحاد الجماعات، فليس المراد تفضيل صلاة المجموع على صلاة الواحد، بل تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الواحد باعتبار حالين، أفاده السنديّ. (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ) أي تزيد على صلاة المنفرد.

قال ابن الأثير رحمه الله في "شرح المسند": لما كانت "تفضل" بمعنى "تزيد"، وهي تتعدى بـ "على" أعطاها معناها، فعدّاها بها، وإلا فهي متعدية بنفسها، قال: وأما الذي في "صحيح مسلم": "أفضل من صلاة الفذ"، فجاء بها بلفظ "أفعل" التي هي للتفضيل والتكثير في المعنى المشترك، وهي أبلغ من "تَفْضُل" على ما لا يخفى. انتهى.

و"الْفَذُّ" -بالذال المعجمة-: المنفردُ، يقال: فَذَّ الرجلُ من أصحابه: إذا بقي منفردًا وحده.

وفي رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع التالية، وسياقه أوضح، ولفظه:"صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده".

(بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً") قال في "الفتح": معنى الدرجة، أو الجزء: حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للمُجَمِّع، وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أن بعضهم زعم خلاف ذلك، قال: والأول أظهر؛ لأنه قد ورد مبيَّنًا في بعض الروايات. انتهى.

وكأنه يشير إلى ما عند مسلم في بعض طرقه بلفظ: "صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفذ"، وفي أخرى:"صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاةً يصليها وحده"، ولأحمد من حديث ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات نحوه، وقال في آخره:"كلها مثل صلاته"، وهو مقتضى لفظ أبي هريرة رضي الله عنه حيث قال:"تُضَعَّف"؛ لأن الضِّعْف كما قال الأزهري: المثل إلى ما زاد، ليس بمقصور على المثلين، تقول: هذا ضعف الشيء، أي مثله، أو مثلاه، فصاعدًا، لكن لا يزاد على العشرة.

وظاهر قوله: "تُضَعَّف"، وقوله:"تَفْضُل"، وقوله:"تزيد" أن صلاة

ص: 212

الجماعة تساوي صلاة المنفرد، وتزيد عليها العدد المذكور، فيكون لمصلي الجماعة ثواب ستٍّ، أو ثمان وعشرين من صلاة المنفرد. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1478 و 1479 و 1480 و 1481](650)، و (البخاريّ) في "الأذان"(645 و 649)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(837) وفي "الكبرى"(911)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(215)، و (ابن ماجه) فيها (789)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 129)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 121 - 122)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 480)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 65 و 112)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 292 - 293)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1471)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2052)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 3)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1449 و 1450 و 1451)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(2/ 29)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 59)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(784 و 785)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف الروايات بخمس وعشرين، أو بسبع وعشرين:

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله: عامّة من رواه قالوا: "خمسًا وعشرين"، إلَّا ابن عمر، فإنه قال:"سبعًا وعشرين". انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: لم يُختَلف عليه في ذلك إلَّا ما وقع عند عبد الرزاق في "مصنّفه"، عن عبد اللَّه العُمَريّ، عن نافع، فقال فيه:"خمسًا وعشرين"، لكن العمري ضعيف، ووقع نحوه عند أبي عوانة في "مستخرجه" من طريق أبي أسامة، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، فإنه قال فيه:"بخمس وعشرين"،

(1)

"الفتح" 2/ 349.

ص: 213

وهي شاذّة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد اللَّه، وأصحاب نافع، وإن كان راويها ثقة.

قال: وأما ما وقع عند مسلم، من رواية الضحاك بن عثمان، عن نافع بلفظ:"بضع وعشرين"، فليست مغايرة لرواية الحفاظ؛ لصدق البضع على السبع، وأما غير ابن عمر، فصح عن أبي سعيد، وأبي هريرة، كما في هذا الباب، وعن ابن مسعود عند أحمد، وابن خزيمة، وعن أُبَيّ بن كعب عند ابن ماجه، والحاكم، وعن عائشة، وأنس عند السرّاج، وورد أيضًا من طرق ضعيفة عن معاذ، وصهيب، وعبد اللَّه بن زيد، وزيد بن ثابت، وكلُّها عند الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين سوى رواية أُبَيّ، فقال:"أربع"، أو "خمس" على الشك، وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد، قال فيها:"سبع وعشرون" وفي إسنادها شريك القاضي، وفي حفظه ضعف.

وفي رواية لأبي عوانة: "بضعًا وعشرين"، وليست مغايرة أيضًا، لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس، والسبع؛ إذ لا أثر للشكّ.

واختُلِف في أيهما أرجح، فقيل: رواية الخمس؛ لكثرة رواتها، وقيل: رواية السبع؛ لأن فيها زيادةً من عدل حافظ.

ووقع الاختلاف في موضع آخر من الحديث، وهو مميز العدد المذكور، ففي الروايات كلها التعبير بقوله:"درجة"، أو حذف المميّز، إلَّا طريق حديث أبي هريرة، ففي بعضها:"ضِعْفًا"، وفي بعضها:"جُزْءًا"، وفي بعضها:"درجةً"، وفي بعضها:"صلاةً"، ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة.

وأما قول ابن الأثير: إنما قال: "درجة"، ولم يقل: جزءًا، ولا نصيبًا، ولا حظًا، ولا نحو ذلك؛ لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع، فإن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة؛ لأن الدرجات إلى جهة فوقُ، فكأنه بناه على أن الأصل لفظ "درجة"، وما عدا ذلك من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود الجزء مردود، فإنه ثابت، وكذلك الضعف. انتهى.

ص: 214

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ذكر العلماء في الجمع بين روايتي الخمس والسبع، ما لا يخفى على بصير أنها كلّها تكلّفات، لا حاجة إليها، ولا ينشرح لها الصدر، ولا تطمئن إليها النفس، إذ هي من الأمور التي مرجعها إلى علم النبوة التي تقصر عن إدراك حقائقها عقول الحكماء، وتتقاصر دون معرفتها أذواق الفهماء، فلا ينبغي الاشتغال بمثلها، بل تفوّض إلى عِلْمِ من له الخلق والأمر، جَلّت عظمته، ودَدت حكمته، وإلى عِلْم من أوحي إليه بتبليغ الإحكام، وإيضاح أسرار التشريع للأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

وكذلك كل ما ذكروه من تعيين الأسباب الموجبة للدرجات من التكلفات التي لا داعي إليها، فالأولى أن يوكل علمها إلى عالمها الخبير بحكمة التشريع وحقائقها، وقد كنت ذكرتها كلّها في "شرح النسائيّ"؛ تبعًا للحافظ رحمه الله، ولكن أعرضت عنها هنا؛ لما أعلمتك آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1479]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ، تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، سَبْعًا وَعِشْرِينَ")

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(يَحْيَى) بن سعيد بن فَرُّوخ التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ الأحول، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجةٌ إمامٌ قُدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

4 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب

(1)

وفي نسخة: "سبعًا وعشرين درجةً".

ص: 215

العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقيان تقدّما قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1480]

(. . .) - (وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ (ع) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ:"بِضْعًا وَعِشْرِينَ"

(1)

، وقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ:"سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم قبل بابين.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير الهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

وقوله: (وَابْنُ نُمَيْرٍ) الأول هو محمد بن عبد اللَّه بن نمير، والثاني أبوه عبد اللَّه بن نمير.

وقوله: (قَالَا) الضمير لأبي أُسامة، وعبد اللَّه بن نمير.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد عبيد اللَّه المتقدّم، وهو: عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية أبي أسامة، وابن نمير، عن عبيد اللَّه هذه لم أجد من

(1)

وفي نسخة: "بضعًا وعشرين درجةً".

ص: 216

ساقها بتمامها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1481]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ رَافِعٍ

(1)

، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بِضْعًا وَعِشْرِينَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد، تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الديليّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

3 -

(الضَّحَّاكُ) بن عثمان بن عبد اللَّه بن خالد بن حزام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7] تقدم في "الحيض" 16/ 774.

[تنبيه]: رواية الضحّاك بن عثمان، عن نافع هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 246) فقال:

(1451)

حدثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا حميد بن الأسود، ثنا الضحاك بن عثمان (ع) وحدّثنا سليمان بن أحمد إملاءً، ثنا الحسين بن إسحاق بن أحمد، قالا: ثنا أبو كريب، ثنا ابن أبي فُدَيك، عن الضحاك (ع) وحدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا أحمد بن محمد بن شريح، ثنا محمد بن رافع، ثنا ابن أبي فُديك، ثنا الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"فضل صلاة الجماعة على الفذّ بضع وعشرين درجةً"، قال: لفظهم واحد. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا ابن رافع".

ص: 217

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1482]

(651) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدَ نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ، يَتَخَلَّفُونَ عَنْهَا

(2)

، فَآمُرَ بِهِمْ، فَيُحَرِّقُوا عَلَيْهِمْ بِحُزَمِ الْحَطَبِ بُيُوتَهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا لَشَهِدَهَا"، يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد، تقدّم قبل باب.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من أبي الزناد، وسفيان مكيّ، وعمرو بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، كما نقله أبو عبد اللَّه الحاكم عن البخاري

(3)

.

6 -

(ومنها):

(1)

وفي نسخة: "حدَّثني".

(2)

وفي نسخة: "يتأخّرون عنها".

(3)

راجع: "التدريب" 1/ 83.

ص: 218

7 -

(ومنها): أنه مسلسل الفقهاء.

8 -

(ومنها): أن فيه راويين اشتهر كلٌّ منهما باللقب، وأحدهما لقبه بصورة الكنية، وهما الأعرج، وأبو الزناد، فأبو الزناد لَقَبٌ لُقِّب به لذكائه، وليس بكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن.

9 -

(ومنها): أنّ أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز، وفي رواية السراج من طريق شعيب، عن أبي الزناد، سمع الأعرج (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لقَدَ) قال الفيّوميّ: فَقَدتُهُ فَقْدًا، من باب ضَرَبَ، وفِقْدَانًا: عَدِمتُهُ، فهو مفقودٌ، وفَقِيدٌ، وافتقدته مثلُهُ، وتفقّدته: طلبته عند غيبته. انتهى

(1)

. (نَاسًا) تقدّم أن ناسًا اسم وُضِع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده إنسان، من غير لفظه، مشتقّ من ناس ينوس: إذا تدلَّى، وتحرّك، فيُطلق على الجنّ والإنس، قال اللَّه تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} ثُمَّ فسّر الناس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} . انتهى

(2)

.

(فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ) رواية المصنّف رحمه الله هذه بيّنت سبب هذا الحديث، فإن قوله:"فقد ناسًا. . . إلخ" فيه إيضاح سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت. . . إلخ".

قال العراقيّ رحمه الله: وعند أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه ما يقتضي أن الصلاة المبهمة عند مسلم هي الصبح، فقال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا الصبح، فقال:"أشاهد فلانٌ؟ "، قالوا: لا، قال:"أشاهد فلان؟ "، قالوا: لا، قال:"أشاهد فلان؟ "، قالوا: لا، قال:"إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين". انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 478.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 630.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 312.

ص: 219

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَقَدْ هَمَمْتُ) وفي رواية البخاريّ: "والذي نفسي بيده، لقد هممت"، وهو قسم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يُقْسِم به، وفيه إثبات اليد للَّه تعالى على ما يليق بجلاله، وجواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه، تنبيهًا على عظم شأنه، وفيه الردّ على من كره الحلف باللَّه مطلقًا.

فقوله: "لقد هممت" جواب القسم، أكَّده باللام، وكلمة "قد". ومعنى "هممت": أي قصدت، من الهم، وهو العزم، وقيل: دونه.

(أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ) أي يؤمّ الناس في الصلاة، وفيه دليلٌ لجواز استخلاف الإمام، وانصرافه لعذر (ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ) أي آتيهم من خلفهم، قال الجوهريّ: خالف إلى فلان: أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أخالف المشتغلين بالصلاة قاصدًا إلى بيوت الذين لَمْ يخرجوا عنها إلى الصلاة، فأحرّقها عليهم، وقيل: معناه: أذهب إليهم، وقيل: المعنى: أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة، فأتركه، وأسير إليهم، أو أخالف ظنّهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم، والتقييد بالرجال يُخرج النساء والصبيان، وهو منصوص عليه في رواية أحمد بلفظ:"لولا ما في البيوت من النساء والذرّيّة. . . " الحديث

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "ثم أخالف" من باب المفاعلة، قال الجوهري: قولهم: هو يخالف إلى فلان، أي يأتيه إذا غاب عنه، وقال الزمخشريّ: يقال: خالفني إلى كذا: إذا قصدك، وأنت مُوَلٍّ عنه، قال تعالى:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] الآية.

والمعنى هنا: أخالف المشتغلين بالصلاة، قاصدًا إلى بيوت الذين لم يخرجوا عنها إلى الصلاة، فأحرقها عليهم، ويقال: معنى أخالف إلى رجال: أذهب إليهم. انتهى

(2)

.

(يَتَخَلَّفُونَ عَنْهَا) أي يتأخّرون عن حضور الصلاة، وفي رواية أبي صالح الآتية:"إلى قوم لا يشهدون الصلاة"، وفي رواية لأبي داود: "ثم آتي قومًا

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 152، و"المرعاة" 3/ 483.

(2)

"عمدة القاري" 5/ 161.

ص: 220

يصلّون في بيوتهم، ليست بهم علّة"، فتبيّن بها أن الوعيد على ترك الجماعة بغير عذر، لا على ترك الصلاة، فدلالة الحديث على وجوب الجماعة واضحة، كما أسلفنا تحقيقه، ويدلّ أيضًا على أن الأعذار تبيح التخلّف عن الجماعة، وإن كانت واجبةً (فَآمُرَ) بالمدّ، وضم الميم (بِهِمْ) أي بهؤلاء المتخلّفين (فَيُحَرِّقُوا) بالبناء للفاعل، وهو بتشديد الراء، وفيه إشعار بالتكثير والمبالغة في التحريق، ويَحْتَمل أن يكون من الإحراق.

[تنبيه]: الواو في "يُحرّقوا" يعود إلى محذوف، كما بيّنته الرواية الأخرى، والأصل: ثم أخالف برجال معهم حُزم حطب، فيُحرّقوا. . . إلخ، واللَّه تعالى أعلم.

(عَلَيْهِمْ) أي على المتخلّفين عن الجماعة، وهو يُشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين، والبيوت تبعًا للقاطنين بها، وفي رواية أبي صالح الآتية:"فأحرق بيوتًا على من فيها"، قاله في "الفتح".

(بِحُزَمِ الْحَطَبِ) متعلّق بـ "يحرّقوا"، و"الْحُزَم" بضم الحاء المهملة، وفتح الزاي: جمع حُزْمة، بضمّ، فسكون، كغُرْفة وغُرَف، قاله في "المصباح"

(1)

، وفي "اللسان": وحَزَمَ الشيءَ حَزْمًا -من باب ضرب-: شدّه، والْحُزْمة: ما حُزِمَ

(2)

. انتهى

(3)

.

و"الحطب": كلُّ ما جَفّ من زرع، وشجر، توقد به النار، وشوكُ العِضَاه، وإضافة "حُزَم" إلى"الحطب" بمعنى:"من"، وقوله:(بُيُوتَهُمْ) منصوب على المفعوليّة لـ "يُحرّقوا".

(وَلَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ) وفي رواية البخاريّ: "والذي نفسي بيده، لو يعلم. . . إلخ" بإعادة القسم للتأكيد (أَنَّهُ يَجِدُ) أي في المسجد (عَظْمًا سَمِينًا) وفي رواية البخاريّ: "عرقًا سمينًا"، وهو بفتح العين المهملة، وسكون الراء، بعدها

(1)

"المصباح المنير" 1/ 133 - 134.

(2)

وفسّر بعضهم الْحُزْمة بما يَحمِله إنسان، أو حيوان، من مجموع الحطب وغيره، انظر ما كتبه محمد ذهني في هامش النسخة التركيّة لـ "صحيح مسلم" 2/ 123.

(3)

"لسان العرب" 12/ 131.

ص: 221

قاف، قال الخليل: العُرَاق: العظم بلا لحم وإن كان عليه لحم، فهو عَرْقٌ، وفي "المحكم" عن الأصمعي: العَرْق بسكون الراء: قطعة لحم، وقال الأزهري: العَرْق واحد العُرَاق، وهي العظام التي يؤخذ منها هَبْر اللحم

(1)

، ويبقى عليها لحم رَقِيق، فيكسر، ويطبخ، ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق، ويتشمس العظام، يقال: عَرَقْتُ اللحمَ، واعترقته، وتعرقته: إذا أخذت اللحم منه نَهْشًا، وفي "المحكم": جَمْعُ العَرْق على عُراق بالضم عزيز، أي نادر، وقول الأصمعي هو اللائق هنا.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ: "أو مرماتين حسنتين"، وهو: تثنية مِرْماة -بكسر الميم، وحكي فتحها- قال الخليل: هي ما بين ظِلْفي الشاة، وحكاه أبو عبيد، وقال: لا أدري ما وجهه، ونقله المستملي في روايته في "كتاب الإحكام" عن الفربريّ، قال: قال يونس، عن محمد بن سليمان، عن البخاريّ: المرماة بكسر الميم، مثل مِسناة، ومِيضاة: ما بين ظلفي الشاة من اللحم، قال عياض: فالميم على هذا أصلية.

وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محددة، يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المرماة، والمدحاة.

قال الحافظ: ويبعد أن تكون هذه مراد الحديث لأجل التثنية، وحكى العربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف، قال: ويؤيده ما حدثني. . . ثم ساق من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو الحديث، بلفظ:"لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة، أو سهمان لفعل"، وقيل: المرماة سهم يتعلم عليه الرمي، وهو سهم دقيق مُسْتَوٍ غير محدد.

قال الزين ابن الْمُنَيِّر: ويدل على ذلك التثنيةُ، فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية، فإنها لا يتكرر رميها.

وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه، ووجّهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين، وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين؛ لأنهما مما يُلْهَى به. انتهى.

(1)

يقال: هَبَر له من اللحم هَبْرَةً: قَطَع له قطعةً، قاله في "القاموس".

ص: 222

وإنما وصف العرق بالسمن، والمرماة بالحسن ليكون ثَم باعث نفساني على تحصيلهما.

وقال الطيبي: "الحسنتين" بدل من المرماتين، إذا أريد بهما العظم الذي لا لحم عليه، وإن أريد بهما السهمان الصغيران، فالحسنتان بمعنى الجيدتان صفة للمرماتين. انتهى.

وفيه إشارة إلى ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم، أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات، ومنازل الكرامات

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد ذكر الاختلافات المذكورة ما نصّه: والذي يظهر -واللَّه أعلم- أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخرج هَذَا الكلام مخرج تعظيم شهود العشاء فِي جماعة، والتنويه بفضله وشرفه ونفاسته، والنفوسُ مجبولة عَلَى محبة الأشياء الحسنة الشريفة النفيسة، والميل إليها، فوبَّخَ من لَوْ طمع فِي وجود قطعة من لحم سمينة أو مرماتين حسنتين، وهما من أدنى الأشياء الدنيوية لبادر إلى الخروج إليها، وشهد العشاء لذلك، وَهُوَ يتخلف عَن شهود العشاء فِي الجماعة مَعَ فضل الجماعة عِنْدَ اللَّه، وعظم فضل الجماعة مَا يدّخره لمن شهدها عنده من جميل الجزاء وجزيل العطاء، فيكون مَا يعجل لَهُ وإن كَانَ يسيرًا من أمور الدنيا المستحسنة عنده مِمَّا يأكله أو يلهو بِهِ أهم عنده من ثواب اللَّه الموعود بِهِ.

قال: ويشبه هَذَا: قَوْلُ اللَّه تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} [الجمعة: 11]، فإنه توبيخ لمن ترك الجمعة، أو اشتغل عَنْهَا بالتجارة أو باللَّهو. انتهى

(2)

.

(لَشَهِدَهَا"، يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءَ) هكذا رواية المصنّف بزيادة لفظة "يعني"، وهي منه، أو من غيره، ممن دون أبي الزناد؛ لأنَّها ليست في روايته عند

(1)

"الفتح" 2/ 344 بزيادة من "عمدة القاري" 5/ 161.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 5/ 453.

ص: 223

البخاريّ، ولفظه:"لشهد العشاء"، أي حضر صلاة العشاء، والمعنى أنه لو علم أنه لو حضر الصلاة لوجد نفعًا دنيويًّا، وإن كان خسيسًا حقيرًا لحضرها؛ لقصور همته على الدنيا، ولا يحضر لما لها من مثوبات العقبى ونعيمها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1482 و 1483 و 1484 و 1485](651)، و (البخاريّ) في "الأذان"(644 و 657) و"الخصومات"(2420) و"الأحكام"(7224)، و (أبو داود) في "الصلاة"(548 و 549)، و (الترمذيّ) فيها (217)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(848) وفي "الكبرى"(921)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(791)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 123 - 124)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1984)، و (الحميديّ) في "مسنده"(956)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 244 و 314 و 367 و 377 و 416)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 292)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(304)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1481)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2097 و 2098)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1257 و 1258 و 1259)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1452 و 1453 و 1454 و 1455 و 1456 و 1457)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 55)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(791)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان التشديد في التخلّف عن صلاة الجماعة؛ لغير عذر.

2 -

(ومنها): ما قاله ابن رجب رحمه الله: وهذا الحَدِيْث ظاهر فِي وجوب شهود الجماعة فِي المساجد، وإجابة المنادي بالصلاة؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أخبر أَنَّهُ همَّ بتحريق بيوت المتخلفين عَن الجماعة، ومثل هذه العقوبة الشديدة لا تكون إلا عَلَى ترك واجبٍ.

وقد اعترض المخالفون فِي وجوب الجماعة عَلَى هَذَا الاستدلال،

ص: 224

وأجابوا عَنْهُ بوجوهٍ، قد تقدّم تفنيدها في المسألة الخامسة من مسائل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسرّه أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتُفي به عن الأعلى من العقوبة، نَبّهَ عليه ابن دقيق العيد رحمه الله.

4 -

(ومنها): أن في قوله: "والذي نفسي بيده" إثبات صفة اليد للَّه عز وجل على الوجه الذي يليق بجلاله، فهو كالقول في سائر الصفات، وهو عز وجل منزّه عن مشابهة الخلق في كل شيء، موصوف بصفات الكمال اللائقة به عز وجل.

5 -

(ومنها): جواز العقوبة بالمال، كذا استدَلّ به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم.

قال في "الفتح": وفيه نظر؛ لاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به؛ إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم، فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم.

6 -

(ومنها): جواز أخذ أهل الجرائم على غِرّة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هَمّ بذلك في الوقت الذي عُهِد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يَبْغَتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد، وفي السياق إشعار بأنه تقدّم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الإشخاص"، وفي "كتاب الأحكام":"باب إخراج أهل المعاصي والرِّيَب من البيوت بعد المعرفة"، يريد أن من طُلِب منهم بحقّ، فاختَفَى، أو امتنع في بيته لَدَدًا، ومَطْلًا أُخرِج منه بكل طريق يتوصل إليها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم.

7 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به ابن العربيّ وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونًا بها. ونوزع في ذلك، ورواية أبي داود التي فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم تَعْكُر عليه، نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر، وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها، سواء قلنا: واجبة، أو مندوبة كان من تركها أصلًا رأسًا أحق بذلك، لكن لا يلزم من

ص: 225

التهديد بالتحريق حصول القتل، لا دائمًا، ولا غالبًا؛ لأنه يمكن الفرار منه، أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والأرهاب.

8 -

(ومنها): أن في قوله في رواية أبي داود: "ليست بهم علّةٌ" دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة، ولو قلنا: إنها فرض، وكذا الجمعة، قاله في "الفتح"

(1)

.

9 -

(ومنها): أن فيه الرخصةَ للإمام، أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها، ولا بُعد في أن تلحق بذلك الجمعة، فقد ذَكَرُوا من الأعذار في التخلف عنها خوف فوات الغريم، وأصحاب الجرائم في حقّ الإمام كالغرماء.

10 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، إذا كان في ذلك مصلحة، قال ابن بزيزة: وفيه نظر؛ لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبًا، وهذا لا يختلف في جوازه.

11 -

(ومنها): أنه استَدَلّ ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية، كما هو مذهب مالك.

وتعقب بأنه منسوخ، كما قيل في العقوبة بالمال، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد اعترض العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز فيما علّقه على "الفتح" على جزم الحافظ بالنسخ، وقال: إنه ليس بجيِّد، والصواب عدم النسخ؛ لأدلة كثيرة معروفة في محلها، منها: حديث الباب، وإنما المنسوخ التعذيب بالنار فقط

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

12 -

(ومنها): أنه استدُلّ بِهِ عَلَى قتل تارك الصلاة؛ فإنه إذا جازت عقوبة تارك الجماعة فِي ماله وإن تعدت إلى نفسه بالهلاك، فقتل من ترك الصلاة بالكلية أولى بالجواز، فلا جرم كَانَ قتله واجبًا عِنْدَ جمهور العلماء.

13 -

(ومنها): أن فيه دليلًا عَلَى أَنَّهُ إنما يعاقب تارك الصلاة، أو بعضِ واجباتها فِي حال إخلاله بِهَا، لا بعد ذَلِكَ؛ فإن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنما أراد عقوبتهم

(1)

"الفتح" 2/ 153.

(2)

"الفتح" 2/ 153.

(3)

وهذا الاعتراض نفسه تقدّم في كلام ابن رجب رحمه الله.

ص: 226

فِي حال التخلّف، وقد كَانَ يمكنه أن يؤخر العقوبة حَتَّى يصلي وتنقضي صلاته.

قال ابن رجب رحمه الله: وهذا يَعْضِد قَوْلَ من قَالَ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن تارك الصلاة لا يُقْتل حَتَّى يُدْعَى إلى الصلاة، ويُصِرّ عَلَى تركها حَتَّى يضيق وقت الأخرى؛ ليكون قتله عَلَى الترك المتلبِّس بِهِ فِي الحال.

14 -

(ومنها): أن الإمام لَهُ أن يؤخِّر الصلاة عَن أول الوقت لمصلحة دينية، ولكنه يستخلف من يصلي بالناس فِي أول الوقت؛ لئلا تفوتهم فضيلة أول الوقت.

15 -

(ومنها): أن إنكار المنكر فرض كفاية، وأنه إذا قام به بعض الناس اكتُفِي بذلك، ولا يلزم جميع النَّاس الاجتماع عَليهِ؛ فإنه لَوْ كَانَ كذلك لأخذ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ جميع النَّاس، ذكره ابن رجب رحمه الله

(1)

.

16 -

(ومنها): أنه دليل على أن الجماعة لا تجب على النساء، ولا تتأكّد في حقّهنّ؛ لقوله:"ثم أخالف إلى رجال".

17 -

(ومنها): ما قاله في "الطرح": فيه حجة لأحد القولين في أنه يُقاتَل أهل بلد، تمالئوا على ترك السنن ظاهرًا؛ بناءً على القول بأن الجماعة سنةٌ، لا فرضٌ، قال القاضي عياض: والصحيح قتالهم؛ لأن في التمالؤ عليها إماتتها. انتهى.

وقد اختَلَف أصحاب الشافعيّ -رحمهم اللَّه تعالى- في قتال أهل بلد اتفقوا على ترك الجماعة؛ بناءً على القول بأنها سنة، والصحيح عندهم أنهم لا يقاتلون على ذلك، إنما يقاتلون على القول بأنها فرض كفاية. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد عرفت أن الحقّ أن صلاة الجماعة واجبة على من لا عذر له، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): أنه اختَلَفت الروايات والعلماء في تعيين الصلاة المتوعَّد على تركها بالتخويف، هل هي العشاء، أو هي الصبح، أو الجمعة؟

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 5/ 461.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 313.

ص: 227

فظاهر رواية الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه أن المراد بها العشاء لقوله:"لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء".

وقد ورد التصريح به فيما رواه عبد اللَّه بن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن عجلان، مولى الْمُشْمَعِلّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لينتهين رجال ممن حول المسجد لا يشهدون العشاء، أو لأحرقن حول بيوتهم".

وحَكَى ابن بطال هذا القول عن سعيد بن المسيب، وقيل: هي العشاء والصبح معًا، ويدل له ما رواه الشيخان في بعض طرق هذا الحديث:"إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت. . ."، فذكره، وقيل: هي الجمعة، وبدل له رواية البيهقيّ:"فأحرِّق على قوم بيوتهم لا يشهدون الجمعة"، ويدل له أيضًا رواية مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة:"لقد هممت. . ."، فذكره.

وحَكَى ابن بطال هذا القول عن الحسن البصريّ، وعن ابن معين أيضًا أنه قال: إن هذا الحديث في الجمعة، لا في غيرها. انتهى.

قال العراقيّ: وهذا مما يضعف قول من احتج بالحديث على أن الجماعة فرض عين؛ لأنه إذا كان المراد الجمعة، فالجماعة فيها شرط، فلا يبقى فيه دليل على الجماعة في غيرها من الصلوات.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: فيما قاله العراقيّ نظر لا يخفى، كما يأتي قريبًا.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ويحتاج أن يُنظَر في تلك الأحاديث التي ثبتت في تلك الصلاة أنها الجمعة، أو العشاء، أو الفجر، فإن كانت أحاديث مختلفة قيل بكل واحد منها، وإن كان حديثًا واحدًا اختَلَف فيه بعض الطرق، وعُدِم الترجيح وُقِف الاستدلال. هذا حاصل كلامه.

قال العراقيّ: رواية البيهقيّ في كونها الجمعة، ورواية كونها العشاء والصبح حديث واحدٌ، وحديث ابن مسعود في كونها الجمعة حديث آخر مستقلّ بنفسه، فعلى هذا لا يقدح حديث ابن مسعود في حديث أبي هريرة، وبنظر في اختلاف حديث أبي هريرة، وقد رجح البيهقيّ رواية الجماعة فيه على

ص: 228

رواية الجمعة، فقال بعد رواية الجمعة فيه: والذي يدل عليه سائر الروايات أنه عَبّر بالجمعة عن الجماعة.

وقال النوويّ في "الخلاصة" بعد حكاية كلام البيهقي: بل هما روايتان: رواية في الجمعة، ورواية في الجماعة في سائر الصلوات، وكلاهما صحيح. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: فتبيّن بهذا أن الصواب أن الحديث ورد في الجماعة مطلقًا، وفي الجمعة خاصّة، فدعوى العراقيّ تضعيف الاستدلال على فرضيّة الجماعة بالحديث غير صحيحة؛ لأن الراجح في حديث أبي هريرة لفظ الجماعة، كما قال البيهقيّ فالاستدلال بالحديث على الفرضيّة واضح، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فمستقلّ دالّ على الجمعة، ولا يعارض رواية الجماعة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1483]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُمَا، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ

(1)

عَلَى الْمُنَافِقِينَ، صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا، فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ، مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس

(1)

وفي نسخة: "إن أثقل الصلاة".

ص: 229

لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقة حافظ عارف بالقراءة، ورعٌ، إلا أنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون تقدّموا قبله.

وقوله: (إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ

(1)

عَلَى الْمُنَافِقِينَ، صَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ) قال العراقيّ رحمه الله: وإنما كانت هاتان الصلاتان ثقيلتين على المنافقين؛ لأمرين:

[أحدهما]: للمشقة الموجودة في حضور المساجد فيهما من الظلمة، وكون وقتهما وقت راحة، أو غلبة نوم، أو خلوة بأهاليهم، فلا يتجشم تلك المشاقّ إلا من أيقن بثواب اللَّه تعالى، والمنافق إما شاكّ في ذلك، أو لا يصدِّق، فيشقّ عليه ذلك.

[والمعنى الثاني]: أن المنافقين كما قال اللَّه تعالى: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ، وهاتان الصلاتان في ليل، فربما خَفِى من غاب عنهما، واستتر حاله، بخلاف باقي الصلوات، فإنها بحيث يراه الناس، ويتفقدون غيبته، فكان رياؤه يَحُضّه على حضورها؛ ليراه الناس.

والمعنى الأول أظهر؛ لقوله تعالى في أول الآية: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} ، ولا مانع أن يكون الأمران المذكوران في الآية كلاهما حاملًا لهم على ترك الجماعة في الصلاتين المذكورتين. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا)"الْحَبْوُ" حبوُ الصبيّ الصغير على يديه ورجليه، ومعناه لو يعلمون ما فيهما من الفضل والخير، ثم لم يستطيعوا الإتيان إليهما إلا حَبْوًا لَحَبَوا إليهما، ولم يُفوِّتوا جماعتهما في المسجد، ففيه الحثّ

(1)

وفي نسخة: "إن أثقل الصلاة".

(2)

"طرح التثريب" 2/ 312.

ص: 230

البليغ على حضورهما، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الطرح": قوله: "لأتوهما ولو حبوًا": أي يزحفون على ألياتهم، من مرض، أو آفة، قاله صاحب "المفهم"، وفيه نظرٌ، والحبو غالبًا إنما يُطْلَق على الحبو على الرُّكَب، وإن كان قد يُطلَق أيضًا على الزحف، فالمراد هنا الزحف على الرُّكَب كما هو مصرَّح به عند أبي داود، من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه:"ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبوًا على الرُّكَب".

وفيه دليلٌ على استحباب حضور الجماعة لأصحاب الأعذار، من مريض، أو نحوه، وإن لم يتأكد في حقّه، وسيأتي وعند المصنّف أن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"ولقد كان الرجل يُؤْتَى به بين الرجلين، يُهادَى بين الرجلين، حتى يقام في الصفّ"

(2)

.

وقوله: (ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا، فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ) فيه أن الإمام إذا عَرَضَ له شُغْل يَستَخلِف مَن يصلي بالناس، وإنما هَمّ بإتيانهم بعد إقامة الصلاة؛ لأن بذلك الوقت يتحقق مخالفتهم، وتخلُّفهم، فيتوجه اللوم عليهم، وفيه جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة لعذر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1484]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي، أَنْ يَسْتَعِدُّوا لِي بِحُزَمٍ مِنْ حَطَبٍ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ تُحَرَّقُ بُيُوتٌ

(3)

عَلَى مَنْ فِيهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل باب.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 154.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 313.

(3)

وفي نسخة: "ثم نحرّق بيوتًا".

ص: 231

2 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فِتْيَانِي) -بكسر الفاء، وسكون التاء-: جمع فَتًى، قال في "المصباح": الْفَتَى: العبد، وجمعه في القلّة: فِتْيَةٌ، وفي الكثرة: فِتْيَانٌ، والأمة: فتاةٌ، وجمعها: فَتَيَات، والأصل فيه أن يقال للشابّ الحَدَث: فَتًى، ثم استُعير للعبد، وإن كان شيخًا؛ مجازًا؛ تسميةً باسم ما كان عليه. انتهى

(1)

.

وفسّره بعضهم بأن المراد أقوياء أصحابه.

وقوله: (أَنْ يَسْتَعِدُّوا) أي يتهيّأوا.

وقوله: (ثُمَّ تُحَرَّقُ بُيُوتٌ) ببناء الفعل للمفعول.

وقوله: (عَلَى مَنْ فِيهَا) أي وهم الذين تخلّفوا عن صلاة الجماعة، وفيه العقوبة بالمال؛ لأن تحريق البيوت عقوبة ماليّة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1485]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(وكيعِ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.

3 -

(جَعْفرُ بْنُ بُرْقَانَ) -بضمّ الموحّدة، وسكون الراء، بعدها قاف- الكلابيّ، أبو عبد اللَّه الرقّيّ، ثقة، يَهِم في حديث الزهريّ [7](ت 150) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البكائيّ، أبو

(1)

"المصباح المنير" 2/ 462.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 232

عوف الكوفيّ، نزيل الرّقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (بِنَحْوِهِ) أي بنحو حديث أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية يزيد بن الأصمّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه، ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 248) فقال:

(1457)

حدّثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا جعفر بن بُرْقان، ثنا يزيد بن الأصم (ح) وحدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا الفريابيّ، ثنا قتيبة، ثنا وكيع، عن جعفر بن بُرْقان، عن يزيد بن الأصمّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم أَخْرُج بفتيانٍ معهم حُزَمُ حطب، فأُحَرِّق على قوم بيوتهم، يسمعون النداء، ثم لا يأتون الصلاة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1486]

(652) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، سَمِعَهُ مِنْهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ -لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ-:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ، يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ) التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْر) بن معاوية بن حُدَيج -بالحاء المهملة، مصغّرًا- أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بأَخَرَة [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 233

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، اختلط بآخره، ويُدلّس [3](ت 129) أو قبلها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

4 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلَة -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة- الْجُشَميّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3] مات في ولاية الحجّاج على العراق (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، وهو أيضًا من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة.

5 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع.

[تنبيه]: إن قلت: كيف أخرج المصنّف رواية زهير، عن أبي إسحاق، وإنما روى عنه بعد اختلاطه، وأيضًا يُدلّس؟.

[قلت]: إنما أخرج روايته في الشواهد، لا في الأصول، فقد أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه أصلًا، ثم أتى بحديث ابن مسعود؛ استشهادًا، وتقويةً، فمثل هذا يُغتفر، كما هو معروف لدى المحدّثين.

وأما تدليسه، فقد صرّح بسماعه من أبي الأحوص، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ -لِقَوْمِ) أي عن شأن قوم، فاللام هنا كما في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} الآية [الأحقاف: 11]، وقوله:{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} الآية [الأعراف: 38]، وقوله:{وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} الآية [هود: 31]، وهي عند ابن الحاجب بمعنى "عن"، وقال ابن مالك

ص: 234

وغيره: هي لام التعليل، وقيل: لام التبليغ، ومن قول الشاعر [من الكامل]:

كضَرَائِرِ الْحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا

حَسَدًا وَبُغْضًا إِنَّهُ لَدَمِيمُ

(1)

(يَتَخَلَّفُونَ) أي يتأخّرون (عَنِ الْجُمُعَةِ) أي عن أداء صلاة الجمعة في المسجد (لَقَدْ هَمَمْتُ) أي قصدت (أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ) أي إمامًا لهم (ثُمَّ أُحَرِّقَ) بتشديد الراء، من التحريق، ويَحْتَمل أن يكون من الإحراق (عَلَى رِجَالٍ، يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ") بالنصب على المفعوليّة لـ "أُحرّق"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1486](652)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 394 و 402 و 422 و 449 و 461)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1853 و 1854)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2531)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1458)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان التشديد في التخلّف عن صلاة الجمعة.

2 -

(ومنها): بيان أن حضور صلاة الجمعة فرض عين، إلا لأصحاب الأعذار الشرعية.

3 -

(ومنها): بيان أن هذه الصلاة التي هدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحريق المتخلّفين عنها هي صلاة الجمعة، وقد سبق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنها العشاء، وورد أيضًا أنها الصبح، وورد أيضًا يتخلّفون عن الصلاة مطلقًا، قال النوويّ رحمه الله: وكلّه صحيح، ولا منافاة بين ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 419 - 420.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 154.

ص: 235

4 -

(ومنها): ما قاله في "الطرح": في هذا الحديث حجة على أبي حنيفة في أنه جَعَلَ المكلَّف مخيرًا بين الجمعة والظهر بغير عذر؛ إذ لو كانوا مخيرين لَمَا هَمّ بتحريقهم.

5 -

(ومنها): ما قاله في "الطرح" أيضًا: [إن قال قائل]: إذا كان المراد بهذا ترك الجمعة كما هو نصّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا، فهل يجوز للإمام أو نائبه ترك صلاة الجمعة؛ لأجل أخذ مَن في البيوت، لا يصلي الجمعة، أو يرتكب ما يجب إزالته، أو يكون هذا خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد فعل هذا اليوم؛ لأنه يؤدي إلى ترك الجمعة، وهي لا تعاد؟.

[فالجواب]: أن أصحابنا -يعني الشافعيّة- ذكروا من الأعذار في الجمعة والجماعة من له غريم يَخاف فوته، والظاهر أن أرباب الجرائم في حقّ الإمام ونائبه كالغرماء، حتى إذا خَشِي أن يفوتوه إن شهد الجماعة أو الجمعة كان له ذلك. انتهى، وهو تحقيق حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(44) - (بَابُ وُجُوبِ إِتْيَانِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1487]

(653) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ

(2)

، كُلُّهُمْ عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا الْفَزَارِيُّ

(3)

، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَصَمِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "ويعقوب بن إبراهيم الدورقيّ".

(3)

وفي نسخة: "حدّثنا مروان الفزاريّ".

ص: 236

لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ:"هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"فَأَجِبْ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيد) بن سهل الْهَرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمد، صدوقٌ، عَمِيَ، فتلقّن، من قدماء [10](ت 240) وله (100) سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

3 -

(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: يعقوب بن إبراهيم بن كثير العبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

4 -

(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) هو: ابن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 196)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

5 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَصَمِّ) هو: عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن الأصمّ العامريّ صدوقٌ

(1)

[6] تقدم في "الصلاة" 46/ 1112.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن شيخه يعقوب الدورقيّ أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمّه، عبيد اللَّه عن يزيد بن الأصمّ، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

قال عنه في "التقريب": مقبول، والحقّ أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عنه ثلاثة من الثقات، واحتجّ به مسلم في الأصول، وهو توثيقٌ ضمنيّ، ووثّقه ابن حبّان، ولا يُعلم فيه جرح لأحد، فتنبّه.

ص: 237

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى) قال النوويّ رحمه الله: هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم، جاء مفسَّرًا في "سنن أبي داود" وغيره. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ويَحْتَمِل أن يكون غيره، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (لَيْسَ لِي قَائِدٌ) اسم فاعل من قال، يقال: قال الرجلُ الفرسَ يقودها قَوْدًا، من باب قال، وقِيَادًا بالكسر، وقيادةً، قال الخليل: القود أن يكون الرجل أمام الدابّة آخذًا بقيادها، والسَّوق أن يكون خلفها، فإن قادها لنفسه قيل: اقتادها، قاله في "المصباح"

(1)

.

وفي "المرعاة": القائد هو الذي يُمسك يد الأعمى، ويأخذه، ويذهب به حيث شاء، ويجُرّه، من الْقَوْد، وهو ضدّ السَّوق، فهو من أمام، وذاك من خلف. انتهى

(2)

.

(يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ) إن كان الأعمى هو ابن أم مكتوم رضي الله عنه، فالمراد قائد يلائمه ويرفُقُ به، ففي رواية لأبي داود:"ولي قائد لا يلائمني"، وإن كان غيره، فيَحْتَمِل أنه لا يجد من يقوده أصلًا (فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ) أي يُسَهِّل عليه في التأخر عن الصلاة جماعةً في المسجد (فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ) إما جماعةً أو منفردًا (فَرَخَّصَ لَهُ) في ذلك، وفي رواية النسائيّ:"فأَذِنَ له"(فَلَمَّا وَلَّى) أي أدبر ذلك الأعمى عن مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَرِحًا بترخيصه له فيما طلب (دَعَاهُ) أي ناداه النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ ") أي التأذين، وفي حديث ابن أم مكتوم عند النسائيّ:"هل تسمع حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح؟ "(قَالَ) الأعمى (نَعَمْ) أي أسمع ذلك (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَجِبْ") أمر من الإجابة، وعند النسائيّ في "الكبرى":"فأجبه"، والفاء فصيحية، أي فإذا كنت تسمع النداء بالصلاة، فأجب بالفعل، وفي حديث ابن أمّ مكتوم المذكور:"فحي هلا"، أي فأقبل إلى الصلاة.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 518.

(2)

"المرعاة" 3/ 487.

ص: 238

قال السنديّ رحمه الله: ظاهره وجوب الجماعة؛ لا بمعنى أنها واجبة في الصلاة حتى تبطل بدونها، بل بمعنى أنها واجبة على المصلي، يأثم بتركها. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دلالة لمن قال: الجماعة فرض عين.

وأجاب الجمهور عنه بأنه سأل هل له رخصة أن يصلي في بيته، وتحصل له فضيلة الجماعة بسبب عذره؟

(1)

، فقيل: لا.

ويؤيد هذا أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين، ودليله من السنة: حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه الآتي بعد ثلاثة أبواب.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قول من قال: إنها فرض عين لمن لا عذر له، هو الحقّ، كما أسلفنا تحقيقه، وأما تأويل الجمهور المذكور فبعيدٌ، وتأييده بحديث عتبان رضي الله عنه المذكور ليس كما ينبغي؛ إذ حديثه نصّ في تحقّق عذره، فقد ثبت أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا رسول اللَّه؛ إن السيول لتحول بيني وبين مسجد قومي"، فهذا عذر قائم، وأما الأعمى المذكور فعذره هو العَمَى، ومعلوم أن كثيرًا من العميان لا يَشُقّ عليهم المشي إلى المساجد، كما هو مشاهد، وهذا الأعمى منهم، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لم يرخص له، مع كونه رَخَّصَ لكثير من أصحاب الأعذار، كعتبان، وكمن حضر لديه طعام، وكمن يدافعه الأخبثان، وفي حالة وجود الأمطار، كما ثبت كلُّ ذلك في "الصحيحين"، وغيرهما.

والحاصل أن حديث الباب دليلٌ واضحٌ على فرضية الجماعة لمن لا عذر له، وأن مجرد العمى ليس عذرًا يُسْقِط الجماعة، واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله أيضًا: وأما ترخيص النبيّ صلى الله عليه وسلم له، ثم ردُّه، وقوله:

(1)

تُعُقّب تأويل الجمهور هذا بأنه ضعيف؛ لما ثبت أن المعذور لا ينقص أجره عما يفعله لولا العذر، كما دلّ عليه حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه في "الصحيح" مرفوعًا:"إذا مَرِضَ العبدُ أو سافر، كُتِب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 239

"فأجب" فيَحْتَمِل أنه بوحي نزل في الحال، ويَحْتَمِل أنه تغير اجتهاده صلى الله عليه وسلم، إذا قلنا بالصحيح، وقولِ الأكثر: إنه يجوز له الاجتهاد، ويَحْتَمِل أنه رَخّص له أوّلًا، وأراد أنه لا يجب عليك الحضور، إما لعذر، وإما لأن فرض الكفاية حاصل بحضور غيره، وإما للأمرين، ثم ندبه إلى الأفضل، فقال: الأفضل لك، والأعظم لأجرك أن تجيب، وتحضر، فأجب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: مسألة اختلاف في اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد حقّقتها في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، ورجّحت قول الجمهور بجوازه، فراجعه تستفد.

وأما قوله: "وأراد أنه لا يجب عليك الحضور. . . إلخ"، فغير صحيح؛ لأنه يردُّه ظاهر الأمر في قوله:"فأَجِبْ" مع الأدلة الأخرى الدالّة على وجوب صلاة الجماعة، وقد تقدّم بيانها، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 1487](653)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(850) وفي "الكبرى"(923)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 57 و 66)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(313)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1261)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1459 و 1460)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب المحافظة على الصلوات في المساجد.

2 -

(ومنها): أن العمى ليس عذرًا يسقط الجماعة، وإن لم يجد قائدًا، والظاهر أن هذا فيما إذا كان يَعرِف طريق المسجد، ولا يُخاف عليه من الهلاك.

(1)

"شرح مسلم للنوويّ" 5/ 155.

ص: 240

3 -

(ومنها): أن من سمع النداء لا يجوز له أن يتخلف عن صلاة الجماعة إلا بعذر.

4 -

(ومنها): وجوب إجابة المؤذن بالفعل، كما يجب بالقول، لحديث:"إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن"، متفق عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(45) - (بَابُ بَيَانِ كَوْنِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1488]

(654) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا، وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا مُنَافِقٌ، قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ، إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ، حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

2 -

(زكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) خالد، أو هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدَانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يُدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) اللَّخْميّ الكوفيّ، ويقال له: الْفَرَسيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 241

والباقون تقدّموا قبل باب.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: شرح الحديث، ومسائله تأتي في الحديث التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ من هذا.

وقوله: (إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ)"إن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، أي إنه كان. . . إلخ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1489]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُويكُمْ، كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ، فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا، وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ، مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ

(2)

، حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) اسم دُكين عمرو بن حمّاد بن زُهير، أبو نعيم التيميّ مولاهم الأحول الْمُلائيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 8 أو 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.

2 -

(أَبُو الْعُمَيْسِ) عُتبة بن عبد اللَّه بن عُتبة بن عبد اللَّه بن مسعود الْهُذليّ المسعوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ الْأَقْمَرِ) بن عمرو بن الحارث بن معاوية بن عمرو بن الحارث بن ربيعة بن عبد اللَّه بن وَدَاعة الْهَمْدانيّ -بسكون الميم، وبالدال

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "بين رجلين".

ص: 242

المهملة- الوادعيّ أبو الوازع الكوفيّ، قيل: إنه أخو كلثوم بن الأقمر، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عمر، وأم عطية الأنصارية فيما قيل، وأبي جُحيفة، وأسامة بن شريك، ومعاوية، وقيل: إنه وفد عليه، وشُريح القاضي، وأبي الأحوص الْجُشَميّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه الأعمش، ومنصور، والثوريّ، وشعبة، والمسعوديّ، والحسن بن حيّ، وأبو العُمَيس، ومِسْعَر، وشريك، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ، ويعقوب بن سفيان، والنسائيّ، وابن خِرَاش، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقةٌ حجةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ صدوقٌ، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم بينه وبين كلثوم بن الأقمر قرابةً.

قال الحافظ: وجزم ابن حبّان، وعمران بن محمد بن عمران الْهَمْدانيّ، في "طبقات رجال هَمْدان" أنه أخو كلثوم بن الأقمر، وتبع في ذلك ابنَ سعد، وكذلك ذكر في الطبقة الثالثة، ووقع في "التهذيب" أنه ذكره في الرابعة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الستّة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (654)، وحديث (2949):"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس".

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه راوية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلَة الْجُشَميّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن

ص: 243

مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَنْ سَرَّهُ)"من" شرطية، و"سره" بمعنى أفرحه، يقال: سَرّه، يَسُرّه سُرورًا -بالضم-، والاسم السَّرُور بالفتح: إذا أفرحه، قاله الفيوميّ (أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا) أي يوم القيامة (مُسْلِمًا) أراد به كمال الإسلام المتضمِّن لانقياد الباطن والظاهر، لا مجرد الاستسلام الظاهريّ، فهو بمعنى قوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19]، وجواب الشرط قوله:(فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ) أي فليؤدّها مستوفيةَ الشروط، والأركان، والآداب (حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ) أي في المكان الذي يؤذَّن فيه لهنّ، وهو المسجد، وأراد به أداءهنّ مع الجماعة (فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم) وللنسائيّ:"فإن اللَّه عز وجل شَرَع لنبيّه صلى الله عليه وسلم"(سُنَنَ الْهُدَى) رُوي بضم السين وفتحها، وهما بمعنى متقارب، أي طرائق الهدى والصوابِ، قاله النوويّ رحمه الله.

و"الْهُدَى" -بضمّ الهاء، وفتح الدال، مقصورًا: الرَّشَادُ والدلالة، قاله في "القاموس"

(1)

، وقال "المصباح": الْهُدَى: البيان. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: لم يرد بالسنن السنن المتعارفة في عرف الفقهاء التي هي قسيم الواجب وغيره من أقسام الأحكام الخمسة، بل أراد ما يشمل جميع ما أتى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أمور الدين، فيدخل فيه الواجب، والمستحبّ، وغيرهما، فلا يُستدلّ بقوله:"وإنهنّ من سُنن الهدى" على عدم صلاة الجماعة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى) أي الصلواتُ الخمسُ من جملة طُرُق الهدى التي أوجب اللَّه تعالى سلوكها، دون ما سواها من الطرائق، قال اللَّه تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الأنعام: 153]، فينبغي أداؤهنّ على الوجه المطلوب.

والإضافة في: "سنن الهدى" للبيان، أي سنن هي الهدى.

(وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) أي ولو بالجماعة.

وفي رواية النسائيّ: "وإني لا أحسب منكم أحدًا إلا له مسجد يُصلّي فيه في بيته، فلو صلّيتم في بيوتكم، وتركتم مساجدكم لتركتم سنّة نبيّكم".

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 403.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 636.

ص: 244

وأراد بالمسجد الموضع الذي يصلي فيه الرجل التطوع، حيث إنه مأمور بالتطوع في بيته، فقد أخرج الشيخان، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورًا".

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبيّ اتخذ حُجْرة في المسجد من حصير، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها ليالي، وفيه:"فصلّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة"، متّفقٌ عليه.

ومعنى قوله: "ولو أنكم صلّيتم في بيوتكم": أي لو أديتم الصلوات المكتوبات في مساجد بيوتكم (كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ) أي المتأخّر (فِي بَيْتِهِ) تاركًا الصلاةَ جماعةً في المساجد العامّة.

قال الطيبيّ رحمه الله: في تعبيره باسم الإشارة إشارة إلى تحقيره، وتبعيده عن مظانّ الزُّلْفَى، كما أن اسم الإشارة في قوله:"هذه المساجد" مُلَوِّحٌ إلى تعظيمها، وبُعد مرتبتها في الرفعة. انتهى

(1)

.

(لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ) صلى الله عليه وسلم حيث إنه كان يصلي المكتوبات في المساجد بأصحابه جماعةً، ولا يصليها في بيته، إلا من عذر (وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ) صلى الله عليه وسلم (لَضَلَلْتُمْ) قال الفيّوميّ رحمه الله: ضَلّ الرجل الطريقَ، وضلّ عنه يَضِلّ، من باب ضرب ضلالًا، وضلالةً: زَلَّ عنه، فلم يَهتد إليه، فهو ضالٌّ، هذه لغة نجد، وهي الفُصحَى، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50] الآية، وفي لغة لأهل العالية من باب تَعِبَ. انتهى

(2)

.

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لضللتم" يدلّ على أن المراد بالسنّة العزيمة. انتهى.

وفي رواية أبي داود: "لكفرتم"، قال الخطابيّ رحمه الله: معناه أنه يؤدي بكم إلى الكفر بأن تتركوا عُرَى الإسلام شيئًا، فشيئًا، حتى تخرجوا من الملة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا دليل واضح في كون صلاة الجماعة فرضًا على الأعيان، وأما تأويله بأنه محمول على التغليظ والتهديد في ترك صلاة

(1)

"الكاشف" 3/ 1136.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 363.

ص: 245

الجماعة، أو أنه محمول على الترك تهاونًا وقِلَّةَ مبالاة بها، كما زعمه بعضهم، فغير صحيح، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الكمال ابن الهمام رحمه الله: وتسميتها سنّةً على ما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه لا حجة فيه للقائلين بالسنّيِّة؛ إذ لا تنافي الوجوب في خصوص ذلك الإطلاق؛ لأن سنن الهدى أعمّ من الواجب لغةً، كصلاة العيد. انتهى.

وقد يقال لهذا الواجب سنةٌ؛ لكونه ثبت بالسنّة، أي بالحديث، قاله في "المرعاة"

(1)

.

[تنبيه]: قال الشوكانيّ رحمه الله: والأثر استُدلّ به على وجوب صلاة الجماعة، وفيه أنه قوله صحابيّ، ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة، وعدم التخلّف عنها، ولا يُستدلّ بمثل ذلك على الوجوب. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "ولا يُستدلّ. . . إلخ" فيه أنه لا يُستبعد الاستدلال به؛ لأن مثل هذا الأسلوب من مثل ابن مسعود رضي الله عنه من فقهاء الصحابة دالّ على أنه فهم من الأدلّة الوجوب، على أن الاستدلال بمثل هذا إنما هو تأكيد للأدلّة الأخرى المرفوعة الدالّة على الوجوب، وقد تقدّم بيانها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ) وفي رواية النسائيّ: "وما من عبد مسلم يتوضّأ"(فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ) بضمّ الطاء المهملة بمعنى الطهارة، وأما بفتحها، فاسم لما يُتطهّر به، ولا يناسب هنا، لكن أثبت بعض اللغة أن المفتوح أيضًا يكون بمعنى الطهارة، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في أول "كتاب الطهارة"، فارجع إليه تزدد علمًا، وباللَّه تعالى التوفيق.

ومعنى إحسان الطُّهُور: أن يأتي بواجباته، ومستحباته.

(ثُمَّ يَعْمِدُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، أي يقصد، ويتوجّه، يقال: عَمَدتُ للشيء عَمْدًا، من باب ضرب، وعَمَد إليه: قصدتُ، وتعمّدتُهُ: قصدت إليه أيضًا

(2)

. (إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ)، أي مساجد المسلمين، وفي رواية النسائيّ:"ثم يمشي إلى صلاة"(إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا)"الْخَطْوَةُ"

(1)

"المرعاة شرح المشكاة" 3/ 520.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 428.

ص: 246

بفتح الخاء وضمها: واحدة الْخُطْو، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَطَوْتُ أَخْطُو خَطْوًا: مشيتُ، الواحدة خَطْوَة، مثل ضَرْب وضَرْبة، والْخُطْوة بالضم: ما بين الرجلين، وجمع المفتوح خَطَوَات على لفظه، مثل شَهْوَة وشَهَوَات، وجمع المضموم خُطَى، وخُطُوَات، مثل غُرْفَةٍ وغُرُفَات في وجوهها. انتهى.

وجملة "يخطوها" في محل جر صفة "خُطْوة"، وقوله:(حَسَنَةً) منصوب على المفعوليّة لـ "كَتَبَ".

(وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً) منصوب على أنه مفعول ثان (وَيَحُطُّ) بفتح أوّله، وضمّ ثانيه، أي يَضَعُ، ويمحو، يقال: حَطَطتُ الرَّحْلَ وغيره حَطًّا، من باب قَتَلَ: أنزلته من عُلو إلى سُفل، وحَطَطت من الدين أسقطت، قاله الفيّوميّ

(1)

، أي أزال (عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً) وفي رواية النسائيّ:"أو يرفع له بها درجةً، أو يكفّر عنه بها خطيئةً"، بـ "أو"، والظاهر أن "أو" فيه بمعنى الواو، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

وزاد في رواية النسائيّ أيضًا قوله: "ولقد رأيتنا نقارب بين الخطأ"، وهو: جمع خطوة بالضم، وهو مسافة ما بين الرِّجلين، أي نقارب المسافة التي بين الرِّجلين في حالة المشي إلى المساجد تكثيرًا لها، ليكثر الأجر والثواب، قال السندي في "شرحه": وينبغي أن يكون اختيار أبعد الطرق مثله، لكن لا يخفى أن فضل الْخُطَا لأجل الحضور في المسجد، والصلاة فيه، والانتظار لها فيه، فينبغي أن يكون نفس الحضور خيرًا منه، فليتأمل، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا) معاشر الصحابة رضي الله عنهم، أو جماعة المسلمين، وقال في "اللمعات": الرؤية ها هنا بمعنى العلم، ولذا اتّحد ضمير الفاعل والمفعول، وإن كانا مختلفين بالإفراد والجمع، وقوله:(وَمَا يَتَخَلَّفُ) سادّ مسدّ المفعول الثاني، والضمير الراجع إلى المفعول الأول محذوف. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 141.

(2)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 2/ 109.

(3)

راجع: "المرعاة" 3/ 518 - 519.

ص: 247

وقال الطيبيّ رحمه الله: قد تقرّر أن اتّحاد الفاعل والمفعول إنما يسوغ في أفعال القلوب، وأنها من الدواخل على المبتدأ والخبر، والمفعول الثاني الذي هو بمنزلة الخبر هنا محذوف، وسدّ قوله:"وما يتخلّف عنها" وهو حالٌ مسدّه.

وفي الرواية الماضية من طريق عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص:"قال عبد اللَّه: لقد رأيتنا، وما يتخلف عن الصلاة إلا منافقٌ، قد عُلِم نفاقه، أو مريضٌ، إن كان المريض ليمشي بين رجلين، حتى يأتي الصلاة".

قال الطيبيّ رحمه الله: وقوله: "إن كان" استئناف، والتنكير في "مَرِيضٌ" للتفخيم، أي ما يتخلّف إلا منافقٌ، أو مريضٌ بَيِّنُ المرض عاجز، فتوجّه لسائل أن يقول: فما بال المريض الذي ليس كذلك؟ فأُجيب: "إن كان المريض. . . إلخ".

وفيه من التشديد والتأكيد ما لا يخفى، من الإتيان بـ "إن" المخفّفة، واللام المؤكّدة الفارقة، والإبهام بإضمار ضمير الشأن، وخصوصيّة التهادي المنبئ عن كمال اعتنائه بشأن الجماعة، كلُّ ذلك تشديد وتأكيدٌ لترك التخلّف عن الجماعة. انتهى

(1)

.

(عَنْهَا) أي عن صلاة الجماعة في المسجد (إِلَّا مُنَافِقٌ، مَعْلُومُ النِّفَاقِ) ولأبي داود: "بَيِّنُ النفاق" أي ظاهر نفاقه (وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ) المراد به الرجل المريض (يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى) بالبناء للمفعول (بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ) وفي نسخة: "بين رجلين" بالتنكير، والمعنى: أنه يمشي بينهما، يمسكانه من جانبيه بعضديه، يَعْتَمِد عليهما، من ضعفه وتمايله؛ لشدة المرض، وهو من تهادت المرأة: إذا تمايلت (حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ) أي حتى يقيمه الرجلان في الصفّ، وفي هذا كله تأكيد أمر الجماعة، وتَحَمُّل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن المريضَ ونحوَهُ التوصل إليها ينبغي أن يحضرها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 1135 - 1136.

ص: 248

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 1488 و 1489](654)، و (أبو داود) في "الصلاة"(550)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(849) وفي "الكبرى"(922)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(777)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(313)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(1979)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 414 و 419 و 455)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1483)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2100)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1262 و 1263)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1461 و 1462)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8596 و 8597 و 8598 و 8599 و 8600 و 8601 و 8602 و 8603 و 8604 و 8605 و 8606 و 8607 و 8608 و 8609)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 58 و 59)، واللَّه تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب المحافظة على الصلوات الخمس حيث ينادى بهنّ.

2 -

(ومنها): أنه لا يجوز لأحد أن يتخلف عن صلاة الجماعة في المساجد إلا لعذر؛ لأنها من سنن الهدى التي جاء بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقام بها حقّ القيام، وحثّ عليها أمته.

3 -

(ومنها): أن من ترك الصلاة في الجماعة بدون عذر ضَلّ سعيه وخاب، وخَسِر.

4 -

(ومنها): فضل إكمال الوضوء، والمشي إلى المساجد، وأن كل خطوة يخطوها إليها تستوجب حسنةً، وترفع درجةً، وتكفر خطيئةً.

5 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من حرصهم على استكثار الخيرات، بحيث يقاربون بين الخطأ في المشي إلى المساجد، كما دلّت عليه الزيادة في رواية النسائيّ:"ولقد رأيتنا نقارب بين الخطأ".

6 -

(ومنها): بيان شدّة حرصهم على ملازمة صلاة الجماعة حتى في حالة شدّة المرض، فيخرجون إليها معتمدين على أيدي الرجال.

7 -

(ومنها): أن التخلُّف عن صلاة الجماعة من علامات النفاق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 249

(46) - (بَابُ النَّهْي عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ مَسْجِدٍ أُذِّنَ فِيهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1490]

(655) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ) بن جابر البجليّ الكوفيّ، صدوقٌ، ليّن الحفظ [5] تقدم في "الحيض" 12/ 756.

4 -

(أَبُو الشَّعْثَاءِ) سُليم بن الأسود بن حنظلة المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الطهارة" 19/ 622.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وإبراهيم بن مهاجر، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

ص: 250

[تنبيه]: إن قلت: كيف أخرج المصنّف: لإبراهيم بن مهاجر، مع أن الأكثرين على تضعيفه؟.

[قلت]: إنما أخرج له لأنه لم ينفرد به، فقد رواه أشعث، عن أبيه، وهو ثقةٌ بلا خلاف، فتكون رواية إبراهيم من باب المتابعة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: صنيع المصنّف رحمه الله هذا مما يبطل زعم بعضهم أن مسلمًا يقدّم دائمًا في أول الباب أحاديث الثقات، وقد تقدّم نظائر هذا، فتنبّه لهذا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ) سُلَيم بن الأسود بن حنظلة المحاربيّ، أنه قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَع أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه

(1)

. (فَقَامَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه" أيضًا: لا أعرفه، وفي رواية أبي داود:"فخرج رجل حين أذن المؤذن بالعصر"(مِنَ الْمَسْجِدِ) الظاهر أنه المسجد النبويّ، واللَّه تعالى أعلم (يَمْشِي) وفي رواية "أشعث"، عن أبيه التالية:"سمعت أبا هريرة، ورأى رجلًا يجتاز المسجد خارجًا بعد الأذان"، وفي رواية النسائيّ:"رأيت أبا هريرة، ومرّ رجل في المسجد بعد النداء، حتى قطعه"(فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ) أي جعله تابعًا له، يقال: أتبعتُ زيدًا عمرًا بالألف: إذا جعلته تابعًا له

(2)

. (حَتَّى خَرَجَ) الرجل (مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم) هذا الكلام مقابل لمحذوف؛ لأن "أما" هذه كما قال الطيبيّ للتفصيل، فتقتضي شيئين أو أكثر، فيكون التقدير: أما مَن ثبت في المسجد حتى صلى، فقد أطاع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، وأما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تأتي "أما" لغير تفصيل أصلًا، فلا تحتاج

(1)

"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم"(ص 145).

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 72.

ص: 251

إلى تقدير، كما بيّنه ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه"

(1)

وعلى هذا فلا حاجة هنا لتقدير شيء، فتنبّه.

والظاهر أن أبا هريرة رضي الله عنه عَلِم أن الرجل خرج بدون ضرورة مبيحة للخروج، كحاجة الوضوء مثلا، فلذا جزم بعصيانه.

قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد أن أخرج الحديث ما نصّه: أُمِر في هذا الخبر شيئان: أحدهما: وقد أذّن المؤذّن، وهو متوضئ، والثاني: وهو غير مؤدّ لفرضه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أراد ابن حبّان رحمه الله بهذا الكلام أن قول أبي هريرة رضي الله عنه للرجل: "أما هذا فقد عصى. . . إلخ" مقيّد بقيدين: أحدهما أن ذلك الرجل كان متوضّئًا، ولعل أبا هريرة رضي الله عنه كان يعرف منه ذلك، والثاني أنه لم يصلّ الصلاة التي أُذّن من أجلها، فلا يتناول التهديد هذا من كان غير متوضئ، وخرج للوضوء، وكذلك لا يتناول من خرج من المسجد الذي أُذّن فيه من أدّى الفرض، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول أبي هريرة رضي الله عنه هذا محمول على أنه حديث مرفوعٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدليل ظاهر نسبته إليه في معرِض الاحتجاج به، وما كان يليق بواحد منهم للذي عُلِم من دينهم، وأمانتهم، وضبطهم، وبُعدهم عن التدليس، ومواقع الإيهام، وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان، فأطلق لفظ المعصية، فإذا ثبت هذا استثمر منه أن من دخل المسجد لصلاة فرض، فأذَّن مؤذّن ذلك الوقت حَرُم عليه أن يَخرُج منه لغير ضرورة حتى يصلّي فيه تلك الصلاة؛ لأن ذلك المسجد تعيَّنَ لتلك الصلاة، أو لأنه إذا خرج قد يمنعه مانعٌ من الرجوع إليه أو إلى غيره، فتفوته الصلاة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله استنباطًا من أن أبا هريرة رضي الله عنه سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، سيأتي في المسألة الثالثة نصًّا أنه سمعه

(1)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 54 بحاشية الأمير.

(2)

"المفهم" 2/ 281.

ص: 252

منه صلى الله عليه وسلم، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

شرح الحديث:

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1490 و 1491](655)، و (أبو داود) في "الصلاة"(536)، و (الترمذيّ) فيها (204)، و (النسائيّ) في "الأذان"(683 و 684)، و"الكبرى"(1647 و 1648)، و (ابن ماجه) فيها (733)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2588)، و (الحميديّ) في "مسنده"(988)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 410 و 416 و 471 و 506 و 537)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 274)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2062)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 56)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1264 و 1265 و 1266)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1463 و 1464)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن الخروج من مسجد قد أُذِّن فيه قبل أداء الصلاة.

2 -

(ومنها): أن هذا التحريم مقيّد بمن لا عذر له؛ لقوله: "إلا لعذر، أخرجته حاجة، وهو يريد الرجوع"، وهو من مرسل ابن المسيّب، وهي صحيحة، كما يأتي قريبًا.

3 -

(ومنها): أن ظاهر الحديث يدل على تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان؛ لأنه -وإن كان موقوفًا- لكنه في حكم المرفوع؛ إذ مثل هذا لا يقال من قبل الرأي.

بل قد جاء ما يدلُّ على رفعه صريحًا، فقد أخرج الحديث أحمد من طريق المسعوديّ وشريك، كلاهما عن أشعث، عن أبي الشعثاء بنحوه، وزاد في حديث شريك: ثم قال: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم في المسجد،

ص: 253

فنودي بالصلاة، فلا يخرج أحدكم حتى يصلي"، وكذا ورد التصريح عند الطبرانيّ في "الأوسط" من رواية سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع النداء في مسجدي هذا، ثم يخرج منه لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق"، قال الهيثميّ رحمه الله: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذريّ: رواته محتجٌّ بهم في الصحيح.

وقوله: "مسجدي هذا" ليس للاحتراز عن غيره، كما يدلّ عليه ما أخرجه ابن ماجه بسنده إلى عثمان رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أدركه الأذان في المسجد، ثم خرج لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق".

وفي سنده عبد الجبار بن عمر الأيلي الأمويّ ضعيف، وإسحاق بن عبد اللَّه بن أبي فروة متروك، لكن يشهد له ما تقدّم من حديث الطبراني، ويشهد له أيضًا ما رَوَى أبو داود في "مراسيله"، والبيهقيّ في "الكبرى"

(1)

عن سعيد بن المسيّب: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء، إلا منافق، إلا لعذر، أخرجته حاجة، وهو يريد الرجوع".

ومراسيل سعيد بن المسيب قال أحمد: صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته، وقال الشافعيّ: إرسال ابن المسيّب عندنا حسن. أفاده في "المرعاة"

(2)

.

وقد صحح الشيخ الألبانيّ رحمه الله حديث عثمان رضي الله عنه

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن قول أبي هريرة رضي الله عنه: "فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" قد ثبت كونه مرفوعًا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في الخروج من المسجد بعد الأذان:

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقيّ 3/ 56.

(2)

راجع: "المرعاة شرح المشكاة" 3/ 522 - 523.

(3)

راجع: "صحيح ابن ماجه" 1/ 123.

ص: 254

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد ذكر الحديث ما نصُّهُ: وعلى هذا العمل عند أهل العلم، من الصحابة، ومن بعدهم أن لا يخرج أحدٌ من المسجد إلا من عذر، أن يكون على غير وضوء، أو أمر لا بدّ منه، ويُرْوَى عن إبراهيم النخعيّ أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة، وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه. انتهى.

وعن مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: يقال: لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا أحد يريد الرجوع إليه، إلا منافق.

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله في "التمهيد": وهذا لا يقال مثله من جهة الرأي، ولا يمكن إلا توقيفًا، وقد رُوي معناه مسندًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلذلك أدخلناه.

ثم أخرج بأسانيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، ثم قال: قال أبو عمر: أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يُصَلِّ، وكان على طهارة، وكذلك إذا كان قد صلى وحده، إلا لما لا يعاد من الصلوات، فإذا كان ما ذكرنا فلا يحلّ له الخروج من المسجد بإجماع إلا أن يخرج للوضوء، وينوي الرجوع.

واختلفوا فيمن صلى في جماعة، ثم أذن المؤذن وهو في المسجد لتلك الصلاة.

وقد كره جماعة من العلماء خروج الرجل من المسجد بعد الأذان، إلا للوضوء لتلك الصلاة بنيّة الرجوع إليها، وسواء صلى وحده، أو في جماعة، أو جماعات، وكذلك كرهوا قعوده في المسجد، والناس يصلون؛ لئلا يتشبه بمن ليس على دين الإسلام، وسواء صلى أو لم يصلّ.

والذي عليه مذهب مالك: أنه لا بأس بخروجه من المسجد إذا كان قد صلى تلك الصلاة في جماعة، وعلى ذلك أكثر القائلين بقوله، إلا أنهم يكرهون قعوده مع المصلين بلا صلاة، ويستحبون له الخروج والبعد عنهم.

قال مالك: دخل أعرابيّ المسجد، وأذن المؤذن، فقام يَحُلّ عِقَال ناقته ليخرج، فنهاه سعيد بن المسيِّب، فلم ينته، فما سارت به غير يسير حتى وقعت به، فأصيب في جسده، فقال سعيد: قد بلغنا أنه من خرج بين الأذان والإقامة

ص: 255

لغير وضوء، فإنه يصاب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أنه يحرم الخروج بعد الأذان حتى يصلي تلك الصلاة؛ للأدلة الصحيحة المذكورة، وأما أصحاب الأعذار، وكذا من أراد الرجوع فلا يحرم عليهم؛ لقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية [الأنعام: 119]؛ ولما تقدّم من الأحاديث التي فيها استثناء أصحاب الأعذار، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1491]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ

(2)

، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَرَأَى رَجُلًا يَجْتَازُ الْمَسْجِدَ، خَارِجًا بَعْدَ الْأَذَانِ، فَقَالَ: أمَّا هَذَا، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، صنّف "المسند"، ولازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل بابين.

3 -

(عُمَرَ بْنِ سَعِيد) بن مسروق الثوريّ، أخو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ [6].

ورَوَى عن أبيه، والأعمش، وعَمّار الدُّهْنيّ، وأشعث بن أبي الشعثاء، وزياد بن فَيّاض، وغيرهم.

وَروَى عنه أخوه مبارك بن سعيد، وابنه حفص بن عمر، وابن عيينة، وعمرو بن أبي قيس، وإبراهيم بن طهمان، وأبو بكر بن عياش.

(1)

"التمهيد" 24/ 212 - 214.

(2)

سقط من بعض النسخ قوله: "هو ابن عيينة".

ص: 256

قال النسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، ووَثَّقه الدارقطنيّ.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (655)، وحديث (1060):"أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أميّة. . ."، و (1968):"أعجل، أو أَرْني، ما أنهر الدم. . ." الحديث.

4 -

(أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ الْمُحَارِبِيُّ) الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 125)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

وقوله: (وَرَأَى رَجُلًا) جملة حاليّة من المفعول، بتقدير "قد" عند البصريين.

وقوله: (يَجْتَازُ الْمَسْجِدَ) أىِ يمرّ به، والجملة في محلّ نصب صفة لـ "رجلًا".

وقوله: (خَارِجًا بَعْدَ الْأَذَانِ) منصوب على الحال من فاعل "يجتاز"، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(47) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1492]

(656) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفانَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ

(1)

، فَقَعَدَ وَحْدَهُ، فَقَعَدْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

وفي نسخة: "بعدما صلّى المغرب".

ص: 257

يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الْحَنْظليّ، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ) أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

4 -

(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيم) بن عَبّاد بن حُنيف الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات قبل (140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ) الأنصاريّ النجاريّ، واسم أبي عمرة عمرو بن مِحْصَن، وقيل: ثعلبة بن عمرو بن مِحْصَن، وقيل: أُسَيد بن مالك، وقيل: يُسَير بن عمرو بن مِحْصن بن عَتِيك بن عمرو بن مبذول بن مالك بن النجّار، ثقةٌ، من كبار [3].

رَوَى عن أبيه، وعثمان بن عفان، وعبادة بن الصامت، وزيد بن خالد، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي هزيرة، وجدّته كبشة بنت ثابت أخت حسان.

ورَوَى عنه ابنه عبد اللَّه، وخارجة بن زيد بن ثابت، وخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، وشريك بن أبي نَمِر، وعبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، ومحمد بن يحيى بن حبان، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، وهلال بن أبي ميمونة، ومجاهد بن جبر، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وفي "صحيح مسلم"

(1)

عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة أن عبد الرحمن هذا كان قاصًّا بالمدينة، وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": ليست له صحبة. انتهى.

(1)

سيأتي -إن شاء اللَّه تعالى- في "كتاب التوبة" برقم (2758).

ص: 258

قال الحافظ رحمه الله: وهو يُفْهِم أنه روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، وقد ذكره مُطَيَّن في "الصحابة"، وأورد له حديثًا، وأورد له ابن السكن آخر، وذكره ابن سعد فيمن وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (656) و (1039) و (1719) و (2758) و (2964).

6 -

(عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس الأمويّ، أمير المؤمنين، ذو النورين، استُشهد رضي الله عنه في ذي الحجة سنة (35) وعمره (80)، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من عثمان بن حكيم، وشيخه مروزيّ، والباقيان بصريّان.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عثمان بن حكيم، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد السابقين إلى الإسلام، ذو مناقب جمّة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، أنه (قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) رضي الله عنه (الْمَسْجِدَ) أي النبويّ، فـ "أل" فيه للعهد (بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ) وفي نسخة:"بعدما صلّى المغرب"(فَقَعَدَ وَحْدَهُ) وفي رواية مالك في "الموطّأ" من طريق محمد بن إبراهيم التيميّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، أنه قال: جاء عثمان بن عفان إلى صلاة العشاء، فرأى أهل المسجد قليلًا، فاضطجع في مؤخَّر المسجد، ينتظر الناس أن يكثروا، فأتاه ابن أبي عمرة، فجلس إليه، فسأله من هو؟ فأخبره، فقال له: ما معك من القرآن؟ فأخبره، فقال عثمان:

ص: 259

"من شَهِد العشاء، فكأنما قام نصف ليلة، ومن شَهِد الصبح، فكأنما قام ليلة". انتهى

(1)

.

ولا تعارض بين هذا الموقوف، وبين المرفوع في رواية المصنّف؛ لأن عند من رفع زيادةَ علم، وزيادة الثقة الحافظ مقبولة، على أن الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَعَدْتُ إِلَيْهِ) أي إلى عثمان رضي الله عنه (فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي) أراد به أخوّة الإسلام، لا أخوّة النسب؛ لأنه قرشيّ، وعبد الرحمن أنصاريّ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ) أي مع صلاته العشاء في جماعة أيضًا، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الثالثة -إن شاء اللَّه تعالى- (فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ") قال القرطبيّ رحمه الله: معناه أنه قام نصفَ ليلة، أو ليلةً لم يُصَلِّ فيها العشاء والصبح في جماعة؛ إذ لو صلى ذلك في جماعة، لَحَصَل له فضلها، وفضل القيام.

وقال البيضاويّ رحمه الله: نَزَّل صلاة كلٍّ من طرفي الليل منزلة نوافل نصفه، ولا يلزم منه أن يبلغ ثوابه من قام الليل كله؛ لأن هذا تشبيه مطلق مقدار الثواب، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه، ولو كان قدر الثواب سواءً، لم يكن لمصلي العشاء والصبح جماعةً منفعةٌ في قيام الليل غير التَّعَبِ. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ المنذريّ رحمه الله في "الترغيب والترهيب": قال ابن خزيمة في "صحيحه": "باب فضل صلاة العشاء والفجر، وبيان أن صلاة الفجر في الجماعة أفضل من صلاة العشاء في الجماعة، وأن فضلها في الجماعة ضِعْفَا فضل العشاء في الجماعة"، ثم ذكر حديث عثمان رضي الله عنه هذا بنحو لفظ مسلم، قال المنذريّ: ولفظ أبي داود، والترمذيّ أي بلفظ:"ومن صلى العشاء والفجر في جماعة، كان له كقيام ليلة"، يدفع ما ذهب إليه. انتهى.

(1)

"الموطأ" بنسخة "التمهيد" 23/ 352.

(2)

"شرح الزرقانيّ على الموطأ" 1/ 388.

ص: 260

قال المباركفوريّ رحمه الله: الأمر كما قال المنذريّ رحمه الله. انتهى، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 1492 و 1493](656)، و (أبو داود) في "الصلاة"(555)، و (الترمذيّ) فيها (221)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 132)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2008)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 58 و 68)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 302)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1473)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2058 و 2059 و 2060)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1254 و 1255)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1465 و 1466)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 464 و 3/ 60 - 61)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(385)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.

2 -

(ومنها): بيان عظيم فضل اللَّه تعالى، وواسع رحمته على هذه الأمة، حيث جعل صلاة العشاء والفجر في جماعة تقوم مقام قيام ليلة كاملة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

3 -

(ومنها): أنه قد وفّق العلماء بين رواية مسلم هذه التي تقتضي بظاهرها أن من صلى العشاء والفجر في جماعة كان له قيام ليلة ونصف، وبين رواية أبي داود، والترمذيّ التي تدُلّ على أن له قيام ليلة، فقالوا: إن المراد بقوله: "ومن صلى الصبح في جماعة" في رواية مسلم، أي منضمًّا لصلاة العشاء جماعةً، قاله المناويّ، وقال القاري في "المرقاة" في شرح قوله:"فكأنما صلى الليل كله" أي بانضمام ذلك النصف، فكأنه أحيى نصف الليل

ص: 261

الأخير. انتهى، وهذا هو المتعين؛ جمعًا بين الروايتين

(1)

.

وقال في "عون المعبود": جعل بعضهم حديث مسلم على ظاهره، وأن جماعة العَتَمة توازي في فضيلتها قيام نصف ليلة، وصلاة الصبح في جماعة توازي في فضيلتها قيام ليلة، واللفظ الذي خرّجه أبو داود يفسِّره، ويُبَيِّن أن المراد بقوله:"ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله"، يعني ومن صلى الصبح والعشاء.

وطُرُق هذا الحديث مصرِّحة بأنّ كل واحد منهما يقوم مقام نصف ليلة، وأن اجتماعهما يقوم مقام ليلة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الجمع الذي ذُكر من أن المراد برواية المصنّف: "ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كلّه" أي مع صلاته العشاء جماعة، فالمجموع يكون كقيام ليلة، ومما يبيّن هذا التأويل، ما أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" بإسناد صحيح، بلفظ:"من صلّى العشاء والغداة في جماعة، فكأنما قام الليل"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1493]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ، عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن الزبير بن عُمَر بن درهم، أبو أحمد الزبيريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أنه قد يُخطئ في

(1)

راجع: "تحفة الأحوذي" 2/ 11.

(2)

"عون المعبود" 2/ 183.

ص: 262

حديث الثوريّ

(1)

[9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

5 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة المشهور [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

و"أبو سهل" هو: عثمان بن حكيم المذكور في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد عثمان بن حكيم الماضي، وهو: عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن عثمان رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ) يعني أن سفيان الثوريّ حدّث عن عثمان بن حكيم، مثل حديث عبد الواحد بن زياد، عنه.

[تنبيه]: رواية سفيان هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 252) فقال:

(1466)

أخبرنا سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن الثوريّ (ح) وحدّثنا أبو عليّ الصوّاف، ثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، ثنا عبد الرحمن، وعبد الرزاق، قالا: سفيان

(2)

، عن عثمان بن حكيم، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن عثمان بن عفان، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة العشاء والصبح في جماعة، فهو كقيام ليلة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1494]

(657) - (وَحَدَّثَنِي

(3)

نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ،

(1)

لكنه هنا مما لم يُخطئ فيه؛ لأن مسلمًا أخرجه من طريقه؛ لكونه محفوظًا، وأيضًا تابعه عليه عبد الرزّاق، فلم ينفرد به، فتنبّه.

(2)

هكذا النسخة، والظاهر أنه سقط لفظ:"حدّثنا"، فليُحرّر.

(3)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 263

يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ

(1)

، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ، فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَلَا يَطْلُبَنَكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَيُدْرِكَهُ، فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِي الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(بِشْرُ بْنُ مُفَضَّل) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(خَالِدُ) بن مِهْرَان الحذّاءُ، أبو الْمَنَازل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

4 -

(أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أبو موسى، وقيل: أبو حمزة، وقيل: أبو عبد اللَّه البصريّ، أخو محمد بن سيرين، وُلِد لسنة، أو لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ودخل على زيد بن ثابت، ثقةٌ [3].

رَوَى عن مولاه، وابن عباس، وابن عمر، وجُندَب البجليّ، وأبي زيد بن أخطب، وشُرَيح القاضي، وأبي مِجْلَز، وجماعة.

ورَوَى عنه شعبة، والحمادان، وابن عون، وخالد الحذّاء، وهشام بن حسان، وهمام بن يحيى، ويونس بن عبيد، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال محمد بن عيسى بن السكن الواسطيّ، عن ابن معين: أولَادُ سيرين ستة

(2)

: أثبتهم محمد، وأنس دونه، ولا بأس به، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة.

قال خليفة: مات سنة (118)، وقال أحمد: مات سنة (120)، وقال ابن سعد: تُوُفّي بعد أخيه محمد، وكان ثقةً، قليلَ الحديث.

(1)

وفي نسخة: "ابن المفضّل".

(2)

تقدّم أن أولاد سيرين ثلاثة وعشرون، والمشهور برواية الحديث ستة، أربعة من الذكور: محمد، وأنس، ويحيى، ومعبد، واثنتان من النساء: حفصة، وكريمة.

ص: 264

وحكى أبو الوليد الباجيّ في "كتاب رجال البخاريّ" عن عليّ ابن المدينيّ أنه سئل عن حديثٍ رواه شعبة، عن أنس بن سيرين، قال:"رأيت القاسم يتطوع في السفر"، فقال: ليس هذا بشيء، لم يرو أنس، عن القاسم شيئًا. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث، برقم (657) وأعاده بعده، و (677) و (702) و (749) و (1438) و (1471) وأعاده بعده.

5 -

(جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن سفيان البجَليّ، ثم الْعَلَقيّ، أبو عبد اللَّه الصحابيّ رضي الله عنه، مات بعد الستّين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وجُندب رضي الله عنه كان بالكوفة، ثم خرج إلى البصرة، ثم خرج منها، قاله البخاريّ رحمه الله

(1)

.

5 -

(ومنها): رواية تابعيّ، عن تابعيّ: خالد الحذّاء، عن أنس بن سيرين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنه، وفي الرواية الثالثة:"عن جندب بن سفيان"، وهو جندب بن عبد اللَّه بن سفيان، نسب هنا لأبيه، وهناك لجدّه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة، جوابها جملة: "فهو. . . إلخ" (صَلَّى الصُّبْحَ) قيل: معناه صلّاها في جماعة، والظاهر العموم، واللَّه تعالى أعلم.

(فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ) أي في عهده، أو ضمانه، أو أمانه في الدنيا والآخرة،

(1)

"التاريخ الكبير" 1/ 2/ 122.

ص: 265

وهذا غير الأمان الذي ثبت له بكلمة التوحيد (فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ) أي لا يؤاخذكم، وهو من باب:"لا أرينّك ههنا"، والمراد نهيهم عن أذيّته، والتعرّض لما يوجب مطالبة اللَّه إياهم

(1)

. (مِنْ ذِمَّتِهِ)"من" بمعنى "لأجل"، والضمير في "ذمّته" إما للَّه تعالى، وإما لـ "مَنْ" وفيه مضاف محذوف، أي لأجل ترك ذمّته، أو "من" بيانيّة، والجارّ والمجرور حالٌ عن "شيء"؛ لأنه في الأصل نعت له، فلما قُدّم عليه أعرب حالًا؛ لأن القاعدة أن نعت النكرة إذا قُدّم عليها يُعرب حالًا، كما في قول الشاعر:

لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ

يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ

(بِشَيْءٍ) أي يسير، وفي "المصابيح":"بشيء من ذمّته": قيل: أي بنقض عهده، والتعرّض لمن له ذمّة بالأذى، أو المراد بالذّمّة الصلاة الموجبة للأمان، أي لا تتركوا صلاة الصبح، فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربّكم، فيطلبكم به

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لا يطلبنّكم اللَّه" من باب: "لا أرينّك ها هنا" وقع النهي على مطالبة اللَّه تعالى إياهم عن نقض العهد، والمراد نهيهم عن التعرّض لما يوجب مطالبة اللَّه إياهم، وفيه مبالغات؛ لأن الأصل: لا تُخْفِروا ذمّته، فجيء بالنهي كما ترى، وصرّح بضمير اللَّه، ووضع المنهيّ الذي هو مسبَّبٌ موضعَ التعرّض الذي هو سبب فيه، ثم أعاد المطلب، وكرّر الذمّة، ورتَّبَ عليه الوعيد.

والمعنى: من صلّى صلاة الصبح، فهو في ذمّة اللَّه تعالى، فلا تتعرّضوا له بشيء يسير، فإنكم إن تعرّضتم له يُدرككم اللَّه تعالى، ولن تفوتوه، فيُحيط بكم من جوانبكم، كما يُحيط المحيط بالمحاط، ويكبّكم في النار.

قال: والضمير في "ذمّته" يجوز أن يعود إلى اللَّه تعالى، وإلى "مَنْ".

وقيل: يَحْتَمِلُ أن يكون المراد بالذمّة الصلاة المقتضية للأمان، فيكون المعنى: لا تتركوا صلاة الصبح، فينتقض العهد الذي بينكم، وبين ربّكم، فيطلُبكم به.

(1)

"المرعاة" 2/ 234.

(2)

"المرعاة" 2/ 234.

ص: 266

وإنما خصّ صلاة الصبح بالذكر؛ لما فيها من الْكُلْفَة والمشقّة، وأداؤها مظنّة خلوص الرجل، ومَئِنّة إيمانه، ومن كان مؤمنًا خالصًا، فهو في ذمّة اللَّه تعالى وعهده. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيد، واللَّه تعالى أعلم.

(فَيُدْرِكَهُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإدراك، وهو منصوب؛ لوقوعه بعد الفاء السببيّة، كما في قوله تعالى:{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36]، قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

والضمير المنصوب لـ "شيء"(فَيَكُبَّهُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، أي يقلبه على وجهه، يقال: كَبَبتُ الإناء كَبًّا، من باب نصر: قَلَبتُهُ على رأسه، وكَبَبتُ زيدًا كَبًّا أيضًا: ألقيته على وجهه، فأكبّ هو بالألف، وهو من الأفعال النوادر التي يتعدّى ثلاثيّها، ويلزم رباعيّها، وفي التنزيل العزيز:{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90]، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: 22]، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

والضمير المنصوب لـ "شيء" أيضًا على حذف مضاف، أي صاحبه، وقوله:(فِي نَارِ جَهَنَّمَ") متعلّق بـ "يكبّه"، وفي الرواية التالية:"فلا يطلبنّكم اللَّه من ذمّته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمّته بشيء يُدْركه، ثم يكُبّه على وجهه في نار جهنّم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد اللَّه رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [47/ 1494 و 1495 و 1496](657)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(222)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3946)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(938)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1683 و 1684)،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 896.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 523.

ص: 267

و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1743)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1276 و 1277 و 1278 و 1279 و 1280)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1467 و 1468) وفي "الحلية"(3/ 96)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 464)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل صلاة الصبح.

2 -

(ومنها): بيان أن العبد إذا صلّى الصبح دخل في ذمة اللَّه عز وجل، وفي جواره، قد استجار باللَّه تعالى، واللَّه تعالى قد أجاره، فلا ينبغي لأحد أن يتعرّض له بضرّ، أو أذى، فمن فعل ذلك، فاللَّه يطلُب بحقّه، ومن يطلبه اللَّه تعالى لم يجد مَفَرًّا، ولا مَلْجَأً، وهذا وعيدٌ شديدٌ لمن يتعرّض للمصلّين.

3 -

(ومنها): بيان انتقام اللَّه تعالى ممن يتعرّض لعباده الصالحين، فهو بمعنى الحديث الذي أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه قال: من عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يَكْرَه الموت، وأنا أكره مُساءته". انتهى.

4 -

(ومنها): بيان أن اللَّه تعالى لن يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولن يفوته أحد أراد الانتقام منه، فهو كقوله عز وجل:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1495]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ

(1)

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 268

إِسْمَاعِيلُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا الْقَسْرِيَّ

(1)

يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ) ابن عليّة، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، و"خالد" هو الحذّاء.

وقوله: (جُنْدَبًا الْقَسْرِيَّ) وفي نسخة: "جندب بن عبد اللَّه القسريّ"، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "القَسْريّ" هو بفتح القاف، وإسكان السين المهملة، وقد توقّف بعضهم في صحة قولهم:"القسريّ"؛ لأن جندبًا ليس من بني قَسْر، وإنما هو بَجَليّ عَلَقِيّ، وعَلَقَة بطن من بَجِيلة، هكذا ذكره أهل التواريخ والأنساب والأسماء، وقَسْرٌ: هو أخو عَلَقَة. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "جندبًا القسريّ" كذا للجلوديّ، وسقط لغيره، وهو غير معروف في نسبه، وإنما هو بجليّ عَلَقيّ، وعَلَق بطن من بَجِيلة، كذا قال البخاريّ، وقال أبو نصر الحافظ: هو علقة بن عبقر بن بَجِيلة، وقَيْر بن عبقر بن بَجِيلة، قال القاضي: ولعل لجندب حِلْفًا في بني قَسْر، أو سَكَنًا، أو جِوَارًا، فنُسب إليها لذلك، أو لعل بني عَلَقَة يُنسَبُون إلى عمهم قسر، كغير واحد من القبائل، يُنسَبون بنسبة بني عمهم؛ لكثرتهم، أو شهرتهم. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ) الضمير في "فإنه" للشأن، والضمير المسكنّ في "يطلبه" للَّه، والبارز لـ "مَنْ".

(1)

وفي نسخة: "جندب بن عبد اللَّه القسريّ".

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 158.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 630.

ص: 269

وقوله: (مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ) يعني من يطلبه اللَّه تعالى للمؤاخذة بما فرّط من حقّه، والقيام بعهده يُدركْهُ اللَّه تعالى؛ إذ لا يفوته هارب.

وقوله: (ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) أي يُلقيه اللَّه تعالى على وجهه في نار جهنّم أعاذنا اللَّه تعالى منها بمنه وكرمه، آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1496]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ

(1)

: "فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

3 -

(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) القُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، يرسل كثيرًا، ويُدلّس، رأس الطبقة [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.

5 -

(جُنْدَبُ بْنُ سُفْيَانَ) هو: جندب بن عبد اللَّه بن سفيان الصحابي المذكور في السند السابق.

وقوله: (بِهَذَا) أي بالحديث السابق.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ. . . إلخ) وفي نسخة: "ولم يذكر فيه. . . إلخ"، وهو

(1)

وفي نسخة: "ولم يذكر فيه".

ص: 270

بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير الحسن، يعني أن الحسن لم يذكر في روايته قوله:"فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ".

[تنبيه]: رواية الحسن، عن جندب رضي الله عنه هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 252) فقال:

(1468)

حدّثنا محمد بن عبد الرحمن بن مخلد، ثنا سهل بن موسى، ثنا محمد بن بشار بندار (ح) وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أبو بكر بن أبي عاصم، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قالا: ثنا يزيد بن هارون، أنبا داود بن أبي هند، عن الحسن، عن جندب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح، فهو في ذمة اللَّه، فإياك يا ابن آدم، أن يطلبك اللَّه بشيء من ذمته". انتهى، ونحوه لأبي عوانة في "مسنده"(1/ 356).

[تنبيه آخر]: إن قلت: كيف أخرج المصنّف رحمه الله رواية الحسن، عن جندب رضي الله عنه، وهي منقطعة، على ما روي عن ابن أبي حاتم في "المراسيل" أن الحسن لا يصحّ له سماع من جندب؟.

[قلت]: إنما أخرجه المصنّف رحمه الله من باب المتابعة، فقد أخرج الحديث قبل هذا متّصلًا من رواية أنس بن سيرين، عن جندب رضي الله عنه، ومن القواعد المشهورة أنه قد يُغتفر في المتابعات والشواهد ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه بهذه الدقائق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(48) - (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِعُذْرٍ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1497]

(33) - (حَدَّثَنِي

(1)

حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّ

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 271

عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، مِنَ الْأَنْصَارِ، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي، وَإِذَا كَانَتِ الْأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ، فَأُصَلِّيَ لَهُمْ، وَدِدْتُ أَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْتِي، فَتُصَلِّي في مُصَلًّى، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى

(1)

، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَأَفْعَلُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ:"أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ "، قَالَ: فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرَ، فَقُمْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى

(2)

رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، قَالَ: وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرٍ، صَنَعْنَاهُ لَهُ

(3)

، قَالَ: فَثَابَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ حَوْلَنَا، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ، ذَوُو عَدَدٍ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ، لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ، أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ "

(4)

، قَالَ: قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّمَا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ لِلْمُنَافِقِينَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ".

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ، وَهُوَ مِنْ سَرَاتَّهِمْ، عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ

(1)

وفي نسخة: "في مصلّى في بيتي، فأتّخذه مصلّى".

(2)

وفي نسخة: "فكبّر، وقمنا وراءه، فصلّى بنا".

(3)

وفي نسخة: "صنعنا له في البيت".

(4)

وفي نسخة: "يبتغي بها وجه اللَّه".

ص: 272

ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197) وله (72) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب بن عبد اللَّه بنَ الحارث بن زُهْرة بن كلاب القرشيّ الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ، من رؤوس الطبقة [4](ت 125) وقيل غير ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ) هو: محمود بن الربيع بن سُرَاقة بن عمرو الخزرجيّ، أبو نعيم، أو أبو محمد المدنيّ، صحابيّ صغير، وجلّ روايته عن الصحابة رضي الله عنهم (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

6 -

(عِتْبَانُ بْنُ مَالِك) بن عمرو العَجْلانيّ الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه في خلافة معاوية رضي الله عنه، (خ م كد س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ: محمود، عن عتبان رضي الله عنهما.

5 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، إلا في قوله:"عن ابن شهاب"، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ (أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ الرَّبِيعِ) بفتح الراء، مكبّرًا (الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَهُ) أي حدّث ابن شهاب (أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ) الخزرجيّ السالميّ، من بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وهو -بكسر

ص: 273

العين المهملة، وبعدها تاء مثنّاة من فوقُ ساكنة، ثم باء موحدة- قال النوويّ: وهذا الذي ذكرناه من كسر العين، هو الصحيح المشهور الذي لم يَذْكُر الجمهور سواه، وقال صاحب "المطالع": وقد ضبطناه من طريق ابن سَهْل بالضم أيضًا. انتهى

(1)

.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان بن زيد بن غَنْم بن سالم بن عوف، شهد بدرًا وأُحدًا -كما في هذا الحديث- ولم يذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرًا، وكان ذهب بصره في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يؤم قومه وهو ضرير البصر وهو شيخ كبير إلى أن توفي في زمن معاوية

(2)

.

(وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا) -بفتح الموحّدة، وسكون الدال المهملة-: هي اسم بئر بين مكة والمدينة، كانت بها الوقعة المشهورة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والبئر نُسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة

(3)

، وكانت هذه الوقعة في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة (مِنَ الأَنْصَارِ) بالفتح: هم: جماعة من أهل المدينة من الصحابة رضي الله عنه، من أولاد الأوس والخزرج، قيل لهم: الأنصار؛ لنُصْرتهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ثابت، عن أنس، عن عتبان عند مسلم

(5)

أنه بعث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فيَحْتَمِل أن يكون نَسَب إتيان رسوله إلى نفسه مجازًا، ويَحْتَمِل أن يكون أتاه مرّة، وبعث إليه أخرى، إما مُتقاضِيًا، وإما مُذكِّرًا.

وفي الطبرانيّ من طريق أبي أويس، عن ابن شهاب بسنده، أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم يوم جمعة:"لو أتيتني يا رسول اللَّه، وفيه أنه أتاه يوم السبت"، وظاهره أن مخاطبة عتبان بذلك كانت حقيقةً لا مجازًا، قاله في "الفتح"

(6)

.

(1)

"شرح مسلم" 1/ 242.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 3/ 176.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 88.

(4)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64.

(5)

تقدّمت في "كتاب الإيمان" برقم [157](33).

(6)

"الفتح" 1/ 619.

ص: 274

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي) كذا ذكره جمهور أصحاب ابن شهاب، كما للمصنف من طريق يونس، وللبخاريّ من طريق إبراهيم بن سعد، ومعمر، وللطبرانيّ من طريق الزُّبَيْديّ، والأوزاعيّ، وله من طريق أبي أُويس:"لَمّا ساء بصري"، وللإسماعيليّ من طريق عبد الرحمن بن نَمِر:"جَعَلَ بصري يَكِلُّ"، وللمصنّف من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت المتقدّمة في "الإيمان":"أصابني في بصري بعض الشيء"، وكلُّ ذلك ظاهر في أنه لم يكن بَلَغَ الْعَمَى إذ ذاك.

لكن أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من طريق مالك، عن ابن شهاب، فقال فيه:"إن عتبان كان يؤم قومه، وهو أعمى، وأنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر. . ." الحديث، وقد قيل: إن رواية مالك هذه مُعارِضة لغيره.

قال الحافظ رحمه الله: وليست عندي كذلك، بل قول محمود: إن عتبان كان يؤم قومه، وهو أعمى، أي حين لقيه محمود، وسمع منه الحديث، لا حين سؤاله للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويبيّنه قوله في رواية يعقوب:"فجئت إلى عتبان، وهو شيخ أعمى، يؤمُّ قومه".

وأما قوله: "وأنا رجل ضرير البصر" أي أصابني فيه ضرٌّ، كقوله:"أنكرت بصري".

ويؤيد هذا الحمل قوله في رواية ابن ماجه، من طريق إبراهيم بن سعد أيضًا:"لَمَّا أنكرت من بصري"، وقوله في رواية مسلم الماضية:"أصابني في بصري بعض الشيء"، فإنه ظاهرٌ في أنه لم يَكْمُل عماه، لكن رواية مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت الماضية في "كتاب الإيمان"، بلفظ:"إنه عَمِيَ، فأرسل. . .".

وقد جمع ابنُ خزيمة بين رواية مالك وغيره من أصحاب ابن شهاب، فقال: قوله: "أنكرت بصري" هذا اللفظ يُطْلَق على مَن في بصره سوء، وإن كان يبصر بَصَرًا ما، وعلى من صار أعمى لا يبصر شيئًا. انتهى.

والأولى أن يقال: أَطلَق عليه عَمِيَ؛ لقربه منه، ومشاركته له في فوات

ص: 275

بعض ما كان يَعْهَده في حال الصحة، وبهذا تأتلف الروايات. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

(وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي) أي لأجلهم، والمراد أنه كان يؤمُّهم، وصَرَّح بذلك أبو داود الطيالسيّ، عن إبراهيم بن سعد.

(وَإِذَا كَانَتِ الْأَمْطَارُ)"كان" هنا تامّةٌ، أي نزلت، ويَحْتَمِل أن تكون ناقصةً، وخبرها محذوف، أي نازلةً (سَالَ الْوَادِي) أي سال الماء في الوادي، فهو من إطلاق المحلّ على الحالّ، وللطبرانيّ من طريق الزُّبَيديّ:"وإن الأمطار حين تكون يمنعني سيل الوادي".

وقوله: (الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) وفي رواية الإسماعيليّ: "يَسيل الوادي الذي بين مسكني وبين مسجد قومي، فيحول بيني وبين الصلاة معهم".

(وَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ، فَأُصَلِّيَ لَهُمْ) بالنصب عطفًا على "آتي"(وَدِدْتُ) -بكسر الدال الأولى-: أي تَمَنَّيتُ، وحَكَى القزّاز جواز فتح الدال في الماضي، والواو في المصدر، والمشهور في المصدر الضمّ، وحكى فيه أيضًا الفتح، فهو مثلَّثٌ، قاله في "الفتح".

وفي "المصباح": وَدِدتُهُ أَوَدّه، من باب تَعِبَ وُدًّا، بفتح الواو وضمّها: أحببتُهُ، والاسم المودّة، وَوَدِدْتُ لو كان كذا أَوَدُّ أيضًا وُدًّا، ووَدَادَةً بالفتح: تمنّيتُهُ، وفي لغة وَدَدْتُ أَوَدُّ بفتحتين، حكاها الكسائيّ، وهو غلطٌ عند البصريين، وقال الزّجّاجْ لم يقل الكسائيّ إلا ما سَمِعَ، ولكنه سمعه ممن لا يوثق بفصاحته. انتهى

(2)

.

(أَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْتِي) بفتح الهمزة؛ لوقوعها في موضع المفعول به لـ "وَدِدتُ"، والتقدير: وودِدتُ إتياك، قال في "الخلاصة":

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ

مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

(فَتُصَلِّي) بسكون الياء؛ لأنه مرفوع عطفٌ على "تأتي"، ويجوز النصب؛ لوقوع الفاء التي بعد التمني المستفاد من الودادة، قاله في "العمدة"

(3)

. (فِي

(1)

"الفتح" 1/ 619.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 653.

(3)

"عمدة القاري" 4/ 248.

ص: 276

مُصَلًّى) أي في مكان صلاة، وفي بعض النسخ:"في مصلّى في بيتي"(فَأَتَّخِذَهُ) بالرفع، ويجوز النصب، كما في "فتصلّي" (مُصَلًّى) أي مكان صلاة (قَالَ) عتبان رضي الله عنه (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"سَأَفْعَلُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ") علّقه بمشيئة اللَّه تعالى؛ عملًا بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] قال الكرمانيّ: وليس لمجرّد التبرّك؛ إذ محلّ استعماله إنما هو فيما كان مجزومًا به. انتهى

(1)

.

قال في: "الفتح": ويجوز أن يكون للتبرك؛ لاحتمال اطلاعه صلى الله عليه وسلم بالوحي على الجزم بأن ذلك سيقع. انتهى

(2)

.

(قَالَ عِتْبَانُ) رضي الله عنه، قال في "الفتح": ظاهر هذا السياق أن الحديث من أوله إلى هنا من رواية محمود بن الربيع، بغير واسطة، ومن هنا إلى آخره من روايته عن عتبان، صاحب القصة، وقد يقال: القدر الأول مرسلٌ؛ لأن محمودًا يَصْغُر عن حضور ذلك، لكن وقع التصريح في أوله بالتحديث بين عتبان ومحمود من رواية الأوزاعيّ، عن ابن شهاب، في رواية مسلم الآتية آخر البيت، وكذا وقع تصريحه بالسماع عند البخاريّ من طريق معمر، ومن طريق إبراهيم بن سعد، فيُحْمَل قوله: قال عتبان على أن محمودًا أعاد اسم شيخه اهتمامًا بذلك؛ لطول الحديث، أفاده في "الفتح"

(3)

.

(فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) زاد الإسماعيليّ: "بالغد"، وللطبرانيّ من طريق أبي أويس، أن السؤال وقع يوم الجمعة، والتوجه إليه وقع يوم السبت (وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) رضي الله عنه لم يذكر جمهور الرواة عن ابن شهاب غيره، حتى إن في رواية الأوزاعيّ:"فاستأذنا، فأذنت لهما"، لكن في رواية أبي أُويس:"ومعه أبو بكر وعمر"، وتقدّم للمصنّف في "الإيمان" من طريق أنس، عن عتبان:"فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن شاء اللَّه من أصحابه"، وللطبراني من وجه آخر، عن أنس:"في نفر من أصحابه".

فيَحْتَمِل الجمع بأن أبا بكر صَحِبَه وحده في ابتداء التوجه، ثم عند الدخول، أو قبله اجتمع عمر وغيره من الصحابة، فدخلوا معه (حِينَ ارْتَفَعَ

(1)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 248.

(2)

"الفتح" 1/ 620.

(3)

"الفتح" 1/ 620.

ص: 277

النَّهَارُ، فَاستَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ) قال القاضي عياض رحمه الله: زعم بعضهم أن قوله: "حتى دخل" غَلَط، وليس كذلك، بل المعنى: فلم يجلس في الدار ولا غيرها حتى دخل البيت مبادرًا إلى ما جاء بسببه، وفي رواية يعقوب عند البخاريّ، وكذا عند الطيالسيّ:"فلما دخل لم يجلس حتى قال: أين تُحِبّ"، وكذا للإسماعيليّ من وجه آخر، وهي أبين في المراد؛ لأن جلوسه إنما وقع بعد صلاته، بخلاف ما وقع منه في بيت مُليكة، حيث جلس، فأكل، ثم صلى؛ لأنه هناك دُعِي إلى الطعام، فبدأ به، وهنا دُعِي إلى الصلاة، فبدأ بها، قاله في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ: "أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ ") قال في "الفتح": كذا للأكثر، والجمهور من رُواة الزهريّ، ووقع عند الكشميهني وحده:"في بيتك". انتهى (قَالَ) عتبان (فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ) أي جهة (مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَبَّرَ، فَقُمْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى) وفي نسخة: فكبّر، وقمنا وراءه، فصلّى بنا" (رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، قَالَ) عتبان (وَحَبَسْنَاهُ) أي منعناه من الرجوع (عَلَى خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ لَهُ)

(2)

وفي بعض النسخ: "على خزير صنعنا له في البيت"، وفي رواية البخاريّ:"على خزيرة صنعناها له" بهاء التأنيث، هي: -بخاء معجمة مفتوحة، بعدها زاي مكسورة، ثم ياء تحتانية، ثم راء، ثم هاء-: نوعٌ من الأطعمة، قال ابن قتيبة: تُصْنَع من لحم يُقَطَّع صغارًا، ثم يُصَبّ عليه ماءٌ كثيرٌ، فإذا نَضِجَ ذُرَّ عليه الدقيق، وإن لم يكن فيه لحم، فهو عَصِيدة، وكذا ذكر يعقوب نحوه، وزاد:"من لحم بات ليلةً"، قال: وقيل: هي حِسَاءٌ من دقيق، فيه دَسَمٌ، وحَكَى في "الْجَمْهَرة" نحوه، وحَكَى الأزهريّ، عن أبي الهيثم: أن الخزيرة من النُّخَالة، وكذا حكاه البخاريّ في "كتاب الأطعمة" عن النضر بن شُميل، قال عياض: المراد بالنخالة دقيقٌ لم يُغَرْبَل.

قال الحافظ: ويؤيد هذا التفسير قوله في رواية الأوزاعيّ عند مسلم الآتية: "على جَشِيشة" بجيم ومعجمتين، قال أهل اللغة: هي أن تُطْحَن الحنطة قليلًا، ثم يُلْقَى فيها شحمٌ، أو غيره.

(1)

"الفتح" 1/ 620.

(2)

وفي نسخة: "صنعنا له في البيت".

ص: 278

وقال ابن رجب رحمه الله: "والخزيرة": مرقةٌ تُصْنَع من النخالة، وقيل: من الدقيق -أيضًا-، وقيل: إنه لا بد أن يكون معها شيء من دَسَم من شحم أو لحم، وخص بعضهم دسمها باللحم خاصة. انتهى

(1)

.

وفي "المطالع": أنها رُويت في "الصحيحين" بحاء وراءين مهملات، وحَكَى البخاريّ في "الأطعمة" عن النضر أيضًا أنها -أي التي بمهملات- تُصْنَعُ من اللبن. انتهى

(2)

.

(قَالَ) عتبان (فَثَابَ رِجَالٌ) -بمثلثة، وبعد الألف موحدةٌ- أي جاءوا متواترين، بعضهم في إثر بعض، قاله ابن رجب

(3)

.

وقال في "الفتح": أي اجتمعوا بعد أن تفرقوا، قال الخليل: المثابة: مُجْتَمع الناس بعد افتراقهم، ومنه قيل للبيت: مثابةٌ، وقال صاحب "المحكم": يقال: ثاب: إذا رجع، وثاب: إذا أقبل.

(مِنْ أَهْلِ الدَّارِ) أي دار بني سالم بن عوف، وهم قوم عتبان، و"الدار": المحلّة، كقوله:"خير دور الأنصار دار بني النجار": أي محلتهم، والمراد أهلها، ويقال: الدار القبيلة أيضًا، وإنما جاءوا لسماعهم بقدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم

(4)

، وقوله:(حَوْلَنَا) منصوب على الظرفيّة متعلّق بحال من "أهل الدار"(حَتَّى اجْتَمَعَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ، ذَوُو عَدَدٍ) أي كثيرون (فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) لم يُسمّ هذا المبتدئ (أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟) -بضم الدال والشين، وسكون الخاء بينهما، وحُكِي كسر أوله- وفي رواية معمر:""فقال رجلّ منهم: أين مالك بن الدُّخْشُن، أو ابن الدُّخيشن" -بضم الدال المهملة، وفتح الخاء المعجمة، وسكون الياء التحتانية بعدها شين معجمة مكسورة، مصغّرًا-.

قال في "الفتح": والشكّ فيه من الراوي، هل هو مصغرٌ أو مكبرٌ؟، وفي رواية المستملي هنا -أي في "الصلاة" عند البخاريّ- في الثانية بالميم بدل النون، وفي "المحاربين" من رواية معمر:"الدُّخْشُن" بالنون مكبرًا من غير

(1)

"شرح البخاري" لابن رجب 3/ 188.

(2)

"الفتح" 1/ 620 - 621.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب 3/ 188.

(4)

"عمدة القاري" 4/ 249.

ص: 279

شكّ، وكذ لمسلم من طريق يونس-يعني هذه الرواية- وله من طريق معمر -يعني الرواية التالية- بالشك.

ونَقَلَ الطبرانيّ عن أحمد بن صالح أن الصواب "الدُّخْشُم" بالميم، وهي رواية الطيالسيّ، وكذا لمسلم من طريق ثابت، عن أنس، عن عتبان -يعني الماضية في "الإيمان"-، والطبرانيّ من طريق النضر بن أنس، عن أبيه.

(فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ، لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قال في "الفتح": قيل: هذا القائل هو عتبان راوي الحديث، قال ابن عبد البرّ في "التمهيد": الرجل الذي سارّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتل رجل من المنافقين، هو عتبان، والمنافق المشار إليه هو مالك بن الدُّخْشُم، ثم ساق حديث عتبان المذكور في هذا الباب، وليس فيه دليلٌ على ما ادّعاه من أن الذي سارّه هو عتبان.

وأغرب بعض المتأخرين، فنَقَلَ عن ابن عبد البر أن الذي قال في هذا الحديث:"ذلك منافق" هو عتبان أخذًا من كلامه هذا، وليس فيه تصريح بذلك.

وقال ابن عبد البرّ: لم يُخْتَلَف في شهود مالك بدرًا، وهو الذي أَسَرَ سهيل بن عمرو، ثم ساق بإسناد حسن عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن تكلم فيه:"أليس قد شهد بدرًا؟ ".

وفي "المغازي" لابن إسحاق: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث مالكًا هذا، ومَعْن بن عديّ، فَحَرَّقا مسجد الضِّرار، فدَلَّ على أنه بريء مما اتُّهِم به من النفاق، أو كان قد أقلَعَ عن ذلك، أو النفاق الذي اتُّهِم به ليس نفاق الكفر، إنما أنكر الصحابة عليه تودُّدَه للمنافقين، ولعل له عذرًا في ذلك، كما وقع لحاطب. انتهى

(1)

، قاله في "الفتح".

وقال ابن رجب رحمه الله في "شرحه": وقد شهد مالك بن الدخشم مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا وأُحُدًا والمشاهد كلها، واختلفوا: هل شهد مع الأنصار بيعة العقبة، أم لا؟، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع عاصم بن عديّ

(2)

لتحريق مسجد الضرار وهدمه. انتهى.

(1)

"الفتح" 1/ 621.

(2)

هكذا، وتقدّم في عبارة ابن إسحاق:"مع معن بن عديّ" فليُتأمل.

ص: 280

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُلْ لَهُ ذَلِكَ) أي القول بأنه منافقٌ (أَلَا) أداة استفتاح، وتنبيه (تَرَاهُ قَدْ قَالَ) وللطيالسيّ:"أما يقول": (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وفي رواية أنس الماضية في "الإيمان": "أليس يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه"، وقوله:(يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ ") وفي نسخة: "يبتغي بذلك وجه اللَّه"، أراد به أنه مخلص في إيمانه، وهذا شهادة من النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل بإيمانه باطنًا، وبراءته من النفاق، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": وكأنهم فَهِمُوا من هذا الاستفهام أن لا جزم بذلك، ولولا ذلك لم يقولوا في جوابه:"إنه ليقول ذلك، وما هو في قلبه"، كما وقع عند مسلم، في "الإيمان" من طريق أنس، عن عتبان. انتهى.

(قَالَ) عتبان (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) أي بحقيقة ذلك، وموافقة شهادته بلسانه لما في قلبه من التصديق (قَالَ) عتبان: قالوا أيضًا (فَإِنَّمَا نَرَى وَجْهَهُ) أي توجهه (وَنَصِيحَتَهُ لِلْمُنَافِقِينَ) وفي رواية البخاريّ: "ونصيحته إلى المنافقين" بـ "إلى" بدل اللام، فقال الكرمانيّ: فإن قلت: يقال: نصحت له، لا إليه، ثم أجاب عنه بقوله: قد ضُمِّنَ معنى الانتهاء، وقال الحافظ: كذا قال، والظاهر أن قوله:"إلى المنافقين" متعلق بقوله: "وجهه"، فهو الذي يتعدى بـ "إلى"، وأما متعلق "نصيحته" فمحذوف؛ للعلم به. انتهى.

وتعقّب العينيّ كلام الكرمانيّ والحافظ المذكور بما هو راجع إلى ما قالاه

(2)

، فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ) عتبان (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ) المراد من التحريم هنا تحريم التخليد؛ جمعًا بينه وبين ما ورد من دخول أهل المعصية فيها، وتوفيقًا بين الأدلة (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أي مع "محمد رسول اللَّه"، من باب الاكتفاء، وقد تقدّم في "كتاب الإيمان" مصرّحًا به، ولفظه:"لا يشهد أحد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، فيدخلَ النار"(يَبْتَغِي) أي يطلب (بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ") فيه ردّ على المرجئة الغُلاة القائلين بأنه يكفي في الإيمان النطق فقط، من غير اعتقاد.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 250.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 250.

ص: 281

وقال ابن رجب رحمه الله: وقد رَوَى أسد بن موسى: ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بَهْدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رجلًا من الأنصار أرسل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في داره، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع قومه، وتغيّب رجل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أين فلان؟ "، فغمزه رجل منهم، فقال: إنه، وإنه! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أليس قد شهد بدرًا؟ " قالوا: بلى. قال: "فلعل اللَّه قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"

(1)

.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ بالإسناد الماضي، ووَهِمَ من قال: إنه تعليق، قاله في "الفتح" (ثُمَّ سَأَلْتُ) زاد في رواية الكشميهني:"بعد ذلك"(الْحُصَيْنَ) -بضمّ الحاء المهملة، وبالصاد المهملة المفتوحة- وهكذا ضبطه جميع الرواة، إلا القابسيّ، فإنه ضبطه بالضاد المعجمة، "وغَلَّطوه في ذلك"

(2)

. (ابْنَ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيَّ) المدنيّ، من ثقات التابعين (وَهُوَ أَحَدُ بَني سَالِمٍ، وَهُوَ) أي الحصين بن محمد (مِنْ سَرَاتِهِمْ) أي من سراة بني سالم، و"السَّرَاةُ" -بفتح المهملة-: أي خيارهم، وهو جمع سَرِيّ، قال أبو عبيد: هو المرتفع القدرِ، من سَرُوَ الرجلُ يَسْرُو: إذا كان رفيع القدر، وأصله من السَّرَاة، وهو أرفع المواضع من ظهر الدابة، وقيل: هو رأسها، وهو أرفع الجسم، وفي "الصحاح": وجمع السَّرِيّ سَرَاةٌ، وهو جمع عزيز، أن يُجْمَع فَعِيل على فَعَلَة، ولا يُعرَف غيره. انتهى

(3)

.

(عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ) متعلّق بـ "سألتُ"(فَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ) أي بالحديث المذكور، وهذا يَحْتَمِل أن يكون الحصين سمعه أيضًا من عتبان، ويَحْتَمِل أن يكون حمله عن صحابي آخر.

[تنبيه]: ليس للحصين بن محمد هذا، ولا لعتبان بن مالك في "الصحيحين"

(4)

سوى هذا الحديث، وقد سمعه من عتبان أيضًا أنس بن مالك،

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 3/ 189.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 250.

(3)

راجع: "عمدة القاري" 4/ 250 - 251.

(4)

وقد أخرجه البخاريّ في أكثر من عشرة مواضع مطولًا، ومختصرًا، وأما المصنّف، فأخرجه في "الإيمان"، و"الصلاة"، فتنبّه.

ص: 282

وقد تقدّم لمسلم في "كتاب الإيمان"، وسمعه أبو بكر بن أنس مع أبيه من عتبان، أخرجه الطبرانيّ، أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبيان مسائله، في "كتاب الإيمان"

(2)

، وإنما أذكر مسألتين:

(المسألة الأولى): في إتمام الفوائد التي تتعلّق بهذا الحديث التي تقدّم ذكر معظمها في "كتاب الإيمان":

1 -

(فمنها): أن في هذا الحديث بيان ما كان عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، وجميل الأدب في إجابته كلَّ من دعاه إلى ما دعاه إليه، ما لم يكن إثمًا

(3)

.

2 -

(ومنها): أنه يُستحبّ لمن قال: سأفعل كذا أن يقول: "إن شاء اللَّه"؛ لآية: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية، ولهذا الحديث.

3 -

(ومنها): مشروعيّة الاستئذان على الرجل في منزله، وإن كان صاحبه قد تقدّم منه استدعاء.

4 -

(ومنها): أنه يُستحبّ لأهل المحلّة وجيرانهم إذا ورد رجل عالم إلى منزل بعضهم أن يجتمعوا إليه، ويحضروا مجلسه؛ لزيارته وإكرامه، والاستفادة منه.

5 -

(ومنها): بيان أنه لا يُخلَّد في النار من مات على التوحيد

(4)

.

6 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله في هذا الحديث: استحباب اتخاذ آثار النبيّ صلى الله عليه وسلم ومواضع صلواته مصلى يصلى فيه، وقد ذكر ابن سعد، عن الواقديّ، أن بيت عتبان الذي صلى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي فيه الناس بالمدينة إلى يومه ذاك.

وبشهد لهذا المعنى -أيضًا-: قول عمر رضي الله عنه للنبي-صلى الله عليه وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ فَنَزَلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].

(1)

"الفتح" 1/ 622.

(2)

راجع: 1/ 686 - 689.

(3)

"الاستذكار" 2/ 362.

(4)

"شرح النووي" 5/ 161.

ص: 283

وقد نَقَل أحمد بن القاسم وسِنديّ الخواتيميّ، عن الإمام أحمد، أنه سئل عن إتيان هذه المساجد؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم

(1)

: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته فيتخذه مصلى، وعلى ما كان يفعل ابن عمر يتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره، فلا بأس أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا، وأكثروا فيه.

وفي رواية ابن القاسم: أن أحمد ذكر قبر الحسين، وما يفعل الناس عنده - يعني: من الأمور المكروهة المحدثة.

وهذا فيه إشارة إلى أن الإفراط في تتبع مثل هذه الآثار يُخشَى منه الفتنة، كما كُره اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقد زاد الأمر في ذلك عند الناس حتى وقفوا عنده، واعتقدوا أنه كافٍ لهم، واطَّرَحُوا ما لا ينجيهم غيره، وهو طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد رأى الحسن قومًا يزدحمون على حمل نعش بعض الموتى الصالحين، فقال: في عمله فتنافسوا.

يشير إلى أن المقصود الأعظم متابعته في عمله، لا مجرد الازدحام على حمل نعشه.

وكذلك من يبالغ في تزيين المصحف وتحسينه، وهو مُصِرّ على مخالفة أوامره وارتكاب مناهيه.

وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه ما يدل على كراهة ذلك -أيضًا-:

فرُوي عن المعرور بن سويد، قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها، فلما انصرف رأى الناسُ مسجدًا فبادروه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا، مَن عَرَضَت له فيه صلاة فليصلّ، ومن لم تعرض له صلاة فليمض.

وقال نافع: كان الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان، فيصلّون عندها، فبلغ ذلك عمر فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت.

(1)

هكذا وقع ابن أم مكتوم، والصواب أنه عتبان بن مالك، كما هو واضح من روايات "الصحيحين"، وغيرهما، وسيأتي التنبيه عليه في كلام ابن رجب رحمه الله.

ص: 284

وقال ابن عبد البر: كَرِه مالك وغيره من أهل العلم طلب موضع الشجرة التي بويع تحتها بيعة الرضوان؛ وذلك -واللَّه أعلم- مخالفة لما سلكه اليهود والنصارى فِي مثل ذَلِكَ، ذكره فِي "الاستذكار" فِي الكلام عَلَى حَدِيْث:"اشتَدّ غضب اللَّه عَلَى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

وقال: ذكر مالك بإثر هذا الحديث حديث عتبان بن مالك؛ ليبيّن لك أن معنى هذا الحديث مخالفٌ للذي قبله.

قال: والتبرك والتأسي بأفعال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إيمانٌ به وتصديقٌ، وحبٌّ في اللَّه وفي رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن المطر والسيول عذر يباح له التخلف عن الصلاة في المسجد.

وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له.

قال الإمام أحمد: ثنا سفيان، عن الزهري، فسئل سفيان: عمن هو؟ قال: هو محمود -إن شاء اللَّه-، أن عتبان بن مالك كان رجلًا محجوب البصر، وإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم التخلف عن الصلاة، فقال:"هل تسمع النداء؟ " قال: نعم. فلم يرخص له، وكذا رواه محمد بن سعد، عن سفيان، وهو يدل على أن سفيان شكّ في إسناده، ولم يحفظه.

وقال الشافعي: أنبا سفيان بن عيينة: سمعت الزهري يحدث، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إني محجوب البصر، وإن السيول تحول بيني وبين المسجد، فهل لي من عذر؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هل تسمع النداء؟ " قال: نعم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أجد لك من عذر إذا سمعت النداء"، قال سفيان: وفيه قضيّة لم أحفظها.

قال الشافعي: هكذا حدثنا سفيان، وكان يتوقّاه، ويُعَرِّف أنه لم يضبطه.

قال: وقد أوهم فيه -فيما نرى-، والدلالة على ذلك: ما أنبا مالك، عن ابن شهاب - ثم ذكر حديث عتبان المذكور في الباب، على ما رواه الجماعة عن الزهري.

(1)

"الاستذكار" 2/ 361.

ص: 285

قال البيهقي: اللفظ الذي رواه ابن عيينة في هذا الإسناد إنما هو في قصّة ابن أم مكتوم الأعمى.

قال ابن رجب رحمه الله: وقد اشتبهت القصتان على غير واحد، وقد سبق عن الإمام أحمد أنه ذكر أن ابن أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى، وإنما هو عتبان بن مالك.

وقد اشتبه على بعض الرواة محمود بن الربيع الراوي له عن عتبان، فسماه محمود بن لبيد، وهو -أيضًا- وَهَمٌ، وقد وقع فيه بعض الرواة للحديث عن مالك.

وقال يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن محمود بن الربيع -أو الربيع بن محمود- شك يزيد.

وقد روي عن ابن عيينة بإسناد آخر: أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، من طريق عبيد اللَّه بن محمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة -إن شاء اللَّه-، عن عتبان بن مالك، أنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن التخلف عن الصلاة، فقال:"أتسمع النداء؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَلَمْ يرخص لَهُ.

وهذا الإسناد غير محفوظ، ولهذا شك فيه الراوي -إما عن سفيان أو غيره-، وقال:"إن شاء اللَّه"، وإنما أراد حديث محمود بن الربيع.

وأما ابن أم مكتوم، فقد خرّجه مسلم من رواية يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول اللَّه، أنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال:"هل تسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم. قال: "فأجب".

وأخرج الإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه" من حديث عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: أتى ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع؟ قال:"فإن سمعت الأذان فأجب، ولو حبوًا، ولو زحفًا".

وعيسى بن جارية، تُكُلِّم فيه.

وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة في

ص: 286

"صحيحه"، والحاكم، من حديث عاصم بن بَهْدَلة، عن أبي رَزِين، عن ابن أم مكتوم، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال:"هل تسمع النداء؟ " قال: نعم. قال: "لا أجد لك رخصة".

وفي إسناده اختلاف على عاصم، وروي عنه، عن أبي رزين مرسلًا، ورواه أبو سنان سعيد بن سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي رزين، عن أبي هريرة، وأبو سنان، قال أحمد: ليس بالقوي.

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، من حديث عبد الرحمن بن عابس، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أم مكتوم، أنه قال: يا رسول اللَّه، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ "، قال: نعم. قال: "فحيهلا".

وأخرج الإمام أحمد من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن شداد، عن ابن أم مكتوم؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رِقَّةً، فقال:"إني لأهمّ أن أجعل للناس إمامًا، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه"، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول اللَّه، إن بيني وبين المسجد نخلًا وشجرًا، ولا أقدر على قائد كلَّ ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال:"أتسمع الإقامة؟ " قال: نعم. قال: "فَأْتِها".

وأخرجه ابن خزيمة، والحاكم من رواية أبي جعفر الرازي، عن حصين، به - بنحوه.

وقد روي هذا الحديث من رواية البراء بن عازب وأبي أمامة وكعب بن عجرة. وفي أسانيدها ضعف. واللَّه أعلم.

وقد أشكل وجه الجمع بين حديث ابن أم مكتوم وحديث عتبان بن مالك، حيث جعل لعتبان رخصةً، ولم يجعل لابن أم مكتوم رخصة:

فمن الناس: من جمع بينهما بأن عتبان ذكر أن السيول تحول بينه وبين مسجد قومه، وهذا عذر واضح؛ لأنه يتعذر معه الوصول إلى المسجد، وابن أم مكتوم لم يذكر مثل ذلك، وإنما ذكر مشقة المشي عليه، وفي هذا ضعف؛ فإن

ص: 287

السيول لا تدوم، وقد رَخَّص له في الصلاة في بيته بكل حال، ولم يخصه بحالة وجود السيل، وابن أم مكتوم قد ذكر أن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وذلك يقوم مقام السيل المخوف.

وقيل: إن ابن أم مكتوم كان قريبًا من المسجد، بخلاف عتبان، ولهذا ورد في بعض طرق حديث ابن أم مكتوم: أنه كان يسمع الإقامة، ولكن في بعض الروايات أنه أخبر أن منزله شاسع كما تقدم.

ومن الناس من أشار إلى نسخ حديث ابن أم مكتوم بحديث عتبان، فإن الأعذار التي ذكرها ابن أم مكتوم يكفي بعضها في سقوط حضور المسجد.

وقد أشار الجْوُزَجاني إلى أن حديث ابن أم مكتوم لم يقل أحد بظاهره.

يعني: أن هذا لم يوجب حضور المسجد على من كان حاله كحال ابن أم مكتوم.

وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أنه لا يجد لابن أم مكتوم رخصة في حصول فضيلة الجماعة مع تخلفه وصلاته في بيته.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد قدّمت أن هذا الوجه من الجمع هو الأقرب عندي، واللَّه تعالى أعلم.

قال: واستَدَلّ بعض من نصر ذلك -وهو: البيهقي- بما خرّجه في "سننه" من طريق أبي شهاب الحناط، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن ابن أم مكتوم، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن لي قائدًا لا يلائمني في هاتين الصلاتين؟ قَالَ:"أيّ الصلاتين؟ " قلت: العشاء والصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو يعلم القاعد عنهما ما فيهما لأتاهما ولو حبوًا".

وحديث ابن أم مكتوم يدل على أن العمى ليس بعذر في ترك الجماعة، إذا كان قادرًا على إتيانها، وهو مذهب أصحابنا.

ولو لم يمكنه المجيء إلا بقائد ووجد قائدًا متبرعًا له، فهل يجب عليه حضور المسجد؟ على وجهين، ذكرهما ابن حامد من أصحابنا.

وهذا بناء على قول أحمد: إن حضور المسجد للجماعة فرض عين.

وقد يُستَدَلّ بحديث عتبان على أن الجماعة في البيت تكفي من حضور المسجد خصوصًا للأعذار.

ص: 288

ويَحْتَمِل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مسجدًا يؤذن فيه، ويقيم، ويصلي بجماعة أهل داره ومن قرب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد: إما مسجد جماعة، أو مسجد بيت يُجَمَّع فيه، وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفردًا، فلم يأذن له، وهذا أقرب ما جُمِع به بين الحديثين، واللَّه أعلم.

لكن في "سنن البيهقيّ" من حديث كعب بن عجرة، أن رجلًا أعمى أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أسمع النداء، ولعلي لا أجد قائدًا، أفأتخذ مسجدًا في داري؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"تسمع النداء؟ " قال: نعم. قال: "فإذا سمعت النداء فأخرج".

وفي إسناده اختلاف، وقد قال أبو حاتم فيه: أنه منكر.

ومع هذا؛ فلا دلالة فيه على أنه أراد أن يصلي في بيته جماعة، إنما فيه أنه أراد أن يجعل في داره مسجدًا لصلاته في نفسه.

8 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز إمامة الأعمى، وجواز الجماعة في صلاة التطوع -أحيانًا- وجواز إمامة الزائر بإذن المزور في بيته.

9 -

(ومنها): أن قولَهُ: "وحبسناه على خزيرة صنعناها له" يَدُلّ على أن الزائر وإن كان صاحب المنزل قد استدعاه إلى بيته لحاجة له، فإنه يستحب له أن يُضِيفه، وإن حبسه لذلك في بيته بعد انقضاء حاجته لم يضرّ ذلك، بشرط ألا يكون على الزائر فيه مشقة.

10 -

(ومنها): أن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقل ذلك" نَهْيٌ أن يُرْمَى أحدٌ بالنفاق؛ لقرائن تظهر عليه، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجري على المنافقين أحكام المسلمين في الظاهر، مع علمه بنفاق بعضهم، فكيف بمسلم يرمي بذلك بمجرد قرينة؟.

11 -

(ومنها): أن مَن رَمَى أحدًا بنفاق، وذَكَرَ سوء عمله، فإنه ينبغي أن تُرَدّ عليه غيبتُهُ، ويُذْكَرَ صالحُ عمله؛ ولهذا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله، ولا يُلْتَفَتُ إلى قول من قال: إنما يقولها تَقِيّةً ونِفاقًا.

12 -

(ومنها): أنه إنما لم يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بِهَجْر مالك بن الدُّخْشُن؛ لأنه

ص: 289

لم يُعْرَف عنده بما يُخْشَى عليه من النفاق، ولم يَثُبت ذلك ببينة، وإنما رُمِي بذلك، بخلاف الثلاثة الذين خُلِّفوا؛ فإنهم اعترفوا بما يُخْشَى عليهم منه النفاق؛ ولهذا عَذَرَ المعتذرين ووَكَلَهم إلى اللَّه، وكان كثيرٌ منهم كاذبًا. انتهى ملخّصًا مما كتبه ابن رجب رحمه الله

(1)

في "شرح البخاريّ"

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في بيان الأعذار التي تُبيح التخلّف عن فرض صلاة الجماعة:

(اعلم): أنه ذَكَر الإمام الحافظ أبو حاتم بن حبان رحمه الله الأعذار التي تسقط فرض الجماعة، فقال: وأما العذر الذي يكون المتخلف عن إتيان الجماعات به معذورًا، فقد تتبعته في السنن كلها، فوجدتها تدل على أن العذر عشرة أشياء، ثم ذكرها، وهاك خلاصتها، قال رحمه الله:

(الأول): المرض الذي لا يقدر المرء معه أن يأتي الجماعات، لحديث أنس رضي الله عنه في كونه صلى الله عليه وسلم كشف الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه، فأراد أبو بكر أن يرتدّ، فأشار إليهم أن امكثوا، وألقى السجف.

(الثاني): حضور الطعام؛ لحديث: "إذا حَضَر العشاءُ، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء"، متّفقٌ عليه.

(الثالث): النسيان الذي يَعْرِض في بعض الأحوال؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه في نومهم عن صلاة الصبح، متّفقٌ عليه.

(الرابع): السِّمَنُ الْمُفْرِط الذي يمنع المرء من حضور الجماعات؛ لحديث أنس رضي الله عنه، قال: قال رجل من الأنصار -وكان ضخمًا- للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إني لا أستطيع الصلاة معك، فلو أتيتَ منزلي، فصليت فيه، فأقتدي بك، فصنع له الرجل طعامًا، ودعاه إلى بيته، فبسط له طرف حصير لهم، فصلى عليه ركعتين

(3)

.

(1)

يبدأ كلام ابن رجب رحمه الله من رقم (6) إلى (12).

(2)

راجع: "فتح الباري" لابن رجب 3/ 176 - 190.

(3)

أخرجه البخاريّ في "صحيحه" بنحوه.

ص: 290

(الخامس): وجود المرء حاجة الإنسان في نفسه -يعني البول والغائط- لما أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح، عن عبد اللَّه بن الأرقم رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا وجد أحدكم الغائط، فليبدأ به قبل الصلاة".

والمراد أن يؤذيه ذلك بحيث يشغله عن الصلاة، لا ما لا يتأذى به؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يصلِّ أحدكم، وهو يدافعه الأخبثان"، رواه ابن حبّان بإسناد قويّ.

(السادس): خوف الإنسان على نفسه وماله في طريقه إلى المسجد؛ لحديث عتبان بن مالك المذكور في الباب.

(السابع): وجود البرد الشديد المؤلم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه وجد ذات ليلة بردًا شديدًا، فأَذَّن من معه، فصَلَّوا في رحالهم، وقال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان مثل هذا أمر الناس أن يصلوا في رحالهم، صححه ابن حبّان.

(الثامن): وجود المطر المؤذي؛ لحديث ابن عمر أيضًا، قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: "ألا صلوا في الرحال"، متّفقٌ عليه.

(التاسع): وجود العلة التي يَخاف المرء على نفسه العثر منها؛ لحديث ابن عمر أيضًا، قال: كنا إذا كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانت ليلة ظلماء، أو ليلة مطيرة، أذن مؤذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو نادى مناديه:"أن صلوا في رحالكم"، صححه ابن حبّان.

(العاشر): أكل الثوم والبَصَل إلى أن يذهب ريحها؛ لحديث: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة، فلا يقربن مصلانا حتى يذهب ريحها"، متّفقٌ عليه. انتهى ما ذكره ابن حبان في "صحيحه" من أعذار سقوط فرض الجماعة حسبما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة بتصرّف، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 291

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1498]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ رَبِيعٍ

(1)

، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ، أَوِ الدُّخَيْشِنِ؟، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ مَحْمُودٌ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَفَرًا، فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا أَظُن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا قُلْتَ، قَالَ: فَحَلَفْتُ إِنْ رَجَعْتُ إِلَى عِتْبَانَ أَنْ أَسْأَلَهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَهُوَ إِمَامُ قَوْمِهِ، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَائِضُ وَأُمُورٌ، نَرَى أَنَّ الْأَمْرَ انْتَهَى إِلَيْهَا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَغْتَرَّ، فَلَا يَغْتَرَّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْد) بن نصر، أبو محمد الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(مَعْمَر) بن راشد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ رَبِيعٍ) وفي بعض النسخ: "ابن الربيع".

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير معمر.

وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ، أَوِ الدُّخَيْشِنِ؟) بالنون، تقدّم اختلاف الروايات فيه في شرح الحديث الماضي.

(1)

وفي نسخة: "محمود بن الربيع".

ص: 292

وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "زاد" ضمير معمر أيضًا.

وقوله: (قَالَ مَحْمُودٌ) أي ابن الربيع الراوي عن عتبان بن مالك رضي الله عنهما.

وقوله: (فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) إشارة إلى حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه المذكور قبله.

وقوله: (نَفَرًا) أي جماعةً.

وقوله: (فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ) اسمه خالد بن زيد بن كُليب الصحابيّ الشهير، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حين قَدِم المدينة، ومات غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: بعدها، وتقدّمت ترجمته في "الإيمان" 4/ 113.

وقوله: (فَقَالَ) أي أبو أيوب رضي الله عنه، منكرًا ما حدّثه به، من هذا الحديث.

وقوله: (مَا أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا قُلْتَ) إنما أنكره عليه؛ لما يقتضيه ظاهره من أن النار مُحَرَّمة على جميع الموحدين، وأحاديث الشفاعة دالّة على أن بعضهم يُعَذَّب، لكن للعلماء أجوبة عن ذلك، منها جواب ابن شهاب المذكور بعده، ومنها غير ذلك، وقد استوفينا بيانه في "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد.

وقوله: (قَالَ: فَحَلَفْتُ) القائل هو محمود بن الربيع رضي الله عنه.

(إِنْ رَجَعْتُ إِلَى عِتْبَانَ أَنْ أَسْأَلَهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، وَهُوَ إِمَامُ قَوْمِهِ، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

وقوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: ثُمَّ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَائِضُ وَأُمُورٌ) أراد الزهريّ بهذا أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "فإن اللَّه قد حرّم على النار. . ." الحديث كان في أول الإسلام، قبل أن تشرع الأحكام، فلما شُرعت، ففرضت الفرائض، وحُرّمت المحرّمات، وجب على الناس التزامها، فمن خالف، فقد عصى، والعصاة متوعّدون بالنار.

لكن تعقّب قوله: "ثم نزلت بعد ذلك إلخ" بأن الصلوات الخمس نزل فرضها قبل هذه الواقعة قطعًا، وظاهره يقتضي أن تاركها لا يُعَذَّب إذا كان موحِّدًا.

ص: 293

وقيل: المراد أن من قالها مخلصًا لا يترك الفرائض؛ لأن الإخلاص يَحْمِل على أداء اللازم.

وتُعُقِّب بمنع الملازمة.

وقيل: المراد تحريم التخليد، أو تحريم دخول النار المعدَّة للكافرين، لا الطبقة المعدَّة للعصاة.

وقيل: المراد تحريم دخول النار بشرط حصول قبول العمل الصالح، والتجاوز عن السيئ، ذكر هذا كلّه في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح تأويل من أوّله بأن المراد تحريم التخليد، وبه يحصل الجمع بين هذا الحديث، وبين النصوص التي تدلّ على أن بعض العصاة يدخلون النار، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (نَرَى) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بفتح النون، وضمّها. انتهى.

وقوله: (أَنَّ الْأَمْرَ انْتَهَى إِلَيْهَا) أي إلى تلك الفرائض، والأمور الأخرى، يعني أنه نزل بعد هذا الرجاء الواسع فرائض، وواجبات، ومنهيّات، قُرن بها الوعيد والتخويف، فلم يبق على إطلاقه، وأن مجرّد الشهادتين لا يكفي بدون التمسّك بتلك الأمور.

وقوله: (فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَغْتَرَّ، فَلَا يَغْتَرَّ) يعني أنه لا يسع المكلّف عدم العمل بتلك الفرائض، والأمور الأخرى؛ اتّكالًا على ما اقتضاه ظاهر هذا الحديث، من أن مجرد الشهادتين دونها يكفي، فإن هذا اغترار خاطئ، وأمنيّة كاذبة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1499]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا

(1)

الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: إِنِّي

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 294

لَأَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ دَلْوٍ فِي دَارِنَا، قَالَ مَحْمُودٌ: فَحَدَّثَنِي عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَصَرِي قَدْ سَاءَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ:"فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، وَحَبَسْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَشِيشَةٍ، صَنَعْنَاهَا لَهُ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو، تقدّم قريبًا أيضًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (إِنِّي لَأَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ دَلْوٍ فِي دَارِنَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في "صحيح مسلم"، وزاد في رواية البخاريّ:"مَجّها في وجهي"، قال العلماء: الْمَجُّ طرح الماء من الفم بالتزريق، كما قال:

يَمُجُّ لُعَاعَ الْبَقْلِ فِي كُلِّ مَشْرَبِ

وإنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك مباسطةً للصبيّ، وتأنيسًا له، كما قال:"يا أبا عُمَيْرُ ما فعل النُّغَير؟ "

(1)

، ففيه مشروعيّة ملاطفة الصبيان، وتأنيسهم، وإكرام آبائهم بذلك، وجواز المزاح، قال بعضهم: ولعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يحفظه محمودٌ، فينقله كما وقع، فتَحْصُل له فضيلةُ نقل هذا الحديث، وصحة صحبته، وإن كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم مميِّزًا، وكان عمره حينئذ خمس سنين، وقيل: أربعًا.

وفيه أيضًا دليلٌ على جواز سماع الصغير إذا عَقَل، وتثبّت، ثم أدّاه بعد بلوغه. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالَ مَحْمُودٌ: فَحَدَّثَنِي عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ) هذه الرواية فيها بيان سماع محمود من عتبان رضي الله عنهما.

(1)

رواه الشيخان، وأبو داود، والترمذيّ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 161 - 162 بزيادة من "المفهم" 2/ 285.

ص: 295

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير الأوزاعيّ.

وقوله: (عَلَى جَشِيشَةٍ) -بجيم، وشينين معجمتين، بينهما ياء تحتانيّة- قال شَمِر: هي أن تُطْحَن الحنطة طَحْنًا قليلًا، ثم يُلْقَى فيها لحمٌ، أو تمرٌ، فتطبخ به، وقال ابن قُتيبة: الخزيرة: هي لحم يُقطع صغارًا، ثم يُصبّ عليها ماءٌ كثيرٌ، فإذا نَضِجَ ذُرّ عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم، فهي عصيدة، وقال أبو الهيثم: إذا كانت من دقيق فهي حَريرة، وإذا كانت من نُخَالة فهي خزيرة، وقال ابن السكّيت: الخزيرة: اللَّفِيتة من لبن، أو ماء ودقيق، وقال النضر: الخزيرة من النخالة، والحَرِيرة من اللبن. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية الأوزاعيّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(3/ 96) فقال:

(4938)

- أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، قال: حدّثني الزهريّ، عن محمود بن الربيع، قال: إني لأعقل مَجّةً مجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من دلو في دارنا، قال محمود: فحدثني عتبان بن مالك، قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن بصري قد ساء، وإن الأمطار إذا اشتدّت، وسال الوادي، حال بيني وبين الصلاة في مسجد قومي، فلو صليت في منزلي مكانًا، أتخذه مصلى، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"نعم"، قال: فغدا عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، فاستأذنا، فأَذِن لهما، فما جلس حتى قال:"أين تُحِبّ أن أصلي في منزلك؟ "، فأشرت له إلى ناحية، فتقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصففنا خلفه، فصلى بنا ركعتين، وحبسنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على جَشِيشة صنعناها له. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 2/ 283 - 284.

ص: 296

(49) - (بَابُ جَوَازِ الْجَمَاعَةِ فِي النَّافِلَة، وَالصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ، وَالْخُمْرَةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْتَهَنُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1500]

(658) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ، دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "قُومُوا، فَأُصَلِّيَ لَكُمْ"، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَقُمْتَ إِلَى حَصِيرٍ لنَا، قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِك) بن أنس بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه، إمام دار الهجرة الفقيه الحجة الحافظ المتقن [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

4 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِك) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (91) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

ص: 297

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمّه، فأنس رضي الله عنه عمّ لإسحاق.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه هو خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، فدعا له بخيري الدنيا والآخرة، كما سيأتي في الحديث الثالث، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، ومن المعمّرين، فقد جاوز عمره المائة رضي الله عنه، ومن المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) ووقع عند الكشميهنيّ، والحمويّ في رواية البخاريّ:"عن إسحاق بن أبي طلحة" منسوبًا إلى جده (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ) بصيغة التصغير، قال القاضي عياض رحمه الله: ضبطاه في مسلم وغيره بضمّ الميم، وفتح اللام، وكذا ذكره الناس، وحَكَى ابن عتّاب عن الأصيليّ أنها مَلِيكة بفتح الميم، وكسر اللام. انتهى

(1)

.

وهو بالنصب بدلٌ من اسم "أن"، والضمير في "جدته" يعود على إسحاق، كما جزم به ابن عبد البرّ، وعبد الحقّ، والقاضي عياض، وصححه النوويّ.

وجزم ابن سعد، وابن منده، وابن الحصار بأنها جدة أنس، والدة أمه، أم سليم، وهو مقتضى كلام إمام الحرمين في "النهاية"، ومن تبعه، وكلام عبد الغنيّ في "العمدة"، وهو ظاهر السياق.

قال الحافظ رحمه الله: ويؤيده ما رويناه في "فوائد العراقيين" لأبي الشيخ من طريق القاسم بن يحيى المقدَّميّ، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه، قال:"أرسلتني جدّتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسمها مُلَيكة، فجاءنا، فحضرت الصلاة. . ." الحديث.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أم سليم بنت مِلْحان، فساق نسبها إلى

(1)

"إكمال المعلم" 2/ 635.

ص: 298

عديّ بن النجّار، وقال: وهي الغُمَيصاء، ويقال: الرُّميصاء، ويقال: اسمها سَهْلة، ويقال: أُنَيفة -أي بالنون، والفاء، مصغرة- ويقال: رُمَيثة، وأمها مُلَيكة بنت مالك بن عديّ، فساق نسبها إلى مالك بن النجار، ثم قال: تزوجها -أي أم سليم- مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك، ثم خَلَف عليها أبو طلحة، فولدت له عبد اللَّه، وأبا عمير.

قال الحافظ: وعبد اللَّه هو والد إسحاق، رَاوِي هذا الحديث عن عمه أخي أبيه لأمه، أنس بن مالك رضي الله عنه.

ومقتضى كلام من أعاد الضمير في "جدته" إلى إسحاق أن يكون اسم أم سليم مُلَيكة، ومستندهم في ذلك ما رواه ابن عيينة، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، قال:"صَفَفْتُ أنا ويتيم في بيتنا خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمي أم سليم خلفنا". هكذا أخرجه البخاريّ في أبواب الصفوف، والقصة واحدة طَوَّلها مالك، واختصرها سفيان، ويَحْتَمِل تعددها، فلا تخالف ما تقدم، وكون مُليكة جدة أنس لا ينفي كونها جدة إسحاق؛ لما بيّناه.

لكن الرواية التي رواها الدارقطني في "غرائب مالك" عن البغويّ، عن عبد اللَّه بن عون، عن مالك، ولفظه:"صنعت مليكة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعامًا، فأكل منه، وأنا معه، ثم دعا بوضوء، فتوضأ" الحديث، ظاهرة في أن مُليكة اسم أم سليم نفسها، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي أن الحمل على تعدد الواقعة أولى؛ لأنه لا يؤدِّي إلى التكلُّف، والتعسُّف بالتأويل البارد، واللَّه تعالى أعلم.

(دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محل رفع خبر لـ "أن"(لِطَعَامٍ) أي لأجل تناول طعام، قال الحافظ رحمه الله: وهو مشعر بأن مجيئه كان لذلك؛ لا ليصلي بهم، ليتخذوا مكان صلاته مُصَلًّى لهم، كما في قصة عتبان بن مالك المتقدّمة، وهذا هو السر في كونه بدأ في قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام، وهنا بالطعام قبل الصلاة، فبدأ في كل منهما بأصل ما دُعي لأجله. انتهى

(2)

.

واعترضه العينيّ، فقال: لا مانع في الجمع بين الدعاء للطعام، وبين

(1)

"الفتح" 1/ 584.

(2)

"الفتح" 1/ 584.

ص: 299

الدعاء للصلاة، ولهذا صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، والظاهر أن قصد مليكة من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها.

وقوله: وهذا هو السر. . إلخ فيه نظر؛ لأنه يَحْتَمِل أن الطعام كان قد حضر، وتهيأ في دعوة مليكة، والطعام إذا حضر لا يؤخر، فيقدَّم على الصلاة، وبدأ بالصلاة في قصة عتبان، لعدم حضور الطعام. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي ردّ به العينيّ على الحافظ غير صحيح؛ فإن ظاهر الحديثين صريح فيما قاله الحافظ، ففي حديث أنس رضي الله عنه قال:"إن جدته مليكة دعت رسول اللَّه لطعام"، وهذا صريح في كون الدعوة للطعام، وفي حديث عتبان رضي الله عنه قال:"وددت يا رسول اللَّه أن تأتيني فتصلي في بيتي مكانًا أتخذه مصلى" وهذا صريح في كون الدعوة للصلاة، فما أبداه الحافظ رحمه الله رأي معقول، واستنباط مقبول، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(صَنَعَتْهُ) جملة فعلية في محل جر صفة لـ "طعام"، ولفظ البخاريّ:"صنعته له"، وللنسائيّ:"قد صنعته له"(فَأَكَلَ مِنْهُ) أي أكل صلى الله عليه وسلم بعض ذلك الطعام (ثُمَّ قَالَ) بعد الأكل ("قُومُوا) قال في "الفتح": استُدِلّ به على ترك الوضوء مما مست النار؛ لكونه صلى بعد الطعام، وفيه نظر؛ لرواية الدارقطنيّ السابقة، ففيها:"ثم دعا بوَضُوء، فتوضأ. . ." الحديث.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: لكن ترك الوضوء مما مست النار، له أدلّة صحيحةٌ صريحةٌ، قد تقدم البحث عنها مُستَوْفًى في موضعها من "كتاب الطهارة"، فراجعه تزدد علمًا، وباللَّه تعالى التوفيق.

(فَأُصَلِّيَ لَكُمْ") أي لأجلكم، وقوله:"فلأصلي" هكذا وقع في معظم النسخ، وعليه فـ "أصليَ" منصوب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببيّة الواقعة في جواب الأمر، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

ووقع في نسخة شرح النوويّ بلفظ: "فلأصلِّ لكم"، وعليه فهو مجزوم

(1)

"عمدة القاري" 4/ 111.

ص: 300

بلام الأمر، ووقع في شرح القاضي عياض:"فلأصلي بكم"، وفي رواية البخاريّ:"فلأصلي لكم"، قال في "الفتح": كذا في روايتنا بكسر اللام، وفتح الياء، وفي رواية الأصيليّ بحذف الياء، قال ابن مالك: رُوي بحذف الياء، وثبوتها مفتوحةً وساكنةً، ووجهه أن اللام عند ثبوت الياء مفتوحة لام "كي" والفعل بعدها منصوب بـ "أن" مضمرة، واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: قوموا، فقيامُكم لأصليَ لكم، ويجوز على مذهب الأخفش أن تكون الفاء زائدة، واللام متعلقة بـ "قوموا".

وعند سكون الياء يَحْتَمل أن تكون اللام أيضًا لام "كي"، وسكنت الياء تخفيفًا، أو لام الأمر، وثبتت الياء في الجزاء إجراءً للمعتلّ مجرى الصحيح، كقراءة قنبل:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]. بإثبات الياء في "يتقي".

وعند حذف الياء اللامُ لام الأمر، وأمرُ المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيحٌ، قليل الاستعمال، ومنه قوله تعالى:{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، قال: ويجوز فتح اللام، ثم ذكر توجيهه. وفيه لغيره بحث اختصرته؛ لأن الرواية لم ترد به، وقيل: إن في رواية الكشميهني: "فأصل" بحذف اللام، وليس هو فيما وقفت عليه من النسخ الصحيحة.

وحَكَى ابن قرقول عن بعض الروايات "فلنصلّ" بالنون، وكسر اللام، والجزم، واللامُ على هذا لام الأمر، وكسرها لغة معروفة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "فلأصلي لكم" فيه ستة أوجه من الإعراب:

[الأول]: "فلأصلي" بكسر اللام، وضمّ الهمزة، وفتح الياء، ووجهه أن اللام فيه لام "كي"، والفعل بعدها منصوب بـ "أن" المقدرة، تقديره: فلأن أصلي، قال القرطبيّ: رَوَيناه كذا، والفاء زائدة، أو الفاء جواب الأمر، ومدخول الفاء محذوف، تقديره: قوموا، فقيامكم لأصلي لكم، ويجوز أن تكون الفاء زائدة، على رأي الأخفش، واللام متعلِّق بـ "قوموا".

(1)

"الفتح" 1/ 585.

ص: 301

[الوجه الثاني]: "فلأصلي" مثلها إلا أنها ساكنة الياء، ووجهه أن تسكين الياء المفتوحة للتخفيف في مثل هذا لغة مشهورة.

[الثالث]: "فلأصل" بحذف الياء؛ لكون اللام لام الأمر، وهي رواية الأصيليّ.

[الرابع]: "فأصلي" على صيغة الإخبار عن نفسه، وهو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فأنا أصلي، والجملة جواب الأمر.

[الخامس]: "فلنصلِّ" بكسر اللام في الأصل، وبنون الجمع، ووجهه أن اللام لام الأمر، والفعل مجزوم بها، وعلامة الجزم سقوط الياء.

[السادس]: "فَلَأصلي" بفتح اللام، ورُوي هكذا في بعض الروايات، ووجهه أن تكون اللام لام الابتداء؛ للتأكيد، أو تكون جواب قسم محذوف، والفاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن قمتم فواللَّه لأصلي لكم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال السهيليّ رحمه الله: الأمر في قوله: "فلأصلِّ لكم" بمعنى الخبر، وهو كقوله تعالى:{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] ويحتمل أن يكون أمرًا لهم بالائتمام، لكنه أضافه إلى نفسه لارتباط فعلهم بفعله. انتهى

(2)

.

(قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ) -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- قال في "المحكم": هي سَفِيفةٌ تُصْنَعُ من بَرْديّ، وأَسَلٍ، ثم تُفْرَش، سُمِّي بذلك؛ لأنه على وجه الأرض، ووجه الأرض يُسَمَّى حصيرًا.

و"السَّفِيفة" -بفتح السين المهملة، وبالفاءين-: شيءٌ يُعْمَل من الْخُوص، كالزَّنْبِيل.

و"الأَسَلُ" -بفتح الهمزة، والسين المهملة، وفي آخره لام-: نباتٌ له أغصان كثيرةٌ دُقَاقٌ، لا وَرَقَ لها.

وفي "الجمهرة": والحصير عربيّ سُمِّي حصيرًا؛ لانضمام بعضها إلى بعض.

وقال الجوهريّ: الحصير: الباريّة، ذكره في "العمدة"

(3)

.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 165.

(2)

"الفتح" 1/ 584.

(3)

"عمدة القاري" 4/ 161.

ص: 302

وقال الفيّوميّ: والحصير: الباريّةُ، وجمعها حُصُر، مثلُ بَرِد وبُرُد، وتأنيثها بالهاء عاميّ. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَنَا) الجار والمجرور متعلِّق بمحذوف صفة لـ "حصير"، وقوله:(قَدِ اسْوَدَّ) جملة في محل جر صفة بعد صفة لـ "حصير"، أو في محل نصب على الحال منه.

(مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ)"ما" مصدرية و"لُبِسَ" بالبناء للمفعول، صلتها، أي من طول لبسه، وهو كناية عن كثرة استعماله.

وقال النوويّ رحمه الله: احتَجّ بقوله: "من طول ما لُبِس" أصحاب مالك في المسألة المشهورة بالخلاف، وهي إذا حلف لا يلبس ثوبًا، ففرشه، فعندهم يَحْنَث، وأجاب أصحابنا -يعني الشافعيّة- بأن لُبْس كل شيء بحسبه، فحملنا اللبس في الحديث على الافتراش؛ للقرينة، ولأنه المفهوم منه، بخلاف مَن حلف لا يلبس ثوبًا، فإن أهل العرف، لا يفهمون من لبسه الافتراش. انتهى.

وقال في "الفتح": فيه أن الافتراش يسمى لبسًا، وقد استُدِلّ به على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير، ولا يَرِدُ على ذلك أن من حلف لا يلبس حريرًا، فإنه لا يحنث بالافتراش؛ لأن الأيمان مبناها على العرف. انتهى

(2)

.

وقد اعتَرَض العينيّ على كلام الحافظ هذا بما لا يُسَلَّم له، فتبصر

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 138 - 139.

(2)

"الفتح" 1/ 584.

(3)

عمدة القاري 4/ 111 حيث قال: وليس ههنا لُبِس، من لَبستُ الثوبَ، وإنما هو من قولهم: لَبِست امرأة، أي تمتعت بها زمانًا، فحينئذ يكوَن معناه: قد اسوَدّ من كثرة ما تُمُتِّع به طولَ الزمان، ومن هذا يظهر لك بطلان قول بعضهم -يعني الحافظ ابن حجر- وقد استُدِلّ به على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير، وقصد هذا القائل الغمز فيما قال أبو حنيفة، من جواز افتراش الحرير، وتوسُّده، ولكن الذي يُدرك دقائق المعاني، ومدارك الألفاظ العربية يعرف ذلك، ويُقِرّ بأن أبا حنيفة لا يذهب إلى شيء سُدًى. انتهى كلام العينيّ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله العينيّ مجرّد تحامل، وتعضب، فإن تفسيره للبس بالتمتّع إن صحّ كما زعمه لغةً ليس معارضًا لما قاله الحافظ، فإنه =

ص: 303

(فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ) من النَّضْح، وهو الرّشّ، وهذا النضح يَحْتَمِل أن يكون لتليين الحصير، أو لتنظيفه، ولا يصح الجزم بالأخير، بل المتبادر غيره؛ لأن الأصل الطهارة، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ: قال إسماعيل بن إسحاق: إنما نضحه ليلين، وليتوطّأ للصلاة، والأظهر قول غيره: إن ذلك إما لنجاسة متيقَّنَةٍ، فيكون النضح هنا غسلًا، أو متوقَّعَة؛ لامتهانه طول افتراشه، فيكون رشًّا لزوال الشكّ وتطييب النفس، وهذا هو الأليق، لا سيّما وقد كان عندهم أبو عُمير أخو أنس طفلًا صغيرًا حينئذ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "والأظهر إلخ" فيه نظرٌ، بل الأظهر ما قاله إسماعيل؛ لأن الأصل الطهارة كما قال في "الفتح"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْتُ أَنَا) أتى بكلمة "أنا" لأجل العطف على ضمير الرفع المتصل، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

وقوله: (وَالْيَتِيمُ) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى العطف على الضمير المتصل الفاعل، وأما النصب فعلى كون الواو واو المعية، والرفع أرجح؛ لوجود الفصل بالضمير.

وقد وقع عند البخاريّ في رواية المستملي، والحمويّ:"وصففت واليتيم" بدون الضمير المنفصل، وعليه يكون النصب أرجح؛ لكون العطف على الضمير المتصل بلا فاصل ضعيفًا.

= فسّره بالأعمّ، فيدخل على قوله جميع أنواع التمتّع، إلا ما استُثني شرعًا، كإباحة لبسه للحكّة مثلًا، فيحرُم الالتحاف به، والاتّزار، والارتداء، والاشتمال، والافتراش، وجميع أنواع انتفاع الرجال به، إلا ما أُبيح لهم شرعًا، كالانتفاع بالبيع، والصدقة، ونحو ذلك، فلم يكن لدفاع العينيّ معنًى، فتبضر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(1)

1/ 585.

(2)

"المفهم" 2/ 286.

ص: 304

وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، فقال:

وَالْعَطْفُ إِنْ يُمْكِنْ بِلَا ضَعْفٍ أَحَقْ

وَالنَّصْبُ مُخْتَارٌ لَدَى ضُعْفِ النَّسَقْ

و"اليتيم": هو ضُميرة بن أبي ضُميرة -بضم الضاد المعجمة، وفتح الميم، بصيغة التصغير- وأبو ضميرة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كذا قاله الذهبي في "تجريد الصحابة"، ثمّ قال: له ولأبيه صحبة، وقال في "الكنى": أبو ضُميرة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان من حِمْيَر، اسمه سعد، وكذا قال البخاريّ: إن اسمه سعد الْحِمْيريّ من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعد الحميري، هو جد حسين بن عبد اللَّه بن ضميرة بن أبي ضميرة. انتهى.

ويقال: اسم أبي ضميرة روح بن سندر. وقيل: روح بن شير زاد، أفاده في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": قال صاحب "العمدة": اليتيم: هو ضميرة جدُّ حسين بن عبد اللَّه بن ضميرة، قال ابن الحذاء: كذا سماه عبد الملك بن حبيب، ولم يذكره غيره، وأظنه سمعه من حسين بن عبد اللَّه، أو من غيره من أهل المدينة، قال: وضميرة هو ابن أبي ضميرة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلِف في اسم أبي ضميرة، فقيل: رَوْحٌ. وقيل غير ذلك. انتهى.

ووهم بعض الشراح، فقال: اسم اليتيم ضميرة، وقيل: روح، فكأنه انتقل ذهنه من الخلاف في اسم أبيه إليه، ووهم أيضًا من قال: إن اسمه سليم، وجزم البخاريّ بأن اسم أبي ضميرة سعد الحميريّ، ويقال: سعيد، ونَسَبَهُ ابن حبّان ليثيًّا. انتهى

(2)

.

(وَرَاءَهُ) أي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو منصوب على الظرفية متعلق بـ "صَفَفْتُ"(وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا) جملة اسمية في محل نصب على الحال، ويَحْتَمِل أن يُعْطَف "العَجُوزُ" على الفاعل، والظرف على الظرف، ففيه عطف المعمولين على معمولي عامل واحد، وهو "صَفّ"، وهو جائز بلا خلاف بين النحاة، كما بيّنه ابن هشام الأنصاري في "المغني"

(3)

.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 111.

(2)

"الفتح" 1/ 585.

(3)

"مغني اللبيب" 2/ 10 بنسخة "حاشية الأمير".

ص: 305

والمراد بالعجوز مليكة المذكورة أوَّلًا.

(فَصَلَّى لَنَا) أي لأجلنا، أو إمامًا بنا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ) هذه الصلاة كانت تطوّعًا يدلّ على ذلك ما يأتي من قول أنس رضي الله عنه:"في غير وقت صلاة"(ثُمَّ انْصَرَفَ) أي من الصلاة، أو إلى بيته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1500](658)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(380) و"الأذان"(727 و 860 و 871 و 874) و"التهجّد"(1164)، و (أبو داود) في "الصلاة"(612)، و (الترمذيّ) فيها (234)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(801) وفي "الكبرى"(876)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 153)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 137)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1194)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 131 و 149 و 164)، و (الدارميّ) في "سننه"(1291 و 1381)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1539 و 1540)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 75)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1472)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 307)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 96 و 106)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(828 و 829)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز الجماعة في النافلة.

2 -

(ومنها): بيان جواز الصلاة على الحصير، ومثله سائر ما تنبته الأرض، وهو إجماع، إلا من شَذّ، وسيأتي البحث فيه مستوفى في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): بيان موقف الإمام إذا كان معه اثنان، وامرأةٌ، وذلك أن يَصُفّ الاثنان خلفه، وتكون المرأة خلفهما صفًّا وحدها، قال القرطبيّ: فيه

ص: 306

حجة لكافّة أهل العلم في أن هذا حكم الاثنين خلف الإمام، وعلى أبي حنيفة والكوفيين إذ يقولون: يقومان عن يمينه ويساره. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): مشروعية إجابة الدعوة، ولو لم تكن عُرْسًا، ولو كان الداعي امرأة.

5 -

(ومنها): الأكل من طعام الدعوة.

6 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، والتواضع، حيث كان يزور أصحابه، ويصلي على البساط الذي عندهم، ولو كان ممتهنًا، ففي حديث أنس رضي الله عنه الآتي بعد هذا قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، فربما تحضر الصلاة، وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيُكْنَس، ثم يُنضَحُ، ثم يَؤُمُّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ونقوم خلفه. . . الحديث.

7 -

(ومنها): صلاة النافلة جماعة في البيوت، قال في "الفتح": وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد تعليمهم أفعال الصلاة بالمشاهدة؛ لأجل المرأة، فإنها يخفى عليها بعض التفاصيل، لبعد موقفها. انتهى.

8 -

(ومنها): أن محل الفضل الوارد في صلاة النافلة منفردًا حيث لا يكون هناك مصلحة، كالتعليم، بل يمكن أن يقال: هو إذ ذاك أفضل، ولا سيما في حقه صلى الله عليه وسلم

(2)

.

9 -

(ومنها): تنظيف مكان المصلي.

10 -

(ومنها): قيام الصبيّ مع الرجل صفًّا، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجة على أن من يَعْقِل الصلاة من الصبيان حكمهم في القيام خلف الإمام حكم الرجال، وهو مذهب الجمهور، ورُوي عن أحمد كراهة ذلك، وقال: لا يقوم مع الناس، إلا من بلغ، ورُوي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وغيره أنه كان إذا أبصر صبيًّا في الصفّ أخرجه، وهذا عند الكافّة محمول على من لا يعقل الصلاة، ولا يكُفُّ عن العبث فيها. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح ما قاله الإمام أحمد رحمه الله، ونُقل

(1)

"المفهم" 2/ 286.

(2)

"الفتح" 1/ 585.

(3)

"المفهم" 2/ 287.

ص: 307

عن عمر رضي الله عنه من أن الصبيّ لا يقوم مع الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليلني أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم. . ." الحديث، رواه مسلم.

وأخرج النسائيّ رحمه الله في "سننه" بإسناد صحيح، عن قيس بن عُبَاد، قال: بينا أنا في المسجد في الصفّ المقدَّم، فجبذني رجل من خلفي جَبْذَةً، فنَحّاني، وقام مقامي، فواللَّه ما عَقَلت صلاتي، فلما انصرف، فإذا هو أُبَيّ بن كعب، فقال: يا فتى لا يسؤك اللَّه، إنّ هذا عَهْدٌ من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا، أن نَلِيَهُ.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فمحمول على ما إذا كان البالغ وحده، فيقوم الصبيّ معه؛ لئلا يكون منفردًا في الصفّ، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

11 -

(ومنها): قيام المرأة صفًّا وحدها إذا لم تكن معها امرأة غيرها.

12 -

(ومنها): تأخير النساء عن صفوف الرجال.

13 -

(ومنها): أن بعضهم استَدَلّ به على جواز صلاة المنفرد خلف الصف وحده، وفيه نظر؛ لأن هذا للمرأة، لا للرجل، فهو مخالف لهذا في هذا، فقد أخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رجل صلى خلف الصفوف وحده؟ فقال: "يعيد الصلاة".

وأخرجه أيضًا هو، والترمذيّ، والدارميّ بلفظ:"أن رجلًا صلى خلف الصفّ وحده، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة".

فهذا صريح في مخالفة الرجل للمرأة في هذه المسألة، فالمرأة تصلّي وحدها خلف الرجال، على حديث أنس رضي الله عنه هذا، والرجل لا يصلّي وحده على حديث وابصة رضي الله عنه المذكور، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

14 -

(ومنها): أن نافلة النهار يقتصر فيها على ركعتين، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: الأفضل أن يتنفل بأربع، سواء كان ليلًا، أو نهارًا، وسيأتي ذلك في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى-.

15 -

(ومنها): صحة صلاة المميِّز، ووضوئه.

16 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يجوز أن يُتمسّك به على أن المرأة لا تؤمّ الرجال؛ لأنها إذا كان مقامها في الائتمام متأخّرًا عن مرتبة الرجال، فأبعد أن تتقدّمهم، وهو قول الجمهور، خلافًا للطبريّ، وأبي ثور في إجازتهما

ص: 308

إمامة النساء للنساء والرجال جملة، وحُكي عنهما إجازة ذلك في التراويح إذا لم يوجد قارئ غيرها، واختُلف في إمامتها للنساء، فذهب مالك، وأبو حنيفة، وجماعة من العلماء إلى منع إمامتها للنساء، وأجاز ذلك الشافعيّ، وفيه رواية شاذّة عن مالك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح جواز إمامة النساء لأهل دارها؛ فقد أخرج أحمد، وأبو داود بإسناد حسن عن أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث الأنصاري رضي الله عنها، وكانت قد جَمَعَت القرآن، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذِّن، وكانت تؤم أهل دارها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

17 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله: "قد اسودّ من طول ما لُبِس يدلّ على أن لبس كل شيء بحسبه، فلبس الحصير هو بسطه، واستعماله في الجلوس عليه.

واستَدَلّ بذلك مَن حَرّم الجلوس على الحرير وافتراشه؛ لأن افتراش فرش الحرير وبسطه لباس له، فيدخل في نصوص تحريم لباس الحرير.

وزعم ابن عبد البر: أن هذا يؤخذ منه أن مَن حَلَف لا يلبس ثوبًا، وليس له نية ولا ليمينه سبب، فإنه يحنث بما يتوطأ ويبسط من الثياب؛ لأن ذلك يسمى لباسًا.

وهذا الذي قاله فيه نظر؛ فإن اللبس المضاف إلى الثوب إنما يراد به اشتمال البدن أو بعضه به دون الجلوس عليه، بخلاف اللبس إذا أضيف إلى ما يجلس عليه ويُفْتَرش، أو أُطلق ولم يضف إلى شيء، كما لو حلف لا يلبس شيئًا، فجلس على حصير، أو حلف لا يلبس حصيرًا فجلس عليه.

ولو تعلق الحنث بما يسمى لباسًا بوجه ما، لكان ينبغي أن يحنث بمضاجعة زوجته وبدخول الليل عليه؛ قال تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)} [النبأ: 10].

(1)

"المفهم" 2/ 286 - 287.

ص: 309

وكل ما لابس الإنسان من جوع أو خوف فهو لباس؛ قَالَ تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112].

ولا نعلم خلافًا أنه لو حلف لا يجلس على بساط، فجلس على الأرض لم يحنث، وقد سمّاها اللَّه بساطًا، وكذلك لو حلف لا يجلس تحت سقف فجلس تحت السماء، وقد سمى اللَّه السماء سقفًا، وكذلك لو حلف لا يجلس في ضوء سراج فجلس في ضوء الشمس.

فإن هذه الأسماء غير مستعملة في العرف، والأيمان إنما تنصرف إلى ما يتعارفه الناس في مخاطباتهم دون ما يصدق عليه الاسم بوجه ما في اللغة على وجه التجوز، واللَّه أعلم.

وإنما قال أصحابنا -يعنى الحنبليّة-: لو حلف لَيَرَيَنّ امرأته عاريةً لابسةً أنه يَبَرُّ برؤيتها في الليل عاريةً؛ لأن جمعه بين عُرْيها ولُبْسها قرينة تدلّ على أنه لم يُرِد لبسها لثيابها؛ فإن ذلك لا يجتمع مع عريها. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على الحصير، والْخُمْرة، ونحو ذلك:

ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز الصلاة على الحصير، والسجود عليه، وأن ذلك لا يكره إذا كان الحصير من جريد النخل أو نحوه مما ينبت من الأرض.

وممن رُوي عنه أنه صلى على الحصير: ابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر، وأبو ذر.

وقال النخعيّ: كانوا يصلون على الحصير والبوري.

وقال مجاهد: لا بأس بالصلاة على الأرض وما أنبتت.

ومذهب مالك: لا بأس أن يسجد على الخمرة والحصير وما تنبت الأرض، ويضع كفيه عليها، والسجود على الأرض أفضل عنده، وعند كثير من العلماء. .

وكان ابن مسعود لا يصلي على شيء إلا على الأرض.

ص: 310

وروي عن أبي بكر الصديق، أنه رأى قومًا يصلون على بُسُط، فقال لهم: أَفْضُوا إلى الأرض، وفي إسناده نظر.

ورُوي عن ابن عمر، أنه كان يصلي على الخمرة ويسجد على الأرض، ونحوه عن علي بن الحسين، وقال النخعيّ في السجود على الحصير: الأرض أحب إليّ، وعنه، أنه قال: لا بأس أن يصلي الحصير، لكن لا يسجد عليهِ.

ونَقَلَ حَرْب، عن إسحاق، قال: مضت السنّة من النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى على الخمرة والبساط، وعلى الثوب الحائل بينه وبين الأرض، قال: وإن سجد الرجل على الأرض فهو أحب إليّ، وإن أفضى بجبهته ويديه إلى الأرض فهو أحب إلينا.

وأكثر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على الأرض، يدلّ على ذلك: أنه لَمّا وَكَفَ المسجد وكان على عَرِيش فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، وانصرف وأثر الماء والطين على جبهته وأنفه.

وأخرج أبو داود من رواية شُريح بن هانئ، عن عائشة، قالت: لقد مُطِرنا مرةً بالليل، فطرحنا للنبي صلى الله عليه وسلم نِطَعًا، فكأني انظر إلى ثقب فيه ينبع الماء منه، وما رأيته متقيًا الأرض بشيء من ثيابه قط.

وأخرجه الإمام أحمد، ولفظه: قالت: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتقي الأرض بشيء، إلا مرة؛ فإنه أصابه مطر فجلس على طرف بناء، فكأني انظر إلى الماء ينبع من ثقب كان فيه.

وأخرجه ابن جرير، والبيهقيّ وغيرهما، وعندهم: أن شُريحًا قَالَ: سألت عائشة عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث.

وفي رواية لابن جرير: أن عائشة قالت: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على شيء قط، إلا أنه أصابنا مطر ذات ليلة، فاجتر نطعًا، فصلى عليه.

وأخرجه الطبراني، ولفظه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى لا يضع تحت قدميه شيئًا، إلا أنّا مطرنا يومًا فوضع تحت قدميه نطعًا.

وهذه الرواية من رواية قيس بن الربيع، عن المقدام بن شريح عن أبيه.

وأخرج بَقِيّ بن مَخْلَد في "مسنده" من رواية يزيد بن المقدام بن شريح،

ص: 311

عن أبيه، عن جده، قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، إن أناسًا يصلون على هذه الحصر، ولم أسمع اللَّه يذكرها في القرآن، إلا في مكان واحد:{لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]، أفكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؟ قالت: لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير.

قال ابن رجب رحمه الله: وهذا غريب جدًا.

ويزيد بن المقدام، قال أبو حاتم: يكتب حديثه.

وأخرج الإمام أحمد: ثنا عثمان بن عمر، ثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على خمرة، فقال:"يا عائشة، ارفعي حصيرك، فقد خشيت أن يكون يفتن الناس".

قال ابن رجب: وهذا غريب جدًا، ولكنه اختلف فيه على يونس:

فرواه مُفَضَّل بن فَضَالة، عن يونس، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الخمرة، يسجد لها.

ورواه شبيب بن سعيد، عن يونس، عن الزهري - مرسلًا.

ورواه ابن وهب في "مسنده" عن يونس، عن الزهري، قال: لم أزل أسمع أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى على الخمرة، وعن أنس بن مالك، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة ويسجد لها، فرواه بالوجهين جميعًا.

وأما رواية عثمان بن عمر، عن يونس، فالظاهر أنها غير محفوظة، ولا تعرف تلك الزيادة إلا فيها، هكذا ذكر هذا البحث كلّه الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ"

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق أن الحقّ جواز الصلاة على الحصير ومثله ما في معناه مما يُفرش، سواء كان مأخوذًا من حيوان، أو نبات، بلا كراهة؛ لحديث الباب وغيره، وهذا إذا لم يكن عليه ما يَشْغَلُ المصلّي، ويُلهيه عن صلاته، من نقش أو غيره، وإلا فيُكره؛ لحديث الخميصة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 3/ 18 - 22.

ص: 312

بأنبجانيّته، فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي"، وفي رواية: "كنت انظر إلى علَمها، وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني"، متّفقٌ عليه.

وقد حَكَى جواز ذلك الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" عن أكثر أهل العلم، من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، وهو قول أحمد، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق، وجمهور الفقهاء.

والحاصل أن ما عليه الجمهور من الجواز هو الحقّ، والذي نُقل من كراهة ذلك عن بعض السلف، فيُحْمَل على أنه من باب التورّع، أو أنه لم يصل إليهم حديث الباب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1501]

(659) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ شَيْبَانُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، فَرُبَّمَا تَحْضُرُ الصَّلَاةُ، وَهُوَ في بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ، فَيُكْنَسُ، ثُمَّ يُنْضَحُ، ثُمَّ يَؤُمُّ

(2)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَقُومُ خَلْفَهُ، فَيُصَلِّي بِنَا، وَكَانَ بِسَاطُهُمْ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 6 أو 235) عن بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلّم فيه أحدٌ بحجّة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

3 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يَثبُت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "ثم يقوم".

ص: 313

4 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (92) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه أيضًا، فالأول أُبُليّ، نسبة إلى أُبُلّة، بضمتين، وتشديد اللام قرية بالبصرة، والثاني بصريّ، ثم بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن أبا التيّاح منفرد بهذه الكنية، فلا يوجد في الرواة من يُكنى أبا التيّاح، وتقدّم ما يتعلّق بأنس رضي الله عنه في السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا) منصوب على التمييز، وهو بضمّتين: السَّجِيّة، وأخرجه المصنّف في "كتاب الأدب" بسند الباب، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ يقال له: أبو عُمَير، قال: أحسبه قال: كان فَطِيمًا، قال: فكان إذا جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرآه، قال:"أبا عُمير ما فعل النُّغَيْر؟ "، قال: فكان يَلْعَبُ به.

وأخرجه البخاريّ في "الأدب" أيضًا، من طريق شعبة، عن أبي التّيّاح، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير:"يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير؟ ".

ومن طريق مسدَّد، عن عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحسنُ الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ، يقال له: أبو عمير، قال: أحسبه فَطِيمًا، وكان إذا جاء قال:"يا أبا عُمير، ما فعل النُّغَير؟ "، نُغَرٌ

(1)

كان

(1)

"النُّغَرُ" بضم، ففتح، وزان رُطَب، قيل: فَرْخ العُصفور، وقيل: ضرب من العصافير أحمر المنقار، وقيل: يُسمّى البُلْبُل، قاله في "المصباح" 2/ 615.

ص: 314

يَلْعَب به، فربما حضر الصلاة، وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته، فيُكْنَس، ويُنضَحُ، ثم يقوم، ونقوم خلفه، فيصلي بنا.

قال في "الفتح": قوله: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا" هذا قاله أنس رضي الله عنه تَوْطِئةً لما يريد أن يذكره من قصّة الصبيّ، وأول حديث شعبة المذكور، عن أنس: قال: "إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ليخالطنا"، ولأحمد من طريق المثنى بن سعيد، عن أبي التياح، عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يزور أمَّ سُلَيم"، وفي رواية محمد بن قيس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا أهلَ البيت"، يعني لبيت أبي طلحة وأم سليم، ولأبي يعلى من طريق محمد بن سيرين، عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يغشانا، ويخالطنا"، وللنسائيّ من طريق إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي أبا طلحة كثيرًا"، ولأبي يعلى من طريق خالد بن عبد اللَّه، عن حميد:"كان يأتي أم سُلَيم، وينام على فراشها، وكان إذا مشى يتوكأ"، ولابن سعد، وسعيد بن منصور، عن ربعي بن عبد اللَّه بن الجارود، عن أنس:"كان يزور أُمَّ سُلَيم، فتتحفه بالشيء تصنعه له". انتهى

(1)

.

وقوله: (فَرُبَّمَا) قال في "القاموس": ورُبَّ، ورُبّةَ، ورُبّما، بضمّهن، مشدّدات، ومخفَّفات، وبفتحهنّ كذلك، ورُبُ بضمّتين، مخفّفةً، ورُبْ كمُذْ: حرفٌ حافظٌ، لا يقع إلا على نكرة، أو اسمٌ، وقيل: كلمةُ تقليل، أو تكثير، أو لهما، أو في موضع المباهاة للتكثير، أو لم توضع لتقليل، ولا لتكثير، بل يُستفادان من سياق الكلام. انتهى

(2)

.

وقال في "المصباح": ورُبّ حرف يكون للتقليلٍ غالبًا، ويدخل على النكرة، فيقال: ربّ رجل قام، وتدخُل عليه التاء مُقحَمَة، وليست للتأنيث؛ إذ لو كانت للتأنيث لسَكَنتْ، واختَصَّت بالمؤنّث، وأنشد أبو زيد:

يَا حَاحِبًا رُبَّتَ إِنْسَانٍ حَسَنْ

يَسْأَلُ عَنْكَ الْيَوْمَ أَوْ يَسْأَلُ عَنْ

(3)

واختار ابن هشام في "مغنيه" أنها حرف جرّ، وليس معناها التقليل دائمًا،

(1)

"الفتح" 10/ 599 "كتاب الأدب" رقم (6203).

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 71.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 214.

ص: 315

ولا التكثير دائمًا، بل ترد للتكثير كثيرًا، وللتقليل قليلًا. انتهى

(1)

.

فـ "رُبّ" هنا للتقليل (تَحْضُرُ الصَّلَاةُ، وَهُوَ فِي بَيْتِنَا) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ) بكسر الموحّدة: ما بُسِط، أي فُرِشَ، وهو: فِعَالٌ بمعنى مفعول، ومثله كتاب بمعنى مكتوب، وفِرَاشٌ بمعنى مفروش، ونحو ذلك، وجمعه بُسُط بضمّتين (الَّذِي تَحْتَهُ، فَيُكْنَسُ) بالبناء للمفعول، يقال: كَنَسَ البيت يَكْنُسُه كَنْسًا، من باب نصر: كَسَحَ الْقُمَامة عنه، وكُنَاسةُ البيت: ما كُسِح منه من التراب، فأُلقِي بعضه على بعض، أفاده في "اللسان"

(2)

. (ثُمَّ يُنْضَحُ) بالبناء للمفعول أيضًا، أي يُرشّ بالماء، قال النوويّ رحمه الله: وإنما نضحه؛ ليلين، فإنه كان من جريد النخل، كما صرح به في هذه الرواية، ويَذهَبَ عنه الغبار ونحوه، هكذا فسره القاضي إسماعيل المالكيّ، وآخرون، وقال القاضي عياض: الأظهر أنه كان للشك في نجاسته، وهذا على مذهبه في أن النجاسة المشكوك فيها تُطَهَّر بنضحها من غير غسل، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن الطهارة لا تَحْصُل إلَّا بالغسل، فالمختار التأويل الأول. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ يَؤُمُّ) بالبناء للفاعل، وفي بعض النسخ:"ثمّ يقوم"(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَقُومُ خَلْفَهُ، فَيُصَلِّي بِنَا، وَكَانَ بِسَاطُهُمْ) أي بساط أهل ذلك العصر (مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ)"الْجَرِيد" -بفتح الجيم، وكسر الراء-: سَعَفُ النخَلِ، الواحدة: جَرِيدة، فَعِيلة بمعنى مفعولة، وإنما تُسَمَّى جَرِيدةً إذا جُرِدَ عنها خُوصُها، قاله في "المصباح"

(4)

.

و"النَّخْل": اسم جمع، الواحدة "نَخْلَةٌ"، وكل جمع بينه وبين واحده الهاء، قال ابن السكيت: فأهل الحجاز يؤنثون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البرّ، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجد وتميم يذكّرون، فيقولون: نَخْلٌ كريم، وكريمةٌ، وكرائم، وفي التنزيل:{نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وأما "النَّخِيلُ" بالياء، فمؤنثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 265 تحقيق حسن أحمد.

(2)

"لسان العرب" 6/ 197.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 164.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 96.

ص: 316

في ذلك، ذكره الفيّوميّ

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1501](659) وفي "الأدب" بقصّة الصبيّ دون الصلاة، و (البخاريّ) في "الأدب"(6129 و 6203) وفي "الأدب المفرد"(269)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(333) وفي "البرّ والصلة"(1989)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(333 و 334 و 335 و 336)، و (ابن ماجه) قصة مزاحه في "الأدب"(3720 و 3740)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 119 و 212)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2308)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1474)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 203)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز صلاة النافلة جماعة، وجواز الصلاة على البساط.

2 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق، والتواضع حيث كان يزور أم سليم وأهل بيتها، ويصلي على البساط الممتَهَن.

3 -

(ومنها): جواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا أُمِنت الفتنة.

4 -

(ومنها): تخصيص الإمام بعض الرعية بالزيارة، ومخالطة بعض الرعية دون بعض.

5 -

(ومنها): جواز مشي الحاكم وحده.

6 -

(ومنها): جواز الصلاة على الحصير، وترك التقزُّز؛ لأنه علم أن في البيت صغيرًا وصلى مع ذلك في البيت، وجلس فيه.

7 -

(ومنها): أن الأشياء على يقين الطهارة؛ لأن نضحهم البساط إنما كان للتنظيف على الراجح.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 596 - 597.

ص: 317

8 -

(ومنها): أن الاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال، وأمكنها، خلافًا لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها.

9 -

(ومنها): جواز دخول الرجل بيت المرأة وزوجها غائبٌ، ولو لم يكن محرمًا إذا انتفت الفتنة.

10 -

(ومنها): استحباب النضح فيما لم يُتَيَقَّن طهارته.

11 -

(ومنها): إكرام أقارب الخادم، وإظهار المحبة لهم؛ لأن جميع ما ذُكِر من صنيع النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أم سليم وذويها، كان غالبه بواسطة خدمة أنس رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم، وسيأتي ما يتعلّق من الفوائد بقصّة أبي عُمير في "كتاب الأدب" -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1502]

(660) - (حَدَّثَنِي

(1)

زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا وَأُمِّي، وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي، فَقَالَ:"قُومُوا، فَلِأُصَلِّيَ بِكُمْ"، فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ، فَصَلَّى بِنَا، فَقَالَ رَجُل لِثَابِتٍ: أَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ؟ قَالَ: جَعَلَهُ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، بِكُلِّ خَيْرٍ، مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ، ادْعُ اللَّهَ لَهُ، قَالَ: فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ، أَنْ قَالَ:"اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، مشهور بكنيته ولقبُهُ قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله (73) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 318

3 -

(سُلَيْمَانُ) بن المغيرة

(1)

القَيْسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبتٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أنس) بن مالك رضي الله عنه المذكور قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، وهاشم، فبغداديّان، وتقدّم ما يتعلّق بأنس رضي الله عنه، وللَّه الحمد والمنّة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا) أي في بيت أم سليم رضي الله عنها، فقد أخرج الحديث البخاريّ في "صحيحه"، من طريق حُميد، عن أنس رضي الله عنه دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أم سليم، فأتته بتمر، وسمن، قال:"أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم"، ثم قام إلى ناحية من البيت، فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم، وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول اللَّه إن لي خُوَيِصّة، قال:"ما هي؟ " قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخرة، ولا دنيا، إلا دعا لي به، قال:"اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له فيه"، فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أُمَينة، أنه دُفِن لصلبي مَقْدَمَ حَجّاج البصرةَ بضع وعشرون ومائة.

ووقع في رواية أبي داود بسند صحيح، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه أنه

(1)

وقع في برنامج الحديث للكتب التسعة هنا غلط، وهو أنهم ذكروا هنا ترجمة سليمان التيميّ، والصواب سليمان بن المغيرة، كما صرّح به أبو نعيم في "مستخرجه" 2/ 255 رقم (1473)، فتنبّه.

ص: 319

قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل على أم حرام، فأتوه بسمن، وتمر، فقال:"رُدُّوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه، فإني صائم"، ثم قام، فصلى بنا ركعتين تطوعًا، فقامت أم سليم، وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه على بساط.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا تعارض بين القصّتين؛ إذ يمكن حمله على تعدّد الواقعة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(وَمَا هُوَ إِلَّا أَنَا)"ما" هنا نافية، و"هو" في محل رفع مبتدأ، وهو ضمير يفسِّره خبره، أي لا يُعْلَم ما يراد به إلا بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظًا ورتبةً، أفاده السمين الحلبيّ رحمه الله في إعراب قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا} [الأنعام: 29] الآية.

والمواضع التي يعود الضمير فيها على متأخّر لفظًا ورُتبةً ستّة، نظمتها بقولي:

وَعَوْدُ مُضْمَرٍ عَلَى مَا أُخِّرَا

لَفْظًا وَرُتْبَةً أَتَى مُغْتَفَرَا

فِي مُضْمَرِ الشَّأْنِ وِ"نِعْمَ رَجُلَا"

وَ"رُبَّهُ فَتًى" كَذَا مَا أُبْدِلَا

مَا بَعْدَهُ عَنْهُ وَمَا قَدْ فُسِّرَا

بِخَبَرٍ وَفِي التَّنَازُعِ جَرَى

فَتِلْكَ سِتٌّ وَسِوَاهَا أَوْجَبُوا

تَقَدُّمَ الْمَرْجِعِ نَعْمَ الْمَطْلَبُ

وقوله: "إلا أنا" خبر المبتدأ.

(وَأُمِّي) أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصاريّة، يقال: اسمها سَهْلة، أو رُميلة، أو رُميثة، أو مُليكة، أو غير ذلك، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيّات الفاضلات، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد تقدمت ترجمتها في "الحيض" 7/ 716. (وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي) هي أم حرام بنت مِلْحان، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حَرَام بن جندب بن عامر بن غَنْم بن عديّ بن مالك بن النجّار الأنصاريّة، خالة أنس بن مالك، وزوجة عُبادة بن الصامت، يقال: اسمها الْغُمَيصاء، ويقال: الرُّمَيصاء.

رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنها ابن أختها أنس بن مِالك، وعُمير بن الأسود العنسيّ، ويعلى بن شداد بن أوس، وعطاء بن يسار.

قال ابن سعد: تزوجت عبادة بن الصامت، فوَلَدت له محمدًا، ثم خَلَف

ص: 320

عليها عمرو بن قيس بن زيد بن سَوّاد الأنصاريّ، كذا قال، والصحيح العكس، فقد قال غير واحد: إنها خرجت مع زوجها عُبادة في بعض غزوات البحر، وماتت في غَزَاتها، وَقَصَتها بغلتها عندما قفلوا، وذلك أول ما ركب المسلمون في البحر، في زمن معاوية، في خلافة عثمان رضي الله عنهم، زاد أبو نعيم الأصبهانيّ: وقُبِرَت بقُبْرُص، وزاد الإسماعيليّ في "مستخرجه" عن الحسن بن سفيان، عن هشام بن عمار، قال: رأيت قبرها، ووَقَفتُ عليه بِقُبْرص، جزيرة عظيمة من جزائر الروم.

أخرج لها البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، ولها في هذا الكتاب حديث واحد سيأتي في "كتاب الإمارة" برقم (1912) حديث:"أُريتُ قومًا من أمتي يركبون ظهر هذا البحر. . .".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قُومُوا، فَلِأُصَلِّيَ بِكُمْ") تقدّم إعراب هذه الجملة، وشرحها في حديث أنس رضي الله عنه المذكور أولَ الباب، وقوله:(فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ) متعلّق بـ "قال"، أو متعلّق بخبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وذلك كائنٌ في غير وقت صلاة، وأراد بذلك أن الوقت قال فيه ذلك كان غير وقت صلاة مفروضة، وليس المراد أنه صلى بهم في أوقات النهي (فَصَلَّى بِنَا) تقدّم في رواية البخاريّ:"ثم قام إلى ناحية من البيت، فصلّى غير المكتوبة"، وفي رواية عند أحمد، من طريق ثابت، عن أنس:"ثم صلّى ركعتين تطوّعًا، فأقام أم حرام، وأمّ سُليم خلفنا، وأقامني عن يمينه".

(فَقَالَ رَجُلٌ) وفي رواية أبي نعيم في "مستخرجه": "فقال رجلٌ من القوم"، ولا يُعرف هذا الرجل القائل، كما قاله صاحب "التنبيه"

(1)

. (لِثَابِتٍ) البنانيّ (أَيْنَ جَعَلَ أَنَسًا مِنْهُ؟) صلى الله عليه وسلم، أي على أي جهة منه أقامه؟ (قَالَ) ثابتٌ (جَعَلَهُ عَلَى يَمِينِهِ) أي جهة يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام (ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ) بنصب "أهلَ" على الاختصاص، كما قال في "الخلاصة":

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"

كَـ "أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"

(1)

قال في "تنبيه المعلم"(ص 148): لا أعرفه.

ص: 321

وَقَدْ يُرَ ذَا دُونَ "أَيٍّ" تِلْوَ "أَلْ"

كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ"

ويَحْتَمِل أن يكون مفعولًا لفعل مقدّر، أي أعني أهل البيت، أي أهل بيت أنس رضي الله عنه.

(بِكُلِّ خَيْرٍ) متعلّق بـ "دعا"(مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) هذا الدعاء لعموم أهل بيت أنس، غير الدعاء الخاصّ به الذي ذكره بقوله:(فَقَالَتْ أُمِّي) أمّ سُليم رضي الله عنها (يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ) تصغير خادم، صغّرته على معنى التلطُّف، لا التحقير، يقال: خَدَمه يَخْدُمه، ويَخْدِمه، من بأبي نصر، وضرب، خَدْمةً، فهو خادم غلامًا كان، أو جاريةً، والخادمة بالهاء في المونّث قليلٌ، والجمع خَدَم، بفتحتين، وخُدّام

(1)

.

فـ "خُويدمك" مبتدأ، خبره قوله:"ادع اللَّه له".

وفي رواية البخاريّ المتقدّمة: فدعا لأم سُليم وأهل بيتها، فقالت أم سُليم: يا رسول اللَّه إن لي خُوَيِصّةً، قال:"ما هي؟ " قالت: خادمك أنسٌ. . .، وفي رواية أحمد:"إن لي خُوَيصّة، خُويدمك أنسٌ، ادع اللَّه له".

(ادْعُ اللَّهَ لَهُ) أي مكافأة لإحسانه إليك بالخدمة زمنًا طويلًا، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أنه كان ابن عشر سنين مَقْدَم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فكان أمهاتي يواظبنني على خدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين، وتوفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشرين سنة. . ." الحديث.

وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" عن ثابت، قال أنس: ما شَمِمْت شيئًا عنبرًا قطّ، ولا مسكًا قطّ، ولا شيئًا قطّ أطيب من ريح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا مَسَسْتُ شيئًا قطّ ديباجًا، ولا حريرًا، ألين مَسًّا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة، ألست كأنك تنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكأنك تسمع إلى نَغَمَته؟ فقال: بلى واللَّه، إني لأرجو أن ألقاه يوم القيامة، فأقول: يا رسول اللَّه خُويدمك، قال: خدمته عشر سنين بالمدينة، وأنا غلام، ليس كل أمري كما يَشْتَهِي صاحبي أن يكون، ما قال لي فيها: أُفّ، ولا قال لي: لم فعلت هذا؟ وألا فعلت هذا؟.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 165، و"القاموس المحيط" 4/ 103.

ص: 322

(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ) هذا يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا لأنس رضي الله عنه بدعوات كثيرة، غير هذا (أَنْ قَالَ)"أَنْ" بفتح الهمزة مصدريّة، والمصدر المؤوّل اسم "كان" مؤخّرًا، أي كان قوله:("اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ) وقوله: (فِيهِ") وكذا هو في رواية البخاريّ المتقدّمة بالإفراد؛ نظرًا إلى اللفظ، ولأحمد:"فيهم"؛ نظرًا إلى المعنى، وللبخاريّ في "الدعوات"، من طريق قتادة، عن أنس:"وبارك له فيما أعطيته".

ولم يقع في هذه الرواية التصريح بما دعا له من خير الآخرة؛ لأن المال والولد من خير الدنيا، وكأن بعض الرواة اختصره.

وسيأتي لمسلم في "الفضائل" من طريق الجعد، أبي عثمان، قال: حدّثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: مَرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسمعت أمي، أم سليم صوته، فقالت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه، أنيسٌ، فدعا لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات، قد رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة.

ولم يبيّن هذه الثالثة، وهي المغفرة كما بيّنها سنان بن ربيعة بزيادة، وذلك فيما رواه ابن سعد، بإسناد صحيح عنه، عن أنس رضي الله عنه قال:"اللهم أكثر ماله، وولده، وأطل عمره، واغفر ذنبه"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1502 و 1503 و 1504](660) وفي "فضائل الصحابة"(2481)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1982) و"الدعوات"(6334 و 6344 و 6378 و 6385) وفي "الأدب المفرد"(88)، و (أبو داود) في "الصلاة"، و (ابن ماجه) فيها (975)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(802 و 803 و 804)، وفي "الكبرى"(877 و 878 و 879)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2027)، و (أحمد)

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 269 "كتاب الصوم" رقم (1982).

ص: 323

في "مسنده"(3/ 193 و 194 و 217 و 258 و 261)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1267)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1528)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2207)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1473)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان جواز الجماعة في النافلة.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الدعاء للخادم؛ مكافأة على إحسانه، فقد أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ باللَّه فأعيذوه، ومن سألكم باللَّه فأعطوه، ومن استجار باللَّه فأجيروه، ومن آتى إليكم معروفًا، فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعوا له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه".

3 -

(ومنها): جواز التصغير على معنى التلطّف لا التحقير.

4 -

(ومنها): تحفة الزائر بما حضر بغير تكلُّف.

5 -

(ومنها): جواز ردّ الهدية إذا لم يَشُقّ ذلك على المهدي، وأن أخذ من رد عليه ذلك له ليس من العود في الهبة.

6 -

(ومنها): حفظ الطعام وترك التفريط فيه، وجبر خاطر المزور إذا لم يؤكل عنده بالدعاء له.

7 -

(ومنها): مشروعية الدعاء عقب الصلاة، وتقديم الصلاة أمام طلب الحاجة.

8 -

(ومنها): استحباب الدعاء بخير الدنيا والآخرة؛ لأن كلّ ذلك بيد اللَّه عز وجل، وقد رغّب اللَّه تعالى في ذلك حيث قال:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} [البقرة: 201، 202]، وقال عز وجل:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134].

(1)

المراد فوائد الحديث بجميع رواياته المختلفة التي أوردتها في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف هنا، فتنبّه.

ص: 324

9 -

(ومنها): جواز الدعاء بكثرة المال والولد، وأن ذلك لا ينافي الخير الأخرويّ، وأنّ فَضْلَ التقلل من الدنيا يختلف باختلاف الأشخاص.

10 -

(ومنها): زيارة الإمام بعض رعيته.

11 -

(ومنها): جواز دخول بيت الرجل في غيبته؛ لأنه لم يُنقَل في طرق هذه القصّة أن أبا طلحة رضي الله عنه كان حاضرًا.

12 -

(ومنها): إيثار الولد على النفس، وحسن التلطف في السؤال.

13 -

(ومنها): أن كثرة الموت في الأولاد لا ينافي إجابة الدعاء بطلب كثرتهم، ولا طلب البركة فيهم؛ لما يحصل من المصيبة بموتهم، والصبرِ على ذلك من الثواب.

14 -

(ومنها): التحدث بنعم اللَّه تعالى، وبمعجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم لما في إجابة دعوته من الأمر النادر، وهو اجتماع كثرة المال مع كثرة الولد، وكون بستان المدعوّ له صار يثمر مرتين في السنة دون غيره.

15 -

(ومنها): أن فيه التاريخ بالأمر الشهير، ولا يَتَوَقَّف ذلك على صلاح المؤرَّخ به.

16 -

(ومنها): أنه إنما دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنس بالبركة في ماله؛ لأن مجرّد كثرة المال لا ينفع صاحبه إلا إذا بارك اللَّه تعالى له فيه، فقام بواجبه، وإلا يكون وبالًا عليه، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه، وقليلٌ ما هم"، وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا، وقليلٌ ما هم، عن يمينه، وعن شماله، وبين يديه، ووراءه".

17 -

(ومنها): أن اللَّه تعالى أكرم نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث استجاب دعاءه لأنس رضي الله عنه، فكان أكثر الناس مالًا وولدًا، وطال عمره.

أما كثرة ماله، وولده، فقد أخرج مسلم في "فضائل الصحابة" من طريق إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه، قال: جاءت بي أمي، أم أنس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد أَزَّرَتني بنصف خمارها، ورَدّتني بنصفه، فقالت:

ص: 325

يا رسول اللَّه، هذا أُنيس ابني أتيتك به يخدُمك، فادع اللَّه له، فقال:"اللهم أكثر ماله وولده"، قال أنس: فواللَّه إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم.

وفي "كتاب الصوم" من "صحيح البخاريّ": قال أنس: وحدّثتني ابنتي أُمينة أنه دُفِن لصلبي مَقْدَم الحجاج البصرة

(1)

بضع وعشرون ومائة

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: كان أكثر الصحابة أولادًا، وقد قال ابن قُتيبة في "المعارف": كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كلُّ واحد منهم من ولده مائةَ ذكر لصلبه: أبو بكرة، وأنس، وخليفة بن بدر، وزاد غيره رابعًا، وهو المهلَّب بن أبي صُفْرة.

وأخرج الترمذيّ، عن أبي العالية في ذكر أنس: وكان له بستان يأتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك، ورجاله ثقات.

(1)

قوله: "مقدم الحجاج البصرة" بالنصب على نزع الخافض: أي من أول ما مات لي من الأولاد إلى أن قدمها الحجاج، ووقع ذلك صريحًا في رواية ابن أبي عديّ، ولفظه: وذَكَر أن ابنته الكبرى أمينة أخبرته أنه دُفن لصلبه إلى مقدم الحجاج، وكان قدوم الحجاج البصرة سنة خمس وسبعين، وعمر أنس حينئذ نيف وثمانون سنة، وقد عاش أنس بعد ذلك إلى سنة ثلاث، ويقال: اثنتين، ويقال: إحدى وتسعين، وقد قارب المائة، قاله في "الفتح" 4/ 169 "كتاب الصوم" رقم (1982).

(2)

قوله: "بضع وعشرون ومائة" في رواية ابن أبي عديّ: "نيف على عشرين ومائة"، وفي رواية الأنصاريّ، عن حميد، عند البيهقي في "الدلائل":"تسع وعشرون ومائة"، وهو عند الخطيب في "رواية الآباء عن الأبناء"، من هذا الوجه، بلفظ:"ثلاث وعشرون ومائة"، وفي رواية حفصة بنت سيرين:"ولقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسة وعشرين ومائة"، وفي "الحلية" أيضًا من طريق عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس، قال:"دفنت مائة لا سِقْطًا ولا ولد ولد"، ولعل هذا الاختلاف سبب العدول إلى البضع والنيف، وفي ذكر هذا دلالة على كثرة ما جاءه من الولد، فإن هذا القدر هو الذي مات منهم، وأما الذين بَقُوا ففي رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، عند مسلم:"وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة"، ذكره في "الفتح" 4/ 270.

ص: 326

ولأبي نعيم في "الحلية" من طريق حفصة بنت سيرين، عن أنس، قال:"وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يُثمر مرتين غيرها"

(1)

.

وأما طول عمره رضي الله عنه، فقد ثبت في "الصحيح" أنه كان في الهجرة ابن تسع سنين، وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل، وقيل: سنة ثلاث، وله مائة وثلاث سنين، قاله خليفة، وهو المعتمد، وأكثر ما قيل في سنِّه أنه بلغ مائة وسبع سنين، وأقل ما قيل فيه: تسعًا وتسعين سنةً، أفاده في "الفتح"

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1503]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ، سَمِعَ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِ، وَبِأُمِّهِ، أَوْ خَالَتِهِ، قَالَ: فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(ح م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الناقد البصير العابد، أمير المؤمنين في الحديث، وأول من فتّشَ بالعراق عن الرجال، وذبّ عن السنّة [7](160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُخْتَارِ) البصريّ، ثقة

(3)

[7].

(1)

"الفتح" 4/ 269 "كتاب الصوم" رقم (1982).

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 149 "كتاب الدعوات" رقم (6344).

(3)

قال في "التقريب": لا بأس به، والحقّ أنه ثقةٌ؛ لأنه روى عنه جماعة، ومنهم شعبة، والحمادان، وغيرهم، ووثقه ابن معين، والنسائيّ، وغيرهم، وأخرج له =

ص: 327

رَوَى عن زياد بن عِلاقة، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن زياد الْجُمَحيّ، وسعيد الْجُريريّ، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، وموسى بن أنس بن مالك، وغيرهم.

ورَوَى عنه إسرائيل، والحمادان، وشعبة، وشيبان بن عبد الرحمن، وشريك، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وكذا ابن خلفون، وقال شعبة: كان من فتياننا، وكان أحدث مني سنًّا.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (660)، وحديث (1852):"إنه ستكون هنات وهنات. . . " الحديث.

5 -

(مُوسَى بْنُ أَنَس) بن مالك الأنصاريّ، قاضي البصرة، ثقةٌ [4].

رَوَى عن أبيه، وابن عمه عمرو بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، وعبد اللَّه بن عباس.

وروى عنه ابنه حمزة، وعطاء بن أبي رباح، وهو أكبر منه، ومكحول الشاميّ، وهو من أقرانه، وحميد الطويل، وعبد اللَّه بن عون، وداود بن أبي هند، وعبد اللَّه بن المختار، وشعبة، وسليمان بن بلال، وآخرون.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: كان ثقةً، قليل الحديث، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد أخيه النضر بن أنس.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (660) و (677) و (2312) و (2359) وأعاده بعده.

و"أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ" ذُكر قبله.

وقوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِ، وَبِأُمِّهِ، أَوْ خَالَتِهِ. . . إلخ)"أو" فيه

= مسلم، ولم يتكلم فيه أحد، وإنما قال أبو حاتم وحده: لا بأس به، فتنبّه، راجع ترجمته في "تهذيب الكمال" 16/ 111 - 112، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 328

للشكّ، وفي رواية النسائيّ من طريق يحيى القطّان، عن شعبة:"صلّى بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبامرأة من أهلي، فأقامني عن يمينه، والمرأة خلفنا".

[تنبيه]: أورد ابن حبّان رحمه الله حديث موسى بن أنس هذا في "صحيحه"(5/ 583) رقم (2206) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة، ولفظه:"عن أنس بن مالك، أنه كان هو ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمه وخالته، فصلّى بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعل أنسًا عن يمينه، وأمه وخالته خلفهما".

والظاهر أن قوله: "وخالته" بالواو غلط، والصواب "أو خالته" بـ "أو"، كما هو في رواية المصنّف هنا، ومما يؤيّد هذا أن مسلمًا رحمه الله ساق رواية محمد بن جعفر، عن شعبة بعد هذا، ثم أحالها على رواية معاذ بن معاذ هذه، فلو كان بين الروايتين مخالفة لنبّه عليها، كعادته في ذلك، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1503 و 1504](660)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(805)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1504]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، المعروف بالزَّمِنِ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذَليّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

ص: 329

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [9](ت 198)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد شعبة السابق، وهو: عن عبد اللَّه بن المختار، عن موسى بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة، ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 256) فقال:

(1476)

حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة بإسناده: "أنه كان هو ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وامرأة وخالته

(1)

، فصلى بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعل أنسًا عن يمينه، وأمه أو خالته خلفه". انتهى.

وأما رواية ابن مهديّ، فلم أجد من ساقها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1505]

(513 مكرّر) - (حَدَّثَنَا

(2)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، كِلَاهُمَا عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، وَأَنَا حِذَاءَهُ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ، وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى خُمْرَةٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم أول الباب.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.

(1)

هكذا النسخة: "وخالته" بالواو، والظاهر أنه بـ "أو"، كما هو عند المصنّف، ويدلّ عليه أيضًا آخر الحديث.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 330

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ) بن عمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقةٌ [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 439.

5 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّاد) بن الهاد الليثيّ، أبو الوليد المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [2] قُتِل بالكوفة سنة (81) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 1/ 687.

7 -

(مَيْمُونَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها، ماتت سنة (51)(ع) تقدّمت في "الحيض" 1/ 687.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله في "الصلاة"[53/ 1151](513)، وبقي الكلام على قوله:(وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى خُمْرَةٍ).

و"الخمرة" -بضم الخاء، وسكون الميم-: وزان غُرْفة، قال الطبريّ رحمه الله: هو مصَلَّى صغير يُعْمَل من سَعَفِ النخل، سُمِّيت بذلك؛ لسترها الوجه والكفين من حَرّ الأرض وبردها، فإن كانت كبيرة سميت حصيرًا، وكذا قال الأزهري في "التهذيب"، وصاحبه أبو عبيد الهرويّ، وجماعة بعدهم، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله: الخُمْرة: حَصِيرةٌ أو سَجَّادة صغيرة، تُنْسَج من سَعَف النخل وتُرَمَّلُ بالخيوط، وقيل: حَصِيرة أصغر من المُصَلَّى، وقيل: الخمرة: الحصير الصغير الذي يُسجَدُ عليه. قال الزجاج: سُمِّيت خمرةً؛ لأنها تستر الوجه من الأرض. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: هي مقدار ما يَضَعُ الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير، أو نَسِيج خُوص، ونحوه، من النبات، قال: ولا تكون خُمْرة إلا في هذا المقدار، وسُمِّيت خمرة؛ لأن خيوطها مستورة بسعَفِها، وقد تكررت في الحديث، هكذا فسرت.

وقد جاء في "سنن أبي داود"، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "جاءت فأرة،

(1)

1/ 572.

(2)

"لسان" 2/ 1261.

ص: 331

فأخذت تَجُرُّ الفَتِيلة، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع درهم"، وهذا صريح في إطلاق الخمرة على الكبير من نوعها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الظاهر أن المراد هنا الكبيرة؛ إذ لو كانت صغيرة لقالت: "كان يسجد على خمرة".

وفي "المنهل": أن الخمرة يجعلها المصلي تحت جبهته؛ لتَقِيه من الحر، والبرد، وتُطْلَق أيضًا على الكبير من نوعها، وهو المراد في الحديث. انتهى

(2)

.

وفيه دلالة على جواز الصلاة على الخمرة، قال ابن بطال: لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة على الخمرة، إلا ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يؤتى بالتراب، فيوضع على الخمرة، فيسجد عليه، ولعله كان يفعله على جهة المبالغة في التواضع، والخشوع، فلا يكون فيه مخالفة للجماعة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: مثل هذا الفعل لا ينبغي الاقتداء به، وإن كان عمر بن عبد العزيز عَمِلَ به مبالغة في التواضع، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ تواضعًا منه، وهو القدوة الحسنة، قال اللَّه تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فلا ينبغي العدول عما ثبت عنه؛ لأن اللَّه تعالى ضَمِنَ الهداية في اتباعه فقط، قال اللَّه تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1506]

(661) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ

(1)

"النهاية" 2/ 77 - 78.

(2)

"المنهل العذب المورود" 5/ 46.

ص: 332

يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ، يَسْجُدُ عَلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في السند الماضي.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

4 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْهَرَويّ الأصل، ثم الْحَدثانيّ، صدوقٌ، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقّن، من قدماء [10](ت 140) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

5 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

6 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ ورع، إلا أنه يُدلس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

7 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

8 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

9 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

10 -

(جَابِر) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد (70) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

11 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

ص: 333

وقوله: (يُصَلِّي عَلَى حَصِيرِ، يَسْجُدُ عَلَيْهِ) -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين-: الذي يُبسط في البيَوت، وقد تقدّم تفسيره مستوفًى، وكذا بيان اختلاف العلماء في حكم الصلاة عليه في شرح حديث أنس رضي الله عنه المذكور أوّل الباب.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في "باب الصلاة في الثوب الواحد" برقم [54/ 1161](519) فراجعه هناك تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(50) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1507]

(649) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ

(1)

: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ، تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ، بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ، لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ، فَلَمْ يَخْطُ

(2)

خَطْوَةً، إِلَّا رُفِعَ لَهُ

(3)

بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي الصَّلَاةِ، مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ، مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ").

(1)

وفي نسخة: "قال أبو بكر".

(2)

وفي نسخة: "لم يَخطُ".

(3)

وفي نسخة: "إلا رفع اللَّه له".

ص: 334

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

2 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه مات سنة (7 أو 8 أو 59)(ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى الصحابي، وأبي صالح، فمدنيّان.

4 -

(ومنها): أن شيخه أبا كريب من المشايخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الرَّجُلِ) مبتدأ، والمضاف محذوفٌ، أي ثواب صلاته، والضمير في "تزيد" راجع إليه

(1)

.

قال ابن الملقّن رحمه الله: قوله: "صلاة الرجل" هو في المرأة كذلك حيث يُشرع لها الخروج إلى المسجد؛ لأن وصف الرجوليّة بالنسبة إلى ثواب الأعمال غير معتبرة شرعًا، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من أعتق شركًا له في عبد. . . "

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 934.

ص: 335

الحديث، متّفقٌ عليه، وكقوله: من صلى كذا، من فعل كذا فله كذا، كلّه يتساوى فيه الرجال والنساء من غير نزاع، نبّه على ذلك ابن دقيق العيد رحمه الله، فتكون "أل" في الرجل ليست لتعريف ماهيّة الرجوليّة، بل للعموم من حيث المعنى، كما عمّ "قوم" الرجال والنساء في قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، وإن كان لفظ "قوم" خاصًّا بالرجال دون النساء، كما قاله الماورديّ.

نعم قال الرويانيّ من الشافعيّة: هل تكون جماعة النساء في الفضل، والاستحباب كجماعة الرجال؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم، فتفضل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة.

وأظهرهما أن جماعة الرجال أفضل من جماعتهنّ؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. انتهى

(1)

.

(فِي جَمَاعَةٍ) أي معهم (تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ) قال النوويّ رحمه الله: المراد صلاته في بيته وسوقه منفردًا هذا هو الصواب، وقيل فيه غير هذا، وهو قول باطلٌ، نبّهت عليه؛ لئلا يُغترّ به. انتهى

(2)

.

قال ابن الملقّن: ومن ذلك قول ابن التين في "شرح البخاريّ": لو صلّى في سوقه جماعةً كان الفذّ؛ أخذًا بظاهر الحديث، أو لأن السوق مأوى الشياطين، وهذا وَاهٍ جدًّا، نعم رفع الدرجات، وحطّ الخطيئات مشروطٌ بالمشي إلى المسجد، فمن فعل ذلك حصلا له، وإلا فلا. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: في تخصيص ذكر السوق والبيت إشعارٌ بأن مضاعفة الثواب على غيرهما من الأماكن التي لم تلزمه لزومهما لا يكون أكثر مضاعفةً منهما. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعةً تزيد على

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 362 - 363.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 165.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 364.

(4)

"الكاشف" 3/ 934.

ص: 336

الصلاة في البيت وفي السوق جماعةً وفُرَادى، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله، قال: والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردًا، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردًا.

قال: وبهذا يرتفع الاشكال عمن استَشْكَل تسوية الصلاة في البيت والسوق. انتهى.

قال الحافظ: ولا يَلْزَم من حمل الحديث على ظاهره التسويةُ المذكورة إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن كون الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردًا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختصّ بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقًا أولى منها في السوق؛ لما ورد من كون الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعةً في البيت، وفي السوق أولى من الانفراد. وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع، وفي المسجد العامّ مع تقرير الفضل في غيره.

ورَوَى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أوس الْمَعَافريّ أنه قال لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: أرأيت من توضأ، فأحسن الوضوء، ثم صلى في بيته؟ قال: حَسَنٌ جَمِيلٌ، قال: فإن صلى في مسجد عشيرته؟ قال: خمس عشرة صلاةً، قال: فإن مشى إلى مسجد جماعة، فصلى فيه؟ قال: خمس وعشرون. انتهى.

وأخرج حميد بن زنجويه في "كتاب الترغيب" نحوه، من حديث واثلة، وخَصّ الخمس والعشرين بمسجد القبائل، قال: وصلاته في المسجد الذي يُجَمَّع فيه -أي الجمعة- بخمسمائة، وسنده ضعيف، ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي نُقل عن عبد اللَّه بن عمرو، وواثلة رضي الله عنهما إن صحّ مرفوعًا فذاك، وإلا فما دلّ عليه ظاهر ما في "الصحيحين" من كون التضعيف يعم أنواع صلاة الجماعة هو الأقرب، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 2/ 159.

ص: 337

(بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) البضع بكسر الباء، وفتحها، وهو من الثلاثة إلى العشرة، هذا هو الصحيح، والمراد هنا خمس وعشرون درجةً، كما جاء مفسّرًا في الروايات الأخرى، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "باب فضل صلاة الجماعة"[43/ 1474] فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق. (وَذَلِكَ) إشارة إلى ما دلّ عليه قوله:"يزيد"، يعني أن سبب الزيادة المذكورة أنه إذا توضّأ. . . إلخ.

وقال الطيبيّ: قوله: "وذلك" الجملة كالتعليل للحكم، كأنه لَمّا أضاف الصلاة إلى الرجل، والتعريف فيه للجنس أفاد أن صلاة الرجل الكامل الذي لا يُلهيه أمر دنيويّ عن ذكر اللَّه في بيت اللَّه يضعّف أضعافًا؛ لأن مثل هذا الرجل لا يقصّر في شرائطها، وأركانها، وآدابها، فإذا توضّأ أحسن الوضوء، وإذا خرج إلى الصلاة لا يشوبه شيء مما يُكدّرها، فإذا صلّى لم يتعجّل للخروج، ومَنْ شأنه هذا فجديرٌ بأن يضعّف ثواب صلاته. انتهى

(1)

.

(أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ) شَمِل الوضوء المجدّد وغيره، وقد يقال: إن قوله: "توضّأ" ليس للتقييد بالفعل، وإنما خرج مخرج الغالب، أو ضرب المثال، قاله ابن الملقّن

(2)

.

وقال في "الفتح": هذا ظاهر في أن الأمور المذكورة علّة للتضعيف المذكور؛ إذ التقدير: وذلك لأنه، فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك، فما رُتِّب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها، إلا إذا دلّ الدليل على إلغاء ما ليس معتبرًا، أو ليس مقصودًا لذاته، وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه معقولة المعنى، فالأخذ بها متوجِّه، والروايات المطلقة لا تنافيها، بل يُحْمَل مطلقها على هذه المقيدة، والذين قالوا بوجوب الجماعة على الكفاية، ذهب كثير منهم إلى أن الحرج لا يسقط بإقامة الجماعة في البيوت، وكذا رُوي عن أحمد في فرض العين، ووجَّهوه بأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد، وهو وصف معتبر، لا ينبغي إلغاؤه، فيختص به المسجد، ويُلْحَق به ما في معناه مما يَحْصُل به إظهار الشعار. انتهى

(3)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 934.

(2)

"الإعلام" 2/ 364.

(3)

"الفتح" 2/ 159.

ص: 338

(فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) أي بإكمال الفرض ومراعاة الآداب كمًّا وكيفًا (ثُمَّ أَتَى الْمَسْجدَ) هذا لا يستلزم الفوريّة، نعم البِدَار أولى فيما يظهر؛ لعموم قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 61].

(لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ) بفتح أوله، والهاء، وبالزاي: أي لا يُحرّكه، ولا يُقيمه إلا إرادة الصلاة، ومنه انتَهَزَ الفُرْصة: أي تحرّك لها، وحصَّلها، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: ظاهره ترتيب المذكور من رفع الدرجات، وحطّ الخطيئات على اشتراط الخروج لها فقط، لا لأمر آخر من غير العبادات، ونظيره حجُّ من خَلَطَ به التجارة، أو غيرها من الأسباب الدنيويّة، فإنه ليس كمن محّضَ الخروج للحجّ، وكذا سائر العبادات، من الجهاد وغيره.

وأَسْنَد الفعل إلى الصلاة، وجعلها هي المحرّكة والمخرجة له، كأنه لفَرْط محافظته عليها، ورجاء ثوابها مُجْبَرٌ على خروجه إليها، وأنّ الصلاة هى الفاعلة للخروج، لا هو. انتهى

(2)

.

(لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ) أي لا يقصد إلا أداء الصلاة في جماعة فـ "أل" في "الصلاة" للعهد، والجملة حال مؤكّدة لما قبلها، والمضارع المنفيّ إذا وقع حالًا يجوز فيه الواو وتركه

(3)

. (فَلَمْ يَخْطُ) بفتح أوله وضم الطاء، من خطا يخطو خَطْوًا: إذا فتح ما بين قدميه، ومشى (خَطْوَةً) قال في "الفتح": ضبطناه بضم أوله، ويجوز الفتح، قال الجوهريّ: الخطوة بالضم: ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة، وجزم اليعمريّ أنها هنا بالفتح، وقال القرطبيّ: إنها في روايات مسلم بالضم. انتهى

(4)

.

وقال ابن الملقّن بعد ذكره نحو ما تقدّم: وقال غيرهم من المتأخّرين: كأن القياس أن يجيء في "خطوة" ثلاثة أوجه: الضمّ، والكسر، والفتح، كما هو في "جذوة"، وأشباهها، وقد قُرئ بالأوجه الثلاثة في {جَذْوَةٍ} [القصص: 29] في السبع على ما أَصَّله أهل اللغة، من أن كلَّ ما كان على "فَعْلَةِ" لامه

(1)

"المفهم" 2/ 289.

(2)

"الإعلام" 2/ 365.

(3)

راجع: "المرعاة" 2/ 409.

(4)

"الفتح" 2/ 159.

ص: 339

واو، بعدها تاء التأنيث جاء فيه ثلاثة أوجه. انتهى

(1)

.

(إِلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ) ببناء الفعل للمفعول، و"درجةٌ" بالرفع على أنه نائب الفاعل، وفي بعض النسخ:"إلا رفع اللَّه له بها درجةً"، وعليه فالفعل مبنيّ للفاعل، و"درجةً" منصوب على المفعوليّة، وكذا ما بعده، واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: "الدرجة" واحدة الدرجات، وهي الطبقات من المراتب، و"الدُّرَجَة" بضمّ الدال، مثالُ الْهُمَزَة لغة في الدَّرَجة، وهي المرقاة، قاله الجوهريّ.

وهل هذه الدرجة محسوسة، أو معنويّةٌ؟ بمعنى ارتفعت رُتبته، اللَّه أعلم بذلك.

وأما حطّ الخطيئة، فالظاهر أنه محوها من صحيفة السيّئات حقيقةً. انتهى

(2)

.

(وَحُطَّ عَنْهُ) أي أزال عنه (بِهَا) أي بتلك الخطوة (خَطِيئَةٌ) أي إثمًا (حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ) غاية للرفع والحطّ.

قال الداوديّ: إن كانت له ذنوب حُطّت عنه، وإلا رُفعت له درجات، قال: وهذا يقتضي أن الحاصل بالخطوة درجةٌ واحدةٌ، إما الحطّ، وإما الرفع، أي وتكون الواو بمعنى "أو"، لا بمعنى العطف، وخالف غيره، فقال: بل الحاصل بالخطوة الواحدة ثلاثة أشياء؛ لقوله في الحديث الآخر: "كتب اللَّه له بكلّ خطوة حسنةً، وَيرفعه بها درجةً، ويَحُطّ بها عنه سيّئةً"

(3)

. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن الخطوة الواحدة فيها ثلاث درجات: كتابة الحسنة، ورفع الدرجة، وحطّ السيّئة، كما نصّ الحديث الأخير، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الإعلام" 2/ 365 - 366.

(2)

"الإعلام" 2/ 366.

(3)

تقدّم الحديث مطوّلًا للمصنّف "باب بيان كون صلاة الجماعة من سنن الهدى"[1489].

(4)

"المفهم" 2/ 290، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 366 - 367.

ص: 340

(فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، كانَ فِي الصَّلَاةِ) أي في ثوابها، فكأنه يصلّي بالفعل، وإن لم يدخل فيها، فله أجر المصلين، وليس المراد أنه في حكم الصلاة، حتى يمتنع عليه الكلام ونحوه

(1)

. (مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ)"ما" مصدريّة ظرفيّة، أي مدّة كون الصلاة، وقوله:(هِيَ) ضمير الفصل جيء به للتوكيد، وقوله:(تَحْبِسُهُ) خبر "كانت"، وهو بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، أي تمنعه عن الخروج من المسجد، والتصرّف في أشغاله الدنيويّة.

وقال في "المرعاة": "أي مدّة كون الصلاة حابسةً له، بأن كان جالسًا لانتظار الصلاة، أما جلوسه بعد الصلاة لذكر، أو اعتكاف مثلًا، فلا يترتّب عليه خصوص هذا الثواب، وإن كان فيه ثوابٌ عظيمٌ". انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وفي قوله: "ما كانت الصلاة تحبسه" إشارة إلى النفس اللوّامة التي تنهي استيفاء لذّاتها، واشتغالها بخلع العذار، والصلاة تنهاها عن هواها، وتَحبسها في بيت اللَّه تعالى، كما كانت آمرةً بالمعروف في قوله:"لا يُخرجه إلا الصلاة"، فإذا لزم مصلّاه، وانتظر الصلاة الأخرى اطمأنّت، وقيل لها:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} ، فإذا طلبت الملائكة الغفران والرحمة لها قيل لها:{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]. انتهى

(3)

.

(وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ) أي تدعو له بالخير، وتستغفر له من ذنوبه، وتطلب له الرحمة (عَلَى أَحَدِكُمْ) وفي رواية البخاريّ:"فإذا صلّى لن تزال الملائكة تصلّي عليه ما دام في مصلّاه"، قال ابن أبي جمرة رحمه الله: قوله: "فإذا صلى": أي صلى صلاةً تامّةً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: "ارجع، فصلّ، فإنك لم تصلِّ"(مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ) أي في مكانه الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد، مستمرًّا على نية انتظار الصلاة كان كذلك، قاله في "الفتح"

(4)

.

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 339.

(2)

"المرعاة" 2/ 410.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 934 - 935.

(4)

"الفتح" 2/ 159.

ص: 341

وروى الإمام مالك رحمه الله في "الموطّأ" عن نعيم بن عبد اللَّه المجمر، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول:"إذا صلى أحدكم، ثم جلس في مصلاه، لم تزل الملائكة تصلي عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي".

قال الباجيّ رحمه الله: المنتظر في غير مصلاه من المسجد يكون في صلاة، كالمنتظر في مصلاه، غير أن المنتظر في مصلاه يحصُل له أنه في صلاة، وصلاة الملائكة عليه، بخلاف المنتظر في غير مصلاه

(1)

. انتهى.

وروى الحاكم في "مستدركه" من حديث داود بن صالح، قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أيّ شيء نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]؟، قيل: لا، قال: إنه لم يكن في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزو يُرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة. انتهى

(2)

.

(يَقُولُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أي حال كونهم قائلين (اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللُّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ) أي وفّقه للتوبة، وتقبّلها منه، أو ثبّته عليها.

قال الطيبيّ رحمه الله: طلبت له الرحمة من عند اللَّه تعالى بعد طلب الغفران؛ لأن صلاة الملائكة على العباد استغفار لهم.

(مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ)"ما" مصدريّة ظرفيّة أيضًا، أي مدّة عدم إيذائه في ذلك المجلس.

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ما لم يؤذ": أي ما لم يؤذ أحدًا من المسلمين بلسانه ويده، فإنه كالحدث المعنويّ، ومن ثمّ أتبعه بالحديث الظاهريّ. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما لم يؤذ فيه" أي ما لم يصدُر عنه ما يتأذَّى به بنو آدم والملائكة، قال: ويَحْتَمِل أن يكون قوله: "ما لم يُحدث فيه" بدلًا

(1)

"المنتقى" 1/ 283.

(2)

"المستدرك" 2/ 301 وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.

ص: 342

من قوله: "ما لم يؤذ فيه". انتهى

(1)

.

وقال في "المرعاة": ما لم يؤذ أحدًا من المسلمين بقوله، أو فعله، وقيل: ما لم يؤذ الملائكة، وإيذاؤه إياهم بالحدث في المسجد، وهو معنى قوله:(مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ") بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإحداث، والمراد خروج الريح منه، قال التوربشتيّ: هو: بتخفيف الدال، من الحدث، ومن شدّدها، فقد أخطأ. انتهى.

وفي رواية حمّاد بن سلمة، عن ثابت الثالثة:"قال: قلت: ما يُحدث؟، قال: يفسو، أو يضرِط".

وعند البخاريّ في "صحيحه" من طريق همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فقال رجل أعجميّ: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت، يعني الضَّرْطة". انتهى.

وعند الترمذيّ في "جامعه" من طريق همّام بن منبّه أيضًا: "فقال رجلٌ من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ فقال: فُساءٌ، أو ضُرَاطٌ". انتهى.

قال في "الفتح": والظاهر أنه إنما خصهما بالذكر دون ما هو أشدّ منهما؛ لكونهما لا يخرج من المرء غالبًا في المسجد غيرهما، فالظاهر أن السؤال وقع عن الحدث الخاصّ، وهو المعهود وقوعه غالبًا في الصلاة. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: ولعلّ الرجل إنما استفسره؛ لأن الإحداث يُستعمل على معنى إصابة الذنب، فاشتبه عليه المعنى. انتهى

(3)

.

وقال في "المرعاة": قوله: "ما لم يُحدث" مِن أحدث: أي ما لم ينقُض وضوئه، وظاهره عموم النقض لغير الاختيار أيضًا، ويَحْتَمِل الخصوص، ولفظ البخاريّ:"ما لم يؤذ، يُحْدِثْ فيه"، قال الحافظ: كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدليّة، ويجوز الرفع على الاستئناف، وللكشميهنيّ:"ما لم يؤذ بحدث فيه" بلفظ الجارّ والمجرور تعلّقًا بـ "يؤذ".

(1)

"المفهم" 2/ 290.

(2)

"الفتح" 1/ 339 "كتاب الوضوء" رقم (176).

(3)

"الكاشف" 3/ 935.

ص: 343

وقال الكرمانيّ: وفي بعض النسخ: "ما لم يُحدث فيه" بطرح لفظ "يؤذ"، أي ما لم ينقض الوضوء، فالمراد بالحدث الناقض للوضوء، يدلّ عليه ما رُوي أن أبا هريرة لَمّا روى هذا الحديث قال له أبو رافع: ما "يُحدِثُ؟ " قال: يفسو أو يضرط.

وقيل: يَحْتَمِلُ أن يكون المراد بالحدث هنا أعمّ من الحديث الناقض للوضوء، أي ما لم يُحدث سوءًا، ويدلّ عليه رواية أبي داود:"ما يؤذ فيه، أو يُحدث فيه"؛ لأنه عطف قوله: "أو يُحدث" على قوله: "لم يؤذ فيه".

قال المهلّب: معنى الحديث أن الحدث في المسجد خطيئة يُحرَم بها المحدِث استغفار الملائكة، ودعاءهم المرجوّ بركته.

وقيل: إخراج الريح من الدبر لا يحرُم، لكن الأولى اجتنابه؛ لأن الملائكة تتأذّى بما يتأذَّى منه بنو آدم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 1507 و 1508 و 1509 و 1510 و 1511 و 1512 و 1513](649)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(477) و"الأذان"(647) و"البيوع"(2119)، و (أبو داود) في "الصلاة"(559)، و (الترمذيّ) فيها (603)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(281) وفي "المساجد"(786)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2412 و 2414)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 252)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 388 و 2/ 4)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1479 و 1480 و 1481 و 1482 و 1483 و 1484 و 1485)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1490)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2043)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 61)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل انتظار الصلاة في المسجد، وقد ورد في فضل

ص: 344

الانتظار أحاديث، فقد أخرج الإمام أحمد، وصححه ابن خزيمة، والحاكم عن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا تطهر الرجل، ثم مَرّ إلى المسجد، يَرْعَى الصلاة، كَتَب له كاتبه، أو كاتباه، بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعدُ يرعى للصلاة كالقانت، ويُكْتَب من المصلين، من حين يخرج من بيته حتى يرجع"

(1)

.

وأخرج الإمام أحمد أيضًا بإسناد صحيح، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: صلينا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فعَقَّب مَن عَقَّب، ورجع من رجع، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يثوب الناس لصلاة العشاء، فجاء، وقد حَفَزه النَّفَسُ رافعًا إصبعه هكذا، وعَقَدَ تسعًا وعشرين، وأشار بإصبعه السبابة إلى السماء، وهو يقول: أبشروا معشر المسلمين، هذا ربكم عز وجل قد فتح بابًا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: ملائكتي انظروا إلى عبادي، أَدَّوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى"

(2)

.

2 -

(ومنها): استُدِلّ به على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال؛ لما ذُكِرَ من صلاة الملائكة عليه، ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة.

3 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه استحباب إحسان الوضوء بفعله على المأمور به، من غير مجاوزة فيه، ولا تقصير.

4 -

(ومنها): ما قيل: إن المسجد الأبعد للجماعة أفضل من القريب، ويُستثنى منه ما إذا تعطّل القريب لغيبته، أو إذا كان إمام البعيد مبتدعًا، قاله في "الإعلام"

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قيل، لكن ورد النهي عن تتبّع المساجد، فقد أخرج الطبرانيّ في "المعجم الكبير" بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لِيُصَلّ أحدكم في مسجده، ولا يتتبع المساجد"

(4)

.

(1)

"المسند" 4/ 157، و"صحيح ابن خزيمة" 2/ 372 و"المستدرك" 1/ 211.

(2)

"المسند" برقم (6711).

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 373.

(4)

"المعجم الكبير" 12/ 370 رقم (13373).

ص: 345

ففيه النهيُ عن تتبّع المساجد، لكن هذا يُحمل على الكراهة؛ لما ثبت في "الصحيح" من أن الصحابة كانوا يتركون أحيانًا مساجدهم، ويأتون يصلّون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقرّهم عليه، وأمثلة ذلك كثيرة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه أيضًا تكفير الذنوب، ورفع الدرجات، وصلاة الملائكة على من ينتظر الصلاة في المسجد.

6 -

(ومنها): أن من تعاطى أسباب الصلاة يُسمّى مصلّيًا.

7 -

(ومنها): أنه ينبغي لمن خرج في طاعة، صلاة، أو غيرها أن لا يشركها بشيء من أمور الدنيا.

8 -

(ومنها): ما قيل: إنه يدلّ على تفضيل صالحي الناس على الملائكة؛ لأنهم يكونون في تحصيل الدرجات بعبادتهم، والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قالوا، ولا يظهر هذا الاستدلال، ومسألة تفضيل الملائكة على البشر، أو عكسه، قد استوفيت البحث عنها في غير هذا الموضع، وهي ليست من المسائل المهمّة التي ينبغي العناية بها، بل هي من فضول المسائل، فالأولى عدم الخوض فيها؛ لعدم ورود النصّ الصريح بها، وليست مما يتعلّق بالمعتقدات الدينيّة، فتنبّه لهذه الدقائق، واللَّه تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن الحدث الأصغر وإن منع دعاء الملائكة لا يمنع جواز الجلوس في المسجد، كذا في "المرقاة".

10 -

(ومنها): بيان أن الحدث في المسجد أشدّ من النخامة؛ لأن لها كفّارةً، وهو دفنها، ولم يذكر لهذا كفّارة، بل عومل صاحبه بحرمان استغفار الملائكة، مع أن دعاءهم مرجوّ الإجابة؛ لقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].

11 -

(ومنها): أنه اسُتِدّل به على أن الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "على صلاته في بيته وسوقه" يقتضي صحة صلاته منفردًا؛ لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل التفاضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك.

ص: 346

12 -

(ومنها): ما قيل: أنه يستدلّ به على تساوي الجماعات في الفضل، سواء كثرت الجماعة أم قَلَّت؛ لأن الحديث دلّ على فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة، فيدخل فيه كل جماعة، كذا قال بعض المالكية، وقوَّاه بما رَوَى ابنُ أبي شيبة بإسناد صحيح، عن إبراهيم النخعيّ، قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعةٌ، لهم التضعيف خمسًا وعشرين. انتهى.

قال الحافظ: وهو مسلَّم في أصل الحصول، لكنه لا ينفي مزيد الفضل لِمَا كان أكثر، لا سيما مع وجود النصّ المصرِّح به، وهو ما رواه أحمد، وأصحاب "السنن"، وصححه ابن خزيمة وغيره، من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه مرفوعًا:"صلاةُ الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كَثُرَ فهو أحب إلى اللَّه"، وله شاهد قويّ في الطبرانيّ، من حديث قَبَاث بن أَشْيَم، وهو بفتح القاف، والموحدة، وبعد الألف مثلثة، وأبوه بالمعجمة، بعدها تحتانية، بوزن أحمر، ويترتب على الخلاف المذكور أن من قال بالتفاوت استَحَبَّ إعادة الجماعة مطلقًا؛ لتحصيل الأكثرية، ولم يَسْتَحِبّ ذلك الآخرون، ومنهم مَن فَصَّل، فقال: تعاد مع الأعلم، أو الأورع، أو في البقعة الفاضلة، ووافق مالك على الأخير، لكن قصره على المساجد الثلاثة، والمشهور عنه بالمسجدين المكيّ والمدنيّ، وكما أن الجماعة تتفاوت في الفضل بالقلّة والكثرة، وغير ذلك، مما ذُكِر كذلك يفوق بعضها بعضًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول باستحباب الإعادة إذا زادت الجماعة مطلقًا هو الأظهر عندي؛ لمزيد الفضل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1508]

(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا

(2)

عَبْثَرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زكَرِيَّاءَ (ح) وَحَدَّثَنَا

(1)

"الفتح" 2/ 160.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 347

ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، بِمِثْلِ مَعْنَاهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ) الكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(عَبْثَر)

(1)

بن القاسم الزُّبَيديّ، أبو زُبيد الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ)

(2)

الهاشميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه البغداديّ الرُّصَافيّ، ثقةٌ [10](ت 238) وله (93) سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقانيّ، أبو زياد الكوفيّ، لقبه شَقُوصَا، صدوقٌ يخطئ قليلًا [8](ت 194) أو قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.

5 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

7 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج تقدّم في الباب الماضي، وكذا "الأعمش"، ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ) أي كل هؤلاء الثلاثة: عَبْثَر بن القاسم، وإسماعيل بن زكريا، وشعبة حدّثوا عن الأعمش.

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء، أي بإسناد الأعمش المتقدّم، وهو: عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (بِمِثْلِ مَعْنَاهُ) متعلّق بحدّثوا، كما قدّرناه آنفًا، كالجارّين قبله.

(1)

بالباء الموحّدة، ثم الثاء المثلّثة المفتوحة.

(2)

بالراء، والمثنّاة التحتانيّة المشدّدة.

ص: 348

[تنبيه]: رواية شعبة التي أحالها المصنّف هنا على رواية أبي معاوية، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله، في "جامعه"، فقال:

(548)

حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أبو داود، قال: أنبأنا شعبة، عن الأعمش، سمع ذكوان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا توضأ الرجل، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة، لا يخرجه، أو قال: لا ينهزه إلا إياها، لم يَخْطُ خُطْوَةً، إلا رفعه اللَّه بها درجةً، أو حَطّ عنه بها خطيئةً". انتهى.

وأما رواية عَبْثَر، وإسماعيل، فلم أجد من ساقهما بتمامهما، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1509]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ، مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَأَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ، مَا كَانَتِ الصَّلَاةُ

(1)

تَحْبِسُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

3 -

(أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ) بن أبي تميمة كيسان، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العُبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

4 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

(1)

وفي نسخة: "ما دامت الصلاة".

ص: 349

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1510]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ، مَا كَانَ فِي مُصَلَّاهُ، يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، حَتَّى يَنْصَرِفَ، أَوْ يُحْدِثَ"، قُلْتُ: مَا يُحْدِثُ؟

(1)

قَالَ: يَفْسُو، أَوْ يَضْرَطُ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ، [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(بَهْز) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت بعد 200) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، تغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِت) بن أسلم البُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَبُو رَافِعٍ) نُفَيع الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.

و"أَبُو هُرَيْرَةَ" ذكر قبله.

(1)

وفي نسخة: "قلت: وما يُحدِث؟ ".

ص: 350

وقوله: (قُلْتُ: مَا يُحْدِثُ؟) وفي نسخة: "وما يُحدث؟ "، والقائل الظاهر أنه أبو رافع.

وقوله: (قَالَ: يَفْسُو، أَوْ يَضْرَطُ) القائل هو أبو هريرة رضي الله عنه، و"يفسو" من باب نصر، والاسم الْفُسَاء بالضمّ، والمدّ، وهو ريحٌ يخرج بغير صوت يُسمع

(1)

.

و"يضرَط" من بابي تَعِبَ، وضَرَبَ، والاسم الضُّرَاط بالضمّ، وتخفيف الراء.

قال القرطبيّ بعد ذكره تفسير أبي هريرة رضي الله عنه هذا ما نصّه: وهو منه تمسّك بالعرف الشرعيّ، وقد فسّره غيره بأنه الحدث الذي يصرفه عن إحضار فضل انتظار الصلاة، ويَحْمِله على الإعراض عن ذلك، سواءٌ كان مُسَوَّغًا أو غير مُسَوَّغ، وهو تمسّك بأصل اللغة، وحَمَله بعضهم على إحداث مأثم. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، ومسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1511]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ، مَا دَامَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ، لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِك) بن أنس، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 473.

(2)

"المفهم" 2/ 289.

ص: 351

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

و"أبو هريرة" ذكر قبله.

وقوله: (تَحْبِسُهُ) بكسر الباء، من باب ضرب: أي تمنعه من الخروج من المسجد.

وقوله: (أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ) أي يرجع إليهم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1512]

(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحَدُكُمْ

(1)

مَا قَعَدَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فِي صَلَاةٍ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَدْعُو لَهُ الْمَلَائِكَةُ، اللَّهُمَّ

(2)

اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

والباقون تقدّموا قبل باب، غير الأعرج، وأبي هريرة ففي السند الماضي.

وقوله: (أَحَدُكُمْ) وفي نسخة: "إن أحدكم".

وقوله: (مَا قَعَدَ. . . إلخ)"ما" مصدريّة ظرفيّة، أي مدّة قعوده.

وقوله: (مَا قَعَدَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فِي صَلَاةٍ) هذا ظاهر في أن منتظر الصلاة في ثواب الصلاة مطلقًا، سواء كان في مجلسه الذي صلى فيه، أم تحوّل إلى مكان آخر من المسجد، ولا يُخالف ما سبق من قوله:"ما دام في مصلّاه"؛

(1)

وفي نسخة: "إن أحدكم".

(2)

وفي نسخة: "تقول: اللهم".

ص: 352

لأن المراد من المصلّى المكان المعدّ للصلاة، وهو المسجد

(1)

، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (مَا لَمْ يُحْدِثْ) دليلٌ على أن الحدث يُبطل هذا الفضل، وإن استمرّ جالسًا في المسجد.

وقوله: (تَدْعُو لَهُ الْمَلَائِكَةُ) يَحتَمِل أن المراد بهم الحفَظَة، أو السيّارة، أو أعمّ من ذلك، وهو الأولى؛ لعموم ظاهر الحديث.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1513]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا

(2)

مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ هَذَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّه) بن كامل الأبناويّ، أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون تقدّموا في الباب.

وقوله: (بِنَحْوِ هَذَا) أي بنحو حديث الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم.

[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه هذه ساقها الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(302)

حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أحدكم في صلاةٍ، ما دام ينتظرها، ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم، ما دام في

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 641.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 353

المسجد، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث"، فقال رجل من حضرموت: وما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُسَاءٌ، أو ضُرَاطٌ. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(51) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ كَثْرَةِ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ)

[1514]

(662) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ، أَبْعَدُهُمْ إِلَيْهَا مَمْشًى، فَأَبْعَدُهُمْ، وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّيهَا، ثُمَّ يَنَامُ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: "حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ فِي جَمَاعَةٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ) هو: عبد اللَّه بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

4 -

(بُرَيْد) بن عبد اللَّه بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

5 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

ص: 354

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه عبد اللَّه بن بَرّاد، فتفرّد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكنى، غير بُريد.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، فأبو بُردة جدّ لِبُريد بن عبد اللَّه، وكنيته أيضًا أبو بُردة، كجدّه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ: أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا) منصوب على التمييز (فِي الصَّلَاةِ) أي في أداء الصلاة جماعةً (أَبْعَدُهُمْ) بالفعل على الخبريّة لـ "إنّ"(إِلَيْهَا) متعلّق بـ (مَمْشًى) بفتح الميم الأولى، وسكون الثانية: مصدر ميميّ لـ "مَشَى"، منصوب على التمييز أيضًا، ويَحْتَمل أن يكون ظرف مكان، أي مكان مَشْيٍ، والمعنى أبعدهم مسافةً إلى المسجد.

وقوله: (فَأَبْعَدُهُمْ) قال الكرمانيّ: الفاء فيه للاستمرار، كما في قولهم:"الأمثلُ فالأمثلُ".

وتعقّبه العينيّ، فقال: لم يذكر أحد من النحاة أن الفاء تجيء بمعنى الاستمرار، ولكن يمكن أن تكون الفاء ها هنا للترتيب مع تفاوت من بعض الوجوه، وقال الزمخشريّ: للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال:

[أحدها]: أن تدلّ على ترتيب معانيها في الوجود، كقوله:

يَا لَهْفَ زِيابَةَ لِلْحَارِثِ الصَّابِحِ

فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ

أي الذي صَبَّحَ، فغَنِمَ!، فآب.

[والثاني]: أن تدلّ على ترتيبها في التفاوت من بعض الوجوه، نحو قولك: خذ الأكمل، فالأفضل، واعمَلِ الأحسن، فالأجمل.

ص: 355

[والثالث]: أن تدل على ترتيب موصوفاتها في ذلك، نحو رَحِمَ اللَّه المحلقين، فالمقصرين.

وقيل: تقع الفاء تارة بمعنى "ثُمّ"، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الآية [المؤمنون: 14]، فالفاآت فيها بمعنى "ثُمَّ" لتراخي معطوفاتها، فعلى هذا يجوز أن تكون الفاء ههنا بمعنى "ثُمّ"، بمعنى أبعدهم، ثم أبعدهم. انتهى

(1)

.

(وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنِ الَّذِي يُصَلِّيهَا) أعمّ من أن يكون مع جماعةٍ، أو وحده، ويُستفاد منه أن الجماعة تتفاوت كما تقدّم بيان ذلك، وقوله:(ثُمَّ يَنَامُ") فائدة ذكره الإشارة إلى الاستراحة المقابلة للمشقّة التي في ضمن الانتظار، قاله الكرمانيّ رحمه الله

(2)

.

(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء شيخه الثاني ("حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ فِي جَمَاعَةٍ") يعني أنه زاد قوله: "في جماعة"، وهو من باب التوضيح، وإلا فقوله في رواية عبد اللَّه بن بَرّاد:"حتى يصلّيها مع الإمام" يؤدّي هذا المعنى؛ لأن معنى الصلاة مع الإمام هو الصلاة جماعةً.

قال الكرمانيّ رحمه الله:

[فإن قلت]: هذا التفضيل أمرٌ ظاهرٌ ضروريّ، فما الفائدة في ذكره؟.

[قلت]: معناه أن الذي ينتظرها حتى يصليها مع الإمام آخر الوقت، أعظم أجرًا من الذي يصليها في وقت الاختيار وحده، أو الذي ينتظرها حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصليها أيضًا مع الإمام بدون انتظار، أي كما أنّ بُعد المكان مُؤَثِّرٌ في زيادة الأجر، كذلك طول الزمان؛ لأنهما يتضمنان لزيادة المشقة الواقعة مقدَّمةً للجماعة.

قال العينيّ في "العمدة": قد عُلِم أن السبب في تحصيل هذا الأجر العظيم انتظار الصلاة، وإقامتها مع الإمام، فإن وُجِد أحدهما دون الآخر، فلا يحصل له ذلك، ويُعْلَم من هذا أيضًا أن تأخير الصلاة عن وقت الاختيار، لا يخلو عن أجر، كما في تأخير الظهر إلى أن يبرد الوقت عند اشتداد الحرّ،

(1)

"عمدة القاري" 5/ 248.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 249.

ص: 356

وتأخير العصر إلى ما قبل تغير قرص الشمس، وتأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وتأخير الصبح إلى وقت الإسفار

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أما قوله: "كما تأخير الظهر. . . إلخ، وكذا قوله: وتأخير العشاء إلى ثلث الليل"، فصحيحٌ، وأما قوله:"وتأخير العصر. . . إلخ"، وكذا قوله:"وتأخير الصبح. . . إلخ" فهذا بناء على مذهبه؛ لأن الحنفيّة يستحبّون تأخير هاتين الصلاتين، والحقّ في هذا ما ذهب إليه الجمهور، من استحباب تعجيل العصر، وتغليس الصبح؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، وقد مضى تحقيقه في موضعه، فلا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1514](662)، و (البخاريّ) في "الأذان"(651)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1501)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1275)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1486)، و (البزّار) في "مسنده"(3166)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 64 و 10/ 77) و"الصغرى"(1/ 297)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل كثرة الْخُطا إلى المساجد.

2 -

(ومنها): بيان فضل المسجد البعيد على القريب لأجل كثرة الخطا.

3 -

(ومنها): بيان أن الأجر يكثر، ويَعظُمُ بحسب بُعْد المكان عن المسجد.

4 -

(ومنها): بيان فضل السبق إلى المسجد في أول الوقت؛ لانتظار الصلاة.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 248 - 249.

ص: 357

5 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على صحّة صلاة المنفرد، وهذا هو الحقّ، وهو لا ينافي القول بفرضيّة صلاة الجماعة عينًا على الرجال إلا لعذر، كما تقدّم تحقيقه في موضعه.

6 -

(ومنها): بيان فضل انتظار الصلاة حتى يصلي مع الإمام، وقد تقدّم مستوفى في الباب الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1515]

(663) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ، لَا أَعْلَمُ رَجُلًا أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ صَلَاةٌ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ، أَوْ قُلْتُ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ، وَفِي الرَّمْضَاءِ، قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَنْزِلِي إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمْشَايَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْثَر) بن القاسم، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) هو: ابن طرخان، تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) عبد الرحمن بن مِلّ بن عَمْرو الكوفيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ مخضرمٌ عابدٌ، مشهورٌ بكنيته، من كبار [2](ت 95) أو بعدها، وعاش (130) سنة، وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(أُبَيُّ بْنُ كَعْب) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر الصحابيّ الشهير، سيّد القرّاء، ويُكنى أيضًا أبا الطُّفيل، قيل: مات سنة (19) وقيل: (32) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.

ص: 358

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن عَبْثَرًا لا يوجد له مشارك من الرواة في هذا الاسم.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، قرأ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم "سورة البيّنة"، فقد أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ بن كعب: "إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1] "، قال: وسمّاني؟، قال:"نعم"، فَبَكَى، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَجُلٌ) لم يُعرف اسمه، وفي رواية أحمد من طريق سفيان بن عيينة، عن عاصم الأحول:"كان ابن عمّ لي شاسع الدار"، ففيه أنه ابن عمّ أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

وذكر صاحب "التنبيه" أن الشيخ شهاب الدين الأقفهسيّ قال في "كتاب المساجد": إنه أُبيّ بن كعب. انتهى، قال: وظاهر الحديث الآتي بعده أنه غيره، والظاهر أنه انتقال حفظ منه، وقد انتقل حفظه في هذا المؤلَّف في عدّة أماكن، منها قال: روى مسلم: "لا يوطّن أحدكم المساجد للصلاة، إلا تبشبش اللَّه به. . . " الحديث، وهذا الحديث ليس هو في مسلم، إنما هو في "مستدرك الحاكم"

(1)

. انتهى.

(لَا أَعْلَمُ رَجُلًا أَبْعَدَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ) أي من ذلك الرجل (وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ صَلَاةٌ) أي لا تفوته صلاة من الصلوات الخمس، أي أداؤها في الجماعة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه (فَقِيلَ لَهُ) أي قال له قائلٌ (أَوْ) للشكّ من الراوي

(1)

"المستدرك" 1/ 332.

ص: 359

(قُلْتُ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا)"لو" هذه يَحتَمِل أن تكون شرطيّة، جوابها محذوف، أي لكان خيرًا لك، ويَحْتَمِل أن تكون للتمنّي، فلا تحتاج إلى جواب (تَرْكَبُهُ فِي الظَّلْمَاءِ) بفتح الظاء المعجمة، وسكون النون، ممدودًا بمعنى الظلام، أو شديده، أي في الليلة الظَّلْماء، قال في "القاموس": والظُّلْمة بالضمّ، وبضمّتين، والظَّلْماءُ، والظلام: ذَهَاب النور، وليلةٌ ظَلْمَةٌ على طرح الزائد، وظَلْمَاءُ: شديدة الظُّلْمة، وليلٌ ظَلْماءُ شاذٌّ، وقد أظلم، وظَلِمَ، كسَمِعَ، ويومٌ مُظلمٌ، كمُحْسِنٍ: كثيرُ شرّهُ، وأمرٌ مُظلِمٌ، ومِظْلامٌ: لا يُدرَى من أين يُؤتى. انتهى

(1)

.

وجملة "تركبه" في محلّ نصب نعتٌ لـ "حمارًا".

(وَفِي الرَّمْضَاءِ) بوزن ما قبله، قال في "المصباح": الرَّمْضَاءُ: الحِجَارةُ الحاميةُ من حرّ الشمس، ورَمِضَ يومُنا رَمَضًا، من باب تَعِبَ: اشتدّ حرُّهُ. انتهى

(2)

.

(قَالَ) ذلك الرجل (مَا) نافيةٌ، أي لا (يَسُرُّنِي) بفتح أوله، وضمّ ثانيه، يقال: سَرَّه الشيءُ يسرُّهُ، من باب نصر، سُرُورًا بالضمّ، والاسم السَّرُورُ بالفتح: إذا أفرحه، والْمَسَرّةُ منه، وهو ما يُسَرُّ به الإنسانُ، والجمع المسارّ، والسرّاءُ: الخير والفضل

(3)

. (أَنَّ مَنْزِلِي) بفتح "أنّ"؛ لوقوعها موقع الفاعل (إِلَى جَنْبِ الْمَسْجِدِ) يعني أنه لا يفرح بقرب بيته من المسجد النبويّ، ثم ذكر علّة ذلك، فقال:(إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوع الجملة موقع التعليل، ويَحْتَمِل إن ثبت روايةً فتحها؛ بتقدير حرف التعليل، أي لأني (أُرِيدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي) بالبناء للمفعول (مَمْشَايَ) تقدّم أنه مصدر ميميّ، أي مشيي، أو هو ظرف مكان، أي مكان مشيي، وهو موضع قدمه، وهو مضاف إلى ياء المتكلّم، وعدم قلب ألفه إلى الياء مذهب جمهور العرب، إلا عند هُذيل، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:

وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ

هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 146.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 238.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 274.

ص: 360

وقوله: (إِلَى الْمَسْجِدِ) متعلّق بـ "ممشاي"(وَرُجُوعِي) أي ويُكتَب لي رجوعي من المسجد (إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ") أي ثواب ممشاك إلى المسجد، وثواب رجوعك منه إلى بيتك، قال النوويّ رحمه الله: فيه إثبات الثواب في الْخُطَا في الرجوع من الصلاة، كما يثبت في الذهاب. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1515 و 1516 و 1517 و 1518](663)، و (أبو داود) في "الصلاة"(557)، و (ابن ماجه) في "المساجد"(783)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 207 و 208)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 133)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 294)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1500)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2040 و 2041)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 389 - 390)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1487 و 1488 و 1489 و 1490)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 64)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(887)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل كثرة الْخُطَا إلى المسجد.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من رحمة بعضهم لبعض.

3 -

(ومنها): أن من سمع من شخص ما ظاهر نقيصة في دينه، يرفع أمره إلى كبير القوم؛ ليقوم بإصلاحه، فقد قال أُبيّ رضي الله عنه كما في الرواية التالية:"فحملت به حملًا، حتى أتيت نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرته. . . " الحديث.

4 -

(ومنها): بيان أنه ينبغي لكبير القوم إذا بلغه من أحد الرعيّة ما ظاهره غير موافق للشرع أن يتثبّت في الأمر، ولا يعاجل صاحبه بالعقوبة، فقد

ص: 361

استدعى النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل، فسأله عما قيل فيه، فبيّن له أنه يقصد بذلك تكثير الأجر، فقال له:"قد جمع اللَّه لك ذلك كلّه".

5 -

(ومنها): بيان أن الرجوع من الصلاة كالذهاب إليها في الأجر.

6 -

(ومنها): الحثّ على الإخلاص في العمل؛ لأن هذا الرجل ما جمع اللَّه تعالى له الأجرين إلا بإخلاصه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1516]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ

(1)

(ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سُليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

4 -

(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرط الضّبّيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير للمعتمر، وجرير.

وقوله: (عَنِ التَّيْمِيِّ) هو سليمان بن طرخان التيمىّ المذكور في السند الماضي.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد التيميّ السابق، وهو عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه.

(1)

وفي نسخة: "المعتمر بن سليمان".

ص: 362

وقوله: (بِنَحْوِهِ) يعني أن المعتمر، وجريرًا حدّثا عن سليمان التيميّ بنحو حديث عَبْثَرٍ، عنه.

[تنبيه]: رواية المعتمر، وجرير، عن التيميّ ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 260) فقال:

(1487)

وحدّثنا محمد بن إبراهيم، وأبو محمد بن حيان، قالا: ثنا أحمد بن عليّ، ثنا أبو خيثمة، زهير بن حرب، ثنا جرير بن عبد الحميد، قالا: عن سليمان التيميّ (ح) وحدّثنا أبو بكر بن مالك، ثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، ثنا عبد اللَّه بن معاذ (ح) وحدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عباس بن الوليد، قالا: ثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أَبِي، عن أبي عثمان، عن أُبَيّ بن كعب، قال: كان رجل لا أعلم رجلًا من الناس، من أهل المدينة، ممن يصلي القبلة، أبعد دارًا من المسجد، من ذلك الرجل، فكانت لا تخطئه صلاة في المسجد، قال: فقلت: لو أنك اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء، والرمضاء، قال: ما أحب أن داري إلى جنب المسجد، قال: فنما الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: يا نبي اللَّه أردت أن يُكْتَب لي إقبالي إذا أقبلت إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت، قال: فقال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أعطاك اللَّه ذاك أجمع، أعطاك ما احتسبت أجمع"، قال: لفظ محمد بن إبراهيم، وأبي محمد سواءً. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1517]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَتَوَجَّعْنَا لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ

(2)

لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا، يَقِيكَ مِنَ

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "يا أبا فلان".

ص: 363

الرَّمْضَاءِ، وَيَقِيكَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ، قَالَ: أَمَ وَاللَّهِ

(1)

مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطَنَّبٌ بِبَيْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

(2)

، قَالَ: فَحَمَلْتُ بِهِ حِمْلًا، حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ يَرْجُو فِي أَثَرِهِ الْأَجْرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ مولاهم، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

2 -

(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ) بن حبيب بن الْمُهَلَّب بن صُفْرة الأزديّ الْمُهَلَّبيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [7](ت 179) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

3 -

(عَاصِم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4](ت بعد 140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

والباقيان ذُكِرا في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم: سليمان، عن أبي عثمان، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو النَّهْديّ (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) لا يعرف اسمه، كما مرّ في الرواية الماضية، وقد تقدّم أن في رواية الإمام أحمد أنه ابن عمّ أبيّ كعب رضي الله عنه

(1)

وفي نسخة: "أما واللَّه".

(2)

وفي نسخة: "أن بيتي بجنب بيت محمد صلى الله عليه وسلم".

ص: 364

(بَيْتُهُ أَقْصَى) أي أبعد (بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ) أي من المسجد النبويّ (فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي لا تفوته صلاة من الصلوات المكتوبات معه صلى الله عليه وسلم (قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه (فَتَوَجَّعْنَا لَهُ) أي أشفقنا عليه، وآلمنا ما يُعانيه من المشقّة (فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا) تقدّم في شرح الحديث الماضي أن "لو" إما شرطيّة يقدّر جوابها، أي لكان خيرًا لك، وإما للتمنيّ، فلا تحتاج إلى جواب (يَقِيكَ) مضارع وَقَى، من باب ضرب، وِقايةً، يقال: وقاه اللَّه السُّوءَ وِقَايةً بالكسر: حَفِظَهُ، والْوِقاءُ، مثلُ كتاب: كلُّ ما وَقَيتَ به شيئًا، ورَوَى أبو عبيد، عن الكسائيّ الفتح في "الوَقَاية"، و"الْوَقَاء" أيضًا، قاله في "المصباح"

(1)

.

(مِنَ الرَّمْضَاءِ) أي الحجارة الحامية من حرّ الشمس (وَيَقِيكَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ) بتشديد الميم: جمع هامّة، مثلُ دابّة ودوابّ، وهو ما له سمّ يَقتُلُ، كالحيّة، قاله الأزهريّ، وقد تُطلَقُ الهوامّ على ما لا يَقتُلُ، كالحشرات، ومنه حديث كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، حيث قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أيؤذيك هوامّ رأسك. . . " الحديث، متّفقٌ عليه، والمراد القمل على الاستعارة، بجامع الأذى

(2)

.

(قَالَ) ذلك الرجل (أَمَ وَاللَّهِ) هي "أما" بمعنى الاستفتاحيّة، حُذفت ألفها، وفي نسخة:"أما" بإثباتها، وحذفُها لغة؛ إذ فيها لغات، قال ابن هشام الأنصاريّ في "مغنيه":"أما" بالفتح، والتخفيف حرف استفتاح بمنزلة "ألا"، وتكثر قبل القسم، كقوله [من الطويل]:

أَمَا وَالَّذِي أَبْكَى وَأَضْحَكَ وَالَّذِي

أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالَّذِي أَمْرُهُ الأَمْرُ

وقد تُبدل همزتها هاءً، أو عينًا قبل القسم، وكلاهما مع ثبوت الألف وحذفها، أو تُحذف الألف مع ترك الإبدال، وإذا وقعت "إنّ" بعد "أما" هذه كُسرت كما تُكسر بعد "ألا" الاستفتاحيّة. انتهى

(3)

.

(مَا) نافية (أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطَنَّبٌ بِبَيْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) أي لا أحبّ أنه مشدودٌ بالأَطْناب، وهي الحبال.

و"الْمُطَنَّبُ" بفتح النون المشدّدة، اسم مفعول من طنّبه تطنيبًا، قال في

(1)

"المصباح المنير" 2/ 669.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 641.

(3)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 117 تحقيق حسن جمد.

ص: 365

"القاموس": طَنّبه تطنيبًا: مدّه بأطنابه، وشدّه، قال: والطُّنُبُ بضمّتين: حبلٌ طويلٌ، يُشدُ به سُرَادق البيت، أو الوتِدُ، جمعه: أطنابٌ، وطِنبَةٌ. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": الطُّنُبُ بضمّتين، وسكونُ الثاني لغةٌ: الحبلُ تُشدّ به الخيمة ونحوها، والجمع أطناب، مثلُ عُنُق وأعناق، قال ابن السّرّاج في موضع من كتابه: ويُجمع على غير ذلك، وقال في موضع: قالوا: عُنُقٌ وأعناقٌ، وطُنُبٌ وأطناب فمن جَمَعَ الطُّنُبَ، فأفهم خلافًا في جواز الجمع، وأنه يُستعمل بلفظٍ واحدٍ للمفرد والجمع، وعليه قوله [من البسيط]:

إِذَا أَرَادَ انْكِرَاسًا فِيهِ عَنَّ لَهُ

دُونَ الأُرُومَةِ مِنْ أَطْنَابِهَا طُنُبُ

فجمع بين اللغتين، فاستعمله مجموعًا ومُفردًا بنيّة الجمع. انتهى

(2)

.

والمعنى: أنه لا يُحبّ أن يكون بيته ملاصقًا ببيته صلى الله عليه وسلم، بل يُحبّ أن يكون بعيدًا منه؛ ليكثر ثوابه بكثرة خطاه من بيته إلى المسجد، ولا يريد نفي حبّه قربه من بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بغضًا له، وإنما رجاء زيادة الأجر بكثرة تلك الخطا، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه (فَحَمَلْتُ بِهِ حِمْلًا) بكسر الحاء المهملة، أي ثِقَلًا؛ لبشاعة لفظه، وإيهامه سُوءًا، وهو بغضه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال القاضي عياضٌ رحمه الله: معناه: أنه عَظُمَ عليّ، وثَقُل، واستعظمته؛ لبشاعة لفظه، وهَمَّني ذلك، وليس المراد به الحمل على الظهر. انتهى

(3)

.

وفي رواية أحمد، من طريق ابن عيينة، عن عاصم:"قال: فما سمعتُ عنه كلمةً أَكْرَهَ إِلَيَّ منها".

(حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ) أي بما قال الرجل (قَالَ) أُبيّ (فَدَعَاهُ) أي طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل ليحضر عنده؛ ليتثبّت في صحّة ما نسبه إليه أُبيّ رضي الله عنه من كلامه المذكور، ويستفسره عما أراده به (فَقَالَ) الرجل (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (مِثْلَ ذَلِكَ) أي مثل ما قال لأبيّ، من قوله:"ما أُحبّ أن بيتي مطنّبٌ. . . إلخ"(وَذَكَرَ لَهُ) صلى الله عليه وسلم موضِّحًا مراده به (أَنَّهُ يَرْجُو فِي أثَرِهِ) أي في ممشاه، و"الأثر"

(1)

راجع: "القاموس المحيط" 1/ 98.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 378 - 379.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 168.

ص: 366

بفتحتين، وبكسر، فسكون: جمعه آثارٌ، المراد به هنا: الخُطَا، والأصل فيه أن تلك الخطا تؤثّر في الأرض بالمشي عليها، ثم أُطلقت على المشي نفسه، ومنه قوله تعالى:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] قال المفسِّرون: آثارهم: خطاهم (الْأَجْرَ) أي الثواب عند اللَّه تعالى (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ") أي ما ادّخرته، وأعددته عند اللَّه تعالى، يقال: احتسب الأجر على اللَّه: ادّخره عنده، لا يرجو ثواب الدنيا، والاسم الْحِسْبة بالكسر، واحتسبتُ بالشيء: اعتددتُ به، قال الأصمعيّ: وفلانٌ حَسَنُ الْحِسْبة في الأمر: أي حسن التدبير، والنظر فيه، وليس هو من احتساب الأجر، إن احتساب الأجر فعلٌ للَّه لا لغيره. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير عند شرح قوله: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا": أي طلبًا لوجه اللَّه وثوابه، فالاحتساب من الْحَسْب، كالاعتداد من العَدّ، وإنما قيل لمن يَنْوِي بعمله وجه اللَّه: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يَعْتَدَّ عمله، فجُعِل في حال مباشرة الفعل، كأنه مُعْتَدٌّ به، والْحِسْبةُ: اسم من الاحتساب، كالعِدَّة من الاعتداد، والاحتساب في الأعمال الصالحة، وعند المكروهات: هو البِدَارُ الى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البرّ والقيام بها، على الوجه المرسوم فيها؛ طلبًا للثواب المرجوّ منها.

ومنه الحديث: "من مات له وَلَدٌ، فاحتسبه": أي احتَسَب الأجر بصبره على مصيبته، يقال: احتَسَب فلان ابنًا له، إذا مات كبيرًا، وافترطه، إذا مات صغيرًا، ومعناه: اعتَدَّ مصيبته به في جملة بلايا اللَّه التي يثاب على الصبر عليها، وقد تكرّر ذكر الاحتساب في الحديث. انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله

(2)

.

والمعنى هنا: إن لك عند اللَّه تعالى أجر خَطَوَاتك التي عملتها للَّه تعالى، وادّخرت ثوابها، عنده عز وجل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 135.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 382.

ص: 367

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّمت مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1518]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَزْهَرَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبِي، كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ أَزْهَرَ الْوَاسِطِيُّ) هو: سعيد بن يحيى بن الأزهر بن نَجِيح الواسطيّ، أبو عثمان، نُسِب إلى جدِّه، ثقةٌ [10].

رَوَى عن أبي معاوية، ووكيع، وأبي بكر بن عيّاش، وإسحاق الأزرق، وابن عيينة، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وابن ماجه، وأسلم بن سهل، وعليّ بن الجنيد، وعمران بن موسى بن مجاشع، وخَلَف بن محمد، وغيرهم.

قال عليّ بن الجنيد: ثقةٌ من ثقات الواسطيين، وقال بَحْشَل: مات سنة (244)، وقال ابن حبان: في "الثقات": مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (663)، وحديث (2697):"اللهم اغفر لي، وارحمني. . . "، وله عند ابن ماجه حديثان آخران.

2 -

(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله (70) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

ص: 368

3 -

(أَبُوهُ) الجرّاح بن مَلِيح بن عَدِيّ بن فُرْس بن جمحة بن سفيان بن الحارث بن عمرو بن عبيد بن رُؤَاس

(1)

وهو الحارث بن كلاب الرؤاسيّ الكوفيّ، أبو وكيع، صدوقٌ يَهِمُ [7](ت 5 أو 176)(بخ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.

"عاصم" هو ابن سليمان الأحول ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ) هكذا النسخ بلفظ "كلُّهم"، والظاهر أن الصواب أن يقول: كلاهما عن عاصم؛ لأن المراد ابن عُيينة، والجرّاح والد وكيع، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد عاصم الماضي، وهو: عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه. وقوله:(نَحْوَهُ) يعني أن ابن عيينة، ووالد وكيع حدّثا عن عاصم الأحول نحو حديث عَبّاد بن عبّاد، عنه.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"(5/ 133) فقال:

(21250)

حدّثنا عبد اللَّه

(2)

، حدّثني أبي، ثنا سفيان

(3)

، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أُبَيّ، قال: كان ابن عمّ لي شاسع الدار، فقلت: لو أنك اتخذت حمارًا، أو شيئًا، فقال: ما يَسُرُّني أنّ بيتي مُطَنَّبٌ ببيت محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فما سمعت عنه كلمةً أَكْرَهَ إِلَيَّ منها، قال: فإذا هو يَذكُرٍ الْخُطَا إلى المسجد، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن له بكل خُطْوَة درجةً".

وأما رواية والد وكيع، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

بضمّ الراء، بعدها واو بهمزة، وبعد الألف سين مهملة.

(2)

هو: عبد اللَّه ابن الإمام أحمد بن حنبل.

(3)

هو: ابن عيينة.

ص: 369

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1519]

(664) - (وَحَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَتْ دِيَارُنَا

(1)

نَائِيَةً عَنِ الْمَسْجِدِ

(2)

، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا، فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خَطْوَةٍ دَرَجَةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان الْقَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ رُمِي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

(1)

وفي نسخة: "دارنا".

(2)

وفي نسخة: "من المسجد".

ص: 370

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، سوى شيخه، فبغداديّ، ورَوْح، فبصريّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بـ "حدّثنا" إلى أبي الزبير، فإنه قال:"سمعت"، وهو مدلّس، فأزال التهمة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

عن أبي الزبير المكيّ رحمه الله، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: كَانَتْ دِيَارُنَا) وفي نسخة: "دارنا" بالإفراد (نَائِيَةً) أي بعيدةً (عَنِ الْمَسْجِدِ) وفي نسخة: "من المسجد، أي النبويّ"(فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا، فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ) النبويّ (فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي عن بيعها (فَقَالَ: "إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خَطْوَةٍ) تقدّم أنه بضمّ الخاء: ما بين الرجلين، وجمعه خُطَى، وخُطُوات، مثلُ غرف وغُرُفات في وجوهها، وبفتحها المرة الواحدة من خطا يخطو، كغزا يغزو: إذا مشى، وجمع المفتوح خَطَوَات على لفظه، مثلُ شَهْوَةٍ وشَهَوَات، وقوله:(دَرَجَةً") منصوب على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا، وخبرها "لكم" مقدّمًا، وقوله:"بكلّ خطوة" متعلّق بحال مقدّر، والباء سببيّة، وأصله كان صفة لـ "درجةً"، فلما قدّم عليها أعرب حالًا؛ لأن نعت النكرة إذا قُدّم يُعرب حالًا، كما في قوله:

لَمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلٌ

يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلٌ

ص: 371

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1519](664)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1058)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 336)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1491)، وفوائد الحديث تُعلم مما مضى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1520]

(665) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ"، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: "يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد الْعَنبريّ مولاهم، أبو سهل التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شُعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

ص: 372

3 -

(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

4 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلَطَ قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

5 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَبْديّ الْعَوَفيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

وجابر رضي الله عنهما ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، وأبو نضرة علّق عنه البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن الجريريّ قد اختلط، ولكن الراوي هنا هو عبد الوارث، وهو ممن أخذ عنه قبل اختلاطه، ولذا أخرج له المصنّف هنا، وقد ذكرت الآخذين عنه قبل الاختلاط في منظومتي "عمدة المحتاط"، فقلت:

كَذَا الْجُرَيْرِيُّ سَعِيدٌ اخْتَلَطْ

ثَلَاثَةً سِنِينَ حِفْظُهُ هَبَطْ

وَعَنْهُ شُعْبَةُ وُهَيْبٌ نَقَلَا

قَبْلُ وَإِسْمَاعِيلُ سُفْيَانُ تَلَا

وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ وَارِثٍ كَذَا

حَمَّادُ حَمَّادٌ وَبِشْرٌ قَدْ حَذَا

وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الأَعْلَى

وَالثَّقَفِي وَابْنُ زُرَيْعٍ أَعْلَى

و"حماد" الأول هو ابن سلمة، والثاني هو ابن زيد، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 373

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ) بكسر الموحّدة: جمع بَقْعة بفتح، فسكون، قال الفيّوميّ:"الْبُقْعَةُ" من الأرض: القِطعة منها، وتُضمّ الباءُ في الأكثر، فتُجمَع على بُقَعٍ، مثلُ غُرْفة وغُرَفٍ، وتُفْتَح، فتُجمَعُ على بِقَاعٍ، مثلُ كَلْبَةٍ وكِلَابٍ. انتهى

(1)

. وقوله: (حَوْلَ الْمَسْجِدِ) ظرف متعلّق، بحال مقدّر من "البِقاع"، أو صفة له، على تقدير "أل" فيه جنسيّة، كما قيل في قول الشاعر [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

وفي رواية السَّرّاج: "أرادوا أن يَقْرُبُوا من أجل الصلاة"، ولابن مردويه قال:"كانت منازلنا بِسَلْعٍ"، ولا يعارض هذا حديث أنس رضي الله عنه الآتي في "كتاب الاستسقاء":"وما بيننا وبين سَلْعٍ من دار"؛ لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وراء سَلْعٍ، وبين سَلْع والمسجد قدرُ مِيل، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ) بفتح السين المهملة، وكسر اللام: بطنٌ من الأنصار، وهو سَلِمة بن سعد بن عليّ بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جُشم بن الخزرج، والنسبة إليه بفتح اللام عند النحويين، والمحدّثون يكسرونها

(3)

، والأول هو الموافق لقواعد النسب، وإلى هذا أشرت بقولي:

السَّلَمِيُّ نِسْبَةٌ لِسَلِمَهْ

بَطْنٍ مِنَ الأَنْصَارِ أَهْلِ الْمَكْرَمَهْ

وَهْيَ بِكَسْرِ اللَّامِ لَكِنِ النَّسَبْ

فَتَحَهُ النُّحَاةُ وَفاقًا لِلْعَرَبْ

وَالْفَتْحُ لِلْمُحَدّثِينُ نُسِبَا

فَإِنْ يَصِحَّ فَالصَّوَابَ جَانَبَا

وقال في "الفتح": بنو سَلِمة -بكسر اللام-: بطن كبير من الأنصار، ثم من الخزرج، وقد غَفَل القَزّاز، وتبعه الجوهريّ حيث قال: ليس في العرب

(1)

"المصباح المنير" 1/ 57.

(2)

"الفتح" 2/ 164.

(3)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 447.

ص: 374

سَلِمة -بكسر اللام- غير هذا القبيل، فإن الأئمة الذين صَنَّفُوا في "المؤتلف والمختلف" ذكروا عددًا من الأسماء كذلك، لكن يَحْتَمِل أن يكون أراد بقيد القبيلة، أو البطن فله بعض اتجاه. انتهى

(1)

.

(أَنْ) بالفتح مصدريّة (يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ) النبويّ؛ ليسهل عليهم ملازمة صلاة الجماعة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أي إرادتهم الانتقال إلى قرب المسجد، فاسم الاشارة في محلّ رفع على الفاعليّة، وقوله:(رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) منصوب على المفعوليّة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُمْ: "إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو ما تُفسّره الجملة بعده، وهي قوله:(بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ") النبويّ، وفي رواية ابن حبّان عن ابن المبارك، عن الْجُرَيريّ:"فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتانا في دارنا، فقال: يا بني سَلِمة بلغني أنّكم تريدون النُّقْلة إلى المسجد"(قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وقوله: (قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ) مؤكّد لـ "نعم"؛ لأنها تصديق لما تقدّمها من الكلام، وقد تقدّم البحث فيها مستوفًى غير مرّة، وفي رواية ابن حبّان المذكورة:"فقالوا: يا رسول اللَّه، بَعُدَ علينا المسجد، والبقاع حوله خاليةٌ"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ) منصوب على الإغراء، مفعول لفعل محذوف، أي الزموا دياركم، كما قال في "الخلاصة" بعد بيان أحكام التحذير:

وَكَمُحَذَّرٍ بِلَا "إِيَّا" اجْعَلَا

مُغْرًى بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا

وقوله: (تُكْتَبْ آثَارُكُمْ) مجزوم في جواب فعل الأمر، كما قال في "الخلاصة" أيضًا:

وَبَعْدَ غَيْرِ النَّفْي جَزْمًا اعْتَمِدْ

إِنْ تَسْقُطِ الْفَا وَالْجَزَاءُ قَدْ قُصِدْ

(دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ") كرّر الجملة لتأكيد هذا الأمر، والاهتمام به؛ لأنه أمر غريبٌ عند المخاطبين؛ لأن المعروف أن من أراد أن يقترب من الشخص يدلّ على شدّة محبّته له، فبنو سلمة ما أرادوا الانتقال إلى قرب المسجد إلا لظنّهم أنه مما يؤيّد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويفرح به، لكنه نهاهم عن ذلك، وبيّن لهم في عدم الانتقال مصلحة عظيمة، وهي كثرة ثوابهم بكثرة خطاهم إلى المسجد.

(1)

"الفتح" 2/ 164.

ص: 375

وزاد في رواية كهمس التالية: "فقالوا: ما يسرُّنا أنا كنّا تحوّلنا"، وفي رواية ابن حبّان المذكورة:"قال: فما ودِدْنا أنا بحضرة المسجد؛ لما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال".

[تنبيه]: هذا الحديث هو سبب نزول قول تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، فقد أخرج الترمذي من حَدِيْث أَبِي سُفْيَان السعديّ، عَن أَبِي نضرة، عَن أَبِي سَعِيد، قَالَ: كَانَتْ بنو سَلِمَة فِي ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فَنَزَلت هذه الآية:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، فقام رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن آثاركم تكتب"، فَلَمْ ينتقلوا.

وأبو سُفْيَان فِيهِ ضعف، والصحيح: رِوَايَة مسلمٍ، عَن أَبِي نضرة، عَن جابر المذكور في الباب، كذا قاله الدارقطنيّ وغيره.

وأخرج ابن ماجه من رِوَايَة سماك، عَن عَكْرِمَة، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: كَانَت الأنصار بعيدةً منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يقربوا، فَنَزَلت:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} ، قَالَ: فثبتوا.

وفي حَدِيْث أَنَس: فكره رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعروا المدينة أو منازلهم.

يعني: يخلوها فتصير عراةً من الأرض.

والعراء: الفضاء الخالي من الأرض، ومنه: قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات: 145]

(1)

.

[تنبيهٌ آخر]: بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث سبب نهيه لهم عن النُّقْلة، وهو قلّة ثوابهم في قربهم المسجد بسبب قلّة آثارهم، وكثرته في بعدهم، وزاد في حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ سببًا آخر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كَرِه أن تُعْرَى نواحي المدينة من سُكّانها، فقد أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا بني سَلِمَة ألا تحتسبون آثاركم؟ ".

ثم أخرج عن أنس رضي الله عنه أن بني سَلِمَة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم، فينزلوا قريبًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُعْرُوا المدينة، فقال:"ألا تحتسبون آثاركم".

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 5/ 29 - 30.

ص: 376

وزاد في رواية للبخاريّ: "فأقاموا"، وللترمذي من حديث أبي سعيد:"فلم ينتقلوا".

وقال مجاهد في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال: خُطاهم.

وقال أيضًا: خطاهم: آثارهم أن يُمْشَى في الأرض بأرجلهم. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": "قوله: ألا تحتسبون" كذا في النسخ التي وقفنا عليها بإثبات النون، وشرحه الكرمانيّ بحذفها، ووَجّهَهُ: بأن النحاة أجازوا ذلك، يعني تخفيفًا، قال: والمعنى: ألا تَعُدُّون خطاكم عند مشيكم إلى المسجد، فإن لكل خطوة ثوابًا. انتهى.

والاحتساب، وإن كان أصله العَدّ لكنه يستعمل غالبًا في معنى طلب تحصيل الثواب بنيّة خالصة.

وقوله: "أن يُعْرُوا المدينة"، وفي رواية الكشميهنيّ:"أن يُعْرُوا منازلهم"، وهو بضم أوله، وسكون العين المهملة، وضم الراء: أي يتركونها خاليةً، يقال: أعراه: إذا أخلاه، والعراء الأرض الخالية، وقيل: الواسعة، وقيل: المكان الذي لا يُسْتَتَر فيه بشيء.

ونَبّهَ بهذه الكراهة على السبب في منعهم من القرب من المسجد؛ لتبقى جهات المدينة عامرةً بساكنيها واستفادوا بذلك كثرة الأجر؛ لكثرة الْخُطَا في المشي إلى المسجد

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا تنبيه على علّة أخرى تَحْملهم على مُقامهم بمواضعهم، وهي أنه كَرِه أن تُترَك جهات المدينة عَرَاءً، أي فَضَاءً خاليةً، فيُؤتَوْنَ منها، ومن هذا قوله تعالى:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات: 145] أي بموضع خال. انتهى

(3)

.

(1)

وقوله: "وقال مجاهد: خطاهم آثارهم، والمشي في الأرض بأرجلهم"، كذا لأبي ذَرّ، وللباقين:"وقال مجاهد: ونكتب ما قدموا وآثارهم، قال: خطاهم"، وكذا وصله عبد بن حميد، من طريق ابن أبي نَجِيح، عنه، قال في قوله تعالى:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قال: أعمالَهُم، وفي قوله:"وآثارهم" قال: خطاهم، قاله في "الفتح" 2/ 156.

(2)

"الفتح" 2/ 165.

(3)

"المفهم" 2/ 292.

ص: 377

وأشار البخاريّ رحمه الله إلى أن قصة بنى سَلِمَة كانت سبب نزول هذه الآية، وقد ورد مُصَرَّحًا به من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أخرجه ابن ماجه، وغيره وإسناده قويّ، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد أخرجه البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه (655 و 1887) كما أسلفناه آنفًا.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1520 و 1521](665)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1982)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 332 و 333 و 371 و 390)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 387)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1991)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2042)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 64)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل كثرة الْخُطا إلى المساجد.

2 -

(ومنها): بيان أن أعمال البرّ إذا كانت خالصةً تكتب آثارها حسنات.

3 -

(ومنها): دَلّت هذه الأحاديث عَلَى أن المشي إلى المساجد يُكتب لصاحبه أجرهُ، وهذا مِمَّا تواترت السنن بِهِ، وقد سبق حَدِيْث أَبِي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"أعظم النَّاس أجرًا فِي الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى"، وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم:"وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة"، متّفقٌ عليه.

وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عَن عَبْد الرحمن بْن سعد، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا".

(1)

"الفتح" 2/ 165.

ص: 378

وقد سبق في حديث أُبَيّ بْن كعب رضي الله عنه قول ذلك الرجل: إني أريد أن يكتب لِي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فَقَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قَدْ جمع اللَّه لَكَ ذَلِكَ كله"، وفي رِوَايَة:"إن لَكَ مَا احتسبت".

وهذا يدلّ عَلَى أَنَّهُ يثاب عَلَى المشي فِي رجوعه من المسجد إلى منزله.

وأخرج أحمد في "مسنده"، وابن حبّان في "صحيحه"، عَن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو رضي الله عنهما، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"من راح إلى المسجد جماعةً فخطوتاه: خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة، ذاهبًا وراجعًا".

وهذا المطلق قَدْ ورد مقيَّدًا بقيدين:

أحدهما: أن يخرج من بيته عَلَى طهرٍ قَدْ أحسنه وأكمله.

والثاني: أن لا يخرج إلَّا إلى الصلاة فِي المسجد، فلو خرج لحاجة لَهُ وكان المسجد فِي طريقه فدخل المسجد فصلى ولم يكن خروجه لذلك لَمْ يحصل لَهُ هَذَا الأجر الخاصّ.

وكذلك لَوْ خرج من بيته غير متطهر، لكنه يكتب لَهُ بذلك أجر، غير أن هَذَا الأجر الخاص -وهو رفع الدرجات وتكفير السيئات- لا يحصل بذلك

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قيل: أن فيه استحباب السكنى بقرب المسجد، إلا لمن حَصَلَت به منفعة أخرى، أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي، ما لم يَحْمِل على نفسه، ووجهه أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي عَلِمُوه منه، فما أنكر عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، بل رَجَّح درء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة على المصلحة المذكورة، وأعلمهم بأن لهم في التردد إلى المسجد من الفضل ما يقوم مقام السكنى بقرب المسجد، أو يزيد عليه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال في "الفتح"، والذي يظهر لي أن الحديث لا يدلّ على فضل القرب من المسجد، بل إنما يدلّ على عكسه، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقرّهم على الانتقال، بل أنكر عليهم ذلك، وبيّن لهم أن البعد فيه الأجر الكثير، فالحقّ أن البعد هو الأفضل، كما يدلّ عليه ظاهر الحديث.

(1)

راجع "فتح الباري" لابن رجب 5/ 29 - 32.

ص: 379

وأما ما أخرج أحمد في "مسنده" عَن حذيفة رضي الله عنه، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"فضل الدار القريبة من المسجد عَلَى الدار الشاسعة كفضل الغازي على القاعد"، فهو حديث ضعيف؛ لضعفه وانقطاعه، فإن الراوي عن حذيفة رضي الله عنه وهو علي بن يزيد الألهانيّ الدمشقيّ، ضعيفٌ، بل قال البخاريّ: منكر الحديث، وقال النسائيّ: متروك الحديث، وقال في روايته، أنه بلغه عن حذيفة، فلا يصلح للاحتجاج به، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أنه اختُلِف فيمن كانت داره قريبةً من المسجد، فقارب الخطا بحيث تساوى خطا مَن داره بعيدة، هل يساويه في الفضل أو لا؟، وإلى المساواة جَنَح الطبريّ، ورَوَى ابن أبي شيبة من طريق أنس، قال: مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد، فقارب بين الخطا، وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد.

قال في "الفتح": وهذا لا يلزم منه المساواة في الفضل، وإن دلّ على أن في كثرة الخطا فضيلةً؛ لأن ثواب الخطا الشاقّة ليس كثواب الخطا السهلة، وهو ظاهر حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه المذكور أول الباب حيث جعل أبعدهم ممشى أعظمهم أجرًا. انتهى، وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أن بعضهم استنبط منه استحباب قصد المسجد البعيد، ولو كان بجنبه مسجد قريب، وإنما يتمّ ذلك إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياؤه بذكر اللَّه أولى، وكذا إذا كان في البعيد مانع من الكمال، كأن يكون إمامه مبتدعًا، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الاستنباط يردّه ما أخرجه الطبرانيّ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "ليُصلّ أحدكم في مسجده، ولا يتتبّع المساجد"، وهو حديث صحيح، فلا يستحبّ الذهاب إلى المسجد الأبعد، إلا لحاجة، كما قدّمنا تحقيقه، قريبًا.

وقد استنبط القرطبيّ رحمه الله عكس الاستنباط المذكور، فقال: وهذا الحديث، والأحاديث التي قبله تدلّ على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار مسجد، فهل له أن يجاوزه للأبعد؟ اختُلِف فيه، فرُوي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يُجاوز الْمُحْدَثَ إلى القديم، ورُوي عن غيره أنه قال: الأبعدُ، فالأبعدُ من

ص: 380

المسجد أعظم أجرًا، وكَرِه الحسن وغيره هذا، وقال: لا يَدَع مسجدًا قربه، ويأتي غيره، وهو مذهبنا، وفي المذهب عندنا في تخطّي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد عرفت مما أسلفته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن القول بكراهية ترك المسجد القريب هو الأرجح، إلا إذا كان لحاجة، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتركون مساجدهم ويأتون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقضاء غرضهم، ويصلّون معه، وقد تقدّم ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1521]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ كَهْمَسًا، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ

(2)

، قَالَ: وَالْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ"، فَقَالُوا: مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) الأحول، أبو عمرو البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد" 26/ 1350.

2 -

(كَهْمَسُ) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ [5](ت 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (مَا كَانَ يَسُرُّنَا)"ما" نافية، و"يَسُرُّنا" بفتح أوله، وضمّ الراء المشدّدة، من باب نصر، أي يُفرحنا.

(1)

"المفهم" 2/ 292.

(2)

وفي نسخة: "قُرْبَ المسجد"، في الموضعين.

ص: 381

وقوله: (أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا) بفتح همزة "أنا" لوقوعها في موضع فاعل "يَسُرّنا"، أي لا يسرّنا كوننا متحوّلين من منازلنا إلى قرب المسجد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(52) - (بَابُ بَيَانِ كَوْنِ الْمَشْي إِلَى الصَّلَاةِ تُمْحَى بِهِ الْخَطَايَا، وَتُرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1522]

(666) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ؛ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، أخو يوسف، ثقةٌ حافظ فاضلٌ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) الرّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (79) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

4 -

(زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ) الْجَزريّ، أبو أسامة، كوفيّ الأصل، ثم سَكَن الرُّهَا، ثقةٌ له أفراد [6] (ت 116) وقيل:(124)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

ص: 382

5 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة، رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

6 -

(أَبُو حَازِمٍ الْأَشْجَعِيُّ) سلمان الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وزكريّا أخرج له أبو داود في "المراسيل".

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عديّ، عن أبي حازم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة، أو موصولة (تَطَهَّرَ) أي بالوضوء، أو الغسل أو التيمّم بشروطه (فِي بَيْتِهِ) الظاهر أن المراد محلّه وموضع سكنه (ثُمَّ مَشَى) فيه أن من ركب لا ينال هذا الفضل (إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ) يعني المساجد، وأشار به إلى أنه صلى مع الجماعة؛ لأن ذلك هو الغرض من المشي إلى المسجد (لِيَقْضِيَ) أي ليؤدّي، والقضاء يُطلق على الأداء، يقال: قضيتُ الحجَّ والدينَ: إذا أدّيته، قال اللَّه تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]: أي أدّيتموها، وقال أيضًا:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103]: أي أدّيتموها، فالقضاء هنا بمعنى الأداء، وقد استَعْمل الفقهاء القضاءَ في العبادة التي تُفْعَل خارج وقتها المحدود شرعًا، والأَداءَ إذا فُعِلت في الوقت المحدود، وهو مخالف للوضع اللغويّ، لكنه اصطلاحٌ لهم ليُمييزُوا بين الوقتين، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ) فيه أنه لو صلّى نافلة لا يحصل له مثل هذا، وفيه إشارة إلى أن غير الفريضة يُستحبّ أن تُصلى في البيت، وهو مصرّحًا به في قوله صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس صلّوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا الصلاة المكتوبة"، متّفقٌ عليه. (كَانَتْ

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 507.

ص: 383

خَطْوَتَاهُ) بفتح الخاء هنا؛ لأن المراد بها فعل الماشي، وقوله:(إِحْدَاهُمَا) بدلٌ من "خَطْوتاه"، أو مبتدأ خبره قوله:(تَحُطُّ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من نصر، مبنيًّا للفاعل: أي تُزِيل (خَطِيئَةً) أي إثمًا، وجملة "تحُطّ. . . إلخ" خبر "كانت"(وَالْأُخْرَى) أي الْخَطْوة الأخرى (تَرْفَعُ) بالبناء للفاعل أيضًا، وقوله:(دَرَجَةً") منصوب على المفعوليّة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1522](666)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 390)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1492)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2044)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 62)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل التطهّر في البيت.

2 -

(ومنها): بيان إتيان المسجد مشيًا بلا ركوب؛ إن فيه تحمّل مشاقّ الطريق، فهو كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في عمرتها:"ولكنها على قدر نصبك"، متّفقٌ عليه، يعني المثوبة، قال في "الفتح": والمعنى أن الثواب في العبادة يكثر بكثرة النصب، أو النفقة. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): الحثّ على أداء الفرائض في المساجد.

4 -

(ومنها): بيان أن إحدى خطوتي الماشي إلى المسجد ماحية لخطيئته، والثانية رافعة لدرجته، وهذا هو الفضل العظيم، الذي ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون، جعلنا اللَّه تعالى ممن يسابق إلى مغفرته ورضوانه بمنّه وكرمه، إنه جواد كريم، رءوفٌ رحيم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 3/ 715 "كتاب الحجّ" رقم (1787).

ص: 384

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1523]

(667) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ، يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ الْهَادِ

(1)

، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَفِي حَدِيثِ بَكْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ "، قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ:"فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيد) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رَجَاء البَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيههٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(بَكْرُ بْنُ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم، أبو محمد، أو أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 174)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.

4 -

(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ له أفرادٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

6 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

(1)

وفي نسخة: "ابن الهادي".

ص: 385

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى بكر بن مضر، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن مسلسلٌ بالمدنيين من ابن الهاد، وشيخه بَغلانيّ، والباقيان مصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين المدنيين، رَوى بعضهم عن بعض: ابن الهادي، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة.

5 -

(ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وأنه ممن اشتَهَر بالكنية.

6 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) وقوله: (وَفِي حَدِيثِ بَكْرٍ) إشارة إلى أنه وقع اختلاف بين ليث، وبين بكر بن مضر، فقال ليث:"عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال"، وقال بكر: عن أبي هريرة (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَرَأَيْتُمْ) الهمزة للاستفهام على سبيل التقرير، والتاء للخطاب، ومعناه: أخبروني، ويُرْوَى:"أرأيتكم" بالكاف والميم، ولا محل لهما من الإعراب، قاله في "العمدة"

(1)

. (لَوْ أَنَّ نَهْرًا) قال الطيبيّ رحمه الله: "لو" الامتناعيّة تقتضي أن تدخل على الفعل الماضي، وأن تُجاب، والتقدير: لو ثبت نهر بباب أحدكم يَغتسل فيه كلَّ يوم خمسًا لَمَا بَقِيَ من دَرَنه شيءٌ، فوُضِع الاستفهام موضعه تأكيدًا وتقريرًا؛ إذ هو في الحقيقة متعلَّق الاستخبار، أي أخبروني هل يبقى لو كان كذا؟. انتهى

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 5/ 23.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 865.

ص: 386

و"النهر" -بفتح الهاء، وسكونها، وبفتحتين أيضًا- وكذلك يقال في كل ما كان عين الفعل منه حرف حلق، مثلُ شَعْرٍ وشَعَرٍ، ودَهْرٍ ودَهَرٍ، وبَحْرٍ وبَحَرٍ، وبَعْرٍ وبَعَرٍ، وهو: ما بين جَنْبَي الوادي، سُمِّي نهرًا؛ لسعته، وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه

(1)

.

(بِبَابِ أَحَدِكُمْ) جارّ ومجرور في محلّ نصب صفة لـ "نهرًا"، أي نهرًا كائنًا بباب أحدكم، قال القاضي عياض رحمه الله: فيه تنبيه على قرب تناوله، وسهولة تأتِّي استعماله. انتهى

(2)

.

(يَغْتَسِلُ مِنْهُ) أي من ذلك النهر، والجملة في محلّ نصب على الحال من "نهرًا"؛ لوصفه بالجارّ والمجرور، أو صفة له بعد صفة (كُلَّ يَوْمٍ) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "يغتسل"، وقوله:(خَمْسَ مَرَّاتٍ) مفعول مطلق على النيابة لـ "يغتسل"، أي اغتسالًا خمسَ مرّات.

(هَلْ يَبْقَى) بفتح أوله، وثالثه مضارع بَقِيَ ثلاثيًّا، من البقاء، وفي رواية البخاريّ:"يُبْقِي" من الإبقاء رباعيًّا (مِنْ دَرَنِهِ) متعلّق بـ "يَبْقَى"، و"الدَّرَن" بفتحتين: الوسَخُ، قال في "الفتح": وقد يُطلق الدرن على الْحَبّ الصغار التي تحصل في بعض الأجساد. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لم أجد هذا الإطلاق في "القاموس"، ولا في "اللسان"، ولا في "المصباح"، ولا في "المختار"، إلا أنه قال في "المعجم الوسيط": الدَّرَنُ من أمراض الرئتين مُحْدثةٌ. انتهى.

وكون هذا هو المراد في الحديث بعيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر القرطبيّ رحمه الله في "المفهم" رواية بلفظ: "هل يبقى من درنه"، بلا ذكر لفظة "شيءٌ"، قال: كذا صحّت الرواية بفتح ياء "يَبْقَى" مبنيّ للفاعل، وبإثبات "مِنْ"، وبتمام الكلام على "دَرَنِهِ"، من غير "شيء"، ويُحْمَلُ على أن "من" زائدة على الفاعل؛ لأن الكلام قبلها غير موجب، فكأنه قال:"هل يَبْقَى دَرَنُهُ"؟، وقد تَخَيَّل بعض الناس أن في الكلام حذفًا، فقال: هل

(1)

راجع: "المفهم" 2/ 293.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 644.

ص: 387

يَبْقَى من درنه شيءٌ؟ ولا تَعْضِده الرواية، ولا القانون النحويّ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الرواية التي ذكرها القرطبيّ رحمه الله لم أجدها في النسخ التي بين يديّ، من نسخ "صحيح مسلم"، فكلّ النسخ فيها:"هل يَبْقَى من درنه شيءٌ" بإثبات لفظة "شيءٌ"، فليُحرّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقد ذكر الطيبيّ أيضًا نحو ما ذكره القرطبيّ، حيث أعرب الجملة بقوله: و"من" في قوله: "من درنه" استغراقيّة زائدة

(2)

لِمَا دَخَلَ في حيِّز الاستفهام، و"درنه" فاعل "يَبْقَى". انتهى

(3)

.

وقوله: (شَيْءٌ؟ ") مرفوع على الفاعليّة لـ "يبقى"(قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون لهذا السؤال (لَا يَبْقَى) بعد هذه الاغتسالات المتكرّرة (مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ) قال الطيبيّ رحمه الله: فيه مبالغة في نفي درن الذنوب ووسخ الآثام، ومن ثمّ ما اكتفَوْا في الجواب بـ "لا"، بل زادوا فيه.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ بلفظ: "ما تقول

(4)

ذلك يُبْقي من دَرَنه؟ "، فقال ابن مالك: فيه شاهدٌ على إجراء فعل القول مُجرى الظنّ، والشرط فيه أن يكون فعلًا مضارعًا مسندًا إلى المخاطب، متّصلًا بالاستفهام، مثاله: "أتقول زيدًا منطلقًا؟ "، وكما في هذا الحديث، هذه هي اللغة المشهورة للعرب، وأما بنو سُلَيم فإنهم يُجرون القول مطلقًا مُجرى الظنّ، بلا شرط، فيقولون: قلتُ زيدًا منطلقًا، ونحو ذلك، وإلى هذا كلّه أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَكَـ "تَظُنُّ" اجْعَلْ "تَقُولُ" إِنْ وَلي

مُسْتَفْهَمًا بِهِ وَلَمْ يَنْفَصِلِ

بِغَيْرِ ظَرْفٍ أَوْ كَظَرْفٍ أَوْ عَمَلْ

وَإِنْ بِبَعْضِ ذِي فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ

وَأُجْرِيَ الْقَوْلُ كَظَنٍّ مُطْلَقًا

عِنْدَ سُلَيْمٍ نَحْوُ "قُلْ ذَا مُشْفِقَا"

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ذلك" مفعولٌ أوّل لـ "تقول"، و"يُبقي" مفعوله

(1)

"المفهم" 2/ 293 - 294.

(2)

هكذا النسخة، والظاهر أن لفظة:"زائدة" مقدّمة على "استغراقيّة"، فتأمل.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 865.

(4)

وفي رواية ابن حبّان: "ما تقولون؟ ".

ص: 388

الثاني، و"ما" استفهاميّة منصوبةٌ بـ "يُبقِي"، وقُدِّم؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، والتقدير: أيّ شيء تظنُّ أيها السامع ذلك الاغتسال مُبقيًا من درنه؟. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَذَلِكَ) أي ما ذُكر من الاغتسال الموصوف بالتكرار خمس مرّات (مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ) قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في قوله: "فذلك" داخلة على جواب شرط محذوف، أي إذا أقررتم ذلك، وصحّ عندكم، فهو مَثَلُ الصلوات الخمس، ومِصداق ذلك قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، قيل: صلاة الفجر والظهر طرفٌ، وصلاة العصر والمغرب طرفٌ، وزلفًا من الليل صلاة العشاء. انتهى

(2)

.

و"المثل" -بفتحتين، وبكسر، فسكون-، ويقال فيه أيضًا: المثيل كالكريم: الشبيه، وقيل: الْمِثْل -بكسر، فسكون-: الشِّبْهُ، والْمَثَلُ -بفتحتين-: الوصف، أفاده الفيّوميّ

(3)

.

ومعنى الحديث: أن ما ذُكر من الاغتسال شبيه بالصلوات الخمس، أو ما ذُكِر من إزالة الوسخ على وجهٍ أبلغَ صفةُ الصلوات الخمس.

وجملة قوله: (يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا") جملة في محلّ نصب على الحال من "الصلوات الخمس"، أي حال كونه عز وجل مُزيلًا بهذه الصلوات الخمس خطايا المصلّي.

قال السنديّ رحمه الله: [إن قلت]: من أيّ التشبيهِ هذا التشبيُه؟.

[قلت]: هو من تشبيه الهيئة بالهيئة، ولا حاجة فيه إلى تكلُّف اعتبار تشبيه الأجزاء بالأجزاء، فلا يقال: أيُّ شيء يُعْتَبَرُ مِثْلًا للنهر في جانب الصلاة. انتهى.

وقال في "الفتح": وفائدة التمثيل التأكيد، وجعل المعقول كالمحسوس.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 3/ 865.

(2)

"الكاشف" 3/ 865.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 563 - 564.

ص: 389

وقال الطيبيّ رحمه الله: في هذا الحديث مبالغة في نفي الذنوب؛ لأنهم لم يقتصروا في الجواب على "لا" بل أعادوا اللفظ تأكيدًا.

وقال ابن العربيّ رحمه الله: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويُطَهِّره الماءُ الكثيرُ، فكذلك الصلوات تُطَهِّر العبد عن أقذار الذنوب حتى لا تُبْقِي له ذنبًا إلا أسقطته وكفّرته. انتهى.

ثمّ ظاهر الحديث أن الخطايا أعم من الصغيرة والكبيرة، لكن قال ابن بطال رحمه الله: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصّةً؛ لأنه شَبَّهَ الخطايا بالدَّرَنِ، والدَّرَنُ صغيرٌ بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القُرُوح والخُرَاجَات. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وهو مبنيّ على أن المراد بالدَّرَن في الحديث الحبّ، والظاهر أن المراد به الوَسَخُ؛ لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتَّنَظُّفُ. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: إطلاق الدَّرَن على الحبّ المذكور ليس معروفًا في اللغة، كما سبق بيانه، فلا ينبغي حمل الحديث عليه، بل الأولى أن المراد به الوَسَخُ، ولا سيما وقد جاء التصريح به في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فقد أخرج البزّار والطبرانيّ بإسناد لا بأس به، -كما قال الحافظ- من طريق عطاء بن يسار، أنه سمع أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه يحدث أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"أرَأيْتَ لو أنَّ رَجُلًا كان لهُ مُعْتَمَلٌ، وبين منزله ومُعْتَمَله خمسةُ أنهار، فإذا انطلق إلى مُعْتَمَلِهِ عَمِلَ ما شاء اللَّهُ، فأصابه وَسَخٌ، أو عَرَقٌ، فكلما مَرَّ بنهر اغتسل منه، ما كان ذلك يُبقي من درنه؟، فكذلك الصلوات كلّما عَمِل خطيئةً، أو ما شاء اللَّه، ثمّ صلّى صلاةً، فدعا، واستغفر غُفِر له ما كان قبلها".

قال ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث مما يدلّ على أن المراد بالدَّرَن الصغائر التي تُصيب الإنسان في كسبه، ومعاشه، ومخالطته للناس المخالطة المباحة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تَسْتَقِلُّ بتكفير

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 4/ 227.

ص: 390

جميع الذنوب كبائرها وصغائرها، وليس الأمر كذلك؛ لاشتراطه في الحديث المتقدّم اجتناب الكبائر، فدَلّ ذلك على أن المكفَّر بالصلوات هي جميع الصغائر -إن شاء اللَّه- وقد تقدّم القول في ذلك في "كتاب الإيمان"

(1)

. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وحاصله أن المطلق هنا ينبغي أن يُحمل على ما سبق من الأحاديث من قوله صلى الله عليه وسلم:"الصلواتُ الخمسُ، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات ما بينهنّ إذا اجْتُنِبَتِ الكبائرُ"، فتكفير الصلوات الخمس المطلق هنا يُحمل على هذا المُقَيَّدِ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن بزيزة في "شرح الأحكام": يتوجه على حديث العلاء إشكال يَصْعُبُ التخلُّصُ منه، وذلك أن الصغائر بنصّ القرآن مُكَفَّرة باجتناب الكبائر، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وقد أجاب شيخنا الإمام البُلْقِينِيُّ بأن السؤال غير وارد؛ لأن مراد اللَّه "إن تجتنبوا" أي في جميع العمر، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تُكَفِّرُ ما بينها، أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فعلى هذا لا تعارُض بين الآية والحديث. انتهى.

وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلُّص منه -بحمد اللَّه- سهل، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يُعَدَّ مجتنبًا للكبائر؛ لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها، واللَّه أعلم.

وقد فَصَّل البلقينيّ أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يَصْدُر منه من صغيرة وكبيرة؛ فقال: تنحصر في خمسة:

[أحدها]: أن لا يصدر منه شيء البتة، فهذا يُعَاوَضُ برفع الدرجات.

(1)

هكذا وقع في النسخة: في "كتاب الإيمان"، والظاهر أنه غلط، والصواب في "كتاب الطهارة"، فتنبّه.

(2)

"المفهم" 2/ 294.

ص: 391

[ثانيها]: أن يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تُكَفَّرُ عنه جزمًا.

[ثالثها]: مثله لكن مع الإصرار، فلا تكفَّر، إذا قلنا: إن الإصرار على الصغائر كبيرة.

[رابعها]: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر.

[خامسها]: أن يأتي بكبائر وصغائر، وهذا فيه نظرٌ، يَحْتَمِل إذا لم يجتنب الكبائر أن لا تكفِّر الكبائر، بل تكفِّر الصغائر، ويَحْتَمِل أن لا تكفِّر شيئًا أصلًا، والثاني أرجح؛ لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يُعْمَل به، فهنا لا تكفِّر شيئًا، إما لاختلاط الكبائر والصغائر، أو لتمحُّض الكبائر، أو تكفِّر الصغائر، فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة، لِدَوَرَانه بين الفصلين، فلا يُعْمَل به، ويؤيده أن مقتضى تجنب الكبائر، ومقتضى "ما اجتنبت الكبائر" أن لا كبائر، فيُصَانُ الحديثُ عنه. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله عند قوله: "يمحو اللَّه بهن الخطايا"- ما نصه: خصّها العلماء بالصغائر، ولا يَخْفَى أنه بحسب الظاهر لا يناسب التشبيه بالنهر في إزالة الدَّرَن؛ إذِ النَّهرُ المذكور لا يُبْقِي من الدرن شيئًا أصلًا، وعلى تقدير أن يُبْقِي فإبقاء القليل والصغير أقرب من إبقاء الكثير الكبير، فاعتبار بقاء الكبائر وارتفاع الصغائر قلب لما هو المعقول نظرًا إلى التشبيه، فلعلّ ما ذكروا من التخصيص مبنيّ على أن للصغائر تأثيرًا في درن الظاهر فقط، كما يدلّ عليه ما ورد من خروج الصغائر من الأعضاء عند الوضوء بالماء بخلاف الكبائر؛ فإن لها تأثيرًا في دَرَنِ الباطن، كما جاء أن العبد إذا ارتكب المعصية تحصل في قلبه نقطةٌ سوداءُ، ونحو ذلك، وقد قال اللَّه تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]، وقد عُلِمَ أنَّ أثَرَ الكبائر تُذْهِبُهَا التوبةُ التي هي الندامة بالقلب، فكما أن الغسل إنما يَذهَب بدرن الظاهر دون الباطن فكذلك الصلاة، فتفكر. انتهى كلام السنديّ رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"فتح الباري" 2/ 16.

(2)

"شرح النسائيّ" للسنديّ رحمه الله 1/ 231.

ص: 392

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1523](667)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(528)، و (الترمذيّ) في "الأمثال"(2868)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(462) و"الكبرى"(323)

(1)

، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 379)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 268)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1726)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 20)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1493)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 361)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(342)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الصلوات الخمس، وأنهنّ تُمحَى بهنّ الخطايا، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذا مثلٌ ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم لمحو الخطايا بالصلوات الخمس، فجَعَل مَثَل ذلك مثل مَن ببابه نهرٌ يغتسل فيه كل يوم خمس مرار، كما أن درنه ووسخه يُنَقَّى بذلك حتى لا يبقى منه شيء، فكذلك الصلوات الخمس في كل يوم تمحو الذنوب والخطايا حتى لا يبقى منها شيء.

قال: وتمثيله صلى الله عليه وسلم بالنهر فيه مبالغة في إنقاء الدرن؛ فإن النهر الجاري يُذْهِب الدرن الذي غُسِل فيه، ولا يَبْقَى له فيه أثر، بخلاف الماء الراكد؛ فإن الدرن الذي غُسل فيه يمكث في الماء، وربما ظهر مع كثرة الاغتسال فيه على

(1)

وزاد النسائيّ في "الكبرى" 1/ 143 بعد تخريجه الحديث ما نصُّهُ: قال أبو عبد الرحمن: ابنُ الهاد اسمه يزيد بن عبد اللَّه بن أسامة بن الهاد، وأبو سلمة اسمه عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو هريرة اسمه عبد عمرو، ويقال: عبد شمس، ويقال: سُكَين، وقال سفيان بن حسين عن الزهري، عن المُحَرَّرِ بن أبي هريرة قال: اسم أبي عبد عمرو بن عبد غَنْم.

أنبأنا محمد بن يحيى، عن بُكَير بن بَكَّار، عن عمر بن علي بن مُقَدَّم، عن سفيان بن حُسَين، عن الزهري.

قال أبو عبد الرحمن: وَبكْرُ بن بَكَّار ليس بالقويّ في الحديث، وسُفْيَانُ بنُ حسين ليس بالقويّ في الزهريّ خاصّة، وفي غيره لا بأس به. انتهى.

ص: 393

طول الزمان؛ ولهذا جاء النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، كما سبق ذكره في "كتاب الطهارة". انتهى كلام ابن رجب رحمه الله بتصرّف

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فيه بيان فضل اللَّه تعالى العظيم على هذه الأمة المرحومة، حيث يُكفّر عنها الخطايا بالصلوات الخمس، وهي أعمال سهلة هيّنة على كل مؤمن موفَّق، وإنما تكون كبيرة على ضعفاء الإيمان، قال اللَّه تعالى:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].

[فائدة]: قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد": وبلغني أن أبا زرعة الرازيّ قال: خَطَر ببالي تقصير الناس، وتقصيري في الأعمال من النوافل، والحجّ، والصيام، والجهاد، فَكَبُر ذلك في قلبي، فرأيت ليلةً فيما يرى النائم، كأن آتيًا أَتاني، فضرب بيده بين كتفيّ، وقال: قد أكثرت في العبادة، وأيُّ عبادة أفضل من الصلوات الخمس في جماعة؟. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): ضرب المثل في التعليم؛ زيادةً في الإيضاح؛ إذ فيه تشبيه المعقول بالشيء المحسوس.

4 -

(ومنها): حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته، وشدّةُ رأفته بهم، كما قال اللَّه تعالى:{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

5 -

(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجبّ رحمه الله: واستَدَلّ بذلك بعض من يقول: إن الصلاة تكفّر الكبائر والصغائر، لكن الجمهور القائلون بأن الكبائر لا يكفِّرها مجرد الصلاة بدون توبة، يقولون: هذا العموم خُصّ منه الكبائر بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر".

وفيه -أيضًا-: عن عثمان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤت كبيرة وكذلك الدهر كله".

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 221 - 224.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ رحمه الله 24/ 229 - 230.

ص: 394

وأخرج النسائيّ، وابن حبان، والحاكم، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"والذي نفسي بيده، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فُتِحَت له أبواب الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام".

وأخرج الإمام أحمد، والنسائيّ، من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعناها أيضًا.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "الصلوات الخمس، كفاراتٌ لما بينهن ما اجتُنِبت الكبائر"، ورُوي عنه مرفوعًا، والموقوف أصح.

وقال سلمان رضي الله عنه: حافظوا على هذه الصلوات الخمس؛ فإنهن كفارة لهذه الجراح، ما لم تُصَب المقتلة.

وقد حَكَى ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك، وأن الكبائر لا تُكَفَّر بمجرد الصلوات الخمس، وإنما تكفّر الصلوات الخمس الصغائر خاصة.

وقد ذهب طائفة من العلماء -منهم: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا- إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الصغائر، فإن لم تجتنب الكبائر لم تكفّر الصلوات شيئًا من الصغائر، وحكاه ابن عطية في "تفسيره" عن جمهور أهل السنة؛ لظاهر قوله:"ما اجتنبت الكبائر".

والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجَّحه ابن عطية، وحكاه عن الْحُذّاق: أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفّر الصغائر مطلقًا إذا لم يُصِرَّ عليها، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر.

قال: وحديث عثمان رضي الله عنه المتقدّم يدلُّ على أن كل صلاة تكفِّر ذنوب ما بينها وبين الصلاة الأخرى خاصة، وقد ورد مصرَّحًا بذلك في أحاديث كثيرة.

وحينئذ؛ فمن ترك صلاة إلى وقت صلاة أخرى لغير عذر، وجمع بينهما، فلا يتحقق أن هاتين الصلاتين المجموعتين في وقت واحد لغير عذر يكفران ما مضى من الذنوب في الوقتين معًا، وإنما يكون ذلك إن كان الجمع لعذر يبيح الجمع. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله بتصرّف

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 221 - 227.

ص: 395

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1524]

(668) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ، عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ"، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: "وَمَا يُبْقِي ذَلِكَ مِنَ الدَّرَنِ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وقد تقدّموا قبل باب، و"أبو سفيان" هو طلحة بن نافع تقدّم قبل بابين، و"جابر بن عبد اللَّه" رضي الله عنهما ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (غَمْرٍ) بفتح الغين المعجمة، وسكون الميم: هو الماء الكثير، وأما بضمّ الغين: فهو الرجل الذي لم يُجَرِّب الأمور، وبكسرها: فهو الحقد

(1)

.

وقوله: (عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ) إشارة إلى سهولة استعماله، وقرب تناوله.

وقوله: (قَالَ الْحَسَنُ) لم أجد من عيّنه، ولعلّه الحسن البصريّ رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَمَا يُبْقِي)"ما" استفهاميّة استفهامًا إنكاريًّا، و"يُبقي" بضم أوله، وكسر ثالثه، من الإبقاء رباعيًّا.

وقوله: (ذَلِكَ) في محلّ رفع على الفاعليّة، والإشارة إلى الاغتسال المفهوم من "يَغتَسل".

وقوله: (مِنَ الدَّرَنِ) بيان لـ "ما يُبقي"، وهو الوسَخُ.

والمعنى: أيَّ شيء يُبقي ذلك الاغتسال من درن ذلك المغتسل؟، يعني أنه لا يُبقِي منه شيئًا، وتمام شرح الحديث تقدّم في الحديث الماضي.

(1)

"المفهم" 2/ 293.

ص: 396

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1524](668)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 389)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 426 و 3/ 305 و 317 و 357)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 267)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 364)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1494)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1725)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 63)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(343)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في الكلام على هذا الحديث:

(اعلم): أنهم تكلّموا في هذا الحديث، قال ابن أبي حاتم رحمه الله في "علله":(283) سألت أبي عن حديث رُوِي عن الأعمش، عن أبي سفيان، فمنهم من يقول: عن عُبَيد بن عُمير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل الصلوات الخمس، كمثل نهر على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات"؟.

قال: الحفاظ يقولون: عن عُبيد بن عُمير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه، وكذا رواه عبد العزيز بن رُفيع، عن عُبيد بن عمير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أشبه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل كلام أبي حاتم: أنه يرى ترجيح يكون الحديث مرسلًا على كونه موصولًا، وقد خالفه في ذلك غيره، فمنهم المصنّف رحمه الله، حيث أخرجه في "صحيحه" هنا موصولًا من حديث جابر رضي الله عنه، وقد وافقه الدارقطنيّ رحمه الله، وعبارة "العلل":

(1491)

وسُئل عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار، على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم

(1)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم 1/ 138.

ص: 397

خمس مرات، فماذا يبقى من درنه؟ "، فقال: يرويه الأعمش، واختُلِف عنه، فرواه محمد بن عُبيد الطنافسيّ، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ولم يتابع عليه، وخالفه يعلى بن عبيد، رواه عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، كذلك رواه أصحاب الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، وهو الصحيح. انتهى

(1)

.

وهذا من الدارقطنيّ رحمه الله ترجيح لوصله، فقد وافق المصنّف رحمه الله.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: اختُلِف عن الأعمش في هذا الحديث، فمن أهل العلم من لا يَحتَجّ بحديثه هذا، من أجل أبي سفيان طلحة بن نافع، فهو ضعيف، ومنهم من يجعلهما إسنادين، وأصح إسنادٍ في هذا -إن شاء اللَّه- ما حدّثناه عبد اللَّه بن محمد بن أسد. . . إلخ، فأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم من طريق أبي سلمة، عنه

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح عندي صحة حديث جابر رضي الله عنه كما هو مذهب المصنّف، والدارقطنيّ، وأما تضعيف ابن عبد البرّ له براويه أبي سفيان طلحة بن نافع ففيه نظرٌ؛ لأن أبا سفيان وثّقه البزّار، وابن حبّان، وقال أحمد، والنسائيّ، وابن عديّ: ليس به بأس، زاد ابن عديّ: روى عنه الأعمش أحاديث مستقيمة، وأخرج له مسلم، وروى له البخاريّ مقرونًا بغيره.

والحاصل أن إطلاق ابن عبد البرّ الضعف عليه، ليس مقبولًا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1525]

(669) - (حَدَّثَنَا

(3)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا

(4)

مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 8/ 173.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 229 - 230.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(4)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 398

عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَدَا

(1)

إِلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا، كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ مصنِّفٌ [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّف) بن داود بن مُطَرّف بن عبد اللَّه بن سارية التيميّ الليثيّ، يقال: إنه من موالي آل عمر، أبو غسّان المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [7].

أحدُ العلماء الأثبات، رَوَى عن زيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، وأبي حازم سلمة بن دينار، وحسان بن عطية، ومحمد بن عجلان، وصفوان بن سُليم، وسهيل بن أبي صالح، وأبي حصين، وغيرهم.

ورَوَى عنه إبراهيم بن أبي عَبْلة، وهو أكبر منه، والثوريّ، وهو من أقرانه، والوليد بن مسلم، وعثمان بن سعيد بن كثير، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، وابن وهب، وغيرهم.

قال علي بن سراج: كان من أهل وادي القرى، قَدِم بغداد أيام المهديّ، وقال مجاهد بن موسى: ثنا يزيد بن هارون، ثنا أبو غَسّان محمد بن مُطَرِّف الليثيّ، وكان ثقةً، وقال أحمد، وأبو حاتم، والْجُوزَجانيّ، ويعقوب بن شيبة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم أيضًا: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ذكره أحمد، فجعل يُثني عليه، وقال ابن الغلابيّ، عن ابن معين: شيخٌ ثقةٌ ثبتٌ، وقال ابن أبي

(1)

وفي نسخة: "قال: من غدا".

ص: 399

مريم، عن ابن معين: ثقة، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: أرجو أن يكون ثقة، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ليس به بأسٌ، وكذا قال أبو داود، والنسائيّ، وقال ابن المثنى: كان شيخًا صالحًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِب.

قال في "التقريب": مات بعد الستين، أي ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث، برقم (669) و (1091) و (1509) و (1790) و (2006) و (2007) و (2149) و (2669) و (2754).

5 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ، مولى عمر بن الخطّاب، أبو عبد اللَّه، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، كان يُرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

6 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، مولى ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنها، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ واعظٌ عابدٌ، من صغار [3] (ت 94) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من محمد بن مطرِّف، ويزيد واسطيّ، وأبو بكر كوفيّ، وزهير نسائيّ، ثم بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَدَا) وفي نسخة: "قال: من غدا"، قال الفتح: المراد بالغدوّ: الذهاب، وبالرواح الرجوع، والأصل في

ص: 400

الغدّو المضيّ من بُكرة النهار، والرواح بعد الزوال، ثم قد يُستعملان في كل ذهاب، ورجوع؛ توسّعًا. انتهى

(1)

.

وقال ابن رجب رحمه الله: "الغدُوّ": يكون من أول النهار، و"الرواح": يكون من آخره بعد الزوال، وقد يُعبّر بهما

(2)

عن الخروج والمشي، سواء كان قبل الزوال، أو بعده، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"من راح في الساعة الأولى، فكأنما قرّب بدنة. . . " على ما حمله عليه جمهور العلماء. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أصل "غَدَا" خرج بغَدْوٍ، أي أتى مبكّرًا، و"راحَ" رجع بعشيّ، ثم قد يُستعملان في الخروج، والرجوع مطلقًا؛ توسّعًا، وهذا الحديث يصلح أن يُحْمَل على الأصل، وعلى التوسّع به. انتهى

(4)

.

(إِلَى الْمَسْجِدِ) متعلّق بـ "غدا"، وقوله:(أَوْ رَاحَ) حُذف متعلّقه؛ لدلالة ما قبله عليه، أي إليه (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ) أي هيّأ له، ومنه قوله [من المتقارب]:

وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا

رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورَا

(فِي الْجَنَّةِ) وفي رواية البخاريّ: "من الجنّة"(نُزُلًا) بضمّتين، أو بضمّ، فسكون: ما يُهيّأ للضيف من الكرامة.

وفي رواية للبخاريّ: "نُزُلَه" بالإضافة، قال في "الفتح": و"النُّزُلُ" بضمّ النون والزاي: المكان الذي يُهيّأ للنزول فيه، وبسكون الزأي: ما يُهيّأ للقادم من الضيافة ونحوها، فعلى هذا "من" في قوله:"من الجنّة"، -أي رواية البخاريّ- للتبعيض على الأول، وللتبيين على الثاني، قال: ورواه مسلم، وابن خزيمة، وأحمد بلفظ:"نُزُلًا في الجنّة" وهو مُحْتَمِلٌ للمعنيين. انتهى

(5)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره في الفتح من التفرقة بين النُّزُل بضمتين، والنُّزْل بضم، فسكون محلّ نظر؛ لأن الذي ذكره أصحاب اللغة يفيد أن الساكن والمضموم بمعنى واحد، ودونك عبارة "القاموس": و"النُّزل"

(1)

"الفتح" 2/ 174.

(2)

وقع في النسخة: "بأحدهما" ولعل الصواب "بهما" كما هو في كتب اللغة.

(3)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 6/ 53.

(4)

"المفهم" 2/ 294.

(5)

"الفتح" 2/ 174.

ص: 401

بضمّتين: المنزل، وما هُيّء للضيف أن يَنْزل عليه، كالنُّزْل -أي بالسكون- جمعه أَنْزَالٌ، والطعام ذو البركة، كالنزيل، والفضلُ، والعطاءُ، والبركة. انتهى باختصار

(1)

.

وقال في "المصباح": والنُّزُلُ بضمّتين: طعام النزيل الذي يُهيّأ له، وفي التنزيل:{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [الواقعة: 56]. انتهى

(2)

.

وقال في "المختار": النُّزْلُ بوزن القُفْل: ما يُهيّأ للنزيل، والجمع: أنْزَال. انتهى

(3)

.

وقال في "اللسان": والنُّزُلُ -بضمّتين- والنُّزْلُ -بضمّ، فسكون: ما هُيّئ للضيف إذا نزل عليه، وقال أيضًا: النُّزْلُ في الأصل: قِرَى الضيف، وتُضمّ زايه. انتهى باختصار

(4)

.

فتبيّن بما ذُكر من كلام هؤلاء اللغويين، أنه لا فرق بين النُّزُل بضمّتين، والنُّزْل بضمّ، فسكون، بل هما بمعنى واحد، وهو ما هيّئ للضيف من الضيافة ونحوها، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ") أي بكل غدوة أو روحة.

والمعنى: أن اللَّه تعالى هيّأ له في الجنّة نعيمًا خاصًّا، يُستقبل به بقدر غُدوّه ورواحه إلى المسجد، وبقدر ما يَبذُلُ من خطواته، ويتحمّل من مشاق المشى إليه.

وظاهر الحديث حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقًا، لكن المقصود منه اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاةُ رأسها، قاله في "الفتح"

(5)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّقُ بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 56.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 601.

(3)

"مختار الصحاح"(ص 297).

(4)

"لسان العرب" 11/ 658.

(5)

2/ 174.

ص: 402

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1525](669)، و (البخاريّ) في "الأذان"(662)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 508 و 509)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1496)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2037)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1121)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1495)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(467)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل التردّد إلى المسجد كلَّ غدوّ ورواح.

2 -

(ومنها): بيان سعة فضل اللَّه تعالى وكرمه لأهل طاعته، حيث يُكرمهم ويُعدّ لهم {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 32]، والنزل: هُوَ مَا يُعَدُّ للضيف عِنْدَ نزوله من الكرامة والتُّحْفَة.

3 -

(ومنها): أنه يدلّ على أن من خرج إلى المسجد للصلاة فإنه زائر اللَّه تعالى، واللَّه يُعِدّ لَهُ نُزُلًا من المسجد، كُلَّمَا انطلق إلى المسجد، سواء كَانَ فِي أول النهار أو فِي آخره.

قَالَ الحافظ أبو موسى المديني: وزيد فِيهِ فِي غيره هذه الرواية: "كما لَوْ أن أحدكم زاره مَن يُحِبّ زيارته لاجتهد فِي إكرامه".

وأخرج من طريق الطبراني بإسناده، عَن سَعِيد بْن زَرْبِي، عَن ثابت، عَن أَبِي عُثْمَان، عَن سلمان، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"من توضأ، فأحسن الوضوء، ثُمَّ أتى المسجد، فهو زائر اللَّه، وحَقّ عَلَى المزور أن يكرم الزائر"

(1)

.

قَالَ أبو موسى: ورواه سُلَيْمَان التيميّ وداود بْن أَبِي هند وعوف، عَن أَبِي عُثْمَان، عَن سلمان، موقوفًا، لا مرفوعًا.

وسعيد بن زَرْبِي، فِيهِ ضعف، بل في "التقريب": منكر الحديث

(2)

.

(1)

رواه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 6/ 253 - 254، وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع:"السلسلة الصحيحة" 3/ 157.

(2)

قال في "التقريب": سعيد بن زَرْبي بفتح الزاي، وسكون الراء، بعدها موحّدة مكسورة، الخزاعيّ البصريّ العبادانيّ، أبو عبيدة، أو أبو معاوية منكر الحديث من السابعة. انتهى.

ص: 403

وأخرج -أيضًا- من طريق الطبراني بإسناده، عَن يَحْيَى بْن الحارث، عَن الْقَاسِم، عَن أَبِي أمامة، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الغدوُّ والرواح إلى المساجد من الجهاد فِي سبيل اللَّه"

(1)

.

وذكر مَالِك فِي "الموطأ" عَن سمي مَوْلَى أَبِي بَكْر، أن أبا بَكْر بْن عَبْد الرحمن كَانَ يَقُول: من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد غيره؛ ليعلم خيرًا أو يتعلمه، ثُمَّ رجع إلى بيته؛ كَانَ كالمجاهد فِي سبيل اللَّه

(2)

.

قال ابن رجب رحمه الله بعد ذكره ما سبق ما نصّه: ومما يُسْتَدلّ بِهِ عَلَى أن قصد المساجد للصلاة فيها زيارة للَّه عز وجل: مَا أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ فِيهِ ضعف، من حَدِيْث أَبِي الدرداء، عَن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إن أحسن مَا زرتم بِهِ اللَّه فِي قبوركم ومساجدكم البياض"

(3)

. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لكن الحديث في سنده مروان بن سالم، متروك، بل رماه الساجيّ وغيره بالوضع، وحكم بعضهم على هذا الحديث بأنه موضوع، فما كان ينبغي لابن رجب رحمه الله أن يورد مثله على وجه الاستدلال، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(53) - (بَابُ فَضْلِ الْجُلُوسِ فِي الْمُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1526]

(670) - (حَدَّثَنَا

(5)

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ،

(1)

"المعجم الكبير" 6/ 255. قال الشيخ الألباني رحمه الله: موضوع. "الضعيفة" 5/ 20.

(2)

"الموطأ"(ص 118).

(3)

"سنن ابن ماجه"(3568). قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: موضوع.

(4)

"فتح الباري" لابن رجب 6/ 53 - 54.

(5)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 404

عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ

(1)

لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ، أَوِ الْغَدَاةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ، وَيَتَبَسَّمُ)

(2)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ) التميميّ الْيَرْبوعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج، أَبُو خَيْثَمَةَ المذكور في السند التالي الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

4 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْب) بن أوس بن خالد الذُّهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ تغيّر بآخره [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

5 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنَادة السُّوَائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (93) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، ويحيى، وإن كان نيسابوريًّا، إلا أنه دخل الكوفة؛ للأخذ من أهلها.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ): أنه (قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (أَكُنْتَ

(1)

وفي نسخة: "فكان".

(2)

وفي نسخة: "وتبسّم".

ص: 405

تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) أي تجلس معه (قَالَ) جابر رضي الله عنه (نَعَمْ) أي كنتُ أجالسه، وقوله:(كَثِيرًا) نعتٌ لمصدر محذوف، أي جلوسًا كثيرًا، أو هو منصوب على الظرفيّة، والأصل وقتًا كثيرًا (كَانَ) صلى الله عليه وسلم، وفي بعض النسخ:"فكان"(لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ) أي من موضع صلاته (الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ، أَوِ) للشكّ من الراوي (الْغَدَاةَ) أي صلاة الغَدَاة، و"الْغَدَاة" بفتح الغين المعجمة، وتخفيف الدال: الْبُكْرةُ، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، كالْغُدْوة بالضمّ، والْغَدِيّة، أفاده في "القاموس"

(1)

.

وهذا لا يعارِضُ ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سلّم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت، يا ذا الجلال والإكرام"، رواه مسلم.

لإمكان الجمع بحمل هذا الحديث على أن المراد لم يقعد مستقبل القبلة، إلا المقدار المذكور، ثم يَلْتَفت يمنةً، أو يسرةً، أو يستقبل المأمومين.

وقيل: المراد: أنه لم يقعد في الصلاة التي بعدها راتبة، وأما التي لا راتبة بعدها، كصلاة الصبح فكان يقعد، والأول أقرب، واللَّه تعالى أعلم.

(حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) يقال: طلعت الشمس طُلُوعًا، من باب قعَدَ، ومَطْلَعًا بفتح اللام وكسرها: ظَهَرَت، وكلّ ما بدا لك من عُلُوّ فقد طلع عليك

(2)

.

زاد في الرواية التالية قوله: "حسنًا" أي طلوعًا حسنًا، بأن ترتفع، ويخرج وقت النهي عن الصلاة.

وفيه فضل هذا الوقت، وقد أخرج الترمذيّ في "جامعه" عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر اللَّه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة"، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"تامة تامّة تامّة"، وفي سنده أبو ظِلال القَسْملي ضعّفه الأكثرون، لكن الحديث صحيحٌ بشواهده.

(1)

راجع: "القاموس المحيط" 4/ 368 - 369.

(2)

أفاده في "المصباح" 2/ 375، و"القاموس" 3/ 59.

ص: 406

وأخرج أبو داود في "سننه" عن أنس رضي الله عنه أيضًا، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لأن أقعد مع قوم يذكرون اللَّه من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحبّ إليّ من أن أُعتق أربعةً من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون اللَّه من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحبّ إليّ من أن أُعتق أربعة"، قال الحافظ العراقي رحمه الله: إسناده حسن.

(فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيته، أو محلّ حاجته.

(وَكَانُوا) أي الصحابة الذين كانوا معه في ذلك الوقت (يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ) أي يشرعون (فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) وفي رواية النسائيّ: "يذكرون حديث الجاهليّة"، أي يذكرون الأعمال التي كانوا يعملونها في أيام كونهم غير مسلمين، وإنما كانوا يذكرونها، استقباحًا لها، وشُكرًا لما هداهم اللَّه عز وجل إليه من الدين الحنيف، وأبدلهم أعمالًا صالحة، تنفعهم في الدنيا والآخرة.

زاد في رواية النسائيّ: "ويُنشدون الشعر" بضم الياء، من الإنشاد، وهو القراءة.

و"الشعر": هو الكلام المُقَفَّى الموزون بأوزان مخصوصة قصدًا، فلا يُسَمَّى ما وقع اتفاقًا شعرًا، ولا قائله شاعرًا، كقوله صلى الله عليه وسلم:

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَغٌ دَمِيتِ

وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ

قال السنديّ رحمه الله: ولعله الشعر الْمُشْتَمِل على النصائح، أو غير المشتمِل على القبائح. انتهى.

(فَيَضْحَكُونَ) تعجّبًا مما سلف لهم في أيام الجاهليّة، يقال: ضَحِكَ من زيد، وضَحِكَ به يضحَكُ ضَحِكًا، وضَحْكًا، مثلُ كَلِمٍ وَكَلْمٍ: إذا سَخِرَ منه، أو عَجِبَ، فهو ضاحكٌ، وضَحّاكٌ مبالغةٌ

(1)

. (وَيَتَبَسَّمُ) وفي نسخة: "وتبسّم" بصيغة الماضي، يقال: بَسَمَ بَسْمًا، من باب ضرب: ضَحِك قليلًا من غير صوت، وابتسم، وتَبَسَّمَ كذلك، ويقال: هو دون الضَّحِك، قاله في "المصباح"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 358.

ص: 407

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنف هنا [53/ 1526 و 1527 و 1528](670)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1294)، و (الترمذيّ) فيها (585)، و (النسائيّ) في "السهو"(1357 و 1358) و"الكبرى"(1280 و 1281) وفي "عمل اليوم الليلة"(170)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3202)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 91 و 100 و 101 و 105 و 107)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(757)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2028)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1885 و 1888 و 1913 و 1927 و 1960 و 2006 و 2013 و 2019 و 2045) وفي "الصغير"(1189)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1321 و 1322)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1496 و 1497 و 1498 و 1499)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 186)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(709 و 711)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب جلوس المصلّي في مصلّاه بعد الصبح، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم يدلّ على استحباب لزوم موضع صلاة الصبح للذكر والدعاء إلى طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت وقتٌ لا يُصلّى فيه، وهو بعد صلاةٍ مشهودةٍ، وأَشغالُ اليوم بَعْدُ لم تأتِ، فيقع الذكر والدعاء على فراغ قلبٍ وحضور فَهْمٍ، فيُرتجى فيه قبول الدعاء، وسماع الأذكار.

قال: وقال بعض علمائنا: يُكره الحديث حينئذ، واعتَذَرَ عن قوله:"وكانوا يتحدّثون في أمر الجاهليّة، فيضحكون، ويتبسّم" بأن هذا فَصْلٌ آخر من سِيرة أُخرى في وقت آخر، وَصَلَهُ بالحديث الأول.

قال القرطبيّ: وهذا فيه نظرٌ، بل يُمكن أن يقال: إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلّمون؛ لأن الكلام فيه جائزٌ غير ممنوع؛ إذ لم يَرِدْ في ذلك منعٌ، وغاية ما هنالك أن الإقبال في ذلك الوقت على ذكر اللَّه تعالى أفضلُ وأولى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوب الترك في ذلك الوقت، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

ص: 408

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد القرطبيّ رحمه الله في الرد على هذا القول، فإنه مردودٌ، وتأويل الحديث على الوجه الذي ذكره، من حمل تحدّثهم في أمر الجاهليّة على غير ذلك الوقت باطلٌ، يُبطله سياق الحديث، ولا سيّما سياق النسائيّ، ولفظه:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر، جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه، يذكرون حديث الجاهلية. . . " الحديث، فتعبيره بالفاء في قوله:"فيتحدّثون. . . إلخ" يبطل هذا التأويل فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

2 -

(ومنها): بيان فضل ما بعد صلاة الصبح من الوقت، حيث كان صلى الله عليه وسلم يخصّه بذكر اللَّه تعالى.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، ولين جانبه، حيث كان يجالس أصحابه، ويستمع إلى حديثهم وحكاياتهم التي كانوا يفعلونها في جاهليّتهم، ويتبسّم منها، وهذا مصداق قول عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] الآية.

4 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من امتلاء قلبه من جلال اللَّه عز وجل، والخوف منه، ولذا كان لا يستغرق في الضحك، بل كان ضحكه التبسّمَ، كما قالت عائشة رضي الله عنها، فقد أخرج الشيخان عنها أنها قالت:"ما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قطّ ضاحكًا، حتى أرى منه لَهَوَاتِهِ إنما كان يتبسم"، وفي رواية عنها: قالت: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضاحكًا حتى أرى منه لَهَوَاته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا، عُرِف في وجهه، قالت: يا رسول اللَّه، إن الناس إذا رأوا الغيم فَرِحُوا؛ رَجَاءَ أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرِف في وجهك الكراهية؟ فقال:"يا عائشة، ما يُؤَمِّنِّي أن يكون فيه عذابٌ، عُذِّبَ قومٌ بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] ".

5 -

(ومنها): جواز الحديث، وذكر أيام الجاهلية في المسجد.

6 -

(ومنها): جواز إنشاد الشعر المباح في المسجد، وقد أخرج الشيخان، عن سعيد بن المسيِّب، قال: مَرّ عمر في المسجد، وحسان يُنْشِدُ، فقال: كنت أُنشِد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال:

ص: 409

أنشدك باللَّه، أسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"أجب عني، اللهم أيده بروح القدس"؟، قال: نعم.

وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن يحيى بن عبد الرحمن، قال: مَرّ عمر رضي الله عنه على حسان، وهو يُنشد الشعر في المسجد، فقال: في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تُنشد الشعر؟ قال: كنت أنشد، وفيه من هو خير منك.

7 -

(ومنها): جواز الضحك، والتبسّم، ولا يعارض هذا ما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الضَّحِكَ، فإن كثرة الضحك تميت القلب"؛ لأن الممنوع كثرته، لا أصله، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1527]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ، جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح تقدّم قبل باب.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ حجةٌ إمام، من رؤوس [7](161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْر) الْعَبْديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

5 -

(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، وقيل: غيره، الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 410

والباقيان ذُكرا في السند الماضي.

وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) هو أبو بكر بن أبي شيبة المذكور أول السند.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ) ضمير التثنية لسفيان الثوريّ، وزكريا بن أبي زائدة.

وقوله: (حَسَنًا) أي طلوعًا حسنًا، فهو نعت لمصدر محذوف، ويعني بذلك أنه كان يستديم الذكر والْمُقام بمجلسه إلى أن يدخل الوقت الذي تجوز فيه الصلاة، قاله في "المفهم"

(1)

، وتمام شرح الحديث تقدّم في الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1528]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، قَالَ: (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَقُولَا: حَسَنًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، أبو موسى العَنَزِيّ، تقدم قبل باب.

4 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار بن عثمان الْعَبْديّ، أبو بكر البصريّ، المعروف ببُنْدار، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، غُندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكِرَا في السند الماضي.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ) ضمير التثنية لأبي الأحوص، وشعبة.

(1)

"المفهم" 2/ 296.

ص: 411

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد سماك السابق، وهو: عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما.

وقوله: (وَلَمْ يَقُولَا: حَسَنًا) ضمير التثنية لأبي الأحوص، وشعبة أيضًا.

[تنبيه]: السند الأول من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (94) من رباعيّات الكتاب، فتنبّه.

[تنبيه آخر]: رواية أبي الأحوص هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(2/ 263) فقال:

(1498)

حدّثنا عبد اللَّه بن يحيى، ثنا عبيد اللَّه بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن جابر بن سمُرة، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر، جلس في مجلسه، حتى تطلع الشمس".

وساق أيضًا رواية شعبة، فقال:

(1499)

أخبرنا عبد اللَّه بن جعفر، ثنا يونس، ثنا أبو داود (ح)، وحدّثنا أبو علي بن الصواف، ثنا عبد اللَّه بن أحمد، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن سماك، أنه قال: سألت جابر بن سمرة، كيف كان يصنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح؟ قال:"كان يقعد في مقعده، حتى تطلع الشمس". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(54) - (بَابُ بَيَانِ أَيُّ الْبِقَاعِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1529]

(671) - (وَحَدَّثَثَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنِي

(1)

ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ، فِي رِوَايَةِ هَارُونَ، وَفِي حَدِيثِ الْأَنصَارِيِّ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ،

(1)

وفي نسخة: "أخبرني"، وفي أخرى:"حدّثنا".

ص: 412

مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) أبو عليّ الخزّاز الضرير المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله (74) سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ) الْخَطْميّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.

3 -

(أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضمرة، أبو عبد الرحمن، أو أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

4 -

(الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ) هو: الحارث بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن سعد وقيل: المغيرة بن أبي ذُبَاب -بضمّ المعجمة، وبموحّدتين- الدَّوْسيّ -بفتح الدال- المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [5].

رَوَى عن أبيه، وعن عمه، يقال: اسمه الحارث أيضًا، وذكره ابن منده في "الصحابة"، وسمّاه عياضًا، وسعيدِ بنِ المسيب، ويزيد بن هرمز، ومجاهد، وبسر بن سعيد، والأعرج، وجماعة، وأرسل عن طلحة.

ورَوَى عنه ابن جريج، وإسماعيل بن أمية، وأبو ضمرة، وأبو خالد الأحمر، وصفوان بن عيسى، وغيرهم.

قال ابن معين: مشهورٌ، وقال أبو حاتم: يروي عنه الدَّرَاوَرْدِيّ أحاديث منكرة، ليس بالقويّ، وقال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال الساجيّ: حدّث عنه أهل المدينة، ولم يُحَدِّث عنه مالك، وذكر علي ابن المدينيّ في "العلل" حديثًا عن عاصم بن عبد العزيز الأشجعيّ، عن الحارث، عن سليمان بن يسار وغيره، قال عاصم: حدثنيه مالك، قال: أُخْبِرت عن سليمان بن يسار، فذكره، قال ابن المدينيّ: أُرَى مالكًا سمعه من الحارث، ولم يُسَمِّه، وما رأيت في كتب مالك عنه شيئًا. انتهى.

قال الحافظ: وهذه عادة مالك فيمن لا يَعْتَمِد عليه لا يسميه، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.

ص: 413

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من المتقنين، مات سنة (146)، وكذا قال ابن قانع في تاريخ وفاته.

أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (671) و (985) و (2652) و (2679) و (2751).

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِهْرَانَ، مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) ويقال: مولى مزينة، ويقال: مولى أبي هريرة، ومولى الأزد، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ

(1)

[3].

رَوَى عن أبي هريرة، وأبي مروان الأسلميّ، وعنه أبو محمد، والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُبَاب، وسعيد المقبريّ، وسعيد الْجُرَيريّ، ونافع بن سلمان، والوليد بن كثير.

قال أبو حاتم: صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو الفتح الأزديّ: مجهول، وقال الْبَرْقانيّ، عن الدارقطنيّ: شيخٌ مدنيّ، يُعْتَبَرُ به.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، له عند المصنّف هذا الحديث فقط، وعند النسائي في قول الميت إذا وُضِع على سريره.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه هارون فمروزيّ، ثم بغداديّ.

3 -

(ومنها): أن فيه قوله: "حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذُبَابٍ"، فِي رِوَايَةِ هَارُونَ، وَفِي حَدِيثِ الْأَنْصَارِيِّ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ" فيه بيان اختلاف شيخيه في شيخهما،

(1)

وقوله في "التقريب": "مقبول" غير مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وقال أبو حاتم: صالح، ووثقه ابن حبّان، وقال الدارقطنيّ: شيخٌ يُعتبر به، وأخرج له مسلم في الأصول، فمثل هذا الحقّ أنه صدوق، ولا يؤثّر فيه قول الأزديّ: مجهول؛ لأنه عرفه غيره، فلا يضرّه جهل الأزديّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 414

فشيخه هارون قال في روايته: "حدّثني ابن أبي ذُباب"، فكناه، وأما شيخه إسحاق بن موسى، فقال في روايته:"حدّثني الحارث"، فسمّاه، وهو ابن أبي ذُباب نفسه، فتنبّه لهذه الدقائق، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، سيّد الحفّاظ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ، مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) لم أجد من ذكر سبب تسميته بهذا، ولعلّه للزومه له، وقد سبق أنه يقال له: مولى مزينة، ومولى الأزد، واللَّه تعالى أعلم. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "أَحَبُّ الْبِلَادِ) أي أحبّ بيوت البلاد، أو بقاعها (إِلَى اللَّهِ) عز وجل (مَسَاجِدُهَا) أي لأنها بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى (وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا") أي لأنها محلّ الغشّ، والخِدَاع، والربا، والأيمان الكاذبة، وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر اللَّه تعالى، وغير ذلك مما في معناه.

قال النوويّ: والحبّ والبغض من اللَّه تعالى إرادته الخير والشرّ، أو فعله ذلك بمن أسعده وأشقاه، والمساجد محلّ نزول الرحمة، والأسواق ضدّها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد سبق في "كتاب الإيمان" أن تفسير الحبّ والبغض في صفة اللَّه تعالى بالإرادة، ونحوه ليس تفسيرًا صحيحًا؛ لأنه تفسير باللازم، والحقّ أن الحبّ والبغض من صفات اللَّه تعالى الثابتة له بالكتاب والسنّة على ظاهرهما كما يليق بجلاله عز وجل، ولا يؤوّلان بالإرادة ولا بغير ذلك، بل نثبتهما له تعالى، كما أثبتهما لنفسه، وأثبته النبيّ صلى الله عليه وسلم له في هذا الحديث، على ما يليق بجلاله تعالى، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: جاء بمعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا حديثُ جبير بن مطعم،

(1)

"شرح النووي" 5/ 171.

ص: 415

فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه، أيُّ البلدان شرّ؟ قال: فقال: "لا أدري"، فلما أتاه جبريل عليه السلام قال:"يا جبريل، أيُّ البلدان شرّ؟ " قال: لا أدري حتى أسأل ربي عز وجل، فانطلق جبريل عليه السلام، ثم مَكَثَ ما شاء اللَّه أن يمكث، ثم جاء، فقال: يا محمد، إنك سألتني أيُّ البلدان شرّ؟ فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي عز وجل أيُّ البلدان شرّ؟ فقال: أسواقها

(1)

.

وفي سنده

(2)

عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، متكلَّم في حفظه، لكن الحديث التالي وحديث الباب يشهدان له فيتقوّى بذلك، فتنبّه.

وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه: أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أيُّ البقاع شرّ؟ قال: "لا أدري حتى أسأل جبريل"، فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء، فقال:"خير البقاع المساجد، وشرّها الأسواق"

(3)

.

وفي سنده عطاء بن السائب، وقد اختلط في آخره، والراوي عنه جرير بن عبد الحميد سمع منه بعد اختلاطه، لكن الحديث حسنٌ، بشواهده كما قال بعضهم، فقد يشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1529](671)، و (البزّار) في "مسنده"

(1)

راجع: "المسند" 4/ 81 رقم (16790).

(2)

وفي سنده أيضًا زهير بن محمد، لكن الراوي عنه أبو عامر العقديّ، وهو بصريّ، وقد قال الإمام أحمد وغيره: ما روى عنه البصريون مستقيم، وذكر منهم عبد الرحمن بن مهدي، وأبا عامر هذا، وإنما تكلموا في رواية الشاميين عنه، فتنبّه.

(3)

"صحيح ابن حبان" 4/ 476 رقم (1599).

ص: 416

(408)

، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1293)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1600)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1155)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1500)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 65)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(460)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أحبّ البلاد إلى اللَّه تعالى، وهي المساجد، وأبغضها، وهي الأسواق، قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كانت المساجد أحبّ البلاد إلى اللَّه؛ لما خُصّت به من العبادات والأذكار، واجتماع المؤمنين، وظهور شعائر الدين، وحضور الملائكة، وإنما كانت الأسواق أبغض البلاد إلى اللَّه تعالى؛ لأنها مخصوصة بطلب الديْن، ومطالبِ العباد، والإعراض عن ذكر اللَّه، ولأنها مكان الأيمان الفاجرة، وهي معركة الشيطان، وبها يَرْكُز رايته. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فيه تنبيهًا على تفاوت البقاع في الخير والشرّ، فبعضها يكون مجلبةً للخير، ومعينًا عليه، كالمساجد، وبعضها يكون مجلبة للشرّ، وداعيًا إليه، كالأسواق، وعلى ذلك يدلّ قصّة الرجل الذي قَتَل تسعة وتسعين نفسًا، ثم سأل راهبًا هل من توبة؟ فقال: لا، فقتله، وكَمَّل به المائة، ثم سأل عالمًا هل له من توبة؟، فقال له: نعم، ائت قرية كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون اللَّه، فاعبد معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. . . الحديث، وهو في "الصحيحين" وغيرهما، فقد أرشد هذا العالمُ الرجلَ على أن أرضه أرض سوء تدعوه إلى الشرّ، فلا بدّ من مفارقتها إلى أرض فيها قوم صالحون حتى تكمل توبته، ويكون صالحًا مثلهم.

قال في "الفتح" معلّقًا على هذا الحديث: فيه فضلُ التحوّل من الأرض التي يُصيب الإنسان فيها المعصية؛ لِمَا يغلب بحكم العادة على مثل ذلك، إما لتذكّره لأفعاله الصادرة قبل ذلك، والفتنة بها، وإما لوجود من كان يُعينه على ذلك، ويحضّه عليه.

وقال رحمه الله أيضًا: وفيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي

(1)

"المفهم" 2/ 294 - 295.

ص: 417

اعتادها في زمن المعصية، والتحوّل منها كلّها، والاشتغال بغيرها

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن فيه الحثَّ على لزوم المساجد، وكثرة التردّد إليها؛ طلبًا لمحبّة اللَّه تعالى ومرضاته، وعلى تقليل التردّد إلى الأسواق، إلا للحاجة؛ بُعدًا عن بغض اللَّه عز وجل، وتجنّبًا عن الوقوع في أسباب المقت والعذاب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(55) - (بَابُ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالإِمَامَةِ؟)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1530]

(672) - (حَدَّثَنَا

(2)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السُّدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَبْديّ الْعَوَفيّ البصريّ، ثقة [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 598 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3470).

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 418

الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، وأبو نضرة علّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنهم ما بين بغلانيّ، وهو قتيبة، وواسطيّ، وهو أبو عوانة، وبصريين، وهما قتادة، وأبو نضرة، ومدنيّ، وهو الصحابيّ رضي الله عنه.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: قتادة، عن أبي نضرة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانُوا) أي الناس المجتمعون في مكان واحد (ثَلَاثَةً) وفي رواية ابن حبّان من طريق شعبة وهشام الدستوائيّ، عن قتادة:"إذا كنتم ثلاثة في سفر".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثلاثة" ليس له مفهوم خطاب؛ لأنه إذا كانا اثنين أَمَّهما أحدهما، كما يأتي في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه الآتي حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم له ولصاحبه:"إذا حضرت الصلاة، فأذّنا، وأقيما، وليؤمّكما أكبركما"، وإنما خصّ الثلاثة بالذكر لأنه سئل عنهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا جزم بأنه سئل عنهم، وهو محلُّ نظر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَلْيَؤُمَّهُمْ) أي فليُصلّ بهم إمامًا (أَحَدُهُمْ) ثم بيّن الأحقّ بأن يؤمّهم، فقال:(وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ") أي أكثرهم قرآنًا، كما قال في حديث عَمْرو بن سَلِمة:"ويؤمّكم أكثركم قرآنًا"، رواه البخاريّ

(2)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: ومَحْمِلُهُ أنه إذا اجتَمَع جماعة صالحون للإمامة،

(1)

"المفهم" 2/ 296.

(2)

"صحيح البخاريّ" رقم (4302).

ص: 419

فكان أحدهم أكثر قرآنًا، كان أحقّهم بالإمامة؛ للمزيّة الحاصلة فيه، فلو كانوا قد استظهروا القرآن كلّه، فيُرجّح من كان أتقنهم قراءةً، وأضبط لها، وأحسن ترتيلًا، فهو الأقرأ بالنسبة إلى هؤلاء. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 1530 و 1531 و 1532) (672)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(782) و"الكبرى"(857)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2152)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 343)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 34 و 48)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 286)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1508)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2132)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 355)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1501 و 1502 و 1503)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 119)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(836)، وبقيّة المسائل تأتي قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1531]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي

(2)

أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

(1)

"المفهم" 2/ 297.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 420

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان الأحول، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجةٌ قُدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

2 -

(أَبُو خَالِّدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقُ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها وله بضع و (70) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط بآخره [6](ت 156)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

5 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصري، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

6 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) عن (78) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"قتادة" ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ) الضمير لشعبة، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وهشام الدستوائيّ.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة السابق، وهو: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل الحديث المذكور في رواية أبي عوانة، عن قتادة الماضي.

[تنبيه]: رواية شعبة، وهشام كليهما، عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(10806)

حدّثنا يحيى، حدّثنا هشام وشعبة، قالا: حدّثنا قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا كانوا ثلاثةً فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم".

ص: 421

وساق النسائيّ رحمه الله رواية هشام، عن قتادة مفردةً في "المجتبى" (2/ 77) فقال:

(782)

أخبرنا عبيد اللَّه بن سعيد، عن يحيى، عن هشام، قال: حدّثنا قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كانوا ثلاثةً، فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم".

وأما رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، فساقها ابنُ أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (1/ 302) فقال:

(3452)

حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثةً، فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم".

وساقها الإمام أحمد رحمه الله أيضًا في "مسنده"، فقال:

(10905)

حدّثنا محمد بن جعفر، وسئل عن الثلاثة يجتمعون، فتحضرهم الصلاة؟ قال: حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اجتمع ثلاثةٌ، فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1532]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، جَمِيعًا عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ يْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سَالِمُ بْنُ نُوحِ) بن أبي عطاء البصريّ الْجَزَريّ، أبو سعيد العطار، صدوقٌ، له أوهامٌ [9].

ص: 422

رَوَى عن سعيد بن إياس الْجُرَيريّ، وابن جريج، وابن أبي عروبة، وابن عون، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وعَمرو بن عليّ، وقتيبة، وأبو موسى، وبندار، وأبو هشام الرِّفاعيّ، وعقبة بن مُكْرَم، ويزيد بن سنان القَزّاز، وعبد الرحمن بن منصور الحارثيّ، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ما بحديثه بأس، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو زرعة: لا بأس به، صدوقٌ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، ولا يحتج به، وقال عمرو بن عليّ: قلت ليحيى بن سعيد: قال سالم بن نوح: ضاع مني كتاب يونس، يعني ابن عبيد، والجزريّ، فوجدتهما بعد أربعين سنة، قال يحيى: وما بأس بذلك، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال ابن عديّ: عنده غرائب، وأفراد، وأحاديثه مُحْتَمَلَةٌ، متقاربة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجيّ: صدوقٌ، ثقةٌ، وأهل البصرة أعلم به من ابن معين، وذكره ابن شاهين في "الثقات"، وقال: قال ابن معين: ليس بحديثه بأسٌ، وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ. وقال ابن قانع: مات سنة (200)، وهو بصريّ ثقة، وقال البخاريّ عن الجراح بن مَخْلَد: مات بعد المائتين.

أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب عشرة أحاديث.

3 -

(حَسَنُ بْنُ عِيسَى) بن ماسَرْجِس

(1)

، أبو عليّ النيسابوريّ، ثقةٌ [10](ت 240)(م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 101.

4 -

(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد اللَّه الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ الإمام الحافظ الفقيه الحجة المشهور، ذو المناقب الجمّة [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

5 -

(الْجُرَيْرِيُّ) -بضم الجيم، مصغّرًا- سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

(1)

بفتح السين المهملة، وسكون الراء، وكسر الجيم، بعدها سين مهملة.

ص: 423

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية الْجُرَيريّ، عن أبي نضرة هذه، ساقها ابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 100) فقال:

(1701)

أخبرنا أبو طاهر، نا أبو بكر

(1)

، نا محمد بن بشار، ثنا سالم بن نوح، أخبرنا الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اجتمع ثلاثةٌ، أمّهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1533]

(673) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَوْسِ بْنِ ضَمْعَجٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ

(2)

اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلَا يَؤُمَّن الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ، إِلَّا بِإِذْنِهِ"، قَالَ الْأَشَجُّ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ سِلْمًا: "سِنًّا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد اللَّه بن سعضد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان، تقدّم قبل بابين.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَجَاءِ) بن ربيعة الزُّبَيديّ، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ، تكلّم فيه الأزديّ بلا حجة [5](م 4) تقدم في "الإيمان" 22/ 186.

4 -

(أَوْسُ بْنُ ضَمْعَجٍ) -بفتح الضاد المعجمة، وسكون الميم، بعدها

(1)

هو ابن خزيمة صاحب "الصحيح"، وأبو طاهر تلميذه.

(2)

وفي نسخة: "بكتاب اللَّه".

ص: 424

عينٌ مهملة مفتوحةٌ، ثم جيم، بوزن جَعْفَر- الكوفي الحضرميّ، ويقال: النخعيّ، ثقةٌ مخضرم، [2].

رَوَى عن أبي مسعود الأنصاريّ، وسلمان الفارسيّ، وعائشة، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عمران، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وإسماعيل بن رجاء، وقال: كان من القراء الأُوَل، وذكر منه فَضْلًا، وقال شبابة: حدّثنا شعبة، وذُكِر عنده أوس بن ضَمْعَج، فقال: واللَّه ما أراه إلا كان شيطانًا، يعني لجودة حديثه، ورَوَى الحسين بن الحسن الرازيّ، عن ابن معين: لا أعرفه، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: أدرك الجاهلية، وكان ثقةً، معروفًا، قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال خليفة بن خياط: كان في ولاية بشر بن مروان سنة (74).

أخرج له مسلم والأربعة وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

5 -

(أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ) عُقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ الصحابيّ الشهير، مات قبل (40)، أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

والباقيان ذُكرا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين رَوَى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إسماعيل، عن أوس.

4 -

(ومنها): أن صحابته اشتهر بأنه بدريّ نسبةً إلى بدر، قيل: لشهوده غزوة بدر، وهو الذي ذكره البخاريّ في "صحيحه"، وقيل: إنه لم يشهدها، وإنما نُسب إليها لسكناه بها، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو البدريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ) خبر بمعنى الأمر، أي ليؤُمَّ

ص: 425

القوم أقرؤهم، بدليل حديث عمرو بن سَلِمَةَ عند البخاريّ:"ليؤمكم أكثركم قرآنًا".

يعني أنه يجب أن يُقَدَّم الأقرأ لكتاب اللَّه تعالى في الصلاة بالناس على غيره.

وقد اختُلِف في المراد من الأقرأ، فقيل: المراد أحسنهم قراءة، وأعلمهم بأحكامها، وإن كان أقلهم حفظًا، وقيل: أكثرهم حفظًا للقرآن، ويدلّ عليه حديث عمرو بن سَلِمة المذكور، وقيل: المراد به الأفقه؛ لأنك إذا اعتَبَرت أحوالَ الصحابة وجدت أن أفقههم أقرؤهم، فيكون المراد من قوله صلى الله عليه وسلم:"أقرؤهم لكتاب اللَّه"، أي أعلمهم به.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي الأرجح تفسيره بالأكثر حفظًا للقرآن؛ لحديث عمرو بن سلِمة رضي الله عنه؛ فإن خيرَ ما فُسِّر به الحديث ما جاء في حديث آخر، كما قال في "ألفية الحديث":

وَخَيْرُهُ مَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ

عَنِ الصَّحَابِيّ وَرَاوٍ قَدْ حَكَوَا

واللَّه تعالى أعلم.

وقال الإمام الخطابيّ رحمه الله: وهذا هو الصحيح المستقيم في الترتيب، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل مِلاك الإمامة القراءة، وجعلها مُقَدَّمةً على سائر الخصال المذكورة معها، والمعنى في ذلك أنهم كانوا قومًا أُمِّيين، لا يقرؤون، فمن تَعَلَّم منهم شيئًا من القرآن كان أحق بالإمامة ممن لم يتعلم؛ لأنه لا صلاة إلا بقراءة، وإذا كانت القراءة من ضرورة الصلاة، وكانت ركنًا من أركانها صارت مقدمة في الترتيب على الأشياء الخارجة عنها.

ثم تلا القراءة العلم بالسنّة، وهي الفقه، ومعرفة أحكام الصلاة، وما سَنَه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها، وبيّنه من أمرها، فإن الإمام إذا كان جاهلًا بأحكام الصلاة، وبما يَعْرِض فيها من سهو، ويقع من زيادة ونقصان أفسدها، وأخدجها، فكان العالم بها، والفقحِه فيها مُقَدَّمًا على من لم يَجْمَع علمها، ولم يعرف أحكامها.

ومعرفةُ السنّة، وإن كانت مؤخَّرة في الذكر، وكانت القراءة مبدوءًا بذكرها، فإن الفقيه العالم بالسنّة إذا كان يقرأ من القرآن ما تجوز به الصلاة

ص: 426

أحقّ بالإمامة من الماهر بالقراءة إذا كان متخلفًا عن درجته في علم الفقه، ومعرفة السنّة.

وإنما قُدم القاوئ في الذكر؛ لأن عامة الصحابة إذا اعتَبَرْتَ أحوالَهُم وجدت أقرأهم أفقههم.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كان أحدنا إذا حفظ سورة من القرآن لم يَخْرُج عنها إلى غيرها حتى يُحكِم علمها، أو يَعْرِف حلالها وحرامها، أو كما قال.

فأما غيرهم ممن تأخر بهم الزمان، فإن أكثرهم يقرؤون القرآن، ولا يفقهون، فقراؤهم كثير، والفقهاء منهم قليل. انتهى كلام الخطابيّ رحمه الله.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليل من يقول بتقديم الأقرأ على الأفقه، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وبعض أصحابنا، وقال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما: الأفقه مُقَدَّمٌ على الأقرأ؛ لأن الذي يُحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يُحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يَعْرِض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه، قالوا: ولهذا قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة على الباقين، مع أنه صلى الله عليه وسلم نَصَّ على أن غيره أقرأ منه.

وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه، لكن في قوله:"فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسنَّة" دليل على تقديم الأقرأ مطلقًا.

قال: ولنا وَجْهٌ اختاره جماعة من أصحابنا، أن الأورع مُقَدَّم على الأفقه والأقرأ؛ لأن مقصود الإمامة يحصل من الأورع أكثر من غيره. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي اختاروه من تقديم الأورع على الأقرأ قول مخالف لهذا الحديث الصحيح الصريح، فلا ينبغي الالتفات إليه، فالحقّ ما ذهب إليه الإمامان: أبو حنيفة وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى- من تقديم الأقرأ مطلقًا، وسيأتي تحقيق ذلك بدليله في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً)"سواءً" خبر "كان" بمعنى مُسْتَوِين، أي إن

(1)

"شرح النووي" 5/ 172 - 173.

ص: 427

استووا في القدر المعتبر من القراءة؛ إما في حسنها، أو في كثرتها وقلتها على القولين.

(فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ) أي فيؤم أكثرهم علمًا بالسنَّة، قال السنديّ رحمه الله: حملوها على أحكام الصلاة. انتهى.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: فيه أن مزية العلم مقدَّمةٌ على غيرها من المزايا الدينية.

وقال الطيبيّ رحمه الله: أراد بها الأحاديث، فالأعلم بها كان أفقه في عهد الصحابة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "في عهد الصحابة" فيه نظرٌ؛ إذ الأعلم بالأحاديث هو الأفقه على الإطلاق في عهدهم وبعد عهدهم، فإن الفقه هو فهم الأحكام الشرعية التي أنزلها اللَّه تعالى في كتابه، والأحاديثُ هي الْمُبَيِّنة لمعاني الكتاب، كما قال اللَّه تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فأهل الحديث هم الأفقهون، ولا التفات إلى ما يُهَوِّش به أعداء السنّة من تهوين أمر الحديث، وتخذيلهم الأغبياء عن الاهتمام بالحديث، وكأن الحديث عندهم ليس مصدرًا للفقه {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].

(فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقدَمُهُمْ هِجْرَةً) عطف على "أعلمهم بالسنّة"، والفاء للترتيب، أي يؤم القوم أقدمهم في الهجرة، يعني أن الأسبق في الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، يكون أولى بالإمامة ممن تأخر في ذلك.

وإنما قُدِّمَ؛ إما لأن القِدَم في الهجرة شرفٌ يقتضي التقديم، أو لأن من تقدمت هجرته لا يخلو غالبًا عن كثرة العلم بالنسبة إلى من تأخر، قاله السنديّ.

ثم إن الهجرة المقدَّم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره صلى الله عليه وسلم، بل هي التي لا تنقطع إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الأحاديث، وقال به الجمهور، وأما حديث:"لا هجرة بعد الفتح"، متّفقٌ عليه، فالمراد به الهجرة من مكة إلى المدينة، أو لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح، وهذا لا بُدّ منه للجمع بين الأحاديث، قاله الشوكانيّ رحمه الله.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا -يعني الشافعية-: يدخل فيه طائفتان:

ص: 428

[أحدهما]: الذين يهاجرون اليوم من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة عندنا، وعند جمهور العلماء، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح"؛ أي لا هجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، أو لا هجرة فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح.

[الطائفة الثانية]: أولاد المهاجرين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا استوى اثنان في الفقه والقراءة، وأحدهما من أولاد من تقدمت هجرته، والآخر من أولاد من تأخرت هجرته قدم الأول. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: وفي الاستدلال بحديث الباب على الطائفة الثانية بُعْد لا يخفى، فتأمّله بإنصاف.

وقال بعضهم: المعتبر اليوم الهجرة المعنوية، وهي هجرة المعاصي، فيكون الأورع أولى. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تخصيصه باليوم فيه نظرٌ، بل الظاهر حمل الحديث على ما يعم الهجرتين مطلقًا، في أيّ زمن كان؛ لأن هجرة المعاصي هي الهجرة الحقيقية؛ لحديث عبد اللَّه بن عمرو بالمتفق عليه مرفوعًا:"والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه".

فيكون المعنى أنه يُقَدَّم في الإمامة من كان أسبق للَّهجرة، أي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو أسبق لهجران المعاصي على من تأخر في ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: في رواية مسلم هنا تقديم الأعلم بالسنّة على الأقدم في الهجرة، وقد ساقه من رواية أبي خالد الأحمر، عن الأعمش، ثم من رواية أبي معاوية، وجرير، وابن فضيل، وسفيان كلهم عن الأعمش، وهكذا عند أبي داود، والترمذيّ، وأحمد في "مسنده"، وابن خزيمة في "صحيحه".

وقع عند النسائيّ رحمه الله: في "المجتبى"(3/ 780)، وفي "الكبرى"(3/ 855) من رواية فضيل بن عياض، عن الأعمش، تقديم الأقدم في الهجرة على الأعلم بالسنّة.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن ما وقع عند النسائيّ خطأ، والصواب ما عند هؤلاء، لاتفاق هؤلاء الحفاظ عليه، ومخالفة فضيل لهم،

ص: 429

وقد حقّقت ذلك في "شرح النسائيّ" فراجعه

(1)

تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا) -بكسر السين المهملة، وسكون اللام- أي إسلامًا، وهذا لفضيلة السبق إلى الإسلام، كما قال اللَّه تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 10 - 11]، وفي رواية الأشجّ:"سِنًّا" مكان "سِلْمًا"، يعني أنه إن استوى القوم في الهجرة، فيؤمهم أقدمهم إسلامًا، أو أكبرهم سِنًّا.

قال في "النيل": أي يقدَّم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام؛ لأن تلك فضيلة يُرَجَّح بها، وجعل البَغَويّ أولاد من تقدّم إسلامه أولى من أولاد من تأخر إسلامه، والحديث لا يدل عليه. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: وقد روي عن الزهريّ في هذا الحديث: "فإن استووا في القراءة، فأفقههم في دين اللَّه، فإن كانوا في الفقه سواءً، فأكبرهم سنًّا، فإن كانوا في السنّ سواءً، فأصبحهم وجهًا، فإن كانوا في الصباحة والحسن سواءً، فأكثرهم حسبًا". انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي روي عن الزهريّ مما لا دليل عليه، فإن التقديم بحسن الوجه وشرف الحسب، مما لم يرد في النصّ أصلًا، ومما يُتعجّب منه أن في كتب الفقهاء قد يوردون في هذا الترتيب أشياء لم يُنزل اللَّه تعالى بها من سلطان.

فعلى سبيل المثال استمع إلى ما كتبه صاحب "الدرّ المختار" وهو من أشهر كتب الفقه الحنفيّ، حيث قال بعد ذكر الأعلم، والأحسن تلاوة، والأورع: ثم الأحسنُ خُلُقًا، ثم الأحسن وجهًا، ثم الأشرف نسبًا، ثم الأحسن صوتًا، ثم الأحسن زوجةً، ثم الأكثر مالًا، ثم الأكثر جاهًا، ثم الأنظف ثوبًا، ثم الأكبر رأسًا، والأصغر عضوًا

(4)

، يعني ذَكرًا، إلى آخر كلامه.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 9/ 346 - 347.

(2)

"نيل الأوطار" 4/ 54.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 652 - 653.

(4)

راجع: "الدرّ المختار" مع حاشيته "ردّ المحتار" 2/ 294 - 296.

ص: 430

انظر إلى ماذا وصل بهم الجهل بالسنّة، والبعد عن اتباعها، ودراسة كتبها، أو التجاهل بها، أو التقليد الأعمى لكلّ ذي هوى، فلا حول ولا قوّة إلا باللَّه، فهل يصدر من أيّ عاقل فضلًا عن أهل العلم أن يسأل الحاضرين مَن أصغر منكم ذكرًا؟، حتى يؤمّنا، أو يقول لشخص إنك أكبر ذكرًا من الحاضرين فلا تؤمهم، إن هذه لهي الْوَقَاحة، بل هو ذهاب الحياء والمروءة بالكليّة، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللهم آمين.

(وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ)"لا" ناهية، والفعل مبنيّ؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو مبنيّ للفاعل، و"الرجل" الأول مرفوع على الفاعليّة، والثاني منصوب على المفعولية، وفي رواية شعبة، عن إسماعيل بن رجاء الآتية:"ولا تؤمَّنَّ الرجل في أهله، ولا في لسُلطانه"، وفي رواية الترمذيّ، والنسائيّ رحمهما اللَّه: من طريق شعبة، عن إسماعيل أيضًا:"ولا يُؤَمُّ الرجلُ في سلطانه، ولا يُجلَسُ على تكرمته"، بالبناء للمفعول (فِي سُلْطَانِهِ) قال التوربشتيّ رحمه الله: السلاطة: التمكّن من القهر، وهو من التسلّط، ومنه السلطان، والسلطان يقال في السلاطة، ولذي السلاطة، والمراد الأول، والمعنى: لا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في محلّ ولايته، ومظهر سلطانه، أو فيما يملكه، أو في محل يكون في حكمه، وَيعْضِد هذا التأويل الرواية الأخرى:"في أهله"، وفي رواية أبي داود:"في بيته، ولا في سلطانه"، ولذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي خلف الحجاج، وصحّ عن ابن عمر أن إمام المسجد مقدم على غير السلطان.

وتحريره أن الجماعة شُرِعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة، وتآلفهم، وتوادّهم، فإذا أمَّ الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة، وخلع رِبْقَة الطاعة، وكذلك إذا أمّه في قومه وأهله أدّى ذلك إلى التباغض، والتقاطع، وظهور الخلاف الذي شُرع لدفعه الاجتماع، فلا يتقدم رجل على ذي السلطنة، لا سيما في الأعياد والجمعات، ولا على إمام الحيّ، ورب البيت إلا بالإذن. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1152 - 1153.

ص: 431

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه": معناه ما ذكره أصحابنا -يعني الشافعية- وغيرُهم؛ أن صاحب البيت، والمجلس، هامام المسجد، أحقّ من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه، وأقرأ، وأورع، وأفضل منه، وصاحب المكان أحقُّ، فإن شاء تقدم، وإن شاء قدَّم من يريده، وإن كان ذلك الذي يقدِّمه مفضولًا بالنسبة إلى باقي الحاضرين؛ لأنه سلطانه، فيتصرف فيه كيف شاء.

قال أصحابنا: فإن حضر السلطان، أو نائبه، قُدِّم على صاحب البيت، وإمام المسجد، وغيرهما؛ لأن ولايته وسلطنته عامّة، قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن من هو أفضل منه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(وَلَا يَقْعُدْ)"لا" ناهية أيضًا، والفعل مجزوم بها.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا هو الظاهر، وذكر في "المرعاة" أنه قيل: بالرفع، فإن صحّ روايةً فـ "لا" تكون نافية، والمراد بالنفي هو النهيُ، وإلا فالوجه هو الأول، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ) نهي للرجل أيضًا عن القعود على ما يُكرَمُ به الرجل في بيته من فراش أو نحوه، إلا بإذنه.

و"التكرمة": -بفتح التاء، وكسر الراء- هي في الأصل مصدر على تَفْعِلَة من كَرَّمَ المضعَّف، على قلة؛ لأن قياس مصدر فَعَّل المضاعف إذا كان صحيح اللام على تَفْعِيلٍ، ككلّم تكليمًا، وسلّم تسليمًا، وندر مجيئه على تَفْعِلَةٍ، كَكَرَّمَ تَكْرِمَةً، وجَرّب تَجْرِبَةً، وإذا كان معتلّ اللام جاء على تفعِلَة، كزكَّى تزكية، وولّى تولية، وندر مجيئه على تفعيل، كقوله [من الرجز]:

بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا

تَنْزِيَّا كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا

وإلى هذا أشار ابن مالك في "لامية الأفعال"، حيث قال [من البسيط]:

لِفَاعَلَ اجْعَلْ فِعَالًا أَوْ مُفَاعَلَةً

وَفَعَّلَ اجْعَلْ لَهُ التَّفْعِيلَ حَيْثُ خَلَا

مِنْ لَامٍ اعْتَلَّ لِلْحَاوِيهِ تَفْعِلَةً

الْزَمْ وَللْعَارِ مِنْهُ رُبَّمَا بُذِلَا

أُطْلِق هنا مجازًا على ما يُعَدُّ للرجل إكرامًا له في منزله.

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 173.

ص: 432

وفي "صحيح ابن حبان": قال شعبة: فقلت لإسماعيل بن رَجَاء: ما تكرمته؟ قال: فراشه. انتهى.

وقال في "اللسان": التَّكْرِمة: الموضع الخاصّ لجلوس الرجل، من فراش، أو سرير، مما يُعَدُّ لإكرامه، وهي تَفْعِلَة من الكَرامة. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ، وابن رِسْلان: التكرمة: الفراش، ونحوه، مما يُبْسَط لصاحب المنزل، ويَختَصُّ به، دون أهله، وقيل: هي الوسادة، وفي معناها السرير ونحوه.

وقال التوربشتيّ: "تكرمته" هي ما يُعدّ للرجل إكرامًا له في منزله، من فراش، وسجّادة، ونحوهما، وقيل:"تكرمته" مائدته، ولا إسناد لهذا، ولا مأخذ يُعتدّ به، قال البيضاويّ: على هذا هو في الأصل مصدر كرّم تكريمًا أُطلق على ما يُكْرَم به مجازًا. انتهى

(2)

.

وإنما نُهِي عن القعود على تكرمة الرجل؛ لأن المكان الذي يجلس فيه صاحب الدار عادةً، ويَخُصّ به نفسه، يكون محلًا لأشياء لا يحب أن يَطَّلِع عليها غيره، أو يكون مشرفًا على داره كلها، أو على ما يريده هو، فيرى منه أحوال أهل بيته، ويبلغهم ما يريد، فإذا أذن لغيره بالجلوس، عُلِم أن المكان آمن من ذلك كله، واللَّه تعالى أعلم.

(إِلَّا بِإِذْنِهِ") قيل: الاستثناء متعلِّق بكلا الفعلين، فيجوز أن يؤم الزائر صاحب البيت، ويجلس على تكرمته بإذنه، وقيل: متعلق بالثاني فقط، والراجح الأول.

قال الإمام أبو عيسى الترمذيِّ رحمه الله: والعمل على هذا -يعني حديث أبي مسعود المذكور في الباب- عند أهل العلم، قالوا: أحقُّ الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب اللَّه، وأعلمهم بالسنّة، وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة، وقال بعضهم: إذا أَذِن صاحب المنزل لغيره، فلا بأس أن يصلي بهم، وكرهه بعضهم، وقالوا: السنّة أن يصلي صاحب البيت.

قال أحمد بن حنبل: وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤَمُّ الرجلُ في سلطانه، ولا

(1)

"لسان العرب" 12/ 515.

(2)

راجع: "الكاشف" 4/ 1153.

ص: 433

يُجْلَس في بيته على تكرمته، إلا بإذنه"، فإذا أذن، فأرجو أن الإذن في الكلّ، ولم ير به بأسًا إذا أذن له أن يصلي به. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قَالَ الْأَشَجُّ فِي رِوَايَتِهِ مَكَانَ سِلْمًا: "سِنًّا") أشار به إلى الاختلاف بين شيخيه لفظة، وهو أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة قال في روايته:"فأقدمهم سِلْمًا" باللام والميم، وقال شيخه أبو سعيد الأشجّ:"فأقدمهم سنًّا" بالنون المشدّدة، والمعنى متقارب، قال النوويّ رحمه الله: معناه: إذا استويا في الفقه، والقراءة، والهجرة، ورَجَحَ أحدهما بتقدُّم إسلامه، أو بكَبر سنه قُدِّم؛ لأنها فضيلة يُرَجَّح بها. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 1533 و 1534 و 1535](673)، و (أبو داود) في "الصلاة"(584)، و (الترمذيّ) فيها (235) وفي "الأدب"(2772)، و (النسائيّ) في "الإمامة"(780 و 783)، و"الكبرى"(855 و 858)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(3808 و 3809)، و (الحميديّ) في "مسنده"(457)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 272)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1507)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2127)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(308)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 600 و 601 و 602 و 603 و 604 و 605 و 606 و 607 و 608 و 609 و 610 و 612)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 243)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 280)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 35 و 36)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1504 و 1505)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"

(1)

"جامع الترمذيّ " 2/ 33 - 35 بنسخة "تحفة الأحوذيّ".

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 173.

ص: 434

(3/ 90 و 119)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(832)، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الحافظ: في "الفتح": مدار هذا الحديث على إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضَمْعَج، وليسا جميعًا من شرط البخاريّ، وقد نَقَلَ ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه أن شعبة كان يتوقف في صحة هذا الحديث، ولكن هو في الجملة يصلح للاحتجاج به عند البخاريّ، وقد عَلَّق منه طرفًا بصيغة الجزم، واستعمله هنا في الترجمة -أي حيث قال البخاريّ رحمه الله:"بابٌ إذا استووا في القراءة، فليؤمّهم أكبرهم". انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مَن هو أحق الناس بالإمامة، فيقدم الأقرأ لكتاب اللَّه، فإن استووا قدم الأعلم بالسنّة، فإن استووا قدم الأقدم في الهجرة، فإن استووا قُدِّم الأكبر في السن، أو في الإسلام.

2 -

(ومنها): أن إقامة الصلاة من مهمات الأمور الدينية، فلذا أمر الشارع أن يقدَّم لها الأكمل، فالأكمل.

3 -

(ومنها): أن السلطان، وصاحب البيت لا يجوز أن يتقدم عليهما غيرهما، إلا بإذنهما، فإذا أذنا جاز؛ على خلاف سنذكره في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

4 -

(ومنها): أن المفضول يجوز أن يتقدم على الفاضل إذا أذن له.

5 -

(ومنها): أنه لا يجوز لنشخص أن يجلس على تَكْرِمة غيره إلا بإذنه.

6 -

(ومنها): ما قاله ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" بعد روايته حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه السابق ما نصه: في هذا الخبر، وخبر قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، وخبر أوس بن ضمعج، عن أبي مسعود، دلالةٌ على أن العبيد إذا كانوا أقرأ من الأحرار، كانوا أحقَّ بالإمامة؛ إذ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستثن في الخبر حُرًّا دون مملوك. انتهى. وسيأتي الكلام على إمامة العبد في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 200.

ص: 435

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في ترتيب الأحق بالإمامة:

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هذه مسألة اخْتَلَف فيها السلف:

فقال مالك: يؤم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة، وللسنّ حقٌّ، قيل له: فأكثرهم قرآنًا؟ قال: لا، قد يقرأ من لا يكون فيه خير.

وقال الثوريّ: يؤمهم أقرؤهم، فإن كانوا سواءً، فأعلمهم بالسنّة، فإن استووا، فأسنّهم.

وقال الأوزاعيّ: يؤمهم أفقههم في دين اللَّه.

وقال أبو حنيفة: يؤمهم أقرؤهم لكتاب اللَّه، وأعلمهم للسنّة، فإن استووا في القراءة والعلم بالسنّة، فأكبرهم سنًّا، فإن استووا في القراءة، والفقه، والسن فأورعهم، قال محمد بن الحسن، وغيره: إنما قيل في الحديث: "أقرؤهم" لأنهم أسلموا رجالًا، فتفقهوا فيما عَلِمُوا من الكتاب والسنّة، أما اليوم فيتعلمون القرآن، وهم صبيان، لا فقه لهم.

وقال الليث: يؤمهم أفضلهم، وخيرهم، ثم أقرأهم، ثم أسنهم إذا استووا.

وقال الشافعيّ: يؤمهم أقرؤهم، وأفقههم، فإن لم يجتمع ذلك، قُدِّم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفى به في صلاته، وإن قُدِّم أقرؤهم، وعَلِمَ ما يلزمه في الصلاة فحسن.

وقال الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: رجلان أحدهما أفضل من صاحبه، والآخر أقرأ منه؟ فقال: حديث أبي مسعود: "يؤم القوم أقرؤهم"، قال: ألا ترى أن سالمًا مولى أبي حذيفة كان مع خيار أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وكان يؤمهم؛ لأنه جمع القرآن، وحديث عمرو بن سَلِمَة:"أفهم للقرآن"، فقلت له: حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر، فليصلّ بالناس" أليس هو خلاف حديث أبي مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم"؟، فقال: إنما قوله لأبي بكر: "يصلي بالناس" إنما أراد الخلافة، وكان لأبي بكر فضل بَيِّن على غيره، وإنما الأمر في الإمامة إلى القراءة، وأما قصة أبي بكر فإنما أراد الخلافة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"التمهيد" 22/ 124.

ص: 436

وقال الحافظ رحمه الله: وقوله في حديث أبي مسعود: "أقرؤهم" قيل: المراد به الأفقه، وقيل: هو على ظاهره، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء، قال النووي: قال أصحابنا: الأفقه مقدم على الأقرأ، فإن الذي يُحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يُحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، فقد يعرض في الصلاة أمر، لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قَدَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين، مع أنه صلى الله عليه وسلم نَصَّ على أن غيره أقرأ منه، كأنه عنى حديث:"أقرؤكم أُبَيّ"، قال: وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه.

قال الحافظ: وهذا الجواب يلزم منه أن مَن نَصَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه.

ثم قال النوويّ بعد ذلك: إن قوله في حديث أبي مسعود: "فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم في الهجرة" يدلُّ على تقديم الأقرأ مطلقًا. انتهى.

قال الحافظ: وهو واضح للمغايرة، قال: ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفًا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلًا بذلك، فلا يقدَّم اتفاقًا، والسبب فيه أن أهل ذلك العصر كانوا يعرفون معاني القرآن لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم، بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ أبو بكر بن المنذر رحمه الله بعد ذكر الأقوال المتقدِّمة ما نَصُّهُ: القول بظاهر خبر أبي مسعود رضي الله عنه يجب، فيُقَدِّم الناسُ على سبيل الوجوب ما قدَّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا يجاوَزُ ذلك، ولو قُدِّم إمام غير هذا المثال كانت الصلاة مجزية، ويكره خلافُ السنّة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر هو الرأي الصواب عَمَلًا بظاهر النصّ.

(1)

"الفتح" 2/ 201.

(2)

"الأوسط" 4/ 150.

ص: 437

وحاصله أن الأئمة يُرَتَّبون كما رتبهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود رضي الله عنه المذكور في الباب، فيقدم الأقرأ، فإن استووا، فالأعلم بالسنّة، فإن استووا، فالأقدم في الهجرة، فإن استووا فالأكبر سنًا.

فإن خالفوا ذلك جازت الصلاة مع الكراهة، وإنما قلنا بجوازها؛ لأن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرؤهم" ليس للوجوب، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وإنما قلنا بكراهتها؛ لمخالفة السنّة.

ثم إن تقديم الأقرأ على الأعلم بالسنّة محله -كما سبق في كلام الحافظ- إذا كان عارفًا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، وأما إذا كان جاهلًا بذلك فلا يجوز تقديمه بلا خلاف بين أهل العلم، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في إمامة غير البالغ:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختلف الناس في إمامة غير البالغ؛ فقالت طائفة بظاهر حديث عمرو بن سلمة

(1)

، ثم أخرج بسنده عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن الأشعث قَدَّم غلامًا، فقيل له؟، فقال: إنما أقدم

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ، عن عمرو بن سَلِمَة قال: كنا بماء مَمَرِّ الناس، وكان يمر بنا الرُّكْبان، فنسألهم ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن اللَّه أرسله، أوحى إليه، أو أوحى اللَّه بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يُقَرُّ في صدري، وكانت العرب تَلَوَّم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم، فهو نبيّ صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح، بادر كلُّ قوم بإسلامهم، وبَدَرَ أبي قومي بإسلامهم، فلما قَدِمَ قال: جئتكم واللَّه من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حقًّا، فقال:"صَلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا"، فنظروا، فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم، وأنا ابن ست، أو سبع سنين، وكانت عليّ بُرْدَةٌ كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحيّ: ألا تُغَطُّوا عنا است قارئكم، فاشتَرَوا، فقطعوا لي قميصًا، فما فَرِحت بشيء فرحي بذلك القميص. انتهى.

ص: 438

القرآن، وأخرج أيضًا عن عكرمة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنا نأخذ الصبيان من الكُتّاب، فنقدمهم يصلّون لنا شهر رمضان، ونعمل لهم القلية

(1)

، والخشكنان

(2)

.

قال: وممن كان يرى ذلك جائزًا، الحسن البصري، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الزهري: إن اضطرُّوا إليه أمّهم.

وكَرِهَت طائفة إمامة من لم يبلغ، كَرِه ذلك عطاء، والشعبيّ، ومجاهد، ومالك، وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وذُكر لأحمد حديث عمرو بن سَلِمَة؟ فقال: دَعْهُ، ليس هو شيء بَيِّنٌ، حيث أنْ نقول فيه شيئًا، وقال الأوزاعي: لا يؤم الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم، إلا أن يكونوا قومًا ليس معهم من القرآن شيء، فإنه يؤمهم الغلام المراهق.

وقد رَوَينا عن ابن عباس أنه قال: لا يؤم الغلام حتى يحتلم.

وفيه قول ثالث، وهو أن لا تجزئ الجمعة خلف الإمام الذي لم يحتلم، ويؤم في سائر الصلوات، هذا قول الشافعي آخر قوله، وكان يقول إذ هو بالعراق: ومن أجزأت إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الْجُمَع، والأعياد، غير أني أكره في الْجُمَع والأعياد إمامة غير الوالي.

قال ابن المنذر رحمه الله: إمامة غير البالغ جائزة إذا عَقَل الصلاة، وقام بها، لدخوله في جملة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرؤهم. . . "، لم يذكر بالغًا، ولا غير بالغ، والأخبار على العموم، لا يجوز الاستثناء فيها إلا بحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو إجماع، لا أعلم شيئًا يوجب بدفع حديث عمرو بن سَلِمة، ويدخل في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه. . . " تقديم الابن على الأب إذا كان أقرأ منه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(3)

.

(1)

"الْقَلِيّةُ" كالعطيّة: والجمع قَلَايَا: مَرَقَةٌ تُتَّخَذ من لحوم الجزور، وأكبادها، أفاده في "اللسان" 15/ 198 - 199.

(2)

"الْخَشْكُنَان": خبزة تُصنع من خالص دقيق الحنطة، وتُملأ بالسكّر واللوز، أو الْفُستُق، وتُقلى، فارسيّ، قاله في "المعجم الوسيط" 1/ 236.

(3)

"الأوسط" 4/ 150 - 152.

ص: 439

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي اختاره ابن المنذر رحمه الله من جواز إمامة الصبيّ المميز إذا كان عالمًا بأحكام الصلاة هو المختار؛ لقوة دليله، وإمامة عمرو بن سَلِمة أوضح دليل عليه.

وأما ما قيل: إنه ليس فيه اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجيب بأن إمامته بهم كانت في حال نزول الوحي، ولا يقع في حاله التقرير لأحد من الصحابة على الخطأ، ولذا استدلّ أبو سعيد الخدريّ، وجابر رضي الله عنهما على جواز العزل بمثل ذلك، فقالا:"كنا نعزل، والقرآن ينزل".

قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: وقد قيل: إن حديث عمرو المذكور كان في نافلة لا فريضة.

وردّ بأن قوله: "صلوا صلاة كذا في حين كذا"، يدل على أن ذلك كان في فريضة، وأيضًا قوله:"فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم"، لا يَحْتَمِل غير الفريضة؛ لأن النافلة لا يُشْرَع لها الأذان.

ومن جملة ما أجيب به عن حديث عمرو المذكور ما رُوي عن أحمد بن حنبل أنه كان يُضَعِّف أمر عمرو بن سَلِمة، رَوَى ذلك عنه الخطابي في "المعالم"، ورُدّ بأن عمرو بن سلمة صحابيّ مشهور، قال في "التقريب": صحابيّ صغير نزل البصرة، وقد رُوي ما يدل على أنه وفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وأما القدح في الحديث بأن فيه كشف العورة في الصلاة، وهو لا يجوز، فهو من الغرائب، وقد ثبت أن الرجال كانوا يصلون عاقدي أزرهم، ويقال للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا. زاد أبو داود: "من ضيق الأزر". انتهى.

والحاصل أن المذهب الراجح هو جواز إمامة الغلام المميز؛ لوضوح حجّته، كما سبق تقريره آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في إمامة الأعمى:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا في إمامة الأعمى، فقال كثير منهم: يؤم الأعمى.

فممن كان يؤم، وهو أعمى: ابن عباس، وعتبان بن مالك، وقتادة.

ص: 440

ثم أخرج بسنده حديثَ محمود بن الربيع، أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه، وهو أعمى، وقد تقدّم. وأخرج عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أمّهم في ثوب واحد، وهو أعمى على بساط قد طبق البيت.

وأخرج عن الزهري، أنه قال: كان رجال من أهل بدر أصيبت أبصارهم يؤمُّون.

وهو قول القاسم بن محمد، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وهو قول مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.

وقد رَوَينا عن ابن عباس خلاف القول الأول، فأخرج عن سعيد بن جبير، أنه قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كيف أؤمهم، وهم يعدلوني إلى القبلة؟ - حين عمي.

وأخرج عن زياد النميري، أنه أتى أنس بن مالك قال: قلت: ما تقول في الرجل الضرير يؤم أصحابه؟ قال: وما حاجتهم إليه؟.

قال ابن المنذر رحمه الله: إمامة الأعمى كإمامة البصير، لا فرق بينهما، وهما داخلان في ظاهر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه"، فأيهم كان أقرأ كان أحق بالإمامة.

وقد رَوَينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه حديثًا، ثم أخرج بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة، يصلي بالناس.

قال: وإباحة إمامة الأعمى كالإجماع من أهل العلم، وقد روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أمّهم، وهو أعمى، وليس قول أنس بن مالك: وما حاجتهم إليه؟ نهيًا عن إمامة الأعمى، فيكون اختلافًا. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

ونقل العلامة الشوكانيّ: أنه قد صرح أبو إسحاق المروزيّ، والغزاليّ بأن إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير؛ لأنه أكثر خشوعًا من البصير، لما في البصير من شغل القلب بالمبصرات، ورجّح بعضهم كون إمامة البصير أولى؛ لأنه أشدّ توقيًا للنجاسة، والذي فهمه المارديني من نص الشافعيّ: أن

(1)

"الأوسط" 4/ 152 - 154.

ص: 441

إمامة الأعمى والبصير سواء في عدم الكراهة؛ لأن في كل منهما فضيلة، غير أن إمامة البصير أفضل؛ لأن أكثر من جعله النبيّ صلى الله عليه وسلم إمامًا البصراء.

وأما استنابته صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم رضي الله عنه في غزاته؛ فلأنه كان لا يتخلف عن الغزو من المؤمنين إلا معذور، فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه، أو لم يتفرغ لذلك، أو استخلفه لبيان الجواز.

وأما إمامة عتبان بن مالك رضي الله عنه لقومه فلعله أيضًا لم يكن في قومه من هو في مثل حاله من البصراء. انتهى

(1)

.

وقال في "المنهل": وإلى أولوية البصير بالإمامة ذهبت الحنفية، والحنابلة، والمالكية؛ قالوا: لأنه أقدر على اجتناب النجاسة، واستقبال القبلة باجتهاده، وهذا هو الأرجح.

أما استنابته صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم، فلعدم وجود من يصلح للإمامة بالمدينة غيره إذ ذاك.

ولا يرد وجود عليّ رضي الله عنه في المدينة حين استخلف النبيّ صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم؛ لأن عليًا رضي الله عنه كان مشغولًا بالقيام بحفظ من جعله صلى الله عليه وسلم حافظًا لهم، من الأهل، حذرًا من أن ينالهم عدو بمكروه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي الأرجح قولُ مَن قال: إن إمامة الأعمى والبصير سواء، وإنما يرجح أحدهما على الآخر بالمرجِّح الذي تقدم في قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن استووا فأعلمهم بالسنّة، فإن استووا فأقدمهم هجرة، فإن استووا فأقدمهم سنًّا"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1534]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(3)

أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

(1)

"نيل الأوطار" 4/ 58.

(2)

"المنهل العذب المورود" 4/ 318.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا"، وفي أخرى:"وحدّثناه".

ص: 442

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(إِسْحَاقُ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

5 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ فاضلٌ، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

6 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

7 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

و"الأشجّ"، وهو عبهد اللَّه بن سعيد، و"الأعمش" ذُكرا في السند الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ) الضمير لأبي معاوية، وجرير بن عبد الحميد، ومحمد بن فُضيل، وابن عيينة.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد الأعمش المتقدّم، وهو: عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضَمْعج، عن أبي مسعود رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي الحديث الماضي الذي رواه أبو خالد الأحمر، عن الأعمش.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش هذه، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(16648)

حدّثنا أبو معاوية، قال: حدّثنا الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضَمْعَج، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه تعالى، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواءً، فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأكبرهم سنًّا، ولا يُؤَمَّنَّ رجلٌ في سلطانه، ولا يُجْلَسُ على تَكْرِمته إلا أن يأذن". انتهى.

وأما رواية جرير بن عبد الحميد، فساقها ابن الجارود رحمه الله في "المنتقى" (1/ 85) فقال:

ص: 443

(308)

حدّثنا يوسف بن موسى القطان، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضَمْعَج، عن أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواءً، فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمهم سنّا، ولا يُؤَمُّ الرجلُ في سلطانه، ولا يُقْعَدُ في بيته على تكرمته إلا بإذنه". انتهى.

وأما رواية سفيان بن عيينة، فساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (3/ 119) فقال:

(5068)

أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق، أنبأ بشر بن موسى، ثنا الْحُمَيديّ، ثنا سفيان، قال: حفظناه من الأعمش، ولم نجده ههنا بمكة، قال: سمعت إسماعيل بن رجاء، يحدِّث عن أوس بن ضمعج الحضرميّ، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواءً، فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأكبرهم سنًّا، ولا يُؤَمُّ رجلٌ في سلطانه، ولا يُجْلَسُ على تكرمته في بيته إلا بإذنه". انتهى.

وأما رواية محمد بن فُضيل، فساقها الطبرانيّ رحمه الله مقرونًا بأبي خالد الأحمر في "المعجم الكبير" (17/ 222) فقال:

(611)

حدّثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر، ومحمد بن فُضيل، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضَمْعَج، عن أبي مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواءً، فأقدمهم سنًّا، ولا تَؤُمَّنَّ أحدًا في سلطانه، ولا تَجْلِسْ على تكرمته في بيته، إلا أن يأذن لك". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 444

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله: المذكور أولَ الكتاب قال:

[1535]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَوْسَ بْنَ ضَمْعَجٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا تَؤُمَنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ، وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا تَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَكَ

(1)

، أَوْ بِإِذْنِهِ").

رجال هذا الإسناد:

سبعة، والباقون كلّهم ذُكِروا في الباب، "مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ" غندر تقدّم في الباب الماضي.

وقوله: (وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً) أي أسبقهم قراءةً؛ لأنه يكون أجود حفظًا، وأحسن تجويدًا.

وقوله: (أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً) أسقط في هذه الرواية قبل هذا الأعلم بالسنّة، وليس في رواية شعبة عن الأعمش ذكر للأعلم بالسنّة، وقد سبقها من رواية الجماعة الحفّاظ عن الأعمش، فالاعتماد على روايتهم، فتنبّه.

وزاد في رواية أبي داود، من طريق أبي الوليد الطيالسيّ، "قال شعبة: فقلت لإسماعيل: ما تكرمته؟ قال: فراشه". انتهى.

وقوله: (أَوْ بِإِذْنِهِ)"أو" للشكّ من الراوي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة بلفظ: "ولا يؤمّنّ الرجل الرجلَ. . . إلخ"، و"لا يَجْلِس. . . إلا أن يأذن له".

ص: 445

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1536]

(674) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا، فَظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، فَسَأَلنَا عَنْ مَنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذَنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه حجة [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

4 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصريّ رحمه الله ثقةٌ ثبتٌ كثير الإرسال، فيه نصب يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

5 -

(مَالِكُ بْنُ الحُويرِثِ) أبو سليمان الليثيّ، صحابيٌّ نزل البصرة، ومات سنة (74)(ع) تقدم في "الصلاة" 9/ 870.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه أيضًا، وقد دخل البصرة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أيوب، عن أبي قلابة، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 446

شرح الحديث:

(عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُويرِثِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي وافدين عليه سنة الوفود، وأراد بقوله:"أتينا" نفسه وقومه، وهم بنو ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وكان قدوم وفد بني ليث فيما ذكره ابن سعد بأسانيد متعددة أن واثلة الليثيّ قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يتجهز لتبوك، قاله في "الفتح"

(1)

، وقال في موضع آخر: وقد ذكر ابن سعد ما يدلّ على أن وفادة بني ليث، رهطِ مالك بن الحويرث المذكور، كانت قبل غزوة تبوك، وكانت تبوك في شهر رجب سنة تسع (وَنَحْنُ شَبَبَةٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، و"الشَّبَبَةُ" -بمعجمة، وموحدتين، وفتحات-: جمع شابّ، وهو مَن كان دون الكهولة، وفي الرواية التالية:"أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ناس"، وفي رواية للبخاريّ:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي"، والنفر عدد لا واحد له من لفظه وهو من ثلاثة إلى عشرة، وفي رواية خالد الحذّاء الآتية:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي"، وجمع القرطبي باحتمال تعدد الوفادة، قال الحافظ: وهو ضعيف؛ لأن مخرج الحديثين واحد، والأصل عدم التعدد، والأولى في الجمع أنهم حين أَذِنَ لهم في السفر كانوا جميعًا، فلعل مالكًا ورفيقه عادا إلى توديعه، فأعاد عليهما بعض ما أوصاهم به؛ تأكيدًا وأفاد ذلك زيادة بيان أقل ما تنعقد به الجماعة. انتهى.

(مُتَقَارِبُونَ) أي في السنّ، بل في أعمّ منه، ففي رواية حفص بن غياث الآتية، قال الحذّاء:"وكانا متقاربين في القراءة"، وعند أبي داود، من طريق مسلمة بن محمد، عن خالد الحذّاء:"وكنّا يومئذ متقاربين في العلم"، ومن هذه الزيادة يؤخذ الجواب عن كونه قَدَّمَ الأسنّ، فليس المراد تقديمه على الأقرأ، بل في حال الاستواء في القراءة، قال في "الفتح": ولم يستحضر الكرمانيّ هذه الزيادة، فقال: يؤخذ استواؤهم في القراءة من القِصّة؛ لأنهم أسلموا، وهاجروا معًا، وصَحِبُوا، ولازموا عشرين ليلةً، فاستووا في الأخذ، وتُعُقّب بأن ذلك لا يستلزم الاستواء في العلم؛ للتفاوت في الفهم؛ إذ لا تنصيص على الاستواء. انتهى.

(1)

"الفتح" 2/ 131.

ص: 447

(فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً) أي بأيّامها، ففي رواية البخاريّ:"فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلةً"(وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا) بقافين، من الرّقّة، أي رقيق القلب، قال النوويّ رحمه الله: هو بالقافين ضبطناه في مسلم، وضبطناه في البخاريّ بوجهين: أحدهما هذا، والثاني "رفيقًا" بالفاء والقاف، وكلاهما ظاهرٌ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "رقيقًا" بقافين، وبفاء ثم قاف، ثبت ذلك عند رُواة البخاريّ على الوجهين، وعند رواة مسلم بقافين فقط، وهما متقاربان في المعنى المقصود هنا. انتهى.

(فَظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا) بالإفراد، وفي رواية للبخاريّ:"اشتهينا أهلنا"، في رواية الكشميهنيّ:"أهلينا" بكسر اللام، وزيادة ياء، وهو جمع أهل، ويجمع مُكَسَّرًا على أَهَالٍ -بفتح الهمزة مخففًا- وفي رواية:"فلما رأى شوقنا إلى أهلنا"، والمراد بأهلِ كلٍّ منهم زوجته، أو أعمُّ من ذلك.

(فَسَأَلَنَا) بفتح اللام أي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم مالكًا وأصحابه (عَنْ مَنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْجِعُوا) إنما أذن لهم في الرجوع؛ لأن الهجرة كانت قد انقطعت بفتح مكة، فكانت الإقامة بالمدينة باختيار الوافد، فكان منهم من يسكنها، ومنهم من يرجع بعدَ أن يتعلم ما يَحتاج إليه (إِلَى أَهْلِيكُمْ) جمع أهل، والأهل من النوادر، حيثُ يُجمَع مكسّرًا، نحو الأهالي، ومُصحَّحًا بالواو والنون، نحو الأهلين، وبالألف والتاء، نحو الأهلات، قاله في "العمدة".

ووقع في رواية البخاريّ: "وكان صلى الله عليه وسلم رحيمًا، فقال: لو رجعتم إلى بلادكم فعلّمتموهم"، فهذا فيه أنه صلى الله عليه وسلم عَرَضَ الرجوع عليهم، بخلاف الأول، فإنه أمرهم به أمرًا، فقال:"ارجعوا إلى أهليكم".

ويمكن الجمع بينهما بأن يكون عَرَض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: "لو رجعتم"؛ إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع، لأمكن أن يكون فيه تنفير، فيَحْتَمِل أن يكونوا أجابوه بنعم، فأمرهم حينئذ بقوله:"ارجعوا"، واقتصار

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 174.

ص: 448

الصحابيّ على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم، دون قصد التعليم هو لِمَا قام عنده من القرينة الدالّة على ذلك.

ويمكن أن يكون عَرَفَ ذلك بتصريح القول منه صلى الله عليه وسلم، وإن كان سبب تعليمهم قومَهُم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع، ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقةً صادف شوقهم إلى أهلهم الحظَّ الكامل في الدين، وهو أهلية التعليم، كما قال الإمام أحمد: في الحرص على طلب الحديث حظّ وافَقَ حَقًّا، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ) حذف مفعوله؛ للتعميم، أي كلّ ما يحتاجون إليه من أمر دينهم (وَمُرُوهُمْ) أي بالمعروف، وهو من عطف الخاصّ على العامّ؛ لأن التعليم يعمّ الأمر بالمعروف.

وقال في "الفتح": قوله: "وعلِّموهم، ومروهم" بصيغة الأمر ضدِّ النهي، والمراد به أعمّ من ذلك؛ لأن النهي عن الشيء أمرٌ بفعل خلاف ما نُهِي عنه اتفاقًا، وعطف الأمر على التعليم؛ لكونه أَخَصّ منه، أو هو استئناف، كأن سائلًا قال: ماذا نعلمهم؟ فقال: مروهم بالطاعات، وكذا وكذا، ووقع في رواية حماد بن زيد عن أيوب عند البخاريّ في "الصلاة":"مروهم، فليصلّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا"، فعُرِف بذلك المأمور المبهم في رواية الباب، قال: ولم أر في شيء من الطرُقِ بيان الأوقات في حديث مالك بن الحويرث، فكأنه ترك ذلك لشهرتها عندهم.

وزاد في رواية البخاريّ أيضًا: "وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلُّوا كما رأيتموني".

قال في "الفتح": قوله: "وذكر أشياء أحفظها ولا أحفظها" قائل هذا هو أبو قلابة، راوي الخبر، ووقع في رواية أخرى:"أو لا أحفظها"، وهو للتنويع، لا للشكّ.

وقوله: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، أي ومن جملة الأشياء التي يحفظها أبو قلابة عن مالك، قوله صلى الله عليه وسلم هذا.

(1)

2/ 201.

ص: 449

(فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ) أي دخل وقتها، وحان أداؤها (فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ) هذه الرواية تبيّن معنى الرواية الآتية:"فأذّنا، وأقيما"، أي ليؤذّن واحد منكما.

وقال في "الفتح": المراد بقوله: "أَذِّنا" أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن، وذلك لاستوائهما في الفضل، ولا يُعتَبَر في الأذان السنّ، بخلاف الإمامة، وهو واضح من سياق حديث الباب، حيث قال:"فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"

(1)

.

(ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ") أي سنًّا، وليس المراد أكبركما قدرًا ومنزلةً؛ لما مرّ قريبًا أنهما كانا متقاربين في العلم.

وعند أبي داود من رواية ابن علية، قال: قال خالد -يعني الحذّاء-: قلت لأبي قلابة: فأين القرآن؟ قال: إنهما متقاربان، يعني أين القرآن الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم صاحبه أن يتقدّم على غيره في الصلاة؟ وإنما سأل عن ذلك؛ لأن ظاهر هذا الحديث يُعارض حديث:"يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه"، فإنه صريحٌ في تقديم الأقرأ، وهذا صريحٌ في تقديم الأكبر سنًّا، فأجابه بأنهما كانا متقاربين في القرآن، فبقي الفضل في السنّ، فأمر بتقديمه. انتهى.

وقال في "الفتح": ظاهره تقديم الأكبر بكثير السنّ وقليله، وأما مَن جَوَّز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعمّ من السن أو القدر، كالتقدم في الفقه والقراءة والدين، فبعيدٌ؛ لما تقدم من فهم راوي الخبر، حيث قال للتابعيّ:"فأين القراءة؟ "، فإنه دالّ على أنه أراد كبر السنّ.

وكذا دعوى مَن زَعَمَ أن قوله: "ثم ليؤمكم أكبركم" معارَضٌ بقوله: "يؤم القوم أقرؤهم"؛ لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ، والثاني عكسه، ثم انفصل عنه بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين، قابلةٌ للاحتمال، بخلاف الحديث الآخر، فإنه تقرير قاعدة تفيد التعميم، قال: فيحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقه. انتهى.

معقّبٌ أن التنصيص على تقاربهم في العلم يرُدّ عليه، فالجمع الذي قدّمناه

(1)

"الفتح" 2/ 131.

ص: 450

أولى، واللَّه تعالى أعلم. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث مالك بن الْحُوَيرث رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 1536 و 1537 و 1538 و 1539](674)، و (البخاريّ) في "الأذان"(628 و 631 و 685 و 819) و"الأدب"(6008) و"أخبار الآحاد"(7246)، و (أبو داود) في "الصلاة"(589)، و (الترمذيّ) فيها (205)، و (النسائيّ) في "الأذان"(634 و 635 و 669 و 781) و"الكبرى"(856 و 1598)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(979)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 129)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 217)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 436، 5/ 53)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 286)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(398)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1658)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 296 و 297)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(966 و 967 و 968)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1506 و 1507 و 1508 و 1509 و 1510)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 637)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 273)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 120)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(432)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأحقّ بالإمامة، وهو أنه إذا استوى الحاضرون في العلم، وغيره، يقدّم الأكبر سنًّا، قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": فيه الحثّ على الأذان، والجماعة، وتقديم الأكبر في الإمامة إذا استووا في باقي الخصال، وهؤلاء كانوا مستوين في باقي الخصال؛ لأنهم هاجروا جميعًا، وأسلموا جميعًا، وصحِبُوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولازموه عشرين ليلةً، فاستووا في الأخذ عنه، ولم يبق ما يُقَدَّم به إلا السنّ. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النووي" 5/ 175.

ص: 451

2 -

(ومنها): مشروعيّة الأذان في السفر كالحضر، ففي رواية الترمذيّ والنسائيّ عن مالك بن الحويرث رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال له ولصاحبه:"إذا سافرتما، فأذّنا، وأقيما، وليؤمّكما أكبركما".

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": فيه أن الأذان والجماعة مشروعان للمسافرين، وفيه الحثّ على المحافظة على الأذان في الحضر والسفر، وفيه أن الجماعة تصحّ بإمام ومأموم، وهو إجماع المسلمين، وفيه تقديم الصلاة في أول الوقت. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان وجوب الأذان والإقامة؛ لوروده بصيغة الأمر، وهي للوجوب عند الجمهور، وهو الحقّ، قال الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده":"باب إيجاب الأذان والإقامة عند حضور الصلاة، وأن يؤذّن لها مؤذّنان"، ثم أورد الحديث

(2)

.

4 -

(ومنها): ما قيل: فيه بيان أفضليّة الإمامة على الأذان، حيث خصّ به الأكبر، بخلاف الأذان، قال النوويّ رحمه الله: استَدَلّ جماعة بهذا الحديث على تفضيل الإمامة على الأذان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "يؤذن أحدكم"، وخَصّ الإمامة بالأكبر، ومن قال بتفضيل الأذان -وهو الصحيح المختار- قال: إنما قال: "يؤذن أحدكم"، وخص الإمامة بالأكبر؛ لأن الأذان لا يَحتاج إلى كبير علم، وإنما أعظم مقصوده الإعلام بالوقت والإسماع، بخلاف الإمام. انتهى.

5 -

(ومنها): بيان فضل الهجرة، والرحلة في طلب العلم، وفضل التعليم.

6 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة، والاهتمام بأحوال الصلاة وغيرها، من أمور الدين.

7 -

(ومنها): إجازة خبر الواحد، وقيام الحجة به.

8 -

(ومنها): ما قاله الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث ما نصُّهُ: قوله صلى الله عليه وسلم: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي" لفظةُ أَمْرٍ تشتمل على كل شيء، كان يستعمله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فما كان من تلك الأشياء خَصّهُ

(1)

"شرح النووي" 5/ 175 - 176.

(2)

"مسند أبي عوانة" 1/ 276.

ص: 452

الإجماع، أو الخبر بالنقل، فهو لا حرج على تاركه في صلاته، وما لم يَخُصّه الإجماع، أو الخبر بالنقل، فهو أَمْرُ حتمٍ على المخاطبين كافّةً، لا يجوز تركه بحال. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قال ابن دقيق العيد: استَدَلّ كثير من الفقهاء في مواضع كثيرة على الوجوب بالفعل مع هذا القول، وهو:"صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، قال: وهذا إذا أُخِذ مُفْرَدًا عن ذكر سببه وسياقه، أشعر بأنه خطاب للأمة بأن يصلوا كما كان يصلي، فَيَقْوَى الاستدلال به على كلّ فعل ثبت أنه فعله في الصلاة، لكن هذا الخطاب إنما وقع لمالك بن الحويرث وأصحابه بأن يوقعوا الصلاة على الوجه الذي رأوه صلى الله عليه وسلم يصليه، نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة، بشرط أن يثبت استمراره صلى الله عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستَدَلِّ به دائمًا، حتى يدخل تحت الأمر ويكون واجبًا، وبعض ذلك مقطوع باستمراره عليه، وأما ما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلَّق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها، فلا نحكم بتناول الأمر له. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأظهر ما قاله ابن حبّان رحمه الله، وخلاصته: أن كلّ ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله في صلاته فهو على الوجوب دائمًا؛ للأمر في هذا الحديث، إلا ما خصّ الدليل على أنه من المستحبّات، وليس من الواجبات، وذلك بأن يأتي دليلٌ من النصّ خاصّ به يدلّ على استحبابه، أو يوجد إجماع أهل العلم على استحبابه، وما لم يوجد ذلك، فهو على الوجوب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1537]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ (ح).

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 4/ 543.

(2)

"الفتح" 13/ 249 - 250 "كتاب أخبار الآحاد" رقم (6246).

ص: 453

وَحَدَّثَنَاه

(1)

ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو قِلَابَةَ

(2)

: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُويرِثِ، أَبُو سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ، وَنَحْنُ شَبَبَة مُتَقَارِبُونَ، وَاقْتَصَّا جَمِيعًا الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

3 -

(حَمَّادُ)

(3)

بن زيد بن درهم الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر العدنيّ، ثم المكيّ، ذُكر في الباب.

5 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، و"أيوب" هو السختيانى"، و"أبو قلابة" هو: عبد اللَّه بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد أيوب الماضي، وهو: عن أبى قلابة، عن مالك بن الْحُويرث رضي الله عنه.

وقوله: (أَبُو سُلَيْمَانَ) بدل من مالك بن الحويرث، وهو كنيته.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا" بلا ضمير.

(2)

وفي نسخة: "قال: قال أبو قلابة".

(3)

"تنبيه": وقع هنا لأصحاب برنامج الحديث للكتب التسعة غلطٌ، فقد ترجموا هنا لحماد بن سلمة، والصواب أنه حماد بن زيد، نصّ عليه البخاريّ في "صحيحه" برقم (685)، وأحمد في "مسنده" رقم (20006)، والنسائيّ في "سننه" رقم (636)، وأبو عوانة في "مسنده" 1/ 276 رقم (966)، وأبو نعيم في "مستخرجه" 2/ 267 رقم (1506)، والحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 8/ 6 فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 454

وقوله؛ (وَاقْتَصَّا جَمِيعًا الْحَدِيثَ) ببناء الفعل للفاعل، وضمير التثنية لحمّاد بن زيد، وعبد الوهّاب الثقفيّ.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ) يعني أن حمادًا، وعبد الوهّاب، حدّثا كلاهما عن أيوب، بنحو حديث إسماعيل ابن عُليّة عنه.

[تنبيه]: كُتبت لفظة (ح) هنا في النسخة الهنديّة (ص 236) وسقطت من معظم النسخ المطبوعة، والظاهر أن الصواب إثباتها، فالإسنادان واحد بالتحويل، ومما يوضّح ذلك كلام المصنّف رحمه الله في آخر الحديث، حيث قال:"واهتصّا الحديث جميعًا"، يعني حمادًا، وعبد الوهّاب.

والحاصل أن هذا الإسناد يُعتبر واحدًا، ولذا لم أجعل له رقمًا خاصًّا به، فتنبّه، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه آخر]: أما رواية حماد بن زيد، عن أيوب فقد ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(685)

حدّثنا سليمان بن حرب، قال: حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، قال: قَدِمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن شَبَبَة، فَلَبِثنا عنده نحوًا من عشرين ليلةً، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم رحيمًا، فقال:"لو رجعتم إلى بلادكم، فعلَّمتموهم، مروهم، فليصَلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، وإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". انتهى.

وأما رواية عبد الوهّاب، عن أيوب، ساقها الطحاويّ في "السنن المأثورة" (1/ 157) فقال:

(72)

حدّثنا المزنيّ، قال: حدّثنا الشافعيّ رحمه الله، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، عن أيوب السختيانيّ، قال: قال أبو قلابة الجرميّ: حدّثنا مالك بن الحويرث، أبو سليمان، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في أناس، ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظَنّ أنا قد اشتهينا أهلينا، واشتقنا، سألنا عمَن تركنا بَعْدَنا، فأخبرناه، فقال: "ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعَلِّموهم، وأْمروهم، وذكر أشياء أحفظها، أو لا أحفظها، وصَلُّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا

ص: 455

حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". انتهى

(1)

.

وهذا اللفظ هو اللفظ المقارب لسياق المصنّف، وإلا فقد ساق هذه الرواية أيضًا البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه"، فقال:

(631)

حدّثنا محمد بن المثنى، قال: حدّثنا عبد الوهاب، قال: حدّثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: حدّثنا مالك، أتينا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظَنّ أنا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال:"ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعَلِّمُوهم، ومروهم، وذكر أشياء أحفظها، أو لا أحفظها، وصَلُّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1538]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَلَمَّا أَرَدْنَا الإِقْفَالَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ لنَا: "إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه، تقدّم أول الباب.

2 -

(خَالِدٌ الْحَذاءُ) هو: خالد بن مِهْرَان، أبو الْمَنَازل البصريّ، ثقةٌ حافظ، يرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

والباقون ذُكروا في السند السابق.

وقوله: (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَصَاحِبٌ لِي) وفي رواية النسائيّ: "أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنا، وابن عمّ لي، وقال مرة أخرى: أنا وصاحب لي"، والظاهر أن

(1)

"السنن المأثورة" 1/ 157.

ص: 456

هذا من قول أبي قلابة، يعني أن مالك بن الحويرث حدّث أبا قلابة مرتين، ففي المرة الأولى قال: أنا وابن عمّ لي، وفي المرة الثانية، قال: أنا وصاحب لي، ثم إن ابن عمه، أو صاحبه المذكور لم يُسَمّ في شيء من طرق هذا الحديث، كما أشار إليه الحافظ رحمه الله

(1)

.

(فَلَمَّا أَرَدْنَا الْإِقْفَالَ مِنْ عِنْدِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بكسر الهمزة، يقال فيه: قَفَلَ الجيش: إذا رجعوا، وأقفلهم الأمير: إذا أَذِنَ لهم في الرجوع، فكأنه قال: فلما أردنا أن يُؤْذَن لنا في الرجوع. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَأَذِّنَا) أي ليؤذِّن من أحب منكما أن يؤذن، وذلك لاستوائهما في الفضل؛ لأنهما أقاما عنده عشرين ليلة، كما تقدّم في الحديث الماضي، ولا يُعتبر في الأذان سنّ بخلاف الإمامة.

وإنما صرفنا الأمر للاثنين إلى أحدهما، ولم نجعله من الأمر لهما ليؤذِّنا مَعًا، ويكون فيه مشروعية الأذان جماعة: للرواية السابقة: "فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم"، وللطبراني من طريق حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء في هذا الحديث:"إذا كنت مع صاحبك، فأذن، وأقم، وليؤمكما أكبركما"، فتعيّن كون المراد أحدهما؛ إذ الرواية يفسر بعضها بعضًا، وهذا أولى من حمل القرطبيّ اختلاف هذه الروايات على تعدد القصّة، فإنه بعيدٌ

(3)

.

وقال الكرماني: قد يطلق الأمر بالتثنية وبالجمع، والمراد واحد، كقوله: يا حَرِسيّ اضربا عنقه، وقوله: قتله بنو تميم، مع أن القاتل والضارب واحد.

وقال أبو الحسن ابن القصار: أراد به -يعني قوله: فأَذِّنا- الفضل، وإلا فأذان الواحد يجزئ.

قال الحافظ رحمه الله: وكأنه فَهِمَ منه أمرهما أن يؤذنا جميعًا، كما هو ظاهر اللفظ، فإن أراد أنهما يؤذنان معًا فليس ذلك بمراد، وإن أراد أن كلًّا منهما يؤذن على حِدَةٍ، ففيه نظر، فإن أذان الواحد يكفى الجماعة.

نعم يُسْتَحَبّ لكل أحد إجابة المؤذن، فالأولى حمل الأمر على أن

(1)

"الفتح" 2/ 132.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 175.

(3)

راجع: "الفتح" 2/ 132 - 133.

ص: 457

أحدهما يؤذن، والآخر يجيب. انتهى كلام الحافظ بتصرّف

(1)

.

قال الجامع: الوجه الذي قدمناه في الجمع أولى، وهو وجه ذكره الحافظ أيضا، واللَّه تعالى أعلم.

وقال السنديّ رحمه الله: قوله: فأذِّنا، في "المجمع": أي ليؤذن أحدكما، ويجيب الآخر. انتهى، يريد أن اجتماعهما في الأذان غير مطلوب، لكن ما ذكر من التأويل يستلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يقال: الإسناد مجازيّ، أي ليتحقق بينكما أذان وإقامة، كما في: بنو فلان قتلوا، والمعنى يجوز لكل منكما الأذان والإقامة، أيكما فعل حصل، فلا يختص بالأكبر كالإمامة. انتهى.

وقوله: (ثمَّ أَقِيمَا) فيه حجة من قال باستحباب إجابة المؤذن، إن حُمِل الأمر على ما مضى، وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم، قاله في "الفتح".

وقوله: (وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا) إنما خَصَّ الإمامة بالأكبر؛ لمساواتهما في سائر الأشياء الموجبة للتقدم، كالأقرئية، والأعلمية، بالنسبة لمساواتهما في المكث والحضور عنده صلى الله عليه وسلم، وذلك يستلزم المساواة في هذه الصفات عادةً، ذكره السنديّ رحمه الله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّمت مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1539]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حفْصٌ، يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ: قَالَ الْحَذَّاءُ: وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) هو: عبد اللَّه بن سعيد، ذُكر في الباب.

(1)

"الفتح" 2/ 132 - 133.

ص: 458

2 -

(حَفْصُ بْنَ غِيَاثِ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [9](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد خالد السابق، وهو: عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية حفص بن غياث، عن خالد الحذّاء هذه ساقها ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 206) فقال:

(395)

أخبرنا أبو طاهر، نا أبو بكر، نا عبد اللَّه بن سعيد الأشجّ، نا حفص يعني بن غياث، نا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أنا ورجل، فَوَدَّعَنَا، ثم قال:"إذا سافرتما، وحضرت الصلاة، فَأذِّنا، وأقيما، وليؤمكما أكبركما"، قال الحذّاء: "وكنا

(1)

متقاربين في القراءة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(56) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الْقُنُوتِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ نُزُول نَازِلَةٍ، وَالدُّعَاءِ لِلْمُعَيَّنِ، وَعَلَيْهِ)

(2)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1540]

(675) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ

(1)

هكذا النسخة، والظاهر أنها مصحّفة، والصواب:"وكانا"، كما هو عند مسلم، فليُحرّر.

(2)

من الغريب ترجمة النوويّ بقوله: "باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة -والعياذ باللَّه- واستحبابه في الصبح دائمًا"، فقوله:"واستحبابه في الصبح دائمًا" ليس في أحاديث الباب ذكره، وإنما زاده بناء على مذهبه، وهذا هو الذي نبهنا عليه في أوائل الشرح أنه مما لا ينبغي لشرّاح الحديث أن يفعلوه، بل يتحتم عليهم أن يقوموا بما يقتضيه الحديث، ولو خالف مذهبهم، فليُتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 459

الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ:"اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ

(1)

: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128]).

رجال هذا الإسناد: ثماينة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيه عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحجة الثبت الفقيه، أبو بكر المدنيّ، رأس [4](ت 120)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

7 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

(1)

وفي نسخة: "لَمّا أنزلت".

ص: 460

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ، والثاني تفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار والسماع، إلا في موضع، ففيه العنعنة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين.

6 -

(ومنها): أن ابن المسيِّب وأبا سلمة من الفقهاء السبعة.

7 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بكسر الياء المشدّدة، أحسن من فتحها (وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، وفي لغة بفتح ثالثه، قال في "القاموس": فَرَغَ منه، كَمَتَعَ، وسَمِعَ، ونَصَرَ فُرُوغًا، وفَرَاغًا، فهو فَرغٌ، وفَارغٌ: خلا ذَرْعُهُ، وله، وإليه: قَصَدَ. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": فَرَغَ من الشُّغْل فُرُوعًا، من باب قعَدَ، وفَرغَ يَفْرَغُ، من باب تَعِبَ لغةٌ لبني تميم، والاسم الفَرَاغ، وَفَرَغْتُ للشيء، وإليه: قَصَدتُ، وفَرَغَ الشيءُ: خلا، ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، فيقال: أفرغته، وفرّغته، وأفرغ اللَّهُ عليه الصبرَ إفراغًا: أنزله عليه، وأفرغتُ الشيء: صَبَبته إذا كان يسيل، أو من جوهر ذائبٍ. انتهى

(2)

.

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 111.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 470.

ص: 461

(مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ) بدل من الجارّ والمجرور قبله (وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ) جملة حاليّة من الفاعل ("اللَّهُمَّ أَنْجِ) بقطع الهمزة، من الإنجاء رباعيًا، أي خَلِّصْه، يقال: نَجَا من الهلاك يَنْجُو نَجَاةً: خَلَصَ. والاسم النَّجاءُ بالمدّ، وقد يُقصَرُ، فهو ناجٍ، والمرأة ناجية، وبها سميت قبيلة من العرب، ويتعدى بالهمز والتضعيف، فيقال: أنجيته، ونَجَّيْتُه. قاله في "المصباح"

(1)

.

(الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ) بنصب الوليد على المفعوليّة، وهو بفتح الواو، وكسر اللام في اللفظين، وهو الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه المخزوميّ، أخو خالد بن الوليد، وكان ممن شَهِد بدرًا مع المشركين، وأُسِرَ بها، أسره عبد اللَّه بن جَحْش، وفَدَى نفسَهُ، ثم أسلم، فقيل له: هلّا أسلمت قبل أن تفتدي، فقال: كرهت أن يُظَن بي أني أسلمت جَزَعًا، فحُبِسَ بمكة، ثم تواعد هو وسلمة، وعيّاش المذكوران معه، وهَرَبُوا من المشركين، فعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بمخرجهم، فدعا لهم، أخرجه عبد الرزاق بسند مرسل، ومات الوليد المذكور لما قَدِمَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ رحمه الله: رَوَيْنا ذلك في "فوائد الزيادات" من حديث الحافظ أبي بكر بن زياد النيسابوريّ بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: رَفَع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح صبيحةَ خمسة عشرة من رمضان، فقال:"اللَّهم أنج الوليد بن الوليد. . . " الحديث، وفيه: فدعا بذلك خمسة عشر يومًا، حتى إذا كان صبيحة يوم الفطر ترك الدعاء، فسأله عمر، فقال:"أَوَما عَلِمْت أنهم قَدِموا؟ "، قال: بينما هو يذكرهم انفتح عليهم الطريق يسوق بهم الوليد بن الوليد، قد نُكِت إصبعه بالحرّة، وساق بهم ثلاثًا على قدميه، فنهج بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قضى، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هذا الشهيد، أنا على هذا شهيد"، ورَثَتْهُ أمّ سَلَمَة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم بأبيات مشهورة. انتهى

(2)

.

(وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ) بالنصب عطفًا على "الوليدَ"، أي أنج سلمة بن

(1)

"المصباح المنير" 2/ 595.

(2)

"الفتح" 9/ 93 - 94، و"عمدة القاري" 6/ 80.

ص: 462

هشام بن المغيرة، وهو ابن عمّ الذي قبله، وهو أخو أبي جهل، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعُذِّب في اللَّه، ومنعوه أن يهاجر إلى المدينة، واستُشْهِد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بالشام سنة أربع عشرة.

قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله: هاجر إلى الحبشة، ثم قَدِمَ مكة، فمنعوه من الهجرة، وعَذَّبوه، ثم هاجر بعد الخندق، وشهد مُؤْتة، واستُشْهِد بمَرْج الصفرة، وقيل: بأجنادين

(1)

.

(وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ) -بفتح العين، وتشديد التحتانية، وبعد الألف شين معجمة- وأبو ربيعة اسمه: عمرو بن المغيرة، فهو عمّ الذي قبله أيضًا، وهو أخو أبي جهل أيضًا لأمه، وكان من السابقين إلى الإسلام أيضًا، وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل، فرجع إلى مكة، فحبسه، ثم فرّ مع رفيقيه المذكورين، وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، فمات، قيل: سنة خمس عشرة، وقيل: قبل ذلك، واللَّه تعالى أعلم

(2)

.

وهؤلاء الثلاثة أسباط المغيرة كلُّ واحد منهم ابن عمّ الآخر

(3)

.

(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) زاد في رواية للبخاريّ: "والمستضعفين بمكة"، أي وأنج المستضعفين من المؤمنين بمكة، الذين حبسهم الكفار عن الهجرة، وآذوهم، فكانوا يُعَذَّبونهم بأنواع العذاب، وهو من عطف العامّ على الخاصّ، عكس قوله:{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98].

(اللَّهُمَّ اشْدُدْ) -بضم الدال- أمر من شَدَّ الشيءَ يَشُدّه، من باب قَتَلَ: إذا أوثقه (وَطْأَتَكَ) أي بأسك، وعذابك، قال الفيوميّ:"الْوَطْأَة" مثلُ الأخْذَةِ وزنًا ومعنى

(4)

.

وقال السيوطيّ رحمه الله في "زَهْر الرُّبى": "الوطأة" بفتح الواو، وأصلها: الدَّوْس بالقدم، سُمّي بها الإهلاك؛ لأن من يطؤ على شيء برجله، فقد استقصى في هلاكه، والمعنى: خذهم أخذًا شديدًا

(5)

.

(1)

"عمدة القاري" 6/ 80.

(2)

"الفتح" 9/ 94 بزيادة.

(3)

"عمدة القاري" 6/ 80.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 307.

(5)

"زهر الربى في شرح المجتبى" 2/ 201.

ص: 463

وقال ابن منظور: و"الوطأة" موضع القَدَم، وهي أيضا كالضَّغْطَة، و"الوَطْأَة": الأخذة الشديدة، وفي الحديث:"اللَّهم اشدد وطأتك على مضر"، أي خذهم أخذًا شديدًا، وذلك حين كَذَّبُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم، فأخذهم اللَّه بالسنين، ومنه قول الشاعر [من الكامل]:

وَوَطِأْتَنَا وَطْئًا عَلَى حَنَقٍ

وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهَرْمِ

وكان حماد بن سلمة يروي هذا الحديث: "اللهم اشدُدْ وَطْدَتَكَ على مضر"، والْوَطْدُ -أي بالدال-: الإثباتُ والغَمْزُ في الأرض. انتهى

(1)

.

(عَلَى مُضَرَ) -بضم الميم، وفتح الضاد المعجمة-: اسم قبيلة، سُميت باسم مضر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان، وهو غير منصرف للعلمية والعدل، كما قال في "الخلاصة":

وَالْعَلَمَ امْنَعْ صَرْفَهُ إِنْ عُدِلَا

كَفُعَلِ التَّوْكِيدِ أَوْ كَثُعَلَا

وقال في "العمدة": وهو شَعْبٌ عظيم، فيه قبائل كثيرة، كقريش، وهذيل، وأسد، وتميم، وضَبَّةَ، ومُزَينة، والضباب، وغيرهم، ومضر شعب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واشتقاقه من اللبَنِ الْمَضِير، وهو الحامض، قاله ابن دريد. انتهى

(2)

.

وقال في "اللسان": قال ابن سِيدَهْ: مُضَرُ اسم رجل، قيل: سُمِّي به؛ لأنه كان مُولَعًا بشرب اللبن المَاضِرِ -وهو الحامض الشديد الْحُمُوضَة- وقيل: سمي به لبياض لونه، من مَضِيرَة الطَّبِيخ، وهي مُرَيقَة، تُطْبَخُ بِلَبَنٍ وأشياء. انتهى

(3)

.

(وَاجْعَلْهَا) قال الطيبيّ رحمه الله: الضمير لـ "الوطأة"، أو للأيّام، وإن لم يَجْرِ لها ذكر؛ لما دل عليه المفعول الثاني الذي هو "سنين" جمع السنة التي هي بمعنى القحط، وهي من الأسماء الغالبة، كالبيت، والكتاب (عَلَيْهِمْ) أي على قبيلة مضر (كَسِنِي يُوسُفَ) عليه السلام، وفي رواية البخاريّ:"واجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، و"سنين": جمع سنة، وهي الجَدْبُ، يقال: أخذتهم السنة: إذا أَجْدَبُوا، وأُقْحِطُوا.

(1)

"لسان العرب" 1/ 197.

(2)

"عمدة القاري" 6/ 80.

(3)

"لسان العرب" 5/ 177.

ص: 464

والمعنى: اجعلها عليهم كالسنين السبع الشداد التي كانت في زمن يوسف عليه السلام التي ذكرها اللَّه عز وجل في قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} الآية [يوسف: 48].

ووجه الشبه امتداد زمان المحنة، والبلاء، والبلوغ غاية الشدة، والضرّاء.

[فائدة]: جمع السنة بالواو والنون شاذّ، من جهة أنه ليس لذوي العقول، ومن جهة تغيير مفرده بكسر أوله، وهذا الاستعمال مع شذوذه هو الغالب في اللغة، فهو مُلْحَقٌ بجمع المذكر السالم في الإعراب بالواو والياء، وسقوط النون عند الإضافة، وقد يُجرَى مجرَى "حين" في لزوم الياء، والإعراب على النون، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فَإِنَّ لسِنِينَهُ

لَعِبْنَ بنَا شِيبًا وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَا

وإلى قواعد جمع المذكر السالم، وملحقاته أَشار ابن مالك في "خلاصته" بقوله:

وَارْفَعْ بِوَاوٍ وَبِيَا اجْرُرْ وَانْصِبِ

سَالِمَ جَمْعِ عَامِرٍ وَمُذْنِبِ

وَشِبْهِ ذَيْنِ وَبِهِ عِشْرُونَا

وَبَابُهُ أُلْحِقَ وَالأَهْلُونَا

أُلُو وَعَالَمُونَ عِلِّيُّونَا

وَأَرَضُونَ شَذَّ وَالسِّنُونَا

وَبَابُهُ وَمِثْلَ حِينٍ قَدْ يَرِدْ

ذَا الْبَابُ وَهْوَ عِنْدَ قَوْمٍ يَطَّرِدْ

[تنبيه آخر]: قال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": قوله: "واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" يعني المذكور في قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ} الآية [يوسف: 48]، فاستجيب له صلى الله عليه وسلم فيهم، فأَجْدَبُوا سبعًا، أكلوا فيها كل شيء، حتى أكلوا الميتة والعظام، وكان الواحد منهم يرى بينه وبين السماء دخانًا من شدّة الجوع والضعف، حتى جاء أبو سفيان، فكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا لهم، فسُقُوا، على ما ذكرناه عن ابن مسعود في "كتاب التفسير". انتهى كلام القرطبي

(1)

.

تعقّبه الحافظ وليّ الدين رحمه الله، فقال: قد أوّل صاحب "المفهم" هذا الدعاء -يعني المذكور في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في هذا الباب- بحديث ابن

(1)

"المفهم" 2/ 303.

ص: 465

مسعود رضي الله عنه، وهو وَهَمٌ، فقوله:"فأجدبوا سبعًا" ليس ذلك في واحد من "الصحيحين"، وليس بصحيح أيضًا، فإنه كُشِف عنهم قبل بدر، وكانت في السنة الثانية من الهجرة، وأيضًا فأبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث شَهِدَ قنوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعاءه عليهم بذلك، وإنما أسلم أبو هريرة بعد خيبر، فلا يصح حمله على دعائه على قريش قبل وقعة بدر، وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه في "الصحيحين" أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشًا استَعصَوا عليه، فقال:"اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف"، فأخذتهم السنة حتى حَصَّت كلَّ شيء، حتى أكلوا العظام، والجلود، وفي رواية:"الميتة" بدل "العظام"، وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان، فقال: أي محمدُ إن قومك هلكوا، فادع اللَّه أن يكشف عنهم، فدعا، وفي رواية: فدعا ربه، فكُشف عنهم، فعادوا، فانتقم اللَّه منهم يوم بدر.

ففي هذا الحديث أن دعاءه على قريش قبل وقعة بدر، وهذا لم يشهده أبو هريرة. والذي أوقع القرطبيّ في ذلك أن حديث ابن مسعود في بعض طرقه في "الصحيحين" ذكر مضر، فذكر أول الحديث إلى قوله: وحتى أكلوا العظام، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول اللَّه، استسق لمضر، فإنهم قد هلكوا، فقال:"لمضر؟، إنك لَجَرِيء"، قال: فدعا لهم، فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} [الدخان: 15]، فذكر الحديث، فظَنّ صاحب "المفهم" أنها قصة واحدة، وليس كذلك، فقصة الدعاء على قريش كانت قبل بدر، ولم ينقل فيها قنوت، ولم يشهدها أبو هريرة رضي الله عنه، وقريش هي من مضر، وقصة القنوت كانت بعد خيبر، بعد إسلام أبي هريرة، وكان دعاؤه فيها على مضر، وهو اسم جامع لقريش وغيرها، وكان سبب القنوت قصة بئر معونة التي قتل فيها السبعون من القراء، فقنت النبيّ صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو عليهم، وعمم الدعاء على مضر، وليس بدعائه عليهم قبل بدر، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله وليّ الدين رحمه الله تعقّب

(1)

"طرح التثريب" 2/ 292 - 293.

ص: 466

وَجِيهٌ، وحاصله أن قصّه أبي هريرة رضي الله عنه غير قصّة ابن مسعود رضي الله عنه، وهو ظاهرٌ، فليُتنبّه لهذه الدقائق، واللَّه تعالى أعلم.

(اللَّهُمَّ الْعَنْ) فعل دعاء من لَعَنَ يَلْعَنُ، من باب نَفَعَ، أي اطرُدهم، وأبعدهم عن رحمتك.

الِحْيَانَ) -بكسر اللام، وقيل: بفتحها، وسكون الحاء المهملة- أبو قبيلة، وهو لحيان بن هُذَيل بن مُدركة بن إلياس بن مُضر

(1)

، وزعم الهمدانيّ النسّابة أن أصل بني لحيان من بقايا جُرْهُم دخلوا في هُذيل، فنُسِبوا إليهم، قاله في "الفتح"

(2)

. (وَرِعْلًا) -بكسر الراء، وسكون العين المهملة- حيّ من سُليم، وهو رِعْل بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم

(3)

. (وَذَكْوَانَ) -بفتح الذال المعجمة، وسكون الكاف-: بطن كبير من سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وهو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة -بضمّ الموحّدة، وسكون الهاء، بعدها مثلّثةٌ- بن سُليم

(4)

. (وَعُصَيَّةَ) -بضمّ العين المهملة، مصغّرًا- هم بطن من بني سُليم يُنسبون إلى عصيّة بن خُفَاف -بضم المعجمة، وفاء مخفَّفة، وآخره فاءٌ أيضًا- ابن امرئ القيس بن بُهْثَةَ بن سُليم

(5)

.

وقوله: (عَصَتِ اللَّهَ) تعالى (وَرَسُولَهُ") صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم عاهدوا، فغدروا، وقَتَلوا أصحاب بئر معونة، وقد وقع في هذا الحديث، وكذا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي في "الجهاد":"غفار غَفَر اللَّه لها، وأسلم، سالمها أللَّه، وعُصَيّةُ عصت اللَّه ورسوله" من استعمال جناس الاشتقاق ما يلذّ على السمع؛ لسهولته، وانسجامه، وهو من الاتّفاقات اللطيفة، قاله في "الفتح"

(6)

.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 275.

(2)

"الفتح" 7/ 440 "كتاب المغازي" رقم (4086).

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 380.

(4)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 358.

(5)

"الفتح" 6/ 628 "كتاب المناقب" رقم (3513).

(6)

راجع: "الفتح" 6/ 628 "كتاب المناقب" رقم (3513).

ص: 467

وقال القرطبي رحمه الله: ولحيان، ورِعْلٌ، وذكوان، وعُصيّة قبائل من العرب، قَتَلوا أصحاب بئر معونة، وهم السبعون القرّاء، وكان من حديثهم أن أبا براء الكلابيّ، ويُعرَف بمُلاعب الأَسِنّة سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يوجِّهَ معه رجالًا من أصحابه إلى قومه بنجد، يدعونهم إلى اللَّه، ويَعْرِضُون عليهم الإسلام، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني أخاف عليهم أهل نجد"، فقال له أبو براء: أنا لهم جارٌ، فبعثهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معه، فلما مرُّوا ببني عامر استَصرَخ عليهم عدوّ اللَّه عامر بن الطفيل تلك القبائل التي دعا عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهم من بني سُلَيم، فأجابوه، فقتلوهم، ولم يَنْجُ منهم إلا عمرو بن أُميّة الضَّمْريّ، فَحَزِنَ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم حُزْنًا شديدًا، فإنه لم يُصَب بمثلهم، وكانوا من خيار المهاجرين رضي الله عنهم

(1)

. انتهى

(2)

.

وسيأتي تمام البحث في هذا قريبًا في شرح حديث أنس رضي الله عنه إن شاء اللَّه تعالى-.

وقوله: (ثُمَّ بَلَغَنَا) من كلام الزهريّ رحمه الله، وفيه أنه مرسلٌ؛ لأن الزهريّ لم يذكر من أخبره به، ولكن ذكره في رواية البخاريّ بدون ذكر "وبلغنا".

وذكر في "الفتح" الاستشكال بأن قصة رِعْلٍ وذَكْوَان كانت بعد أحد، ونزول {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] كان في قصة أحد، فكيف يتأخر السبب عن النزول؟.

قال: ثم ظَهَر لي علة الخبر، وأن فيه إدراجًا، وأن قوله:"حتى أنزل اللَّه" منقطع من رواية الزهريّ، عمن بَلَّغَه بَيَّن ذلك مسلم في رواية يونس المذكورة، فقال هنا: قال -يعني الزهريّ-: "ثم بلغنا أنه ترك ذلك، لما نَزَلَت"، وهذا البلاغ لا يصحُّ؛ لما ذكرته.

وقد ورد في سبب نزول الآية شيء آخر، لكنه لا ينافي ما تقدم بخلاف قصة رعل وذكوان، فعند أحمد ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كُسِرت رَبَاعيته يوم أحد، وشُجّ وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف

(1)

راجع: "عيون الأثر" 2/ 67 - 72.

(2)

"المفهم" 2/ 303 - 304.

ص: 468

يُفْلِح قوم فَعَلُوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟، فأنزل اللَّه تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية.

قال: وطريق الجمع بينه وبين حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دعا على المذكورين بعد ذلك في صلاته، فنزلت الآية في الأمرين معًا فيما وقع له من الأمر المذكور، وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم، وذلك كله في أحد، بخلاف قصّة رِعْل وذكوان، فإنها أجنبية.

ويَحْتَمِل أن يقال: إن قصتهم كانت عقب ذلك، وتأخر نزول الآية عن سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكِر أن الأصحّ في سبب نزول الآية هو ما وقع في غزوة أحد مما أصاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قتل سبعين منهم، ومنهم حمزة رضي الله عنه عمّه صلى الله عليه وسلم، ومِنْ شَجّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وكسر رباعيته، وأما كون دعائه صلى الله عليه وسلم على رعل وذكوان، وعُصيّة في قتل القراء السبعين يوم بئر معونة، فلا يصحّ؛ لأنه في وقت آخر بعد أحد، والحديث فيه منقطع؛ لأنه من بلاغ الزهريّ، كما بيّنه مسلم في هذه الرواية، وأما الاحتمال الذي ذكره في "الفتح" أخيرًا، فمحلّ نظرٍ، فتفطّن واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (تَرَكَ ذَلِكَ) أي الدعاء عليهم (لَمَّا أُنْزِلَ) وفي نسخة: "لَمّا أُنزلت"، وهو مبنيّ للمفعول، وقوله:({لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}) نائب فاعله، محكيّ؛ لقصد لفظه، أي أنزل اللَّه هذه الآية.

ومعنى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي ليس لك من الحكم في عبادي شيء إلا ما أمرتك به فيهم ({أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}) أي مما هم فيه من الكفر، فَيَهْدِيَهُمْ بعد الضلالة ({أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}) أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال ({فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}) بالفاء التعليليّة، أي لأنهم ظالمون فيستحقون ذلك.

قيل: قوله: {أَوْ يَتُوبَ} عطف على قوله: {لِيَقْطَعَ} ، والأَوْلى كونه منصوبا بـ "أن" مضمرة بعد "أو"، وهي بمعنى "إلى"، كقول الشاعر [من الطويل]:

لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ الْمُنَى

فَمَا انْقَادَتِ الآمَالُ إِلَّا لِصَابِرِ

(1)

"الفتح" 8/ 75 "كتاب التفسير" رقم (4560).

ص: 469

قال ابن مالك عند ذكر مواضع نصب "أن" مضمرةً وجوبًا:

كَذَاكَ بَعْدَ "أَوْ" إِذَا يَصْلُحُ فِي

مَوْضِعِهَا "حَتَّى" أَوِ الَّا "أَنْ" خَفِي

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 1540 و 1541 و 1542 و 1543](675) و [56/ 1544](676)، و (البخاريّ) في "الأذان"(804) و"الاستسقاء"(1006) و"الجهاد"(2932) و"أحاديث الأنبياء"(3386) و"التفسير"(4560 و 4598) و"الأدب"(6200) و"الدعوات"(6393) و"الإكراه"(6945)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1442)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(1073 و 1075) و"الكبرى"(660 و 661 و 662)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1244)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(4028)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 86 و 87)، و (الحميديّ) في "مسنده"(939)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 316 و 317)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 239 و 255 و 470 و 521)، و (الدارميّ) في "سننه"(1603)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(615 و 617 و 619 و 621 و 623)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1969 و 1972)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 283)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1511 و 1512 و 1513 و 1514 و 1516)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 38)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 207)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 241 و 242)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(636 و 637)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب القنوت في الصلوات كلّها إذا نزلت بالمسلمين نازلة -أعاذنا اللَّه منها-.

2 -

(منها): بيان كون محلّه بعد الركوع.

ص: 470

3 -

(ومنها): استحباب الجمع بين "سمع اللَّه من حمده"، وبين "ربنا ولك الحمد" للإمام، وكذا المنفرد، وأما المأموم فالأرجح أنه لا يقول:"سمع اللَّه من حمده"، بل يقتصر على التحميد، وقد تقدّم أنه يجوز أن يقول:"ربنا لك الحمد"، و"ربنا ولك الحمد"، بإثبات الواو وحذفها، وقد ثبت الأمران في "الصحيحين"، وغيرهما، وسبق بيان معنى هذه الواو.

4 -

(ومنها): جواز الدعاء لقوم بتعيين أسمائهم، وأسماء آبائهم، وأن ذلك لا يُبطِل الصلاة؛ خلافًا للحنفيّة.

5 -

(ومنها): جواز الدعاء بغير ألفاظ القرآن في الصلاة، قال القرطبيّ: وهو حجة على أبي حنيفة في منعه ذلك. انتهى

(1)

.

6 -

(ومنها): جواز لعن الكفّار والمنافقين في الصلاة، والدعاء عليهم بإنزال العذاب الذي يُضعِف شوكتهم، من الجوع والأمراض، ونحو ذلك.

قال القرطبي رحمه الله: ولا خلاف في جواز لعن الكفرة، والدعاء عليهم، واختلفوا في جواز الدعاء على أهل المعاصي، فأجازه قومٌ، ومنعه آخرون، وقالوا: يُدعى لهم بالتوبة، لا عليهم، وقيل: إنما يُدعى على أهل الانتهاك في حين فعلهم ذلك، وأما في إدبارهم فيُدعَى لهم بالتوبة. انتهى

(2)

.

وقال ولي الدين العراقيّ رحمه الله: أما الدعاء على أهل المعاصي، ولعنهم من غير تعيين، فلا خلاف في جوازه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لعن اللَّه السارق، يسرق البيضة"، "لعن اللَّه من غيّر منار الأرض"، ونحو ذلك، وأما مع التعيين فوقع كثيرًا في الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تغفر لِمُحَلِّم بن جَثَّامَة". ولهذا قال النوويّ رحمه الله في "الأذكار": إن ظواهر الأحاديث تدلّ على جواز لعن أهل المعاصي مع التعيين.

قال: وقد يقال: هذا من خواصّه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني اتخذت عندك عهدًا، أيُّما مسلم سببته، أو لعنته، وليس لها بأهل، فاجعلها له صلاةً. . . " الحديث، وهذا ليس لغيره صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان المنقول أنه لا يجوز لعن العاصي المعيَّن، وأما لعن الكافر المعيَّن، فلا شكّ أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله،

(1)

"المفهم" 2/ 304.

(2)

"المفهم" 2/ 304.

ص: 471

ولكن هل لنا أن نتعاطى ذلك، فمنع منه أبو حامد الغزاليّ، إلا أن يُقيَّد ذلك بأن يموت على كفره، واللَّه أعلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يظهر لي أن لعن أهل المعاصي من غير تعيين جائز، وأما لعن المعيّن منهم، فإن كان في حال إقباله على الإفساد في الأرض، وإلحاق الضرر بالمسلمين فيجوز، وأما في حال كفّه عن ذلك، فيُدعَى له بالتوبة والصلاح، وكذا الكفّار المعيّنون إن كان يُخشى منهم الضرر يُدعى عليهم بالهلاك والطرد من رحمة اللَّه تعالى، وإن كانوا في حال المسألة للمسلمين، فيُدعى لهم بالهداية والإسلام، وهذا هو الذي يظهر من تتبّع هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي ورد في الأحاديث الصحيحة، كأحاديث الباب وغيرها، فإنه صلى الله عليه وسلم ص ما دعى على الكفّار وغيرهم إلا في حال إفسادهم في الأرض، وإلحاق الضرر بالمسلمين، فقد كان من المشركين وغيرهم من له عهد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُنقل أنه دعا عليهم بالتعيين إلا إذا نقضوا العهد، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

7 -

(ومنها): استحباب الجهر بالقنوت للإمام، ففي رواية البخاريّ:"يجهر بذلك"، ولأبي داود من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في قنوته صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس:"يؤمّن من خلفه"، فقد صرّح بأنه صلى الله عليه وسلم جَهَرَ به، وأن الصحابة أَمَّنُوا خلفه.

8 -

(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، على ما قيل، ولكن الصحيح أنها نزلت في قصّة أحد، لا في هذا القصّة، على ما أسلفت تحقيقه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في القنوت في الصلوات:

ذهب جماعة من العلماء إلى أنه مشروع في صلاة الفجر، وقد حكاه الحازميّ عن أكثر الناس من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من علماء الأمصار، ثم عدّ من الصحابة الخلفاء الأربعة إلى تمام تسعة عشر من الصحابة، ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي، وسويد بن غَفَلَة، وأبو عثمان

(1)

"طرح التثريب" 2/ 291 - 292.

ص: 472

النهدي، وأبو رافع الصائغ، ومن التابعين اثنا عشر، ومن الأئمة والفقهاء أبو إسحاق الفزاري، وأبو بكر بن محمد، والحكم بن عتيبة، وحماد، ومالك بن أنس، وأهل الحجاز، والأوزاعي، وأكثر أهل الشام، والشافعي، وأصحابه، وعن الثوري روايتان، ثم قال: وغير هؤلاء خلق كثير.

وزاد العراقيّ: عبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وداود، ومحمد بن جرير، وحكاه عن جماعة من أهل الحديث: منهم أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وأبو عبد اللَّه الحاكم، والدارقطني، والبيهقي، والخطابي، وأبو مسعود الدمشقي. وحكاه الخطابي في "المعالم" عن أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه. وحكى الترمذي عنهما خلاف ذلك. وقال النووي في "شرح المهذب": القنوت في الصبح مذهبنا، وبه قال أكثر السلف، ومن بعدهم، أو كثير منهم. انتهى.

قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: (واعلم): أنه قد وقع الاتفاق على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب، وهي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ولم يبق الخلاف إلا في صلاة الصبح من المكتوبات، وفي صلاة الوتر من غيرها، أما القنوت في الوتر فسيأتي الكلام عليه في "أبواب الوتر". إن شاء اللَّه تعالى.

وأما القنوت في صلاة الصبح، فاحتج المثبتون له بحجج: منها حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب، وحديث البراء رضي الله عنه الآتي بعد باب. ويجاب أنه لا نزاع في وقوع القنوت منه صلى الله عليه وسلم، إنما النزاع في استمرار مشروعيته.

فإن قالوا: لفظ "كان" يدل على استمرار المشروعية. قلنا: قد قدمنا عن النووي ما حكاه عن جمهور المحققين أنه لا يدل على ذلك.

سلمنا فغايته مجرد الاستمرار، وهو لا ينافي الترك آخرًا، كما صرحت بذلك الأدلة الآتية، على أن هذين الحديثين فيهما أنه كان يفعل ذلك في الفجر والمغرب، فما هو جوابكم عن المغرب، فهو جوابنا عن الفجر.

وأيضًا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة، والصبح، فما هو جوابكم عن مدلول لفظ "كان" ههنا فهو جوابنا.

ص: 473

قالوا: أخرج الدارقطني، وعبد الرزاق، وأبو نعيم، وأحمد، والبيهقي، والحاكم، وصححه عن أنس رضي الله عنه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو على قاتلي أصحاب بئر معونة، ثم ترك، فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا"، وأول الحديث في "الصحيحين"، ولو صح هذا لكان قاطعًا للنزاع، ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي، قال فيه عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ليس بالقوي. وقال علي ابن المديني: إنه يخلط، وقال أبو زرعة: يَهِمُ كثيرًا، وقال عمرو بن علي الفلاس: صدوق سيئ الحفظ. وقال ابن معين: ثقة، ولكنه يخطئ. وقال الدُّوري: ثقة، ولكنه يغلط، وحكى الساجي أنه صدوق، ليس بالمتقن، وقد وثقه غير واحد، ولحديثه هذا شاهد، ولكن في إسناده عمرو بن عبيد، وليس بحجة.

قال الحافظ رحمه الله: ويَعْكُر على هذا ما رواه الخطيب من طريق قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان، قلنا لأنس: إن قومًا يزعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الفجر، فقال: كذبوا، إنما قنت شهرًا واحدًا، يدعو على حي من أحياء المشركين، وقيس، وإن كان ضعيفًا لكنه لم يتهم بالكذب، وروى ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقنت إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم". فاختلفت الأحاديث عن أنس، واضطربت، فلا يقوم بمثل هذا حجة. انتهى

(1)

.

قال الشوكانيّ رحمه الله: إذا تقرر لك هذا عَلِمْتَ أن الحق ما ذهب إليه من قال: إن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تُخَصّ به صلاة دون صلاة، وقد ورد ما دل على هذا الاختصاص من حديث أنس رضي الله عنه عند ابن خزيمة في "صحيحه"، وقد تقدم، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان بلفظ:"كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد"، وأصله في البخاريّ.

قال: وقد حاول جماعة من حُذّاق الشافعية الجمع بين الأحاديث بما لا طائل تحته، وأطالوا الاستدلال على مشروعية القنوت في صلاة الفجر في غير

(1)

"التلخيص الحبير" 1/ 244 - 245.

ص: 474

طائل، وحاصله ما عرفناك. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًا.

وقد أطال البحث في هذه المسألة الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الممتع "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ودونك تحقيقه المفيد:

قال: وقَنَتَ في الفجر بعد الركوع شهرًا، ثم ترك القنوت، ولم يكن من هديه القنوتُ فيها دائمًا، ومن المحال أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول:"اللَّهم اهدني فيمن هديت، وتولني فيمن توليت. . . إلخ"، ويرفع بذلك صوته، وُيؤَمِّن عليه أصحابه دائمًا إلى أن فارق الدنيا، ثم لا يكون ذلك معلومًا عند الأمة، بل يضيّعه أكثر أمته، وجمهور أصحابه، بل كلهم، حتى يقول من يقول منهم: إنه مُحْدَث، كما قال سعد بن طارق الأشجعي: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم ههنا، بالكوفة منذ خمس سنين، فكانوا يقنتون في الفجر؛ فقال: أَيْ بُنَيّ محدث. رواه أهل السنن، وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير، قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة

(2)

.

وذكر البيهقي عن أبي مِجْلَز، قال: صليت مع ابن عمر صلاة الصبح، فلم يقنت، فقلت: لا أراك تقنت؟، فقال: لا أحفظه عن أحد من أصحابنا

(3)

.

ومن المعلوم بالضرورة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو كان يقنت كل غداة، ويدعو بهذا الدعاء، ويؤمِّن الصحابة رضي الله عنهم لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها، وعددها، ووقتها، وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت منها، جاز عليهم تضييع ذلك، ولا فرق، وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديه الجهر بالبسملة كلَّ يوم وليلة خمس مرات دائمًا مستمرًّا، ثم يضيِّعُ أكثر الأمة ذلك، ويخفى عليها، وهذا من أمحل المحال، بل لو كان ذلك واقعًا، لكان نقله

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 399 - 401.

(2)

في سنده عبد اللَّه بن ميسرة، وهو ضعيف.

(3)

"السنن الكبرى" 2/ 213.

ص: 475

كنقل عدد الصلوات، وعدد الركعات، والجهر والإخفات، وعدد السجدات، ومواضع الأركان وترتيبها، واللَّه الموفق.

والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله عليه وسلم جهر، وأسرّ، وقنت، وترك، وكان إسراره أكثر من جهره، وتركه القنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين، ثم تركه لَمَّا قدِم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت، ولم يختص بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في "صحيحه" عن أنس رضي الله عنه، وقد ذكره مسلم عن البراء رضي الله عنه، وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح في دبر كل صلاة، إذا قال:"سمع اللَّه من حمده" من الركعة الأخيرة، يدعو على حي من بني سُلَيم، على رعل، وذكوان، وعُصيّة، ويؤمِّن مَنْ خلفه، ورواه أبو داود

(1)

.

وكان هديه صلى الله عليه وسلم القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السَّحَر، وساعة الإجابة، وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة التي يشهدها اللَّه وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار، كما روي هذا، وهذا في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].

وأما حديث ابن أبي فُدَيك، عن عبد اللَّه بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية، يرفع يديه فيها، فيدعو بهذا الدعاء:"اللَّهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي، ولا يقضى عليك، إنه لا يذلّ من واليت، تباركت ربَّنَا، وتعاليت".

(1)

وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 225، وصححه، ووافقه الذهبيّ.

ص: 476

فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحًا، أو حسنًا، ولكن لا يحتج بعبد اللَّه هذا

(1)

، وإن كان الحاكم صحَّحَ حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد اللَّه المزني: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فُدَيك. . . فذكره.

نعم صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: واللَّه لأنا أقربكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعدما يقول:"سمع اللَّه لمن حمده"، فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار

(2)

.

ولا ريب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يُعَلِّمهم أن مثل هذا القنوت سنّة، وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا ردّ على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقًا عند النوازل وغيرها

(3)

، ويقولون: هو منسوخ، وفِعلُهُ بدعة، فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء، وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعد بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنتون حيث قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنّة، وتركه سنّة، ومع هذا، فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعلَه مخالفًا للسنّة، كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة، ولا تاركه مخالفًا للسنّة، بل من قنت، فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن، ورُكْنُ الاعتدال محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، ودعاء القنوت دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جَهَرَ به الإمام أحيانًا ليعلم المأمومين، فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنّة، ومن هذا أيضًا جهر الإمام بالتأمين، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنَّف فيه من فعله، ولا من

(1)

قال في "التقريب": عبد اللَّه بن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ متروك. انتهى.

(2)

متّفقٌ عليه.

(3)

هذا إن أراد به الحنفيّة، ففيه نظر؛ لأن عندهم أن القنوت للنوازل في صلاة الفجر مشروع، كما قاله الطحاويّ وغيره، راجع:"حاشية ردّ المحتار" لابن عابدين 2/ 11.

ص: 477

تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه

(1)

، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإقامة، وأنواع النسك من الإفراد، والقران، والتمتع، وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو، فإنه قبلة القصد، وإليه التوجه في هذا الكتاب، وعليه مدار التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله، وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وإنما مقصودنا فيه هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكمل الهدي وأفضله، فإذا قلنا: لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر، ولا الجهر بالبسملة، لم يدل ذلك على كراهة غيره، ولا أنه بدعة، ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأفضله، واللَّه المستعان.

وأما حديث أبي جعفر الرازيّ، عن الربيع بن أنس، عن أنس، قال:"ما زال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا"، وهو في "المسند"، والترمذي، وغيرهما، فأبو جعفر قد ضعّفه أحمد وغيره، وقال ابن المديني: كان يخلط، وقال أبو زرعة: كان يهم كثيرًا، وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير.

قال: وقال لي شيخنا ابن تيمية قدس اللَّه روحه: وهذا الإسناد نفسه هو إسناد حديث: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الطويل، وفيه: وكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد والميثاق في زمن آدم، فأرسل تلك الروح إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، فأرسله اللَّه في صورة بشر، فتمثّل لها بشرًا سويًا، قال: فحملت الذي يخاطبها، فدخل من فيها، وهذا

(1)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في تسويته رفع اليدين وتركه، ومثله الجهر بالتأمين بأنواع التشهّدات، وأنواع الأذان، وأنواع النسك نظر لا يخفى؛ لأن ترك الرفع، وعدم الجهر بالتأمين مما خالف السنة الصحيحة، مخالفةً بيِّنةً، فيُعدّ فاعله مخالفًا للسنّة، فيستحقّ الإنكار عليه، وأما أنواع التشهدات، والأذان، والنسك، فإنها ثابتة في السنّة، فمن أخذ ببعضها فقد أخذ بالسنة، فلا يُنكر عليه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 478

غلط محض، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها:{إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 19] ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى ابن مريم، هذا محال.

والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحب مناكير، لا يَحْتَج بما تفرد به أحدٌ من أهل الحديث البتة، ولو صحّ لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوت هذا الدعاء، فإن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)} [الروم: 26]، وقال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]، وقال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة طول القنوت"

(1)

، وقال زيد بن أرقم رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أُمِرنا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام

(2)

، وأنس رضي الله عنه لم يقل: لم يزل يقنت بعد الركوع رافعًا صوته: "اللهم اهدني فيمن هديت. . . " إلخ، ويؤمِّن من خلفه، ولا ريب أن قوله:"ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد. . . " إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله قنوتٌ، وتطويلُ هذا الركن قنوتٌ، وتطويل القراءة قنوت، وهذا الدعاء المعين قنوت، فمن أين لكم أن أنسًا إنما أراد هذا الدعاء المعين، دون سائر أقسام القنوت؟!.

ولا يقال: تخصيصه القنوت بالفجر دون غيرها من الصلوات دليل على إرادة الدعاء المعين؛ إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترك بين الفجر وغيرها، وأنس خَصّ الفجر، دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن أن يقال: إنه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين؛ لأن أنسًا قد أخبر أنه قنت شهرًا، ثم تركه، فتعيّن أن يكون هذا الدعاء المعيّن الذي داوم عليه هو القنوت المعروف، وقد قنت أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي،

(1)

رواه مسلم.

(2)

متفقٌ عليه.

ص: 479

والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعبد اللَّه بن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وغيرهم.

والجواب من وجوه:

(أحدها): أن أنسًا رضي الله عنه قد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب، كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب رضي الله عنه سواء، فما بال القنوت اختص بالفجر؟!.

فإن قلتم: قنوت المغرب منسوخٌ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة: وكذلك قنوت الفجر سواء، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كان دليلًا على نسخ قنوت الفجر سواءً، ولا يُمكنُكم أبدًا أن تقيموا دليلًا على نسخ قنوت المغرب، وإحكام قنوت الفجر.

[فإن قلتم]: قنوت المغرب كان قنوتًا للنوازل، لا قنوتًا راتبًا، قال منازعوكم من أهل الحديث: نعم كذلك هو، وكذلك قنوت الفجر سواء، وما الفرق؛ قالوا: ويدل على أنّ قنوت الفجر كان قنوت نازلة، لا قنوتًا راتبًا أن أنسًا نفسه أخبر بذلك، وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس، وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة، ثم تركه، ففي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال: قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على حيّ من أحياء العرب، ثم تركه.

(الثاني): أن شبابة رَوَى عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان، قال: قلنا لأنس بن مالك: إن قومًا يزعمون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بالفجر، قال: كذبوا، وإنما قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا واحدًا يدعو على حيّ من أحياء العرب، وقيس بن الربيع، وإن كان يحيى بن معين ضعّفه، فقد وثقه غيره، وليس بدون أبي جعفر الرازي، فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله: لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، وقيس ليس بحجة في هذا الحديث، وهو أوثق منه، أو مثله، والذين ضعّفوا أبا جعفر أكثر من الذين ضعّفوا قيسًا، فإنما يعرف تضعيف قيس عن يحيى، وذكر سبب تضعيفه، فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سألت يحيى عن قيس بن الربيع؟ فقال: ضعيف لا يكتب حديثه، كان يحدث بالحديث عن عَبِيدة، وهو عنده عن منصور، ومثل هذا لا يوجب رَدّ

ص: 480

حديث الراوي؛ لأن غاية ذلك أن يكون غَلِطَ ووَهِمَ في ذكر عَبِيدة بدل منصور، ومَن الذي يسلم من هذا من المحدثين؟.

(الثالث): أن أنسًا رضي الله عنه أخبر أنهم لم يكونوا يقنتون، وأن بدء القنوت هو قنوت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على رعل وذكوان، ففي "الصحيحين" من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا لحاجة يقال لهم: القراء. . . فذكر الحديث، وفيه:"فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهم شهرًا في صلاة الغداة، فذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت".

فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم القنوت دائمًا، وقول أنس: فذلك بدء القنوت، مع قوله: قنت شهرًا، ثم تركه دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوت النوازل، وهو الذي وقّته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهرًا، كما في "الصحيحين" عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قنت في صلاة العتمة شهرًا، يقول:"اللَّهم أنج عياش بن الوليد. . . " الحديث.

وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قنت لهم أيضًا في الفجر شهرًا، وكلاهما صحيح، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة، عن ابن عباس: قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ورواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح.

وقد ذكر الطبراني في "معجمه" من حديث محمد بن أنس، حدثنا مُطَرِّف بن طَرِيف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي صلاة مكتوبة، إلا قنت فيها

(1)

، قال الطبراني: لم يروه عن مطرف إلا محمد بن أنس. انتهى.

وهذا الإسناد، وإن كان لا تقوم به حجة، فالحديث صحيح من جهة المعنى؛ لأن القنوت هو الدعاء، ومعلوم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها، كما تقدم، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صحّ أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، ونحن لا نشك، ولا

(1)

قال في "مجمع الزوائد": رجاله موثّقون.

ص: 481

نرتاب في صحة ذلك، وأن دعاءه استمرّ في الفجر إلى أن فارق الدنيا.

(الوجه الرابع): أن طرق أحاديث أنس تُبَيِّن المراد، ويُصَدِّق بعضها بعضًا، ولا تتناقض.

وفي "الصحيحين" من حديث عاصم الأحول، قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت، فقلت: كان قبل الركوع، أو بعده؟ قال: قبله، قلت: وإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعده، قال: كذب، إنما قلت: قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا

(1)

.

وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول، تفرد به عاصم، وسائر الرواة عن أنس خالفوه، فقالوا: عاصم ثقة جدًّا، غير أنه خالف أصحاب أنس في موضع القنوتين، والحافظ قد يَهِمُ، والجواد قد يَعْثُرُ، وحكوا عن الإمام أحمد تعليله، فقال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه -يعني أحمد بن حنبل-: أيقول أحد في حديث أنس: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول؟ فقال: ما علمت أحدًا يقوله غيره

(2)

، قال أبو عبد اللَّه: خالفهم عاصم كُلَّهُم، هشامٌ، عن قتادة، عن أنس، والتيميُّ، عن أبي مجلز، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قنت بعد الركوع، وأيوبُ عن محمد بن سيرين، قال: سألت أنسًا، وحنظلةُ السدوسي، عن أنس، أربعة وجوه. وأما عاصم، فقال: قلت له؟ فقال: كذبوا، إنما قنت بعد الركوع شهرًا، قيل له: من ذكره عن عاصم؟ قال: أبو معاوية وغيره، قيل لأبي عبد اللَّه: وسائر الأحاديث أليس إنما هي بعد الركوع؟ فقال: بلى كلها عن خُفَاف بن إيماء بن رَحَضَة، وأبي هريرة.

(1)

متّفقٌ عليه.

(2)

لكن قال في "الفتح" 2/ 569: قد وافق عاصمًا على روايته هذه عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس، كما عند البخاريّ في "المغازي"، ولفظه:"سأل رجل أنسًا عن القنوت بعد الركوع، أو عند الفراغ من القراءة؟ قال: لا، بل عند الفراغ من القراءة"، ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع، لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد اختلف عملُ الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح. انتهى.

ص: 482

قلت لأبي عبد اللَّه: فلم ترخص إذًا في القنوت قبل الركوع، وإنما صح الحديث بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا بأس، لفعل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم واختلافهم، فأما في الفجر، فبعد الركوع.

فيقال: من العجب تعليل هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن أيوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقلّ مَنْ تحمّل مذهبًا، وانتصر له في كل شيء إلا اضطرّ إلى هذا المسلك.

فنقول -وباللَّه التوفيق-: أحاديث أنس كلها صحاح، يصدق بعضها بعضًا، ولا تتناقض، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غير القنوت الذي ذكره بعده، والذي وَقَّتَه غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالة القيام للقراءة

(1)

، وهو الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة طول القنوت"، والذي ذكره بعده، هو إطالة القيام للدعاء، فعله شهرًا، يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرّ يُطيل هذا الركن للدعاء والثناء إلى أن فارق الدنيا، كما في "الصحيحين" عن ثابت، عن أنس، قال: إني لا أزال أصلي بكم كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئًا لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكث حتى يقول القائل: قد نسي، فهذا هو القنوت الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا.

ومعلوم أنه لم يكن يسكت في مثل هذا الوقوف الطويل، بل كان يُثني على ربه، ويمجده، ويدعوه، وهذا غير القنوت المؤقت بشهر، فإن ذلك دعاء على رعل، وذَكْوَان، وعُصَيّة، وبني لِحْيَان، ودعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة.

(1)

قال الجامع: لكن يعكُر على هذا ما أخرجه البخاريّ في "المغازي": "عن عبد العزيز بن صُهيب، قال: سأل رجل أنسًا عن القنوت، بعد الركوع، أو عند الفراغ من القراءة؟ قال: بل عند الفراغ من القراءة"، فإن هذا ظاهر في كون القنوت غير القراءة، فليُتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 483

وأما تخصيص هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه، وأيضًا، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة، وكان -كما قال البراء بن عازب- ركوعه، واعتداله، وسجوده، وقيامه متقاربًا، وكان يظهر من تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك، ومعلوم أنه يدعو ربه، ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا قنوت منه، لا ريب، فنحن لا نشكّ، ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.

ولما صار القنوت في لسان الفقهاء، وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف:"اللهم اهدني فيمن هديت. . . " إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَنْ لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشكَّ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم كانوا مداومين عليه كل غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فعله الراتب، بل ولا يثبت عنه أنه فعله.

وغاية ما روي عنه في هذا القنوت، أنه علّمه للحسن بن عليّ رضي الله عنهما، كما في "المسند"، و"السنن" الأربع عنه، قال: علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي، ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا، وتعاليت".

قال الترمذيّ: حديث حسن، ولا نعرف ذلك في القنوت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا أحسن من هذا، وزاد البيهقي بعد "ولا يذل من واليت": و"لا يعز من عاديت".

ومما يدلّ على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيام للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب: حدثنا حنظلة إمام مسجد قتادة -قلت: هو السدوسي- قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت أنا: بعد الركوع، فأتينا أنس بن مالك، فذكرنا له ذلك،

ص: 484

فقال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فكبّر، وركع، ورفع رأسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبّر، وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة، ثم وقع ساجدًا

(1)

.

وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، وهو يبيّن مراد أنس بالقنوت، فإنه ذكره دليلًا من قال: إنه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو مراد أنس رضي الله عنه، فاتفقت أحاديثه كلها، وباللَّه التوفيق.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: وهو يبيّن مراد أنس إلخ، فيه نظر؛ إذ هذا الحديث إسناده ضعيف؛ لأن في سنده أبا هلال الراسبيّ ليّنوه، وحنظلة السدوسيّ ضعيفٌ، فلا يصلح بيانًا لمراد أنس، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وأما المروي عن الصحابة رضي الله عنهم، فنوعان:

(أحدهما): قنوت عند النوازل، كقنوت الصديق رضي الله عنه في محاربة الصحابة لمسيلمة، وعند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوت عمر رضي الله عنه، وقنوت علي رضي الله عنه عند محاربته لمعاوية وأهل الشام.

(الثاني): مطلق، مراد من حكاه عنهم به تطويل هذا الركن للدعاء والثناء، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: خلاصة هذه المسألة أن الراجح أن القنوت المشروع هو القنوت عند النوازل، وأما القنوت الوارد في الصبح، أو غيره، فالمراد به تطويل القيام بالأذكار، فبهذا تتفق الأحاديث والآثار المروية في الباب، وقد تقدم قول العلامة الشوكانيّ رحمه الله: إذا تقرر لك هذا علمت أن الحقّ ما ذهب إليه من قال: إن القنوت مختص بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة، وقد ورد ما دل على هذا الاختصاص

(1)

إسناده ضعيف، فيه أبو هلال الراسبيّ، محمد بن سُليم، قال في "التقريب": صدوقٌ، فيه لينٌ من السادسة، وفيه أيضًا حنظلة السدوسيّ، ضعّفه أحمد، وقال: يروي عن أنس أحاديث مناكير، وقال ابن معين، والنسائيّ: ضعيف، وقال في "التقريب": ضعيفٌ من السادسة. انتهى.

(2)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 1/ 271 - 275.

ص: 485

من حديث أنس رضي الله عنه عند ابن خزيمة في "صحيحه": "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم". ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان بلفظ: "كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد"، قال: وقد حاول جماعة من حُذّاق الشافعية الجمع بين الأحاديث بما لا طائل تحته، وأطالوا الاستدلال على مشروعية القنوت في صلاة الفجر في غير طائل. انتهى.

هذا كله في غير الوتر، وأما القنوت في الوتر، فسيأتي الكلام عليه في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في القنوت في صلاة الوتر:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: لم نجد في هذا الباب خبرًا أعلى من خبر بُريد، عن أبي الْحَوْراء، عن الحسن -يعني ما أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، عن أبي الْحَوْراء، قال: قال الحسن: علّمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر في القنوت: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يَذِلُّ من واليت، تباركت ربنا وتعاليت"، وهو حديث صحيحٌ.

قال: وقد اختَلَفَ أهل العلم في القنوت في الوتر، فرأت طائفة أن يقنت في السنَة كلها في الوتر، وممن رأى ذلك عبد اللَّه بن مسعود، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، وإسحاق، وأبو ثور.

وذهبت طائفة إلى أن لا يقنت إلا في النصف الثاني من شهر رمضان، رُوي ذلك عن عليّ بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله، وكذا معاذ القارئ، وبه قال محمد بن سيرين، وسعيد بن أبي الحسن، ويحيى بن وثّاب، والزهريّ، وبه قال مالك بن أنس، والشافعيّ، وأحمد. وذهبت طائفة إلى أنه يقنت في السنَة كلها في الوتر إلا في النصف الأول من رمضان، كذلك قال الحسن، خلاف القول الأول، وبه قال قتادة، ومعمر.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يقنت في الوتر، ولا في الصبح، رُوي ذلك عن

ص: 486

ابن عمر، خلاف الرواية الأولى، ورُوي عن طاوس أنه قال: القنوت في الوتر بدعة، وحكى ابن وهب عن مالك أنه قال: ما أقنت في الوتر في رمضان، ولا في غيره، ولا أعرف القنوت قديمًا. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرف.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الأرجح عندي المذهب الأول؛ لصحة حديث الحسن رضي الله عنه، فيستحبّ القنوت في الوتر في جميع السنة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في محلّ القنوت، هل بعد الركوع، أم قبله؟:

(اعلم): أن هذه المسألة تقدّمت في ضمن المسألة الماضية، ولكن نزيدها بحثًا خاصّا بها؛ للإيضاح، فنقول:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في القنوت قبل الركوع وبعده:

فممن رُوي عنه أنه قنت قبل أن يركع: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وابن عباس، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وحميد الطويل، وعَبِيدة السلماني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكذلك إسحاق، وعامة من ذكرنا أنه رأى القنوت قبل الركوع، أو بعده، فإنما هو في صلاة الصبح.

قال: وقال أصحاب الرأي: بلغنا أنه قنت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من القراءة قبل أن يركع، وليس في الصلوات قنوت إلا الوتر.

وفيه قول ثان: وهو أن القنوت بعد الركوع، روي هذا القول عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وقال أنس بن مالك: كل ذلك كنا نفعل قبلُ، وبعدُ، وممن رأى أنه يقنت بعد الركوع أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، وروي هذا القول عن الحسن، والحكم، وحماد، وأبي إسحاق.

قال ابن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قنت بعد الركوع في صلاة الصبح، وبه نقول، إذا نزلت نازلة، احتاج الناس من أجلها إلى

ص: 487

القنوت، قنت إمامهم بعد الركوع. انتهى المقصود من كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ ولي الدين العراقيّ رحمه الله: فيه -أي في حديث الباب- حجة من ذهب إلى أن محل القنوت بعد الركوع، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، ورواية عن مالك، وقد ثبت أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة، يقول:"اللَّهم العن فلانًا" بعدما يقول: "سمع اللَّه من حمده، ربنا، ولك الحمد. . . " الحديث، ولمسلم من حديث خُفاف بن إِيمَاء: ركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه، فقال:"غفار غفر اللَّه لها. . . " الحديث. وهو في "الصحيحين" أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه.

وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن محله قبل الركوع، واستدلّ له بما رواه البخاري ومسلم من رواية عاصم، قال: سألت أنسًا عن القنوت، أكان قبل الركوع، أم بعده؟ قال: قبله، قلت: فإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت: بعده، قال: كذب، إنما قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا.

وذهب جماعة إلى التخيير بين القنوت قبله، أو بعده، حكاه صاحب "المفهم" عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجماعة من الصحابة، والتابعين. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن أرجح المذاهب هو مذهب القائلين بكون محل القنوت بعد الركوع؛ لأن أكثر الأحاديث الصحيحة على أنه صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع، كما أشار إليه ابن المنذر رحمه الله فيما تقدم، واختاره، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1541]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه

(3)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ

(1)

"الأوسط" 5/ 208 - 210.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 291.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 488

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْلِهِ: "وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقة حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ) الضمير لابن عيينة.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1073)

أخبرنا محمد بن منصور، قال: حدثنا سفيان، قال: حفظناه من الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: لما رفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية، من صلاة الصبح، قال:"اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1542]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ فِي صَلَاةٍ

(2)

شَهْرًا، إِذَا قَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ

(3)

: "اللَّهُمَّ أَنْجِ

(4)

الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "في صلاته".

(3)

وفي نسخة: "في صلاته".

(4)

وفي نسخة: "نَجِّ".

ص: 489

الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ، فَقُلْتُ: أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ، قَالَ: فَقِيلَ: وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) الْجَمّال أبو جعفر، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمر، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ إمامٌ جليل [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِير) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

وقوله: (قَنَتَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ فِي صَلَاةٍ) وفي نسخة: "في صلاته".

"القنوت" بالضم مصدر "قَنَتَ" من باب قعد، يطلق في اللغة على معان:

قال في "اللسان": القنوت: الإمساك عن الكلام. وقيل: الدعاء في الصلاة، والقنوت: الخشُوع، والإقرار بالعبودية، والقيام بالطاعة التي ليس معها معصية. وقيل: القيام. وزعم ثعلب أنه الأصل. وقيل: إطالة القيام، وفي التنزيل العزيز:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، قال زيد بن أرقم رضي الله عنه:"كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام"، فالقنوت ههنا الإمساك عن الكلام في الصلاة، وقال أبو عبيد: أصل القنوت في أشياء، فمنها القيام، وبهذا جاءت الأحاديث في قنوت الصلاة؛ لأنه إنما يدعو قائمًا، وأبين من ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت". يريد طول القيام. ويقال للمصلي: قانت.

ص: 490

وقد تكرر في الحديث، ويَرِدُ لمعان متعددة، كالطاعة، والخشوع، والصلاة، والدعاء، والعبادة، والقيام، وطول القيام، والسكوت، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه.

وقال ابن الأنباري: القنوت على أربعة أقسام: الصلاة، وطول القيام، وإقامة الطاعة، والسكوت، وقال ابن سِيدَهْ: القنوت الطاعة، هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى:{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35] ثم سمي القيام في الصلاة قنوتًا، ومنه قنوت الوتر، وقَنَتَ اللَّهَ يَقْنُتُه: أطاعه، وقوله تعالى:{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] أي: مطيعون، ومعنى الطاعة ههنا: أن من في السموات والأرض مخلوقون بإرادة اللَّه تعالى، لا يقدر أحد على تغيير الْخِلْقَة، ولا مَلَك مقرب، فآثار الصنعة والخلقة تدل على الطاعة، وليس يُعْنَى بها طاعة العبادة؛ لأن فيهما مطيعًا، وغير مطيع، وإنما هي طاعة الإرادة والمشيئة. والقانت: المطيع، والقانت الذاكر للَّه تعالى، كما قال عز وجل:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]، وقيل: القانت العابد، والقانت في قوله عز وجل:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] أي من العابدين.

والمشهور في اللغة أن القنوت الدعاء، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر اللَّه، فالداعي إذا كان قائمًا خُصّ بأن يقال له: قانت؛ لأنه ذاكر للَّه تعالى، وهو قائم على رجليه، فحقيقة القنوت: العبادة، والدعاء للَّه عز وجل في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة؛ لأنه إن لم يكن قيام بالرجلين، فهو قيام بالشيء بالنية. قال ابن سِيدَهْ: والقانت القائم بجميع أمر اللَّه تعالى، وجمع القانت من ذلك كله: قُنَّت، قال الْعَجَّاجُ:[من الرجز]

رَبُّ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ الْقُنَّتِ

وقَنَتَ له: ذلّ، وقَنَتت المرأة لبعلها: أقرّت. انتهى المقصود من "اللسان"

(1)

.

وقد نظم الحافظ أبو الفضل العراقيّ رحمه الله معاني القنوت بقوله [من الطويل]:

وَلَفْظُ الْقُنُوتِ اعْدُدْ مَعَانِيَهُ تَجِدْ

مَزِيدًا عَلَى عَشْرٍ مَعَانِيَ مَرْضِيَّهْ

(1)

"لسان العرب" 2/ 73 - 74.

ص: 491

دُعَاءٌ خُشُوعٌ وَالْعِبَادَةُ طَاعَةُ

إِقَامَتُهَا إِقْرَارُهُ بِالْعُبُودِيَّهْ

سُكُوتٌ صَلَاةٌ وَالْقِيَامُ وَطُولُهُ

كَذَاكَ دَوَامُ الطَّاعَةِ الرَّابِحُ الْقِنْيَهْ

(1)

واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد قنوته شهرًا.

وقوله: (أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بضمّ الهمزة، أي أظنّ، ويَحْتَمل أن يكون بفتحها.

وقوله: (وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا) بتقدير همزة الاستفهام، أي أوَما تراهم قد قدِموا من مكة إلى المدينة مهاجرين، فقد استجاب اللَّه تعالى دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم، فنجاهم من شرّ المشركين، ولذا ترك الدعاء لهم.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرحه، ومسائله تقدّمت في حديث أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1543]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي

(2)

زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، إِذْ قَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسجُدَ:"اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، إِلَى قَوْلِهِ:"كَسِنِي يُوسُفَ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّد) بن بَهْرَام التميميّ، أبو أحمد، ويقال: أبو عليّ المؤدّب الْمَرُّوذيّ -بفتح الميم، وتشديد الراء المضمومة، بعدها ذال معجمة- نزيل بغداد، ثقةٌ [9].

(1)

"الفتح" 3/ 178.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 492

رَوَى عن إسرائيل، وجرير بن حازم، وأبي غَسّان محمد بن مُطَرِّف، وشيبان النحويّ، وابن أبي ذئب، ومُبارك بن فَضَالة وخَلَف بن خَلِيفة، وشَرِيك النخعيّ، وأبي أويس المدنيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وأحمد بن منيع، وإبراهيم بن سعيد الجوهريّ، وأبو خيثمة، ومحمد بن رافع، وابن أبي شيبة، والذُّهْليّ، وإبراهيم وإسحاق الحربيان، وعباس الدُّوريّ، وجماعة، وحَدَّث عنه عبد الرحمن بن مهديّ، ومات قبله.

قال ابن سعد: ثقةٌ، مات في آخر خلافة المأمون، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال معاوية بن صالح: قال لي أحمد: اكتبوا عنه، وقال ابن قانع: ثقةٌ، وقال ابن وضاح: سمعت محمد بن مسعود يقول: حسين بن محمد ثقةٌ، وسمعت ابن نُمَير يقول: حسين بن محمد بن بَهْرام صدوق، وقال العجليّ: بصريٌّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم في حسين بن محمد المرُّوذيّ: أتيته مرات بعد فراغه من تفسير شيبان، وسألته أن يعيد عليّ بعض المجلس، فقال: بَكِّر بَكِّر، ولم أسمع منه شيئًا، ثم ذكر ابن أبي حاتم: حسين بن محمد بن بَهْرَام، وحَكَى عن أبيه، أنه مجهول، فكأنه ظن أنه غير المرُّوذيّ

(1)

.

وقال حنبل بن إسحاق: مات سنة (213)، وقال مطين: سنة (214)، وقال ابن قانع: مات سنة (215).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث، برقم (675) و (738) و (1082) و (1419) و (1480) و (2936).

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثقة صاحب كتاب [7](164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقون ذكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ. . . إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير شيبان، و"يحيى" هو: ابن أبي كثير.

(1)

"تهذيب التهذيب" 1/ 435.

ص: 493

[تنبيه]: رواية شيبان، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 269) فقال:

(1514)

حدّثنا أبو محمد بن حيّان، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو خيثمة، ثنا حسين بن محمد، ثنا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة، قال عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه بينما هو يصلي العشاء، إذ قال:"سمع اللَّه من حمده"، ثم قال قبل أن يسجد:"اللهم نَجِّ عياش بن أبي ربيعة، اللهم نَجِّ سلمة بن هشام، اللهم نَجّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطأتك على مُضَرَ، اللهم اجعلها سنين مثل سني يوسف". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1544]

(676) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَني

(1)

أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الظُّهْرِ، وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (لَأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) من التقريب، أي لأُقَرِّبنَّ إلى أفهامكم بالبيان الفعليّ صلاته صلى الله عليه وسلم حيث أصلّي كما صلَّى، فخُذُوا بصلاتي؛

(1)

وفي نسخة: "أخبرني".

ص: 494

لتدركوا صلاته صلى الله عليه وسلم، فمراده الحثّ على الأخذ بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاري:"لأقرّبنّ صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وللإسماعيليّ:"إني لأقربكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

وقوله: (يَقْنُتُ. . . إلخ) تقدّم أنه من باب قعد يقعُدُ.

وقوله: (وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ) وفي رواية البخاريّ: "فيدعو للمؤمنين" بالفاء، وهو تفسير وإيضاحٌ لمعنى "قَنَتَ"(وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ) المراد بالمؤمنين مَنْ كان مأسورًا بمكة، وبالكافرين قريش، هكذا ورد مفسّرًا في الرواية المذكورة أول الباب، من رواية ابن شهاب، عن ابن المسيِّب، وأبي سلمة.

قال في "الفتح": قيل: المرفوع من هذا الحديث وجود القنوت، لا وقوعه في الصلوات المذكورة، فإنه موقوف على أبي هريرة، ويوضِّحه ما وقع عند البخاريّ في "تفسير النساء" من رواية شيبان، عن يحيى من تخصيص المرفوع بصلاة العشاء، ولأبي داود من رواية الأوزاعيّ، عن يحيى: قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة شهرًا، ونحوه لمسلم، لكن لا ينافي هذا كونه صلى الله عليه وسلم قنت في غير العشاء، وظاهر سياق حديث الباب أن جميعه مرفوع، ولعل هذا هو السر في تعقيب البخاريّ له بحديث أنس رضي الله عنه يعني قوله:"كان القنوت في المغرب والفجر"- إشارةً إلى أن القنوت في النازلة لا يَختَصّ بصلاة معينة.

واستُشْكِل التقييد في رواية الأوزاعيّ بشهر؛ لأن المحفوظ أنه كان في قصّة الذين قَتَلُوا أصحاب بئر معونة، كما سيأتي قريبًا.

ووقع في "تفسير آل عمران" من رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، في هذا الحديث أن المراد بالمؤمنين مَنْ كان مأسورًا بمكة، وبالكافرين قريشٌ، وأنّ مدته كانت طويلةً، فَيَحْتَمِل أن يكون التقييد بشهر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يتعلق بصفة من الدعاء مخصوصةً. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ذكر الاستشكال في "الفتح"، وعندي أنه لا استشكال في هذا، فما المانع من أن يكون قنوته صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث شهرًا، كما كان قنوته في قصّة أصحاب بئر معونة شهرًا أيضًا؟ والذي

ص: 495

وقع عند البخاريّ في "التفسير" لا ينافي هذا

(1)

، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1545]

(677) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ

(3)

وَلِحْيَانَ وَعُصَيَّةَ، عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ أَنَسٌ: أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا قَرَأْنَاهُ، حَتَّى نُسِخَ بَعْدُ:"أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير التميميّ، أبو زكرتاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه، إمام دار الهجرة الفقيه المجتهد الثقة المتقن الحجة [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ من طريق ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال:"سمع اللَّه من حمده، اللهم ربنا لك الحمد": "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف"، يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر:"اللهم العن فلانًا وفلانًا"، لأحياء من العرب، حتى أنزل اللَّه:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. انتهى.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في أول هذا الباب رقم [1540](675).

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: بحذف "ذكوان".

ص: 496

4 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِك) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، الخادم الشهير رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (95) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، وقد دخلها.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن عمّه، إسحاق، عن أنس رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، ومن المشهورين بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، ومن المعمَّرين، فقد تجاوز عمره المائة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ) -بفتح الميم، وضمّ العين المهملة، وسكون الواو، بعدها نون-: موضع في بلاد هُذَيل، بين مكة وعُسفان، وهذه الواقعة تُعرف بسريّة القرّاء، وكانت مع القبائل المذكورين هنا

(1)

، وكانت في صفر من السنة الرابعة من الهجرة، وأغرب مكحول حيث قال: إنها كانت بعد الخندق، وقال ابن إسحاق: كانت في صفر على رأس أربعة أشهر من أُحُد، ذكره في "العمدة"

(2)

.

والحديث مختصرٌ، وقد ساقه البخاريّ في "المغازي"، مطوّلًا، ولفظه: عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، قال: حدّثني أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث خاله، أخٌ لأم سليم، في سبعين راكبًا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، خَيَّرَ بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل، ولي أهل الْمَدَر، أو

(1)

"الفتح" 7/ 438 - 439 "كتاب المغازي".

(2)

"عمدة القاري" 14/ 429 "كتاب الجهاد" رقم (3064).

ص: 497

أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان، بألف وألف، فَطَعَن عامر في بيت أم فلان، فقال: غُدّة كغُدّة البكر، في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفَرَسي، فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم، وهو رجل أعرج، ورجل من بني فلان، قال: كونا قريبًا حتى آتيهم، فإن آمنوني كنتم، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فقال: أتُؤَمِّنوني أبلغ رسالة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعل يُحَدِّثهم، وأومئوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه - قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح، قال: اللَّه أكبر، فزْتُ ورب الكعبة، فَلُحِق الرجل، فقتلوا كلهم غير الأعرج، كان في رأس جبل، فأنزل اللَّه علينا، ثم كان من المنسوخ:"إنا قد لقينا ربنا، فرضي عنّا، وأرضانا"، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم ثلاثين صباحًا، على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية الذين عصوا اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن رواية قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رِعْلًا، وذَكْوَان، وعُصَيّة، وبني لِحْيان استمَدُّوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عَدُوّ، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القُرّاء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار

(1)

، ويصلّون بالليل، حتى كانوا ببئر مُعُونة قتلوهم، وغَدَرُوا بهم، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقنت شهرًا يدعو في الصبح، على أحياء من أحياء العرب، على رِعْل، وذكوان، وعُصَيّة، وبني لِحْيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنًا، ثم إن ذلك رُفِع:"بَلّغوا عنا قومنا أنا لَقِينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا".

وفي رواية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه رِعْلٌ، وذَكْوان، وعُصَيّة، وبنو لِحْيان، فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدُّوه على قومهم، فأمدَّهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار، قال أنس: كنا نسميهم القراء، يَحْطِبون بالنهار، ويصلّون بالليل، فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر مَعُونة غَدَرُوا بهم، وقتلوهم، فقنت شهرًا يدعو على رِعْل، وذَكْوان، وبني لِحيان، قال قتادة: وحدّثنا أنس أنهم قرءوا بهم قرآنًا: "ألا بَلِّغُوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا، فَرَضِي عنّا، وأرضانا"، ثم رُفِع ذلك بَعْد.

(1)

وفي رواية: "كانوا يحتطبون بالنهار، ويشترون به الطعام؛ لأهل الصفّة، ويتدارسون القرآن بالليل، ويتعلمون".

ص: 498

وقال في "العمدة" عند قوله: "يقال لهم القُرّاء": جمع قارئ، سُمّوا بذلك؛ لكثرة قراءتهم للقرآن، وهم طائفة كانوا من أوزاع الناس نزلوا الصُّفّة يتعلمون القرآن، بعثهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجد؛ ليدعوهم إلى الإسلام، وليقرأوا عليهم القرآن، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء، وهم رِعْل، وذكوان، وعصية، وقاتلوهم فقتلوهم، ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاريّ، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة، وأغرب مكحول حيث قال: إنها كانت بعد الخندق.

وقال ابن إسحاق: فأقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعني بعد أُحد بقية شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، والمحرَّم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أُحد، قال موسى بن عقبة: وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، ويقال: مرثد بن أبي مرثد، وقال ابن سعد: قَدِم أبو براء، عامر بن مالك بن جعفر الكلابيّ، مُلاعِبُ الأَسِنَّة، فأهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يَقْبَل منه، وعَرَضَ عليه الإسلام، ولم يُسْلِم، ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت معي رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد، رجوت أن يستجيبوا لك، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني أخشى عليهم أهل نجد"، قال: أنا لهم جارٌ، إن تعرّض لهم أحد، فبعث معهم القراء، وهم سبعون رجلًا.

وفي "مسند السرّاج": أربعون، وفي "المعجم": ثلاثون، ستة وعشرون من الأنصار، وأربعة من المهاجرين، وكانوا يُسَمَّون القرّاء، يصلُّون بالليل، حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب، واستعذبوا الماء، فوضعوه على أبواب حُجَرِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبعثهم جميعًا، وأَمَّر عليهم المنذر بن عمرو، أخا بني ساعدة، فسارعوا، حتى نزلوا بئر معونة -بالنون- فلما نزلوها بَعَثُوا حرام بن مِلْحان بكتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عدوّ اللَّه عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، حتى عدا على الرجل فقتله، ثم اجتمع عليه قبائل من سُلَيم: عصيةُ، وذكوان، ورِعْلٌ، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوهم حتى قُتِلُوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه، وبه رَمَقٌ، فعاش، حتى قُتِل يوم الخندق شهيدًا.

وكان في القوم عمرو بن أمية الضَّمْريّ، فأُخِذ أسيرًا، فلما أخبرهم أنهم

ص: 499

من مضر أخذه عامر بن الطفيل، فَجَزَّ ناصيته، وأعتقه، فبلغ ذلك أبا براء، فَشَقَّ عليه ذلك، فَحَمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل، فطعنه بالرمح، فوقع في فخذه، ووقع عن فرسه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعين رجلًا لحاجة": فَسَّر قتادة الحاجة بقوله: "إن رعلًا وغيرهم استمدوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عدوّ، فأمدّهم بسبعين من الأنصار".

وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، بلفظ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان، فزعموا أنهم أسلموا، واستمدُّوا على قومهم.

وقال ابن إسحاق: حدّثني أبي، عن المغيرة بن عبد الرحمن وغيره، قال: قَدِم أبو براء، عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فعَرَض عليه الإسلام، فلم يُسلم، ولم يبعد، وقال: يا محمد لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد، رجوت أن يستجيبوا لك، وأنا جار لهم، فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلًا، منهم الحارث بن الصّمّة، وحرام بن مِلْحان، ورافع بن بُديل بن وَرْقاء، وعروة ابن أسماء، وعامر بن فُهَيرة، وغيرهم من خيار المسلمين.

ويمكن الجمع بين قوله: "أربعين رجلًا"، وبين الذي في "الصحيح" أنهم "سبعون رجلًا" بأن الأربعين كانوا رؤساء، وبقية العِدَّة أتباعًا، ووَهِمَ من قال: كانوا ثلاثين فقط، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(ثَلَاثِينَ صَبَاحًا، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ) بكسر، فسكون: حيّ من سُليم (وَذَكْوَانَ) -بفتح الذال المعجمة، وسكون الكاف-: بطن كبير من سُليم أيضًا، وهو غير منصرف للعلميّة، وزيادة الألف والنون (وَلِحْيَانَ) بكسر اللام، وقيل: بفتحها، وسكون الحاء المهملة.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ذكر بني لِحيان في هذه القصّة وَهَمٌ، وإنما كان

(1)

"عمدة القاري" 7/ 18.

(2)

"الفتح" 7/ 446 - 447 "كتاب المغازي" رقم (4088).

ص: 500

بنو لِحْيان في قصّة خُبيب في غَزْوة الرجيع التي قبل هذه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في دعواه الوهم في ذكر بني لِحيان في هذه القصّة نظر لا يخفى، فإنهم مذكورون في معظم روايات "الصحيحين"، فلم لا يُقال: إنهم شاركوا في الغزوتين، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

(وَعُصَيَّةَ) بطن من بني سُليم، قبيلة تُنسب إلى عُصَيّة بن خُفَاف بن ندبة بن بُهثة بن سُليم.

وقوله: (عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الضمير المستتر الفاعل يعود على القبائل المذكورة كلّها، والجملة مستأنفة؛ استئنافًا بيانيًّا، كأن قائلًا قال له: لماذا دعا عليهم، فأجاب بأنهم عصوا اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال السنديّ رحمه الله: وفي وصله لفظًا بعُصَيّة مناسبة المجانسة، كما لا يخفى. انتهى

(2)

.

ويَحْتَمِل أن يكون جملة "عَصَتِ اللَّه ورسوله" صفة لـ "عُصيّة"، ويدلّ على هذا رواية أبي مِجْلَز، عن أنس رضي الله عنه الآتية بلفظ:"وعُصيّةُ عَصَتِ اللَّه ورسوله"، وإنما خصّهم به، لمناسبة اسمهم، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل في) شأن الصحابة (الَّذِينَ قُتِلُوا) بالبناء للمفعول (بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنًا) منصوب على المفعوليّة، وقوله:(قَرَأْنَاهُ) صفة لـ "قرآنًا"(حَتَّى نُسِخَ) غاية لقراءتهم، والفعل مبنيّ للمفعول (بَعْدُ) من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، أي بعد قراءتنا له (أَنْ) الظاهر أن "أن" هنا زائدة للتأكيد، ويدلّ على ذلك حذفها في رواية البخاريّ، ولفظه:"بلّغوا عنّا قومنا أَنّا لَقِينا ربنا، فَرَضِي عنّا، وأرضانا"

(3)

، وفي رواية له:"ألا بلّغوا عنّاهومنا بأنّا قد لَقِينا ربنا، فَرَضِي عنّا، وأرضانا"

(4)

.

والضمير في قوله: (بَلِّغُوا) الظاهر للملائكة؛ لأنهم قالوا هذا بعد قتلهم،

(1)

"الفتح" 7/ 447 "كتاب المغازي" رقم (4091).

(2)

"شرح السندي على النسائيّ" 2/ 201.

(3)

راجع: "صحيح البخاريّ" في "كتاب المغازي" برقم (4090).

(4)

راجع: "صحيح البخاريّ" في "كتاب الجهاد" برقم (3064).

ص: 501

ولقاء ربّهم، وفي "الطبقات" لابن سعد:"فلما أُحيط بهم قالوا: اللهم إنا لا نَجِد من يبلغ رسولك منا السلام غيرك، فأقرئه منا السلام، فأخبره جبرائيل عليه السلام بذلك، فقال: وعليهم السلام". انتهى

(1)

.

(أَنْ) هنا مصدريّة (قَدْ لَقِينَا) بكسر القاف، من باب تَعِبَ (رَبَّنَا) منصوب على المفعوليّة (فَرَضِيَ عَنَّا) بأعمالنا الصالحة، ومن أعظمها بعد الإيمان الاستشهاد في سبيل اللَّه تعالى (وَرَضِينَا عَنْهُ) بثوابه العظيم لنا، فقد أعدّ اللَّه تعالى لهم ما لا يُدرك وصفه بوصف البشر، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّه: أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ".

وأخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من آمن باللَّه ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًّا على اللَّه أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل اللَّه، أو جلس في أرضه التي وُلد فيها"، قالوا: يا رسول اللَّه أفلا نبشّر الناس بذلك؟ قال: "إن في الجنة مائةَ درجة، أعدها اللَّه للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللَّه، فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد، من رضي باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وجبت له الجنة"، فَعَجِب لها أبو سعيد، فقال: أعدها عليّ يا رسول اللَّه، ففعل، ثم قال:"وأخرى يُرْفَع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض"، قال: وما هي يا رسول اللَّه؛ قال: "الجهاد في سبيل اللَّه، الجهاد في سبيل اللَّه"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الطبقات الكبرى" 2/ 52.

ص: 502

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 1545 و 1546 و 1547 و 1548 و 1549 و 1550 و 1551 و 1552 و 1553 و 1554](677)، و (البخاريّ) في "الوتر"(1001 و 1002 و 1003 و 1004) و"الجنائز"(1300) و"الجهاد"(2801 و 2814 و 3064) و" الجزية"(3170) و"المغازي"(4091 و 4094 و 4095 و 4096) و"الدعوات"(6494) و"الاعتصام"(7341)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1440 و 1444 و 1445)، و (النسائيّ) في "التطبيق"(1077)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4963)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 215)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 244)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 243 و 244)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 285)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1516 و 1517 و 1518 و 1519 و 1520 و 1521 و 1522 و 1523 و 1524 و 1525)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(620)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1973 و 1982 و 1985)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 199)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(635)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة القنوت للنوازل.

2 -

(ومنها): بيان ما أكرم اللَّه عز وجل به هؤلاء الصحابة الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل اللَّه، حيث أنزل فيهم قرآنًا يُتلى، ثم نسخت تلاوته، ونزل بدله قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية، فقد أخرج الطبريّ رحمه الله حديث أنس رضي الله عنه هذا من طريق عكرمة، عن إسحاق بن أبي طلحة، فقال في آخره: قال إسحاق: حدّثني أنس بن مالك، أن اللَّه أنزل فيهم قرآنًا:"بلّغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه"، ثم نُسخت، فرُفعت بعدما قرآناها زمانًا، وأنزل اللَّه تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]

(1)

.

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير"(1/ 584).

ص: 503

3 -

(ومنها): بيان جواز نسخ الخبر كالإنشاء، ولا يكون نسخه تكذيبًا، وإنما يكون نسخه رفع تلاوة فقط، كما أن نسخ الأحكام ترك العمل بها، فربما عُوّض من المنسوخ من الأحكام حكم غيره، وربّما لم يُعوّض عنه، وكذلك نسخ الخبر معناه رفع ذكره، وترك تلاوته، لا أن يُكَذَّب بخبر آخر مضادّ له، ومثله مما نُسخ من الخبر ما كان يُقرأ في القرآن:"لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثًا"، أفاده في "العمدة"

(1)

.

وبقيّة الفوائد تقدّمت في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1546]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ قَالَ

(2)

: نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، فإسماعيل ابن عُليّة، وأيوب السختيانيّ تقدّما في الباب الماضي، ومحمد بن سيرين تقدّم قبل خمسة أبواب، والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (قُلْتُ لِأَنَسٍ) بَيّنت رواية المصنّف ما وقع في رواية البخاريّ من إبهام السائل، ولفظه:"سُئل أنس: أقنت النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصبح؟ "، فتبيّن بما هنا أن السائل هو محمد بن سيرين، فتنبّه.

وقوله: (قَالَ) وفي نسخة: "فقال".

وقوله: (بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا) قد تبيّن مقدار هذا اليسير بأنه شهر، في رواية أبي مِجْلَز، وأنس بن سيرين، وعاصم الأحول الآتية بعد هذا، وتمام

(1)

"عمدة القاري" 14/ 429 "كتاب الجهاد" رقم (3064).

(2)

وفي نسخة: "فقال".

ص: 504

شرح الحديث قد سبق، وكذا بيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1547]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَاللَّفْظُ لِابْنِ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا

(1)

الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَنَتَ

(2)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَيَقُولُ:"عُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الحنظليّ، ابن راهويه، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

5 -

(الْمُعْتَمرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

6 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طرخان البصريّ، تقدّم أيضًا قبل خمسة أبواب.

7 -

(أَبُو مِجْلَزٍ) -بكسر الميم، وسكون الجيم، وفتح اللام، بعدها زاي- لاحق بن حُميد بن سعيد، ويقال: شعبة بن خالد بن كثير بن حبيش بن عبد اللَّه بن سَدُوس السدوسيّ البصريّ الأعور، قدم خراسان، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من كبار [3].

رَوَى عن أبي موسى الأشعريّ، والحسن بن عليّ، ومعاوية، وعمران بن

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

(2)

وفي نسخة: "قال: قنت".

ص: 505

حُصين، وسمرة بن جندب، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة، وحفصة، وأم سلمة، وأنس، وجندب بن عبد اللَّه، وسلمة بن كُهيل، وقيس بن عُبَاد، وغيرهم، وأرسل عن عمر بن الخطاب، وحذيفة.

ورَوَى عنه قتادة، وأنس بن سيرين، وأبو التّيّاح، وسليمان التيميّ، وعاصم الأحول، وحبيب بن الشهيد، وأبو هاشم الرّمّاني، وعِمران بن حُدَير، وأبو مَكِين نوح بن ربيعة، ويزيد بن حيّان، أخو مقاتل، وعمارة بن أبي حفصة، وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وكان يحب عليًّا، وقال أبو زُرعة، وابن خِرَاش: ثقةٌ، وقال ابن حبان، عن ابن معين: مضطرب الحديث، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: لم يسمع من حذيفة، وقال ابن المدينيّ: لم يَلْقَ سَمُرة، ولا عمران، وقال الطيالسيّ، عن شعبة: كانت تجيئنا أحاديث عنه كأنه شيعيّ، وأحاديث كأنه عثمانيّ، وقال النضر بن شُميل، عن هشام بن حسان: كان أبو مِجْلز قَصيرًا عَليلًا، فإذا تكلم كان من الرجال، وقال رَوْح بن عُبادة، عن عمران بن حُدَير، عن أبي مِجْلز: شَهِدت بشهادة عند زُرَارة بن أوفى وحدي، فقَضَى بها، وقال ابن عبد البر: هو ثقةٌ عند جميعهم، وقال ابن أبي خيثمة: سئل ابن معين عن حديث التيميّ، عن أبي مِجْلَز، أن ابن عباس والحسن بن عليّ مَرَّت بهما جنازة؟ فقال: مرسل.

قال ابن سعد: تُوفي قبل الحسن، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: مات سنة مائة، أو إحدى ومائة، وقال خليفة: مات سنة ستّ، وقال عمرو بن عليّ، والترمذيّ: مات سنة تسع ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث برقم (677) و (752) وكرره ثلاث مرات و (1428) و (1850) و (3033).

8 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِك) رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه لا يوجد في الرواة من يشارك أبا مِجْلَزٍ في كنيته، ولا في اسمه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (عُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)"عُصيّة" مبتدأ خبره الجملة بعده.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى، شرحه، وبيان مسائله في الحديث

ص: 506

الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1548]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ

(1)

، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، يَدْعُو عَلَى بَنِي عُصَيَّةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون البغداديّ السمين، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(بَهْزُ بْن أَسَدٍ) الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد (200)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو موسى، أو أبو حمزة، أو أبو عبد اللَّه البصريّ، أخو محمد، ثقةٌ [3](ت 118) أو (120)(ع) تقدم في "المساجد" 47/ 1494.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1549]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، أَوْ بَعْدَ الرُّكُوعِ؟ فَقَالَ: قَبلَ الرُّكُوعِ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ

(1)

وفى نسخة: "حدّثنا بهزٌ".

ص: 507

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ: إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا، يَدْعُو عَلَى أُنَاسٍ قَتَلُوا أُنَاسًا

(1)

مِنْ أَصْحَابِهِ، يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَاصِم) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالإسنادين التاليين، وهو (96) من رباعيّات الكتاب.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1550]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْن أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عَلَى سَرِيَّةٍ مَا وَجَدَ عَلَى السَّبْعِينَ الَّذِينَ أُصِيبُوا يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، كَانُوا يُدْعَوْنَ الْقُرَّاءَ، فَمَكَثَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى قَتَلَتِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ابْن أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب، و"سُفْيَانُ": هو ابن عيينة، و"عاصم": هو الأحول.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه ولاحقه، وهو (97) من رباعيّات الكتاب.

(1)

وفي نسخة: "قتلوا ناسًا".

ص: 508

وقوله: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"ما" هذه نافية، بخلاف الآتية، فإنها مصدرية.

وقوله: (وَجَدَ) أي حَزِنَ، وهو بفتح الواو والجيم مثلّثة على ما قاله في "التاج"، واقتصر في "المصباح"، و"القاموس" على ضبطه بكسر الجيم فقط، وتعقّب ذلك في "التاج"، ودونك عبارته: قال عند قول صاحب "القاموس": "وَكَذَا في الحُزْنِ"، ولكن بِكَسْر ماضِيه، ما نصّه: مُرَاده أَن وَجِدَ في الحُزْنِ مِثْل وَجَدَ في الحُبِّ، أَي ليس له إَّلا مَصْدَرٌ واحِدٌ، وهو الوَجْدُ، وإِنما يخالفه في فِعْله، ففِعل الحُبِّ مفتوح، وفِعْل الحُزن مَكسورٌ، وهو المراد بقوله: ولكن بكسرِ ماضِيه، قال شيخُنا: والذي في "الفصيح" وغيرهِ من الأُمَّهات القديمةِ كـ "الصّحاح"، و"العَيْن"، و"مُخْتَصر العينِ" اقتَصَرُوا فيه على الفَتْح فقط، وكلامُ المصنّف

(1)

صَرِيحٌ في أَنه إِنما يُقال بالكَسْرِ فقطْ، وهو غَرِيبٌ، فإِن الذين حَكَوْا فيه الكَسْرَ ذَكَرُوه مع الفَتْح الذي وَقَعَتْ عليه كَلِمَةُ الجماهيرِ، نَعمْ حَكَى اللَّحْيَاني فيه الكسْرَ والضَّمَّ في كتابِه "النوادِر"، فظَنَّ ابنُ سِيدَه أَن الفَتْحَ الذي هو اللغةُ المشهورةُ غير مَسمُوعٍ فيه، واقتصر في "الْمُحكمِ" على ذِكْرِهما فقط، دون اللغَةِ المشهورةِ في الدَّوَاوِين، وهو وَهَمٌ. انتهى.

قلت

(2)

والذي في "اللسانِ": ووَجَدَ الرَّجُلُ في الحُزْنِ وَجْدًا بالفتح، ووَجِدَ - كِلَاهُمَا عن اللِّحيانيّ: حَزِنَ فهو مُخَالِفٌ لما نَقَلَه شَيْخُنَا عن اللِّحْيَانيّ من الكَسْرِ والضّمِّ، فليتأَمَّل.

ثم قال شيخُنَا: وابنُ سِيدَهْ خالَفَ الجُمْهُورَ، فَأَسْقَطَ اللُّغَةَ المشهورَةَ، والمُصَنِّف

(3)

خالَف ابنَ سِيدَهْ الذي هو مُقْتَدَاه في هذه المادَّةِ، فاقتَصَر على الكَسْرِ، كأَنَّه مُرَاعاةً لِرَدِيفه الذي هو حَزِنَ، وعلى كُلِّ حالٍ فهو قُصُورٌ وإِخلالٌ، والكَسْر الذي ذَكَرَه قد حكاه الهَجَرِيُّ، وأَنشَدَ [من الطويل]:

فَوَاكَبِدَا مِمَّا وَجِدْتُ مِن الأَسَى

لَدَى رَمْسِه بَيْنَ القَطِيلِ المُشَذَّب

قال: وكأَنَّ كَسْر الجِيمِ مِن لُغَتِه، فتحَصَّل مِن مجموعِ كَلامِهم أَنَّ وَجَدَ

(1)

أي صاحب "القاموس".

(2)

القائل هو صاحب "التاج".

(3)

أي صاحب "القاموس".

ص: 509

بمعنى حَزِن فيه ثلاثُ لُغَاتٍ؛ الفتْح الذي هو المشهور، وعليه الجمهور، والكسْر الذي عليه اقتصر المُصَنِّف، والهَجَرِيّ، وغيرُهما، والضمُّ الذي حكاه اللِّحيانيّ في "نَوَادِرِه"، ونقلَهما ابنُ سِيده في "المُحْكَم"، مقتَصِرًا عليهما. انتهى كلام صاحب "التاج"

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(عَلَى سَرِيَّةٍ) بفتح السين المهملة، وكسر الراء، وتشديد الياء، قال الفيّوميّ رحمه الله:"السّرِيّةُ": قِطْعةٌ من الجيش، فعيلة بمعنى فاعلة؛ لأنها تسري في خُفْية، والجمع: سرَايَا، وسَرِيّات، مثلُ عَطِيّة، وعَطَايَا وعَطِيّات. انتهى

(2)

.

وقوله: (مَما وَجَدَ عَلَى السَّبْعِينَ. . . إلخ)"ما" هذه مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول مطلقٌ لـ "وَجِدَ"، أي وَجْدَه على السبعين.

وقوله: (عَلَى قَتَلَتِهِمْ) بفتحات جمع قاتل، ككافر وكَفَرَة، والجمع على فَعَلَة مطّردٌ في كل وصف على فاعل، صحيح اللام، لمذكّر عاقل، ككامل وكَمَلَةٍ، كما قال في "الخلاصة":

فِي نَحْوِ "رَامٍ" ذُو اطِّرَادٍ "فُعَلَهْ"

وَشَاعَ نَحْوُ "كَامِلٍ وَكَمَلَهْ"

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1551]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(3)

أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، وَابْنُ فُضَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَفْص) بن غياث، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ فُضَيْل) هو: محمد، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 533 - 534.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 275.

(3)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 510

3 -

(مَرْوَانُ) بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفَزَاريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثم المكيّ، ثم الدمشقيّ، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 8/ 138.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقيه، وهو (98) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عَاصِمٍ) أي كل هؤلاء الثلاثة: حفص بن غياث، ومحمد بن فضيل، ومروان بن معاوية حَدّثوا عن عاصم الأحول بهذا الحديث الماضي.

وقوله: (يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يعني أن رواية بعض هؤلاء الثلاثة تزيد على رواية بعضهم.

[تنبيه]: أما رواية محمد بن فُضيل، عن عاصم، فساقها أبو عوانة في "مسنده" (2/ 25) فقال:

(2183)

حدّثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: ثنا ابن فُضيل، عن عاصم الأحول، عن أنس، قال: قَنَتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع حين قُتِلَ القُرّاء، فما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَزِنَ حُزْنًا قط أشدّ منه. انتهى.

وأما رواية حفص، ومروان، فلم أجد من ساقهما، فليُنظَر.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1552]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا، يَلْعَنُ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الشاميّ، نزيل بغداد، أبو عبد الرحمن، ويلقّب شاذان، ثقة [9].

ص: 511

رَوَى عن شعبة، والحمادين، والثوري، والحسن بن صالح، وجرير بن حازم، وجماعة.

ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وابنا أبي شيبة، وعلي ابن المديني، وأبو ثور، وعمرو الناقد، وأبو كريب، والصغاني، والدارمي، والحارث بن أبي أسامة، خاتمة أصحابه، وغيرهم. قال ابن معين: لا بأس به، وقال ابن المديني: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوق صالح، وقال ابن سعد: صالح الحديث، مات سنة (208)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات أول سنة ثمان.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (677) و (1206) و (1449) و (1463) و (2122) و (2363) و (2779) و (2903).

2 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (يَلْعَنُ) -بفتح أوله، وثالثه- يقال: لَعَنه لَعْنًا، من باب نَفَعَ: طَرَدَه، وأبعده، أو سَبّه، فهو لعينٌ، وملعون

(1)

، والمراد هنا: يدعو عليهم بأن يطردهم اللَّه تعالى عن رحمته، ويُبعدهم عن خيراته.

وقوله: (عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) تقدّم أنه يَحْتَمِل أن تعود هذه الجملة إلى القبائل الثلاث، وهو الظاهر، ويَحْتَمِل أن يعود إلى الأخيرة.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1553]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).

(1)

"المصباح المنير" 2/ 554.

ص: 512

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُوسَى بْنُ أَنَسِ) بن مالك الأنصاريّ، قاضي البصرة، ثقةٌ [4] مات بعد أخيه النضر (ع) تقدم في "المساجد" 49/ 1503.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (بِنَحْوِهِ) يعني أن موسى بن أنس حدّث عن أبيه أنس بن مالك رضي الله عنه نحو ما حدّث به قتادة عنه.

[تنبيه]: رواية موسى بن أنس، عن أبيه هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 272) فقال:

(1524)

حدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا علي بن سعيد، ثنا محمد بن يحيى الأزديّ، ثنا الأسود بن عامر، نا شعبة، عن موسى بن أنس، عن أنس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شهرًا، يدعو على رِعْل، وذَكْوان، وعُصَيّة عصت اللَّه ورسوله". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1554]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ، مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ الإمام الناقد البصير الحجة الثبت [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(هِشَامٌ) الدستَوائيّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا في السند الماضي.

ص: 513

وقوله: (عَلَى أَحْيَاءٍ) -بفتح الهمزة-: جمع حَيّ، بمعنى القبيلة.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1555]

(678) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ بَشَارٍ) هو: محمد المعروف ببُنْدار، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُنْدَر، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابد، رمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

4 -

(ابْنُ أَبِي لَيْلَى) هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

5 -

(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِب) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، وكلاهما ممن اتّفق الأئمة الستة بالرواية عنهما بلا واسطة.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 514

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن ابن أبي ليلى.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) الْجَمَليّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ) عبد الرحمن (بْنَ أَبِي لَيْلَى) اختُلف في اسمه، فقيل: بلال، وقيل: بُليل -بالتصغير- وقيل: اسمه داود بن بلال بن بُليل بن أُحَيحة بن الْجُلاح بن الْحَرِيش بن جَحْجَبَى بن كُلْفَة بن عوف بن عمرو بن عوف،، وقيل: يسار -بالتحتانيّة- ابن نُمير، وقيل: أوس بن خَوْليّ، وقيل: لا يُحفظ اسمه، صحابيّ شَهِدَ أُحُدًا وما بعدها، وانتقل إلى الكوفة، وشهِدَ مع عليّ مشاهده، قاله ابن عبد البرّ، وقال غيره: قُتِل بصفّين مع عليّ رضي الله عنه

(1)

. (قَالَ: حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْنُتُ) من باب قعد، أي يدعو (فِي) صلاة (الصُّبْحِ، وَ) صلاة (الْمَغْرِبِ) هذا القنوت هو الذي تقدّم في حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أنه قنته صلى الله عليه وسلم حين دعا على قوم، ولقوم.

وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع اللَّه من حمده، من الركعة الآخرة، يدعو على أحياء من بني سُلَيم، على رِعْل، وذَكْوان، وعُصَيّة، ويُؤَمِّن مَن خَلْفَهُ

(2)

.

زاد في رواية أحمد: "أرسل إليهم، يدعوهم إلى الإسلام، فقتلوهم". انتهى.

قال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله: في "النيل": واحتَجّ بهذا الحديث من أثبت القنوت في الصبح، ويجاب بأنه لا نزاع في وقع القنوت منه صلى الله عليه وسلم في الصبح، وإنما النزاع في استمرار مشروعيته.

فإن قالوا: لفظ "كان يفعل" يدُلّ على استمرار المشروعية، قلنا: إن النوويّ قد حَكَى عن جمهور المحققين أنها لا تدلّ على ذلك.

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 579.

(2)

راجع: "مسند أحمد" رقم (2741)، و"سنن أبي داود" برقم (1443).

ص: 515

سلّمنا فغايته مجرد الاستمرار، وهو لا ينافي الترك آخرًا، كما صرحت به الأدلة الأخرى.

على أن هذا الحديث فيه أنه كان يفعل ذلك في الفجر والمغرب، فما هو جوابكم عن المغرب، فهو جوابنا عن الفجر.

وأيضًا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتَّفَق عليه أنه كان يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح، فما هو جوابكم عن مدلول لفظ "كان" ها هنا فهو جوابنا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن الحقّ ما ذهب إليه من قال: إن القنوت مختصّ بالنوازل، وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تختصّ به صلاة دون صلاة.

وقد أخرج ابن خزيمة، من حديث أنس رضي الله عنه وابن حبّان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد"، حديث صحيح.

وأما حديث أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا، يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة، ثم ترك، فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، فقد تقدّم أنه حديث ضعيف، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المساله الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 1555 و 1556](678)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1441)، و (الترمذيّ) فيها (401)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(1076)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 311 و 318)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4975)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(737)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 280 و 285 و 300)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 375)، و (الطحاويّ) في

ص: 516

"شرح معاني الآثار"(1/ 242)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(616)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1980)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2191 و 2192)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1526 و 1527)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 198)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1556]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ

(1)

، قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ).

رجال الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سُنّيٌّ، من كبار [9](ت 199) عن (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وكذا الحديث، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1557]

(679) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةٍ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ، وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ، عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ").

(1)

وفي نسخة: "عن البراء بن عازب".

ص: 517

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ) القرشيّ العامريّ المصريّ، ويقال: مولى أبي خِرَاش السّلَميّ المدنيّ، نزيل الإسكندرية، ثقة [5].

رَوَى عن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، ومالك بن أوس بن الْحَدَثان، وسلمان الأغرّ، وسليمان بن يسار، وعمر بن الحكم بن رافع، وحنظلة بن عليّ السلميّ، وعروة بن الزبير، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه عبد الحميد، وعبد ربه بن سعيد، ويزيد بن أبي حبيب، ومحمد بن إسحاق، ويونس بن يزيد، وعبد الحميد بن جعفر، والليث بن سعد، والوليد بن أبي الوليد المدنيّ، وآخرون.

قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن إسحاق: حدّثني عمران بن أبي أنس، وكان ثقةً، وقال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ.

وقال ابن سعد: كانوا يزعمون أنهم من بني عامر بن لؤيّ، والناس يقولون: إنهم موالي، ثم انتَمَوْا بعد ذلك إلى اليمن، ومات عمران قديمًا، وله أحاديث.

وقال ابن يونس: قَدِمَ الإسكندرية سنة مائة، وكان سماع الليث منه بالمدينة، تُوُفّي بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة، وكذا أَرَّخه ابن حبان في "الثقات"، وزعم أن اسم أبيه عبد العزيز بن شُرَحبيل بن حَسَنَة.

وحُكِيَ عن ابن أبى شيبة، أن أبا أنس كان مولى لعبد اللَّه بن سعد بن أبي سَرْح، واسمه نوفل.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (679) وأعاده في "فضائل الصحابة" برقم (2517)، و (1397) و (1469) و (1480).

3 -

(حَنْظَلَةُ بْنُ عَلِيٍّ) بن الأسقع الأسلميّ، ويقال: السَّلَميّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن حمزة بن عمرو، وخُفَاف بن إيماء الغفاريّ، ورافع بن خَدِيج، وربيعة بن كدب، ومِحْجَن بن الأدرع، وأبي هريرة.

ص: 518

وروى عنه عبد اللَّه بن بُريدة، وعبد الرحمن بن حَرْملة الأسلميّ، وعمران بن أبي أنس، والزهريّ، وأبو الزناد، وجماعة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال العجليّ: قال البخاريّ: ويقال: ابن الأسقع.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (679) وأعاده بعده، وفي "فضائل الصحابة" برقم (2517)، وحديث رقم (1252).

4 -

(خُفَافُ بْنُ إِيمَاءٍ

(1)

الْغِفَارِيُّ) هو: خُفَاف -بضمّ أوله، وفائين- ابن إيماء -بكسر الهمزة، بعدها تحتانيّة ساكنة- ابن رَحَضَة الغفاريّ، إمام بني غفار.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه الحارث، وحنظلة بن عليّ الأسلميّ، ومِقْسَم، والصحيح أن بينهما رجلًا.

رَوَى البخاريّ من طريق أسلم، قال: خرجت مع عُمر إلى السوق، فلحقته امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين أنا ابنة خُفَاف بن إيماء، وقد شَهِد أبي الحديبية، في حديث طويل.

قال الحافظ: وهذا يدلّ على أنه مات قبل ذلك، وقد كتب المزّيّ في الحاشية أنه تُوُفّي بالمدينة، في خلافة عمر. انتهى. وقال أبو القاسم البغويّ: بلغني أنه مات في زمن عمر رضي الله عنه.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده إلا هذا الحديث فقط، برقم (679) وأعاده بعده، وأعاده أيضًا في "فضائل الصحابة" برقم (2517).

والباقيان ذُكرا أول الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

قال النوويّ في "شرحه": "خُفَاف" بضمّ المعجمة، و"إيماء" بكسر الهمزة، وهو مصروفٌ. انتهى.

ص: 519

2 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمران، عن حنظلة.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا حديث الباب عند المصنّف، وله ذكر في "صحيح البخاريّ"، كما أسلفناه في ترجمته آنفًا في قصّة بنته مع عمر رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ خُفَافِ) بضمّ الخاء، وتخفيف الفاء (ابْنِ إِيمَاءٍ) بكسر الهمزة، وهو منصرف، كما قاله النوويّ (الْغِفَارِيِّ) بكسر الغين المعجمة، وتخفيف الفاء، نسبة إلى القبيلة التي تأتي في الحديث، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةٍ) وفي رواية الحارث بن خفاف التالية: "قال خفاف بن إيماء: ركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه، فقال: غفار. . . "("اللَّهُمَّ الْعَنْ) تقدّم أنه من باب نَفَعَ، أي اطرُد، وأبعِدْ (بَنِي لِحْيَانَ) بكسر اللام، وقيل: يجوز فتحها (وَرِعْلًا) بكسر، فسكون (وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ) بصيغة التصغير (عَصَوُا اللَّهَ) عز وجل (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم، أي لأنهم عاهدوه، فغدروا، كما تقدّم بيان ذلك في شرح حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الباب.

ثمّ قال صلى الله عليه وسلم بعد لعنه القبائل المتمرّدة المعرضة عن الحقّ، مبيّنًا مناقب القبائل المستجيبة للَّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم:(غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا)"غِفَارُ" -بكسر الغين المعجمة، وتخفيف الفاء، وبالراء-: أبو قبيلة من كنانة، وهم: بنو غِفَار بن مُلَيل -بميم، ولامين، مصغرًا- ابن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، قال ابن دُرَيد: هو مِن غَفَرَ: إذا سَتَرَ، وسبق منهم إلى الإسلام، أبو ذرّ الغفاريّ، وأخوه أُنيس، ورجع أبو ذرّ إلى قومه، فأسلم الكثير منهم.

(وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ")"أسلمُ" -بالهمزة، واللام المفتوحتين-: قبيلة أيضًا من خُزَاعة، وهي: أسلم بن أفصى، وهو خُزَاعة بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، منهم سلمة الأكوع، وفي مَذْحِج أسلم بن أوس اللَّه بن سعد العشيرة بن مَذْحِج، وفي بَجِيلة أسلم بطن، هو أسلم بن عمرو بن لُؤيّ بن

ص: 520

رُهْم بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن بَجِيلة، ذكره ابن الكلبيّ

(1)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي عند المصنّف في "الفضائل" زيادة، ولفظه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أسلم سالمها اللَّه، وغِفَار غفر اللَّه لها، أَمَا إني لم أقلها، ولكن قالها اللَّه عز وجل"

(2)

.

قال في "الفتح": قوله: "غِفَارُ غفر اللَّه لها" هو لفظُ خَبَرٍ يراد به الدعاءُ، ويَحْتَمِلُ أن يكون خبراَ على بابه، ويُؤَيِّده قوله في آخره:"وعُصَيَّةُ عصت اللَّه ورسوله". انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير: قوله: "غِفَار غفر اللَّه لها" يَحْتَمِل أن يكون دعاء لها بالمغفرة، أو إخبارًا بأن اللَّه تعالى قد غَفَرَ لها، وكذلك معنى "أسلمُ سالمها اللَّه" يَحْتَمِل أن يكون دعاءً لها، أن يسالمها اللَّه تعالى، ولا يأمرَ بحربها، أو يكون إخبارًا بأن اللَّه قد سالمها، ومَنَعَ من حربها، وإنما خُصَّت هاتان القبيلتان بالدعاء؛ لأن غِفَارًا أسلموا قديمًا، وأسلمُ سالموا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكره في "العمدة"

(4)

.

وقال في "الفتح": حَكَى ابن التين أن بني غفار كانوا يَسْرِقون الحاجّ في الجاهلية، فدعا لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا؛ لِيُمْحَى عنهم ذلك العارُ. انتهى

(5)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث خُفَاف بن إيماء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

راجع: "عمدة القاري" 7/ 26.

(2)

سيأتي في "صحيح مسلم" في "كتاب فضائل الصحابة" برقم (2516).

(3)

"الفتح" 6/ 628 "كتاب المناقب" رقم (3514).

(4)

"عمدة القاري" 7/ 27.

(5)

"الفتح" 6/ 628 - 629 "كتاب المناقب" رقم (3514).

ص: 521

أخرجه (المصنّف) هنا [156/ 557 و 1558 و 1559](679) وسيعيده بنفس السند هذا في "فضائل الصحابة"(2517)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 57)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2174 و 2175 و 2176)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1528 و 1529)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة الدعاء في النوازل.

2 -

(ومنها): بيان فضائل هاتين القبيلين، حيث استجابتا لأمر اللَّه عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

3 -

(ومنها): بيان خزي من أعرض عن أمر اللَّه تعالى، وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم، كهذه القبائل الأربع.

4 -

(ومنها): أن فيه الدعاءَ بما يُشْتَقُّ من الاسم، كما يقال لأحمد: أحمد اللَّه عاقبتك، ولعليّ: أعلاك اللَّه، وهو من جناس الاشتقاق، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": وقع في هذا الحديث من استعمال جناس الاشتقاق ما يَلِذّ على السمع؛ لسهولته، وانسجامه، وهو من الاتفاقات اللطيفة. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): مشروعيّة الدعاء على الظالم بالهلاك، والدعاء للمؤمنين بالنجاة، وقال بعضهم: إن كانوا منتهكين لحرمة الدين يُدْعَى عليهم بالهلاك، وإلا يُدْعَى لهم بالتوبة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم اهْدِ دَوْسًا، وأْتِ بهم"، ورُوي أن أبا بكر وزوجته رضي الله عنهما كانا يدعوان على عبد الرحمن ابنهما يوم بدر بالهلاك، إذا حَمَلَ على المسلمين، وإذا أدبر يدعوان له بالتوبة

(3)

، قاله في "العمدة"

(4)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"عمدة القاري" 7/ 27.

(2)

"الفتح" 6/ 628 - 629 "كتاب المناقب" رقم (3514).

(3)

هذه الحكاية لم أر سندها، فتحتاج إلى النظر، واللَّه تعالى أعلم.

(4)

"عمدة القاري" 7/ 27.

ص: 522

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1558]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ خُفَافٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءٍ: رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:"غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ، وَعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ، وَالْعَنْ رِعْلًا، وَذَكْوَانَ"، ثُمَّ وَقَعَ سَاجِدًا، قَالَ خُفَافٌ: فَجُعِلَتْ لَعْنَةُ الْكَفَرَةِ

(1)

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السَّعْديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن جعفر

(2)

بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو) بن علقمة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

6 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرْمَلَةَ) الْمُدْلِجيّ الحجازيّ، مقبول، ووَهِمَ من ذكره في الصحابة [6].

(1)

وفي نسخة: "فجُعلت لعنة اللَّه على الكفرة".

(2)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وقع في "برنامج الحديث" للكتب التسعة هنا وفي السند التالي غلط، وذلك أنه ترجم لإسماعيل ابن عليّة، والصواب إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، كما نصّ عليه أبو عوانة في "مسنده" 2/ 23 و"أبو نعيم في "مستخرجه" 2/ 274 والمزيّ في "تحفة الأشراف" 3/ 58، فليُتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 523

رَوَى عن الحارث بن خُفَاف بن إيماء، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

وروى عنه محمد بن عمرو بن علقمة، ومحمد بن يحيى الأسلميّ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البخاريّ: حديثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلٌ. انتهى.

قال الحافظ: وذكره لأجل هذا الحديث، ومتنه:"خَيركم الْمُدَافِعُ عن قومه" في "الصحابة" البغويّ، وقال: لا أدري، له صحبة أم لا؟، وذكره فيهم ابن أبي عاصم، وابن منده، وأبو نعيم.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده إلا هذا الحديث فقط.

7 -

(الْحَارِثُ بْنُ خُفَاف) بن إيماء بن رَحَضَةَ الغفاريّ، مختلف في صحبته، رَوَى عن أبيه، وعنه خالد بن عبد اللَّه بن حرملة المدلجيّ، وذكره ابن حبّان في ثقات التابعين.

وفي "صحيح البخاريّ"، من طريق أسلم مولى عمر، قال: قال عمر: "لقد رأيت أبا هذه -يعني بنت خُفَاف-، وأخاها حاصَرَا حصنًا زمانًا"

(1)

. انتهى.

(1)

قال الإمام البخاريّ رحمه الله: (4161) حدّثنا إسماعيل بن عبد اللَّه، قال: حدّثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فَلَحِقت عمر امرأة شابّة، فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي، وترك صبية صغارًا، واللَّه ما يُنضجون كُرَاعًا، ولا لهم زرع، ولا ضرع، وخَشِيت أن تأكلهم الضَّبُعُ، وأنا بنت خُفَاف بن إيماء الغفاريّ، وقد شَهِدَ أبي الحديبية مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر، ولم يَمْضِ، ثم قال: مرحبًا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظَهِير، كان مربوطًا في الدار، فَحَمَل عليه غِرَارتين، ملأهما طعامًا، وحمل بينهما نفقةً، وثيابًا، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يَفْنَى حتى يأتيكم اللَّه بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها، قال عمر: ثكلتك أمك، واللَّه إني لأرى أبا هذه، وأخاها، قد حاصَرَا حِصْنًا زمانًا، فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه. انتهى.

ص: 524

قال في "تهذيب التهذيب": فعلى هذا فهو صحابيّ؛ لأنهم ذكروا لخفاف ولدين: الحارث، ومَخْلَدًا، ومخلد تابعيّ باتفاق، فانحصر في الحارث. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال الحافظ في "التهذيب"، لكن ذكر في "الفتح" ما يُخالف هذا، حيث قال: قوله: "وأخاها" لم أقف على اسمه، وكان لخُفاف ابنان: الحارث، ومَخْلد، لكنهما تابعيّان، فوهِمَ من فسّر الأخ الذي ذكره عمر بأحدهما. انتهى

(1)

، فليُتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.

و"خُفاف" ذُكر قبله.

وقوله: (فَجُعِلَتْ لَعْنَةُ الْكَفَرَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أي شُرع لعن الكفّار بعدما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة، يعني أن لعن الكفّار ما كان مشروعًا قبل ذلك، فشُرع من ذلك الوقت، فإذا اعتدوا على المسلمين ينبغي الدعاء عليهم؛ اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1559]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيُّ بْنِ الْأَسْقَعِ، عَنْ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءٍ، بِمِثْلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: فَجُعِلَتْ لَعْنَةُ الْكَفَرَةِ

(2)

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قبله، غير:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ) بن عمرو بن سَنَّةَ -بفتح السين المهملة، وتشديد النون- الأسلميّ، أبو حرملة المدنيّ، صدوقٌ، ربّما أخطأ [6].

(1)

"الفتح" 7/ 511 "كتاب المغازي" رقم (4160).

(2)

وفي نسخة: "فجُعلت لعنة اللَّه على الكفرة".

ص: 525

رَوَى عن سعيد بن المسيّب، وحنظلة بن عليّ الأسلميّ، وعمرو بن شعيب، وعبد اللَّه بن نِيَمار بن مُكْرَم الأسلميّ، وثُمَامة بن شُفَيّ أبي علي الهمدانيّ، وغيرهم.

وروى عنه الثوريّ، والأوزاعيّ، ومالك، وسليمان بن بلال، وابن أبي الزناد، والدَّرَاورديّ، وإسماعيل بن جعفر، وحاتم بن إسماعيل، وبشر بن المفضَّل، وابن عُلَيّة، والقطان، وجماعة.

قال يحيى بن سعيد عنه: كنت سَيِّئ الحفظ، فرَخَّص لي سعيد في الكتابة، قال يحيى بن سعيد: محمد بن عَمْرو أحبّ إلي من ابن حرملة، وكان ابن حرملة يُلَقَّن، وقال ابن خلاد الباهليّ: سألت القطان عنه؟ فضعّفه، ولم يدفعه، وقال إسحاق، عن ابن معين: صالحٌ، وقال أبو حاتم: يُكْتَب حديثه، ولا يُحتجّ به، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال محمد بن عمرو: كان ثقةً كثير الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، وقال الساجيّ: صدوقٌ يَهِمُ في الحديث، وقال ابن عديّ: لم أر في حديثه حديثًا منكرًا، ونقل ابن خَلْفُون عن ابن نمير أنه وَثَّقه، وقال الطحاويّ: لا يُعْرَف له سماع من أبي عليّ الهمدانيّ.

وقال ابن سعد: تُوُفّي سنة خمس وأربعين ومائة.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث متابعةً.

وقوله: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) هو ابن جعفر، وليس ابن عُليّة، كما أخطأ فيه بعضهم.

وقوله: (وَأَخْبَرَنِيهِ) أي هذا الحديث.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن عبد الرحمن بن حرملة حدّث إسماعيل بن جعفر بمثل ما حدثه به محمد بن عمرو.

وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ. . . إلخ) الضمير لعبد الرحمن بن حرملة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 526

(57) - (بَابُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، وَكَيْفِيَّةِ قَضَائِهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1560]

(680) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَهُ

(1)

، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى عَرَّسَ، وَقَالَ لِبِلَالٍ:"اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ"، فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلَالٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ، مُوَاجِهَ الْفَجْرِ، فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا بِلَالٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا، فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَيْ بِلَالُ"، فَقَالَ بِلَالٌ: أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنَفْسِكَ

(2)

، قَالَ:"اقْتَادُوا"، فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ:"مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} "، قَالَ يُونُسُ: وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَؤُهَا لِلذِّكْرَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد اللَّه، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ فقيهٌ [9](ت 197) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونسُ) بن يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [3](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

(1)

وفي نسخة: "سار ليلة".

(2)

وفي نسخة: "الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه".

ص: 527

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الحافظ الفقيه الحجة، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، وبزيد نزل مصر، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ فقيه، عن تابعيّ فقيه: ابن شهاب، عن ابن المسيّب.

5 -

(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة.

6 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه على الإطلاق عند بعضهم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَفَلَ) أي رجع، يقال: قفل من سفره قُفُولًا، من باب قَعَدَ: رجع، والاسم قَفَلٌ بفتحتين، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أقفلته، والفاعل من الثلاثيّ قافلٌ، والجمع قافلة، وجمع القافلة قَوَافل، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقوله: (مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ)"الْغَزْوَة" بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي: المرّة من الغَزْو، والجمع: غَزَوات، مثلُ شَهْوَة وشَهَوَات، ويقال فيها:"الْغَزَاة" بالفتح أيضًا، قال في "القاموس": فَغَزاه غَزْوًا: أراده، وطلبه، وقصده،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 511.

ص: 528

كاغتزاه، والعدُوَّ: سار إلى قتالهم، وانتهابهم

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: "وخيبر" بالخاء المعجمة، هذا هو الصواب، وكذا ضبطناه، وكذا هو في أصول بلادنا من نسخ مسلم، قال الباجيّ، وأبو عمر بن عبد البرّ، وغيرهما: هذا هو الصواب، وقال القاضي عياض: هذا قول أهل السير، وهو الصحيح، قال: وقال الأصيليّ: إنما هو "حُنَين" بالحاء المهملة والنون، وهذا غريبٌ ضعيفٌ

(2)

.

وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد": وقولُ ابن شهاب في هذا الحديث، عن سعيد بن المسيب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قَفَلَ من خيبر أصحُّ من قول من قال: إن ذلك كان مرجعه من حُنَين؛ لأن ابن شهاب أعلم الناس بالسِّيَرِ والمغازي، وكذلك سعيد بن المسيِّب، ولا يقاس بهما المخالف لهما في ذلك، وكذلك ذَكَرَ ابنُ إسحاق وأهلُ السير أن نومه عن الصلاة في سفره كان في حين قُفُوله من خيبر، وقد اختُلِف عن مالك في ذلك، فرُوي عنه في هذا الحديث حين قَفَلَ من خيبر. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال في "التمهيد"

(4)

: كانت خيبر في سنة ست من الهجرة، هكذا قال، والذي ذهب إليه الجمهور أن غزوة خيبر كانت في المحرَّم سنة سبع من الهجرة، أقام صلى الله عليه وسلم يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتح اللَّه عليه وهي من المدينة على ثلاثة برود

(5)

.

[تنبيه آخر]: أخرج أبو حاتم بن حبّان في "صحيحه" هذا الحديث، ثم قال: أخبرنا ابن قتيبة بهذا الخبر، وقال فيه:"خيبر"، وأبو هريرة لم يشهد خيبر، إنما أسلم، وقدم المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر، وعلى المدينة سِبَاع بن عُرْفُطة، فإن صحّ ذكر خيبر في الخبر، فقد سمعه أبو هريرة من صحابي غيرِهِ، فأرسله كما يفعل ذلك الصحابة كثيرًا، وإن كان ذلك "حُنَين"، لا "خيبر"، وأبو هريرة شَهِدَها، وشهوده القصة التي حكاها شهود صحيحٌ، والنفس إلى أنه

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 369.

(2)

"شرح النووي" 5/ 181.

(3)

"التمهيد" 6/ 388 - 389.

(4)

راجع: "التمهيد" 6/ 392.

(5)

"المنهل العذب المورود" 4/ 21، و"تحفة الأحوذيّ" 8/ 485.

ص: 529

"حُنَين" أميل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن حبّان: من أن أبا هريرة رضي الله عنه سمعه من صحابيّ آخر فيه نظر لا يخفى؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه قد حضر آخر خيبر، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" فقال:

(8347)

حدّثنا عفّان، حدّثنا وُهيب، حدّثنا خثيم -يعني ابن عراك- عن أبيه، أن أبا هريرة قَدِمَ المدينة في رهط من قومه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد استَخْلَف سِبَاع بن عُرْفُطة على المدينة، قال: فانتهيت إليه، وهو يقرأ في صلاة الصبح، في الركعة الأولى، بـ {كهيعص} ، وفي الثانية:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ، قال: فقلت لنفسي: وَيْلٌ لفلان، إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص، قال: فلما صلى زَوَّدنا شيئًا، حتى أتينا خيبر، وقد افتَتَحَ النبيّ صلى الله عليه وسلم خيبر، قال: فكَلَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين، فأشركونا في سهامهم. انتهى

(2)

، وهو حديث صحيح.

فقد تبيّن بهذا أنه حضر خيبر، ورجع منها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد صرّح في هذا الحديث أن هذه القصّة وقعت حين قفوله صلى الله عليه وسلم منها، فليس فيه إرسال، بل هو إخبار بما شاهده بنفسه، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(سَارَ لَيْلَهُ) بالإضافة إلى الضمير، وفي نسخة:"ليلةً"، يقال: سار يسير سَيْرًا ومَسِيرًا، يكون بالليل والنهار، ويُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، فيقال: سار البعيرُ، وسِرْتُهُ، فهو مَسِيرٌ، وسيَّرتُ الرجل بالتثقيل، فسار

(3)

. (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْكَرَى عَرَّسَ) غاية للسير، وفي رواية الطبرانيّ عن ابن عمر:"حتى إذا كان مع السحر".

و"الْكَرَى" بفتح الكاف: النُّعاس، وقيل: النوم، يقال منه: كَرِيَ الرجلُ -بفتح الكاف، وكسر الراء- يَكْرَى، وِزانُ رَضِي كَرًى: إذا نَعِسَ، فهو كَرٍ، وكَرْيَانُ، وكَرِيٌّ، وامرأةٌ كَرِيَةٌ بتخفيف الياء

(4)

.

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 5/ 424 - 425.

(2)

"المسند" 2/ 345 - 346.

(3)

"المصباح" 1/ 299.

(4)

راجع: "القاموس" 4/ 382.

ص: 530

و"التَّعْرِيس": نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، هكذا قاله الخليل، والجمهور، وقال أبو زيد: هو النزول أَيَّ وقتٍ كان، من ليلٍ، أو نهار، وفي الحديث:"مُعَرِّسُون في نَحْرِ الظهيرة".

وفي رواية البخاريّ أنهم الذين سألوا التعريس، فقال صلى الله عليه وسلم:"أخاف أن تناموا"، فقال بلالٌ: أنا أُوقظكم، فأخذ، فأخذ لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ابتداءً بالأحوط، فلما رأى شدّة حاجتهم أباح لهم التعريس.

قال النوويّ: واختلفوا، هل كان هذا النوم مرة أو مرتين؟ وظاهر الأحاديث مرتان. انتهى.

(وَقَالَ لِبِلَالٍ) بن رَبَاح مؤذّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، المتوفّى سنة (17 أو 18 أو 20) بالشام رضي الله عنه ("اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ") أي ارْقُبْ لأجلنا الليلَ، واحفظه، واحرُسْهُ، وهو بهمزة الوصل، وفتح اللام، آخره همزة: فِعْلُ أمر من كَلأ يَكْلأُ، يقال: كلأه اللَّه يكلؤه مهموزًا كِلاءةً بالكسر والمدّ: حَفِظَهُ، ويجوز التخفيف، فيقال: كلَيْتُهُ أكلأه، وكَلِيتُهُ أكلاهُ، من باب تَعِبَ لغة لقريش، لكنّهم قالوا: مكلُوّ بالواو أكثرَ من مَكْليّ بالياء

(1)

.

وقال في "التمهيد"

(2)

: معناه: ارْقُبْ لنا الصبح، واحفظ علينا وقت صلاتنا، وأصل الكِلاءة: الحفظُ والرعاية، والمنعُ وهي كلمة مهموزة، ومنه قوله عز وجل:{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42]، ومنه قول ابن هرمة:

إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا

ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا

(فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ لَهُ) بالبناء للمفعول، أي ما يسّر اللَّه تعالى له من الصلاة (وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ) رضي الله عنهم (فَلَمَّا تَقَارَبَ الْفَجْرُ) أي طلوعه، وظهوره (اسْتَنَدَ بِلَالٌ) ببناء الفعل للفاعل، أي اعتمد، يقال: سند إلى الشيء سُنُودًا، من باب قَعَدَ، وسَنِدتُ أسنَدُ، من باب تَعِبَ لغةٌ، واستندت إليه، بمعنًى، ويتعدّى بالهمزة

(3)

. (إِلَى رَاحِلَتِهِ) أىِ هي المركب من الإبل ذكرًا كان

(1)

"المصباح المنير" 2/ 540.

(2)

"التمهيد" 6/ 391.

(3)

راجع: "المصباح" 1/ 291، و"القاموس" 1/ 303.

ص: 531

أو أنثى، وبعضهم يقول: الراحلة: الناقة التي تصلُحُ أن تُرْحَلَ، وجمعها: رَوَاحل

(1)

. (مُوَاجِهَ الْفَجْرِ) منصوب على الحال من "بلال"، أي حال كونه مستقبلًا مكان طُلُوع الفجر؛ لِيَرْقُبه حتى يوقظهم عقب طلوعه.

(فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا عبارة عن النوم، كأنّ عينيه غالبتاه، فغلبتاه على النوم. انتهى.

وحاصله أنه نام من غير اختياره.

(وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى رَاحِلَتِهِ) جملة حاليّة تُفيد كون نوم بلال رضي الله عنه عن غلبةٍ، لا عن تفريطه في الحِرَاسة (فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا بِلَالٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ) أي أصابهم حرّها، وهو غاية لعدم استيقاظهم.

[فإن قيل]: كيف نام النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"إن عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي"؟.

[أجيب] بجوابين: أصحهما وأشهرهما أنه لا منافاة بينهما؛ لأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به، كالحدث، والألم، ونحوهما، ولا يُدْرِك طلوعَ الفجر وغيره مما يتعلق بالعين، وإنما يُدْرَك ذلك بالعين، والعين نائمة، وإن كان القلب يقظان.

[والثاني]: أنه صلى الله عليه وسلم كان له حالان: أحدهما ينام فيه القلب، وصادف هذا الموضع، والثاني لا ينام، وهذا هو الغالب من أحواله، قال النووّي رحمه الله: وهذا التأويل ضعيفٌ، والصحيح المعتمد هو الأول. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وقد تكلم العلماء في الجمع بين حديث النوم هذا، وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي"، قال النوويّ: له جوابان، ثم ذكر كلامه المذكور آنفًا، ثم علّق على قوله: والصحيح المعتمد هو الأول والثاني ضعيف، ما نصّه: وهو كما قال، ولا يقال: القلب وإن كان لا يُدْرِك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلًا، لكنه يدرك إذا كان يقظان مرور الوقت الطويل، فإن من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حَمِيَت الشمس مدةً طويلةً لا تخفى على مَن لم يكن مستغرقًا؛ لأنا نقول: يَحْتَمِل أن يقال: كان قلبه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك

(1)

"المصباح" 1/ 222 - 223.

(2)

"شرح النووي" 5/ 184.

ص: 532

مستغرقًا بالوحي، ولا يلزم مع ذلك وصفه بالنوم، كما كان صلى الله عليه وسلم يستغرق حالة إلقاء الوحي في اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك بيانَ التشريع بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس، كما في قضية سهوه في الصلاة.

قال: وقريبٌ من هذا جواب ابن الْمُنَيِّر: أن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة؛ لمصلحة التشريع، ففي النوم بطريق الأولى، أو على السواء.

وقد أُجيب على أصل الإشكال بأجوبة أخرى ضعيفة.

منها: أن معنى قوله: "لا ينام قلبي" أي لا يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه.

ومنها: أن معناه لا يستغرق بالنوم حتى يوجد منه الحدث، وهذا قريب من الذي قبله.

قال ابن دقيق العيد: كأن قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد، وذلك أن قوله رضي الله عنهما:"إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي" خرج جوابًا عن قول عائشة رضي الله عنها: أتنام قبل أن توتر؟، وهذا كلام، لا تعلق له بانتقاض الطهارة الذي تكلموا فيه، وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر، فَتُحْمَل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وفرن بين مَن شرع في النوم مطمئنَّ القلب به، وبين من شرع فيه متعلقًا باليقظة، قال: فعلى هذا فلا تعارض، ولا إشكال في حديث النوم حتى طلعت الشمس؛ لأنه يُحْمَل على أنه اطمأنّ في نومه لِمَا أوجبه تعب السير معتمدًا على مَن وكله بكلاءة الفجر. انتهى.

ومُحَصّلهُ تخصيص اليقظة المفهومة من قوله: "ولا ينام قلبي" بإدراكه وقت الوتر إدراكًا معنويًّا لتعلقه به، وأن نومه في حديث الباب كان نومًا مستغرقًا، ويؤيده قول بلال له: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، كما في حديث أبي هريرة هذا، ولم ينكر عليه، ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقًا.

وقد اعتُرِضَ عليه بأن ما قاله يقتضي اعتبار خصوص السبب، وأجاب بأنه يُعْتَبَرُ إذا قامت عليه قرينة، وأرشد إليه السياق، وهو هنا كذلك.

ومن الأجوبة الضعيفة أيضًا: قول من قال: كان قلبه يقظان، وعَلِمَ بخروج الوقت، لكن ترك إعلامهم بذلك عمدًا لمصلحة التشريع، وقول من

ص: 533

قال: المراد بنفي النوم عن قلبه أنه لا يطرأ عليه أضغاث أحلام، كما يطرأ على غيره، بل كل ما يراه في نومه حَقّ ووحي، فهذه عدّة أجوبة، أقربها إلى الصواب الأولُ على الوجه الذي قرّرناه، واللَّه المستعان. انتهى ما ذكره في "الفتح"

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا)[فإن قيل]: هذا يعارضه حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما الآتي، ففيه:"فكان أول من استيقظ منّا أبو بكر. . . " الحديث.

وأجيب: بأنه لا تنافي بينهما لتعدّد القصّة، كما سيأتي تحقيق ذلك.

(فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الزاي، يقال: فَزعَ منه فَزَعًا، فهو فَزعٌ، من باب تَعِبَ: إذا خاف، وأفزعته، وفَزَّعته، ففزعَ، والمراد به هنا انتبه، وقام من نومه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في هذا الفَزَع، وفي سببه، فقال الأصيليّ: كان لأجل عدوّهم أن يكون اتّبعهم، فيجدهم على غِرّة، وقال غيره: لِمَا فاتهم من أمر الصلاة، ولم يكن عندهم حُكْمٌ من ذلك، وقد دلّ على هذا قولهم:"ما كفّارة ما صنعنا بتفريطنا؟ "، وهذا بَيِّنٌ في حقّهم.

وقد يكون الفَزَع بمعنى مبادرتهم إلى الصلاة، كما قال:"فافزعوا إلى الصلاة"، أي بادروا إليها.

وقد يكون فَزَعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم إجابةَ الفَزِعين من أصحابه، وإغاثتهم لِمَا نَزَلَ بهم، يقال: فَزِعتُ: استغثتُ، وفَزَعتُ: أغثتُ. انتهى

(2)

.

وقال في "المنهل": معنى "فَزِعَ": أي هَبَّ، وانتبه مذعورًا؛ لِمَا رأى من فوات الوقت، وما قاله الأصيليّ من أن فَزَعَهُ لأجل المشركين الذين رجع من غزوهم؛ لئلا يتبعوه، ويطلبوا أثره، فيجدوه، وجميع أصحابه نِيَامًا، غير مُسَلَّم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدوّ حين انصرافه من خيبر، وحُنين، ولا ذَكَرَ ذلك أحدٌ من أهل المغازي، بل انصَرَفَ منهما ظافرًا. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 536 - 537 "كتاب التيمّم" رقم (344).

(2)

"المفهم" 2/ 307.

(3)

"المنهل" 4/ 22.

ص: 534

وقال في "التمهيد": وفي فَزَع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دليلٌ على أن ذلك لم يكن من عادته منذ بُعِثَ -واللَّه أعلم- ولا معنى لقول من قال: إن فَزَع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان من أجل العدوّ الذي يتبعهم؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدوّ في انصرافه من خيبر، ولا في انصرافه من حُنين، ولا ذَكَر ذلك أحد من أهل المغازي، بل وإن منصرفه في كلتا الغزوتين غانمًا ظافرًا، قد هَزَمَ عدوّه، وظَفِر به، وقَمَعَهُ، والحمد للَّه.

وأما فَزَعُ أصحابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فَلِمَا رأوا من فَزَعه صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون فزعهم شفقةً، وتأسفًا على ما فاتهم من وقت الصلاة، ولعلهم حَسِبُوا أن الصلاة قد فاتتهم أصلًا، فلحقهم الفزع والحزن؛ لفوت الأجر والفضل، ولم يعرفوا أن خروج الوقت لا يُسقِط فرض الصلاة، حتى قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها، إذا ذكرها كما كان يصليها لوقتها"، فأخبرهم أنها غير ساقطة عنهم، وإذا لم تسقط عنهم صلوها، وإذا صلوها أدركوا أجرها إن شاء اللَّه، وأعلمهم صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن الإثم عنهم في ذلك ساقط بقوله:"ليس التفريط في النوم، وإنما التفريط في اليقظة"، وفي بعض ألفاظ حديث أبي قتادة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصلاة لا تفوت النائم، إنما تفوت اليقظان، ثم توضأ، وصلى بهم". انتهى بتصرّف

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيْ بِلَالُ)"أي" بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة: حرف نداء للبعيد، قال في "الخلاصة":

وَللْمُنَادَى النَّائِي أَوْ كَالنَّائِي "يَا"

وَ"أَيْ" وَ"آ" كَذَا "أَيَا" ثُمَّ "هَيَا"

وَالْهَمْزُ لِلدَّانِي وَ"وَا" لِمَنْ نُدِبْ

أَوْ "يَا" وَغَيْرُ "وَا" لَدَى اللَّبْسِ اجْتُنِبْ

والمعنى هنا: يا بلال لِمَ نِمْتَ؟ حتى خرج الوقت، فالعتاب محذوف، كما قدّمناه، وفي رواية ابن إسحاق:"ماذا صنعتَ بنا يا بلالُ؟ "، وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه:"قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا بلالُ أين ما قلت؟، قال: ما أُلْقِيت عليّ نومةٌ مثلها قطّ".

(1)

"التمهيد" 6/ 396 - 397.

ص: 535

وإنما قال له صلى الله عليه وسلم ذلك؛ تنبيهًا له على اجتناب الدعوى والثقة بالنفس، وحُسن الظنّ بها، ولا سيّما في مظانّ الغلبة، وسلب الاختيار، فإن بلالًا رضي الله عنه قد ألزم نفسه بحفظ الوقت بقوله:"أنا أوقظكم"، كما تقدّم من رواية البخاريّ

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أي بلال" هكذا هو في روايتنا، ونُسَخ بلادنا، وحَكَى القاضي عياض عن جماعة أنهم ضَبَطوه:"أين بلال؟ " بزيادة نون. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "أي بلال" كذا عند أكثر الرواة بأي التي للنداء، وعند العذريّ والسمرقنديّ:"أين بلال" بـ "أين" الظرفيّة. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ بِلَالٌ) رضي الله عنه معتذرًا (أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنَفْسِكَ) متعلّق بـ "أخذ"، وقوله:"بأبي أنت. . . إلخ" متعلّق بخبر محذوف، و"أنت مبتدأ"، أي أنت مفديّ بأبي وأمي، أو متعلّق بفعل مقدّر، أي أَفْديك بأبي وأمي، والجملة معترضة بين العامل، وهو "أخذ"، ومعموله، وهو "بنفسك"، ووقع في بعض النسخ:"أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه"، وهو واضح.

والمعنى: أن اللَّه تعالى قبض بنفسي بالنوم، كما قبض نفسك به، فلا قدرة على أداء ما التزمته من كِلاءة وقت الصلاة.

وقال القرطبي رحمه الله: قول بلال رضي الله عنه: "أخذ بنفسي. . . إلخ" على طريق العُذر مما كان تكفّل به، كما قدّمناه من رواية البخاريّ.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: أما قول بلال رضي الله عنه في هذا الحديث: "أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك"، فمعناه: قَبَضَ نفسي الذي قَبَضَ نفسك، والباء زائدة، أي تَوَفَّى نفسي مُتَوَفِّي نفسك، والتوفي: هو القبض نفسه، يعني أن اللَّه عز وجل قبض نفسه، وهذا قول مَن جَعَلَ النفس والروح شيئًا واحدًا، وهو الراجح، وسيأتي تمام البحث فيه في "المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(1)

"المنهل" 4/ 22.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 182.

(3)

"المفهم" 2/ 307.

ص: 536

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اقْتَادُوا") أي قُودوا رواحلكم، وهو افتعال من قاد، يقال: قاد الرجلُ الفرسَ قَوْدًا، من باب قال، وقِيَادًا بالكسر، وقِيادةً، قال الخليل: الْقَوْدُ أن يكون الرجل أمام الدابّة آخذًا بقيادها، والسوقُ أن يكون خلفها، فإن قادها لنفسه قيل: اقتادها. انتهى

(1)

.

وقيل: معنى "اقتادوا": أي قُودُوا رواحلكم لأنفسكم، آخذين بمقاودها، والْقَوْدُ: خلاف السَّوْقِ، ففي الْقَوْد يكون الرجل أمام الدّابّة، وفي السَّوْق يكون خلفها، فإن قادها لنفسه يقال: اقتادها، وقد جاء ما يوضّح هذا المعنى في الرواية الثانية، حيث قال:"ليأخذ كلُّ رجل برأس راحلته".

(فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ) أي اقتاد كل واحد راحلته لنفسه؛ انتقالًا من ذلك المنزل الذي فاتهم فيه أداء صلاة الصبح.

وقوله: (شَيْئًا) منصوب على الظرفيّة، أي وقتًا يسيرًا، أو مفعول مطلق على النيابة، أي اقتيادًا قليلًا بعد أن أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد بيّن لهم سبب الأمر باقتياد رواحلهم من ذلك المكان في رواية أبي حازم التالية:"ليأخذ كلُّ رجل برأس راحلته، فان هذا منزل حضرنا فيه الشيطان"، وفي رواية أبي داود:"تحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة".

قال في "المنهل": وأما قول بعضهم: إنما أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاقتياد؛ لأنه انتبه حين طلوع الشمس، والصلاةُ منهيّ عنها في هذا الوقت، فأمر بالاقتياد حتى ترتفع الشمس.

فيردّه قوله في الحديث: "حتى ضربتهم الشمس"، فإنه يدلّ على أنها قد ارتفعت كثيرًا، فكيف يكون انتقالهم لارتفاعها؟.

وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما الآتي: "فما أيقظنا إلا حرّ الشمس"، فإن هذا لا يكون إلا بعد ارتفاعها.

ومما يُبيّن فساد هذا التأويل ما وقع عند مالك في "الموطّأ"، بلفظ:"فأمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي، وقال: إن هذا واد به شيطان، فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي"، فقد جعل ذلك علّةً

(1)

"المصباح المنير" 2/ 518.

ص: 537

في خروجهم عن الوادي، واقتيادهم رواحلهم شيئًا، ولو كان طلوع الشمس مانعًا من الصلاة، وموجبًا للاقتياد لعلّل به. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَ بِلَالًا) أي أن يؤذّن، ثم يقيم (فَأَقَامَ الصَّلَاةَ) قال أبو عمر رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون المعنى: فأقام، ولم يؤذِّن، ويَحْتَمِل أن يكون أقام الصلاة بما تُقام به من الأذان والإقامة والطهارة، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه أمر بلالًا، فأذَّن، وأقام في حينِ نام عن الصلاة في السفر.

قال: وقد رَوَى أبان بن يزيد العطار، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذا الحديث، وذكر فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين قبل صلاة الفجر، ثم أمر بلالًا، فأقام، فصلى الفجر، وهذا ليس بمحفوظ في حديث الزهريّ، إلا من رواية أبان العطار، عن معمر، وأبان ليس بحجة، ولا تُقبل زيادته على عبد الرزاق؛ لأن عبد الرزاق أثبت الناس في معمر عندهم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد اختلف العلماء في الأذان والإقامة للصلاة الفائتة، والأرجح مشروعيّتهما لها، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ) أي صلاة الصبح (فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ) أي انتهى منها بالسلام (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة (نَسِيَ الصَّلَاةَ) أي أو نام عنها، ففي حديث أنس رضي الله عنه الآتي آخر الباب:"من نسي صلاةً، أو نام عنها"، وفي لفظ:"إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غَفَلَ عنها، فليُصلّها إذا ذكرها"(فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) أي وقت ذكرها، وفيه أن جميع الأوقات وقت للصلاة الفائتة، فلو تذكّرها وقت الطلوع، أو الغروب قضاها، وليس عليه أن ينتظر خروج وقت النهي؛ لأن ذلك الوقت وقت أدائها، كما هو ظاهر هذا الحديث.

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: ليس في تخصيص الناسي والنائم بالذكر في

(1)

راجع: "المنهل العذب المورود" 4/ 23.

(2)

"التمهيد" 6/ 410.

ص: 538

قضاء الصلاة، ما يُسْقِط قضاءها عن العامد؛ لتركها حتى يَخْرُج وقتها، بل فيه أوضح الدلائل على أن العامد المأثوم أولى أن يؤمر بالقضاء من الناسي المتجاوَزِ عنه، والنائمِ المعذورِ، وإنما ذَكَر النائم والناسي؛ لئلا يَتَوَهَّم متوهم أنهما لما رُفِع عنهما الإثم سقط القضاء عنهما فيما وجب عليهما، فأبان صلى الله عليه وسلم أن ذلك غير مسقط عنهما قضاء الصلاة، وأنها واجبة عليهما متى ما ذكراها، والعامدُ لا محالة ذاكرٌ لها، فوجب عليه قضاؤها، والاستغفار من تأخيرها؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن اللَّه تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] "، وقد قضاها صلى الله عليه وسلم بعد خروج وقتها يوم الخندق من غير نسيان، ولا نوم، إلا أنه شُغِل عنها، وأجاز من أدرك ركعة من العصر أن يصلي تمامها بعد خروج وقتها. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة السادسة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَإِنَّ اللَّهَ) الفاء للتعليل، أي إنما أمرته بصلاتها وقت ذكرها؛ لأن اللَّه تعالى (قَالَ) في كتابه الكريم ({وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ") قراءة الجمهور بلام الأمر الجارّة للمصدر المضاف إلى ياء المتكلّم، ومعناه: لتذكرني فيها بلا رياء، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: إنه من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمعنى: لأذكُرك بالثناء، أو لأني ذكرتها في الكتاب، وأمرت بها، وليس في هذه القراءة دليل لمسألهَ قضاء النائم، والناسي، وإنما الدليل في القراءة الأخرى، وهي التي بيَّنها بقوله:(قَالَ يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ الراوي عن الزهريّ في هذا الإسناد، ومقول "قال" قوله:(وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ (يَقْرَؤُهَا) أي يقرأ الآية المذكورة في تلاوته للقرآن، وهي قراءة شاذّة، وهي قراءة ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وابن السميفع

(2)

.

وقيل: يَحْتَمِل أن يكون المراد أنه كان يقرؤها في روايته للحديث، وفيه بُعدٌ (لِلذِّكْرَى) أي بلام الجرّ، وبعدها "أل" المعرّفة، وكسر الذال المعجمة، وسكون الكاف، مقصورًا، والمعنى عليه: أقم الصلاة في الوقت الذي تتذكّرها

(1)

"التمهيد" 6/ 395 - 396.

(2)

راجع: "زاد المسير" لابن الجوزيّ (5/ 275).

ص: 539

فيه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: هذا الحديث رواه الإمام مالك رحمه الله في "الموطّأ" مرسلًا، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله:

هكذا رَوَى هذا الحديث عن مالك مرسلًا جماعةُ رواة "الموطأ" عنه، لا خلاف بينهم في ذلك، وكذلك رواه سفيان بن عيينة، ومعمر في رواية عبد الرزاق عنه، عن الزهريّ مرسلًا، كما رواه مالك.

وقد وصله أبان العطار، عن معمر، ووصله الأوزاعيّ أيضًا، ويونس، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، وعبد الرزاق أثبت في معمر من أبان العطار، وقد وصله محمد بن إسحاق، عن الزهري، ثم أخرجه من طريقه.

قال: ووصل من هذا الحديث ابنُ عيينة، ومعمرٌ، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:"من نسي صلاةً، فليصلها إذا ذكرها، فإن اللَّه يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ".

وقد رُوِي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في نومه عن الصلاة في السفر آثارٌ كثيرةٌ من وجوه شَتَّى، رواها عنه جماعة من أصحابه، منهم: ابنُ مسعود، وأبو مسعود، وأبو قتادة، وذو مِخْبَر الحبشيّ، وعمران بن حصين، وأبو هريرة، وقد ذكرها كلّها في "التمهيد"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تبيّن مما سبق في كلام الحافظ أبي عمر: أن هذا الحديث صحيح موصولًا، كما هو رأي المصنّف رحمه الله؛ حيث أخرجه هنا في الأصول؛ لأن الذين وصلوه جماعة حفّاظ، عندهم زيادة علم، فوجب قبولها.

ومن الغريب أن الترمذيّ أخرج الحديث من طريق صالح بن أبي

(1)

راجع: "التمهيد" 6/ 384 - 388.

ص: 540

الأخضر، عن الزهريّ، ثم قال: هذا حديث غير محفوظ، رواه غير واحد من الحفّاظ، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه: عن أبي هريرة. وصالح بن أبي الأخضر، يُضَعَّف في الحديث، ضعّفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه.

وهذا شيء عجيب؛ لأن صالحًا لم يتفرد به، بل تابعه يونس، عند مسلم هنا، ومعمر عند أبي داود، والأوزاعيُّ، وابن إسحاق، عن ابن عبد البرّ، وصالح بن أبي الأخضر، وإن ضعّفوه، لكنه يُعتبر به، كما قاله في "التقريب".

والحاصل أن الحديث محفوظ موصولًا، ولا يضرّه إرسال من أرسله، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1560 و 1561](680)، و (أبو داود) في "الصلاة"(435 و 436)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3163)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(618 و 619 و 620)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(697)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 13 و 14)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 53 و 54)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2069)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2096 و 2097)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1531 و 1532)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 217)، و"دلائل النبوّة"(4/ 272 و 273)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(437)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب قضاء الفائتة.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن قضاء الفائتة بعذر ليس على الفور.

3 -

(ومنها): إثبات الإقامة للفائتة، وفيه إشارة إلى ترك الأذان لها، على ما قيل، وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه الآتي إثبات الأذان للفائتة، وفي المسألهَ خلاف مشهور، والأصح ثبوت الأذان والإقامة لها؛ لحديث أبي قتادة وغيره من الأحاديث الصحيحة، وأما ترك ذكر الأذان في حديث أبي هريرة هذا وغيره فجوابه من وجهين:

ص: 541

[أحدهما]: لا يلزم من ترك ذكره أنه لم يُؤَذِّن، فلعله أَذَّن وأهمله الراوي، أو لم يَعْلَم به.

[والثاني]: لعله ترك الأذان في هذه المرة؛ لبيان جواز تركه، وإشارةً إلى أنه ليس بواجب متحتم، لا سيما في السفر، وفيه بُعد، والصواب الجواب الأول؛ فقد تقدّم أمره صلى الله عليه وسلم بالأذان والإقامة في السفر في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه، فتنبّه.

4 -

(ومنها): مشروعيّة الجماعة في الفائتة.

5 -

(ومنها): بيان وجوب قضاء الفريضة الفائتة، سواء تركها بعذر، كنوم، ونسيان، أم بغير عذر، وإنما قَيَّد في الحديث بالنسيان؛ لخروجه على سبب؛ لأنه إذا وجب القضاء على المعذور، فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، قاله النوويّ رحمه الله، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا.

6 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فليصلِّها إذا ذكرها"، فمحمول على الاستحباب، فإنه يجوز تأخير قضاء الفائتة بعذر على الصحيح.

7 -

(ومنها): وفيه استحباب قضاء السنن الراتبة إذا فاتت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح.

8 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن هذا منزل حَضرَنا فيه الشيطان" فيه دليل على استحباب اجتناب مواضع الشيطان، وهو أظهر المعنيين في النهي عن الصلاة في الحمّام.

9 -

(ومنها): أن في قوله: "فصلى الغداة" جواز تسمية صلاة الصبح الغداة، وأنه لا يكره ذلك.

10 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: استدلّ بعض الحنفيّة بقوله: "اقتادوا رواحلكم" على أن الفرائض لا تُقضى في هذا الوقت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما ارتحل عن ذلك الموضع ليخرُج الوقت المنهيّ عنه، وهذا تحكّم، بل كما يَحتمِلُ ما ذكروه يَحْتَمل أنه إنما كان ذلك ليعمّ النشاط جميعهم، وأبين من ذلك كلّه ما قد نصّ عليه من كراهية ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"ليأخذ كلُّ رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان"، وقد زاد أبو داود في هذا الحديث

ص: 542

أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة". انتهى

(1)

.

11 -

(ومنها): أن فيه خروج الإمام بنفسه في الغزوات، وذلك سنةٌ، وكذلك إرساله السَّرَايا كلُّ ذلك سنةٌ مسنونة

(2)

.

12 -

(ومنها): إباحة الاستخدام الصاحب في السفر، وإن كان حُرًّا؛ لأن بلالًا رضي الله عنه كان في ذلك الوقت حُرًّا، كان أبو بكر رضي الله عنه اشتراه بمكة، فأعتقه، وله ولاؤه، وذلك قبل الهجرة

(3)

.

13 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: وفيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ينام أحيانًا نومًا يشبه نوم الآدميين، وذلك إنما كان منه غِبًّا لمعنى يريد اللَّه إحدائه، وليس لأمته سنةٌ تبقى بعده، يَدُلُّك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"إني لأنسى، أو أُنَسَّى لأَسُنّ"

(4)

، وفي حديث العلاء بن خبّاب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لو شاء اللَّه لأيقظنا، ولكن أراد أن تكون سنةً من بعدكم".

وأما طبعه، وجبلّته وعادته المعروفة منه، ومن الأنبياء قبله، فَمَا حكاه عن نفسه صلى الله عليه وسلم:"إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي"، فأطلق ذلك عن نفسه إطلاقًا غير مقيد بوقت.

وفي حديث آخر: "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا"، فأخبر أن كل الأنبياء كذلك، ومما يصحِّحُ ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"تَرَاصُّوا في الصفّ، فإني أراكم من وراء ظهري"، متّفقٌ عليه.

فهذه جبلته وخلقته، وعادته صلى الله عليه وسلم، فأما نومه في السفر عن الصلاة، فكان خرق عادته؛ لِيَسُنّ لأمته، ويُعَرِّفهم بما يجب على من نام منهم عن صلاته حتى يخرج وقتها، وكيف العمل في ذلك، وجعل اللَّه نومه سببًا بما جرى له في ذلك النوم من تعليمه أمته، وتبصيرهم.

قال: وبهذا تتّفق الآثار الواردة في هذا المعنى، وتأتلف، وغير جائز

(1)

"المفهم" 2/ 358.

(2)

"التمهيد" 6/ 389.

(3)

"التمهيد" 6/ 391.

(4)

هذا ذكره مالك في "الموطّأ" من بلاغاته.

ص: 543

حمل أخباره صلى الله عليه وسلم إذا صحت عنه على التناقض عند أهل الإسلام؛ لأنه لا يجوز فيها النسخ.

قال: فإن قال قائل: إن في قوله صلى الله عليه وسلم: "من يكلأ لنا الصبح" دليلًا على أن عادته النوم.

قيل له: لم تُمْعِن النظر، ولو أمعنته لعلمت أن المعنى: مَنْ يَرْقُب لنا انفجار الصبح، فيُشْعِرنا به في أول طلوعه؛ لأن مَن نامت عيناه لم ير هذا في أوله، ونوم العين يمنع من مثل هذا، لا نوم القلب، وكان شأنه صلى الله عليه وسلم التغليسَ بالصبح، وكان بلال من أعلم الناس بذلك، فلذلك أمره بمراقبة الفجر، لا أن عادته صلى الله عليه وسلم كانت النوم المعروف من سائر الناس. انتهى.

14 -

(ومنها): أن فيه تخصيصَ قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِع القلم عن النائم حتى يستيقظ"، وبيان ذلك أن رفع القلم عنه ها هنا من جهة رفع المأثم، لا من جهة رفع الفرض عنه، وأن ذلك ليس من باب قوله:"وعن الصبيّ حتى يحتلم"، وإن كان ذلك جاء في أثر واحد، فقِفْ على هذا الأصل

(1)

.

15 -

(ومنها): أن في فزع الصحابة رضي الله عنهم حين انتبهوا لِمَا فاتهم من صلاتهم أوضحَ دليل على ما كان عليه القوم من الْوَجَل والإشفاق، والخوف لربّهم رضي الله عنهم.

16 -

(ومنها): أن في قول بلال رضي الله عنه: "أَخَذَ بنفسي الذي أخذ بنفسك"، أي إذا كنت أنت في منزلتك من اللَّه قد غلبتك عينُك، وقُبِضت نفسك، فأنا أحرى بذلك، دليلٌ على طَلَب الحجةِ، والإدلاء بها.

17 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاةً، أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها"، دليل على أن من تذكّر صلاة، أو انتبه من نومه يصلي صلاته التي تذكّرها أو انتبه إليها في أيّ وقت كان، على ظاهر الحديث، وقد اختلف العلماء في ذلك، وسيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

18 -

(ومنها): أن في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] دليلًا من يقول: شريعةُ من قبلنا شرع لنا ما لم يَرِد في شرعنا خلافه، قال القاضي

(1)

"التمهيد" 6/ 396 - 397.

ص: 544

عياض رحمه الله: فيه أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا؛ لأن الحكم أُخذ من الآية، وهي إنما خُوطب بها موسى عليه السلام.

وتعقّبه الأبيّ، فقال: ليس فيه ذلك؛ لأن ذلك إنما يكون في احتجاج غير المشرِّع به، أما المشرِّع فاحتجاجه به إدخال له في شريعته. انتهى

(1)

.

وتعقّب السنوسيّ الأبيّ، فقال: الحجة في جعله مُستندًا، فلو لم يكن شرعُ من قبلنا شرعًا لنا لم يكن لذكره فائدةٌ، بل بطرق جعله مستندًا، ودعوى أنه لم يجعله مستندًا خلاف الظاهر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد السنوسيّ رحمه الله في هذا التعقّب، فالحقّ أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد خلافه في شرعنا، وقد حقّقت المسألة في "التحفة المرضيّة" وشرحها في الأصول، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرإبعة): في اختلاف أهل العلم في قضاء الفائتة في أوقات النهي:

قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: اختلفوا فيمن نسي الصلاة فذكرها في الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها، فقالت طائفة: لا تقضى الفوائت في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وروي ذلك عن أبي بكرة، وكعب -قال ابن المنذر: أحسبه ابن عجرة رضي الله عنهما.

وقد احتجّ بعضهم لهذا القول بالأخبار التي رويناها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الصلاة في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وبأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما استيقظ عند طلوع الشمس أخّر الصلاة حتى ترتفع الشمس، ثم صلاها.

وقال آخرون: يقضي في تلك الأوقات الواجب من الصلاة، والنهيُ للتطوع فقط؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر".

ولقوله: "لا يتحرى أحدكم، فيصلي عند طلوع الشمس، وعند غروبها"،

(1)

"شرح الأبيّ" 2/ 339.

(2)

"شرح السنوسيّ" 2/ 339.

ص: 545

وإنما نُهِي عن ذلك مَنْ قصد التطوع دون الفرض؛ لأن مَن نسي الفرض فلم يذكره إلا وقت طلوع الشمس أو وقت غروبها لم يتحرّ الصلاة في ذلك الوقت، إنما أدركه فرض الصلاة فيه.

وأما من تأوّل ارتحال النبيّ صلى الله عليه وسلم من المكان الذي انتبهوا فيه، فليس لهم فيه حجة؛ لأنهم لم ينتبهوا إلا بحرّ الشمس، وإنما ارتحل النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك المكان للعلة التي أخبر بها، قال:"إن هذا مكان حَضَرَنا فيه شيطان، فارتَحِلُوا منه".

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها"، وتلا أيضًا:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

وممن رُوِي عنه أنه قال: "إذا نام عن صلاة أو نسيها صلاها متى استيقظ أو ذَكَرَ"، عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رجل نسي صلاة: يصليها إذا ذكرها، وتلا:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

ورُوي عن عمران بن الحصين، وسمرة أنهما قالا: يصليها إذا ذكرها، وهذا قول أبي العالية، والنخعي، والشعبي، والحَكَم، وحماد، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.

وفيه قولٌ ثالث: قاله أصحاب الرأي في رجل نَسِيَ صلاة، فذكرها حين طلعت الشمس أو حين انتصف النهار، أو ذكرها حين تغرب الشمس، فإنه لا يصليها في هذه الأوقات الثلاث، والوتر كذلك، ما خلا العصر، فإنه إذا ذكر العصر من يومه ذلك قبل غروب الشمس صلاها، وإن كانت العصر قد نسيها قبل ذلك بيوم أو بأيام لم يصلها في تلك الساعة، وكذلك سجدة التلاوة، والوتر، والصلاة على الجنازة، لا تقضى في شيء من هذه الساعات الثلاث.

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: إذا كان مذهب أهل الرأي أن يجعلوا نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، واقعًا على التطوع دون الفرض، فاللازم أن يجعلوا نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند انتصاف النهار، واقعًا على

ص: 546

التطوع دون الفرض، ثم ليس بين عصرِ يَوْمِهِ وبين عصرٍ قد نسيها قبل ذلك فرق، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله

(1)

.

قال الجامع: قد تبيّن بما سبق من ذكر أقوال أهل العلم، وأدلّتها أن الصحيح في هذه المسألة قول من قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكر مطلقًا، أي سواء ذكرها في الأوقات التي تباح فيها الصلاة، أم في الأوقات التي تنهى فيها؛ لظهور دليله، فإن قوله:"من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها": أي وَقْتَ ذكرها نصّ ظاهرٌ في الموضوع، عامّ في كل وقت، واللَّه -تعالى- أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في وجوب القضاء على من فاتته الصلاة عامدًا:

قال الشوكانيّ رحمه الله عند قوله: "من نسي صلاة" ما حاصله: تمسّك بدليل الخطاب من قال: إن العامد لا يقضي الصلاة؛ لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي، وإلى هذا ذهب داود، وابن حزم، وبعض الشافعية.

قال ابن تيمية رحمه الله: والمنازعون لهم ليسس لهم حجةٌ قط

(2)

يُرَدُّ إليها عند التنازع، وأكثرهم يقولون: لا يجب القضاء إلا بأمر جديد، وليس معهم هنا أمر، ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط، بل ننازع في قبول القضاء منه، وصحة الصلاة في غير وقتها، وأطال البحث في ذلك، واختار ما ذكره داود، ومن معه.

قال الشوكاني: والأمر كما ذكره، فإني لم أقف مع البحث الشديد للموجبين للقضاء على العامد، وهم من عدا من ذكرنا على دليل، يَنْفِقُ في سوق المناظرة، ويصلح للتعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم إلا حديث:

(1)

"الأوسط"، لابن المنذر باختصار 2/ 408 - 413.

(2)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بلى لهم حجة واضحة، كما سيأتي:"اقضوا اللَّه، فاللَّه أحقّ بالوفاء"، وأي حجة أبين وأوضح من هذا؟، بل الذين ليس لهم حجة واضحة، هم القائلون بعدم وجوب القضاء، فتأمل بالإنصاف.

ص: 547

"فدين اللَّه أحق أن يُقْضَى" باعتبار ما يقتضيه اسم الجنس المضاف من العموم، ولكنهم لم يرفعوا إليه رأسًا.

قال الجامع: لا ينقضي عجبي من مثل الشوكاني القائل بهذا الكلام! فأيَّ دليل يطلب بعد هذا النصّ العظيم؟! وعن أيِّ حجة يَبحث مع وضوح الحجة، واستنارة المَحَجَّة؟! فيا للعجب! إنه لم يستطع أن يرُدّ هذه الحجة النَّيِّرَة، بل تَحَيَّر، فإنه بعدما طوّل كلامه في الردّ على حجج القائلين بوجوب القضاء على العامد، قال: والمحتاج إلى إمعان النظر ما ذكرنا لك سابقًا من عموم حديث: "فدين اللَّه أحقّ أن يقضى"، ولا سيما على قول من قال: إن وجوب القضاء بدليل، هو الخطاب الأول الدالّ على وجوب الأداء، فليس عنده في وجوب القضاء على العامد فيما نحن بصدده تردّد؛ لأنه يقول: المتعمِّد للترك قد خوطب بالصلاة ووجب عليه تأديتها فصارت دينًا عليه، والدين لا يسقط إلا بأدائه.

وإذا عرفتَ هذا علمت أن المقام من المضائق. انتهى كلام الشوكانيّ

(1)

.

قال الجامع: وأنا أقول: هذا مبلغ ما نَصَرَ به الشوكانيّ قولَ من يقول بعدم وجوب القضاء على العامد، حيث تحيّر في دفع حجة الموجبين؛ لقوّته ووضوحه، واعترف بأن المقام من المضائق، ونحن -بحمد اللَّه تعالى- لا نقع في المضائق، بل نقول بالأسهل الذي لا تضايُق معه، وهو وجوب القضاء.

ولقد أحسن العلامة الصنعانيّ رحمه الله في المسألة، وأجاد وأفاد، حيث قال في "حاشية إحكام الأحكام" ما نصُّهُ: وأقوى شيء عندي في الاستدلال من أوجب على العامد القضاء حديث: "فدينُ اللَّه أحقُّ أن يُقْضَى"؛ فإنه عامّ لكل دَين للَّه، ومعلوم أن التارك للصلاة هي دين في ذمته، وإلا لما عوقب عليها، ووجبت التوبة عن تركها بالاتفاق بين الفريقين، وكما أن دين الآدمي لا يُسقِطُهُ عن الذمة إلا قضاؤه، كذلك دين اللَّه، بل قد جعله النبيّ صلى الله عليه وسلم أحق بالقضاء، وسواء قلنا: القضاء بأمر جديد، أو بالأمر الأول، إذ قد صارت ذمته مشغولة بها بالأمر الأول، وصارت بتركه أداءها في وقتها دينًا للَّه يعاقبه على عدم

(1)

"نيل الأوطار" 2/ 85 - 86.

ص: 548

القضاء. انتهى كلامه رحمه الله

(1)

.

أقول: هذا الذي قاله الصنعانيّ رحمه الله هو التحقيق الحقيق بالقبول؛ لوضوح دليله المنقول.

والحاصل أن المذهب الراجح هو القول بوجوب القضاء على من ترك الصلاة متعمدًا؛ لما ذكرناه من الدليل النيّر الواضح كالشمس في رابعة النهار: "اقضُوا اللَّه، فاللَّه أحقّ بالوفاء"، رواه البخاريّ، "فدَينُ اللَّه أحقّ بالقضاء"، متّفقٌ عليه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في هل النفس والروح شيء واحدٌ أم لا؟:

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: اختلفوا في الروح والنفس، هل هما شيء واحد، أو شيئان؟ فقال جماعة أهل العلم: إنهما شيءٌ واحد، ومن حجتهم قوله عز وجل:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير أنهما قالا: تُقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، تتعارف ما شاء اللَّه أن تتعارف، فيُمسك التي قضى عليها الموت التي قد ماتت، ويُرسل الأخرى إلى أجل مسمى.

وهذا يدلّ على أن النفس والروح شيء واحد؛ لأنهما فسّرا الآية بـ "تُقبض الأرواح"، وقد جاءت في الآية بلفظ الأنفس، ويشهد بصحّة ذلك قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الحديث:"إن اللَّه قَبَض أرواحنا"، فنَصَّ على أن المقبوض هو الروح، ولم يُنكر قول بلال رضي الله عنه:"أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك"، فالقرآن والسنّة يشيران إلى معنى واحد، بلفظ النفس تارةً، وبلفظ الروح أخرى.

وقال آخرون: النفس غير الروح، واحتجُّوا بأن النفس مخاطبةٌ، منهيّة مأمورة، واستدلّوا بقول اللَّه عز وجل:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} [الفجر: 27، 28]، وقوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي

(1)

"العدة حاشية العمدة" 2/ 495.

ص: 549

جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، ومثل هذا في القرآن كثير، قالوا: والروح لم تخاطب، ولم تؤمر، ولم تُنْهَ في شيء من القرآن، ولم يلحقها شيء من التوبيخ، كما لحِقَ النفس في غير آية من كتاب اللَّه عز وجل، وتأوّلوا قول بلال رضي الله عنه:"أخذ بنفسي من النوم ما أخذ بنفسك منه". انتهى

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: قال: و"النفس" هنا هي التي تتوفَّى بالنوم وبالموت، كما قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وهى التي تَخْرُج من البدن حالة الموت، كما قال تعالى:{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]، وهي المناداة بقوله تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} إلى قوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} [الفجر: 27 - 29]، وقد عَبّر عنها في "الموطّأ" في هذا الحديث بالروح، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه قبض أرواحنا، ولو شاء لردّها إلينا في حينٍ غيرِ هذا"، فما سمّاه بلالٌ نفسًا سمّاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رُوحًا، فهما إذًا عَبارتان عن مُعَبَّرٍ واحد، وهذا مذهب أئمّتنا.

وقد اختَلَفَ الناس قديمًا وحديثًا في المعنى المراد بالنفس والروح، والذي يُفهم من مجموع ما في الكتاب والسنّة، وأقاويل علمائنا أن ذلك هو لطيفة مُودَعةٌ في الأجساد، مشاركة لجميع أجزائها التي تَحُلُّها الحياة، يتأتَّى إخراجها من الجسد وإدخالها فيه، وقبضها منه، أجرى اللَّه تعالى العادة بخلق الحياة في الجسد ما دامت فيه تلك اللطيفة، وهي القابلة للعلوم، والإنسانُ هو الجسد وتلك اللطيفة.

وقد فرَّق الصوفيّة بين النفس والروح، فقالوا: النفس لطيفة مُودعةٌ في الجسم، محلٌّ للأخلاق المعلولة، والروح محلّ للأخلاق المحمودة، وهو اصطلاح من قِبَلهم، ولا مُشَاحّة في الاصطلاحات بعد فهم المعنى. والنفس في اللغة مُشترك يُطلق على ما ذكرنا، ويُطلق، ويُراد به وجود الشيء وذاته، ويُطلق ويراد به الدم، والروح يُطلق أيضًا على جبريل؛ إذ قد سمّاه اللَّه تعالى رُوحًا فِي قوله:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193]، ويَحْتَمِل أن يكون

(1)

"التمهيد" 5/ 242 - 243 و 6/ 399.

ص: 550

المراد بقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]، وفي قوله:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] على ما قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله: {قُلِ الرُّوحُ} ، وقد تقدّم أن الروح مشتقّ من الريح. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الأولون من أن الروح والنفس شيء واحد هو الأرجح؛ لقوّة حُججهم، كما تقدّم بيانها، واللَّه تعالى أعلم؛ بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1561]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى، قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: عَرَّسْنَا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ"، قَالَ: فَفَعَلْنَا، ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ يَعْقُوبُ: ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاة

(2)

، فَصَلَّى الْغَدَاةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل باب.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

5 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 124.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.

(1)

"المفهم" 2/ 307 - 308.

(2)

وفي نسخة: "وأقيمت الصلاة".

ص: 551

وقوله: (قَالَ: عَرَّسْنَا مَعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) التعريس: نزول المسافر آخر الليل.

وقوله: (فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ) فيه دليلٌ على استحباب اجتناب مواضع الشيطان، وهو أظهر المعنيين في النهي عن الصلاة في الْحمّام، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: ذهب بعض العلماء إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث، فقال: إن من انتبه من نوم عن صلاة فاتته في سفر زال عن موضعه، وإن كان واديًا خرج عنه، واعتَضَدَ بقوله صلى الله عليه وسلم:"تحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة"

(2)

، وهذه الزيادة ذكرها أبو داود في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال آخرون: إنما يلزم هذا في ذلك الوادي بعينه، إن عُلِم، ونزلت فيه مثل تلك النازلة، فيجب الخروج منه، كما فَعَل النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال الجمهور: إن هذا غير مُرَاعَى، وإن من استيقظ عن صلاة فاتته صلّاها في ذلك الوقت، وحيثما كان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فحيثما أدركتك الصلاة فصَلِّ"

(3)

، وهذا الحديث لا يصلح لتخصيصه في غير حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يَعْلَم غيرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم من حال ذلك الوادي، ولا من غيره من المواضع ما عَلِمَه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبتقدير أن تقع النازلة في ذلك الوادي، فلا ندري، هل ذلك الشيطان باقٍ أم لا؟، وقوله:"تحوّلوا" خطاب لأصحابه الكائنين معه خاصّةً، لا يتعدّاه إلى غيرهم؛ لأنه كان لسبب عِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم بحضور الشيطان فيه، وغيرُهُ لا يعلم ذلك، فلا يتعدّى إليه ذلك الحَكم، وإلى معنى ما ذكرناه ذهب الداوديّ وغيره من أصحابنا في تأويل الحديث. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأرجح ما قاله الأولون، فمن أدركته الغفلة، أو نام عن صلاة في موضع انتقل من ذلك الموضع إلى غيره؛ لأمره صلى الله عليه وسلم

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 183.

(2)

حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود في "سننه"(1/ 119).

(3)

حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 304)، والنسائيّ في "المجتبى"(1/ 210 - 211) من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

"المفهم" 2/ 311 - 312.

ص: 552

بذلك، حيث قال:"تحوّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة"، وهو حديث صحيح، فالخطاب يعمّ الحاضرين وغيرهم، كسائر خطاباته صلى الله عليه وسلم، فيكون مخصّصًا لعموم قوله:"فحيثما أدركت الصلاة، فصلّ"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ) فيه استحباب قضاء النافلة الراتبة، قاله النوويّ رحمه الله.

وقوله: (ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاة) وفي نسخة: "وأُقيمت الصلاة"، أي أقيم لصلاة الصبح.

وقوله: (فَصَلَّى الْغَدَاةَ) أي صلاة الغداة، وهي بفتح الغين المعجمة، والدال المهملة: أول النهار، وجمعها غَدَوَات، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1562]

(681) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ، وَتَأْتُونَ الْمَاءَ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- غَدًا"، فَانْطَلَقَ النَّاسُ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ، حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، قَالَ: فَنَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَتَيْتُهُ، فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ، حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ، مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، قَالَ: فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ، مَالَ مَيْلَةً، هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ، فَأَتَيْتُهُ، فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:"مَنْ هَذَا؟ " قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ، قَالَ:"مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟ " قُلْتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ، قَالَ:"حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ"، ثُمَّ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 553

قَالَ: "هَلْ تَرَانَا نَخْفَى عَلَى النَّاسِ؟ "، ثُمَّ قَالَ:"هَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟ " قُلْتُ: هَذَا رَاكبٌ، ثُمَّ قُلْتُ: هَذَا رَاكبٌ آخَرُ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا، فَكُنَّا سَبْعَةَ رَكْبٍ، قَالَ: فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ:"احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا"، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا فَزِعِينَ، ثُمَّ قَالَ:"ارْكَبُوا"، فَرَكِبْنَا، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ، كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مَنْ مَاءٍ، قَالَ: فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ، قَالَ: وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ:"احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ"، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ، فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ، مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلَاتِنَا؟ ثُمَّ قَالَ:"أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ "، ثُمَّ قَالَ: "أَمَا، إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْم تَفْرِيطٌ

(1)

، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ، حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ، فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا"، ثُمَّ قَالَ: "مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا؟ "، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "أَصْبَحَ النَّاسُ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَكُمْ، لَمْ يَكُنْ لِيُخَلِّفَكُمْ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يُرْشَدُوا"، قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ، وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْنَا، عَطِشْنَا، فَقَالَ: "لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ"، ثُمَّ قَالَ: "أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي". قَالَ: وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ

(2)

، تَكَابُّوا عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَحْسِنُوا الْمَلَأَ، كُلُّكُمْ سَيَرْوَى"، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ، وَأَسْقِيهِمْ، حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي:"اشْرَبْ"، فَقُلْتُ: لَا

(1)

وفي نسخة: "ثم قال: إنه ليس في النوم تفريط".

(2)

وفي نسخة: "ما في الميضأة".

ص: 554

أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا"، قَالَ: فَشَرِبْتُ، وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ: إِنِّي لَأُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ

(1)

فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ، إِذْ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: انْظُرْ أَيُّهَا الْفَتَى، كَيْفَ تُحَدِّثُ، فَإِنِّي أَحَدُ الرَّكْب تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: حَدِّثْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِحَدِيثِكُمْ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ الْقَوْمَ، فَقَالَ عِمْرَانُ: لَقَدْ شَهِدْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّ أَحَدًا حَفِظَهُ كَمَا حَفِظْتُهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) بن أبي شيبة الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القَيْسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 80.

4 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ) الأنصاريّ، أبو خالد المدنيّ، سَكَن البصرةَ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أُبَيّ بن كعب، وعَمّار بن ياسر، وعمران بن حُصين، وأبي قتادة الأنصاريّ، وأبي هريرة، وكعب الأحبار، وعبد العزيز بن النعمان، وصفوان بن مُحْرِز، وغيرهم.

ورَوَى عنه ثابت الْبُنَانيّ، وعاصم الأحول، وأبو عمران الْجَوْنيّ، وقتادة، وبكر بن عبد اللَّه الْمُزَنِيّ، والأزرق بن قيس، وخالد الحذّاء، وخالد بن سُمَير السدوسيّ، وغيرهم.

قال العجليّ: بصريٌّ تابعيٌّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث،

(1)

وفي نسخة: "إني لأحدّث الناسَ هذا الحديث".

ص: 555

وقال ابن خِرَاش: هو من أهل المدينة، قَدِم البصرة، لا أعلم مدنيًّا حَدَّث عنه، وهو رجل جليلٌ، وكذا قال ابن المدينيّ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال خالد بن سُمَير: قَدِمَ علينا، وكانت الأنصار تفقِّهه.

وقال خليفة: قُتِل في ولاية ابن زياد، وقال أبو عمران الجونيّ: وَقَفْتُ مع عبد اللَّه بن رَبَاح، ونحن نقاتل الأزارقة مع الْمُهَلَّب، قال الحافظ: فهذا يدل على أنه تأخَّر بعد ولاية ابن زياد بمدة، وقرأت بخط الذهبيّ أنه تُوُفّي في حدود سنة (90) فهذا أشبه. انتهى

(1)

.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (681) و (683) و (810) و (1780) وأعاده بعده، و (2666).

5 -

(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، اسمه الحارث، وقيل: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمَة السَّلَميّ، شَهِدَ أُحُدًا، وما بعدها، ولم يشهد بدرًا، ومات رضي الله عنه سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ، وعبد اللَّه بن رباح، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، وشيخه أُبُلّيّ، قرية من قرى البصرة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ثابتٌ، عن عبد اللَّه بن رَبَاح.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة، مشهور بكنيته، وكان يُلقّب فارس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر:"كان خيرَ فُرْساننا اليوم أبو قتادة، وخير رَجّالتنا سَلَمة"

(2)

، رواه مسلم

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 331.

(2)

هو سلمة بن الأكوع الصحابيّ المشهور رضي الله عنه.

(3)

سيأتي في "كتاب الجهاد والسير" برقم (1807) -إن شاء اللَّه تعالى-.

ص: 556

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه، اختُلف في اسمه، كما أسلفناه آنفًا، أنه (قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أنه يُسْتَحَبّ لأمير الجيش إذا رأى مصلحة لقومه في إعلامهم بأمر أن يَجْمَعهم كلَّهم، ويُشِيع ذلك فيهم؛ لِيَبْلُغَهم كلَّهم، ويتأهبوا له، ولا يَخُصّ به بعضهم وكبارهم؛ لأنه ربما خَفِي على بعضهم، فيَلْحَقه الضرر

(1)

.

ثمّ بيّن تلك الخطبة بقوله: (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ)"العَشيّ": قيل: ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر: صلاتا الْعَشيّ، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: الْعَشيّ من الزوال إلى الصباح، وقيل: العشيّ، والعِشَاءُ من صلاة المغرب إلى الْعَتَمَة، وعليه قول ابن فارس: العشاءان: المغرب والعَتَمة، وقال ابن الأنباريّ: الْعَشِيّة مؤنّثةٌ، وربّما أنّثتها العرب على معنى العشيّ، وقال بعضهم: الْعَشيّةُ: واحدةٌ، وجمعها عَشِيّ. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَلَيْلَتَكُمْ) أي تسيرون ليلتكم (وَتَأْتُونَ الْمَاءَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) فيه استحباب قولِ "إن شاء اللَّه" في الأمور المستقبلة؛ امتثالًا لأمره عز وجل في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] الآية (غَدًا") منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "تأتون"، و"الْغَدُ": اليوم الذي يأتي بعد يومك على إِثْرِهِ، ثم توسّعوا فيه حتى أُطلق على البعيد المُرتَقَب، وأصله غَدْوٌ، مثلُ فَلْسِ وفُلُوس، لكن حُذفت اللام، وجُعِلت الدال حرف إعراب، قال الشاعر [من الرجز]:

لَا تَقْلُوَاهَا وَادْلُوَاهَا دَلْوَا

إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ أَخَاهُ غَدْوَا

(3)

(فَانْطَلَقَ النَّاسُ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) أي لا يعطف بعض الناس على بعضهم، ولا يقف، ولا ينتظره، وأصله من ليّ العنق، قاله القرطبيّ

(4)

.

وقال في "المصباح": لواه بدينه لَيًّا، من باب رَمَى، ولَيّانًا أيضًا: مَطَلَه،

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 184.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 412.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(4)

راجع "المفهم" 2/ 413.

ص: 557

ولَوَيْتُ الحبلَ واليدَ لَيًّا: فَتَلْتُهُ، ولَوَى رأسه، وبرأسه: أماله، وقد يُجْعَلُ بمعنى الإعراض، ومَرَّ لا يَلْوِي على أحدٍ: أي لا يَقِفُ، ولا يَنتظِر. انتهى

(1)

.

(قَالَ أَبُو قَتَادَةَ) رضي الله عنه (فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ) قد تقدّم البحث في "بينما"، ومثلها "بينا" بالألف غير مرّة، وخلاصته أن أصلهما "بين" زيدت عليها "ما"، أو الألف، فهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يَتمّ به المعنى، وقد يقترن أحيانًا بـ "إذ"، أو "إذا"، تقول: بينما زيد جالس دخل عليه عمرو، أو إذ دخل عليه عمرو، أو إذا دخل عليه عمرو

(2)

. (حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ) -بالباء الموحّدة، وتشديد الراء- قال في "القاموس": وابهارّ الليل: انتصف، أو تراكمت ظُلمته، أو ذهبت عامّته، أو بقي نحوُ ثُلُثه. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ابْهَارّ الليلُ": أي انتصف، وبُهْرَة كلِّ شيءٍ: وسطُهُ، وقيل: ذهب عامّته، وبقي نحوٌ من ثلثه، قال أبو سعيد الضرير: ابهِرَارُ الليل: طلوع نجومه إذا تتامّت، وقال غيره: ابهارّ الليل: طال، والباهر: الممتلئ نورًا، وقد صحّفه بعض الشارحين تصحيفًا فاحشًا، فقال: انهار الليل -بالنون- وقال: ومنه قوله تعالى: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109]. انتهى

(4)

.

و"حتى" غايةٌ لمسيره صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ) جملة حاليّة من فاعل "يسير"، والرابط الواو والضمير المنصوب (قَالَ) أبو قتادة رضي الله عنه (فَنَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) -بفتح العين- يقال: نَعَسَ يَنْعُسُ، من باب قَتَلَ، والاسم: النُّعاس، فهو ناعسٌ، والجمعُ: نُعَّس، مثلُ راكع ورُكَّع، والمرأة ناعسةٌ، والجمع: نَوَاعِسُ، وربما قيل: نَعْسَان، ونَعْسَى، حَمَلُوه على وَسْنَان، ووَسْنَى، وأول النوم: النعاس، وهو أن يَحتاج الإنسان إلى النوم، ثم الْوَسَنُ، وهو ثِقَلُ النعاس، ثم التَّرْنِيقُ، وهو مخالطة النُّعاس للعين، ثم الْكَرَى، والْغَمْضُ، وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان، ثم الْعَفْقُ، وهو النوم، وأنت تسمع كلام

(1)

"المصباح المنير" 2/ 561.

(2)

راجع: "لسان العرب" 12/ 66.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 279.

(4)

"المفهم" 2/ 313.

ص: 558

القوم، ثم الْهُجُودُ، والْهُجُوعُ، ذكره الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقد ثبت في "الصحيح" أن أهل الجنة لا ينامون؛ لأن النوم موت أصغر، قال اللَّه تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42].

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": النعاس: مقدَّمة النوم، وهو ريح لطيفةٌ تأتي من قبل الدماغ، تُغَطِّي على العين، ولا تَصِلُ إلى القلب، فإذا وصلت إلى القلب كان نومًا، ولا ينتقض الوضوء بالنعاس من المضطجع، وينتقض بنومه. انتهى

(2)

.

(فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ) أي عدل عنها، ولم يستقم على ظهرها، يقال: مال يميل ميلًا، كباع يبيع بيعًا: إذا عَدَل، ومال الحائطُ: إذا زال عن استوائه، ويقال أيضًا: مال يمال، كخاف يخاف

(3)

. (فَأَتَيْتُهُ، فَدَعَمْتُهُ) أي أسندته، وأقمت ميله من النوم برفق، وصِرتُ تحته كالدِّعامة للبناء فوقها (مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ) أي من غير أن أنبّهه من نومه (حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ) أي استقام على ظهرها (قَالَ) أبو قتادة رضي الله عنه (ثُمَّ سَارَ) صلى الله عليه وسلم (حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ) أي ذهب أكثره، مأخوذ من تَهَوُّر البناء، وهو انهدامه، يقال: تَهَوَّر الليل، وتَوَهَّر (مَالَ) صلى الله عليه وسلم (عَنْ رَاحِلَتِهِ، قَالَ) أبو قتادة (فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ) أبو قتادة (ثُمَّ سَارَ) صلى الله عليه وسلم (حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ)"كان" تامّة، و"من" زائدة، على رأي من يرى زيادتها في الإثبات، أي جاء آخر السحر، ويَحتَمِل أن تكون ناقصةً، واسمها ضمير يعود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخبرها الجارّ والمجرور، و"من" بمعنى "في"(مَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَيْلَةً، هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ) أي قارب أن يسقُط من راحلته، قال ابن الأثير رحمه الله: هو مطاوع جَفَلَه: إذا طرحه وألقاه، أي ينقلب ويَسْقُطُ، يمْال: ضربه، فجَفَلَهُ: أي ألقاه على الأرض. انتهى

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 613.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 184.

(3)

راجع: "القاموس" 4/ 53، و"المصباح" 2/ 588.

(4)

"النهاية" 1/ 279.

ص: 559

وقال الفيّوميّ رحمه الله: جَفَلَ البعيرُ جَفْلًا وجُفُولًا من بابي ضرب وقَعَدَ: نَدّ وشَرَدَ، فهو جافلٌ وجَفّالٌ مبالغةٌ، وجَفَلَت النعامةُ: هَرَبَت، وجَفَلتُ الطينَ أجْفُلُه، من باب قَتَل: جَرَفتهُ، وجَفَلتُ المتاعَ: ألقيتُ بعضه على بعض، وجفلتُ الطائر أيضًا: نفّرتُهُ، وفي مطاوعه: فأجفلَ هو بالألف، جاء الثلاثيّ متعدّيًا، والرباعيّ لازمًا عكس المشهور، وله نظائر، وأجفل القومُ، وانجفلوا، وتجفّلوا، وجَفَلُوا جَفْلًا، من باب قتل: إذا أسرعوا الْهَرَبَ. انتهى

(1)

.

(فَأَتَيْتُهُ، فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ) أي استيقظ من نومه، ورفع رأسه من ميله (فَقَالَ:"مَنْ هَذَا؟ ") استفهام عن الشخص الذي أيقظه من نومه بدعمه (قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ) خبر لمحذوف، أي أنا أبو قتادة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟ ") بنصب "مسيرك" خبرًا بـ "كان"، وهو مصدر ميميّ لـ "سار"، يعني منذ أَيّ وقت أنت تسير هذا السير معي؟ (قُلْتُ: مَا) نافية (زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ) أي في هذه الليلة، فـ "منذ" بمعنى "في"؛ لأن "منذُ" و"مُذْ" إذا جرّا حاضرًا، كانا بمعنى "في"، نحو: ما رأيته منذ أو مذ يَوْمِنا، وإن جرّا ماضيًا كانا بمعنى "من"، نحو: ما رأيته يوم الجمعة، قال في "الخلاصة":

وَإِنْ يَجُرَّا فِي مُضِيٍّ فَكَـ "مِنْ"

هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى "فِي" اسْتَبِنْ

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("حَفِظَكَ اللَّهُ) بكسر الفاء، يقال: حَفِظَ الشيءَ من باب عَلِمَ: إذا حَرَسَهُ، وحَفِظ القرآن: إذا استظهره، والمالَ: رعاه، أفاده في "القاموس"

(2)

، وقال في "المصباح": حَفِظْتُ المالَ وغيره حِفْظًا: إذا منعته من الضَّيَاعِ والتَّلَفِ، وحَفِظْتُهُ: صُنتُهُ عن الابتذال، وحَفِظَ القرآن: إذا وَعَاهُ على ظهر قلبه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ضبط "حَفِظَ" بكسر الفاء في كتب اللغة، وأما ما اشتهر من قولهم: حَفَظَهُ بفتح الفاء، فمن لحن العوامّ، فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ") أي بسبب حفظك نبيّه صلى الله عليه وسلم، قاله النوويّ، فعلى هذا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 103.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 395.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 142.

ص: 560

فـ "ما" مصدريّة، وأنكر بعضهم كونها هنا مصدريّة؛ لعود الضمير من "به" عليها، والمصدريّة لا تحتاج إلى عائد، وإنما هي موصولة، واقعة على معنى الحبّ والحرص، أي بسبب الحبّ والحرص الذي حفِظتَ به نبيّه صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ تَرَانَا) بفتح أوله، ويَحْتَمِلُ أن يكون بالضمّ: أي هل تَظُنّنا (نَخْفَى) بفتح أوله، وثالثه، مضارع خَفِيَ، من باب رَمَى خَفَاءً: إذا استتر، قال في "المباح": خَفِيَ الشيءُ يَخْفَى خَفَاءً بالفتح والمدّ: استَتَرَ، أو ظَهَرَ، فهو من الأضداد، وبعضهم يَجْعَل حرف الصلة فارقًا، فيقول: خَفِيَ عليه: إذا استَتَر، وخَفِيَ له: إذا ظَهَر، فهو خَافٍ، وخَفِيَ أيضًا، ويتعدى بالحركة، فيقال: خَفَيْتُهُ أَخْفِيهِ من باب رَمَى: إذا سترته وأظهرته، وفَعَلْتُهُ خِفْيَةً بضم الخاء وكسرها، ويتعدى بالهمزة أيضًا، فيقال: أخفيته، وبعضهم يَجْعَل الرباعيّ للكتمان، والثلاثي للإظهار، وبعضهم يَعْكِسُ. انتهى

(1)

.

(عَلَى النَّاسِ؟ ") أي على بقيّة الركب، وهذا يدلّ على أنهما كانا وحدهما (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟ ")"من" زائدة، كما قال في "الخلاصة":

وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ

نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"

أي هل ترى أحدًا من السائرين غيرنا؟، وهذا يدلّ على أنهم كانوا متفرّقين في سيرهم.

قال أبو قتادة (قُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ، ثُمَّ قُلْتُ: هَذَا رَاكِبٌ آخَرُ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا، فَكُنَّا سَبْعَةَ رَكْبٍ) يَحْتَمِلُ أن يكون نادى الرُّكبان، ويَحْتَمِلُ أنهما أسرعا إن كانا متأخّرين، أو أبطآ إن كان متقدّمين.

و"الرَّكْبُ" بفتح الراء، وسكون الكاف: جمع راكب، كصاحب وصَحْب، ويُجمع أيضًا على رُكْبان، ولكونه جمعًا صار تمييزًا لـ "سبعة"، فإن تمييز ما دون العشرة من العدد يكون جمعًا مجرورًا، كما قال في "الخلاصة":

ثَلَاثَةً بِالتَّاءِ قُلْ لِعَشَرَهْ

فِي عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ

فِي الضِّدِّ جَرِّدْ وَالْمُمَيِّزَ اجْرُرِ

جَمْعًا بِلَفْظِ قِلَّةٍ فِي الأَكْثَرِ

وفىِ رواية أبي داود: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في سفر له، فمال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 176.

ص: 561

ومِلتُ معه، فقال: انظر، فقلتُ: هذا راكبٌ، هذان راكبان، هؤلاء ثلاثةٌ، حتى صِرْنا سبعة".

(قَالَ) أبو قتادة رضي الله عنه (فَمَالَ) أي تحوّل (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّرِيقِ) أي تجنّبًا أن يُصيبهم الأذى مما يَطْرُق الطريق من الهوامّ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال:"وإذا عَرَّستم، فاجتنبوا الطريق، فإنها طُرُق الدوابّ، ومأوى الهوامّ بالليل"، رواه مسلم.

وقد بيّن في رواية البخاريّ أن ميله صلى الله عليه وسلم كان بطلب من الصحابة رضي الله عنهم، ولفظه من طريق عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سرنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: لو عَرَّست بنا يا رسول اللَّه؟ قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة"، قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه، فنام، فاستيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد طلع حاجب الشمس، فقال:"يا بلال، أين ما قلت؟ " قال: ما أُلقيت عليّ نومةٌ مثلها قطّ، قال:"إن اللَّه قبض أرواحكم حين شاء، وردَّها عليكم حين شاء، يا بلال قم، فأذِّن بالناس بالصلاة"، فتوضأ، فلما ارتفعت الشمس، وابياضَّت قام فصلى.

(فَوَضَعَ) صلى الله عليه وسلم (رَأْسَهُ) كناية عن نومه (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا") زاد في رواية أبي داود: "يعني صلاة الفجر"، أي احفظوا وقت صلاة الفجر، فلا تضيّعوها بالنوم عنها.

(فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا معطوف على محذوف، أي فناموا، فكان. . . إلخ، وفي رواية أبي داود:"فضُرِب على آذانهم، فما أيقظهم إلا حرّ الشمس، فقاموا هُنَيَّةً، ثم نزلوا، فتوضّئوا".

و"أوّلَ" بالنصب خبر كان مقدّمًا على اسمها، وهو "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ثم إن قوله: "فكان أولَ من استيقظ إلخ" يدلّ على أن هذه الواقعة غير الواقعة التي تقدّمت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن أول من استيقظ هناك هو بلال رضي الله عنه.

(وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وهو بمعنى قوله في الحديث الآخر:"فما أيقظهم إلا حرّ الشمس".

ص: 562

(قَالَ) أبو قتادة (فَقُمْنَا فَزِعِينَ) بفتح، فكسر اسم فاعل من فَزِعَ، من باب تَعِب، وسبب فَزَعهم ما أصابهم من فوات صلاة الفجر بالنوم، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قبله.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْكَبُوا"، فَرَكِبْنَا) هذا أيضًا مما يدلّ على اختلاف الواقعتين؛ فإنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتادوا، فاقتادوا"، وإن حاول بعضهم، فأوّله بأن بعضهم اقتاد، وبعضهم ركب، لكن الظاهر الوجه الأول، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

(فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم عن راحلته (ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ) بكسر الميم، وبهمزة بعد الضاد المعجمة، ويجوز مدّه وقصره: هي الإناء الذي يُتوضّأ منه، كالرِّكْوة، ونحوها، قال القرطبي رحمه الله: وهي التي قال فيها: "أَطْلِقُوا لي غُمَرِي". انتهى. (كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ") أي قليل (مَنْ مَاءٍ، قَالَ) أبو قتادة (فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ) أي وضوءًا خفيفًا، وكأنه اقتصر فيه على المرّة الواحدة، ولم يُكثِر صبَّ الماء؛ لأنه أراد أن يُفْضِل منه فَضْلةً؛ لتظهر فيها بركته وكرامته، قال القرطبي رحمه الله: وهذا أولى من قول من قال: أراد بقوله: "وضوءًا دون وُضوء" الاستجمار بالحجارة؛ لأن ذلك لا يقال عليه وضوءٌ عُرْفًا، ولا لغةً؛ لأنه لا نظافة فيه بالغةٌ، ولما روى أبو داود في هذه القصّة من حديث ذي مِخْبَر الحبَشيّ، خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أنه صلى الله عليه وسلم توضّأ وضوءًا لم يَلُتّ

(1)

منه التراب"

(2)

. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في استدلاله بقصّة ذي مخبر نظر؛ لأنه لا دليل على اتّحادها مع قصّة أبي قتادة، فَيَحْتَمِل أن تكون واقعة أخرى، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: وضوءًا خفيفًا مع أنه أسبغ الأعضاء، ونَقَل القاضي عياضٌ عن بعض شيُوخه أن المراد توضّأ، ولم يستنج بماء، بل

(1)

بفتح أوله، وضم ثالثه، وتشديد التاء: أي لم يخلط الماء بالتراب.

(2)

رواه أحمد في "مسنده"(4/ 91)، وأبو داود برقم (445).

(3)

"المفهم" 2/ 315.

ص: 563

استجمر بالأحجار، وهذا الذي زعمه هذا القائل غلطٌ ظاهرٌ، والصواب ما سبق. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو قتادة (وَبَقِيَ فِيهَا) أي في تلك المِيضأة (شَيْءٌ) أي قليل (مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِأَبِي قَتَادَةَ) فيه التفاتة؛ إذ الظاهر أن يقول: ثم قال لي ("احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ") -بفتحتين- أي شأنٌ عظيم يُخبر به في المستقبل، من حصول البركة للناس، وحدوث المعجزة له صلى الله عليه وسلم.

[فائدة مهمّة]: قال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: "النبأُ": خبرٌ ذو فائدة عظيمة، يَحْصلُ به علم، أغلبه ظنّ، ولا يقال للخبر في الأصل: نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحقُّ الخبر الذي يقال فيه: نبأ أن يَتَعَرَّى عن الكذب، كالتواتر، وخبر اللَّه تعالى، وخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولتضمن النبأ معنى الخبر، يقال: أنبأته بكذا، كقولك أخبرته بكذا، ولتضمنه معنى العلم، قيل: أنبأته كذا، كقولك: أعلمته كذا، قال اللَّه تعالى:{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} [ص: 67 - 68]، وقال:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} [النبأ: 1 - 2]، وقال:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [التغابن: 5]، وقال:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} [هود: 49]، وقال:{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف: 101] وقال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100]، وقوله:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فَتَبَيُّنُهُ أنه إذا كان الخبر شيئًا عظيمًا له قَدْرٌ، فحقه أن يُتَوَقَّف فيه، وإن عُلِمَ وغَلَب صحته على الظنّ، حتى يعاد النظر فيه، ويُتَبَيَّن فَضْلَ تبينٍ، يقال: نَبّأته، وأنبأته، قال تعالى:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]، وقال:{أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]، وقال:{نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37]، {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)} [الحجر: 51]، وقال {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، {قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [الرعد: 33]، وقال:{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94].

(1)

"شرح النووي" 5/ 185 - 186.

ص: 564

ونَبّأته أبلغ من أنبأته، {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت: 50]، {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 13].

ويدُلّ على ذلك قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]، ولم يقل: أنبأني، بل عَدَلَ إلى نَبّأ الذي هو أبلغ تنبيهًا على تحقيقه، وكونه من قبل اللَّه، وكذا قوله:{قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].

و"النُّبُوَّة": سِفَارة بين اللَّه وبين ذوي العقول من عباده؛ لإزاحة عِلّتهم في أمر معادهم ومعاشهم، و"النبيّ"؛ لكونه مُنَبِّئًا بما تسكُن إليه العقول الذكية، وهو يصح أن يكون فَعِيلًا بمعنى فاعل؛ لقوله تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي} [الحجر: 49]، {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} [آل عمران: 15]، وأن يكون بمعنى المفعول؛ لقوله:{نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3].

وتَنَبّأ فلان: ادَّعَى النبوهَ، وكان من حق لفظه في وضع اللغة أن يصح استعماله في النبيّ؛ إذ هو مطاوع نَبَّأ، كقوله: زَيَّنه فَتَزَيَّن، وحَلّاه فتَحَلَّى، وجَمَّله فتجَمَّل، لكن لما تعورف فيمن يَدَّعِي النبوة كَذِبًا جُنَّب استعماله في الْمُحِقِّ، ولم يُستعمَل إلا في المتقَوِّل في دعواه، كقولك: تنبأ مُسَيْلِمة، ويقال في تصغير نَبِئ: مُسَيلمة نُبَيِّئُ سَوْءٍ؛ تنبيهًا أن أخباره ليست من أخبار اللَّه تعالى، كما قال رجل سَمِع كلامه: واللَّه ما خرج هذا الكلام من إِلِّ، أي اللَّه، والنَّبْأَةُ الصوت الخفيّ.

قال النحويون: النبيّ بغير همز أصله الهمز، فتُرِك همزه، واستدلُّوا بقولهم: مسيلمة نُبَيِّئُ سَوْءٍ، وقال بعض العلماء: هو من النَّبْوة: أي الرِّفعة، وسُمِّي نبيًّا؛ لرفعة محله عن سائر الناس، المدلول عليه بقوله تعالى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]، فالنبيّ بغير الهمز أبلغ من النبئ بالهمز؛ لأنه ليس كل مُنَبَّأ رفيع القدر والمحل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم من قال: يا نبئ اللَّه، فقال:"لست نبئ اللَّه، ولكن نبي اللَّه"

(1)

، لَمّا رأى أن الرجل خاطبه بالهمز؛ لبُغْضٍ منه.

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 251 عن أبي ذر رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيئ اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لست بنبيئ اللَّه، ولكني =

ص: 565

والنبوّة والنباوة: الارتفاع، ومنه قيل: نَبَا بفلان مكانه، كقولهم: قَضَّ عليه مَضجعه، ونبا السيف عن الضَّرِيبة: إذا ارتدّ عنه، ولم يَمْضِ فيه، ونبا بصره عن كذا؟ تشبيهًا بذلك. انتهى كلام الراغب رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ لغويّ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ) فيه مشروعيّة الأذان للصلاة الفائتة (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ) أي سنة الصبح، ففيه استحباب قضاء السنّة الراتبة (ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ) أي صلاة الغداة، وهي الصبح (فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ) يعني أنه صلّى الفائتة بالحالة والهيئة التي كان يصلّي بها الحاضرة.

وقال النوويّ: قوله: "كما كان يصنع كل يوم"، فيه إشارة إلى أن صفة قضاء الفائتة كصفة أدائها، فيؤخذ منه أن فائتة الصبح يَقْنُت فيها، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وقد يَحْتَجّ به من يقول: يجهر في الصبح التي يقضيها بعد طلوع الشمس، وهذا أحد الوجهين لأصحابنا، وأصحهما أنه يُسِرّ بها، ويُحْمَل قوله:"كما كان يصنع" أي في الأفعال، وفيه إباحة تسمية الصبح غداةً، وقد تكرر في الأحاديث. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أما ما قاله في القنوت فقد تقدّم أن الصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يُستحبّ القنوت إلا في النوازل، وليس هناك دليلٌ صحيحٌ صريح على استحباب القنوت في الصبح، كما مرّ البحث فيه مستوفًى.

وأما حمل قوله "كما كان يصنع" على الأفعال، فتأويل بعيد، بل الظاهر أن يُحْمَل على أنه قضاها بصفة أدائها قولًا وفعلًا، فيدلّ على استحباب الجهر فيها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

= نبي اللَّه"، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وتعقّبه الذهبيّ رحمه الله، فقال: بل منكرٌ لم يصحّ؛ لأن في سنده حمران بن أعين ليس بثقة، وهو واهٍ. انتهى. وقال في "التقريب" (ص 83): حمران بن أعين الكوفيّ مولى بني شيبان ضعيفٌ رُمي بالرفض من الخامسة. انتهى.

(1)

"مفردات ألفاظ القرآن"(ص 788 - 790).

(2)

"شرح النووي" 5/ 186.

ص: 566

(قَالَ) أبو قتادة (وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَكِبْنَا مَعَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ) بفتح الهاء، وكسر الميم، أي يتكلّم بخفاء وإسرار لا يسمعه غير من قصده.

قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْهَمْسُ": الصوت الخفيّ، وهو مصدرُ هَمَسْتُ الكلامَ، من باب ضَرَبَ: إذا أخفيته، وما سَمِعتُ له هَمْسًا ولا جَرْسًا، وهما الخفيّ من الصوت، وحرفٌ مَهمُوسٌ، غير مجهورٍ، وكلام مهموسٌ غير ظاهرٍ. انتهى

(1)

.

وقوله: (مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا) مقول لقول مقدّر حالٍ، و"ما" الأولى استفهاميّة مبتدأ خبره "كفّارةُ"، و"ما" الثانية موصولة، والعائد محذوف، أي الذي صنعناه، وجنيناه من الإثم، أو هي مصدريّة، فلا تحتاج إلى عائد، أي كفّارة صنيعنا، وجنايتنا.

(بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلَاتِنَا؟) الباء سببيّة، أي بسبب تقصيرنا وتضييعنا لصلاة الصبح، يقال: فرّط في الأمر تفريطًا: إذا قصّر فيه وضيَّعه، وأفرط إفراطًا: إذا أسرف فيه، وجاوز الحدّ.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم مسلّيًا لهم على ما أصابهم من الحزن بسبب فوات الصبح ("أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه (لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ ") بضمّ الهمزة، وكسرها: أي اقتداء واتّباع فيما حصل لي، قال الراغب رحمه الله:"الأُسْوة"، و"الإِسْوة"، كالْقُدْوة، والْقِدوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره، إن حسنًا، وإن قبيحًا، وإن سارًّا، وإن ضارًّا، ولهذا قال اللَّه تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فوصفها بالحسنة. انتهى

(2)

.

وقال السمين رحمه الله: قرئ في الآية بالوجهين، أي اتباعه واجب عليكم، يقال: تأسّيتُ به: أي اتّبعته في فعله، مثلُ اقتديتُ. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ قَالَ: "أَمَا، إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الأمر والشأن (لَيْسَ فِي النَّوْمِ

(1)

"المصباح" 2/ 640.

(2)

"مفردات ألفاظ القرآن"(ص 76).

(3)

"عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ" 1/ 101 للسمين الحلبيّ المتوفّى سنة (756 هـ).

ص: 567

تَفْرِيطٌ) أي تقصيرٌ في فوت الصلاة؛ لانعدام الاختيار من النائم، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ لما أَجْمع عليه العلماء أن النائم ليس بمكلَّف، وإنما يجب عليه قضاء الصلاة ونحوها بأمر جديد، هذا هو المذهب الصحيح المختار عند أصحاب الفقه والأصول، ومنهم من قال: يجب القضاء بالخطاب السابق، وهذا القائل يوافق على أنه في حال النوم غير مكلَّف.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن هذا القول هو الراجح؛ لأن القول بأن الإيجاب بالأمر الجديد يَحتاج إلى دليل، فتبصّر.

قال: وأما إذا أتلف النائم بيده، أو غيرها من أعضائه شيئًا في حال نومه، فيجب ضمانه بالاتفاق، وليس ذلك تكليفًا للنائم؛ لأن غرامة المتلَفات لا يشترط لها التكليف بالإجماع، بل لو أتلف الصبيّ أو المجنون، أو الغافل وغيرهم، ممن لا تكليف عليه شيئًا وجب ضمانه بالاتفاق، ودليله من القرآن قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] الآية، فرتَّب عز وجل على القتل خطأً الديةَ والكفارةَ مع أنه غير آثم بالاجماع. انتهى

(1)

.

(إِنَّمَا التَّفْرِيطُ) أي إنما يكون إثم التفريط (عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ) أي من لم يؤدّها، وأخرجها عن وقتها مستيقظًا عامدًا لتركها، متهاونًا، ومتكاسلًا (حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى) قال القرطبي رحمه الله: وفيه دليلٌ على أن أوقات الصلوات كلّها موسَّعةٌ. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: في الحديث دليلٌ على امتداد وقت كلِّ صلاة من الخمس حتى يدخل وقت الأخرى، وهذا مُسْتَمِرّ على عمومه في الصلوات، إلا الصبح فإنها لا تمتد إلى الظهر، بل يخرج وقتها بطلوع الشمس؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:"من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح"، وأما المغرب ففيها خلاف سبق بيانه في بابه، والصحيح المختار امتداد وقتها إلى دخول وقت العشاء؛ للأحاديث الصحيحة السابقة في "صحيح مسلم"، وقد ذكرنا الجواب عن حديث إمامة جبريل عليه السلام في اليومين في المغرب في وقت واحد.

(1)

"شرح النووي" 5/ 186.

(2)

"المفهم" 2/ 316.

ص: 568

وقال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا: تفوت العصر بمصير ظل الشيء مثليه، وتفوت العشاء بذهاب ثلث الليل أو نصفه، وتفوت الصبح بالإسفار، وهذا القول ضعيف، والصحيح المشهور ما قدمناه من الامتداد إلى دخول الصلاة الثانية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله النوويّ رحمه الله حسنٌ، إلا ما قاله في العشاء، فقد قدّمنا أن الصحيح أن وقتها إلى نصف الليل، فبعد نصفه تكون قضاء؛ للحديث الصحيح الصريح فيه، حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا:"ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل"، فهذا لا معارض له، إلا الإجماع المزعوم، وقد سبق أن الإجماع في هذا لا يصحّ، فبقى النص على ظاهره، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أي فمن نام عن الصلاة حتى خرج وقتها، وقال القرطبيّ رحمه الله: الإشارة إلى ما وقع له من النوم عن الصلاة، ويَحْتَمِلُ أن يعود الضمير إلى جميع ما ذُكِر من النوم والتفريط. انتهى. (فَلْيُصَلِّهَا) أي فليقضها (حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا) أي من نومه، أو نسيانه وغفلته (فَإِذَا كَانَ الْغَدُ، فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا") قال النوويّ رحمه الله: معناه أنه إذا فاتته صلاة فقضاها، لا يتغير وقتها، ويتحوّل في المستقبل، بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد، ويتحوّل، وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين: مرة في الحال، ومرة في الغد، وإنما معناه ما قدمناه، فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث، وقد اضطربت أقوال العلماء فيه، واختار المحققون ما ذكرته. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قال قومٌ: ظاهره إعادة المقضيّة مرّتين: عند ذكرها، وعند حضور مثلها من الوقت الآتي، وقد وافق هذا الظاهر ما رواه أبو داود نصًّا من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما، وذكر القصّة، وقال في آخرها:"فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحًا، فليقض معها مثلها"، قال الخطّابيّ: لا أعلم أحدًا قال هذا وجوبًا، ويُشبه أن يكون الأمر به استحبابًا؛ ليحْرِزَ فضيلة الوقت في القضاء.

(1)

"شرح النووي" 5/ 187.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 187.

ص: 569

قال القرطبيّ: وهذا كلّه يُعارضه ما ذكره أبو بكر بن أبي شيبة من حديث الحسن، عن عمران بن حصين في هذه القصّة أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا صلّى بهم المقضيّة قالوا: ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال: "لا ينهاكم اللَّه عن الربا، ويأخذه منكم"

(1)

.

والصحيح ترك العمل بذلك الظاهر لهذه المعارضة، ولمَا حَكَى الخطّابيّ، ولأن الطُّرُق الصحاح المشهورة ليس فيها من تلك الزيادة شيء إلا ما في حديث أبي قتادة، وهو مُحْتَمِلٌ كما قرّرناه، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا؟ ")"ما" استفهاميّة، مفعول مقدّم وجوبًا لـ "صنعوا"؛ لكونه استفهامًا، ويَحْتَمل أن يكون مبتدأ بتقدير العائد، أي ما تظنّون الناس أيّ شيء صانعين حين يُصبحون، فلا يجدون نبيّهم بينهم؟.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا صلى بهم الصبح بعد ارتفاع الشمس، وقد سبقهم الناس، وانقطع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الطائفة اليسيرة عنهم، قال: ما تظنون الناس يقولون فينا؟، فسكت القوم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أما أبو بكر وعمر فيقولان للناس: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم وراءكم، ولا تطيب نفسه أن يُخَلِّفكم وراءه، ويتقدم بين أيديكم، فينبغي لكم أن تنتظروه حتى يلحقكم، وقال باقي الناس: إنه سبقكم فالحقوه، فإن أطاعوا أبا بكر وعمر رَشَدُوا، فإنهما على الصواب. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟ " هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم من كان معه مستفهمًا على جهة استحضار أفهامهم، ثم قال مخبرًا بما صنعوا، وبما قالوا إلى قوله:"وقال الناس: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أيديكم"، وهنا انتهى الخبر عنهم، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يُرشَدُوا"؛ لأنهما وافقا الحقّ فيما قالاه، فصوابه إذًا أن يكون:"يُطيعوا"، و"يرشدوا" بياء الغائبين، وقد قيل في بعض النسخ بتاء المخطابين، ووجهه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كأنه أقبل على الغائبين، فخاطبهم، ويجري هذا مجرى

(1)

"المصنّف"(2/ 64).

(2)

"المفهم" 2/ 316 - 317.

ص: 570

قول عمر: "الجبل يا سارية"، وهو بالمدينة، وسارية بمصر، أو بالشام، فسمعه سارية، ولجأ إلى الجبل، ونجا هو وأصحابه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أن كونه بتاء المخاطبين تصحيف من النسّاخ، والتوجيه الذي ذكره القرطبيّ لا يخفى كونه تكلّفًا، وتنظيره بقصّة عمر رضي الله عنه بعيد جدًّا؛ لأن صوته سمعه سارية كرامة من اللَّه تعالى، فامتثل أمره، فنجا ونجا من معه، وأما هؤلاء الصحابة لم يُنقل عنهم أن صوته صلى الله عليه وسلم وصل إليهم، فامتثلوه، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو قتادة (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم بعدما استفهم مخبرًا لهم عن حال الناس ("أَصْبَحَ النَّاسُ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ) أي لكونه تأخّر عنهم، وتقدّموا عليه ظنًّا منهم أنه أمامهم (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) رضي الله عنهما (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) مبتدأ خبره قوله:(بَعْدَكُمْ، لَمْ يَكُنْ لِيُخَلِّفَكُمْ) بتشديد اللام، من التخليف، أي ليترككم وراءه (وَقَالَ النَّاسُ) أي غير أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) أي سبقكم، وأنتم خلفه، قال صلى الله عليه وسلم مبيّنًا كون الصواب مع الشيخين (فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشَدُوا") من بابي تَعِبَ ونَصَر، مبنيًّا للفاعل، أي يكونون مصيبين الحقّ.

ويَحْتَمِلُ أن يكون مبنيًّا للمفعول، من أرشد رباعيًّا، أي يوفّقُون للصواب.

قال في "القاموس": رَشَدَ كنصَرَ، وفَرِحَ رُشْدًا ورَشَدًا، ورَشَادًا: اهتدى، كاسترشد. انتهى

(2)

.

وقال في "المصباح": الرُّشْدُ: الصلاحُ، وهو: خلاف الْغَيّ والضلال، وهو إصابة الصواب، ورَشِدَ رَشَدًا، من باب تَعِبَ، ورَشَدَ يَرْشُدُ من باب قَتَلَ، فهو راشدٌ، والاسم الرَّشَادُ، ويتعدّى بالهمزة. انتهى

(3)

.

(قَالَ) أبو قتادة (فَانْتَهَيْنَا) أي وصلنا (إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ) أي ارتفع (النَّهَارُ، وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ) بفتح الحاء المهملة، وكسر الميم: أي اشتدّ حرّه، يقال: حَمِيتِ الحديدة تَحْمَى، من باب تَعِبَ، فهي حاميةٌ: إذا اشتدّ حرُّها بالنار، ويُعدّى بالهمزة، فيقال: أحميتها، فهي مُحْمَاةٌ، ولا يقال: حَمَيْتُهَا بغير

(1)

"المفهم" 2/ 317.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 294.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 227.

ص: 571

ألف

(1)

. (وَهُمْ يَقُولُونَ) جملة حاليّة من "الناس"(يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْنَا، عَطِشْنَا) بدل من هلكنا مبيّن معناه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا هُلْكَ) بضمّ الهاء، وسكون اللام: أي لا هلاك (عَلَيْكُمْ") لأن اللَّه تعالى سيجعل لكم بركةً فيّ، فهو إخبار بما سيقع له من المعجزة في ماء الميضأة (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي") -بضم الغين المعجمة، وفتح الميم، وبالراء-: هو القدح الصغير، ويَحْتَمِل أن يريد به ميضأة أبي قتادة رضي الله عنه. (قَالَ: وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ، فَجَعَلَ) أي شرع (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ) بفتح أوله، من سقاه، ثلاثيًّا، كما في قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، أو بضمه، من أسقاه، رباعيًّا، كما في قوله تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16](فَلَمْ يَعْدُ) بفتح أوله، وسكون ثانيه، من عدا الأمرَ، وعن الأمر يَعْدُو، كغَزَا يَغْزُو: إذا جاوزه وتركه

(2)

. (أَنْ رَأَى النَّاسُ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل فاعل "يعدُ"، أي لم يتجاوز رؤيةُ الناس، وقوله:(مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطنا "ما" هنا بالمدّ والقصر، وكلاهما صحيح. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: إذا كانت ممدودة تكون مفعولًا به لـ "رأى"، والجارّ والمجرور صفتها، وإذا كانت مقصورة تكون موصولًا في محلّ نصب على المفعوليّة لـ "رأى" أيضًا، والجارّ والمجرور صلتها، و"رأى" هنا بصريّة، ولذا تعدّت لواحد، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (تَكَابُّوا عَلَيْهَا) بتشديد الموحّدة، أي تجمّعوا، وتزاحموا على تلك الميضأة، قال ابن الأثير رحمه الله: معنى "تكابُّوا": أي ازدحموا، وهي تفاعلوا، من الْكُبَّة بالضمّ، وهي الجماعة من الناس وغيرهم. انتهى

(3)

.

وجملة: "تكابُّوا" مفعول به لـ "يَعْدُ"، بتقدير "أن" المصدريّة، أو مجرور بحرف جرّ مقدّر؛ لأنه سبق أنه يتعدّى بنفسه، وبـ "عن"، والأصل أن "تكابّوا"، والضمير في "عليها" لـ "الميضأة"، أي لم يجاوز رؤيَتُهُم تكابَّهم وتزاحمهم عليها.

(1)

"المصباح" 1/ 153.

(2)

راجع: "القاموس" 4/ 360.

(3)

"النهاية" 4/ 138.

ص: 572

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحْسِنُوا الْمَلَأَ) قال النوويّ رحمه الله: "الْمَلَأُ" -بفتح الميم واللام، وآخره همزة- وهو منصوبٌ مفعولُ "أَحْسِنُوا"، و"الملأ": الْخُلُق والْعِشْرة، يقال: ما أحسن مَلَأَ فلان: أي خُلُقه وعشرته، وما أحسن ملأ بني فلان: أي عشرتهم وأخلاقهم، ذكره الجوهريّ وغيره. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: "الملأ" بفتح الميم واللام، وبالهمزة: أي الخُلُق، قاله جماعة من اللغويين: أبو زيد، والمفضّل، والزجّاج، وابن السكّيت، وابن قُتيبة، وأنشد بعضهم:

تَنَادَوْا يَا لَبُهْثَةَ إِذْ رَأَتْنَا

فَقُلْنَا أَحْسِنِي مَلأَ جُهَيْنَا

أي خُلُقًا، ورَوَى ابن قُتيبة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين زجروا الأعرابيّ البائل في المسجد:"أحسنوا ملأكم"، أي خُلُقكم، ومن روى هذا الحرف "ملأكم" ساكنة اللام مهموزةً، من معنى الامتلاء، فقد أخطأ؛ لأنه لم يملأ أحدٌ في هذه النازلة قِرْبةً، ولا وِعاءً، وإنما كان شُربًا. انتهى

(1)

.

(كُلُّكُمْ سَيَرْوَى") بفتح الواو، مضارع رَوِيَ بكسرها، كرَضِي يرضَى (قَالَ) أبو قتادة (فَفَعَلُوا) أي ما أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من إحسان أخلاقهم، وعدم ازدحامهم (فَجَعَلَ) أي شرع (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ، وَأَسْقِيهِمْ) بفتح الهمزة وضمّها، كما سبق آنفًا (حَتَّى مَا) نافية (بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) و"حتى" غاية لشربهم جميعًا، يعني أنهم شرِبوا كلُّهم غير النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي قتادة رضي الله عنه (قَالَ) أبو قتادة (ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي: "اشْرَبْ"، فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أي تأدّبًا، وامتثالًا لقول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] الآية (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ) بكسر الهمزة (سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا") منصوب على التمييز (قَالَ) أبو قتادة (فَشَرِبْتُ، وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي آخر الناس، وفيه أن هذا الأدب من آداب شاربي الماء واللبن، ونحوهما، وفي معناه ما يُفَرَّق على الجماعة من المأكول، كلحم، وفاكهة، ومشموم، وغير ذلك، قاله النوويّ رحمه الله (قَالَ) أبو قتادة (فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ) أي الماء الذي أخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما خطبهم في اليوم الأول

(1)

"المفهم" 2/ 318.

ص: 573

بأنهم يأتون الماء غدًا (جَامِّينَ) أي نِشَاطًا مستريحين، صالحي الأحوال، والاستجمام: الاستراحة (رِوَاءً) بكسر الراء، وزانُ كتاب: جمع رَيّان، كعَطْشان وعِطَاش، وهو من الريّ، وهو الامتلاء من الماء.

والمعنى: أن الناس وصلوا إلى الماء غير عِطَاشٍ، بل وصلوا مرتوين، نشِطين مستريحين.

(قَالَ) الراوي، وهو ثابتٌ البنانيّ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ: إِنِّي لَأُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ) وفي بعض النسخ: "إني لأحدّث الناس هذا الحديث"(فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ) يعني بالكوفة.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا كتب بعضهم، ولم يذكر مستنده، وعندي أنه يشبه أن يكون مسجد البصرة؛ لأن عمران بن حصين رضي الله عنهما ممن نزل البصرة، ومات بها، وعبد اللَّه بن رباح من سكّان البصرة، وكذا الراوي عنه، بل رجال السند كلّهم بصريّون، فالظاهر أنه مسجد البصرة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قوله "في مسجدِ الجامعِ" هو: من باب إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل: في المسجدِ الجامعِ، وهو جائز عند الكوفيين بغير تقدير، ولا يجوز عند البصريين إلا بتقدير، ويتأولون ما جاء في هذا بحسب مواطنه، والتقدير هنا: مسجد المكان الجامع، وفي قول اللَّه تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص: 44] الآية: أي المكان الغربيّ، وقوله تعالى:{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109] الآية: أي الحياة الآخرة، وقد سبقت المسألة في مواضع، وقد أشار ابن مالك إلى هذا في "الخلاصة" حيثُ قال:

وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ

مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ

واللَّه تعالى أعلم.

(إِذْ قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ)"إذ" فجائيّة، أي فاجأني قول عمران بن حصين رضي الله عنهما (انْظُرْ أَيُّهَا الْفَتَى) منصوب على الاختصاص، كما قال في "الخلاصة":

الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"

كَـ "أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"

(كَيْفَ تُحَدِّثُ)"كيف" مفعول مطلق لـ "تُحدِّثُ"، أي أيَّ تحديث تُحدِّث،

ص: 574

أو حال منه، أي على أيّ حال تُحدّث، وجملة "تُحدِّث" مفعولُ "انظر" معلّق عنها للاستفهام.

ومعنى كلام عمران رضي الله عنه أنه حينما بدأ عبد اللَّه بن رَبَاح يُحدّث بالحديث قال له: انتبه أيها الفتى، وحدّث بدقّة، فإني أحد من شهد هذه الواقعة، وسأقابل ما تُحدّث به على ما شاهدته منها، فلما حدّث عبد اللَّه، وانتهى من حديثه، قال له عمران رضي الله عنه:"ما شَعَرتُ وما علمتُ أن أحدًا حفظ هذه الواقعة كما حفظته"، فهو ثناء عليه بحفظ الحديث على وجهه، واستغرابٌ لحفظه هذا الحفظَ، مع أنه لم يشهد الواقعة، واللَّه تعالى أعلم.

(فَإِنِّي أَحَدُ الرَّكْبِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) اسم الإشارة منصوب على الظرفيّة، متعلّقٌ بـ "الركب"، و"الليلة" نعتٌ، أو بدل، أو عطف بيان، كما قيل:

مُعَرَّفٌ بَعْدَ إِشَارَةٍ بِـ "أَلْ"

يُعْرَبُ نَعْتًا أَوْ بَيَانًا أَوْ بَدَلْ

(قَالَ) عبد اللَّه بن رَبَاح (قُلْتُ: فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ) أي فينبغي أن تكون أنت المحدّث للناس دوني (فَقَالَ) عمران رضي الله عنه (مِمَّنْ أَنْتَ؟) أي من أيّ قبيلة من قبائل العرب أنت؟ (قُلْتُ: مِنَ الْأَنْصَارِ) أي من قبيلة الأنصار (قَالَ) عمران رضي الله عنه (حَدِّثْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِحَدِيثِكُمْ) إنما قال له هذا؛ لأن العادة أن الإنسان يحفظ أحاديث قومه أكثر مما يحفظ أحاديث غيرهم، كما شهد عمران هنا لعبد اللَّه بن رباح بذلك، حيث قال:"وما شعرت. . . إلخ"(قَالَ) عبد اللَّه (فَحَدَّثْتُ الْقَوْمَ) أي أتممت لهم الحديث؛ لأن عمران قطعه عليه حين استوقفه بالمسألة المذكورة آنفًا (فَقَالَ عِمْرَانُ) بن حصين رضي الله عنهما (لَقَدْ شَهِدْتُ) بكسر الهاء، يقال: شَهِدَ الشيءَ، من باب سَمِعَ شُهُودًا: حضَرَه، أو اطّلع عليه، وعاينته، وشَهِدَ العيدَ: أدركه

(1)

. وقوله: (تِلْكَ اللَّيْلَةَ) منصوب على المفعوليّة، كما في قوله تعالى:{يَخَافُونَ يَوْمًا} [النور: 37] الآية (وَمَا) نافية (شَعَرْتُ) بفتح العين المهملة، وضمّها، يقال: شَعَرَ بالشيء كنصَرَ، وكَرُمَ شُعُورًا، وشَعْرًا وشِعْرًا بالكسر، وشِعْرَةً مثلّثةً: إذا علم به، وفَطِنَ له، وعَقَلَه

(2)

، فيكون قوله: (أَنَّ

(1)

راجع: "القاموس"، و"المصباح" في مادّة "شَهِدَ".

(2)

راجع: "القاموس" 2/ 59.

ص: 575

أَحَدًا) حُذف منه حرف الجرّ؛ لأن شعر يتعَدّى به أي بأن أحدًا (حَفِظَهُ كَمَا حَفِظْتُهُ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه "حَفِظته" بضمّ وفتحها، وكلاهما حسن. انتهى

(1)

، أي فيكون المضموم خطابًا لعبد اللَّه بن رَباح، والمفتوح إخبارًا من عمران رضي الله عنه عن نفسه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه

(2)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1562](681)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(595) و"التوحيد"(7471)، و (أبو داود) في "الصلاة"(437 و 438 و 439 و 441)، و (الترمذيّ) فيها (177)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(615 و 616 و 617) و"الإمامة"(846) وفي "الكبرى"(919 و 1582 و 1583) و"التفسير"(11448)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2240)، و (أبو بكر بن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 66)(2240)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 298 و 305)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(989)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1460 و 1579)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 401)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(153)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 386)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2101)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1533)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 403 و 404 و 2/ 216)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(438 و 439)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أنه يستحبّ لأمير الجيش أن يخطبهم، وينبّههم على ما

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 189.

(2)

وأما عدّ صاحب "إرشاد الساري إلى أفراد مسلم عن البخاري" هذا الحديث في أفراد مسلم، فغير صحيح، فإن الحديث أخرجه كلاهما، كما ستراه في التخريج، فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 576

يستقبلهم من شدائد الغزو، ومشاقّ السفر حتى يكونوا على أُهبة لذلك، وأنه ينبغي له أن يعمهم كلّهم، ولا يخصّ بذلك بعضهم حتى يكونوا كلّهم على بصيرة من أمرهم.

2 -

(ومنها): استحباب خدمة الأكابر، ولا سيّما في السفر.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كونه يعتريه النوم، كسائر البشر، ولكنه لعينه فقط، فلا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء عليهم السلام بخلاف سائر الناس.

4 -

(ومنها): بيان آداب التعريس، وهو أن يتجنّب الطريق، كما مال صلى الله عليه وسلم عن الطريق هنا، وقد أمر به أيضًا، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"وإذا عَرَّستم، فاجتنبوا الطريق، فإنها طُرُق الدوابّ، ومأوى الهوامّ بالليل"، رواه مسلم

(1)

.

5 -

(ومنها): مشروعيّة الدعاء لمن أحسن بالخدمة؛ مكافأةً على إحسانه، فقد دعا صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة بأن يحفظه اللَّه كما حفظه، وقد تقدّم حديث ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا:"ومن آتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه"، حديث صحيح، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ.

6 -

(ومنها): أمر الإمام أتباعه بالمحافظة على أوقات الصلوات.

7 -

(ومنها): التأسّف، والتحزّن على فات من الخير، وإن كان لا تفريط فيه.

8 -

(ومنها): بيان ما خصّ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم من علم الغيب، حيث أمر أبا قتادة بحفظ ميضأته؛ لأنه سيكون لها نبأ، فوقع كما أخبره، وكذلك في قوله:"أصبح الناس فقدوا نبيّهم، فقال أبو بكر وعمر. . . إلخ".

9 -

(ومنها): ما حصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم من المعجزة في ميضأة أبي قتادة رضي الله عنه، حيث كفت الحاضرين مع شدّة عطشهم، فارتووا منها.

10 -

(ومنها): استحباب قضاء ركعتي الفجر.

(1)

في "كتاب الإمارة"(1926).

ص: 577

11 -

(ومنها): مشروعيّة الجماعة في قضاء الفوائت.

12 -

(ومنها): مشروعيّة الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة في قضاء صلاة الصبح بالنهار؛ لظاهر قوله:"فصلّى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم"، ومن قال: لا يجهر، فقد خالف هذا الظاهر، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

13 -

(ومنها): الحثّ على تحسين الخلُق بين الناس، ولا سيّما في محلّ المزاحمة، والمضايقة، وقد أخرج الإمام أحمد، والترمذيّ، وصححه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلُقًا".

وأخرج أحمد، وأبو داود بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن المؤمن لَيُدْرِك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، حديث صحيح.

وأخرج أحمد، والترمذيّ، وصححه عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اتَّقِ اللَّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".

14 -

(ومنها): بيان أدب ساقي القوم، وهو أن يكون آخرهم شُربًا، حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن ساقي القوم آخرُهم شُربًا"، وقاس عليه العلماء ما أشبهه، كمن يقوم بتفريق شيء من المأكول: لحم، أو فاكهة، أو مشموم، أو غير ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1563]

(682) - (وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَا، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ عَرَّسْنَا، فَغَلَبَتْنَا أَعْيُنُنَا، حَتَّى بَزَغَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَّا أَبُو بَكْرٍ، وَكُنَّا لَا نُوقِظُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ

ص: 578

مَنَامِهِ إِذَا نَامَ، حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ عُمَرُ، فَقَامَ عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَرَأَى الشَّمْسَ قَدْ بَزَغَتْ، قَالَ

(1)

: "ارْتَحِلُوا"، فَسَارَ بِنَا، حَتَّى إِذَا ابْيَضَّتِ الشَّمْسُ، نَزَلَ فَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ

(2)

أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا؟ "، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ، فَصَلَّى، ثُمَّ عَجَّلَنِي فِي رَكْبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، نَطْلُبُ الْمَاءَ، وَقَدْ عَطِشْنَا عَطَشًا شَدِيدًا، فَبَيْنَمَا

(3)

نَحْنُ نَسِيرُ، إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ

(4)

رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ، فَقُلْنَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: أَيْهَاهْ أَيْهَاهْ، لَا مَاءَ لَكُمْ، قُلْنَا: فَكَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ؟ قَالَتْ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قُلْنَا: انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: وَمَا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا، حَتَّى انْطَلَقْنَا بِهَا، فَاسْتَقْبَلْنَا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلهَا، فَأَخْبَرَتْهُ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَتْنَا

(5)

، وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا مُوتِمَةٌ، لَهَا صِبْيَانٌ أَيْتَامٌ، فَأَمَرَ بِرَاوِيَتِهَا، فَأُنِيخَتْ، فَمَجَّ فِي الْعَزْلَاوينِ الْعُلْيَاوَيْنِ، ثُمَّ بَعَثَ بِرَاوِيَتِهَا، فَشَرِبْنَا، وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، عِطَاشٌ

(6)

حَتَّى رَوِينَا، وَمَلَأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وَإِدَاوَةٍ، وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا، وَهِيَ تَكَادُ تَنْضَرِجُ

(7)

مِنَ الْمَاءِ، يَعْنِي الْمَزَادَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:"هَاتُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ"، فَجَمَعْنَا لَهَا مِنْ كِسَرٍ، وَتَمْرٍ، وَصَرَّ لَهَا صُرَّةً، فَقَالَ لَهَا:"اذْهَبِي، فَأَطْعِمِي هَذَا عِيَالَكِ، وَاعْلَمِي أَنَّا لَمْ نَرْزَأْ مِنْ مَائِكِ"

(8)

، فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا، قَالَتْ: لَقَدْ لَقِيتُ أَسْحَرَ الْبَشَرِ، أَوْ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ كَمَا زَعَمَ، كَانَ مِنْ أَمْرِهِ ذَيْتَ وَذَيْتَ، فَهَدَى اللَّهُ ذَاكَ

(9)

الصِّرْمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَأَسْلَمَتْ، وَأَسْلَمُوا).

(1)

وفي نسخة: "فقال".

(2)

وفي نسخة: "ما شغلك".

(3)

وفى نسخة: "فبينا".

(4)

وفي نسخة: "سابلة".

(5)

وفي نسخة: "أخبرتنا به".

(6)

وفي نسخة: "عِطاشًا".

(7)

وفي نسخة: "تتضرّج".

(8)

وفي نسخة: "من مائك شيئًا".

(9)

وفي نسخة: "ذلك".

ص: 579

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) الْحَنَفيّ، أبو عليّ البصريّ، صدوقٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "المساجد" 40/ 1451.

3 -

(سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ الْعُطَارِدِيُّ) أبو بشر البصريّ، صدوقٌ

(1)

[6].

رَوَى عن أبي رجاء العُطَارديّ، وعبد الرحمن بن طَرَفَة، وبُريد بن أبي مريم السَّلُوليّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو داود، وأبو الوليد الطيالسيان، وحَبّان بن هلال، ويعقوب بن إسحاق الحضرميّ، وأبو علي الحنفيّ، وعِدّة.

قال البخاريّ، عن عليّ ابن المدينيّ: له نحو عشرة أحاديث، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، ما به بأسٌ، وقال ابن معين: ضعيفٌ، وقال أبو داود: ليس بذاك، وقال ابن عديّ: أحاديثه قليلةٌ، وليس في مقدارها أن يُعْتَبَر ضعفها، وقال أبو زرعة: صدوقٌ، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال العجليّ: في عداد الشيوخ ثقةٌ، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وقال الحاكم: أخرج له محمد في الأصول، ومسلم في الشواهد، وضعفه يحيى بن معين؛ لقلة اشتغاله بالحديث، وقد حدَّث بأحاديث مستقيمة، وقال ابن حبان في "الضعفاء": لم يكن الحديث صناعته، وكان الغالب عليه الصلاح، يُخطئ خطأً فاحشًا، لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات، وذكره أيضًا في "الثقات"، وسكت عنه.

وقال أبو إسحاق الصَّرِيفينيّ: بَقِي إلى حدود الستين ومائة، وفي "تاريخ البخاريّ": قال ابن مهديّ: سلم بن رزين -يعني بالنون، وتقديم الراء- قال أبو أحمد الحاكم: وهو وَهَمٌ، وقال أبو علي الجيّانيّ: وقع لبعض رواة "الجامع" زُرَير -بضم الزاي- وهو خطأ، والصواب الفتح. انتهى.

(1)

هذا قول أبي زرعة، وهو الأعدل، ومن الغريب أن صاحب "التقريب" خالف فيه اصطلاحه، فراجعه (ص 129).

ص: 580

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث

(1)

.

4 -

(أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ) عمران بن تَيْم، وقيل: مِلْحان -بكسر، فسكون- وقيل في اسم أبيه غيره، ثقةٌ مُخضرمٌ معمَّرٌ [2](ت 105) وله (120) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 62/ 345.

5 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَفَ الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد الصحابيّ، وأبوه أيضًا صحابيّ على الصحيح، أسلم عام خيبر، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، ومات سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له النسائيّ، وابن ماجه، وسلم بن زرير، فتفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فسَرَخْسيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما على الصحيح، وكان من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، بعثه عمر رضي الله عنه إلى البصرة؛ ليفقههم في الدين، وكانت الملائكة تسلم عليه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كُنْتُ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ) وفي الرواية التالية من طَريق عوف الأعرابيّ، عن أبي رجاء:"كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر".

قال في "الفتح": اختُلِف في تعيين هذا السفر، ففي مسلم من حديث

(1)

وقال في "تهذيب التهذيب" 4/ 113 - 114: رَوَى له مسلم حديثًا واحدًا في نومهم عن صلاة الصبح، والبخاري ثلاثةً: هذا، والخبأ لابن صياد، والثالث تقدم في أكثر أهل الجنّة والنار. انتهى.

ص: 581

أبي هريرة رضي الله عنه يعني الحديث الماضي- أنه وقع عند رجوعهم من خيبر قريبٌ من هذه القصة.

وفي "سنن أبي داود" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلًا، فنزل، فقال:"مَن يكلؤنا؟ "، فقال بلال: أنا. . . الحديث.

وفي "الموطأ" عن زيد بن أسلم مرسلًا: "عَرَّس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلةً بطريق مكة، ووَكَّل بلالًا".

وفي "مصنف عبد الرزاق" عن عطاء بن يسار مرسلًا أن ذلك كان بطريق تبوك، وللبيهقيّ في "الدلائل" نحوه من حديث عقبة بن عامر، ورَوَى مسلم من حديث أبي قتادة مُطَوّلًا -يعني الحديث الماضي- والبخاريّ مختصرًا في الصلاة قصة نومهم عن صلاة الصبح أيضًا في السفر، لكن لم يعيِّنه.

ووقع في رواية لأبي داود أن ذلك كان في غزوة جيش الأمراء.

وتَعَقَّبه ابن عبد البر بأن غزوة جيش الأمراء هي غزوة مؤتة، ولم يشهدها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال، لكن يَحْتَمِلُ أن يكون المراد بغزوة جيش الأمراء غزوة أخرى غير غزوة مؤتة.

وقد اختَلَفَ العلماء، هل كان ذلك مرةً، أو أكثر؟ أعني نومهم عن صلاة الصبح، فجزم الأَصِيليّ بأن القصة واحدةٌ.

وتعقبه القاضي عياض بأن قصة أبي قتادة مغايرةٌ لقصة عمران بن حصين، وهو كما قال، فإن قصة أبي قتادة فيها أن أبا بكر وعمر لم يكونا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نام، وقصة عمران فيها أنهما كانا معه، وأيضًا فقصة عمر أن فيها أن أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عمر بالتكبير، وقصة أبي قتادة فيها أن أول من استيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي القصتين غير ذلك من وجوه المغايرات، ومع ذلك فالجمع بينهما ممكنٌ، لا سيما ما وقع عند مسلم وغيره أن عبد اللَّه بن رَبَاح، راوي الحديث عن أبي قتادة، ذَكَرَ أن عمران بن حصين، سمعه وهو يحدث بالحديث بطوله، فقال له: انظر كيف تحدِّث؟ فإني كنت شاهدًا القصة، قال: فما أنكر عليه من الحديث شيئًا، فهذا يدلّ على اتحادهما، لكن لمدَّعي التعدد أن يقول: يَحْتَمِل أن يكون عمران حضر

ص: 582

القصتين، فحدَّث بإحداهما، وصَدَّق عبد اللَّه بن رباح لَمّا حدث عن أبي قتادة بالأخرى، واللَّه تعالى أعلم.

ومما يدُلّ على تعدد القصة اختلاف مواطنها كما قدمناه، وحاول ابن عبد البر الجمع بينهما بأن زمان رجوعهم من خيبر قريبٌ من زمان رجوعهم من الحديبية، وأن اسم طريق مكة يصدُقُ عليهما، ولا يخفى ما فيه من التكلُّف، ورواية عبد الرزاق بتعيين غزوة تبوك ترُدّ عليه.

ورَوَى الطبراني من حديث عمرو بن أمية شبيهًا بقصة عمران، وفيه أن الذي كلأ لهم الفجر ذو مِخْبَرٍ -وهو بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموحدة- وأخرجه من طريق ذي مِخَبرٍ أيضًا، وأصله عند أبي داود.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم إن بلالًا هو الذي كلأ لهم الفجر، وذكر فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أولهم استيقاظًا، كما في قصة أبي قتادة، ولابن حبان في "صحيحه" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه كلأ لهم الفجر، وهذا أيضًا يدلّ على تعدّد القصة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح في وجه الجمع بين الروايات هو الحمل على تعدّد الواقعة، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَا) أي سرينا ليلتنا، يقال: أدلج -بقطع الهمزة، وسكون الدال- يُدلِج إدلاجًا، كأكرم يُكرم إكرامًا: إذا سار الليل كلّه، و"ادّلَج" -بوصل الهمزة، وتشديد الدال- يَدّلِج ادِّلَاجًا، من باب الافتعال: إذا سار من آخره، وهذا هو الأشهر في اللغة، وقيل: هما بمعنى واحد.

(حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ) اسم "كان" ضمير يعود إلى الوقت المفهوم من المقام، وخبرها الجارّ والمجرور، و"الوَجْه" -بفتح الواو، وسكون الجيم-: مُسْتَقبَلُ كلِّ شيء، والْوِجهة بكسر الواو قيل: مثلُ الوجه، وقيل: كلُّ مكان استقبلته، وتُحذف الواو منه، فيقال: جِهَةٌ، مثلُ عِدَةٍ، أفاده في "المصباح"

(2)

.

(1)

"الفتح" 1/ 534 - 535.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 649.

ص: 583

والمعنى هنا: حتى إذا الوقت مواجهًا لطلوع الصبح، وهو كناية عن قرب طلوعه.

(عَرَّسْنَا) بتشديد الراء: أي نزلنا للاستراحة، يقال: عرّس المسافر: إذا نزل؛ ليستريح نَزْلَةً، ثم يرتحل، قال في "القاموس"، و"شرحه": وأعرس القومُ في السفر: نزلوا في آخر الليل للاستراحة، ثم أناخوا، وناموا نَوْمةً خفيفةً، ثم ساروا مع انفجار الصبح سائرين، كعَرَّسُوا تعريسًا، وهذا أكثرُ، وأعرسوا لغة قليلةٌ، والموضع مُعْرَسٌ، كَمُكْرَمٍ، ومُعَرَّسٌ، كمُعَظَّمٍ، وقيل: التعريس أن يسير النهار كلّه، وينزل أوّل الليل، وقيل: هو النزول في الْمَعْهَد أيّ حين كان، من ليل أو نهار. انتهى

(1)

.

وقد بُيِّنَ في حديث أبي قتادة رضي الله عنه عند البخاريّ سببُ نزولهم في تلك الساعة، وهو سؤال بعض القوم بقول:"لو عَرَّست بنا يا رسول اللَّه"، وفيه قال صلى الله عليه وسلم:"أخاف أن تناموا عن الصلاة"، فقال بلالٌ: أنا أوقظكم.

(فَغَلَبَتْنَا أَعْيُنُنَا) أي غلب النوم على أعيننا، فاستغرقنا فيه (حَتَّى بَزَغَتِ الشَّمْسُ) أي طلعت، يقال: بزغت الشمس بَزْغًا وبُزُوغًا: شَرَقَت، أو البُزُوغُ: ابتداء الطلوع، قاله في "القاموس"

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: المناسب هنا هو معنى الطلوع، وأما تفسير القرطبيّ والنوويّ بأوّل الطلوع، وإن كان صحيحًا من حيثُ اللغةُ، فلا يناسب هنا، بدليل الروايات الأخرى أنهم ما استيقظوا إلا بحرّ الشمس، ففي رواية عوف الأعرابيّ، عن أبي رجاء التالية:"كنّا حتى إذا كان من آخر الليل قُبيل الصبح وقعنا وَقْعَةً تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حرّ الشمس"، فدلّ على أنهما ما استيقظوا عند بداية الطلوع، بل بعد طلوعها، وارتفاعها، واشتداد حرّها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) عمران رضي الله عنه (فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَّا أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، هذا تصريح باسم أول من استيقظ، وهو كذلك عند البخاريّ في "علامات

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 4/ 189.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 102.

ص: 584

النبوّة"، وفي رواية البخاريّ في "التيمّم": "وكان أولَ من استيقظ فلانٌ، ثم فلانٌ، ثم فلانٌ، يسمّيهم أبو رجاء، فنسي عوف، ثم عمر بن الخطّاب الرابع".

قال في "الفتح": ويشبه -واللَّه أعلم- أن يكون الثاني عمرانَ، راوي القصة؛ لأن ظاهر سياقه أنه شاهَدَ ذلك، ولا يمكنه مشاهدته إلا بعد استيقاظه، ويشبه أن يكون الثالث مَن شارك عمران في رواية هذه القصّة المعيَّنَة، ففي الطبرانيّ من رواية عمرو بن أمية: قال ذو مِخْبَر: "فما أيقظني إلا حرُّ الشمس، فجئت أدنى القوم فأيقظته، وأيقظ الناس بعضهم بعضًا، حتى استيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى

(1)

.

وتعقّب العينيّ تعيين الثاني والثالث، وقال: وهذا تصرُّف بالحدس والتخمين. انتهى

(2)

.

(وَكُنَّا لَا نُوقِظُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَنَامِهِ) أي نومه، فهو مصدر ميميّ لـ "نام"(إِذَا نَامَ، حَتَّى يَسْتَيْقِظَ) صلى الله عليه وسلم هو بنفسه، زاد في رواية البخاريّ من طريق عوف المذكورة:"لأنا لا ندري ما يَحْدُث له"، وهو بضم الدال بعدها مثلثة، أي من الوحي، كانوا يخافون من إيقاظه قَطْعَ الوحي، فلا يوقظونه؛ لاحتمال ذلك، قال ابن بطال رحمه الله: يؤخذ منه التمسك بالأمر الأعمّ؛ احتياطًا. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: كانوا يمتنعون من إيقاظه صلى الله عليه وسلم؛ لما كانوا يتوقعون من الإيحاء إليه في المنام، ومع هذا فكانت الصلاة قد فات وقتها، فلو نام آحاد الناس اليومَ، وحضرت صلاةٌ، وخيف فوتها نَبَّهه مَن حضره؛ لئلا تفوت الصلاة. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ اسْتَيْقَظَ عُمَرُ) تقدّم في رواية البخاريّ أنه الرابع من المستيقظين (فَقَامَ عِنْدَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ) أي شرع (يُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بالتَّكْبِيرِ) وفي رواية عوف الآتية: "فلما استيقظ عمر بن الخطاب، ورأى ما أَصاب الناس، وكان أجوف جَلِيدًا، فكبّر، ورفع صوته بالتكبير، حتى استيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لشدّة صوته بالتكبير".

(1)

"الفتح" 1/ 535 "كتاب التيمّم" رقم (344).

(2)

"عمدة القاري" 4/ 27.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 190.

ص: 585

(حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"حتى" غاية لتكبيره، ورفع صوته (فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ) صلى الله عليه وسلم (وَرَأَى الشَّمْسَ قَدْ بَزَغَتْ) أي طلعت (قَالَ:"ارْتَحِلُوا") أمر من الارتحال، واستُدِلّ به على جواز تأخير الفائتة عن وقت ذكرها، إذا لم يكن عن تغافل أو استهانة.

وفي رواية عوف الآتية: "فلما استيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شَكَوْا إليه الذي أصابهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا ضير، ارتحلوا"، وقد تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه سبب أمره لهم بالارتحال، حيث قال: "ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حَضَرَنا فيه الشيطان".

ولأبي داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "تَحَوَّلوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة".

وفيه رَدٌّ على ما زُعِم أن العلة فيه كون ذلك كان وقت الكراهة، بل في هذا الحديث من رواية عوف التالية:"فما أيقظنا إلا حرّ الشمس"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي:"فلم يستيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا بلالٌ، ولا أحد من أصحابه، حتى ضربتهم الشمس"، وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة. وقد قيل: إنما أخر النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة؛ لاشتغالهم بأحوالها، وقيل: تحرُّزًا من العدوّ، وقيل: انتظارًا لما ينزل عليه من الوحي، وقيل: لأن المحلّ محلُّ غفلة، كما تقدّم عند أبي داود، وقيل: ليستيقظ من كان نائمًا، ويَنْشَطَ مَن كان كسلان.

ورُوي عن ابن وهب وغيره أن تأخير قضاء الفائتة منسوخٌ بقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} .

وفيه نظرٌ؛ لأن الآية مكيةٌ، والحديث مدنيّ، فكيف ينسَخ المتقدِّم المتأخرَ؟.

(فَسَارَ) صلى الله عليه وسلم (بِنَا) معشر الصحابة (حَتَّى إِذَا ابْيَضَّتِ الشَّمْسُ) أي صارت ذات بياض، يقال: ابيضّ الشيءُ ابْيِضَاضًا: إذا صار ذا بياض

(1)

. (نَزَلَ) صلى الله عليه وسلم عن راحلته (فَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ) أي صلاة الصبح، وفيه مشروعية الجماعة في الفوائت.

(1)

"المصباح" 1/ 69.

ص: 586

وفي رواية البخاريّ: "فسار غير بعيد، ثم نزل، فدعا بالوَضُوء، فتوضّأ، ونُودي بالصلاة، فصلّى بالناس".

واستُدِلّ به على مشروعيّة الأذان للفوائت، وتُعُقّب بأن النداء أعمّ من الأذان، فيَحْتَمِل أن يراد به هنا الإقامة، وأجيب بأنه وقع التصريح بالتأذين في حديث أبي قتادة رضي الله عنه الماضي، وقد ترجم له البخاريّ بقوله:"باب الأذان بعد ذهاب الوقت"، ثم أورد حديث أبي قتادة رضي الله عنه المذكور، أفاده في "الفتح".

(فَاعْتَزَلَ) أي تنحّى، وابتعد (رَجُلٌ) قال في "الفتح": لم أقف على تسميته، ووقع في "شرح العمدة" للشيخ سراج الدين ابن الملقن رحمه الله ما نصه: هذا الرجل هو خلاد بن رافع بن مالك الأنصاريّ، أخو رفاعة، شَهِدَ بدرًا، قال ابن الكلبيّ: وقُتِل يومئذ، وقال غيره: له رواية، وهذا يدلّ على أنه عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ رحمه الله: أما على قول ابن الكلبيّ، فيستحيل أن يكون هو صاحبَ هذه القصة؛ لتقدم وقعة بدر على هذه القصة بمدة طويلة بلا خلاف، فكيف يحضر هذه القصة بعد قتله؟ وأما على قول غير ابن الكلبيّ، فيَحْتَمِل أن يكون هو، لكن لا يلزم من كونه له رواية أن يكون عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لاحتمال أن تكون الرواية عنه منقطعة، أو متصلةً، لكن نقلها عنه صحابيّ آخر ونحوه، وعلى هذا فلا منافاة بين هذا وبين من قال: إنه قُتِل ببدر، إلا أن تجيء روايةٌ عن تابعيّ غير مخضرم، وصَرَّح فيها بسماعه منه، فحينئذ يلزم أن يكون عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم أن يكون هو صاحب هذه القصة، إلا إن وردت رواية مخصوصة بذلك، ولم أقف عليها إلى الآن. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (مِنَ الْقَوْمِ) متعلّقٌ بـ "اعتَزَلَ"، وقوله:(لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا) جملة في محلّ رفع صفة لـ "رجل"(فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي سلّم من الصلاة (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"رسول اللَّه" تنازعه "انصرف"، و"قال"("يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا؟ "، قَالَ) الرجل (يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ) زاد في رواية البخاريّ:

(1)

"الفتح" 1/ 537.

ص: 587

"ولا ماءَ"، بفتح الهمزة، أي معي، أو موجود، وهو أبلغ في إقامة عذره.

(فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) حذف مفعوله؛ لدلالة السياق عليه، أي أمره أن يتيمّم بالصعيد، وفي رواية البخاريّ:"عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"، قال في "الفتح": واللام فيه للعهد المذكور في الآية الكريمة، ويؤخذ منه الاكتفاء في البيان بما يَحصل به المقصود من الإفهام؛ لأنه أحاله على الكيفية المعلومة من الآية، ولم يُصَرِّح له بها، ودَلَّ قوله:"يكفيك" على أن المتيمم في مثل هذه الحالة لا يلزمه القضاء، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله:"يكفيك" أي للأداء، فلا يدلّ على ترك القضاء. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى كون الاحتمال الأخير بعيدًا، فالحقّ أنه لا قضاء على من صلّى بالتيمّم، وقد مضى البحث مستوفًى في أبواب التيمّم، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(فَتَيَمَّمَ) الرجل (بِالصَّعِيدِ) تقدّم في "التيمّم" أن الصحيح أن الصعيد وجه الأرض، ترابًا كان، أو غيره، قال الزجّاج: ولا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة في ذلك، قاله في "المصباح"

(1)

.

والحاصل أن أرجح الأقوال في المراد بالصعيد من الآية هو ما قاله أهل اللغة، فلا يشترط في التيمّم أن يكون ترابًا، كما قاله بعض الأئمة، وقد مضى البحث مستوفًى في أبواب التيمّم أيضًا، وباللَّه تعالى التوفيق.

(فَصَلَّى) ذلك الرجل بالتيمّم.

قال عمران رضي الله عنه: (ثُمَّ عَجَّلَنِي) بتشديد الجيم: أي أمرني بالاستعجال، وأكّده عليّ (فِي رَكْبٍ) أي مع جماعة راكبين، فـ "في" بمعنى "مع"(بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أمامه (نَطْلُبُ الْمَاءَ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، وكذا قوله:(وَقَدْ عَطِشْنَا) بكسر الطاء (عَطَشًا شَدِيدًا) وفي رواية البخاريّ: "ثم سار النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنَزَلَ، فدعا فلانًا، كان يسقيه أبو رجاء، نسيه عوفٌ، ودعا عليًّا، فقال: اذهبا، فابتغِيا الماءَ".

وقوله: "فدعا فلانًا" هو عمران بن حصين رضي الله عنهما، كما دلّت عليه رواية

(1)

"المصباح" 1/ 339 - 340.

ص: 588

المصنّف هذه، ودلّت رواية البخاريّ هذه على أنه كان هو وعليّ فقط؛ لأنهما خوطبا بلفظ التثنية، ويَحْتَمِلُ أنه كان معهما غيرهما على سبيل التبعية لهما، فيتَّجِهُ إطلاق لفظ ركب في رواية مسلم هذه، وخُصّا بالخطاب؛ لأنهما المقصودان بالإرسال.

وفيه الجري على العادة في طلب الماء وغيره، دون الوقوف عند خرقها، وأن التسبب في ذلك غير قادح في التوكل، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَبَيْنَمَا) وفي نسخة: "فبينا"، وتقدّم البحث فيهما قريبًا (نَحْنُ نَسِيرُ، إِذَا) هي الفجائيّة (نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا) السادلة: هي المرسلة المُدَلِّية، قال القرطبيّ: كذلك رواية الجماعة، وللعذريّ:"سابلة" -بالباء الموحّدة- والأول أصوب؛ لأنه لا يقال: سَبَلَت، وإنما يقال: أسبلت. انتهى

(2)

.

وقوله: (بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ) ظرف لـ "سادلة"، وهو -بفتح الميم والزاي-: القربتان، وقيل: هي القِرْبَةُ الكبيرةُ التي تُحْمَلُ على الدابّة، سُمِّيت بذلك؛ لأنها يزاد فيها جلدٌ من غيرها؛ لتكبُر، وتُسَمَّى أيضًا السَّطِيحة (فَقُلْنَا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: أَيْهَاهْ أَيْهَاهْ) هكذا هو في الأصول، وهو بمعنى هيهات هيهات، ومعناه الْبُعْدُ من المطلوب، واليأسُ منه، كما قالت بعده:"لا ماء لكم"، قاله النوويّ

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: (أيهاه أيهاه) كذا رُوي هنا بالهمز في أولهما، وبالهاء في آخرهما، ويُروى بالتاء أيضًا في آخرهما، وهي هيهات المذكورة في قوله تعالى:{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} [المؤمنون: 36] أُبدلت الهاء همزةً، ومعناها الْبُعْدُ، والهاء في آخرها للوقف، وقيل: هي مركّبةٌ من "هَيْ" للتأسّف، و"هاه" للتأوّه، فقُلبت الهاء في الوصل تاءً، ثمّ حُرّكت بالفتح، والضمّ، والكسر، وقد قُرئ بها في قوله تعالى:{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} ، وهي اسم من أسماء الأفعال، فتارة تقدّر بِبَعُدَ، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَأَهْلُهُ

وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ تُوَاصِلُهْ

(1)

"الفتح" 1/ 538.

(2)

"المفهم" 2/ 316.

(3)

"شرح النوويّ" 5/ 191.

ص: 589

أي بَعُد العقيقُ وأهله، وتارةً تقدّر بِبُعْدٍ الذي هو المصدر، كما في قوله تعالى:{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} [المؤمنون: 36] أي بُعْدًا بُعْدًا للذي توعدونه، وهي حكاية عن قول الكفّار. انتهى

(1)

.

(لَا مَاءَ لَكُمْ) أي ليس لكم ماءٌ حاضرٌ، ولا قريبٌ.

(قُلْنَا: فَكَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ؟) هذا يدلّ على أن المرأة كانت قريبةً من منازل أهلها وقت ذاك (قَالَتْ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) برفع "مسيرةُ" على الابتداء، وخبره محذوف بدلالة السؤال عليه، أي كائن بينهما مسيرة يوم وليلة، أي مقدار سير يوم وليلة، وفي رواية البخاريّ:"قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونَفَرُنا خُلُوفٌ".

وقولها: "أمسِ" خبر لمبتدأ، وهو مبنيّ على الكسر، و"هذه الساعةَ" بالنصب على الظرفية، وقال ابن مالك: أصله: في مثل هذه الساعة، فحُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مُقامه، أي بعد حذف "في".

وقولها: "ونَفَرُنا خُلُوفٌ" قال ابن سِيدَهْ: النفر ما دون العشرة، وقيل: النفر الناس، وهو اللائق هنا؛ لأنها أرادت أن رجالها تخلَّفوا لطلب الماء، والْخُلُوف بضم الخاء المعجمة واللام: جمع خالف، قال ابن فارس: الخالف المستقي، ويقال أيضًا لمن غاب، ولعله المراد هنا، أي إن رجالها غابوا عن الحيّ، ويكون قولها:"ونفرُنا خُلُوفٌ" جملة مستقلةً زائدةً على جواب السؤال، وفي رواية:"ونفرنا خلوفًا" بالنصب، على الحال السادّة مسد الخبر، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(قُلْنَا: انْطَلِقِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "قالا لها: انطلقي إذًا، قالت: إلى أين؟ قا لا: إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(قَالَتْ: وَمَا رَسُولُ اللَّهِ؟) وفي رواية البخاريّ: "قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قال: هو الذي تعنين، فانطلقي"، وقولها:"الصابي" بلا همز، أي المائل، ويروى بالهمز من صبأ يصبا: أي خرج من دين إلى دين، وقولهم:"هو الذي تعنين" فيه أدبٌ حسنٌ، ولو قالا لها: لا، لفات المقصود، أو نعم، لم يحسن بهما؛ إذ فيه تقرير

(1)

"المفهم" 2/ 319 - 320.

(2)

"الفتح" 1/ 538.

ص: 590

ذلك، فتخلّصا أحسن تَخَلُّص، قاله في "الفتح"، وقال أيضًا: وفيه جواز الخلوة بالأجنبية في مثل هذه الحالة عند أمن الفتنة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وفيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنهما اثنان، والخلوة الممنوعة أن يخلو رجل واحد بامرأة، فقد أخرج الترمذيّ وغيره بسند صحيح، من حديث عمر رضي الله عنه، مرفوعًا:"ألا لا يخلونّ رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(فَلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا) أي لم نتركها على اختيارها، بل أجبرناها بالذهاب إليه صلى الله عليه وسلم (حَتَّى انْطَلَقْنَا بِهَا، فَاسْتَقْبَلْنَا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلهَا) أي عن الماء (فَأَخْبَرَتْهُ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَتْنَا) وفي نسخة: "أخبرتنا به"(وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا مُوتِمَةٌ) -بضمّ الميم، وسكون الهمزة، وكسر التاء-، أي ذات أيتام، قال في "القاموس":"الْيُتْمُ" بالضمّ: الانفراد، أو فِقْدان الأب، ويُحرّك، وفي البهائم فِقْدان الأمّ، والْيَتِيمُ: الفرد، وكلُّ شيء يَعِزّ نظيره، وقد يَتِمَ كَضَرَبَ، وعَلِمَ يُتْمًا، ويُفْتَحُ، وهو يتيم، ويَتْمَانُ: ما لم يَبْلُغ الْحُلُمَ، جمعه: أيتامٌ، ويتامى، ويَتَمَةٌ، ومَيْتَمَةٌ، وامرأة مُؤْتِمٌ، ونسوةٌ مَيَاتِيمُ، وقد أيتمت: صار أولادها يتامى. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": يَتُمَ يَيْتُمُ، من بابي تَعِبَ وقَرُبَ يُتْمًا بضمّ الياء وفتحها، والْيُتْمُ في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قِبَل الأمّ، وأيتمت المرأة إِيتَامًا، فهي موتِمٌ: صار أولادها يتامى، فإن مات الأبوان فالصغير لَطِيمٌ، وإن ماتت أمه فقط، فهو عَجِيٌّ

(2)

. انتهى

(3)

.

وقد نظمت ما ذُكر، فقلت:

مَعْنَى الْيَتِيمِ فَاقِدُ الأَبِ إِذَا

كَانَ مِنَ النَّاسِ وَالأُمِّ غَيْرُ ذَا

وَسَمِّهَ اللَّطِيمَ إِنَ ذَيْنِ فَقَدْ

أَوْ أُمَّهُ الْعَجِيُّ فَاحْفَظْ مَا وَرَدْ

وقوله: (لَهَا صِبْيَانٌ أَيْتَامٌ) توضيحٌ لمعنى "مؤتمة"(فَأَمَرَ بِرَاوَيتِهَا) قال

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 193.

(2)

"العَجِيّ" -كغَنِيّ-: فاقد أمه من الناس، وغيره، أفاده في "القاموس" 4/ 359.

(3)

راجع: "المصباح" 2/ 679.

ص: 591

الفيّوميّ رحمه الله: رَوَى البعيرُ الماءَ يَرْويه، من باب رَمَى: حَمَلَهُ، فهو راويةٌ، والهاء فيه للمبالغة، ثمّ أُطلقت الراويةُ على كل دابّة يُستقَى الماء عليها. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الراوية" عند العرب: هي الجمل الذي يَحْمِل الماء، وأهل العرف قد يستعملونه في الْمَزَادة؛ استعارةً، والأصل البعير. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الراوية": الجمل الذي يُستقى عليه الماء، وهذه رواية الجماعة، وعند السمرقنديّ:"فأمر براويتيها"، وكأنه أراد المزادتين، وفيه بُعْدٌ من جهة اللفظ. انتهى

(3)

.

(فَأُنِيخَتْ) أي أُبْرِكت، يقال: أناخ الرجلُ الجمل إناخةً: أبركها، قالوا: ولا يقال في المطاوع: فناخ، بل يقال: فبَرَكَ، وتنَوّخَ، وقد يقال: فاستناخ، والْمُنَاخُ بضمّ الميم: موضع الإناخة، أفاده في "المصباح"

(4)

.

وفي رواية البخاريّ: "فاستنزلوها عن بعيرها"، قيل: إنما أخذوها، واستجازوا أخذ مائها؛ لأنها كانت كافرةً حربيّةً، وعلى تقدير أن يكودن لها عهدٌ فضرورة العطش تبيح للمسلم الماء المملوك لغيره على عِوَضٍ، وإلا فنفس الشارع تُفَدَّى بكل شيء على سبيل الوجوب. انتهى

(5)

.

(فَمَجَّ فِي الْعَزْلَاوَيْنِ) أي طرح فيهما الماء من فيه، ومعناه: بَزْق فيهما.

و"العزلاوان": تثنية الْعَزْلاء بفتح، فسكون، ممدودًا، وهي مخرج الماء منها، وقيل: فمها الأسفل، أفاده في "المفهم"

(6)

.

وقال في "المصباح": "الْعَزْلاءُ"، وزانُ حَمْرا: فم المزادة الأسفل، وقال الخليل: هي مَصَبّ الماء من الراوية، ولكل مَزَادة عزلاوان من أسفلها، والجمع الْعَزَالي بفتح اللام، وكسرها. انتهى بزيادة

(7)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 246.

(2)

"شرح النوويّ" 5/ 191.

(3)

"المفهم" 2/ 320.

(4)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 629 بزيادة يسيرة من "اللسان".

(5)

راجع: "الفتح" 1/ 539.

(6)

2/ 320.

(7)

"المصباح" 2/ 408.

ص: 592

والعزالي بفتح المهملة والزاي وكسر اللام ويجوز فتحها جمع عزلاء بإسكان الزاي.

وقال النوويّ رحمه الله: "العزلاء" بالمدّ هو الْمِشْعَبُ الأسفل للمزادة، الذي يُفْرَغُ منه الماء، ويُطْلَق أيضًا على فمها الأعلى، كما قال في هذه الرواية:"العزلاوين الْعُلْياوين"، وتثنيتها عَزْلاوان، والجمع الْعَزَالِي، بكسر اللام، ويجوز فتحها. انتهى بزيادة يسيرة

(1)

.

وقوله: (الْعُلْيَاوينِ) صفة لـ "الْعَزْلاوين"، وهو بضم العين المهملة، وسكون اللام: تثنية "الْعُلْيا" قال الفيّوميّ: "الْعُلْيَا": خلاف السُّفْلَى، تُضمّ العينُ، فتُقصَرُ وتُفْتَحُ فتُمَدّ، قال ابن الأنباريّ: والضمّ مع القصر أكثر استعمالًا، فيقال: شَفَةٌ عُلْيَا، وعَلْيَاء، وأصل الْعَلْيَاءِ: كلُّ مكان مُشرِفٍ، وجمعُ الْعُلْيَا عُلًى، مثلُ كُبْرَى وكُبَر. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ بَعَثَ بِرَاوِيَتِهَا) أي أقام الجمل من موضع إناخته (فَشَرِبْنَا) أي فنزل الماء، فشربنا منه، وفي رواية البخاريّ:"فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبيّ صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرَّغَ فيه من أفواه المزادتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق العَزَالي"

(3)

، زاد الطبرانيّ والبيهقيّ:"فتمضمض في الماء، وأعاده في أفواه المزادتين"، قال في "الفتح": وبهذه الزيادة تتضح الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها، وإطلاق الأفواه هنا كقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؛ إذ ليس لكل مَزَادة سوى فم واحد، وعُرِف منها أن البركة إنما حَصَلَت بمشاركة ريقه صلى الله عليه وسلم الطاهر المبارك للماء.

وحاصل الصورة أنه صلى الله عليه وسلم أفرغ من أفواه المزادتين العلويّة بعض الماء، ومجّ فيه، وأعاده من حيث أخذه، وربط الأفواه التي فتحها، ثم بَعَثَ الجمل، فقام واقفًا، ثم فَتَحَ وفكّ رباط المزادتين من أسفل، مع الإمساك والضغط على فتحة كل مزادة؛ ليؤخذ منها، ثم نادى في الناس: اسقوا، واستقوا، واللَّه تعالى أعلم.

(وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، عِطَاشٌ) بالرفع على أنه نعت لـ "أربعون"، وهو:

(1)

"شرح النوويّ" 5/ 191.

(2)

"المصباح" 2/ 427 - 428.

(3)

قوله: "وأوكأ": أي رَبَطَ، وقوله:"وأطلق": أي فتح.

ص: 593

بكسر العين المهملة: جمع عَطْشان، يقال: عَطِشَ عَطَشًا، من باب فَرِحَ، فهو عَطِشٌ، وعَطْشَانُ، وامرأةٌ عَطِشَةٌ، وعَطْشَى، ويُجمعان على عِطَاش بالكسر، ومكان عَطِشٌ ليس به ماء، وقيل: قليل الماء

(1)

.

ووقع في بعض النسخ: "عطاشًا" منصوبًا على الحال، واللَّه تعالى أعلم.

(حَتَّى رَوِينَا) بكسر الواو، من باب رَضِيَ: ضدُّ عَطِشَ (وَمَلَأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا) قال في "القاموس": "القِرْبَةُ" بالكسر: الْوَطْبُ

(2)

من اللبن، وقد تكون للماء، أو هي الْمَخْرُوزةُ من جانبٍ واحد، جمعه: قِرْبَاتٌ -بكسر، فسكون- وقِرِبَاتٌ -بكسرتين- وقِرَبَاتٌ، وقِرَبٌ -بكسر، ففتح فيهما- وكذلك كلُّ ما كان على فِعْلَةٍ، كفِقْرَةٍ، وسِدْرَة. انتهى

(3)

.

وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

وَالسَّالِمَ الْعَيْنِ الثُّلَاثِي اسْمًا أَنِلْ

إِتْبَاعَ عَيْنٍ فَاءَهُ بِمَا شُكِلْ

إِنْ سَاكِنَ الْعَيْنِ مُؤَنَّثًا بَدَا

مُخْتَتَمًا بِالتَّاءِ أَوْ مُجَرَّدَا

وَسَكِّنِ التَّالِيَ غَيْرَ الْفَتْحِ أَوْ

خَفِّفْهُ بِالْفَتْحَ فَكُلًّا قَدْ رَوَوْا

(وَإِدَاوَةٍ) بكسر الهمزة: هي الْمِطْهَرَةُ، وجمعُها الأَدَوَى

(4)

. (وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا) بتشديد السين المهملة: أي أعطيناه ما يَغتسل به، والمراد بالصاحب هو الرجل الذي أصابته الجنابة، وفيه دليلٌ على أن المتيمم عن الجنابة إذا أمكنه استعمال الماء اغتسل.

وفي رواية البخاريّ: "ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، قال: اذهب، فأفرغه عليك".

وقوله: "أسقوا" بهمزة قطع مفتوحة، من أسقى، أو بهمزة وصل مكسورة، من سقى، والمراد أنهم سَقَوا غيرهم كالدوابّ ونحوها، واستَقَوا هم.

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 416.

(2)

"الوَطْبُ": سِقَاءُ اللبَنِ، وهو جِلْدُ الْجَذَع، فما فوقه، جمعه: أوطُبٌ، ووِطَابٌ، وأوطابٌ، قاله في "القاموس" 1/ 137.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 114 - 115.

(4)

"المصباح" 1/ 9.

ص: 594

واستُدِل بهذه القصة على تقديم مصلحة شرب الآدمي والحيوان على غيره، كمصلحة الطهارة بالماء؛ لتأخير المحتاج إليها عَمّن سَقَى واستَقَى، ولا ينافي هذا قوله في رواية مسلم هنا:"غير أنا لم نُسق بعيرًا"؛ لأنا نقول: هو محمول على أن الإبل لم تكن محتاجةً إذ ذاك إلى السقي، فَيُحْمَل قوله في رواية البخاريّ:"فسقى" على غيرها، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(غَيْرَ أَنَّا لَمْ نُسْقِ بَعِيرًا)"غير" منصوب على الاستثناء، و"أنّا" أصلها أنّنا، خُفّفت بحذف النون الثانية من "أَنّ"، ثم أدغمت في نون الضمير، و"نُسْقِ" بفتح النون، من سقى ثلاثيًّا، وضمّها، من أسقى رباعيًّا، وقد تقدّم قريبًا.

و"البِعِيرُ -بفتح الموحّدة، وقد تُكسر-: مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى، يقال: حَلَبتُ بعيري، والجملُ بمنزلة الرجل يَختصّ بالذكر، والناقة بمنزلة المرأة تختصّ بالأنثى

(2)

، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في أبواب التيمّم، وباللَّه تعالى التوفيق.

(وَهِيَ) أي المزادتان (تَكَادُ تَنْضَرِجُ) أي تَنْشَقُّ، وهو بفتح التاء، وإسكان النون، وفتح الضاد المعجمة، وبالجيم، ورُوِيَ "تَتَضَرَّجُ" بتاء أخرى بدل النون، وهو بمعناه، والأول هو المشهور

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تنضرج من الماء" كذا عند ابن ماهان بتاءين، وبـ "مِنْ"، وعند الجماعة:"تنضرج بالماء"، وهما بمعنى واحد، أي تُقارب أن تنشقّ من الامتلاء. انتهى

(4)

.

(مِنَ الْمَاءِ) متعلّقٌ بـ "تنضرج"، وقوله:(يَعْنِي الْمَزَادَتَيْنِ) أي يقصد بقوله: "وهي تكاد. . . إلخ"، ولعلّ إفراد الضمير باعتبار أنه جمع، عند من يقول: إن أقلّ الجمع اثنان، وهو الأرجح عندي، كما بيّنته في "التحفة المرضيّة" في الأصول، واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "وهي قائمة، تنظر ما يفعل بمائها، وايْمُ اللَّه لقد أُقلع عنها، وإنه لَيُخَيَّل إلينا أنها أشدّ مِلأَةً منها حين ابتدأ فيها".

(1)

"الفتح" 1/ 539.

(2)

"المصباح" 1/ 53.

(3)

"شرح النووي" 5/ 192.

(4)

"المفهم" 2/ 321.

ص: 595

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم تطييبًا لخاطرها، وشفقةً عليها، ورأفة بها، حيث ذكرت له أنها مؤتمة ("هَاتُوا) أي أحضروا (مَا) موصولة، أي الذي (كَانَ عِنْدَكُمْ") أي من الطعام (فَجَمَعْنَا لَهَا مِنْ كِسَرٍ) بكسر، ففتح: جمع كِسْرَة، قال الفيّوميّ: الكسرة: القِطعة من الشيء المكسور، ومنه الْكِسْرةُ من الخبز، والجمع: كِسَر، مثلُ سِدْرَة وسِدَر. انتهى

(1)

. (وَتَمْرٍ، وَصَرَّ لَهَا) أي شدّ ما جمعه لأجلها، يقال: صَرَّ الشيءَ يَصُرُّه صَرًّا، من باب نصر: إذا شدّه، وقوله:(صُرَّةً) بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الراء، قال في "القاموس":"الصُّرَّة" بالضمّ: شَرْجُ الدراهم ونحوها

(2)

، وقال أيضًا:"الشَّرْجُ": شدُّ الْخَرِيطة، كالإشراج، والتشريج. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: فعلى هذا يكون "صُرّةً" منصوبًا على أنه مفعول مطلقٌ، أي شدّ لها شَدًّا، وأما إذا أريد بالصُّرّة صُرّة الدراهم المعروفة، فيكون مفعولًا به لـ "صرّ"، أي شدّ لها وِعَاءً، يعني أنه صلى الله عليه وسلم ربط ما جُمع من الكِسَرِ والتمر في وعاءً، واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لها"، فجمعوا لها من بين عَجْوة، ودقيقة، وسَوِيقة، حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها.

وفيه جواز الأخذ للمحتاج برضا المطلوب منه، أو بغير رضاه إن تعيّن، وفيه جواز المعاطاة في مثل هذا من الهبات، والإباحات، من غير لفظ من المعطي والآخذ، قاله في "الفتح".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لَهَا: ("اذْهَبِي) إلى أهلك (فَأَطْعِمِي هَذَا عِيَالَكِ) بكسر العين المهملة، وتخفيف الياء بوزن كِتاب: من تتكفّل بهم، جمعه عالَةٌ، قاله في "القاموس"

(4)

، وقال الصاغانيّ في "التكملة": العيال: جمع عَيِّل، كجِيَاد جمع جيِّد، وهو من يلزم الإنفاق عليه، ويكون اسمًا للواحد، كما استعمله الحريريّ في "مقاماته"، وذكره المطَرِّزيّ في "شرحه"، ذكره نصر الهورينيّ

(5)

.

(1)

"المصباح" 2/ 533.

(2)

"القاموس" 2/ 68.

(3)

"القاموس" 1/ 196.

(4)

"القاموس المحيط" 4/ 22.

(5)

راجع: هامش القاموس 4/ 22.

ص: 596

(وَاعْلَمِي أَنَّا) بفتح الهمزة؛ لسدّها مسدّ مفعول "اعلمي"(لَمْ نَرْزَأْ) -بنون مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم زاء، ثم همزة-: أي لم نَنْقُص (مِنْ مَائِكِ") زاد في نسخة: "شيئًا".

وفي رواية البخاريّ: "قال لها: تعلمين ما رَزِئْنَا من مائك شيئًا، ولكنّ اللَّه هو الذي أسقانا".

وقوله: "تَعَلَّمين": أي اعلمي، وقد اشتَمَلَ هذا على عَلَمٍ عظيم من أعلام النبوة.

وقوله: "ما رَزِئنا" بفتح الراء، وكسر الزاي، ويجوز فتحها، وبعدها همزة ساكنةٌ-: أي نقصنا.

وظاهره أن جميع ما أخذوه من الماء مما زاده اللَّه تعالى، وأوجده، وأنه لم يختلط فيه شيء من مائها في الحقيقة، وإن كان في الظاهر مختلطًا، وهذا أبدع، وأغرب في المعجزة، وهو ظاهر قوله:"ولكن اللَّه هو الذي أسقانا".

ويَحْتَمِل أن يكون المراد: ما نقصنا من مقدار مائك شيئًا.

واستُدِلّ بهذا على جواز استعمال أواني المشركين، ما لم يُتَيَقَّن فيها النجاسة، وفيه إشارة إلى أن الذي أعطاها ليس على سبيل العِوَض عن مائها، بل على سبيل التكرُّم والتفضُّل، قاله في "الفتح".

(فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا، قَالَتْ: لَقَدْ لَقِيتُ أَسْحَرَ الْبَشَرِ) أي أقوى الناس سحرًا (أَوْ إِنَّهُ لَنَبِيٌّ كَمَا زَعَمَ) أي كما قال (كَانَ مِنْ أَمْرِهِ ذَيْتَ وَذَيْتَ) قال أهل اللغة: هو بمعنى كَيْتَ وكَيْتَ، وكذا وكذا، وهو كناية عن حديث معلوم

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "فأتت أهلها، وقد احتَبَست عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العَجَبُ، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فواللَّه إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء، تعني السماء والأرض، أو إنه لرسول اللَّه حقًّا".

(فَهَدَى اللَّهُ ذَاكَ) وفي نسخة: "ذلك"(الصِّرْمَ) بكسر الصاد المهملة: الأبيات المجتمعة (بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ) أي بسببها، فقوله:(فَأَسْلَمَتْ، وَأَسْلَمُوا) بيان لمعنى "فهدى اللَّه. . . إلخ"، وتوضيحٌ له.

(1)

"المفهم" 2/ 321، و"شرح النووي" 5/ 192.

ص: 597

زاد في رواية البخاريّ: "فكان المسلمون بعد ذلك يُغِيرون على مَن حولها من المشركين، ولا يُصيبون الصِّرم الذي هي منه، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يَدَعُونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام".

قال في "الفتح": قوله: "فقالت يومًا لقومها: ما أرى هؤلاء القوم يَدَعُونكم عمدًا"، هذه رواية الأكثر، قال ابن مالك:"ما" موصولة، و"أَرَى" بفتح الهمزة، بمعنى أعلم، والمعنى: الذي أعتقده أن هؤلاء يتركونكم عمدًا، لا غفلة، ولا نسيانًا، بل مُراعاةً لما سَبَقَ بيني وبينهم، وهذه الغاية في مراعاة الصحبة اليسيرة، وكان هذا القول سببًا لرغبتهم في الإسلام.

وفي رواية أبي ذرّ: "ما أرى أن هؤلاء القوم"، وقال ابن مالك أيضًا: وقع في بعض النسخ: "ما أدري" يعني رواية الأصيليّ، قال: و"ما" موصولة، و"أَنّ" بفتح الهمزة، وقال غيره "ما" نافية، و"أَنّ" بمعنى "لَعَلّ"، وقيل:"ما" نافيةٌ، و"إنّ" بالكسر، ومعناه: لا أعلم حالكم في تخلفكم عن الإسلام مع أنهم يَدَعُونكم عمدًا.

ومُحَصَّل القصة أن المسلمين صاروا يُراعون قومها على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سببًا لإسلامهم.

وبهذا يحصل الجواب عن الإشكال الذي ذكره بعضهم، وهو أن الاستيلاء على الكفار بمجرده، يوجب رقّ النساء والصبيان، وإذا كان كذلك، فقد دخلت المرأة في الرقّ باستيلائهم عليها، فكيف وقع إطلاقها، وتزويدها كما تقدم؛ لأنا نقول: أُطلقت لمصلحة الاستئلاف الذي جَرَّ دخول قومها أجمعين في الإسلام.

ويَحْتَمِل أنها كان لها أَمَانٌ قبل ذلك، أو كانت من قوم لهم عَهْدٌ. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1563 و 1564](682)، و (البخاريّ) في

(1)

"الفتح" 1/ 540 "كتاب التيمّم" رقم (344).

ص: 598

"التيمّم"(344 و 348) و"المناقب"(3571)، و (أبو داود) في "الصلاة"(443) من رواية الحسن البصريّ، عن عمران، وليست فيه هذه القصّة، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 171)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20537)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 156)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 45)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(271 و 987 و 997)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1301 و 1461)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 401)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 202)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 218 و 219 و 404) وفي "دلائل النبوّة"(4/ 276 و 279)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 276 و 277)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(309)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2098 و 2099 و 2100)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1534 و 1535)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب سلوك الأدب مع الأكابر، كما في فعل عمر رضي الله عنه في إيقاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): إظهار التأسّف لفوات أمر من أمور الدين.

3 -

(ومنها): أنه لا حرج على من تفوته صلاة لا بتقصير منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية عوف الأعرابيّ التالية: "لا ضير".

4 -

(ومنها): أن من أجنب، ولم يجد ماءً، فإنه يتيمم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"عليك بالصعيد"، وفي رواية:"عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"، وفيه دليل على أن التيمم للجنابة كالتيمم للحدث الأصغر، ودليل على أن عادم الماء يكفيه الصعيد من الماء، ولهذه المعنى جعله البخاريّ رحمه الله دليلًا له على إقامة التيمم مقام الطهارة بالماء عتد عدم الماء، فيؤخذ من هذا أنه يصلي به كما يصلي بالماء، كما هو اختيار البخاري ومن قال بقوله من العلماء

(1)

.

5 -

(ومنها): أن العالم إذا رأى أمرًا محتملًا، يسأل فاعله عنه؛ ليُوَضِّحه، فيُوَضِّح له هو وجه الصواب، فقد سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل المعتزل عن سبب اعتزاله، فأخبره بحاله، فبيّن له أن واجبه التيمّم بالصعيد.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 2/ 274.

ص: 599

6 -

(ومنها): استحباب الملاطفة والرفق في الإنكار على أحد فيما فعله.

7 -

(ومنها): التحريض على الصلاة بالجماعة ولو كانت فائتة، وأنه يؤذّن لها، ويقام، كما ثبت في بعض طرق الحديث.

8 -

(ومنها): الإنكار على ترك الشخص الصلاة بحضرة المصلين بغير عذر.

9 -

(ومنها): أن قضاء الفوائت واجبٌ، ولا يسقط بالتأخير، ويأثم بتأخيره بغير عذر.

10 -

(ومنها): أن من حَلّت به فتنة في بلد، فليخرُج منه، وليهرُب من الفتنة بدينه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث ارتحلوا عن بطن الوادي الذي حضرهم فيه الشيطان.

11 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به بعضهم على جواز أخذ أموال الناس عند الضرورة بثمن، إن كان له ثمن، قال في "الفتح": وفيه نظرٌ؛ لأنه بناه على أن الماء كان مملوكًا للمرأة، وأنها كانت معصومة النفس والمال، ويُحتاج إلى ثبوت ذلك، وإنما قدمناه احتمالًا، وأما قوله:"بثمن"، فكأنه أخذه من إعطائها ما ذُكِرَ، وليس بمستقيم؛ لأن العطية المذكورة متقوَّمة، والماء مثليّ، وضمان المثليّ إنما يكون بالمثل، وينعكس ما قاله من جهة أخرى، وهو أن المأخوذ من فضل الماء للضرورة لا يجب العوض عنه.

وقال بعضهم: فيه جواز طعام المخارجة؛ لأنهم تخارجوا في عوض الماء، وهو مبني على ما تقدم.

12 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أنه لا يجب طلب الماء إذا غلب على الظن عدمه أو قطع بذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بالتيمم، ولم يأمره بطلب، ولا بسؤال رفقته.

13 -

(ومنها): أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الماء أعطى الرجل الجنب ماءً، وأمره أن يغتسل به، وهذا مثل قوله في حديث أبي ذر رضي الله عنه:"فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك"

(1)

، وفيه رد على أبي سلمة في قوله: إنه لا غسل عليه.

14 -

(ومنها): أن فيه معجزةً عظيمة، وعَلَمٌ من أعلام نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

انظر "المسند" 5/ 146.

ص: 600

بتكثير الماء القليل ببركته صلى الله عليه وسلم، وإرواء العِطاش منه، واستعمالهم، وأخذهم منه في قِرَبهم من غير أن ينقُص الماء المأخوذ منه شيئًا، ولذلك قال للمرأة:"ما رزئنا من مائك شيئًا، وإنما سقانا اللَّه عز وجل".

وإنما لم يستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم المرأة أولًا في الشرب من مائها، والأخذ منه؛ لأن انتفاعهم إنما كان بالماء الذي أمدّه اللَّه تعالى بالبركة لم يكن من نفس مائها، ولذلك قال لها:"ما رَزِئنا من مائك شيئًا، وإنما سقانا اللَّه".

ونظير هذا: أن جابرًا صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا يسيرًا في عام الخندق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بذلك، وقال له: تعال أنت في نفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أهل الخندق، إن جابرًا قد صنع لكم سُورًا، فحيهلا بكم"، ثم جاء بهم جميعًا، فأكلوا حتى شبعوا، والطعام بحاله.

فإن أكل أهل الخندق إنما كان مما حصلت فيه البركة بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم هو الداعي لأهل الخندق كلهم إلى الطعام في الحقيقة، فلذلك لم يحتج في استئذان جابر في ذلك.

وهذا بخلاف ما جرى لأبي شعيب اللحام لما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وجلساءه، فلما قاموا تبعهم رجل لم يكن معهم حين دعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب المنزل:"إنه اتبعنا رجل لم يكن معنا حين دعوتنا، فإن أذنت له دخل" فأذن له فدخل.

وقد خرّجاه في "الصحيحين" بمعناه من حديث أبي مسعود، فإن ذلك اليوم لم يحصل فيه ما حصل في طعام جابر وماء المرأة المشركة -واللَّه سبحانه وتعالى أعلم-، فإن غالب ما كان يقع منه صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام والشراب في أوقات الحاجة العامة إليه، قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله

(1)

.

وقال في "العمدة": فيه فوائد من دلائل النبوة، حيث توضؤوا، وشربوا، وسَقَوا، واغتسل الجنب مما سقط من العزالي، وبقيت المزادتان مملوءتين ببركته، وعظيم برهانه، وكانوا أربعين نصّ عليه في رواية سَلْم بن زَرِير، وأنهم ملأوا كل قِرْبة معهم.

وقال القاضي عياض: وظاهر هذه الرواية أن جملة من حضر هذه القصة

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 2/ 276.

ص: 601

كانوا أربعين، ولا نعلم مخرجًا لرسول اللَّه يخرج في هذا العدد، فلعل الركب الذين عَجَّلهم بين يديه لطلب الماء، وأنهم وجدوا المرأة، وأنهم استسقوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الناس، وشَرِبوا، ثم شرب الناس بعدهم.

وفيه أن جميع ما أخذوه من الماء مما زاده اللَّه، وأوجده وأنه لم يختلط فيه شيء من ماء تلك المرأة في الحقيقة، وإن كان في الظاهر مختلطًا، وهذا أبدع وأغرب في المعجزة، وفيه دلالة أن عمر رضي الله عنه أجلد المسلمين، وأصلبهم في أمر اللَّه تعالى. انتهى

(1)

.

15 -

(ومنها): أن العطشان يُقَدَّم على الجنب عند صرف الماء إلى الناس.

16 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إن بعض العلماء أخذ بهذا، فقال: من انتبه من نوم عن صلاة فاتته في سفر، فليتحول عن موضعه، وإن كان واديًا، فيخرج عنه، وقيل: إنما يلزم في ذلك الوادي بعينه، وقيل: هو خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم من حال ذلك الوادي ولا غيره ذلك إلا هو، وقال غيره: يؤخذ منه أن مَن حَصَلت له غفلة في مكان عن عبادة استُحِبّ له التحوّل منه، ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحوّل من مكانه إلى مكان آخر. انتهى.

17 -

(ومنها): جواز الاجتهاد بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن سياق القصة يدل على أن التيمم كان معلومًا عندهم، لكنه صريح في الآية عن الحدث الأصغر؛ بناءً على أن المراد بالملامسة ما دون الجماع، وأما الحدث الأكبر فليست صريحة فيه، فكأنه كان يعتقد أن الجنب لا يتيمم، فعمل بذلك مع قدرته على أن يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذا الحكم، ويَحْتَمِل أنه كان لا يعلم مشروعية التيمم أصلًا، فكان حكمه حكم فاقد الطهورين.

18 -

(ومنها): جواز استعمال ماء المشركين الذي في قِربهم، ونحوها من أوعية الماء المعدّة له.

19 -

(ومنها): تقديم مصلحة شرب الآدميّ، والحيوان على غيره، كمصلحة الطهارة بالماء.

20 -

(ومنها): أن فيه مراعاةَ ذِمَام الكافر، والمحافظة به، كما حَفِظ النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"عمدة القاري" 4/ 32.

ص: 602

هذه المرأة في قومها وبلادها، فراعى في قومها ذِمَامها، وإن كانت من صميمهم.

21 -

(ومنها): مشروعيّة الشكوى من الرعايا إلى الإمام عند حلول أمر شديد.

22 -

(ومنها): استحباب التعريس للمسافر إذا غلبه النوم.

23 -

(ومنها): أنه ذكر في "العمدة" فوائد تتعلّق بقوله: "وكنّا لا نوقظ نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم من منامه"، فقال:

[فإن قلت]: هذا النوم في هذه القصة هل كان مثل نوم غيره أم لا؟.

[قلت]: قد يكون نومه كنوم البشر في بعض الأوقات، ولكن لا يجوز عليه الأضغاث؛ لأن رؤيا الأنبياء -صلوات اللَّه على نبينا، وعليهم- وحيٌ.

[فإن قلت]: ما تقول في نومه يوم الوادي، وقد قال:"إن عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي"؟.

[قلت]: نعم هذا حكم قلبه عند نومه، وعينيه في غالب الأوقات، وقد يندُر منه غير ذلك، كما يندر من غيره بخلاف عادته، والدليل على صحة هذا في الحديث نفسه:"إن اللَّه قبض أرواحنا"، وفي الحديث الآخر:"لو شاء اللَّه لأيقظنا، ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم"، ويكون هذا منه لأمر يريده اللَّه تعالى من إثبات حكم، وإظهار شرع.

وجواب آخر أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه؛ لما رُوي أنه كان محروسًا، وأنه كان ينام حتى ينفُخ، وحتى يسمع غطيطه، ثم يصلي ولا يتوضأ.

[فإن قلت]: في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ذُكِر وضوؤه عند قيامه من النوم.

[قلت]: النوم فيه نومه مع أهله، فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم إذا صلى، ذلك لملامسته الأهل، أو حدث آخر، ألا ترى في آخر الحديث:"نام حتى سمعت غطيطه، ثم أقيمت الصلاة، فصلى ولم يتوضأ".

وقيل: لا ينام قلبه من أجل الوحي، وأنه يوحى إليه في النوم، وليس في قصة الوادي إلا نوم عينيه عن رؤية الشمس، وليس هذا من فعل القلب، وقد قال:"إن اللَّه قبض أرواحنا، ولو شاء لردّها إلينا في حينٍ غيرِ هذا".

[فإن قلت]: فلولا عادته من استغراق النوم لما قال لبلال: "اكلأ لنا الصبح".

[قلت]: كان من شأنه التغليس بالصبح، ومراعاة أول الفجر، ولا يصح هذا ممن نامت عينه، إذ هو ظاهر يُدْرَك بالجوارح الظاهرة، فوكل بلال بمراعاة

ص: 603

أوله؛ ليعلمه بذلك، كما لو شُغِل بشغل غير النوم عن مراعاته.

[فإن قلت]: هل كان نومهم عن صلاة الصبح مرةً أو أكثر؟.

[قلت]: قد جزم الأصيلي بأن القصة واحدةٌ، ورَدّ عليه القاضي عياض بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين؛ لأن في قصة أبي قتادة لم يكن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا نام، وفي قصة عمران أن أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عمر رضي الله عنه، ومِن الذي يدُلّ على تعدد القصة اختلاف مواطنها، كما ذكرناها.

ولقد تكلَّف أبو عمر بن عبد البرّ في الجمع بينهما بقوله: إن زمان رجوعهم كان قريبًا من زمان رجوعهم من الحديبية، وأن طريق مكة يصدُق عليهما.

وفيه تعسّف على أن رواية عبد الرزاق بتعيين غزوة تبوك يرُدّ عليه، ثم إن أبا عمر زعم أن نوم النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مرة واحدة.

وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: ثلاث مرات: إحداها: رواية أبي قتادة، ولم يحضرها أبو بكر وعمر، الثانية: حديث عمران، وحضراها، والثالثة: حضرها أبو بكر وبلال.

وقال عياض: حديث أبي قتادة غير حديث أبي هريرة، وكذلك حديث عمران، ومن الدليل على أن ذلك وقع مرتين أنه قد رُوِيَ أن ذلك كان زمن الحديبية، وفي رواية بطريق مكة، والحديبية كانت في السنة السادسة، وإسلام عمران وأبي هريرة الراوي حديث قفوله من خيبر كان في السنة السابعة بعد الحديبية، وهما كانا حاضرين الواقعة.

قال العينيّ: وفيه نظر؛ لأن إسلام عمران كان بمكة، ذكره أبو منصور الماورديّ في "كتاب الصحابة"، وقال ابن سعد، وأبو أحمد العسكريّ، والطبرانيّ في آخرين: كان إسلامه قديمًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: دعواه أن إسلام عمران كان بمكة محلّ نظر، بل المشهور أنه عام خيبر، ولم يذكر في "الإصابة"

(2)

، ولا في "التهذيب"

(3)

(1)

"عمدة القاري" 4/ 28 - 29.

(2)

راجع: "الإصابة" 4/ 584 - 586.

(3)

راجع: "تهذيب التهذيب" 3/ 316.

ص: 604

خلافًا في هذا، إلا قولهم: كان إسلامه قديمًا، وهذا لا يدلّ على أنه أسلم قبل الهجرة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1564]

(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيُّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَسَرَيْنَا لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قُبَيْلَ الصُّبْحِ، وَقَعْنَا تِلْكَ الْوَقْعَةَ الَّتِي لَا وَقْعَةَ عِنْدَ الْمُسَافِرِ أَحْلَى مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا حَرُّ الشَّمْسِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ

(1)

حَدِيثِ سَلْمِ بْنِ زَرِيرٍ، وَزَادَ، وَنَقَصَ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ أَجْوَفَ، جَلِيدًا، فَكَبَّرَ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، حَتَّى اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِشِدَّةِ صَوْتِهِ بِالتَّكْبِيرِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا ضَيْرَ، ارْتَحِلُوا"، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهورٌ [10](238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

3 -

(عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيُّ) هو: عوف بن أبي جَمِيلة العَبْديّ الْهَجَريّ، أبو سهل البصريّ المعروف بالأعرابيّ، واسم أبي جَمِيلة بندويه، ويقال: بل بندويه اسم أمه، واسم أبيه رُزينة، ثقةٌ رُمي بالقدر وبالتشيّع [6](ت 6 أو 147) وله (86) سنةً (ع) تقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305، وليست له رواية في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وإنما ذُكر في المقدّمة عند ذكر الموازنة بين الرواة في الحفظ والإتقان.

(1)

وفي نسخة: "بمثل".

ص: 605

والباقيان ذُكرا في السند السابق.

وقوله: (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) تقدّم الخلاف في تعيين هذا السفر في الحديث الماضي.

وقوله: (فَسَرَيْنَا لَيْلَةً) وفي رواية البخاريّ: "وإنا أسرينا". قال الجوهريّ: تقول: سَرَيتُ، وأسريت، بمعنًى: إذا سِرْتَ ليلًا، وقال صاحب "المحكم": السُّرَى: سَيْرُ عامة الليل، وقيل: سير الليل كله، وهذا الحديث يخالف القول الثاني، قاله في "الفتح".

وقوله: (حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)"كان" تامّة، و"من" زائدة على رأي الأخفش في كونها تزاد في الإثبات، و"آخر الليل" مرفوع على الفاعليّة لـ "كان"، ويَحْتَمِل أن تكون "كان" ناقصةً، واسمها ضمير يعود إلى الأمر المفهوم، والجارّ والمجرور خبرها، و"من" بمعنى "في"، واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "حتى إذا كنا في آخر الليل".

وقوله: (قُبَيْلَ الصُّبْحِ) بدل من الجارّ والمجرور.

وقوله: (وَقَعْنَا تِلْكَ الْوَقْعَةَ) أي نِمْنَا تلك النومة، كأنهم سقطوا عن الحركة.

وقوله: (لَا وَقْعَةَ عِنْدَ الْمُسَافِرِ أَحْلَى مِنْهَا) كلمة "لا" لنفي الجنس، و"وقعة" اسمها، وقوله:"عند المسافر" متعلّق بقوله: "أحلى"، وهو خبر لـ "لا"، وقوله:"منها" أي من تلك الوقعة.

وقوله: (فَمَا أَيْقَظَنَا إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ) هذا يدلّ على أن الشمس كانت قد ارتفعت، وزال وقت النهي عن الصلاة؛ لأن حرها لا يكاد يوجد إلا بعد ذلك، ففي هذا دليل على أن ارتحالهم عن ذلك المكان لم يكن للامتناع من القضاء في وقت النهي عن الصلاة، بل كان تباعدًا عن المكان الذي حضرهم فيه الشيطان، كما جاء التصريح به في حديث آخر

(1)

.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الضمير لعوف بن أبي جَمِيلة.

وقوله: (وَكَانَ أَجْوَفَ) أي رفيع الصوت، يَخرُج صوته من جوفه بقوة.

وقوله: (جَلِيدًا) هو من الجلادة، بمعنى الصلابة.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 2/ 272.

ص: 606

وقوله: (فَكَبَّرَ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ) في استعماله التكبير سلوك طريق الأدب، والجمع بين المصلحتين، وخَصَّ التكبير؛ لأنه أصل الدعاء إلى الصلاة.

وقوله: (لَا ضَيْرَ، ارْتَحِلُوا) أي لا ضرر عليكم في هذا النوم، وتأخير الصلاة به، و"الضَّيْرُ"، و"الضُّرّ"، و"الضَّرَرُ" بمعنى واحد، يقال: ضارهُ يضوره، ويضيره ضَوْرًا وضَيْرًا: أي ضَرّه.

وإنما قال ذلك لتأنيس قلوبهم؛ لما عَرَض لهم من الأسف على فوات الصلاة من وقتها؛ لأنهم لم يتعمدوا ذلك.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) الضمير لعوف أيضًا.

[تنبيه]: رواية عوف الأعرابيّ، عن أبي رجاء هذا ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله، فقال:

(344)

حدّثنا مسدد، قال: حدّثني يحيى بن سعيد، قال: حدّثنا عوفٌ، قال: حدّثنا أبو رجاء، عن عمران، قال: كنا في سفر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا، حتى كنا في آخر الليل، وقعنا وقعةً، ولا وقعةَ أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حرّ الشمس، وكان أولَ من استيقظ فلانٌ، ثم فلانٌ، ثم فلانٌ، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوفٌ، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقَظْ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يَحْدُث له في نومه، فلما أستيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس، وكان رجلًا جَلِيدًا، فكبّر، ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبّر، ويرفع صوته بالتكبير، حتى استيقظ بصوته النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ، شَكَوْا إليه الذي أصابهم، قال:"لا ضير"، أو "لا يَضِير، ارتحلوا"، فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل، فدعا بالوَضُوء، فتوضأ، ونودي بى الصلاة، فصلى بالناس، فلما انفتل من صلاته، إذا هو برجل معتزلٍ، لم يصلِّ مع القوم، قال:"ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ "، قال: أصابتني جنابة، ولا ماءَ، قال:"عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"، ثم سار النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل، فدعا فلانًا، كان يسميه أبو رجاء، نسيه عوفٌ، ودعا عليًّا، فقال:"اذهبا، فابتغيا الماء"، فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مَزَادتين، أو سَطِيحتين، من ماء، على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونَفَرُنا خُلُوفًا، قالا لها: انطلقي

ص: 607

إذًا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت: الذي يقال له: الصابئ، قالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحدّثاه الحديث، قال: فاستَنْزَلُوها عن بعيرها، ودعا النبيّ صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرَّغَ فيه من أفواه المزادتين، أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما، وأطلق الْعَزَالِيَ، ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا، فسقى من شاء، واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أَعْطَى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، قال:"اذهب، فأفرغه عليك"، وهي قائمةٌ، تنظر إلى ما يفعل بمائها، وايْمُ اللَّهِ، لقد أُقْلِع عنها، وإنه لَيُخَيَّلُ إلينا أنها أشدّ مِلأةً منها حين ابتدَأَ فيها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اجمعوا لها"، فجمعوا لها من بين عَجْوة، ودقيقة، وسويقة، حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوها في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها:"تَعَلَّمِين ما رَزِئْنَا من مائك شيئًا، ولكن اللَّه هو الذي أسقانا"، فأتت أهلها، وقد احتَبَسَت عنهم، قالوا: ما حبسك يا فلانةُ؟ قالت: العَجَبُ، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فواللَّه إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء، تعني السماء والأرض، أو إنه لرسول اللَّه حقًّا، فكان المسلمون بعد ذلك يُغِيرون على مَن حولها من المشركين، ولا يُصيبون الصِّرْمَ الذي هي منه، فقالت يومًا لقومها: ما أَرَى أن هؤلاء القوم يَدَعُونكم عمدًا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1565]

(683) - (حَدَّثَنَا

(1)

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ، فَعَرَّسَ بِلَيْلٍ، اضْطَجَعَ عَلَى يَمِينِهِ، وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ، نَصَبَ ذِرَاعَهُ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ).

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 608

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الواشحيّ البصريّ، ثم المكيّ، قاضيها، ثقةٌ ثبتٌ إمام حافظٌ [9](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 68.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عُبيدة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

4 -

(بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الْمُزنيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ جليلٌ [3](ت 106)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فمروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم، عن بعض: حميد، عن بكر، عن عبد اللَّه بن رَبَاح.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الحارث بن رِبْعي بن بُلْدُمة، وقيل: غيره، الصحابيّ الشهير رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ، فَعَرَّسَ بِلَيْلٍ) بتشديد الراء، وهو أكثر من أعرس بالهمزة، يقال: عرّس القوم، وأعرسوا: إذا نزلوا في آخر الليل للاستراحة، والموضع: مُعَرَّش، ومُعْرَسٌ

(1)

. (اضْطَجَعَ) افتعل من ضَجَعَ، يقال: ضَجَعَ ضَجْعًا، من باب نفع، وضُجُوعًا: إذا وضع جنبه بالأرض، وأضجع بالألف لغة، ويقال: اضطجع، واضَّجَع، من باب افتعل، لكن من العرب من يقلب التاء طاءً، ويُظهرها عند الضاد، ومنهم من يَقلب التاء ضادًا، ويُدغمها في الضاد؛ تغليبًا للحرف الأصليّ، وهو الضاد، ولا

(1)

راجع "القاموس المحيط" 2/ 230.

ص: 609

يقال: اطَّجَعَ بطاء مشدّدة؛ لأن الضاد لا تُدغم في الطاء، فإن الضاد أقوى منها، والحرف لا يُدغم في أضعف منه، وما ورد شاذّ، لا يُقاس عليه

(1)

.

وقوله: (عَلَى يَمِينِهِ) فيه مشروعيّة الاضطجاع على الشقّ الأيمن، وقد ورد الأمر بذلك، فسيأتي للمصنّف في "كتاب الذكر" حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليأخذ داخلة إزاره، فليَنْفُض بها فراشه، ولْيُسَمّ اللَّه، فإنه لا يعلم ما خَلَفَهُ بعده على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع، فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: سبحانك اللهم ربي، بك وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".

(وَإِذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ) تصغير قَبْل، تصغير تقريب، أي قبل الصبح بقليل (نَصَبَ ذِرَاعَهُ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ) وفي رواية ابن حبّان من طريق إبراهيم بن الحجاج الساميّ، عن حمّاد بن سلمة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا عرّس بالليل، توسّد يمينه، وإذا عرّس بعد الصبح

(2)

نصب ساعده نصبًا، ووضع رأسه على كفّه".

الظاهر أنه إنما فعل ذلك لئلا يستغرقه النوم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [57/ 1565](683)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(257)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 298)، و (عبد اللَّه بن أحمد) في "زوائد المسند"(5/ 298)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6438)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 358.

(2)

هكذا نصّ ابن حبّان، والظاهر أنه تصحيف، والصواب "قبيل الصبح"، كما هو عند مسلم هنا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 610

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1566]

(684) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ"، قَالَ قَتَادَةُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) ويقال له: هُدَبَةُ بن خالد بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (99) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد هو والبخاريّ، وأبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً) زاد في رواية سعيد، عن قتادة التالية:"أو نام عنها"(فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) قال في "الفتح": وقد تمسك بدليل الخطاب من قوله: "من نسي" القائلُ: إن العامد لا يقضي الصلاة؛ لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم يَنْسَ لا يصلي، وقال من قال: يقضي العامدُ: إن ذلك مستفاد من مفهوم الخطاب، فيكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا وجب القضاء على الناسي، مع سقوط الإثم، ورفع الحرج عنه، فالعامد أولى.

وادَّعَى بعضهم أن وجوب القضاء على العامد يؤخذ من قوله: "نَسِيَ"؛

ص: 611

لأن النسيان يُطلق على الترك، سواءٌ كان عن ذُهُول أم لا، ومنه قوله تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، قال: ويُقَوِّي ذلك قوله: "لا كفّارة لها"، والنائم والناسي لا إثم عليه.

قال الحافظ: وهو بحث ضعيفٌ؛ لأن الخبر بذكر النائم ثابتٌ، وقد قال فيه:"لا كفارة لها"، والكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد، والقائل بأن العامد لا يقضي لم يُرِدْ أنه أخفّ حالًا من الناسي، بل يقول: إنه لو شُرِع له القضاء لكان هو والناسي سواءً، والناسي غير مأثوم، بخلاف العامد، فالعامد أسوأ حالًا من الناسي، فكيف يستويان؟.

ويمكن أن يقال: إن إثم العامد بإخراجه الصلاة عن وقتها باقٍ عليه، ولو قضاها، بخلاف الناسي، فإنه لا إثم عليه مطلقًا، ووجوب القضاء على العامد بالخطاب الأول؛ لأنه قد خوطب بالصلاة، وترتبت في ذمته، فصارت دينًا عليه، والدين لا يسقط إلا بأدائه، فيأثم بإخراجه لها عن الوقت المحدود لها، وَيسْقُط عنه الطلب بأدائها، فمن أفطر في رمضان عامدًا، فإنه يجب عليه أن يقضيه مع بقاء إثم الإفطار عليه، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم تحقيق الخلاف في وجوب القضاء على من ترك الصلاة متعمّدًا، وأن القول الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور، من وجوب القضاء عليه، وأقوى حجة على ذلك الحديث المتّفق عليه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"اقضوا اللَّه الذي له، فإن اللَّه أحقّ بالوفاء"، قاله لمّا سئل عن قضاء الحجّ عن الميت، وفي لفظ آخر:"فدَينُ اللَّه أحقُّ بالقضاء"، قاله لَمّا سئل عن قضاء الصوم عن الميت، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

والحاصل أن هذا العامد عليه حقّ اللَّه عز وجل مطالب به، آثم بسببه، يعاقب عليه، فيجب قضاؤه؛ لأن اللَّه تعالى أحقّ بالقضاء من قضاء حقّ الناس، واللَّه تعالى أعلم.

(لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: لا يُجزئه إلا الصلاة مثلها، ولا يلزمه مع ذلك شيء آخر. انتهى.

(1)

"الفتح" 2/ 85 - 86 "كتاب مواقيت الصلاة" رقم (597).

ص: 612

وحَمَل الخطابيّ رحمه الله قوله: "لا كفارة لها إلا ذلك" على وجهين:

أحدهما: أن المعنى أنه لا يجوز له تركها إلى بدل، ولا يكفِّرها غير قضائها.

والثاني: أن المعنى أنه لا يلزمه في نسيانها كفارة ولا غرامة. قال: إنما عليه أن يصلي ما فاته.

وقد روي عن أبي هريرة -مرفوعًا-: "من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها"، أخرجه الطبراني والدارقطنيّ والبيهقيّ من رواية حفص بن أبي العطاف، واختلف عليه في إسناده إلى أبي هريرة.

وحفص هذا، قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال يحيى بن يحيى: كذاب، ولا يلتفت إلى ما تفرد به

(1)

.

(قَالَ قَتَادَةُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]) أي بلام واحدة، وكسر الراء، وهي القراءة المشهورة.

وقد اختُلِف في ذكر هذه الآية، هل هي من كلام قتادة، أو هي من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فرواية هدّاب هذه بقوله:"قال قتادة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} "، ظاهرة على أنها من كلام قتادة، ورواية المثنى بن سعيد، عن قتادة الثالثة بقوله:"عن قتادة، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن اللَّه يقول:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} "، ظاهرة أن الجميع من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ذكر في "الفتح"، ولم يذكر وجهًا للجمع بينهما، وعندي أنه لا تعارض، فهو في الأصل مرفوع، لكن قتادة أحيانًا يذكر الآية دون أن ينسب ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا اختلاف بينهما، واللَّه تعالى أعلم.

واختُلِف في المراد بقوله: {لِذِكْرِي} ، فقيل: المعنى لتذكرني فيها، وقيل: لأذكرك بالمدح، وقيل: إذا ذكرتها، أي لتذكيري لك إيا ها، وهذا يَعْضِدُ قراءة مَن قرأ (للذكرى) بلامين.

وقال النخعيّ: اللام للظرف، أي إذا ذكرتني، أي إذا ذكرت أمري بَعْدَ ما نَسِيت، وقيل،: لا تذكر فيها غيري، وقيل: شكرًا لذكري، وقيل: المراد

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 5/ 132.

ص: 613

بقوله: "ذكري" ذكر أمري، وقيل: المعنى: إذا ذكرت الصلاة، فقد ذكرتني، فإن الصلاة عبادة اللَّه، فمتى ذكرها ذكر المعبود، فكأنه أراد لذكر الصلاة.

وقال التُّورِبْشتيّ: الأولى أن يْقَصد إلى وجه يوافق الآية والحديث، وكأن المعنى: أقم الصلاة لذكرها؛ لأنه إذا ذكرها ذكر اللَّه تعالى، أو يقدَّر مضاف، أي لذكر صلاتي، أو ذُكِرَ الضميرُ فيه موضع الصلاة؛ لشرفها، ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وأما تلاوته قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ، وقد رواه قتادة -مرة-، فقال:(للذِّكْرى) ومرة، قال:{لِذِكْرِي} ، كما هي القراءة المتواترة، وكان الزهري -أيضًا- يقرؤها:(للذِكْرِي).

وهذه القراءة أظهر في الدلالة على الفور؛ لأن المعنى: أدّ الصلاة حين الذكرى، والمعنى: أنه يصلي الصلاة إذا ذكرها، وبذلك فسرها أبو العالية والشعبي والنخعي، وقال مجاهد:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} : أي تذكرني. قال: فإذا صلى عبد ذكر ربه، ومعنى قوله: إن قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} - أي: لأجل ذكري بها، والصلاة إنما فُرضت ليذكر اللَّه بها، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المرفوع:"إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر اللَّه"، أخرجه الترمذيّ، وأبو داود.

فأوجب اللَّه تعالى على خلقه كل يوم وليلة أن يذكروه خمس مرار بالصلاة المكتوبة، فمن ترك شيئًا من ذكر اللَّه الواجب عليه سهوًا فليعد إليه إذا ذكره، كما قال تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، فقد أمره إذا نسي ربه أن يذكره بعد ذلك، فمن نسي الصلاة فقد نسي ذكر ربه، فإذا ذكر أنه نسي فليعد إلى ذكر ربه بعد نسيانه. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 2/ 86.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 5/ 132 - 133.

ص: 614

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [57/ 1566 و 1567 و 1568 و 1569](684)، و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(597)، و (أبو داود) في "الصلاة"(442)، و (الترمذيّ) فيها (178)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(613 و 614) وفي "الكبرى"(1586)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(695)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 63 و 64)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100 و 243 و 269)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 280)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(991 و 992 و 993)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1555 و 1556)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 466) و"مشكل الآثار"(1/ 187)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1142 و 1143 و 1144 و 2094 و 2095 و 2102)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1536 و 1537 و 1538 و 1539)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 456)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(395)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه يدلّ على وجوب القضاء على النائم إذا استيقظ، والناسي إذا ذكر، وقد حَكَى الإجماع على ذلك غير واحد.

وذكر ابن عبد البر أن محمد بن رستم رَوَى عن محمد بن الحسن، أن النائم إذا فاته في نومه أكثر من خمس صلوات لا قضاء عليه، إلحاقًا للنوم الطويل إذا زاد على يوم وليلة بالإغماء، والمغمى عليه لا قضاء عليه عنده، ويكون الأمر عنده بالقضاء في النوم المعتاد، وهو ما تفوت فيه صلاة أو صلاتان أو دون خمس أو أكثر

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أظنّ هذا القول لا يصحّ عن محمد بن الحسن، فإن صحّ فهو باطلٌ، يردّ الإجماع، وهذا النصّ الصحيح الصريح المطلق:"من نسي صلاةً، أو نام عنها فليُصلّها إذا ذكرها"، فتبصّر.

2 -

(ومنها): أنه استدل به من يقول بوجوب قضاء الصلوات على الفور؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك.

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 5/ 131.

ص: 615

وأحمدُ يوجبه بكل حال، قَلَّت الصلوات أو كثرت، واستدلوا -أيضًا-: بقوله: "لا كفارة لها إلا ذلك".

وذهب الشافعي إلى أن القضاء على التراخي، كقضاء صيام رمضان، وليس الصوم كالصلاة عندهم، فإن الصيام لا يجوز تأخيره حتى يدخل نظيره من العام القابل والصلاة عندهم بخلاف ذلك، واستدلوا -أيضًا-: بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة حتى خرج من الوادي.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما ذهب إليه الشافعيّ رضي الله عنه هو الأرجح عندي، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن شَرْعَ من قبلنا شرعٌ لنا؛ لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح في الأصول، ما لم يَرِد ناسخ، وقد تقدّم ترجيحه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1567]

(. . .) - (وَحَدَّثنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قتادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ

(1)

: "لَا كَفارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) أبو عثمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ ثبتٌ مصنّفٌ [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

3 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا في السند الماضي.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ) يعني أن الثلاثة: يحيى بن يحيى،

(1)

وفي نسخة: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله، ولم يذكر".

ص: 616

وسعيد بن منصور، وقتيبة بن سعيد رووا هذا الحديث عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية أبي عوانة هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله، فقال:

(163)

حدّثنا قتيبة، وبشر بن معاذ، قالا: حدّثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة، فليصلها إذا ذكرها". انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1568]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(سَعِيد) بن أبي عروبة تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث مضى شرحه، ومسائله قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1569]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ غَفَلَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ({وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ").

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 617

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

3 -

(الْمُثَنَّى) بن سعيد الضُّبَعيّ -بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة- أبو سعيد البصريّ القَسّام الذّارع القصير، ثقةٌ [6].

رَأَى أنسًا، ورَوَى عن أبي المتوكل الناجيّ، وأبي جَمْرة الضُّبَعيّ، وأبي مِجْلَز، وأبي التّيّاح، وقتادة، وأبي سفيان طلحة بن نافع، وأبي حُرّة بن عبد اللَّه الضُّبَعيّ، وجماعة.

وروى عنه ابن المبارك، ووكيع، والقطان، ويزيد بن زُريع، وابن مهديّ، وأبو قتيبة، وابن عُلية، وأزهر بن قاسم، وبهز بن أسد، وعلي بن نصر الجهضميّ الكبير، وغيرهم.

قال أبو طالب، عن أحمد: ثقةٌ، وكذا قال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، والعجليّ، زاد أبو حاتم: أوثق من أبي غفار، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال: وكان يخطئ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (684) و (1996) و (2052) و (2341) و (2474) و (2612).

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: ("إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ) أي نام، يقال: رَقَدَ يرقُدُ رَقْدًا، من باب نَصَرَ، ورُقُودًا، ورُقَادًا: نام ليلًا كان أو نهارًا، وبعضهم يخصّه بنوم الليل، والأول هو الحقّ، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، قال المفسِّرون: إذا رأيتهم حسِبتهم أيقاظًا؛ لأن أعينهم مفتّحة، وهم نيامٌ، ورقدَ عن الأمر: بمعنى قعد، وتأخّر، أفاده في "المصباح"

(1)

.

وقوله: (أَوْ غَفَلَ عَنْهَا) هذا أعمّ من الرواية الأخرى: "أو نام عنها"؛ لأنه يَشمَل

(1)

"المصباح المنير" 1/ 234 - 235.

ص: 618

كل من غفل عن الصلاة بسبب من الأسباب، فإنه يقضيها إذا انتبه لها، وتذكّرها.

وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديثين، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

انتهيتُ من كتابة الجزء الرابع عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"، وذلك بعد صلاة الصبح يوم الجمعة المبارك (9/ 3/ 1427 هـ الموافق 7 إبريل - نيسان 2006 م).

أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الخامس عشر مفتتحًا بـ (6) - كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، (1) - (بَابُ قصر الصلاة في السفر) رقم الحديث [1570](685).

"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 619