المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الثلاثاء المبارك بعد صلاة المغرب 20/ - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ١٦

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الثلاثاء المبارك بعد صلاة المغرب 20/ 5/ 1427 هـ أول الجزء السادس عشر من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه اللَّه تعالى.

(28) - (بَابُ كَيْفِيَّةِ دُعَاءِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَتَبَتُّلِهِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1788]

(763) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ كُرَيْبٍ

(1)

، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ خَالَتِي

(2)

مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبَيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ، فَأَتَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، وَلَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّي، فَقُمْتُ، فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَنْتَبِهُ لَهُ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ، فَصَلَّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ، حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَأَتَاهُ

(1)

وفي نسخة: "عن سلمة، عن كُريب".

(2)

وفي نسخة: "بِتُّ عند خالتي".

ص: 5

بِلَالٌ، فَأَذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ، فَصَلَّي، وَلَمْ يَتَوَضَّأَ، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِى نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا"، قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعًا فِي التَّابُوتِ، فَلَقِيتُ بَعْضَ وَلَدِ الْعَبَّاسِ، فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ، فَذَكَرَ: عَصَبِي، وَلَحْمِي، وَدَمِي، وَشَعْرِي، وَبَشَرِي، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ حَيَّانَ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الرحمن الطوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ، صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع (250)(م) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ ناقد [9](ت 198)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيه، إمامٌ عابدٌ حجةٌ، ربّما دلّس، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) الْحَضْرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.

5 -

(كُرَيْبُ) بن أبي مسلم الهاشميّ مولى ابن عبّاس، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما، مات (67)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فمن أفراده.

ص: 6

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوي، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: بِتُّ) بكسر الباء الموحّدة، وتشديد التاء، على صيغة المتكلّمَ، من البيتوتة، يقال: بَاتَ يَبِيتُ وَيبَاتُ بَيْتَوتةً (لَيْلَةً عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ) بنت الحارث أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 1/ 687. زاد شريك بن أبي نَمِر، عن كريب في الرواية الآتية: "فَرَقَبْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف يصلي؟ "، زاد أبو عوانة في "صحيحه" من هذا الوجه "بالليل"، وسيأتي للمصنّف من طريق عطاء، عن ابن عباس قال: بعثني العباس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، زاد النسائيّ من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن كُريب: "في إبل أعطاه إياها من الصدقة"، ولأبي عوانة من طريق عليّ بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، أن العباس بعثه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في حاجة، قال: "فوجدته جالسًا في المسجد، فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب، قام فركع حتى أُذِّن بصلاة العشاء"، ولابن خزيمة من طريق طلحة بن نافع، عنه: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَعَدَ العباسَ ذَوْدًا من الإبل، فبعثني إليه بعد العشاء، وكان في بيت ميمونة"، وهذا يخالف ما قبله، ويُجْمَع بأنه لَمّا لَمْ يكلمه في المسجد أعاده إليه بعد العشاء إلى بيت ميمونة، ولمحمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" من طريق محمد بن الوليد بن نُويفع، عن كريب من الزيادة: "فقال لي: يا بُنَيّ بِتِ الليلةَ عندنا"، وفي رواية حبيب المذكورة: "فقلت: لا أنام حتى انظر ما يصنع في صلاة الليل"، وفي رواية المصنّف الآتية من طريق الضحاك بن عثمان، عن مخرمة: "فقلت لميمونة: إذا قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأيقظيني"، وكان عزم في نفسه على السهر؛ ليطّلع على الكيفية التي أرادها، ثم خَشِي أن يغلبه النوم، فَوَصَّى ميمونة رضي الله عنها أن توقظه، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 559 - 560 "كتاب الوتر" رقم (994).

ص: 7

(فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، كما تقدّم بيانه (فَأَتَى حَاجَتَهُ) هي البول، كما بيّنها في رواية شعبة، عن سلمة الآتية، بقوله:"فقام، فبال"(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ) قال النوويُّ رحمه الله: هذا الغسل للتنظيف، والتنشيط للذِّكْر وغيره (ثُمَّ قَامَ، فَأَتَى الْقِرْبَةَ) بكسر القاف، وسكون الراء: ما يُستقى فيه الماء، قاله في "الصحاح"

(1)

، وقال في "القاموس": الْقِرْبَةُ بالكسر: الْوَطْبُ

(2)

من اللبن، وقد تكون للماء، أو هي المخروزة من جانب واحد، جمعها قِرْبَاتٌ بكسر، فسكون، وقِرِبَاتٌ بكسرتين، وقِرَبَاتٌ بكسر، ففتح، وقِرَبٌ بكسر، ففتح أيضًا، وكذلك كلُّ ما كان على فِعْلَة بكسر، فسكون، كفِقْرَة، وسِدْرةٍ، لك أن تفتح العين، وتكسر، وتُسكّن. انتهى بتصرّف

(3)

.

(فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا) -بكسر المعجمة، وتخفيف النون، ثم قاف-: هو رِبَاط القِربة، يَشُدّ عُنُقها، فشُبِّه بما يُشْنَق به، وقيل: هو ما تُعَلَّق به، ورَجّح أبو عبيد الأول، قاله في "الفتح".

وقال النوويُّ رحمه الله: هو الخيط الذي تُربط به في الوَتِد، قاله أبو عبيدة، وأبو عبيد، وغيرهما، وقيل: الوِكَاء. انتهى.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: هو الخيط، أو السِّيرُ الذي تُعلّق به القِرْبة، والخيط الذي يُشدّ به فمها، يقال: شَنَقَ القِرْبة، وأشنقها: إذا أوكاها، وعلّقها. انتهى

(4)

.

(ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ) أي: بين الإفراط بالإسراف والتفريط بالتقتير، كما فسّره بقوله:(وَلَمْ يُكْثِرْ) أي: من صبّ الماء، وهو إيماء إلى عدم الإفراط، (وَقَدْ أَبْلَغَ) أي: أوصل الماء إلى ما يجب إيصاله إليه، وهو إيماء إلى

(1)

"الصحاح" 1/ 178.

(2)

الْوَطْب بفتح، فسكون: سِقَاء اللبن، وهو جِلْدُ الْجَذَع، في فوقه، جمعه أوطُبٌ، ووِطَابٌ، وأَوْطابٌ، أفاده في "القاموس".

(3)

راجع: "القاموس المحيط" 4/ 114 - 115 و 137، و"الصحاح" 1/ 178.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1182.

ص: 8

عدم التفريط، وهذا معنى قوله فيما يأتي من الروايات، ففي رواية:"وتوضّأ، وأسبغ الوضوء، ولم يُهرق من الماء إلَّا قليلًا"، وفي رواية:"فتوضّأ منها، فأحسن وضوءه"، وفي رواية:"فتوضّأ وضوءًا خفيفًا"، فكلّها ترجع إلى معنى واحد، وهو أنه أتى بمندوبات الوضوء، مع التخفيف في استعمال الماء.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: قوله: "ولم يُكثر، وقد أبلغ" بيان لقوله: "بين الوضوءين"، وهو صفة أخرى

(1)

و"وضوءًا"، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]، يعني أنه لَمْ يُكثر صبّ الماء، وقد أبلغ الوضوء أماكنه؛ أي: أسبغ الوضوء، وهو الوضوء الحسن

(2)

. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون المراد أنه قَلَّل من الماء، مع التثليث، أو اقتصر على دون الثلاث في الغسل، ووقع في رواية شعبة، عن سلمة بن كُهيل الآتية بلفظ:"ثم قام إلى القربة، فأطلق شِنَاقها، ثمّ صَبّ في الْجَفْنَة، أو القَصْعة، فأكبّه بيده عليها، ثم توضّأ وضوءًا حسنًا بين الوضوءين"، ووقع عند الطبرانيّ من طريق منصور بن المعتمر، عن عليّ بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، في هذه القصة:"وإلى جانبه مِخْضَبٌ من بِرَامٍ مُطْبَقٍ، عليه سواك، فاستَنّ به، ثم توضأ".

(ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى) أي: شرع في الصلاة، وفي رواية محمد بن نصر في "قيام الليل":"ثم أخذ بُرْدًا له حَضْرميًّا، فتوشحه، ثم دخل البيت، فقام يصلي"(فَقُمْتُ) أي: من مضجعي (فَتَمَطَّيْتُ) أي: تمدّدت (كَرَاهِيَةَ) منصوب على المفعوليّة من أجله؛ أي: لأجل كراهية (أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَنْتَبِهُ لَهُ) قال النوويُّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، وهكذا هو في أصول بلادنا "أنتبه" بنون، ثم مثنّاة فوقُ، ثم موحّدة، ووقع في رواية للبخاريّ:"أبقيه" بموحّدة، ثم قاف، ومعناه: أرقُبُهُ، وهو معنى:"أنتبه له". انتهى. وكأنه خَشِيَ أن يترك بعض

(1)

أي على النسخة التي شرح عليها، فإنه وقع فيها:"لَمْ يكثر. . . إلخ" بلا واو، فتنبّه.

(2)

يعني الآتي في رواية شعبة بلفظ: "ثم توضّأ وضوءًا حسنًا بين الوضوءين".

(3)

"الكاشف" 4/ 1182.

ص: 9

عمله؛ لِمَا جَرَى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل؛ خشيةَ أن يُفْرَض على أمته قاله في "الفتح".

(فَتَوَضَّأْتُ) أي: نحو وضوئه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية مخرمة، عن كريب الآتية:"فقمت، فصنعت مثل ما صنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم ذهبت، فقمت إلى جنبه"(فَقَامَ، فَصَلَّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ) أي: لعدم علمه بالسنّة في موقف المأموم الواحد (فَأَخَذَ بِيَدِي) أي: من ورائه، ففي رواية عطاء الآتية:"فأخذ بيدي من وراء ظهره، يَعْدِلني كذلك من وراء ظهره إلى الشقّ الأيمن"(فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ) قال ابن الملك: "عن" هنا بمعنى الجانب؛ أي: حوّلني من جانب يساره صلى الله عليه وسلم إلى جهة يمينه (فَتَتَامَّتْ) أي: تكاملت، وانتهت، وقال الطيبيُّ رحمه الله: أي: صارت تامّةً، تَفَاعَلَ من تَمّ، وهو لا يجيء إلَّا لازمًا. انتهى

(1)

. (صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ) أي: في الليل، أو بعضه (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) أي: مع ركعة الوتر، يسلّم من كل ركعتين، ففي رواية الشيخين:"ثمَّ صلّى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذّن، فقام، فصلّى ركعتين، ثم خرج، فصلّى الصبح".

قال في "الفتح": ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم فصل بين كل ركعتين، ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة، حيث قال فيها:"يسلّم من كلّ ركعتين"، ولمسلم من رواية عليّ بن عبد اللَّه بن عبّاس التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كلّ ركعتين إلى غير ذلك

(2)

، كما سيأتي.

ومقتضى التصريح بذكر الركعتين ستّ مرّات، وقوله بعد ذلك:"ثم أوتر" أنه صلّى في هذه الليلة ثلاث عشرة ركعةً مع الوتر، كما وقع التصريح بذلك، وظاهره أيضًا أنه أوتر بركعة واحدة مفصولة؛ لأنه إذا صلّى ركعتين ركعتين ستّ مرّات مع الفصل بين كل ركعتين صارت الجملة اثنتي عشرة ركعة غير ركعة الوتر، وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة، فلم يبق الوتر إلَّا ركعة واحدةً.

(1)

"الكاشف" 4/ 1182.

(2)

ستأتي في هذا الباب برقم [1799].

ص: 10

وأما رواية مسلم الآتية بلفظ: "ثم أوتر بثلاث" ففي كونها محفوظةً كلامٌ، ولعلّ ذلك من حبيب بن أبي ثابت الراوي عن عليّ بن عبد اللَّه بن عبّاس، فإن فيه مقالًا، وقد اختُلف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافًا، قاله في "المرعاة"

(1)

.

(ثُمَّ اضْطَجَعَ) تقدّم الاختلاف في الاضطجاع هل كان قبل ركعتي الفجر، أو بعدهما؟ (فَنَامَ، حَتَّى نَفَخَ) من باب نصر؛ أي: تنفّس بصوت حتى يُسمع منه صوت النفخ بالفم، كما يُسمع من النائم

(2)

. (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا نَامَ نَفَخَ) وفي رواية شعبة المذكورة: "ثم نام حتى نفخ، وكنّا نعرفه إذا نام بنفخه"(فَأَتَاهُ بِلَالٌ) هو ابن رَبَاح، وهو ابن حَمَامة، وهي أمه، مؤذّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مولى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، من السابقين الأولين، شهد بدرًا وما بعدها، ومات بالشام سنة (17) أو (18) أو (20) تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643. (فَآذَنَهُ) بالمدّ: أي: أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِالصَّلَاةِ) أي: بحضور وقت صلاة الصبح (فَقَامَ) صلى الله عليه وسلم (فَصَلَّى) أي: صلاة الصبح بالناس (وَلَمْ يَتَوَضَّأُ) أي: لأن نومه لا ينقض الوضوء، قال في "المرعاة": قيل: إنما لم يتوضّأ، وقد نام حتى نفخ؛ لأن النوم لا ينقض الطهر بنفسه، بل لأنه مظنّة خروج الخارج، ولَمّا كان قلبه صلى الله عليه وسلم يقظان لا ينام، ولم يكن نومه مظنّة في حقّه فلا يؤثّر؛ لأنه يعلم بتيقّظ قلبه بقاء وضوئه، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم. انتهى ببعض تصرّف

(3)

.

وفي رواية ابن عيينة، عن عمرو بن دينار الآتية:"فصلى الصبح، ولم يتوضّأ، قال سفيان: وهذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً؛ لأنه بلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تنام عينه، ولا ينام قلبه".

وقال الطيبيُّ رحمه الله: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأن عينه كانت تنام، ولا ينام قلبه، فيَقَظة قلبه تمنعه من الحدث، وإنما مُنع النومَ قلبُهُ لِيَعِيَ الوحيَ إذا أُوحي إليه في منامه، قال عُبيد بن عُمير: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]. انتهى

(4)

.

(1)

"المرعاة" 4/ 174.

(2)

"المرعاة" 4/ 174.

(3)

راجع: "المرعاة" 4/ 175.

(4)

"الكاشف" 4/ 1182.

ص: 11

(وَكَانَ فِي دُعَائِهِ) في جملة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة، وفي رواية البخاريّ:"وكان يقول في دعائه"، قال في "الفتح": فيه إشارة إلى أن دعاءه حينئذ كان كثيرًا، وكان هذا من جملته، ومما كان يقوله أيضًا ما يأتي:"اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض. . . إلخ".

[تنبيه]: اختلفت الروايات في تعيين محلّ هذا الدعاء، فوقع في رواية شعبة، عن سلمة الآتية بلفظ:"ثم خرج إلى الصلاة، فصلّي، فجعل يقول في صلاته، أو في سجوده: اللهم اجعل في قلبي نورًا. . . إلخ"، وسيأتي من رواية حبيب بن أبي ثابت، عن محمد بن عليّ بن عبد اللَّه بن عبّاس، عن أبيه أنه قال هذا الدعاء، وهو ذاهب إلى صلاة الصبح، ولفظه:"فأذّن المؤذّن، فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: اللهم اجعل. . . إلخ".

ويُمكن أن يُجمع بأنه قال هذا الدعاء حين خروجه إلى صلاة الصبح، ثم قاله في صلاته أيضًا.

ووقع في رواية الترمذيّ أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين فرغ من صلاته، ووقع عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي، فقضى صلاته، يُثني على اللَّه بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه:"اللهم اجعل في قلبي نورًا. . . " الحديث، قال الحافظ: ويُجمَع بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه. انتهى

(1)

.

أو يقال: إنه كان يقول ذلك الدعاء بعد الفراغ من الصلاة أيضًا، قاله في "المرعاة"

(2)

، وهذا أقرب، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الطيبيُّ رحمه الله: باعثه صلى الله عليه وسلم على هذا الدعاء، وعلى الصلاة قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190]-يعني الآيات التي قرأها حين استيقظ من نومه- قال: فإن الفاء الفصيحيّة تقتضي مقدّرًا يرتبط معها، تقديره: ربنا ما خلقت هذا باطلًا، بل خلقته للدلالة على معرفتك، ومن عَرَفك يجب عليه أداء طاعتك، واجتناب

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 120 - 121 "كتاب الدعوات".

(2)

"المرعاة" 4/ 176.

ص: 12

معصيتك؛ ليفوز بدخول جنتك، ويتوقّى به من عذاب نارك؛ لأن النار جزاء من يُخلّ بذلك، ونحن قد عرفناك، وأدّينا طاعتك، واجتنبنا معصيتك، فقنا عذاب النار. انتهى

(1)

.

("اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا) قيل: هو ما يتبيّن به الشيء ويظهر، قال الكرماني رحمه الله: التنوين فيه؛ للتعظيم؛ أي: نورًا عظيمًا، وقدّم القلب؛ لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، فإذا تنوّر القلب فاض نوره على جميع الجسد، وإذا حلّ النور في القلب والأعضاء حلّت الهداية فيها؛ لأن النور يقشع ظلمات الذنوب، ويرفع رَيْن الآثام، فنشطت للعبادة، وسعدت السعادت الأبديّة. (وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا) أي: في جانبي، أو في جارحتي (وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا) أي: قُدّامي نورًا يسعى بين يديّ (وَخَلْفِي نُورًا) أي: ليهتدي أتباعي بضوئه، ويستنيروا بإشراقه، والمعنى: اجعل النور يَحُفّني من جميع الجهات الستّ، حتى لا يكون للشيطان سبيل.

(وَعَظِّمْ لِي نُورًا") -بتشديد الظاء المعجمة- ولأبي يعلي، عن أبي خيثمة، عن عبد الرحمن:"وأعظم لي نورًا"، أخرجه الإسماعيليّ، وأخرجه أيضًا من رواية بندار، عن عبد الرحمن، وكذا لأبي عوانة، من رواية أبي حُذيفة، عن سفيان، وفي رواية شعبة، عن سلمة بن كُهيل الآتية للمصنّف:"واجعل لي نورًا" أو قال: "واجعلني نورًا"، هذه رواية غندر، عن شعبة، وفي رواية النضر، عن شعبة:"واجعلني"، ولم يشكّ، وللطبراني في "الدعاء"، من طريق الْمَنهال بن عمرو، عن علي بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، في آخره:"واجعل لي يوم القيامة نورًا"، أفاده في "الفتح".

(قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعًا فِي التَّابُوتِ) وفي رواية البخاريّ: "وسبع في التابوت"، بالرفع، ومعناه: أنه ذكر في الدعاء سبع كلمات نسيتها.

وقد اختُلِف في مراده بقوله: "التابوت"، فجزم الدمياطي في "حاشيته" بأن المراد به الصدر الذي هو وعاء القلب، وسبق ابن بطال، والداوديّ إلى أن

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1183.

ص: 13

المراد بـ "التابوت" الصدر، وزاد ابن بطال: كما يقال لمن يَحْفَظ العلم: علمه في التابوت مُستودَع، وقال النوويّ تبعًا لغيره: المراد بالتابوت الأضلاع وما تحويه من القلب وغيره؛ تشبيهًا بالتابوت الذي يُحْرَز فيه المتاع، يعني أن سبع كلمات في قلبي، ولكن نسيتها. وقيل: المراد سبعة أنوار، كانت مكتوبة في التابوت الذي كان لبني إسرائيل، فيه السكينة.

وجَزَم القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"، وغير واحد بأن المراد بـ "التابوت" الجسد؛ أي: أن السبع المذكورة تتعلق بجسد الإنسان، بخلاف أكثر ما تقدّم، فإنه يتعلق بالمعاني، كالجهات الستّ، وإن كان السمع والبصر من الجسد.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تفسير التابوت بالصدر، أو الجسد غير صحيح، والصواب ما فسّر به ابن الجوزيُّ رحمه الله قال: يريد بالتابوت الصندوق؛ أي: سبعٌ مكتوبة في حندوق عنده، لَمْ يحفظها في ذلك الوقت.

فهذا هو التفسير الصحيح؛ لأنه صُرّح به في رواية أبي عوانة من طريق أبي حذيفة، عن سفيان الثوريّ، بسند حديث الباب، ونصّه: قال كُريب: وستّةٌ عندي مكتوبةٌ في التابوت، وقال أيضًا: يقال: التابوت فيه كُتُب عليّ بن عبد اللَّه بن عبّاس. انتهى

(1)

.

وحَكَى ابن التين عن الداوديّ أن معنى قوله: "في التابوت" أي: في صحيفة في تابوت، عند بعض وَلَد العباس، قال: والخصلتان: العظم والمخّ، وقال الكرمانيّ: لعلّهما الشحم والعظم، كذا قالا، وفيه نظر.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تفسير الداوديُّ للتابوت بما ذكره هو الحقّ، كما سبق عن ابن الجوزيِّ رحمه الله، لكن تفسيره للخصلتين، فيه نظر، بل الأولى تفسيرهما باللسان والنفس، كما صحّ من رواية عقيل، عن سلمة الآتية.

والحاصل أن المراد بالتابوت هو الصندوق الذي وُضعت فيه الصحيفة التي كُتبت فيه السبع، وأن الخصلتين هما اللسان، والنفس، فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: حاصل ما ذُكر في هذه الرواية عشرة، وسيأتي من طريق عُقَيل،

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة" 3/ 48.

ص: 14

عن سلمة بن كُهيل: "فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتسع عشرة كلمة، حدّثنيها كُريب، فحفظت منها ثنتي عشرة، ونَسِيت ما بَقِي"، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اللهم اجعل لي في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، ومن بين يديَّ نورًا، ومن خلفي نورًا، واجعل في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا".

فقوله: "وفي لساني نورًا" و"واجعل لي في نفسي نورًا"، هاتان اثنتان من السبع التي ذكر كُريب أنها في التابوت مما حدّثه بعض ولد العباس.

وقوله: (فَلَقِيتُ بَعْضَ وَلَدِ الْعَبَّاسِ) قال صاحب "التنبيه": هو عليّ بن عبد اللَّه بن العبّاس، كذا بخطّ العلامة عزّ الدين الحاضريّ عن أبي ذرّ. انتهى

(1)

.

(فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ) هو من قول كريب، صرّح به أبو نعيم من رواية زُهير بن حرب، عن عبد الرحمن بن مهديّ، وأما قول ابن بطّال، وكذا النوويّ: إنه من قول سلمة، وليس من قول كُريب، فليس بشيء، وكذا قول الحافظ: هو مُحْتَمِل، مع أنه قال: وظاهر رواية أبي حُذيفة أن القائل هو كريب.

والحاصل أن الصواب كونه من قول كريب، كما صرح به في رواية زهير المذكورة، لا من قول سلمة، واللَّه تعالى أعلم.

قال ابن بطال رحمه الله: وقد وجدت الحديث من رواية عليّ بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، قال: فذكر الحديث مطوَّلًا، وظهرت منه معرفة الخصلتين اللتين نسيهما، فإن فيه:"اللهم اجعل في عظامي نورًا، وفي قبري نورًا".

قال الحافظ رحمه الله: بل الأظهر أن المراد بهما اللسان والنفس، وهما اللذان زادهما عُقيل في روايته عند مسلم، وهما من جملة الجسد، وينطبق عليه التأويل الأخير للتابوت، وبذلك جزم القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"، ولا ينافيه ما عداه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم أن تفسير القرطبيّ للتابوت غير صحيح، بل الصواب أنه التابوت المعروف، وهو الصندوق، كما بيّنته رواية أبي عوانة السابقة.

(1)

"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" للحافظ سبط ابن العجمي رحمه الله (ص 155 - 156).

ص: 15

قال: والحديث الذي أشار إليه، أخرجه الترمذيّ، من طريق داود بن عليّ بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، عن جدّه، سمعت نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلةً حين فرغ من صلاته يقول:"اللهم إني أسالك رحمةً من عندك. . . "، فساق الدعاء بطوله، وفيه:"اللهم اجعل لي نورًا في قبري"، ثم ذكر القلب، ثم الجهات الست، والسمع والبصر، ثم الشعر والبشر، ثم اللحم والدم والعظام، ثم قال في آخره:"اللهم عَظِّم لي نورًا، وأعطني نورًا، واجعلني نورًا"، قال الترمذيّ: غريب

(1)

، وقد رَوَى شعبة، وسفيان، عن سلمة، عن كريب، بعض هذا الحديث، ولم يذكروه بطوله. انتهى.

وأخرج الطبريّ من وجه آخر، عن عليّ بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، في آخره:"وزدني نورًا"، قالها ثلاثًا، وعند ابن أبي عاصم في "كتاب الدعاء"، من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن كريب، في آخر الحديث:"وهب لي نورًا على نور".

ويجتمع من اختلاف الروايات كما قال ابن العربيّ خمس وعشرون خصلةً، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "خمس وعشرون خصلةً" فيه نظر؛ لأن الأحاديث التي ذُكرت ضعاف، لا يستفاد منها زيادة على ما أورده المصنّف في هذا الباب، من رواية عُقيل، عن سلمة بن كُهيل، وهي تسع عشرة خصلة، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

(فَذَكَرَ) أي: بعض ولد العبّاس (عَصَبِي) بفتح المهملتين، وبعدهما موحّدة، قال ابن التين: هي أطناب المفاصل (وَلَحْمِي، وَدَمِي، وَشَعْرِي) -بفتح العين المهملة، وسكونها- (وَبَشَرِي) -بفتح الموحدة والمعجمة-: ظاهرُ الجسد (وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ) أي: مع هذه الخمسة؛ تكملةَ السبعة، وقد سبق أنهما "اللسان، والنفس" فتنبّه.

[تنبيه]: قال القرطبيُّ رحمه الله: هذه الأنوار التي دعا بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

هو حديث ضعيفٌ، رواه الترمذي في "الجامع" 5/ 482.

(2)

راجع: "الفتح" 11/ 121 - 122.

ص: 16

يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل اللَّه تعالى أن يَجعَل له في كل عضو من أعضائه نورًا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظّلَم، هو ومن تبعه، أو من شاء اللَّه منهم، قال: والأولى أن يقال: هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} الآية [الزمر: 22]، وقوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الآية [الأنعام: 122]؛ أي: علمًا وهدايةً، قال: والتحقيق في معنى النور: أن النور مُظْهِر ما يُنْسَب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور الشمس مُظهِر للمبصرات، ونور القلب كاشفٌ عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات، فكأنه دعا بإظهار الطاعات عليها دائمًا، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ

(1)

.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: معنى طلب النور للأعضاء عضوًا عضوًا أن يتحلَّى بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعَرَّى عن ظلمة الجهالة والمعاصي؛ لأن الإنسان ذو سهو وطغيان، قد أحاطت به ظلمات الجبلّة، مُعتوِرةً عليه من فرقه إلى قدمه، والأدخنة الثائرة من نيران الشهوات من جوانبه، والشيطان يأتيه من الجهات الست بوساوسه وشُبُهاته، ظلمات بعضها فوق بعض، فلم ير للتخلُّص منها مساغًا إلَّا بتلك الأنوار السادّة لتلك الجهات، فسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يُمِدّه بها؛ ليستأصل تلك الظلمات؛ إرشادًا للأمة، وتعليمًا لهم، قال: وكلّ هذه الأمور راجعةٌ إلى الهداية والبيان، وضياء الحقّ، والى ذلك يرشد قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} الآية [النور: 35]، وإلى أودية تلك الظلمات يلمح قوله تعالى:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} -إلى قوله-: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} الآية [النور: 40]، وقوله:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، اللهم إنا نعوذ بك من تلك الظلمات، ونسألك هذه الأنوار. انتهى كلام الطيبيُّ سبحانه وتعالى ببعض تصرّف

(2)

.

وقال الطيبيّ سبحانه وتعالى أيضًا: خَصَّ السمع والبصر والقلب بلفظ بـ "في" الظرفيّة؛ لأن القلب مَقَرُّ الفِكَرِ في الماء اللَّه ونعمائه، ومكانها ومعدنها، والبصر

(1)

"المفهم" 2/ 395.

(2)

"الكاشف" 4/ 1183.

ص: 17

مسارح آيات اللَّه المنصوبة المبثوثة في الآفاق، والأنفس ومحلها، والأسماع مراسي أنوار وحي اللَّه تعالى، ومحطّ آياته المنزّلة على أنبياء اللَّه تعالى، قال: وخُصّ اليمين والشمال بـ "عن"؛ للإيذان بأنه تجاوزت الأنوار عن قلبه وسمعه وبصره إلى مَن عن يمينه، وشماله، من أتباعه، وعُزلت "فوقُ"، و"تحتُ"، و"أمامُ"، و"خَلْفُ"، من الجارّة؛ ليستمدّ استنارته وإنارته من اللَّه وللخلق، ثم أجمل في آخره بقوله:"واجعل لي نورًا" فَذْلَكَةً لذلك، وتوكيدًا له. انتهى كلام الطيبيُّ رحمه الله ببعض تصرّف أيضًا

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1788 و 1789 و 1790 و 1791 و 1792 و 1793 و 1794 و 1795 و 1796 و 1797 و 1798 و 1799 و 1800 و 1801 و 1802](763)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(138) و"الأذان"(698 و 726 و 859) و"الوتر"(992) و"العمل في الصلاة"(1198) و"التفسير"(4569) و"الأدب"(6215) و"الدعوات"(6316) و"التوحيد"(7452)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1367 و 5043)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(258)، و (ابن ماجه) في "الطهارة"(423)، و"إقامة الصلاة"(508 و 1363)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(1121)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 121 و 122)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4707)، و (الحميديّ) في "مسنده"(472)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2706)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 284 و 364)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1533 و 1534)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2579 و 2592 و 2626) و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 315 و 317 و 318)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (1738 و 1739 و 1740 و 1741 و 1742 و 1743 و 1744

(1)

"الكاشف" 4/ 1183 - 1184.

ص: 18

و 1745)، و (الطبرانيّ)(12192)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 7)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم، ودعائه في الليل.

2 -

(ومنها): جواز مبيت مَن لَمْ يَحْتَلِم عند ذوات محارمه.

3 -

(ومنها): جواز المبيت عند الرجل، ومعه أهله.

4 -

(ومنها): فضل ابن عباس رضي الله عنهما، حيث بات يراقب النبيّ صلى الله عليه وسلم في أفعاله؛ ليقتدي به مع صغر سنّه.

5 -

(ومنها): مبالغة العبد في طلب الأنوار من اللَّه تعالى، حتى تكون محيطة به ظاهرًا وباطنًا؛ ليكون على بصيرة من أمره.

6 -

(ومنها): بيان أن نومه صلى الله عليه وسلم مضطجعًا لا ينقض الوضوء، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام، فيقظة قلبهم تمنعهم من الحدَث، ولهذا قال عُبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، وقال الخطابيُّ رحمه الله: إنما مُنِع النومُ من قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيَعِيَ الوحي إذا أوحي إليه في المنام.

7 -

(ومنها): أن فيه تواضعَه صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من مكارم الأخلاق.

8 -

(ومنها): أن فيه صلةَ القرابة.

9 -

(ومنها): بيان الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): جواز الإمامة في النافلة، وصحة الجماعة فيها.

11 -

(ومنها): جواز ائتمام واحد بواحد.

12 -

(ومنها): جواز ائتمام الصبي بالبالغ، وعليه ترجم البيهقيُّ في "سننه".

13 -

(ومنها): أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، وعن سعيد بن المسيب أن موقف الواحد مع الإمام عن يساره، ويردّه هذا الحديث، وعن أحمد: إن وقف عن يساره بطلت صلاته.

14 -

(ومنها): استحباب التخفيف في استعمال ماء الوضوء، مع استيعاب محلّ الفرض.

15 -

(ومنها): تعليم الإمام المأموم وهو يصلي كيف يقوم إلى جنبه.

ص: 19

16 -

(ومنها): جواز التعليم في الصلاة إذا كان من أمرها.

17 -

(ومنها): استحباب إيذان المؤذّن الإمام بحضور الصلاة.

18 -

(ومنها): قيام الإمام مع المؤذّن إذا آذنه إلى الصلاة.

19 -

(ومنها): جواز الجمع بين النوافل والفرض بوضوء واحد، ولا خلاف في ذلك.

20 -

(ومنها): أن النوم الخفيف لا يجب فيه الوضوء، قاله الداوديّ في "شرحه"، وفيه نظرٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اضطجع، فنام حتى نفخ، وهذا لا يكون في الغالب خفيفًا.

21 -

(ومنها): أن فيه المبيت عند العالم؛ ليراقب أفعاله، فيقتدي بها.

22 -

(ومنها): أن فيه طلبَ العلو في السند، وطلب اليقين، والقطع في أحكام الشريعة متى قدر على ذلك، ورفعه على درجة خبر الواحد؛ فإنه كان يكفي ابن عبّاس رضي الله عنهما سؤال خالته ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولكنه طلب بنفسه.

23 -

(ومنها): أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يتكلم.

24 -

(ومنها): أن من الأدب أن يمشي الصغير عن يمين الكبير، والمفضول عن يمين الفاضل، ذكره الخطابيّ، وفي الاستدلال عليه بهذا الحديث نظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1789]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَالَتُهُ، قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ

(1)

فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ

(1)

وفي نسخة: "هو وأهله".

ص: 20

اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، استَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ، فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ

(1)

بِأُذِنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الأسديّ الوالبيّ -بكسر اللام، والموحّدة- المدنيّ، ثقةٌ [5].

رَوَى عن ابن عباس، وابن الزبير، وأسماء بنت أبي بكر، والسائب بن يزيد، وكُريب مولى ابن عباس، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، والأعرج، ونافع بن جُبير بن مُطْعِم، وغيرهم.

ورَوَى عنه عمرو بن شعيب، ومات قبله، وعبد ربه بن سعيد، وسعيد بن أبي هلال، وعياض بن عبد اللَّه الفِهْريّ، ومالك بن أنس، والضحاك بن عثمان الْحِزَاميّ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وغيرهم.

قال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.

وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الواقديّ: قتلته الْحَرُورية بقُدَيد سنة ثلاثين ومائة، وهو ابن سبعين سنةً.

(1)

وفي نسخة: "فأخذ".

ص: 21

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وكرّره ثلاث مرّات.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَن ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها (وَهِيَ خَالَتُهُ) قَالَ: (فَاضْطَجَعْتُ) قائل ذلك هو ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه التفات؛ لأن أسلوب الكلام كان يقتضي أن يقول: فاضطجع؛ لأنه قال قبل ذلك: أنه بات. . . إلخ (فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ) قال النوويُّ رحمه الله: هكذا ضبطناه عَرْض -بفتح العين- وهكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، قال: ورواه الداودي بالضم، وهو الجانب، والصحيح الفتح. انتهى.

وقال في "الفتح": في "عَرْض الوسادة" -بفتح أوله- على المشهور، وبالضم أيضًا، وأنكره الباجيّ من جهة النقل، ومن جهة المعنى أيضًا، قال: لأن العُرْض بالضم هو الجانب، وهو لفظ مشترك، قال الحافظ: لكن لَمّا قال: "في طولها" تَعيَّن المراد، وقد صحت به الرواية فلا وجه للإنكار. انتهى.

وفي رواية محمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" من طريق محمد بن الوليد بن نُويفع: "وسادة من أَدَمِ حشوُها لِيفٌ"، وفي رواية ابن خزيمة:"ثم دخل مع امرأته في فراشها، وزاد أنها كانت ليلتئذ حائضًا"، وفي رواية للبخاريّ في "التفسير":"فتحدث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة". انتهى

(1)

.

قال النوويُّ رحمه الله: المراد بالوسادة: الوسادة المعروفة التي تكون تحت الرؤوس، ونقل القاضي عن الباجيّ والأصيليّ وغيرهما أن الوسادة هنا: الفراش؛ لقوله: "اضطجع في طولها"، وهذا ضعيفٌ، أو باطلٌ.

وفيه دليل على جواز نوم الرجل مع امرأته من غير مواقعة بحضرة بعض محارمها، وإن كان مُمَيِّزًا، قال القاضي: وقد جاء في بعض روايات هذا

(1)

"الفتح" 2/ 560.

ص: 22

الحديث: "قال ابن عباس: بِتُّ عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضًا"، قال: وهذه الكلمة وإن لَمْ تَصِحّ طريقًا فهي حسنة المعنى جدًّا؛ إذ لَمْ يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيها حاجة إلى أهله، ولا يرسله أبوه إلَّا إذا عَلِمَ عدم حاجته إلى أهله؛ لأنه معلوم أنه لا يفعل حاجته مع حضرة ابن عباس معهما في الوسادة، مع أنه كان مُراقبًا لأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أنه لَمْ يَنَمْ، أو نام قليلًا جدًّا. انتهى

(1)

.

(وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ) وفي نسخة: "هو وأهله"(فِي طُولِهَا) أي: طول الوسادة (فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ) وفي رواية للبخاريّ: "حتى انتصف الليل، أو قريبًا منه"، قال في "الفتح": جزم شريك بن أبي نَمِر في روايته بثلث الليل الأخير، ويُجمَع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرّتين، ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك، ثم توضأ، وصلي، وقد بيّن ذلك محمد بن الوليد في روايته، وفي رواية الثوريّ، عن سلمة بن كُهيل، عن كريب في "الصحيحين"، وهي الرواية الماضية للمصنّف:"فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم من الليل، فأتى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام، ثم قام، فأتى القربة. . . " الحديث، وفي رواية سعيد بن مسروق، عن سلمة الآتية في هذا الباب:"ثم قام قومةً أخرى"، ورواية شعبة، عن سلمة:"فبال"، بدل "فأتى حاجته".

(اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ) أي: يمسح بيده عينيه، من باب إطلاق اسم الحالّ على المحلّ، أو أثر النوم، من باب إطلاق السبب على المسبب، قاله في "الفتح"، وقال النوويُّ رحمه الله: معناه: يمسح أثر النوم، وفيه استحباب هذا، واستعمال المجاز. انتهى.

(ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) أولها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى آخر السورة.

قال النوويُّ رحمه الله: فيه جواز القراءة للمحدث، وهذا إجماع المسلمين، وإنما تَحْرُم القراءة على الجنب والحائض، وفيه استحباب قراءة هذه الآيات

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 46.

ص: 23

عند القيام من النوم، وفيه جواز قول:"سورة آل عمران"، و"سورة البقرة"، و"سورة النساء"، ونحوها، وكَرِهه بعض المتقدمين، وقال: إنما يقال: السورة التي يذكر فيها آل عمران، والتي يذكر فيها البقرة، والصواب الأول، وبه قال عامّة العلماء من السلف والخلف، وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، ولا لبس في ذلك. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن بطال، ومن تبعه: فيه دليل على ردّ من كره قراءة القرآن على غير طهارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ.

وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مُفَرَّع على أن النوم في حقه ينقض، وليس كذلك؛ لأنه قال:"تنام عيناي، ولا ينام قلبي"، وأما كونه توضأ عقب ذلك، فلعله جدَّد الوضوء، أو أحدث بعد ذلك، فتوضأ.

قال الحافظ: وهو تعقب جيّد بالنسبه إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم؛ لأنه لم يتعيّن كونه أحدث في النوم، لكن لما عَقَّب ذلك بالوضوء كان ظاهرًا في كونه أحدث، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث، وهو نائم، نعم خصوصيته أنه إن وقع شَعَرَ به بخلاف غيره، وما ادَّعَوه من التجديد وغيره الأصل عدمه. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ) زاد محمد بن الوليد: "ثم استفرغ من الشّنّ في إناء، ثم توضأ"، قال النوويُّ رحمه الله: إنما أنّثها على إرادة القِرْبة، وفي رواية بعد هذه:"شَنّ مُعَلَّق" على إرادة السقاء والوعاء، قال أهل اللغة: الشَّنّ: القربة الْخَلَق، وجمعه شِنَان. انتهى.

(فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ) وفي رواية محمد بن الوليد، وطلحة بن نافع جميعًا عن كريب:"فأسبغ الوضوء"، وفي رواية عمرو بن دينار، عن كريب:"فتوضأ وضوءًا خفيفًا"، وُيجْمَع بين هاتين الروايتين برواية سلمة بن كُهيل، عن كريب الماضية بلفظ: "فتوضأ وضوءًا بين وضوءين، لم يكثر وقد

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 46.

(2)

"الفتح" 1/ 345 "كتاب الوضوء" رقم (183).

ص: 24

أبلغ"، وفي رواية عياض، عن مخرمة الآتية: "فأسبغ الوضوء، ولم يَمَسّ من الماء إلَّا قليلًا"، وزاد فيها: "فتسوّك"، وكذا لشريك عن كريب: "فاستَنّ" (ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى) لفظ البخاريّ: "ثم قام يُصلي"، وفي رواية محمد بن الوليد: "ثم أخذ بُرْدًا له حَضْرميًّا، فتوشحه، ثم دخل البيت، فقام يصلي".

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقُمْتُ، فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا يقتضي أنه صنع جميع ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشُّح، ويَحْتَمِل أن يُحْمَل على الأغلب، وهذا أقرب (ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ) وفي نسخة: "فأخذ"(بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، قيل: إنما فتلها تنبيهًا له من النعاس، وقيل: ليتنبه لهيئة الصلاة، وموقف المأموم، وغير ذلك، قال النوويّ رحمه الله: والأول أظهر؛ لقوله في الرواية الأخرى: "فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني". انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل الأظهر أنه فعل ذلك لأجل التنبيه من النعاس، ولمؤانسته في الظلام، ففي رواية محمد بن الوليد:"فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليُؤنسني بيده في ظلمة الليل"، وفي رواية الضحاك بن عثمان:"فجعلتُ إذا أغفيت أخذ بشَحْمَة أذني"، فتبيّن بهاتين الروايتين أنه إنما فعل ذلك للأمرين، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الحافظ رحمه الله: وفي هذا ردّ على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين؛ متمسكًا برواية سلمة بن كُهيل، حيث قال:"فأخذ بأذني، فأدارني عن يمينه"، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مَسْك أذنه؛ لما ذكره من تأنيسه وإيقاظه؛ لأن حاله كانت تقتضي ذلك؛ لصغر سنّه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ) كذا في هذه الرواية، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين، ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع، حيث قال فيها: "يسلّم من كل

(1)

"الفتح" 2/ 561.

ص: 25

ركعتين"، وفي رواية عليّ بن عبد اللَّه بن عباس الآتية لمسلم التصريح بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك.

ثم إن هذه الرواية فيها التصريح بذكر الركعتين ستّ مرات، ثم قال:"ثم أوتر"، ومقتضاه أنه صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعةً، وقد صرَّح بذلك في رواية سلمة الماضية حيث قال:"فتتامّت صلاته ثلاث عشرة ركعةً"، وفي رواية عبد ربه بن سعيد الآتية:"فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعةً"، وفي رواية محمد بن الوليد، عن كريب مثله، وزاد:"وركعتين بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح"، وهي موافقة لهذه الرواية؛ لأنه قال بعد قوله:"ثم أوتر": "فقام، فصلى ركعتين خفيفتين"، فاتّفَقَ هؤلاء على الثلاث عشرة، وصَرَّح بعضهم بأن ركعتي الفجر من غيرها.

لكن رواية شريك بن أبي نَمِر عند البخاريّ في "التفسير" عن كريب تخالف ذلك، ولفظه:"فصلى إحدى عشرة ركعةً، ثم أذَّن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج"، فهذا ما في رواية كريب من الاختلاف، وقد عُرِف أن الأكثر خالفوا شريكًا فيها، وروايتهم مقدمة على روايته؛ لما معهم من الزيادة، ولكونهم أحفظ منه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: دعوى الحافظ رحمه الله تفرّد شريك بذكر إحدى عشرة ركعةً فيه نظر لا يخفي، فقد تابعه مخرمة بن سليمان عن كريب، فذكرها، وهي الرواية الآتية للمصنّف بعد حديثين، ولفظه:"قال: فصلى إحدى عشرة ركعةً، ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقدًا، فلما تبيّن له الفجر صلى ركعتين خفيفتين"، فظهر بهذا أن شريكًا لَمْ ينفرد بها، فتفطّن.

قال: وقد حَمَل بعضهم هذه الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفى بُعْدُه، ولا سيما في رواية مخرمة في حديث الباب إلَّا إن حمل على أنه أخّر سنة العشاء حتى استيقظ، لكن يَعْكُر عليه رواية المنهال الآتية قريبًا.

وقد اختُلِف على سعيد بن جبير أيضًا: ففي "التفسير" من طريق شعبة، عن الحكم، عنه:"فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم صلى خمس ركعات"، وقد حَمَلَ محمد بن نصر هذه الأربع على أنها سنة العشاء؛ لكونها وقعت قبل النوم، لكن يَعْكُر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن عمرو، عن عليّ بن

ص: 26

عبد اللَّه بن عباس، فإن فيه:"فصلى العشاء، ثم صلى أربع ركعات بعدها، حتى لَمْ يبق في المسجد غيره، ثم انصرف"، فإنه يقتضي أن يكون صلى الأربع في المسجد، لا في البيت.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن حمل محمد بن نصر رحمه الله المذكور صحيح، فقد أخرج البخاريّ رواية شعبة، عن الحكم هذه في "كتاب العلم" من "صحيحه"، وفيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم صلى أربع ركعات في البيت بعدما رجع من المسجد، ولفظه:"قال: بِتُّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله، فصلى أربع ركعات، ثم نام. . . " الحديث.

فدلّ على أنه صلى في البيت، ولا ينافيه ما رواه المنهال؛ لاحتمال أن يكون صلى في المسجد وفي البيت أيضًا، واللَّه تعالى أعلم.

قال: ورواية سعيد بن جبير أيضًا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم، وفيه نظرٌ، وقد رواها أبو داود من وجه آخر، عن الحكم، وفيه: فصلى سبعًا، أو خمسًا، أوتر بهنّ، لَمْ يسلم إلَّا في آخرهنّ.

قال: وقد ظهر لي من رواية أخرى عن سعيد بن جبير ما يرفع هذا الإشكال، ويوضح أن رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائيّ من طريق يحيى بن عباد، عن سعيد بن جبير:"فصلى ركعتين ركعتين، حتى صلى ثمان ركعات، ثم أوتر بخمس، لَمْ يجلس بينهنّ"، فبهذا يُجمَع بين رواية سعيد ورواية كريب.

وأما ما وقع في رواية عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عند أبي داود:"فصلى ثلاث عشرة ركعةً، منها ركعتا الفجر"، فهو نظير ما تقدّم من الاختلاف في رواية كريب.

وأما ما في روايتهما من الفصل والوصل، فرواية سعيد صريحة في الوصل، ورواية كريب مُحْتَمِلةٌ، فتُحْمَل على رواية سعيد.

وأما قوله في رواية طلحة بن نافع: "يسلِّم من كل ركعتين"، فيَحْتَمِل تخصيصه بالثمان، فيوافق رواية سعيد، ويؤيده رواية يحيى بن الجزار الآتية.

قال: ولم أر في شيء من طرق حديث ابن عباس ما يخالف ذلك؛ لأن

ص: 27

أكثر الرواة عنه لَمْ يذكروا عددًا، ومن ذكر العدد منهم لَمْ يزد على ثلاث عشرة، ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلَّا أن في رواية على بن عبد اللَّه بن عباس، عند مسلم ما يخالفهم، فإن فيه:"فصلى ركعتين، أطال فيهما، ثم انصرف، فنام حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآياتِ، يعني آخر آل عمران، ثم أوتر بثلاث، فأَذَّن المؤذِّن فخرج إلى الصلاة". انتهي، فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه، ونقص عنهم ركعتين، أو أربعًا، ولم يذكر ركعتي الفجر أيضًا، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت، فإن فيه مقالًا، وقد اختُلِف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافًا تقدم ذكر بعضه.

ويَحْتَمِل أن يكون لَمْ يذكر الأربع الأوَلَ كما لم يذكر الحكم الثمان كما تقدم، وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى، عن علي بن عبد اللَّه، عند أبي داود.

والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها، ولا شك أن الأخذ بما اتَّفَق عليه الأكثر، والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولا سيما إن زاد أو نقص، والْمُحَقَّق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية ثلاث عشرة، فيَحْتَمِل أن يكون منها سنة العشاء ويوافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ:"كانت صلاة النبيّ ثلاث عشرة"، يعني بالليل، ولم يُبَيِّن هل سنة الفجر منها أو لا؟ وبيّنها يحيى بن الجزار، عن ابن عباس، عند النسائيّ بلفظ:"كان يصلي ثمان ركعات، ويوتر بثلاث، ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح".

قال: ولا يَعْكُرُ على هذا الجمع إلَّا ظاهر سياق الباب، فيمكن أن يُحْمَل قوله:"صلى ركعتين، ثم ركعتين"؛ أي: قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله:"ثم ركعتين. . . إلخ"؛ أي: بعد أن قام.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى بُعد هذا الجمع؛ لأن ظاهر السياق يأباه، فالأولى الترجيح، فرواية من روى أنه صلى ثلاث عشرة ركعةً أقوى، فترجّح على رواية إحدى عشرة، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 28

وجمع الكرمانيُّ رحمه الله بين ما اختَلَف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس رضي الله عنهما به فيه، وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملًا، واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الوجه الذي ذكره أقرب مما قاله الكرمانيُّ رحمه الله أيضًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَ الْمُؤَذِّنُ) تقدّم أنه بلال رضي الله عنه (فَقَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) فيه استحباب تخفيف ركعتي الفجر (ثُمَّ خَرَجَ) إلى المسجد (فَصَلَّى الصُّبْحَ) أي: صلى بالناس جماعة.

قال النوويُّ رحمه الله في "شرحه": فيه أن الأفضل في الوتر وغيره من الصلوات أن يسلم من كل ركعتين، وإن أوتر يكون آخرَه ركعةً مفصولةً، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: ركعةً موصولةً بركعتين كالمغرب.

وفيه جواز إتيان المؤذِّن إلى الإمام؛ ليَخْرُج إلى الصلاة، وتخفيف سنة الصبح، وأن الإيتار بثلاث عشرة ركعةً أكمل، وفيه خلاف لأصحابنا، قال بعضهم: أكثر الوتر ثلاث عشرة؛ لظاهر هذا الحديث، وقال أكثرهم: أكثره إحدى عشرة، وتأولوا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى منها ركعتي سنة العشاء، وهو تأويل ضعيفٌ، مباعد للحديث. انتهى كلام النوويُّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ.

وقال في "الفتح": وفي حديث ابن عباس من الفوائد غير ما تقدّم ففيه جواز إعطاء بني هاشم من الصدقة، وهو محمول على التطوّع، ويَحْتَمِل أن يكون إعطاؤه العباس ليتولى صرفه في مصالح غيره، ممن يَحِلّ له أخذ ذلك.

وفيه جواز تقاضي الوعد، وإن كان مَن وَعَد به مقطوعًا بوفائه.

وفيه الملاطفة بالصغير، والقريب، والضيف، وحسن المعاشرة للأهل، والردّ على من يؤثر دوام الانقباض.

وفيه مبيت الصغير عند محرمه، وإن كان زوجها عندها، وجواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير، وإن كان مميزًا بل مراهقًا.

ص: 29

وفيه صحة صلاة الصبيّ، وجواز فتل أذنه؛ لتأنيسه وايقاظه، وقد قيل: إن المتعلم إذا تُعوهد بفتل أذنه كان أذكى لفهمه.

وفيه حَمْلُ أفعاله صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به، ومشروعية التنفل بين المغرب والعشاء.

وفضل صلاة الليل، ولا سيما في النصف الثاني، والبداءة بالسواك، واستحبابه عند كل وضوء، وعند كل صلاة، وتلاوة آخر آل عمران عند القيام إلى صلاة الليل، واستحباب غسل الوجه واليدين لمن أراد النوم، وهو محدث، ولعله المراد بالوضوء للجنب.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال في "الفتح": ولعلّه. . . إلخ، فيه نظر لا يخفي، بل الصواب أن الوضوء الذي أُمر به الجنب عند إرادة النوم هو الوضوء الشرعيّ الذي تصحّ به الصلاة، فالأحاديث الصحيحة مصرّحة بأنه يتوضّأ وضوءه للصلاة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وفيه جواز الاغتراف من الماء القليل؛ لأن الإناء المذكور كان قَصْعة، أو صَحْفة، واستحباب التقليل من الماء في التطهير، مع حصول الإسباغ، وجواز التصغير والذكر بالصفة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"نام الغليم" يعني ابن عباس رضي الله عنهما، وبيان فضل ابن عباس رضي الله عنهما، وقوة فهمه، وحرصه على تعلم أمر الدين، وحسن تأتيه في ذلك.

وفيه اتخاذ مؤذِّن راتب للمسجد، وإعلام المؤذن الإمام بحضور وقت الصلاة، واستدعاؤه لها، والاستعانة باليد في الصلاة، وتكرار ذلك.

وفيه مشروعية الجماعة في النافلة، والائتمام بمن لم ينو الإمامة، وبيان موقف الإمام والمأموم.

واستُدِلّ به على أن الأحاديث الواردة في كراهية القرآن على غير وضوء، ليست على العموم في جميع الأحوال.

وأجيب بأن نومه كان لا ينقض وضوءه، فلا يتم الاستدلال به، إلَّا أن يثبت أنه قرأ الآيات بين قضاء الحاجة والوضوء، واللَّه أعلم. انتهى الكلام على حديث ابن عباس رضي الله عنهما مأخوذًا من "الفتح"

(1)

، وإن كان تقدّم بعضه، إلَّا

(1)

"الفتح" 2/ 562 - 563.

ص: 30

أن كونه مجموعًا في محلّ واحد أنفع وأجمع للفهم، ولذا أعدته هنا، وباللَّه تعالى التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبقيّة المسائل في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1790]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ: ثُمَّ عَمَدَ إِلَى شَجْبٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَسَوَّكَ، وَتَوَضَّأَ، وَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَلَمْ يُهْرِقْ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا قَلِيلًا، ثُمَّ حَرَّكَنِي، فَقُمْتُ، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ نَحْوُ حَدِيثِ مَالِكٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيُّ) المدنيّ، نزيل مصر، فيه لينٌ [7](م د س ق) تقدم في "الحيض" 21/ 792.

و"مخرمة" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي: بإسناد مخرمة الماضي، وهو: عن كُرَيب، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

وقوله: (وَزَادَ) الضمير لعياض بن عبد اللَّه.

وقوله: (ثُمَّ عَمَدَ) بفتحات، يقال: عَمَدتُ للشيء عَمْدًا، من باب ضرب، وعَمَدت إليه: قَصَدتُ، وتعمّدته: قصدت إليه أيضًا، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقوله: (إِلَى شَجْبٍ مِنْ مَاءٍ) هو بفتح الشين المعجمة، وإسكان الجيم،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 428.

ص: 31

قالوا: وهو السقاء الْخَلَقُ، وهو بمعنى الرواية الأخرى:"شَنّ مُعَلَّقةٌ"، وقيل: الأَشْجاب: الأعواد التي تُعَلَّق عليها القِرْبة، قاله النوويُّ رحمه الله

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: وقع هذا الحرف -يعني"شجبًا"- من روايتنا عن الخشنيّ، عن الطبريّ:"سجب" بالسين المهملة، وليس بشيء. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَلَمْ يُهْرِقْ) بسكون الهاء هكذا النسخ، وأصل هذه الكلمة أراق يُريق، فأبدلت الهمزة هاء، قال الفيّوميُّ رحمه الله: راق الماءُ والدمُ وغيرُه رَيْقًا، من باب باع: انْصَبَّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبه، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعول مُرَاقٌ، وتُبْدَل الهمزة هاءً، فيقال: هراقه، والأصل هَرْيَقَه، وزانُ دَحْرَجَه، ولهذا تُفْتَح الهاءُ من المضارع، فيقال: يُهَرِيقه، كما تفتح الدال من يُدحرجه، وتفتح من الفاعل والمفعول أيضًا، فيقال: مُهَريق ومُهَراق، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَ مُهَراقَةٌ

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

والأمرُ: هَرِقْ ماءَكَ، والأصلُ هَرْيِقْ وزانُ دَحْرِجْ، وقد يُجْمَع بين الهاء والهمزة، فيقال: أهراقه يُهَرْيِقُهُ ساكنُ الهاء؛ تشبيهًا له بأَسْطَاع يُسْطِيع، كأن الهمزة زيدت عِوَضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا. انتهى كلام الفيّوميُّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (وَلَمْ يُهْرِقْ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا قَلِيلًا) هو بمعنى قوله في الحديث الآتي: "ولم يُكثر من الماء".

وقوله: (وَسَائِرُ الْحَدِيثِ نَحْوُ حَدِيثِ مَالِكٍ) أي: وباقي حديث عياض بن عبد اللَّه عن مخرمة بن سليمان مثل حديث مالك بن أنس عنه.

[تنبيه]: رواية عياض بن عبد اللَّه الْفِهْريّ، عن مخرمة بن سليمان هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 359) فقال:

(1741)

حدّثنا محمد بن المظفر إملاءً، ثنا عليّ بن أحمد بن سليمان، ثنا هارون بن سعيد الأيليّ، ثنا عبد اللَّه بن وهب، عن عياض بن عبد اللَّه، عن

(1)

"شرح النووي" 6/ 47 - 48.

(2)

"إكمال المعلم" 3/ 119.

(3)

المصباح المنير 1/ 248.

ص: 32

مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس، أنه قال: بعثني أبي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بهدية، فأتيته، وهو في بيت ميمونة، فرَقَّدَتني على فضل وسادة، فنام حتى إذا كان شطر الليل قام، فنظر في السماء، ثم تلا آخر "سورة آل عمران":{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [آل عمران: 190]، حتى ختمها، ثم عَمَدَ إلى شَجْب من ماء مُعَلَّق، فتسوّك، وتوضأ، فأسبغ الوضوء، ولم يُهرِق من الماء إلَّا قليلًا، حتى حَرَّكَني، فقمت، فتوضأت، فقمت عن يساره، فحوّلني عن يمينه، فجعل يقرأ، وهو يَفْتِل أذني، فصلى عشر ركعات، ثم أوتر، ثم نام، وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه بلال، فأيقظه للصلاة، فقام، فركع ركعتين خفيفتين، ثم خرج إلى الصلاة. انتهى. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1791]

(. . .) - (حَدَّثَنِي

(1)

هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا

(2)

ابْنُ وَهْبٍ، حَدُّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبِ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(3)

، أَنَّهُ قَالَ: نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ

(4)

، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَامَ، فَصّلَّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى فِي تِلْكَ اللُّيْلَةِ

(5)

ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكعَهًّ، ثُمَّ نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَفَخَ، وَكانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قَالَ عَمْرٌو: فَحَدَّثْتُ بِهِ بُكَيْرَ بْنَ الْأَشَجِّ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعيدٍ الْأَيلِيُّ) تقدّم قبل باب.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(3)

وفي نسخة: "عن عبد اللَّه بن عباس".

(4)

وفي نسخة: "عند خالتي ميمونة".

(5)

وفي نسخة: "فصلى تلك الليلة".

ص: 33

2 -

(عَمْرُو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (1150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أخو يحيى المدنيّ، ثقةٌ [5](ت 139) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المساجد" 19/ 1272.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض، وكلّهم مدنيّون، وهم: عبد ربّه بن سعيد، ومخرمة بن سُليمان، وكريب، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (نِمْتُ) بكسر النون؛ لأنه من باب فَعِلَ يَفْعَلُ، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع، كخاف يخاف.

وقوله: (عِنْدَ مَيْمُونَةَ) وفي نسخة: "عند خالتي ميمونة".

وقوله: (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ على البدليّة من ميمونة.

وقوله: (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ) جملة حاليّة من ميمونة، والحال أنه صلى الله عليه وسلم كان في تلك الليلة عندها.

وقوله: (فَأَخَذَنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ) تقدّم أنه أداره من خلفه، واستُدلّ به لأن مثل هذا العمل لا يُفسد الصلاة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (فَصَلَّى) أي: شرع في الصلاة.

وقوله: (فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ) وفي نسخة: "تلك الليلة" بحذف "في"، والنصب على الظرفيّة.

وقوله: (قَالَ عَمْرٌو) هو ابن الحارث الراوي عن عبد ربّه بن سعيد، وهو موصول بالإسناد الماضي، وليس معلّقًا، كما زعمه بعضهم، فقد ساقه أبو نعيم مثل سياقه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا عزا في "الفتح" رواية بكير إلى أبي نعيم، ولم أرها في "المستخرج"، وإنما ذكر فيه ما ذكره مسلم هنا، لا غيرُ، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (بُكَيْرَ بْنَ الْأَشَجِّ) هو: بُكير بن عبد اللَّه بن الأشجّ، نُسب لجدّه

ص: 34

المخزوميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)، أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

وقوله: (فَقَالَ: حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ) أي: قال بُكير: حدّثني بهذا الحديث كريب مولى ابن عبّاس رضي الله عنهما.

قال في "الفتح": واستفاد عمرو بن الحارث بهذه الرواية عنه العلوّ برجل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وجه العلوّ أن عمرًا رواه عن عبد ربّه بن سعيد، عن مخرمة، عن كُريب، فكان بينه وبين كُريب واسطتان، فلما حدّث به بُكيرًا، قال له: حدّثني بُكير بذلك، فكان بين عمرو وبين كُريب واسطة واحدة، وهو بكير، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان المسائل المتعلّقة به قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1792]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَقُلْتُ لَهَا: إِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَيْقِظِينِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَجَعَلَنِي مِنْ شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ

(2)

بِشَحْمَةِ أُذُنِي، قَالَ: فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ احْتَبَى حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ نَفَسَهُ رَاقِدًا، فَلَمَّا تبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن أبي فُديك الدِّيليّ مولاهم،

(1)

"الفتح" 2/ 225.

(2)

وفي نسخة: "أخذ".

ص: 35

أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.

3 -

(الضَّحَّاكُ) بن عثمان بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِذَا أَغْفَيْتُ) أي: نِمتُ نومةً خفيفةً، قال الفيّوميُّ رحمه الله: أغفيتُ إِغْفَاءً، فأنا مُغْفٍ: إذا نِمْتَ نومةً خفيفةً، قال ابن السِّكِّيت وغيره: ولا يقال: غَفَوْتُ، وقال الأزهريّ: كلام العرب أغفيتُ، وقلّما يقال: غَفَوتُ. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": وغَفَا غَفْوًا وغُفُوًّا: نام، أو نَعَسَ، كأغفى. انتهى

(2)

.

وقوله: (يَأخُذُ) وفي نسخة: "أخذ".

وقوله: (بِشَحْمَةِ أُذُنِي) قال الفيّوميُّ رحمه الله: شَحْمَةُ الأُذُن: ما لان في أسفلها، وهو مُعلَّقُ القُرط. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) تقدّم أن أكثر الرواة على أنه صلى الله عليه وسلم صلّى ثلاث عشرة ركعة، فتُرجّح روايتهم على رواية الضحّاك بن عثمان هذه، ومثلها رواية شريك بن أبي نمر، عن عكرمة عند البخاريّ في "التفسير"، وقد تقدّم تحقيق هذا قريبًا، فتنبّه.

وقوله: (ثُمَّ احْتَبَى) يقال: احتبى الرجلُ: إذا جمع ظهره وساقيه بثوب أو كيره، وقد يَحْتبي بيديه، والاسم الْحِبْوَة بالكسر، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(4)

.

وقوله: (حَتَّى إِنِّي لَأَسْمَعُ نَفَسَهُ رَاقِدًا) قال النوويُّ رحمه الله: معناه أنه احتبى أَوَّلًا، ثم اضطجع كما سبق في الروايات الماضية، فاحتبي، ثم اضطجع حتى سُمع نفخه ونَفَسه، بفتح الفاء. انتهى

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 450.

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 370.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 306.

(4)

"المصباح" 1/ 120.

(5)

"شرح النوويّ" 6/ 48.

ص: 36

والحديث سبق تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1793]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ كُرَيْبِ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ، وُضُوءًا خَفِيفًا

(1)

، قَالَ: وَصَفَ وُضُوءَهُ، وَجَعَلَ يُخَفِّفُهُ وَيُقَلِّلُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ، فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جِئْتُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخْلَفَنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّي، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ بِلَالٌ، فَأَذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأُ، قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً؛ لأَنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنَاهُ

(2)

، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين المروزيّ، ثم البغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ، ربما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عُيينة بن أبي عمران ميمون الْهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبت حافظ حجةٌ فقيهٌ إمامٌ، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

4 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

وفي نسخة: "وضوءًا مخفّفًا".

(2)

وفي نسخة: "عينه".

ص: 37

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، سوى عكرمة، فمدنيّ، وأما ابن عبّاس رضي الله عنهما، فقد سكن مكة مدّة أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: عمرو، عن عكرمة.

5 -

(ومنها): أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ كُرَيْبٍ) -بضم الكاف، وفتح الراء، مصغّرًا-، يُكنَى أبا رِشْدين -بكسر الراء، وسكون الشين المعجمة، وكسر الدال المهملة، وآخره نون- مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين، وهو من الأسماء المفردة في "الصحيحين"(مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ) بنت الحارث رضي الله عنهما (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الَلَّيْلِ) كلمة "من" هنا للابتداء، والمعنى: قام مبتدئًا من الليل، أو التقدير: قام مِن مُضِيّ زمنٍ من الليل، ويجوز أن تكون بمعنى "في" كما في قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية [الجمعة: 9]؛ أي: في يوم الجمعة، والمعنى: قام في بعض الليل (فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ) بفتح الشين المعجمة، وتشديد النون: أي: القربة العتيقة (مُعَلَّقٍ) إنما ذَكّر على إرادة الجلد، أو الوعاء، وقد تقدّم في رواية مخرمة، عن كُريب بلفظ:"معلّقة"(وُضُوءًا خَفِيفًا) وفي نسخة: "مُخَفّفًا"(قَالَ) سفيان (وَصَفَ وُضُوءَهُ) أي: وصف عمرو بن دينار وضوءه صلى الله عليه وسلم (وَجَعَلَ يُخَفِّفُهُ وَيُقَلِّلُهُ) أي: يَصِفه بالتخفيف والتقليل، وقال ابن الْمُنَيِّر: يخففه: أي: لا يُكْثِر الدلك، ويقللَّه: أي: لا يزيد على مرّة مرّة، قال: وفيه دليل على إيجاب الدلك؛ لأنه لو كان يُمكن اختصاره لاختصره، لكنه لَمْ يختصره. انتهي، وتعقّبه الحافظ، فقال: هي دعوى مردودةٌ، فإنه ليس في الخبر ما يقتضي ذلك، بل الاقتصار على سيلان الماء

ص: 38

على العضو أخفّ من قليل الدلك. انتهى

(1)

. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَقُمْتُ) أي: من نومي (فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "فتوضّأتُ نحوًا مما توضأ"، قال الكرمانيّ: لَمْ يقل: مثلًا؛ لأن حقيقة مماثلته صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره. انتهي، وتُعقّب بثبوت رواية المثل، ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل وجه. (ثُمَّ جِئْتُ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخْلَفَنِي) أي: أدارني من وراء خلفه (فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى، ثُمَّ اضْطَجَعَ) أي: وضع جنبه بالأرض (فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ بِلَالٌ، فَآذَنَهُ) بالمدّ: أي: أعلمه (بالصَّلَاةِ، فَخَرَجَ) من البيت إلى المسجد (فَصَلَّى الصُّبْحَ) إمامًا للناس (وَلَمْ يَتَوَضَّأْ) فيه دليل على أن النوم ليس حدثًا، بل مَظِنّة الحدث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان تنام عينه، ولا ينام قلبه، فلو أحدث لَعَلِم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم، وربما لم يتوضأ، قال الخطابيُّ رحمه الله: وإنما مُنِعَ قلبُهُ النوم، لِيَعِيَ الوحي الذي يأتيه في منامه.

(قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة (وَهَذَا) إشارة إلى الصلاة بلا وضوء بعد النوم (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: لأن الأمر والشأن (بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنَاهُ) وفي نسخة: "عينه" بالإفراد و (لَا يَنَامُ قَلْبُهُ) وفي رواية البخاريّ: قلنا لعمرو: إن ناسًا يقولون: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تنام عينه، ولا ينام قلبه، قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: إن رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} الآية [الصافات: 102].

قال في "الفتح": قوله: "قلنا" القائل سفيان، والحديث المذكور صحيح، وعبيد بن عمير من كبار التابعين، ولأبيه عمير بن قتادة صحبة، وقوله:"رؤيا الأنبياء وحي"، رواه مسلم مرفوعًا، قال: ووجه الاستدلال بما تلاه من جهة أن الرؤيا لو لَمْ تكن وحيًا لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 1/ 288.

(2)

"الفتح" 1/ 288 - 289.

ص: 39

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1794]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَبَقَيْتُ كَيْفَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَقَامَ، فَبَالَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْقِرْبَةِ، فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ صَبَّ فِي الْجَفْنَةِ، أَوِ الْقَصْعَةِ، فَأَكَبَّهُ بِيَدِهِ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا حَسَنًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي

(2)

، فَجِئْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَكَامَلَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ نَامَ، حَتَّى نَفَخَ، وَكُنَّا نَعْرِفُهُ إِذَا نَامَ بِنَفْخِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ، أَوْ فِي سُجُودِهِ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَعَنْ يَمِنِي نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا، أَوْ قَالَ: وَاجْعَلْنِي نُورًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"سَلَمَةُ" هو: ابن كُهَيل.

وقوله: (فَبَقَيْتُ) بفتح الباء الموحدة، والقاف: أي: رَقَبتُ، ونظرتُ، يقال: بَقَيتُ، وبَقَوتُ بمعنى رَقَبت، ورَمَقْتُ، قاله النوويُّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا) بكسر الشين: أي: الخيط الذي تُربط به في الوتد، وقيل: هو الوكاء.

وقوله: (فِي الْجَفْنَةِ) بفتح الجيم، وسكون: هي القصعة الكبيرة، جمعها

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "فصلّى".

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 49.

ص: 40

جَفَنات، وجِفَان بالكسر، قال في "القاموس": و"الْجَفْنة": القصعة، وفي "المحكم": أعظم ما يكون من القِصَاع، قال الراغب: خُصّت بوعاء الأطعمة. انتهى

(1)

.

وقال في مادّة "صحف": قال ابن سِيده: الصحفة: شبه قصعة مُسْلَنْطِحَةٍ عَرِيضة، تُشبع الخمسة ونحوهم، وقال الكسائيّ: أعظم القِصَاعِ الْجَفْنة، ثم القصعة تُشبع العشرة، ثم الصّحفة تشبع الخمسة، ثم الْمِئْكَلَةُ تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصُّحيفة مصغّرًا تشبع الرجل. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَوِ الْقَصْعَةِ)"أو" للشكّ من الراوي، و"الْقَصْعَةُ" -بفتح، فسكون-: هي الصَّحْفة، والضخمة منها تُشبع العشر، والجمع قَصَعات، وقِصَعٌ، كعِنَبٍ، وقِصَاعٌ، كجِبَال

(3)

.

وقوله: (فَأَكَبَّهُ بِيَدِهِ عَلَيْهَا) قال في "القاموس": كَبّهُ: قَلَبَه، وصَرعَهُ، كأكبّه، وكَبْكَبه، فأكبّ، وهو لازم متعدّ. انتهى

(4)

.

والمعنى: أنه قلب الماء الذي في القربة على تلك الجفنة، أو القصعة؛ ليكون أسهل عليه في الاستعمال، وفي رواية أبي نُعيم:"ثم صبّ في الجفنة، أو القصعة، وأكبّ يده عليها"، ومثله عثد أحمد، وظاهر هذا أن ضمير "عليها" للجفنة، أو القصعة، يعني أنه اغترف بيده منها، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ) أي: لَمْ يُسرف، ولم يقتر، وكان بين ذلك قَوَامًا، والأقرب أنه قلّل استعمال الماء مع التثليث؛ لأنه وصفه بالحسن، فلا يكون أقلّ من الثلاث، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) وفي نسخة: "فصلّى".

وقوله: (فِي صَلَاتِهِ، أَوْ فِي سُجُودِهِ)"أو" للشكّ من الراوي، وهذه الرواية

(1)

"القاموس" مع شرحه "تاج العروس" 9/ 163.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 6/ 161.

(3)

"القاموس" مع "تاج العروس" 5/ 469.

(4)

"القاموس" 1/ 121.

ص: 41

صريحة في أن هذا الدعاء قاله صلى الله عليه وسلم في سجوده، ويعارضه ما يأتي في رواية محمد بن عليّ بن عبد اللَّه بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وهو خارجٌ إلى الصلاة، ولفظه: فخرج إلى الصلاة، وهو يقول:"اللهم اجعل في قلبي نورًا"، وكذا وما وقع عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين فرغ من صلاته، وعند البخاري في "الأدب المفرد" من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي، فقضى صلاته يُثني على اللَّه بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه: اللهم اجعل في قلبي نورًا. . . " الحديث.

وأجاب الحافظ رحمه الله: بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأظهر عندي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الدعاء في سجوده، وعند فراغه من صلاته، وحينما يخرج إلى المسجد، فبهذا تجتمع الروايات، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث تقدّم الكلام على مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1795]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا

(1)

النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَلَمَةُ: فَلَقِيتُ كُرَيْبًا، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ غُنْدَرٍ، وَقَالَ:"وَاجْعَلْنِي نُورًا"، وَلَمْ يَشُكَّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 42

2 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ النحويّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبت، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

والباقون ذُكروا في الباب، و"بُكير" هو ابن عبد اللَّه بن الأشجّ المتقدّم في رواية عمرو بن الحارث، عن عبد ربّه بن سعيد السابقة.

وقوله: (قَالَ سَلَمَةُ: فَلَقِيتُ كُرَيْبًا. . . إلخ) المعنى أن سلمة بن كُهيل سمع هذا الحديث من بُكير بن الأشجّ، عن كُريب، ثم لقي شيخ شيخه كريبًا، فحدّثه به.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ غُنْدَرٍ) فاعل "ذَكَر" ضمير النضر بن شُميل.

[تنبيه]: رواية النضر، عن شعبة هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 361) فقال:

(1746)

حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا الحسن بن عليّ الطوسيّ، وإبراهيم بن محمد الرازيّ، قالا: ثنا أحمد بن منصور زاج، ثنا النضر بن شُميل، ثنا شعبة، عن سلمة بن كُهيل عن بُكَير الطائيّ

(1)

، عن كُريب، عن ابن عباس، قال سلمة: فلقيتُ كُريبًا، فحدّثني، فقال: قال ابن عباس: بِتّ عند خالتي ميمونة، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه كيف يصلي؟ فنام، ثم قام فبال، فأخذ جَفْنة من ماء، فمسح بها يديه ووجهه وذراعيه، ثم نام حتى نفخ، وكان إذا نام عَلِمْنا لشدة نفخه، ثم قام فعمد إلى القِرْبة، فأطلق شِنَاقها، فصبَّ منها في جفنة أو صَحْفة، فتوضأ وضوءًا حسنًا بين الوضوءين، ثم قام يصلي، فجئت فقصت عن يساره، فقال بيده، فجعلني عن يمينه، فبلغ صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الليل ثلاث عشرة، وكان يقول في سجوده أو صلاته: "اللهم اجعل في بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي قلبي نورًا، وبين يدي نورًا، ومن خلفي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وتحتي نورًا، وفوقي نورًا، واجعلني نورًا. انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

هكذا في "المستخرج": "الطائيّ" ولم أر هذه النسبة في غيره، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 43

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1796]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي رِشْدِينٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَسْلَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ أَتَى الْقِرْبَةَ، فَحَلَّ شِنَاقَهَا، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، فَنَامَ، ثُمَّ قَامَ قَوْمَةً أُخْرَى، فَأَتَى الْقِرْبَةَ، فَحَلَّ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا هُوَ الْوُضُوءُ، وَقَالَ:"أَعْظِمْ لِي نُورًا"، وَلَمْ يَذْكُرْ:"وَاجْعَلْنِي نُورًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) التميميّ، أبو السَّرِيّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) عن (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

3 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ) الثوريّ، والد سفيان، ثقةٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 19/ 1738.

والباقون ذُكروا في الباب، و"أبو رِشْدين" بكسر الراء هو: كُريب مولى ابن عبّاس، كُني بابنه رِشْدين.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير سعيد بن مسروق.

وقوله: (ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، فَنَامَ) هذا ظاهر في كونه صلى الله عليه وسلم لَمْ يصلّ بهذا الوضوء، فيكون بمعنى ما سبق في رواية سفيان الثوريّ، عن سلمة بلفظ:"فأتى حاجته، ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام"، فيكون الوضوء هنا بمعنى غسل وجهه ويديه، ويؤيّد ذا قوله الآتي:"ثم توضّأ وضوءًا، هو الوضوء"؛ أي:

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 44

الكامل، وأما هذا الوضوء فإنما هو للتنشيط على الذكر ونحوه، وليس وضوءًا للصلاة، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية سعيد بن مسروق، عن سلمة هذه ساقها النسائيّ في "سننه" بسند المصنّف، فقال:

(1121)

أخبرنا هنّاد بن السّريّ، عن أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن سلمة بن كُهيل، عن أبي رِشْدين، وهو كريب، عن ابن عباس، قال: بِتّ عند خالتي ميمونة بنت الحارث، وبات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندها، فرأيته قام لحاجته، فأتى القربة، فَحَلّ شِناقها، ثم توضأ وضوءًا بين الوضوءين، ثم أتى فراشه فنام، ثم قام قَوْمَةً أخرى، فأتى القربة، فحَلّ شِناقها، ثم توضأ وضوءًا هو الوضوء، ثم قام يصلي، وكان يقول في سجوده:"اللهم اجعل في قلبي نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل من تحتي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، واجعل أمامي نورًا، واجعل خلفي نورًا، وأعظم لي نورًا"، ثم نام حتى نفخ، فأتاه بلال، فأيقظه للصلاة. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان المسائل المتعلّقة به، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1797]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلْمَانَ الْحَجْرِيِّ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ كُرَيْبًا حَدَّثَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْقِرْبَةِ، فَسَكَبَ مِنْهَا، فَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنَ الْمَاءِ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْوُضُوءِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قَالَ: وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، قَالَ سَلَمَةُ: حَدَّثَنِيهَا كُرَيْبٌ، فَحَفِظْتُ مِنْهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، وَنَسِيتُ مَا بَقِيَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَمِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي

ص: 45

نُورًا، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيَّ نُورًا، وَمِنْ خَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي نَفْسِي نُورًا، وَأَعْظِمْ لِي نُورًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمَانَ الْحَجْرِيُّ) الرُّعَينيّ المصريّ، لا بأس به [7].

رَوَى عن عمرو بن أبي عمرو، ويزيد بن عبد اللَّه بن الهاد، وعُقيل بن خالد.

ورَوى عنه ابن وهب، وقال ابن يونس: وهو قريب السنّ من ابن وهب، يروي عن عُقيل غرائب ينفرد بها، وكان ثقةً، وقال البخاريّ: فيه نظرٌ، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، يروي عن عُقيل أحاديث عن مشيخة لعقيل يدخل بينهم الزهريّ في شيء سمعه عُقيل من أولئك المشيخة، ما رأيت من حديثه منكرًا، وهو صالح الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأس.

روى له المصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

[تنبيه]: قوله: "الْحَجْريّ" -بفتح الحاء المهملة، وسكون الجيم-: نسبة إلى حَجْر رُعين، وهي قبيلة معروفة، قاله النوويُّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأيليّ، أبو خالد الأُمويّ مولاهم، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَسَكَبَ مِنْهَا) أي: صبّ من القربة.

وقوله: (وَلَمْ يُكْثِرْ مِنَ الْمَاءِ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْوُضُوءِ) هو معنى قوله في الروايات السابقة: "توضّأ وضوءًا بين الوضوءين".

(1)

"شرح النووي" 6/ 50.

ص: 46

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير عُقيل.

وقوله: (وَأَعْظِمْ لِي نُورًا) أي: اجعل لي نورًا عظيمًا جامعًا للأنوار كلّها.

[تنبيه]: رواية عُقيل، عن سلمة هذه لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1798]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَقَدْتُ

(2)

فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةَ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا؛ لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

بِاللَّيْلِ؟ قَالَ: فَتَحَدَّثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَنَّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر، أبو بكر الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر [7](عِ) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

4 -

(شَرِيكُ بْنُ أَبِي نمِرٍ) هو: شريك بن عبد اللَّه بن أبي نَمِر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [5] مات في حدود (140)(خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "بِتُّ".

(3)

وفي نسخة: "كيف كان صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم".

ص: 47

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (رَقَدْتُ) من باب قعد، يقال: رقد يرقُد رُقُودًا، ورُقادًا: نام ليلًا كان أو نهارًا، وبعضهم يخصّه بنوم الليل، والأول أصحّ، وفي نسخة:"بِتُّ".

وقوله: (كَيْفَ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "كيف كان صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم".

وقوله: (فَتَحَدَّثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً) فيه جواز الحديث بعد صلاة العشاء للحاجة والمصلحة، والذي ثبت في الحديث أنه كان يَكْرَه النوم قبلها، والحديث بعدها، هو في حديثٍ لا حاجة إليه، ولا مصلحة فيه، كما سبق بيانه في بابه

(1)

.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير شريك بن أبى نَمِر.

وقوله: (وَاسْتَنَّ) أي: استاك.

[تنبيه]: رواية شريك بن أبي نَمِر، عن كُريب هذه ساقها البخاريُّ في "كتاب التوحيد"

(2)

من "صحيحه"، فقال:

(7452)

حدّثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبد اللَّه بن أبي نَمِر، عن كُريب، عن ابن عباس، قال: بِتُّ في بيت ميمونة ليلةً، والنبيّ صلى الله عليه وسلم عندها؛ لأنظر كيف صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالليل؟ فتحدّث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعةً، ثم رَقَد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، ثم قام فتوضأ، واستَنّ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذّن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى للناس الصبح. انتهى.

[تنبيه آخر]: رواية شريك هذه فيها اختصار، وأيضًا فيها مخالفة لرواية الحفّاظ الأكثرين، حيث قيد القراة بأنها إلى {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ، والمحفوظ أنه قرأ إلى آخر السورة، وقال أيضًا:"ثم صلى إحدى عشرة ركعةً"، ورواية

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 51.

(2)

وكذا أخرجه في "التفسير" بنفس السند، والسياق برقم (4569).

ص: 48

الأكثرين أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وروايتهم هي المحفوظة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1799]

(. . .) - (حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَيْقَظَ، فَتَسَوَّكَ، وَتَوَضَّأْ، وَهُوَ يَقُولُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}، فَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الْآياتِ، حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَطَالَ

(1)

فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَامَ، حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، سِتَّ رَكَعَاتٍ

(2)

، كُلَّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](244)(م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 587.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

3 -

(حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) السّلمي، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغير في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

4 -

(حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ) قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم،

(1)

وفي نسخة: "ثم أطال".

(2)

وفي نسخة: "بستّ ركعات"، وفي أخرى:"في ستّ ركعات".

ص: 49

أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) الهاشميّ، ثقةٌ [6](ت 4 أو 125)(م 4) تقدم في "الحيض" 23/ 797.

6 -

(أَبُوهُ) عليّ بن عبد اللَّه بن عبّاس الهاشميّ، أبو محمد، ثقةٌ عابدٌ [3](ت 118) على الصحيح (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 23/ 797.

و"ابن عبّاس رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

وقوله: (سِتَّ رَكَعَاتٍ) وفي نسخة: "بستّ ركعات"، وفي أخرى:"في ستّ ركعات".

وقوله: (كُلَّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيَقْرَأُ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ) قال النوويّ رحمه الله: هذه الرواية فيها مخالفة لباقي الروايات في تخليل النوم بين الركعات، وفي عدد الركعات، فإنه لَمْ يذكر في باقي الروايات تخلل النوم، وذكر الركعات ثلاث عشرة، قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية، وهي رواية حُصَين، عن حبيب بن أبي ثابت، مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم؛ لاضطرابها، واختلاف الرواة، قال الدارقطنيّ: ورُويَ عنه على سبعة أوجه، وخالف فيه الجمهور.

قال النوويّ رحمه الله: ولا يقدح هذا في مسلم، فإنه لَمْ يذكر هذه الرواية متأصلة مستقلة، إنما ذكرها متابعةً، والمتابعات يُحْتَمَل فيها ما لا يُحْتَمَل في الأصول، كما سبق بيانه في مواضع.

قال القاضي: ويَحْتَمِل أنه لَمْ يَعُدّ في هذه الصلاة الركعتين الأوليين الخفيفتين اللتين كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاة الليل بهما، كما صَرَّحَت الأحاديث بها في مسلم وغيره، ولهذا قال: صلى ركعتين، فأطال فيهما، فَدَلّ على أنهما بعد الخفيفتين، فتكون الخفيفتان، ثم الطويلتان، ثم الست المذكورات، ثم ثلاثٌ بعدها كما ذُكِر، فصارت الجملة ثلاث عشرة، كما في باقي الروايات. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 51 - 53.

ص: 50

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن رواية حبيب بن أبي ثابت هذه ضعيفة؛ لكثرة المخالفة فيها لروايات الحفّاظ الأثبات، ولأنه كثير التدليس، وأما إخراج المصنّف لها، فجوابه ما تقدّم عن النوويُّ من أنه ذكرها متابعةً، لا أصالةً، والغرض منها تقوية ما سبق من أصل الحديث، بذكر طرقه المتعدّدة، فما اتّفق عليه الحفّاظ، هو المعتمد، ولا يضرّ ذلك ما يقع لبعضهم من المخالفة، إذ الاعتماد على الحفّاظ الأثبات

(1)

، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1800]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا

(2)

ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا

(3)

مِنَ اللَّيْلِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْقِرْبَةِ، فَتَوَضَّأَ، فَقَامَ، فَصَلَّى، فَقُمْتُ لَمَّا رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ، فَتَوَضَّأْتُ مِنَ الْقِرْبَةِ، ثُمَّ قُمْتُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، فَأَخَذَ بِيَدِي مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، يَعْدِلُنِي كَذَلِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إِلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ، قُلْتُ: أَفِي التَّطَوُّعِ كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

2 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَطَاءُ) بنَ أبي رباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ فقيهٌ يُرسل [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقيان ذُكرا في الباب.

(1)

راجع: ما كتبه الشيخ ربيع المدخلي في كتابه "بين الإمامين: مسلم والدارقطني"(ص 164 - 169).

(2)

وفي نسخة: "أخبرني".

(3)

وفي نسخة: "تطوّعًا".

ص: 51

وقوله: (يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا) وفي نسخة: "تطوّعًا".

وقوله: (مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى"في"، أو هي للتبعيض.

وقوله: (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْقِرْبَةِ) بيان وتفصيل لـ "قام" الأول.

وقوله: (يَعْدِلُنِي) بفتح أوله، وكسر ثالثه؛ أي: يقيمني من جهة يمينه، ويجوز أن يكون من التعديل، فقد قال في "القاموس": وكلُّ ما أقمته، فقد عَدَلْتَه -أي بالتخفيف- وعدّلته -أي بالتشديد-. انتهى

(1)

.

وقوله: (قُلْتُ: أَفِي التَّطَوُّعِ. . . إلخ) الظاهر أن القائل هو عطاء، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1801]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَنِي الْعَبَّاسُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَبِتُّ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَقَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَتَنَاوَلَنِي مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَجَعَلَنِي عَلَى يَمِينِهِ)

(2)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّه) الحمّال، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) الأزديّ، أبو العباس البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

3 -

(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد اللَّه الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ ضُعِّف في قتادة [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

4 -

(قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عبد الملك، أو أبو عبد اللَّه الحبشيّ المكيّ، ثقةٌ [6] مات سنة بضع (110)(خت م د س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 13.

(2)

وفي نسخة: "عن يمينه".

ص: 52

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَلَى يَمِينِهِ) وفي نسخة: "عن يمينه"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1802]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هِشَام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سُليمان مَيْسَرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ) يعني أن حديث عبد الملك، عن عطاء نحو حديث ابن جريج، وقيس بن سعد كلاهما عنه.

[تنبيه]: رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 363) فقال:

(1751)

حدّثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا عُمَر بن عليّ، عن عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس (ع) وثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى، ثنا عليّ بن الحسين الدرهميّ، ثنا خالد بن الحارث، ثنا عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس، أنه أتى خالته ميمونة، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى سقاية، فتوضأ، ثم قام فصلي، وقمت فتوضأت، وقمت عن يساره، فأخذ بيدي، فأدارني من خلفه، حتى

ص: 53

أقامني عن يمينه. انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1803]

(764) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو جَمْرَةَ) نصر بن عمران بن عِصَام الضُّبَعيّ البصريّ، نزيل خُرَاسان، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (مِنَ اللَّيْلِ) أي: في الليل، أو بعض الليل.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم الكلام على مسائله في أول أحاديث الباب، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1804]

(765) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى

ص: 54

رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، فَذَلِكَ

(1)

ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) ذُكر في الباب.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [51](ت 135) وهو ابن (70) سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.

4 -

(أَبُوهُ) أبو بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم الأنصاريّ النّجّاريّ المدنيّ القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يكنى أبا محمد، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بن المطّلب بن عبد مناف المطلبيّ، أخو محمد [2].

رَوَى عن أبيه، وزيد بن خالد الجهنيّ، وابن عمر، وأبي هريرة.

وروى عنه ابناه: محمد ومطلب، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وإسحاق بن يسار والد محمد، يقال: له صحبة، قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، واستعمله عبد الملك بن مروان على الكوفة والبصرة، واستقضاه الحجاج رحمه الله على المدينة سنة (73)، وبقي إلى سنة ست وسبعين قاضيًا، ذكره خليفة، وقال أبو القاسم البغويّ في الصحابة: يُشَكّ في سماعه، وقال العسكريّ: له رؤيةٌ، ورَوَى ابن شاهين في ترجمته حديثًا فيه بَقِيَّةُ، لكنه غَلِطَ إنما رواه عن زيد بن خالد.

روى له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

6 -

(زيدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) المدنيّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه بالكوفة سنة (68) أو (70) وله (85) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 34/ 238.

(1)

وفي نسخة: "فتلك".

ص: 55

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى عبد اللَّه بن قيس، في أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الابن عن أبيه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) الْمُطّلبيّ (أَخْبَرَهُ) أي: أخبر أبا بكر (عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ) بضمّ الميم، وفتح القاف، ونون التوكيد المشدّدة، يقال: رَمَقَ بعينه رَمْقًا، من باب قَتَلَ: أطال النظر إليه، قاله في "المصباح"

(1)

.

وأكّده باللام والنون مبالغةً في طلب تحصيل معرفة ذلك وضبطه، والمعنى: لأنظرنّ وأراقبَنّ، وأحفظنّ صلاةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأعرف كيف هي؟، وكم هي؟.

وقال في "النهاية": الرّمَق: النظر إلى الشيء شَزْرًا نظر العداوة، قال الطيبيُّ رحمه الله: فاستعير هنا لمطلق النظر، كما استُعِير الْمِرْسَنُ، وهو أنس فيه رسنٌ لمطلق الأنف، وعَدَلَ من الماضي إلى المضارع استحضارًا لتلك الحالة الماضية؛ لتقريرها في ذهن السامع أبلغ تقرير، ويشهد بذلك عنايته بالمؤكّدات المتعدّدة. انتهى

(2)

.

وقوله: (صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة لـ "أرمُقَنّ"، والمراد صلاة النافلة، وقوله:(اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة له أيضًا؛ أي: في هذه الليلة.

(1)

"المصباح" 1/ 239.

(2)

"الكاشف" 4/ 1185.

ص: 56

والمعنى: لأنظرنّ.

قال في "المنهل": والظاهر أنه قال ذلك نهارًا، ثم رَمَقَ صلاته صلى الله عليه وسلم ليلًا، وأخبر بما رأي، وعليه فالمضارع على حاله، ويَحْتَمِل أنه أخبر بذلك بعد وقوفه على الكيفيّة، فيكون المقام للماضي، وعبّر بالمضارع استحضارًا لتلك الحالة؛ لتقرّرها في ذهنه. انتهى

(1)

.

وقال في "المرعاة": قال ابن حجر -يعني الهيتميّ-: والظاهر أنه قال ذلك لأصحابه نهارًا، ثم رمقه، وحينئذ فالمضارع على حاله، قال القاري: ولا يستقيم ذلك إلَّا على تقديرات كثيرة كما لا يخفي، قال: ويُمكن أن يكون هذا القول من زيد قبل العلم والعمل، وقيل: إن ذلك حين سمعه صلى الله عليه وسلم قام يصلّي، لا قبل ذلك؛ لأنه من التجسّس المنهيّ عنه، وأما ترقّبه للصلاة فمحمود. انتهى

(2)

.

زاد في رواية أبي داود: "قال: فتوسّدت عَتَبَتَهُ، أو فُسْطاطه".

و"الْعَتَبَةُ" محرّكةً: أُسْكُفّة الباب؛ أي: جَعَلتُ عَتَبة بابه كالوسادة بوضع الرأس عليها، و"الفُسطاط" مثلّث الفاء: بيتٌ من شعر، والمراد من توسّد الفسطاط توسّد عتبة الفسطاط، فهو على تقدير مضاف، وهذا شكّ من الراوي عن زيد هل قال: توسّدت عتبته، أو قال: عتبة فسطاطه؟ قيل: والظاهر الثاني؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في الحضر يكون عند نسائه، فلا يمكن أن يتوسّد زيد عتبة بيته ليرمقه بخلاف السفر فإنه خالٍ عن الأزواج، فيمكنه أن يتوسّد عتبة فسطاطه.

وقال القاري في "جمع الوسائل": فالترديد إنما هو في العبارة، وإلا فالمقصود عن عتبته عتبة فسطاطه في الحقيقة لا شكّ فيه. انتهى.

والمراد بعتبة الفسطاط بابه؛ أي: محلّ دخوله، يعني أرقُد عند باب خيمته

(3)

.

(فَصَلَّى) النبيّ صلى الله عليه وسلم (رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) إنما خفّفهما؛ لأنهما عقب أثر النوم، وليدخل في صلاة التهجّد بنشاط (ثُمَّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ) التكرار للتأكيد، وليس المراد بكلّ "طويلتين" ركعتين، كذا في

(1)

"المنهل العذب المورود" 7/ 298 - 299.

(2)

"المرعاة" 4/ 180.

(3)

راجع: "المرعاة" 4/ 180.

ص: 57

"المفاتيح"، وقال الطيبيُّ رحمه الله: كرّر طويلتين ثلاث مرّات إرادة لغاية الطول وانتهائه، ولا طول بعد ذلك عرفًا، ثم تنزّل شيئًا فشيئًا. انتهى

(1)

.

وقال في "المرعاة": وإنما بولغ في تطويلهما؛ لأن النشاط في أول الصلاة يكون أقوى، والخشوع يكون أتمّ، ومن ثمّ سُنّ تطويل الركعة الأولى على الثانية من الفريضة، قال الباجيّ: ومعنى ذلك أن آخر الصلاة مبنيّ على التخفيف عما تقدّم، ولذا شُرع هذا المعنى في الفرائض. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا) أي: الركعتان (دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) أي: في الطول، وإنما كانتا دون الركعتين اللتين قبلهما؛ لأنه إذا استوفى الغاية في النشاط والخشوع أخذ في النقص شيئًا فشيئًا، فيخفّ من التطويل على سبيل التدريج (ثُمَّ صَلَّى) ثانيًا (رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا) في الطول (ثُمَّ صَلَّى) ثالثًا (رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى) رابعًا (رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ) أي: بركعة واحدة.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكرته من أنه صلى الله عليه وسلم أوتر بواحدة هو الظاهر الموافق لقوله: "فذلك ثلاث عشرة ركعة"، وأما تأويل بعضهم موافقة لمذهبه بأنه أوتر بثلاث، وأخرج الركعتين الخفيفتين الأوليين من البين، فلا يخفى ما فيه من التعسّف، فتبصّر.

(فَذَلِكَ) أي: مجموعِ ما ذُكر من الركعات، وفي نسخة:"فتلك"، وهي واضحة (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةَ) فيه أن صلاته صلى الله عليه وسلم في الليل ثلاث عشرة ركعة بلا ركعتي الفجر، وهو موافق لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المتقدّم، وقد مضى البحث في هذا مستوفًى في شرح حديثه، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن خالد الْجُهَنيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رضي الله عنه.

(1)

"الكاشف" 4/ 1185.

(2)

"المرعاة" 4/ 180.

ص: 58

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1804](765) و (أبو داود) في "الصلاة"(1366)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(266)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(1336)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1362)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 122)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4712)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(273)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 193)، و (عبد اللَّه بن أحمد) في "زيادات المسند"(5/ 193)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2608)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2286)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1753)، و (الطبرانيّ)(5245 و 5246)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 8)، وبقيّة المسائل تقدّمت في شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1805]

(766) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدَائِنِيُّ، أَبُو جَعْفَرٍ

(1)

، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَشْرَعَةٍ، فَقَالَ:"أَلَا تُشْرعُ يَا جَابِرُ"؟ قُلْتُ

(2)

: بَلَي، قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْرَعْتُ

(3)

، قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، وَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، قَالَ: فَجَاءَ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى فِي ثَوْبِ وَاحِدٍ، خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي، فَجَعَلَني عَنْ يَمِينِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج، تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَائنِيُّ) الرازي البزاز، صدوقٌ فيه لينٌ [9].

(1)

وفي نسخة: "أبو جعفر المدائنيّ".

(2)

وفي نسخة: "فقلت".

(3)

وفي نسخة: "فأشرعت".

ص: 59

رَوَى عن وَرْقَاء بن عمر، ومحمد بن طلحة بن مُصَرِّف، ومنصور بن الأسود، وبكر بن خُنيس، وأبي شيبة العبسيّ، وحمزة الزيات، ومسلم بن سعيد الواسطيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابنه جعفر، وأحمد بن حنبل، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن إسحاق الصاغانيّ، والفضل بن سهل، وعليّ بن شعيب السِّمْسَار، وعباس الدُّوريّ، وآخرون.

قال مُهَنّأ عن أحمد: لا بأس به، وقال الآجريّ عن أبي داود: ليس به بأس، وقال أبو حاتم، يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، وقال ابن قانع: ضعيفٌ، وقال ابن عبد البرّ: ليس هو بالقويّ عندهم، وقال العُقيليّ في "الضعفاء": قال ابن حنبل: ذاك الذي بالمدائن محمد بن جعفر سمعت منه، ولكن لم أرو عنه قط، ولا أُحَدِّث عنه بشيء أبدًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ست ومائتين.

تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط، وعند الترمذيّ حديث آخر.

[تنبيه]: وقع في "برنامج الحديث للكتب التسعة" هنا غلط، حيث ترجموا لمحمد بن جعفر المعروف بغندر، وهو غلط فاحشٌ، ومن الغريب أن كنية غندر أبو عبد اللَّه الْهُذليّ، فكيف التبس عليهم بأبي جعفر المدائنيّ، فتنبّه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

3 -

(وَرْقَاءُ) بن عمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقةٌ، في حديثه عن منصور بن المعتمر لينٌ [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد اللَّه بن الْهُدَير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

ص: 60

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود، ومحمد بن جعفر، فتفرّد به هو والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفها

(1)

.

[تنبيه]: ظاهر إيراد المصنّف رحمه الله هذا الحديث خلال أحاديث صلاة الليل يدلّ على أن قصّة جابر هذه وقعت في الليل، ولكن ليس في الحديث ما يدلّ على ذلك، فليُتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

(فَانْتَهَيْنَا) أي: وصلنا (إِلَى مَشْرَعَةٍ) -بفتح الميم، والراء- وهي والشريعةُ: الطريقُ إلى عبور الماء من حافَةِ نَهْر أو بَحْر وغيره (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (تُشْرِعُ يَا جَابِرُ") قال النوويُّ رحمه الله: بضم التاء، ورُوِي بفتحها، والمشهور في الروايات الضمّ، ولهذا قال بعده: و"أَشَرَعْتُ"، قال أهل اللغة: شَرَعْتُ في النهر، وأشرعت ناقتي فيه، فقوله:"ألا تشرع" معناه: ألا تُشرع ناقتك، أو نفسك. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "ألا تُشرع" بضمّ التاء رباعيّ، ويُروى بفتحها، وقوله:"فأشرعت": الْمَشْرَعة والشريعة: الطريق إلى ورود الماء من حافة نهرٍ، أو بحر.

يقول: ألا تأتي لِلْمَشْرَعَة، فتقضي من الماء حاجتك، وتشرب منها بفيك بغير آلة؟، والمعروف في هذا شَرَعتُ ثلاثيًّا: إذا فعلت ذلك، وأشرع ناقته يُحْمَل ما جاء رباعيًّا على هذا. انتهى

(3)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: أشرع ناقته: أي: أدخلها في شَرِيعة الماء، يقال:

(1)

"تنبيه المعلم"(ص 156).

(2)

"شرح مسلم" 6/ 53.

(3)

"إكمال المعلم" 3/ 128.

ص: 61

شَرَعت الدوابّ في الماء تَشْرَع شَرْعًا وشُرُوعًا: إذا دخلت فيه، وشَرّعتها تشريعًا، وأشرعتها إشراعًا، وشَرَع في الأمر: خاض فيه. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميُّ رحمه الله: "الْمَشْرَعَةُ" بفتح الميم والراء: شريعةُ الماءِ، قال الأزهريّ: ولا تُسَمِّيها العرب مَشْرَعَةً حتى يكون الماء عِدًّا لا انقطاع له، كماء الأنهار، ويكون ظاهرًا مَعِينًا، ولا يُسْتَقَى منه برِشَاء، فإن كان من ماء الأمطار فهو الْكَرَعُ بفتحتين، والناس في هذا الأمر شَرَعٌ بفتحتين، وتسكن الراء للتخفيف؛ أي: سواءٌ، وشَرَعتُ في الأمر أَشْرَعُ شُرُوعًا: أخذتُ فيه، وشَرَعتَ في الماء شُرُوعًا وشَرْعًا: شَرِبتَ بكفيك، أو دخلت فيه. انتهى.

(قُلْتُ) وفي نسخة: "فقلتُ"(بَلَى) تقدّم الكلام عليها غير مرّة (قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي: عن دابّته (وَأَشْرَعْتُ) وفي نسخة: "فأشرعتُ"(قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ) صلى الله عليه وسلم (لِحَاجَتِهِ) أي: ليقضي حاجته من البول ونحوه (وَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا) بفتح الواو؛ أي: ماء يتوضّأ به (قَالَ: فَجَاءَ) صلى الله عليه وسلم من محلّ حاجته (فَتَوَضَّأَ) بذلك الْوَضُوء الذي وضعه له جابر رضي الله عنه (ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ) فيه صحة الصلاة في ثوب واحد، وأنه تُسَنّ المخالفة بين طرفيه على عاتقيه، وقد سبقت المسألة مستوفاةً في موضعها

(2)

. (فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ) هو كحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سبق شرحه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1805](766)، و (أحمد) في "مسنده"

(1)

"النهاية" 2/ 460.

(2)

تقدّم الكلام في هذه المسألة مستوفى في "كتاب الصلاة" في الباب (54) حديث رقم (1151) فراجع: الشرح.

ص: 62

(3/ 351)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1754)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1806]

(767) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنْ هُشَيْمِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو حُرَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب (80)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(أَبُو حُرَّةَ) -بضمّ الحاء المهملة، وتشديد الراء- واصل بن عبد الرحمن البصريّ، أخو سعيد، وليس بالرّقَاشيّ، صدوقٌ عابدٌ، كان يدلّس عن الحسن، من كبار [7].

رَوَى عن عكرمة بن عبد اللَّه المزنيّ، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن واسع، ويزيد الرَّقَاشيّ.

ورَوَى عنه حماد بن سلمة، وهشيم، والقطان، وابن مهديّ، ووكيع، وأبو سعيد مولى بني هاشم، وبشر بن السريّ، ومخلد بن الحسين، وأبو عمرو الحوضيّ، وأبو قَطَن عمرو بن الهيثم، وغيرهم.

قال أبو قَطَن عن شعبة: أبو حُرّة أصدق الناس، وقال أبو داود: جاء رجل إلى شعبة يسأله عن حديث، فقال: تسألني وقد مات سيد الناس، يعني أبا حُرّة، وكان يَختم في ليلتين، وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى وعبد الرحمن يحدثان عنه، وقال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ، وعن يحيى بن معين: صالحٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ليس بذاك، أخوه سعيد مُقَدَّم عليه، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال مرّة: ليس به بأسٌ، وقال البخاريّ: يتكلمون في روايته عن الحسن، وقال عبد اللَّه بن أحمد في "العلل": حدّثني يحيى بن

ص: 63

معين، حدّثني غندر، قال: وُقِّفَ أبو حُرّة على حديث الحسن، فقال: لَمْ أسمعه من الحسن، قال غندر: فلم يقل في شيء منه أنه سمعه إلَّا حديثًا واحدًا، وقال النسائيّ في "الكنى": أنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سألت يحيى بن معين، عن أبي حُرّة، فقال: صالحٌ، وحديثه عن الحسن ضعيفٌ يقولون: لَمْ يسمعها من الحسن، وقال الساجيّ: قال أحمد بن حنبل: قال لي أبو عُبيدة الحدّاد: لم يَقِف أبو حُرّة على شيء مما سمع من الحسن إلَّا على ثلاثة أحاديث، وقال ابن سعد: كان فيه ضعف، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال عمرو بن عليّ: مات سنة اثنتين وخمسين ومائة.

روى له المصنّف، وأبو داود في "القدر"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

3 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار البصريّ الأنصاريّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضل حجة، يرسل كثيرًا، ويدلّس، رأس [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 356.

4 -

(سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3] استُشهد بأرض الهند (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 15/ 1688.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

والباقيان ذُكرا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) تقدّم أن "من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض (لِيُصَلِّيَ) أي: ليتطوّع بصلاة الليل (افْتُتَحَ) أي: ابتدأ (صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خُفِيفَتَيْنِ) وفي رواية الطحاويّ: "قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ثمان ركعات، ثم أوتر".

قال في "العون"؛ والجمع بين روايات عائشة رضي الله عنها المختلفة في حكايتها لصلاته صلى الله عليه وسلم أنها ثلاث عشرة تارةً، وأنها إحدى عشرة أخرى، بأنها ضَمّت

ص: 64

هاتين الركعتين، فقالت: ثلاث عشرة، ولم تضمهما، فقالت: إحدى عشرة، ولا منافاة بين هذين الحديثين، وبين قولها في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم:"صلى أربعًا، فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ"؛ لأن المراد: صلى أربعًا بعد هاتين الركعتين. انتهى

(1)

.

وقال في "الاستذكار": وفي هذا الحديث بيان أن صلاة الليل ركعتان ركعتان، فإن الركعتين الخفيفتين اللتين يفتتح بهما صلاة الليل لَمْ يَعَتَبِرها ولا اعتَدّ بها مَن جَعَل صلاته بالليل عشر ركعات، ثم واحدة للوتر. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف رحمه الله رواية أبي حرّة عن الحسن، مع أنهم ضعّفوها، كما سبق في ترجمته آنفًا؟.

[قلت]: إنما تكلّموا بعدم سماعه أحاديث الحسن إلَّا حديثًا واحدًا، أو هي ثلاثة أحاديث، وهذا من تلك الثلاثة؛ لأنه صرّح بسماعه منه، فقد أخرجه عبد الرزّاق في "مصنّفه"(2/ 73) مصرّحًا بالتحديث، فقال:

(6620)

حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو حُرّة، قال: حدّثنا الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. انتهى.

وأخرجه الطحاويّ أيضًا كذلك في "شرح معاني الآثار"(1/ 280) فقال: حدّثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا أبو حُرّة، قال: ثنا الحسن، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ثمان ركعات، ثُم أوتر". انتهى.

(1)

"عون المعبود" 4/ 144.

(2)

"الاستذكار" 2/ 107.

ص: 65

والحاصل أن رواية أبي حرّة عن الحسن هذه صحيحة بلا شكّ؛ لما ذُكِر، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1806](767)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2/ 73)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 30 و 203)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 280)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 5)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 1028)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2242 و 2243)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1755)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1807]

(768) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين، أبو بكر بن أبي عمرة الأنصاريّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابد حجة [3](ت 110)(ع) تقدّم في شرح المقدّمة جـ 1 ص 308.

والباقيان ذُكرا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِيِ هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ) أي: إذا

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 66

استيقظ أحدكم من النوم في الليل، وأراد التهجّد، وقوله:(مِنَ اللَّيْلِ) أي: في الليل، أو بعض الليل (فَلْيَفْتَتِحْ) من الافتتاح؛ أي: فليبدأ (صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ") زاد في رواية أبي داود: "ثم ليطوّل بعدُ ما شاء".

والحكمة في تخفيفهما أن يحصل بهما النشاط لما بعدهما من الصلاة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1807](768)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1323)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(268)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 232 و 278 و 399)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1150)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2241 و 2242)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1756)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1808]

(769) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبكَ خَاصَمْتُ، وِإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ

(1)

، أَنْتَ إِلَهِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ").

(1)

وفي نسخة: "وما أخّرت، وما أسررت، وما أعلنت".

ص: 67

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قبل بابين.

2 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

1 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ) أي: في وسط الليل، ظاهر السياق يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوله أولَ ما يقوم إلى الصلاة، وترجم عليه ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" بقوله:"الدليل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا التحميد بعد أن يكبر"، ثم ساقه من طريق قيس بن سعد، عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجّد، قال بعدما يكبّر: اللهم لك الحمد. . . ".

ولأبي داود من هذا الوجه: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للتهجّد قال بعدما يقول: "اللَّه أكبر. . . ".

("اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ) قَدَّمَ الخبرَ للدلالة على التخصيص (أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: منوّرهما، وبك يَهتدي من فيهما، وقيل: المعنى أنت المنزّه عن كل عيب، يقال: فلان مُنَوَّر؛ أي: مبرّأ من كل عيب، ويقال: هو اسمُ مَدْحٍ، تقول: فلان نُورُ البلد؛ أي: مزيّنه، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيُّ رحمه الله: أي: منوّرهما في قول الحسن، دليله قراءة عليّ رضي الله عنه:"اللَّه نَوّرَ السموات" بفتح النون، والواو مشدّدة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هادي

ص: 68

أهلهما، وقال مجاهد: مُدبّرهما، وقيل: هو المنزّه في السموات والأرض من كل عيب، من قول العرب: امرأة نَوّارة؛ أي: مبرّأة من كل رِيبة. وقيل: اسم مدح، يقال: فلان نُور البلد، وشمس الزمان، كما قال النابغة [من الطويل]:

فَإِنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ

إِذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ

وقال آخر [من الطويل]:

إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَرْوَ لَيْلَةً

فَقَدْ سَارَ فِيهَا نُورُهَا وَجَمَالُهَا

وقال أبو العالية: مُزَيِّن السموات بالشمس، والقمر، والنجوم، ومزيّن الأرض بالأنبياء، والأولياء، والعلماء. انتهى.

وقد أجاد الإمام ابن القيّم رحمه الله في تفسير قوله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآيات [النور: 35] في كتابه الممتع "اجتماع الجيوش الإسلاميّة على غزو المعطّلة والجهميّة" بما لا تجد تحقيقه في كتاب غيره، فراجعه

(1)

تستفد علمًا جمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.

(وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) قَيّام على المبالغة، من قام بالشيء: إذا هيّا له ما يحتاج إليه، ويقال: قَيُّوم، وقَيّام، وقَيِّم، وقرأ عمر:"اللَّه لا إله إلَّا هو الحيّ القيّام"[البقرة: 255]، وعلقمةُ: القيّم. وقال قتادة: هو القائم بتدبير خلقه، وقال الحسن: القائم على كلّ نفس بما كسبت، وقال ابن جُبير: الدائم الوجود، وقال ابن عباس: الذي لا يحول، ولا يزول، قاله في "المفهم".

وفي "المرعاة": أي: القائم بأمرِ وتدبيرِ السماوات والأرض وغيرها، وفي رواية:"قيّم"، وفي أخرى:"قيّوم"، وهي من أبنية المبالغة، وهي من صفات اللَّه تعالى، ومعناها واحد، وقيل:"القيّم": معناه القائم بأمور الخلق، ومدبّر العالم في جميع أحواله، و"القيّام": القائم بنفسه بتدبير خلقه المقيم لغيره، و"القيّوم": من أسماء اللَّه تعالى المعدودةِ، وهو القائم بنفسه مطلقًا، لا بغيره، وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصوّر وجود شيء، ولا دوام وجوده إلَّا به. انتهى.

(1)

راجع: "اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 10 - 20).

ص: 69

وهذه الجملة تعليل للحمد، فكأنه يقول: إنما حَمَدتك؛ لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات، وتُراعيها، وتؤتي كل شيء ما به قوامه، وما به يَنتفع إلى غير ذلك، وتكرير الحمد المُخَصَّص للاهتمام بشأنه، وليُنَاط به كلَّ مرّة معنى آخر.

(وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ) أي: مصلحهما، ومصلح مَن فيهما، مأخوذ من الرّبّة، وهي نَبْتٌ تَصْلَحُ عليه المواشي، يقال: ربّ يرُبّ رَبًّا، فهو رابّ، ورَبّ، ورَبَّى يُرَبِّي تَرْبية، فهو مُرَبّ، قال النابغة [من الطويل]:

وَرَبَّ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحَسَنَ صُنْعَهُ

وقال آخر [من الطويل أيضًا]:

يَرُبُّ الَّذِي يَأْتِي مِنَ الْخَيْرِ أَنَّهُ

إِذَا فَعَلَ الْمَعْرُوفَ زَادَ وَتَمَّمَا

والربّ أيضًا السيّد، فيكون معناه أنه سَيِّد من في السموات والأرض، والربّ المالك: أي: هو مالكهما، ومالك من فيهما، قاله في "المفهم".

وقال القاضي عياضٌ عز وجل: قال العلماء: للرب ثلاثُ معانٍ في اللغة: السيد المطاع، والمالك، والمصلح، لكن إذا كان بمعنى السيّد المطاع، فقد قال بعضهم: إنه لا يقع إلَّا على من يَعقل، ولا يصلح هذا التأويل إلَّا أن يُجعل {الْعَالَمِينَ} في قوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} على الجنّ والإنس، وإلى هذا نحا أبو سليمان -يعني الخطابيّ- إذ قال: لا يصحّ أن يقال: سَيِّد الجبال والشجر، قال القاضي عياض: لا معنى لهذا، والكلّ له مطيع منيب، قال اللَّه تعالى:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

، وهو تعقّب حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

وقد تقدّم في "شرح المقدّمة" أن بعضهم أوصل معاني الربّ إلى أربعة عشر معنًى، ونظمها بقوله [من الطويل]:

قَرِيبٌ مُحِيطٌ مَالِكٌ وَمُدَبِّرٌ

مُرَبٍّ مُرِيدُ الْخَيْرِ وَالْمُولِي لِلنِّعَمْ

وَخَالِقُنَا الْمَعْبُودُ جَابِرُ كَسْرِنَا

وَمُصْلِحُنَا وَالصَّاحِبُ الثَّابِتُ الْقَدَمْ

(1)

"إكمال المعلم" 3/ 130 - 131.

ص: 70

وَجَامِعُنَا وَالسَّيِّدُ احْفَظْ فَهَذِهِ

مَعَانٍ أَتَتْ لِلرَّبِّ وَادْعُ لِمَنْ نَظَمْ

وقد استوفيت البحث في هذا هناك، فارجع إليه

(1)

تزدد علمًا، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (وَمَنْ فِيهِنَّ) عبّر بـ "من" تغليبًا للعقلاء، لشرفهم، وإلا فهو ربّ كل شيء، ومليكه.

(أَنْتَ الْحَقُّ) أي: المتحقِّق الوجود الثابتُ بلا شكّ، وقال القرطبيُّ رحمه الله: أي: واجب الوجود، وأصله من حَقَّ الشيءُ: إذا ثبتَ، ووجبَ، ومنه قوله تعالى:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} الآية [الزمر: 19]، وقوله:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} الآية [السجدة: 13] أي: ثَبَت، ووجب.

وهذا الوصف للَّه سبحانه وتعالى بالحقيقة والخصوصية، لا ينبغي لغيره؛ إذ وجوده لنفسه، فلم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم، وما عداه ممن يقال عليه هذا الاسم، مسبوق بعدم، ويجوز عليه لَحَاق العدم، ووجوده من مُوجِده، لا من نفسه، وباعتبار هذا المعنى كان أصدقَ كلمة قالها الشاعر كلمةُ لبيد [من الطويل]:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

وإليه الإشارة بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]. انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون معناه: أنت الحقّ بالنسبة إلى من يدّعى فيه أنه إله، أو بمعنى أن من سمّاك إلهًا فقد قال الحق. انتهى.

(وَوَعْدُكَ الْحَقُّ) أي: الصادق، لا يمكن التخلّف فيه، قال في "الفتح": وعرّفه، ونكّر ما بعده؛ لأن وعده مختصّ بالإنجاز، دون وعد غيره، والتنكير في البواقي للتعظيم، قاله الطيبيُّ رحمه الله.

وقال في "المرعاة": والظاهر أن تعريف الخبر فيه، وفي قوله:"أنت الحقّ" ليس للقصر، وإنما هو لإفادة أن الحكم به ظاهرٌ مُسلَّمٌ، لا منازع فيه، كما قال علماء المعاني في قوله:"ووالداك العبد"، وذلك لأن مرجع هذا الكلام إلى أنه تعالى موجود، صادق الوعد، وهذا أمرٌ يقوله المؤمن والكافر،

(1)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 212 - 216.

ص: 71

قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} الآية [لقمان: 25]، ولم يُعرف في ذلك منازعٌ يُعتدّ به، وكأنه لهذا عدل إلى التنكير في البقيّة حيث وُجد المنازع فيها.

بقي أن المناسب لذلك أن يقال: وقولك الحقّ، كما في رواية مسلم، فكأن التنكير في رواية البخاريّ للمشاكلة، قاله السنديُّ رحمه الله.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: عَرَّف الخبر فيهما، ونَكَّر في البواقي؛ لأنه لا منكر خلفًا وسلَفًا أن اللَّه تعالى هو الثابت الدائم الباقي، وما سواه في معرض الزوال، قال لبيد:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ

وكذا وعده مختصّ بالإنجاز دون وعد غيره، إما قصدًا وإما عجزًا، تعالى اللَّه عنهما، والتنكير في البواقي للتفخيم. انتهى.

وقال القاري رحمه الله: فإن قلت: لِمَ عَرَّف الحقّ في الأُوليين، ونكّر في البواقي؟.

قلت: المعرّف بلام الجنس والنكرة المسافة بينهما قريبةٌ، بل صرّحوا بأنّ مؤدّاهما واحدٌ، لا فرق بينهما إلَّا بأن في المعرفة إشارةً إلى أن الماهيّة التي دخل عليها اللام معلومة للسامع، وفي النكرة لا إشارة إليها، وإن لَمْ تكن إلَّا معلومةً. انتهى

(1)

.

(وَقَوْلُكَ الْحَقُّ) أي: مدلوله ثابت (وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ) هو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال، وفيه الإقرار بالبعث بعد الموت، وقيل: رؤيتك في الدار الآخرة حيث لا مانع، وقيل: لقاء جزاء لأهل السعادة والشقاوة.

وقيل: معنى "لقاؤك حقّ": أي: الموت، وردّه النوويُّ رحمه الله.

وعبارته في "شرحه": قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت الحق"، قال العلماء: الحقّ في أسمائه سبحانه وتعالى معناه: المتحقِّق وجودُهُ وكلُّ شيء صحّ وجوده وتحقق فهو حقٌّ، ومنه الحاقّة: أي: الكائنة حقًّا بغير شك، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:

(1)

راجع: "المرعاة" 4/ 200 - 201.

ص: 72

"ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، ولقاؤك حقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، والساعة حقّ" أي: كلُّه متحقِّق لا شك فيه، وقيل: معناه: خبرك حقّ وصدقٌ، وقيل: أنت صاحب الحقّ، وقيل: مُحِقّ الحقّ، وقيل: الإله الحقّ دون ما يقوله الملحدون، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30]، وقيل في قوله:"ووعدك الحقّ"؛ أي: صدقٌ، ومعنى "لقاؤك حقّ" أي: البعث، وقيل: الموت، وهذا القول باطل في هذا الموضع، وإنما نبهت عليه لئلا يُغْتَرّ به، والصواب البعث، فهو الذي يقتضيه سباق الكلام وما بعده، وهو الذي يُرَدُّ به على الملحد لا بالموت

(1)

.

(وَالْجَنَّةُ حَقٌّ) هذا وما بعده داخل تحت الوعد، لكن الوعد مصدرٌ، وما بعده هو الموعود به، ويَحْتَمِل أن يكون من عطف الخاصّ على العامّ، كما أن ذكر القول بعد الوعد من العامّ بعد الخاصّ (وَالنَّارُ حَقٌّ) فيه إشارة إلى أن الجَنَّة والنار موجودتان الآن.

زاد في رواية البخاريّ: "وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ" خصّه بالذكر تعظيمًا له

(2)

، وعطفه على النبيين إيذانًا بالتغاير بأنه فائق عليهم بأوصاف مختصّة به، فإن تغاير الوصف ينزّل منزلة تغاير الذات.

(وَالسَّاعَةُ حَقٌّ) أي: يومُ القيامة، آتيةٌ لا ريب فيها، وأصل "الساعة" القطعة من الزمان، لكن لما لم يكن هناك كواكب تُقدَّر بها الأزمان، سمّيت بذلك.

وإطلاق اسم الحقّ على هذه الأمور كلها معناه أنها لا بدّ من كونها، وأنها مما ينبغي أن يُصَدَّق بها، وتكرارُ الحقّ في تلك المواضع على جهة التأكيد، والتفخيم، والتعظيم لها. انتهى.

(اللَّهُمَّ لَكَ أَسلَمْتُ) أي: استسلمت وانقدت، وخضعت لأمرك، قال السنديُّ رحمه الله: الظاهر أن تقديم الجارّ للقصر بالنظر إلى سائر ما عُبد من دون اللَّه تعالى. انتهى.

(وَبِكَ آمَنْتُ) أي: صدّقت بك، وبكلّ ما أخبرت، وأمرت، ونهيت

(1)

"شرح النووي" 6/ 55.

(2)

اعترض السنديُّ، وقال: مقام الدعاء يأبى ذلك.

ص: 73

(وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أي: فَوَّضتُ أمري إليك، لا إلى الأسباب العاديّة، وإن كنتُ آخذًا بها، فإن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وإنما ينافيه الاعتماد عليها (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) أي: أطعت، ورجعت إلى عبادتك؛ أي: أقبلت عليها، وقيل: معناه: رجعت إليك في تدبيري؛ أي: فوّضت إليك.

وقال في "المرعاة": "وإليك أنبت": أي: رجعت إليك مقبلًا بقلبي عليك، قيل: التوبة والإنابة كلاهما بمعنى الرجوع، ومقام الإنابة أعلى وأرفع. انتهى.

(وَبِكَ خَاصَمْتُ) أي: بما أعطيتني من البراهين والقوّة، وبما لقّنتني من الْحُجَج خاصمت مَن عاند فيك، وكفر بك، وقمعتُهُ بالحجة والسيف (وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) أي: رفعت أمري إليك، والمحاكمة رفع الأمر إلى القاضي.

وقال القرطبيّ: معناه: وإليك فوّضت الحكومة، كما قال اللَّه تعالى:{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].

وقال النوويّ رحمه الله: أي: كلُّ من جحد الحقّ حاكمته إليك، وجعلتك الحَكَم بيني وبينه، لا غيرك، مما كانت تتحاكم إليه الجاهلية، وغيرهم، من صنم، وكاهن، ونار، وشيطان، وغيرها، فلا أرضى إلَّا بحكمك، ولا أعتمد غيره.

وقال في "الفتح": قدّم مجموع صلات هذه الأفعال عليها إشعارًا بالتخصيص، وإفادةً للحصر، وكذا قوله:"ولك الحمد". انتهى.

(فَاغْفِرْ لِي) قال صلى الله عليه وسلم ذلك مع كونه مغفورًا له إما على سبيل التواضع، والهضم لنفسه، وإجلالًا، وتعظيمًا لربّه، أو على سبيل التعليم لأمته، لتقتدي به فيه، كذا قيل، والأولى أنه لمجموع ذلك، وإلا لو كان للتعليم فقط لكفى فيه أمرهم بأن يقولوا ذلك، أفاده في "الفتح".

وقال القرطبيُّ رحمه الله: قد تقدّم الكلام على عصمة الأنبياء والذنوب المنسوبة إليهم في "كتاب الطهارة"، فإذا فرّعنا على جواز الصغائر عليهم، فيكون الاستغفار على بابه وظاهره، وإن أحلنا ذلك عليهم، فيكون استغفاره

ص: 74

ليَسُنّه لأمته، أو على تقدير وقوع ذنوب منه حتى يُلازمَ حالة الافتقار والعبوديّة. انتهى

(1)

.

قال النووي: ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم المغفرة مع أنه مغفور له أنه يسأل ذلك تواضعًا وخضوعًا وإشفاقًا وإجلالًا، وليُقْتَدَى به في أصل الدعاء والخضوع، وحسن التضرع في هذا الدعاء المعيَّن، وفي هذا الحديث وغيره مواظبته صلى الله عليه وسلم في الليل على الذكر والدعاء، والاعتراف للَّه تعالى بحقوقه، والإقرار بصدقه ووعده ووعيده، والبعث والجنة والنار، وغير ذلك. انتهى

(2)

.

(مَا قَدَّمْتُ) أي: قبل هذا الوقت (وَأَخَّرْتُ) عنه، وفي نسخة:"وما أخرّتُ"(وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ) وفي نسخة: "وما أسررتُ، وما أعلنت".

والمعنى: اغفر لي ما أخفيت، وما أظهرت، أو ما حدّثتُ به نفسي، وما تحرّك به لساني، زاد في رواية عند البخاري:"وما أنت أعلم به مني"، وهو من ذكر العام بعد الخاصّ.

زاد في رواية البخاريّ: "أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ"، قال المهلّب رحمه الله: أشار بذلك إلى نفسه؛ لأنه المقدَّم في البعث في الآخرة، والمؤخَّر في البعث في الدنيا. انتهى.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معناه المنزِّل للأشياء منازلها، يقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويُعزّ من يشاء، ويُذلّ من يشاء، وجعل عباده بعضهم فوق بعض درجات.

وقيل: هو بمعنى الأول، والآخر، إذ كل متقدّم على متقدّم فهو قبله، وكلّ متأخّر على متأخر فهو بعده، ويكون المقدّم والمؤخّر بمعنى الهادي، والمضلّ، قدّم من شاء لطاعته، لكرامته، وأخّر من شاء بقضائه، لشقاوته. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: المعنى الأول مما ذكر عياض رحمه الله هو الأظهر عندي، كما لا يخفي، واللَّه تعالى أعلم.

(أَنْتَ إِلَهِي) أي: معبودي بحقّ، ومقصودي الذي وَلِهَ فيك قلبي، وتحيّر

(1)

"المفهم" 2/ 399.

(2)

"شرح النووي" 6/ 55 - 56.

ص: 75

في عظمتك وجلالك عقلي، وكلّ عن ثنائك لساني، فغاية الوسيلة إليك:"لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"(لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) أي: لا معبود بحقّ إلَّا أنت الواحد الأحد الصمد.

[تنبيه]: ظاهر سياق المصنّف رحمه الله تعالى أن قوله: "ولا حول، ولا قوّة، إلَّا باللَّه" من رواية سفيان، عن سليمان الأحول، وليس كذلك، فإن البخاري رحمه اللَّه تعالى قال بعد أن أخرج الحديث من طريق سفيان، عن سليمان، عَقِبَ قوله:"لا إله إلَّا أنت"، أو "لا إله غيرك" ما نصّه: قال سفيان: وزاد عبد الكريم أبو أمية: "ولا حول، ولا قوة إلَّا باللَّه"

(1)

. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: هذا موصول بالإسناد الأول، ووَهِمَ من زعم أنه معلّق، وقد بيّن ذلك الحميديّ في "مسنده"، عن سفيان، قال:"حدثنا سليمان الأحول خالُ ابن أبي نَجِيح، سمعت طاوسًا"، فذكر الحديث، وقال في آخره: قال سفيان: وزاد عبد الكريم: "ولا حول، ولا قوّة إلَّا بك"، ولم يقلها سليمان.

وأخرجه أبو نُعيم في "المستخرج" من طريق إسماعيل القاضي، عن علي بن عبد اللَّه ابن المدينيّ، شيخ البخاريّ فيه، فقال في آخره: قال سفيان: وكنت إذا قلت لعبد الكريم: آخر حديث سليمان: "ولا إله غيرك" قال: "ولا حول، ولا قوّة إلَّا باللَّه"، قال سفيان: وليس هو في حديث سليمان. انتهى.

ومقتضى ذلك أن عبد الكريم لَمْ يذكر إسناده في هذه الزيادة، لكنه على الاحتمال، ولا يلزم من عدم سماع سفيان لها من سليمان أن لا يكون سليمان حدّث بها، وقد وَهِمَ بعض أصحاب سفيان، فأدرجها في حديث سليمان، أخرجه الإسماعيليّ، عن الحسن بن سفيان، عن محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، عن سفيان، فذكرها في آخر الخبر بغير تفصيل. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

(1)

قيل معناه: لا حول عن المعصية، ولا قوّة على الطاعة، إلَّا بتوفيق اللَّه، قاله في "المصباح".

ص: 76

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عبد الكريم هذا هو: عبد الكريم بن أبي الْمُخارق -بضمّ الميم، وبالخاء المعجمة- أبو أُميّة المعلّم البصريّ، نزيل مكة، واسم أبيه: قيس، وقيل: طارق، ضعيفٌ، له في البخاريّ هذه الزيادة فقط، وقد تقدّم له عند المصنّف ذكرٌ في "المقدّمة"، وقدّمنا ترجمته هناك [6/ 69] فراجعها تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1808 و 1809 و 1810](769)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1120) و"الدعوات"(6317) و"التوحيد"(7385 و 7442 و 7499)، و (أبو داود) في "الصلاة"(771)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3418)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1619) و"الكبرى"(1319) وفي "عمل اليوم والليلة"(868)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1355)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 215 و 216)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2565)، و (الحميديّ) في "مسنده"(495)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 358 و 366)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 348 و 349)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1152)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2597 و 2598 و 2599)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2229 و 2230 و 2231 و 2232)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1757 و 1758 و 1759)، و (ابن السنّي) في "عمل اليوم والليلة"(758)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10987)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2404)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 4)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(950)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما تُستفتح به صلاة الليل من الأذكار.

2 -

(ومنها): زيادة معرفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظمة ربّه سبحانه وتعالى، وعظيم قدرته.

ص: 77

3 -

(ومنها): مواظبته صلى الله عليه وسلم على الذكر، والدعاء، والثناء على ربه عز وجل، والاعتراف له بحقوقه، والإقرار بصدق وعده ووعيده.

4 -

(ومنها): استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كلّ مطلوب، اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.

5 -

(ومنها): ما قاله الكرمانيُّ رحمه الله: هذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأن لفظ "القيّم" إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه، و"النور" إشارة إلى أن الأعراض أيضًا منه، و"الملك" إشارة إلى أنه حاكم عليها إيجادًا وإعدامًا، يفعل ما يشاء، وكلّ ذلك من نعم اللَّه على عباده، فلهذا قَرَن كلًّا منها بالحمد، وخصّص الحمد به، ثم قوله:"أنت الحقّ" إشارة إلى المبدأ، والقول ونحوه إلى المعاش، والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد، وفيه الإشارة إلى النبوّة، وإلى الجزاء ثوابًا وعقابًا، ووجوب الإيمان، والإسلام، والتوكل، والإنابة، والتضرّع إلى اللَّه، والخضوع له. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1809]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ع) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَاتَّفَقَ لَفْظُهُ مَعَ حَدِيثِ مَالِكٍ، لَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ مَكَانَ "قَيَّامُ":"قَيِّمُ"، وَقَالَ:"وَمَا أَسْرَرْتُ"، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ، وَيُخَالِفُ مَالِكًا، وَابْنَ جُرَيْجٍ فِي أَحْرُفٍ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ) هو: ابن أبي مسلم المكيّ، خال ابن أبي نَجِيح، قيل: اسم أبيه عبد اللَّه، ثقةٌ ثقةٌ، قاله الإمام أحمد رحمه الله[51](ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 368.

والباقون ذُكروا في الباب.

ص: 78

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ) الضمير لسفيان بن عيينة، وابن جُريج.

[تنبيه]: رواية ابن عيينة، عن سليمان الأحول هذه ساقها البخاريّ في "كتاب الجمعة" من "صحيحه"، فقال:

(1120)

حدّثنا علي بن عبد اللَّه، قال: حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا سليمان بن أبي مسلم، عن طاوس، سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد، قال:"اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، ولقاؤك حقّ، وقولك حقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، والنبيون حقّ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حقّ، والساعة حقّ، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، لا إله إلَّا أنت، أو لا إله غيرك"، قال سفيان: وزاد عبد الكريم أبو أمية: "ولا حول ولا قوة إلَّا باللَّه". انتهى.

وأما رواية ابن جريج، فساقها البخاريّ في "كتاب التوحيد" من "صحيحه" أيضًا، فقال:

(7499)

حدّثنا محمود، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني سليمان الأحول، أن طاوسًا أخبره، أنه سمع ابن عباس يقول: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا تهجد من الليل قال: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض، ومن فيهنّ، أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، ولقاؤك الحقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، والنبيون حقّ، والساعة حقّ، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلَّا أنت". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 79

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1810]

- (. . .) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَصِيرُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّفْظُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 23) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَلِي، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

3 -

(عِمْرانُ الْقَصِيرُ) هو: عمران بن مسلم الْمِنْقَريّ

(1)

، أبو بكر البصريّ القصير، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [6].

رأى أنسًا، ورَوَى عن أبي رجاء العطارديّ، والحسن، ومحمد، وأنس بن سيرين، وعطاء بن أبي رَبَاح، وإبراهيم التيميّ، وعبد اللَّه بن دينار، وقيس بن سعد المكيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه مهدي بن ميمون، والثوريّ، والجراح بن مَلِيح والد وكيع، وخالد بن الحارث، ويحيى القطان، ويحيى بن سليم الطائفيّ، وبشر بن المفضل، وعبد اللَّه بن رجاء المكيّ، وآخرون.

قال القطان: كان مستقيم الحديث، وإنما ذكرته؛ لأنه يروي أشياء لا يرويها غيره، وينفرد عنه قوم بتلك الأحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وزاد: إلَّا أن في رواية يحيى بن سليم عنه بعض المناكير، وكذا في رواية سُويد بن عبد العزيز عنه. انتهى.

وقد فَرَّق البخاريّ بين عمران بن مسلم القصير، فقال: أبو بكر، سمع أبا رجاء وعطاء، وكناه يحيى بن سعيد، ثم قال: عمران بن مسلم، عن عبد اللَّه بن دينار منكر الحديث، روى عنه يحيى بن سليم، وكذا تبعه ابن أبي حاتم في

(1)

بكسر الميم، وسكون النون.

ص: 80

التفرقة بينهما، وقال في الذي يروي عن عبد اللَّه بن دينار: سمعت أبي يقول: هو منكر الحديث، وهو شبه المجهول، وكذا فرّق بينهما أيضًا ابن أبي خَيثمة، ويعقوب بن سفيان، وابن عديّ، والعُقَيليّ، وأنكر ذلك الدارقطنيّ في "العلل" في ترجمة عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، وقال: هو هو بغير شكّ، وقال ابن أبي حاتم: ثنا أبو زياد، عن عبد الرحمن بن مهديّ، وذكر عمران بن مسلم الجعفي، فقال: كان مستقيم الحديث، فسألت أبي عن عمران القصير، فقال: لا بأس به، قال: وسألت أبي عن عمران الذي رَوَى عن أنس، قال: خَدَمت النبيّ صلى الله عليه وسلم عشرًا، وعنه جعفر بن بُرْقان، فقال: يرون أنه عمران القصير، ولم يسمع من أنس، وأفرد العقيليّ عمران بن مسلم عن عمران القصير، عن أنس، وذكر له هذا الحديث، وقال ابن عديّ في ترجمة سُويد بن عبد العزيز: عمران القصير هو ابن مسلم بصريّ عزيز الحديث، ونَسَبَ عمران الراوي عن عبد اللَّه بن دينار مكيًّا، وقال إبراهيم بن الجنيد: سألت يحيى بن معين عن خالد بن رباح، فقال: بصريّ ليس به بأس، يُحَدِّث عن عمران أبي بكر، فقال: هذا عمران القصير ليس بشيء.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأكثرين على أن عمران القصير، المترجم هنا، وهو بصريّ، وهو الذي أخرج له الشيخان، وهو لا بأس به، غير عمران بن مسلم المكيّ، وهو منكر الحديث، فتفطّن.

روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (769) و (1226):"نزلت آية المتعة في كتاب اللَّه. . . "، و (2576):"إن شئتِ صبرتِ، ولك الجنّة. . . " الحديث.

4 -

(قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) المكيّ، أبو عبد الملك، أو أبو عبد اللَّه الحبشيّ، ثقةٌ [6] مات سثة بضع عشرة ومائة (خت م د س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (بِهَذَا الْحَدِيثِ) يعني أن قيس بن سعد روى هذا الحديث بالإسناد الماضي، وهو عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية قيس بن سعد، عن طاوس هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده"(2/ 39)، فقال:

(2232)

حدّثنا أبو أمية، قال: ثنا منصور بن سفيان (ع) وحدّثنا يزيد بن

ص: 81

سنان، عن شيبان الأُبُلّيّ، عن مَهْديّ بن ميمون، قال: ثنا عمران القصير، عن قيس بن سعد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام كبّر، ثم قال:"اللهم لك الحمد أنت قيّام السماوات والأرض، ومن فيهنّ، وأنت نور السماوات والأرض وما فيهن، لك الحمد رب السموات والأرض ومن فيهن، وأنت حقّ، ووعدك حقّ، ولقاؤك حقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، والساعة حقّ، اللهم لك أسلمت، وبك أَمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، رب اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت، وما قدمت، وما أخرت، إلهي، لا إله إلَّا أنت". انتهي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1811]

(775) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، أمّ الْمُؤْمِنِينَ، بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ، إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟، قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ:"اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) هو: زيد بن يزيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [11](م) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

5 -

(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 82

6 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) تقدّم في الباب الماضي.

7 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم، لاتفاقهم في صيغة الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة، فمحمد بن حاتم تفرّد به هو وأبو داود، وعبد بن حميد علّق له البخاريّ، وأخرج له هو والترمذيّ فقط، وأبو مَعْن أخرج له هو فقط، وأما محمد بن المثنى فمن شيوخ الستّة بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث.

شرح الحديث:

(عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ)، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها (بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) أي: في الليل، أو بعض الليل، فـ "من" بمعنى "في"، أو للتبعيض، كما تقدّم (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ) وفي رواية أبي داود: "كان إذا قام كبّر، ويقول. . . "، وفيه أنه كان يقول ذلك بعد تكبيرة الإحرام، ولا منافاة بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى، كحديث عليّ رضي الله عنه الآتي بعده، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي. . . " الحديث تقدّم برقم [1352](598) لأنه يُحمَل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح بهذا تارةً، وبهذا تارةً، واللَّه تعالى أعلم، وقوله:("اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ) مقول لـ: "قائلًا" مقدّرًا، أي: افتتح حال كونه قائلًا: "اللهم. . . إلخ".

[تنبيه]: قال الطيبيُّ رحمه الله: قوله: "ربّ جبريل. . . إلخ" قيل: لا يجوز نصب "ربّ" على الصفة؛ لأن الميم المشدّدة بمنزلة الأصوات، فلا يوصف ما

ص: 83

اتّصل به، فالتقدير: يا ربَّ جبريل، قال الزجّاج: هذا قول سيبويه، وعندي أنه صفة، فكما لا تمتنع الصفة مع "يا" فلا يمتنع مع الميم، قال أبو عليّ: قول سيبويه عندي أصحّ؛ لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حدّ "اللَّهمّ"، ولذلك خالف سائر الأسماء، ودخل في حيّز ما لا يوصف، نحو "حيّعَلْ"، فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم، فلم يوصف. انتهى

(1)

.

(وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ) قال العلماء -رحمهم اللَّه تعالى-: خصَّهم بالذي، وإن كان اللَّه تعالى ربَّ كلِّ المخلوقات، كما تقرر في القرآن والسنة من نظائره، من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة، وكبير الشان، دون ما يُستحقَر ويُستَصغَر، فيقال له عز وجل ربُّ السماوات والأرض، رب العرش الكريم، ورب الملائكة والروح، رب المشرقين ورب المغربين، رب الناس، مالك الناس، إله الناس، رب العالمين، رب كل شيء، رب النبيين، خالق السماوات والأرض، فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلًا، فكل ذلك وشبهه وصف له عز وجل بدلائل العظمة، وعظيم القدرة والملك، ولم يُسْتَعْمَل ذلك فيما يُحتقَر ويُستصغَر، فلا يقال: رب الحشرات، وخالق القِرَدة والخنازير، وشبه ذلك على الإفراد، وإنما يقال: خالق المخلوقات، وخالق كل شيء، وحينئذ تدخل هذه في العموم، واللَّه تعالى أعلم، قاله النوويُّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "المنهل": إنما خصّ الثلاثة المذكورين من الملائكة بالذكر؛ تشريفًا لهم وتعظيمًا؛ إذ بهم تنتظم أمور العباد؛ لأن جبريل كان موكّلًا بالوحي، وإنزال الكتب السماويّة على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتعليم الشرائع، وأحكام الدين، وميكائيل موكّلٌ بجميع القطر، والنبات، وأرزاق بني آدم وغيرهم، وإسرافيل موكّلٌ باللوح المحفوظ، وهو الذي ينفُخ في الصور. انتهى

(3)

.

(فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: مُبدعهما، ومبتدئ خلقهما (عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي: ما غاب عن العباد، وما شاهدوه، وظهر لهم، وقال القرطبيُّ رحمه الله: الغيب: ما غاب عن عياننا، والشهادة: ما شاهدناه؛ أي: علمناه

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1196 - 1197.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 57.

(3)

"المنهل العذب المورود" 5/ 178.

ص: 84

بمشاهدتنا. انتهى. (أَنْتَ تَحْكُمُ) أي: تقضي يوم القيامة بالتمييز بين المحقّ والمبطل بالثواب والعقاب (بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي: في الدنيا من أمر دينهم، فتُعذّب العاصي إن شئتَ، وتُثيب الطائعين (اهْدِنِي) أي: ثبّتني عليه، أو زدني هدايةً، كقوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} ، وقال القرطبيّ: أي: أرشدني، ودُلّني على صواب ما اختُلِف فيه (لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ) ببناء الفعل للمفعول.

قال الطيبيُّ رحمه الله: واللام بمعنى "إلى"، يقال: هداه إلى كذا، ولكذا، و"ما" موصولة، والذي اختُلف فيه عند مجيء الأنبياء هو الصراط المستقيم الذي دَعَوا الناس إليه، فاختلفوا فيه، كما قال اللَّه تعالى:{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية [البقرة: 213]، كأنه قيل: اهدني إلى الصراط المستقيم، وطَلَبُ الهداية، وهو فيها طلبٌ للثبات عليها، أو طلبٌ للزيادة على ما مُنِح من الالطاف، أو حصول المطالب المترتّبة عليها. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنَ الْحَقِّ) بيان لـ "ما"(بِإِذْنِكَ) أي: بتمكينك، وتسخيرك، قال الطيبيّ رحمه الله: معنى الإذن: التيسير والتسهيل على سبيل التمثيل، فإن الْمَلِكَ المحتجب إذا رَفَعَ الحجاب كان إذنًا منه بالدخول عليه. انتهى.

(إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمِ) أي: طريق الحقّ الذي لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام، وسُمّي صراطًا؛ لأنه موصلٌ للمقصود كما أن الطريق الحسيّ كذلك، والجملة تعليل لطلب الهداية منه سبحانه وتعالى؛ أي: لأنك تهدي من تشاء. . . إلخ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: هذا الحديث قد تكلّم فيه العلماء، وضعّفوه بسبب تفرّد عكرمة بن عمّار، فقد ضعفّوه في روايته عن يحيى بن أبي كثير، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في "شرح علل الترمذيّ": عكرمة بن عمّار اليماميّ، ثقة، لكن

(1)

"الكاشف" 4/ 1197.

ص: 85

حديثه عن يحيى بن أبي كثير خاصّةً مضطرب، لَمْ يكن عنده كتاب، قاله يحيى القطّان، وأحمد، والبخاريّ، وغيرهم، وحديثه عن إياس بن سلمة بن الأكوع مُتْقَنٌ، قاله أحمد، وقال في رواية حرب: هو في غير يحيى ثبتٌ، وقد أنكر عليه حديثه عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة رمنها في استفتاح النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة بالليل - يعني هذا الحديث. انتهى

(1)

.

وتقدّم في "شرح المقدّمة" أيضًا أن هذا الحديث مما انتقده الحافظ أبو الفضل بن عمّار رحمه الله على المصنّف رحمه الله، فراجعه تستفد

(2)

.

والحاصل أن هذا الحديث مما يصعُب الجواب عن المصنّف رحمه الله في إيراده له في "صحيحه" مورد الأصول، مع تفرّد عكرمة بن عمّار به عن يحيى بن أبي كثير، وقد سمعت تضعيف هؤلاء الأئمة لروايته عنه، ولا يوجد له متابع فيما أظنّ، اللهم إلَّا أن يكون المصنّف رحمه الله وهو واسع الاطلاع- وجد متابعًا له، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1811](770)، و (أبو داود) في "الصلاة"(767 و 768)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3420)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1625) و"الكبرى"(1322)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1357)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 156)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1153)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2600)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2244 و 2245)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1760)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 5)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(952)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما تُفتتح به صلاة الليل من الأذكار.

2 -

(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء، ونحوه في صلاة الليل، تواضعًا، وإشفاقًا، ولتقتديَ به أمته في الدعاء، والخضوع، وحسن التضرّع.

(1)

"شرح علل الترمذيّ" 2/ 641 - 642.

(2)

راجع: "قرة عين المحتاج" 1/ 146 - 147 الطبعة الثانية.

ص: 86

3 -

(ومنها): بيان شرف هؤلاء الملائكة عليه السلام، وأنهم أفضل من سائر الملائكة.

4 -

(ومنها): بيان أنه ينبغي للعبد أن يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى طريق الحقّ؛ لأنه تعالى هو الهادي إلى ذلك.

5 -

(ومنها): بيان أن الهداية بيد اللَّه تعالى، لا أحد يَقدِر عليها، غيره سبحانه وتعالى، قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية [القصص: 56]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1812]

(771) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ الْمَاجِشُونُ، حَدَّثَنِي

(1)

أَبِي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ:"وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِني لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَستَغْفِرُكَ وَأَيُّوبُ إِلَيْكَ"، وَإِذَا رَكَعَ قَالَ:"اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي"، وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا

(2)

، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ"، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"، ثُمَّ يَكُونُ

(1)

وفي نسخة: "أخبرني".

(2)

وفي نسخة: "ملء السماوات والأرض وما بينهما".

ص: 87

مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الثقفيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

2 -

(يُوسُفُ الْمَاجِشُونُ) هو: يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [8].

رَوَى عن أبيه، وصالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن المنكدر، والزهريّ، وسعيد المقبريّ، وعبد اللَّه بن عروة بن الزبير، وعتبة بن مسلم المدنيّ، وغيرهم.

وروى عنه أبو الوليد الطيالسيّ، وعفان، وعارم، ومسدّد، وسريج بن يونس، وعبد العزيز بن عبد اللَّه الأويسي، وسليمان بن داود الهاشميّ، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وعلي ابن المدينيّ، وأحمد بن حنبل، وعبيد اللَّه بن عمر القواريري، ومحمد بن أبي بكر المقدميّ، وغيرهم.

قال ابن معين، وأبو داود، ويعقوب بن شيبة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: لا بأس به كنا نأتيه فيحدّثنا في بيت، وجَوَارٍ له في بيت آخر يَضْرِبن بالْمِعْزَفة، وقال الخليليّ: ثقةٌ، عُمِّر حتى أدركه علي بن مسلم، وهو وإخوته يُرَخِّصون في السماع، وهم في الحديث ثقات.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث أو أربع وثمانين ومائة، وقال غيره: مات سنة خمس وثمانين ومائة، وقال البخاريّ في "تاريخه": حدّثني هارون بن محمد، قال: مات يوسف بن الماجشون سنة أربع أو خمس وثمانين، وقال ابن سعد: قال يوسف: وُلدت في زمن سليمان بن عبد الملك.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (771) وحديث (1752) و (1932) و (2404).

ص: 88

3 -

(أَبُوهُ) يعقوب بن أبي سلمة الماجشون التيميّ، مولى آل المنكدر، أبو يوسف المدنيّ، واسم أبي سلمة دينار، وقيل: ميمون، صدوقٌ [4].

رَوَى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وابن عمرو الأعرج، وعمر بن عبد العزيز، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم.

وروى عنه ابناه: عبد العزيز، ويوسف، وابن أخيه عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة، وآخرون.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة، وقال: يُكْنَى أبا يوسف، وهو الماجشون، سُمّي بذلك هو وولده، وكان فيهم رجال لهم فقه، ورواية للحديث والعلم، وليعقوب أحاديث يسيرة، وقال البخاريّ عن هارون بن محمد: الماجشونُ بالفارسية الورد، وقال مصعب الزبيريّ: إنما سُمّي الماجشون؛ لكونه كان يُعَلِّم الغناء ويتخذ القِيَان، وكان يجالس عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز في إمرته، وكان عمر يأنس إليه، فلما استُخْلِف عمر قَدِمَ عليه، فقال له: إنا تركناك حين تركنا لبس الخزّ، فانصرف عنه، وكان الماجشون يُعِين ربيعة على أبي الزناد، وقال يعقوب بن شيبة: ثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيب، ثنا سَوّار بن عبد اللَّه، حدّثني أبي، ثنا إسحاق بن عيسى بن موسى، عن ابن الماجشون، قال: عُرِج بروح أبي الماجشون، فوضعناه على سرير الغسل، وقلنا: نروح به، فدخل إليه غاسل يغسله، فرأى عِرْقًا يتحرك من أسفل قدميه فتركه، ومكث ثلاثًا على حاله، ثم نَشَعَ بعدُ، فاستوى جالسًا، فقال: ائتوني بسويق فشربه، فقلنا: أخبرنا ما رأيت؟ قال: عُرِج بروحي إلى السماء السابعة، فقيل: مَن هذا؟ قال: الماجشون، قيل: لَمْ يَأْنِ له، بَقِي من عمره كذا وكذا، ثم هَبَطت، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للذي معي: إنه القريب المَقعد من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: إنه عَمِلَ بالحقّ في زمن الْجَوْر، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن عساكر: قال أبو الحسين بن القواس الوراق: مات يعقوب سنة أربع وستين ومائة، كذا قال، وهو خطأ، ولم ينبه عليه أبو القاسم، والصواب -إن شاء اللَّه تعالى- في سنة أربع وعشرين ومائة.

روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

ص: 89

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ) ابن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِع) المدني مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان كاتب عليّ رضي الله عنه، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وأمه سلمي، وعن عليّ، وكان كاتبه، وأبي هريرة، وشُقْران مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وروى عنه أولاده: إبراهيم وعبد اللَّه ومحمد، والمعتمر، والحسن بن محمد ابن الحنفية، وعلي بن الحسين بن علي، وسالم أبو النضر، وابن المنكدر، والأعرج، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والخطيب: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (771)، وحديث رقم (877) و (1066) و (2494).

6 -

(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ الخليفة الراشد، مات رضي الله عنه (40)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبصريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: الماجشون، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، ورواية الراوي عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن عم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، وأحد الخلفاء الأربعة الراشدين، وأحد العشرة المبشّرين في الجنة، مات يوم مات، وهو أفضل من يمشي على الأرض من بني آدم بإجماع أهل السنّة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)

ص: 90

وفي الرواية التالية: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة"؛ أي: ابتدأها، فالسين والتاء زائدتان، والمراد من الصلاة ما يشمل الفريضة والنافلة؛ لما في رواية ابن حبان:"إذا قام إلى الصلاة المكتوبة"، وفي رواية الدارقطنيّ:"كان إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة"، وفي رواية للنسائيّ:"كان إذا قام يصلي تطوعًا"، وفيه دليل واضح على أن هذه الأدعية مما يستحبّ قولها في الصلاة المكتوبة والنافلة، وفيه ردّ على من خالف ذلك، وقال: لا يجوز ذلك في المكتوبة، فتبصّر.

(قَالَ) أي: بعد تكبيرة الإحرام، ففي الرواية التالية:"كان رسول اللَّه إذا استفتح الصلاة كبّر، ثم قال: وجّهت. . . إلخ"، وفيه تصريح بأن هذا الدعاء كان بعد تكبيرة الإحرام، وفيه ردّ على من قال: إنه قبل التكبير ("وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي: صَوَّبتُ وجهي، وأخلصت في عبادتي، قاله القرطبيُّ رحمه الله

(1)

.

وقال الأزهريّ، وغيره: معناه: أقبلت بوجهي، وقيل: قصدت بعبادتي، وتوحيدي إليه، ويجوز في "وجهي" إسكان الياء، وفتحها، وأكثر القراء على الإسكان.

(لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أي: ابتدأ خلقهما على غير مثال سابق، وجمع السموات، دون الأرض، وإن كانت سبعًا كالسموات؛ لأنه أراد جنس الأرضين، وجمع السموات؛ لشرفها، قال النوويُّ رحمه الله: وهذا يؤيد المذهب الصحيح المختار الذي عليه الجمهور أن السموات أفضل من الأرض، وقيل: الأرضون أفضل؛ لأنَّها مستقر الأنبياء، ومدفنهم، وهو ضعيف. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: مثل هذا البحث من فضول الكلام، ومن الخوض فيما لم يكلفنا اللَّه -تعالى- بعلمه، ولو كان فيه خير لبيّنه اللَّه -تعالى- في كتابه، أو بيّنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سنته، فاللائق بالمسلم الكفّ عن مثل هذا، وتفويض علمه إلى عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.

وقال القاضي أبو الطيب: جمع السموات دون الأرض؛ لأنا لا ننتفع من الأرضين إلا بالطبقة الأولى، بخلاف السماء، فإن الشمس، والقمر، والكواكب موزعة عليها، وقيل: لأن الأرض السبع لها سكان؛ أخرج البيهقيّ عن أبي

(1)

"المفهم" 2/ 400.

ص: 91

الضحي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال: "سبع أرضين، في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيساكم"، قال: وإسناده صحيح عن ابن عباس، وهو شاذّ بمرّة، لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا. انتهى.

(حَنِيفًا) منصوب على الحال؛ أي: وجَّهت وجهي في حال حنيفيتي، قال الأزهريّ، وآخرون؛ أي: مستقيمًا، وقال الزجاج، والأكثرون: الحنيف المائل، ومنه قيل: أحْنَفُ الرِّجْلِ، قا لوا: والمراد هنا المائل إلى الحق، وقيل له ذلك؛ لكثرة مُخالفيه، وقال أبو عبيدة: الحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وفي "اللسان": قال الجوهري: الحَنِيفُ: المسلمُ، وقد سُمِّيَ المستقيمُ بذلك، كما سمي الغُراب أعْوَرَ. وتَحَنَّفَ الرَّجُلُ؛ أي: عَمِلَ عَمَلَ الحَنفِيَّة، ويقالُ: اختتن، ويقال: اعتَزَلَ الأصنامَ، وتَعَبَّدَ، قال جِرَان العَوْد [من الطويل]:

وَلَمَّا رَأَيْنَ الصُّبْحَ بَادَرْنَ ضَوْءَهُ

رَسِيمَ قَطَا الْبَطْحَاءِ أَوْ هُنَّ أَقْطَفُ

وَأَدْرَكْنَ أَعْجَازًا مِنَ اللَّيْلِ بَعْدَمَا

أَقَامَ الصَّلاةَ الْعَابِدُ الْمُتَحَنِّفُ

والدين الحَنِيف: الإسلام، والحَنِيفية: ملة الإسلام، وفي الحديث:"أحب الأديان إلى اللَّه الحنيفية السَّمْحة"، ويوصف به، فيقال: مِلَّةٌ حَنِيفية، وقال ثعلبٌ: الحنيفية: الميل إلى الشيء، قال ابن سِيدَهْ: وليس هذا بشيء، وقال الزجاجي: الحنيف في الجاهلية مَنْ كان يحج البيت، ويغتسل من الجنابة، ويختتن، فلما جاء الإسلام كان الحنيفُ المسلمَ، وقيل له: حنيفٌ؛ لعدوله عن الشرك، قال: وأنشد أبو عُبَيدٍ:

فَمَا شِبْهُ كَعْبٍ غَيْرَ أَعْتَمَ فَاجِرٍ

أَبَى مُذْ دَجَا الإسْلامُ لا يَتَحَنَّفُ

وقال أبو زيد: الحنيف المستقيم، وأنشد [من الوافر]:

تَعَلَمْ أَنْ سَيَهْدِيكُمْ

إلَيْنَا طَرِيقٌ لا يَجُورُ بِكُمْ حَنِيفُ

وجمع الْحَنِيف: الحُنَفَاءُ

(1)

.

(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ) بيان للحنيف، وإيضاح لمعناه، والمشرك يُطْلَق على كل كافر، من عابد وثن، أو صنم، ويهوديّ، ونصرانيّ، ومجوسيّ، وزنديق، وغيرهم.

(1)

انتهى من "لسان العرب" باختصار 2/ 1026.

ص: 92

(إِنَّ صَلَاِتِي) قال الأزهريُّ: الصلاة اسم جامع للتكبير والقراءة والركوع والسجود والدعاء والتشهّد وغيرها (وَنُسُكِي) بضمتين، وهو كما قال الأزهريّ: العبادة، والناسك الذي يخلص عبادته للَّه تعالى، وأصله من النسيكة، وهي النُّقْرة الخالصة الْمُذابةُ الْمُصَفّاة من كل خِلْط، والنسيكة أيضًا الْقِربان الذي يُتقرّب به إلى اللَّه تعالى، وقيل: النسك ما أَمَر به الشرع، وعطفه على "صلاتي" من عطف العامّ على الخاصّ.

(وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) أي: حياتي وموتي، ويجوز فيهما فتح الياء، وإسكانها، والأكثرون على فتح "محياي"، وإسكان "مماتي" (لِلَّهِ) أي: هو خالقهما ومقدّرهما، أو هو المالك لهما والمتصرّف فيهما، لا تصرّف لغيره فيهما، وقيل: طاعة الحياة، والخيرات المضافة إلى الممات، كالوصيّة والتدبير، أو ما أنا عليه من العبادة في حياتي، وما أموت عليه خالصةٌ لوجه اللَّه تعالى، والجارّ والمجرور خبر "إنّ".

وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) بالجرّ صفة لـ "اللَّه"، أو عطف بيان، قال الواحديّ وغيره: هذه لام الإضافة، ولها معنيان: الملك، كقولك: المال لزيد، والاستحقاق، كالسرجُ للفرس، وكلاهما مراد هنا، وتقدّم في "شرح المقدّمة" بيان معنى "ربّ"، ومعنى "العالمين"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا.

(لَا شَرِيكَ لَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "اللَّه"؛ أي: حال كونه غيرَ مُشارَك في هذه الأمور.

(وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: أمرني اللَّه تعالى بالمذكور من التوحيد الشامل للإخلاص، قولًا واعتقادًا (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي: المستسلمين لأمر اللَّه، الخاضعين له، المنقادين لطاعته.

وقال القرطبيُّ رحمه الله: أي: مسلم من المسلمين المتمكّنين في الاستسلام الذين سَلَّمُوا للنيران

(1)

، وأموالهم للضيفان، وولدهم للقربان، وفوّضُوا جميع أمورهم للرحمن. انتهى.

وفي الرواية التالية: "وأنا أوّل المسلمين"، قال الشافعي: لأنه صلى الله عليه وسلم كان أول مسلمي هذه الأمة.

(1)

فقد ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، وأراد أن يذبح ولده.

ص: 93

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقوله عز وجل: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] قال قتادة: أي: من هذه الأمة، وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وأصله عبادة اللَّه وحده لا شريك له. انتهى.

قال العلامة الشوكانيُّ رحمه الله: قال في "الانتصار": إن غير النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما يقول: "وأنا من المسلمين". وهو وَهَمٌ، منشؤه توهم أن معنى "وأنا أول المسلمين" أني أول شخص اتَّصَفَ بذلك بعد أن كان الناس بمعزل عنه، وليس كذلك، بل معناه المسارعة في الامتثال لما أمره به، ونظيره:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} [الزخرف: 81]، وقال موسى عليه الصلاة والسلام:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: إن اعتراض الشوكانيّ غير واضح، في قاله في "الانتصار" هو الظاهر، ولا سيما وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قاله، كما تقدم، واللَّه تعالى أعلم.

قال: وظاهر الإطلاق أنه لا فرق في قوله: "وأنا من المسلمين"، وقوله:"وما أنا من المشركين" بين الرجل والمرأة، وهو صحيح على إرادة الشخص، وفي "المستدرك" للحاكم من رواية عمران بن حصين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها:"قومي، فاشهدي أضحيتك، وقولي: إن صلاتي ونسكي" إلى قوله: "وأنا من المسلمين"، فدلّ على ما ذكرناه. انتهى كلام الشوكانيُّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث جيّد.

وقوله: (اللَّهُمَّ) قال الأزهريُّ: فيه مذهبان للنحويين، قال الفرّاء: هي في الأصل: يا اللَّه أُمَّنَا بخير، فكَثُرت في الكلام، واختلطت، فقيل: اللهم، كما قالوا: هَلُمَّ، وأصلها:"هل" ضُمّ إليها "أُمَّ"، ثم تركت منصوبة الميم، وقال الخليل: معناه: يا أللَّه، والميم المشددة عوض عن "يا" النداء، والميم مفتوحة لسكونها، وسكون الميم قبلها، ولا يجمع بينهما، فلا يقال: يا أللَّهم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد يجمع بينهما في الشعر، كقوله [من الرجز]:

إِنِّي إذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا

أَقُولُ يَا اللَّهمَّ يا اللَّهمَّا

وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله:

(1)

"نيل الأوطار" 3/ 32.

ص: 94

وَبِاضْطِرَارٍ خُصَّ جَمْعُ يَا وَأَلْ

إلَّا مَعَ اللَّه وَمَحْكِيِّ الْجُمَلْ

وَالأَكْثَرُ اللَّهمَّ بِالتَّعْوِيضِ

وَشَذَّ يَا اللَّهمَّ فِي قَرِيضِ

فائدة: ذكر بعض المحققين أن "اللَّهم" تستعمل على ثلاثة أوجه:

"أحدها": النداء المحض، نحو: اللَّهم أثِبْنَا.

"ثانيها": أن يذكرها المجيب تمكينًا للجواب في ذهن السامع، نحو: اللَّهم نعم، في جواب: أزيد قائم؟.

"ثالثها": أن لستعمل دليلًا على الندرة، وقلة وقوع المذكور؛ نحو: أنا أزورك، اللَّهم إذا لَمْ تَدْعُنِي؛ إذ الزيارة مع عدم الطلب قليلة، ومنه قول المؤلفين: اللَّهم إلَّا أن يقال كذا، قيل: وهي على هذين موقوفة، لا معربة، ولا مبنية؛ لخروجها عن النداء، فهي غير مركبة، لكن استظهر العلامة الصبان رحمه الله في "حاشيته على الأشمونيّ" بقاءها على النداء مع دلالتها على التمكين، أو الندرة، فتكون معربة كالأول، ولو سُلِّم، فيقال: إنه منادى سورة، فله حكمه. انتهى.

(أَنْتَ الْمَلِكُ) أي: القادر على كل شيء، المالك الحقيقيّ لجميع المخلوقات (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) أي: لا معبود بحقّ غيرك (أَنْتَ رَبِّي) أي: مالكي، وسيّدي، والمتصرّف في جميع أموري (وَأَنَا عَبْدُكَ) أي: معترف بأنك مالكي، ومدبري، وحكمك نافذ فِيَّ، وقوله:(ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي) اعترافٌ بما يوجب نقص حظ النفس من ملابسة المعاصي تأدُّبًا، وأراد بالنفس هنا الذات المشتملة على الروح، وقال الأزهريُّ رحمه الله: اعتراف بالذنب، قَدَّمه على مسألة اللَّه عز وجل المغفرة، كما علَّمَ آدم عليه السلام عند خطيئته أن يقول:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وقال تعالى حكاية عن آدم عليه السلام: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} الآية [البقرة: 37]. انتهى.

(فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا) أي: استرها بعفوك، ولا تؤاخذني بها، وقوله:(إِنَّهُ) بالكسر؛ لوقوعها في محلّ الاستئناف، والضمير للشأن (لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) جملة تعليلية لطلبه أن يغفر له جميع ذنوبه؛ أي: لأنه لا يغفر الذنوب كلّها إلَّا أنت.

(وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ) أي: أرشدني لصوابها ووفّقني للتخلّق بها، وثبّتني عليها.

ص: 95

وقال القرطبيُّ رحمه الله: قوله: "واهدني لأحسن الأخلاق" أي: لأكملها وأفضلها، وهي الْخُلُق الصحيح، والكفّ عن القبيح، وقيل: للقيام بالحقوق، والعفو عن العقوق، كما قال:"أن تُعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك"

(1)

، وقد أجاب اللَّه تعالى دعاء نبيّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فجَمَع له منها ما تفرّق في العالمين، حتى قال اللَّه تعالى له:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. انتهى

(2)

.

وقوله: (لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ) جملة تعليلية لطلب الهداية، كما مرَّ نظيره آنفًا (وَاصْرِفْ عَنِّي سَيَئّهًا) أي: أبعد عني قبيحها، وقوله:(لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيَئِّهَا إِلَّا أَنْتَ) جملة تعليلية أيضًا.

(لَبَّيْكَ) قال النوويُّ رحمه الله: قال العلماء: معناه: أنا مقيم على طاعتك إقامةً بعد إقامة. انتهي، وقال الأزهريّ رحمه الله: أي: أقمت على طاعتك إقامة بعد إقامة، يقال: لَبَّ بالمكان، وألَبَّ: إذا أقام به، لبًّا، وإِلْبَابًا، فأصل "لبيك" لبَّيْنِ، فحذفت النون للإضافة، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

نُونًا تَلِي الإعْرَابَ أَوْ تَنْوِينَا

مِمَّا تُضِيفُ احْذِفْ كَطُورِ سِينَا

واللَّبُّ: الإقامة على الطاعة. قاله الأزهريّ رحمه الله.

وقال العلامة الرضيّ رحمه الله: أصل "لبيك" أُلِبّ لك إِلْبَابين؛ أي: أقيم على طاعتك هاجابتك إقامتين، من أَلَبَّ بالمكان: إذا أقام به، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، فصار إلْبَابين لك، ثم حذفت زوائده، وحذف الجارّ، وأضيف للضمير، كلُّ ذلك ليسرع المجيب إلى سماع خطاب مناديه. انتهى.

(وَسَعْدَيْكَ) أي: أُسعد أمرك، وأتّبعه إسعادًا بعد إسعاد، ومتابعةً لدينك الذي ارتضيته بعد متابعة، ولا تُستَعمَل إلَّا بعد "لبيك"؛ لأنَّها توكيد لها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "لبيك": معناه: إجابةً لك بعد إجابة، و"سعديك": أي: مساعدةً بعد مساعدة، وهما من المصادر التي لا تستعمل إلَّا مضافة مثنّاةً. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أراد أن "لَبَّيْ" و"سَعْدَيْ" لا يستعملان إلَّا مضافين للضمير، وشذّ إضافة "لبّي" للفظ "يدي"، كقول الشاعر [من المتقارب]:

(1)

رواه أحمد في "مسنده" 4/ 148 - 158.

(2)

"المفهم" 2/ 401.

(3)

"المفهم" 2/ 401.

ص: 96

دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرَا

فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ

وكذا شذّ إضافتها لضمير الغائب في قوله:

فَقُلْتُ لَبَّيْهِ لِمَنْ يَدْعُونِي

وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَبَعْضُ مَا يُضَافُ حَتْمًا امْتَنَعْ

إِيلَاؤُهُ اسْمًا ظَاهِرًا حَيْثُ وَقَعْ

كَـ "وَحْدَ""لَبَّيْ" وَ"دَوَالَيْ""سَعْدَيْ"

وَشَذَّ إِيلَاءُ "يَدَيْ" لِـ "لَبَّيْ"

(وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ) معناه: الإقرار بأن كل خير واصلٍ إلى العباد، ومرجوٍّ وصوله إليهم، فهو في يديه سبحانه وتعالى.

زاد الشافعيّ، عن مسلم بن خالد، عن موسى بن عقبة:"والمَهْديّ من هديت"، قال الخطابيّ وغيره: فيه الإرشاد إلى الأدب في الثناء على اللَّه تعالى، ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الأمور، دون مساويها على جهة الأدب. انتهى.

(وَالشَرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: لا يضاف إليك مخاطبةً ونسبةً؛ تأدّبًا مع أنه بقضاء اللَّه تعالى وخلقه، كالخير، كما قال اللَّه تعالى:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [النساء: 78]، وقال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام: 17]. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا مما يجب تأويله؛ لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل اللَّه تعالى وخلقه، سواء خيرها وشرّها، وحينئذ يجب تأويله، وفيه للعلماء خمسة أقوال:

"أحدها": معناه أنه لا يتقرب به إليك، قاله الخليل بن أحمد، والنضر بن شُميل، وإسحاق ابن راهويه، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن خزيمة، والأزهريّ، وغيرهم.

"الثاني": حكاه الشيخ أبو حامد، عن المزنيّ، وقاله غيره أيضًا: معناه: لا يضاف إليك على انفراده، لا يقال: يا خالق القردة والخنازير، ويا رب الشر، ونحو هذا، وإن كان خالق كل شيء، ورب كل شيء، وحينئذ يدخل الشر في العموم.

(1)

"المفهم" 4/ 401 - 402.

ص: 97

"الثالث": معناه: والشر لا يصعد إليك، إنما يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح.

"الرابع": معناه: والشر ليس شرًّا بالنسبة إليه، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين.

"الخامس": حكاه الخطابيّ أنه كقولك: فلان إلى بني فلان إذا كان عِدَاده فيهم، أو صَفُّوه إليهم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أصح الأقوال عندي هو الأول؛ لأن سياق الكلام يدل عليه، ويليه القول الثالث؛ إذ معناه قريب من معناه، واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ) أي: توفيقي بك، والتجائي، وانتمائي إليك، وقال الأزهري: معناه أعتصم بك، وأعوذ بك، وألجأ إليك، كأنه قال: بك أعوذ، وإليك ألجأ. انتهى.

(تَبَارَكْتَ) أي: استحققت الثناء، وقيل: ثبت الخير عندك، وقال ابن الأنباريُّ: تبَارَكَ العبادُ بتوحيدك، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال ابن منظور رحمه الله: و"تبارك اللَّه": تقدَّسَ، وتَنَزَّه، وتعالى، وتعاظم، لا تكون هذه الصفة لغيره. وسئل أبو العباس عن تفسير "تبارك اللَّه؟ " فقال: ارتفع، والمتبارِكُ المرتَفِع، وقال الزجاج:"تبارك" تَفَاعَلَ، من البركة، كذلك يقول أهل اللغة، وقال ابن الأنباريّ:"تبارك اللَّه": أي: يُتَبَرّك باسمه في كل أمر. انتهى كلام ابن منظور باختصار

(1)

.

(وَتَعَالَيْتَ) أي: تنزهت عن كل ما لا يليق بجلالك (أَسْتَغْفِرُكَ) أي: أطلب منك ستر ذنوبي، قال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: الغَفْرُ: إلباسُ ما يصونه عن الدَّنَس، ومنه قيل: اغْفِرْ ثوبك في الوِعَاء، واصبُغْ ثوبَك، فإنه أغْفَرُ للوَسَخ، والغُفْران، والمغفرة من اللَّه: هو أن يصون العبدَ من أن يمسه العذاب. انتهى

(2)

.

(وَأَتُوبُ إِلَيْكَ") أي: أرجع إلى طاعتك، وأنيب إليك، والتائب الراجع

(1)

"لسان العرب" 1/ 266.

(2)

"شرح مفردات ألفاظ القرآن"(ص 609).

ص: 98

إلى طاعة ربه بعد معصيته وخطيئته، قاله الأزهريّ رحمه الله

(1)

.

وقال الراغب رحمه الله: التَّوْبُ: ترك الذَّنْب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لَمْ أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت، وأسأت، وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع: ترك الذَّنْب لقبحه، والندم على ما فَرَطَ منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة

(2)

، فمتى اجتمعت هذه الأربع، فقد كملت شرائط التوبة. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: فإن قيل: هذا وعد بطلب المغفرة؛ لأن معنى "أستغفرك" أطلب من اللَّه تعالى المغفرة؛ لأن استفعل لطلب الفعل، فهذا وعد بأنَّا سنطلب منه، ولا يلزم من الوعد بالطلب حصول المطلوب الذي هو الطلب، وكذا "أتوب إليك" وعد بالتوبة، لا أنه توبة في نفسه.

فالجواب أن هذا ليس وعدًا، ولا خبرًا، بل هو إنشاء، والفرق بين الخبر والإنشاء أن الخبر هو الدّالّ على أن مدلوله قد وقع قبل صدوره، أو يقع بعد صدوره، والإنشاء هو اللفظ الدّالّ على أن مدلوله حصل مع آخر حرف منه، أو عقب آخر حرف منه على الخلاف بين العلماء في ذلك. انتهى كلام الشيخ ابن عبد السلام رحمه الله

(4)

.

(وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ) أي: خضعت لك، لا لغيرك، فمعنى الركوع: هو الخضوع، كما نقله في "اللسان" عن ثعلب، وفي تقديم الجارّ والمجرور في هذه الجمل كلِّها إفادة الحصر والاختصاص (وَبِكَ) لا بغيرك (آمَنْتُ) أي: صدّقت (وَلَكَ) لا لغيرك (أَسْلَمْتُ) أي: ذللتُ، وانقدتُ لطاعتك (خَشَعَ لَكَ) أي: تواضع، وخضع لك لا لغيرك (سَمْعِي) فلا يسمع إلَّا ما أذنت في سماعه (وَبَصَرِي) فلا يُبصر إلَّا ما أذنت في إبصاره، وخصّ السمع والبصر

(1)

"شرح غريب ألفاظ الشافعيّ"(ص 226).

(2)

هكذا نسخة "مفردات الراغب"، ولعل صواب العبارة بحذف لفظة "بالأعمال"، فليُحرّر.

(3)

"مفردات ألفاظ القرآن" ص 169.

(4)

نقله السيوطيّ في "زهر الربى شرح المجتبى" 2/ 131.

ص: 99

من بين الحواسّ؛ لأن أكثر الآفات بهما، فإذا خشعا قَلّت الوساوس، ولأنّ تحصيل العلم النقليّ والعقليّ بهما (وَمُخِّي) بضمّ الميم، وتشديد الخاء المعجمة: الْوَدَك الذي في العظم، وخالص كلّ شيء، وقد يُسمّى الدماغ مُخًّا، قاله في "المصباح" (وَعَظْمِي وَعَصَبِي") بفتحتين: أطناب المفاصل، والجمع أعصاب، مثلُ سبب وأسباب.

والمعنى: خضع لك جسمي باطنًا كما خضع ظاهرًا، فكنى بهذه الثلاثة عن الجسم كلّه؛ لأن مدار قوامه عليها، والغرض من هذا كلّه المبالغة في الانقياد والخضوع للَّه سبحانه وتعالى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله ما حاصله: إسناد الخشوع إلى هذه الأشياء كناية عن كمال الخشوع والخضوع؛ أي: قد بلغ غايته حتى ظهر أثره في هذه الأعضاء، وصارت خاشعةً لربها. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معناه: أخذ كلُّ عضو من هذه الأعضاء حظّه من الخضوع والتذلّل؛ أي: سكنت، وافتقرت، وإن كان أصل الخشوع في القلب، لكن ثمرته تظهر على الجوارح والأعضاء، فسُمّي بذلك خُشُوعًا، كما قال تعالى:{تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} الآية [فصلت: 39]؛ أي: متذلّلةً مفتقرةً لما تَحيا به من الماء، أو يكون هذا على سبيل الإغياء

(3)

والتشبيه، كما قال [من الكامل]:

لَا عُضْوَ لِي إِلَّا وَفِيهِ مَحَبَّةٌ

فَكَأَنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا

قال: وهذا هو النور الذي دعا به النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المتقدّم. انتهى

(4)

.

(وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا) بنصب ربنا على أنه منادى حذف منه حرف النداء، كما قال الحريري رحمه الله تعالى في "ملحة الإعراب":

وَحَذْفُ يَا يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي

(لَكَ الْحَمْدُ) مبتدأ وخبره، وقُدِّم الخبر لإفادة الحصر، والاختصاص؛

(1)

راجع: "المنهل العذب المورود" 5/ 170.

(2)

"شرح السندي على النسائيّ" 2/ 192.

(3)

هو بلوغ الغاية في الأمر.

(4)

"المفهم" 2/ 402.

ص: 100

أي: لا لغيرك، وفي الرواية التالية:"ربّنا ولك الحمد"، وقد اختَلَفَت الروايات في زيادة "اللهم"، وفي ثبوت هذه الواو، وحذفها، واختُلِفَ أيضًا في كونها عاطفة، أو زائدة، أو حالية.

قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذب": ثبت في الأحاديث الصحيحة من روايات كثيرة: "ربنا لك الحمد"، وفي روايات كثيرة:"ربنا ولك الحمد"، بالواو، وفي روايات:"اللهم ربنا، ولك الحمد"، وفي روايات:"اللَّهم ربنا، لك الحمد"، وكله في "الصحيح".

قال الشافعي، والأصحاب: كله جائز، وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو عن الواو في قوله: "ربنا، ولك الحمد"؟ فقال: هي زائدة، تقول العرب: بعني هذا الثوب، فيقول المخاطب: نعم، وهو لك بدرهم، فالواو زائدة.

[قلت]: ويحتمل أن تكون عاطفة على محذوف؛ أي: ربنا أطعناك، وحمدناك، ولك الحمد. انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى.

وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "اللهم ربنا" ثبت في أكثر الطرق هكذا، وفي بعضها بحذف "اللَّهم"، وثبوتها أرجح، وكلاهما جائز، وفي ثبوتها تكرير النداء، كأنه قال: يا أللَّه، يا ربنا.

وقوله: "ولك الحمد" كذا ثبت زيادة الواو في طرق كثيرة، وفي بعضها بحذفها، قال النووي: المختار لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وقال ابن دقيق العيد: كأن إثبات الواو دالّ على معنى زائد؛ لأنه يكون التقدير مثلًا ربنا استجب، ولك الحمد، فيشتمل على معنى الدعاء، ومعنى الخبر. انتهى.

وهذا بناء على أن الواو عاطفة، وقيل: زائدة. وقيل: هي واو الحال، قاله ابن الأثير، وضعّف ما عداه.

قال: ورجّح الأكثرون ثبوتها. وقال الأثرم: سمعت أحمد يثبت الواو في "ربنا، ولك الحمد"، ويقول: ثبت فيه عدة أحاديث. انتهى كلام الحافظ رحمه الله ببعض تصرف.

(مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ) بكسر الميم، ويجوز نصب آخره، ورفعه، وممن ذكرهما جميعًا ابن خالويه، وآخرون، وحُكي عن الزجاج أنه لا يجوز إلَّا الرفع، ورجح ابن خالويه، والأكثرون النصب، وهو المعروف في

ص: 101

روايات الحديث، وهو منصوب على الحال؛ أي: مالئًا، وتقديره: لو كان جسمًا لملأ ذلك، قاله النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: يجوز نصب "ملء" على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: حمدًا ملءَ، أو مفعول لفعل محذوف؛ أي: أعني، ورفعه على أنه صفة و"الحمدُ"، أو خبر لمحذوف؛ أي: هو.

و"الملء" بالكسر ما يأخذه الإناء إذا امتلأ.

وقال الخطابيّ رحمه الله: هو تمثيل، وتقريب، والمراد تكثير العدد، حتى لو قُدِّر ذلك أجسامًا ملأ ذلك، وقال غيره: المراد بذلك التعظيم، كما يقال: هذه الكلمة تملأ طباق الأرض. وقيل: المراد بذلك أجرها وثوابها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأولى إبقاء لفظ الحديث على ظاهره، وما المانع أن يكون الحمد شيئًا يملأ السموات والأرض، وقد ثبت بالنصوص الكثيرة أن الأعمال توزن يوم القيامة، ومعلوم أنه لا يوزن إلَّا ما كان شيئًا محسوسًا، فلا داعي إلى هذه التكلفات التي ذكروها.

(وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا) وفي نسخة: "ملء السماوات، وملء الأرض، وما بينهما"؛ أي: ما بين السماوات والأرض.

(وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ")"ملء" عطف على الأول، ومضاف إلى "ما" الموصولة، و"شئت" صلتها، و"من شيء" بيان لـ "ما"، و"بعد" من الظروف المبنية لقطعه عن الإضافة، ونية معناها، وبني على الضم لشبهه بأحرف الغاية، كـ "حيث"، و"منذ"، قال في "الخلاصة":

وَاضْمُمْ بِنَاءً غَيْرًا انْ عَدِمْتَ مَا

لَهُ أُضِيفَ نَاوِيًا مَا عُدِمَا

قَبْلُ كَغَيْرُ بَعْدُ حَسْبُ

أَوَّلُ وَدُونُ وَالْجِهَاتُ أَيْضًا وَعَلُ

والمضاف المقدر هنا "السموات، والأرض، وما بينهما"، والظرف متعلق بمحذوف صفة لـ "شيء". والمراد بقوله:"من شيء": العرش، والكرسي، ونحوهما، مما في مقدور اللَّه سبحانه وتعالى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ أن يكون معناه: من شيء يمكن أن يخلقه أكبر من السماوات والأرض، ويَحْتَمِلُ أن يراد به العرش والكرسيّ، ففي الحديث: "إن السماوات والأرض في الكرسيّ كالحلقة الملقاة في فلاة من

ص: 102

الأرض، والكرسيّ وما فيه في العرش كحلقة ملقاة في فلاة"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم. قال: ومقصود هذا الحديث الإغياء في تكثير الحمد والثناء. انتهى

(2)

.

(وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ) أي: لك، لا لغيرك، ففي تقديم المعمول إفادة الحصر والاختصاص (وَبِكَ آمَنْتُ) أي: بك لا بغيرك صدقت، ففيه ما تقدم قبله (وَلَكَ أَسْلَمْتُ) أي: انقدت، وخضعت، ولأمرك استسلمت (سَجَدَ وَجْهِي) أي: خضع، وذلّ، وانقَاد (لِلَّذِي خَلَقَهُ) أي: أوجده من العدم، وأسبغ عليه النعم (وَصَوَّرَهُ) أي: رَتَّبه على هيئة خاصة، كما شاءها.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} الآية [الحشر: 24] ما نصه: الخلق: التقدير، والبَرْء هو الفَرْي، وهو التنفيذ، وإبراز ما قدّره، وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدّر شيئًا، ورتّبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى اللَّه عز وجل، قال الشاعر يمدح آخر

(3)

[من الكامل]:

وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ

ــضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي

أي: أنت تُنَفِّذ ما خلقت؛ أي: قدّرت، بخلاف غيرك، فإنه لا يستطيع ما يريد، فالخلق التقدير، والفَرْي التنفيذ، ومنه يقال: قدّر الجَلَّادُ، ثم فَرَى؛ أي: قطع على ما قدّره بحسب ما يريده، وقوله تعالى:{الْخَالِقُ الْبَارِئُ} أي: الذي إذا أراد شيئًا قال له: "كن"، فيكون على الصفة التي يريد الصورة التي يختار، كقوله تعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 8]، ولهذا قال:"المصور"؛ أي: الذي ينفّذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريد. انتهى

(4)

.

(وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ) أي: خلق فيه السمع والبصر، قال القرطبيُّ رحمه الله: وقد يَحتجّ بإضافة السمع إلى الوجه من يقول: إن الأذنين من الوجه، فيُغسلان بغسله، ولا حجة فيه؛ لأنه يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه"

(5)

، فجعل الأذن غاية للرأس، فهي منه؛ لأنا

(1)

صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "الصحيحة" 1/ 173 - 176.

(2)

"المفهم" 2/ 452.

(3)

البيت لزهير بن أبي سُلْمَى يمدح به هرم بن سنان. انتهى من هامش تفسير القرطبيّ 12/ 110.

(4)

"تفسير ابن كثير" 4/ 367 - 368.

(5)

حديث صحيح، رواه مالك في "الموطّأ"(1/ 31)، والنسائيّ (1/ 74)، وابن ماجه (282).

ص: 103

نقول بموجب ذلك، ونفرّق بين السمع والأذن، فإن السمع الإدراك الذي في الأذن، لا الأذن، ولأن الوجه لا يتضمّن الأذنين كما تقدّم. انتهى

(1)

.

(تَبَارَكَ اللَّهُ) تقدّس، وتنزّه، وتعالى، وتعاظم اللَّه عز وجل (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ") بالرفع على أنه بدل من لفظ الجلالة؛ أي: أحسن المصورين والمقدرين، فإنه الخالق الحقيقي المنفرد بالإيجاد والإمداد، وغيره إنما يوجد صورًا مُمَوَّهَةً، ليس فيها شيء من حقيقة الخلق، مع أنه تعالى خالق كل صانع وصنعته، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96].

وقال العلامة القرطبيّ رحمه الله: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} أتقن الصانعين، يقال لمن صنع شيئًا: خلقه، قال الشاعر يمدح آخر [من الكامل]:

وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ

ـضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي

قال: وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس، وإنما يضاف الخلق إلى اللَّه تعالى.

وقال ابن جريج: إنما قال: {أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} ؛ لأنه تعالى أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق. واضطرب بعضهم في ذلك.

ولا تُنفَى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم. انتهى كلام القرطبيُّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحاصل أن إطلاق الخلق لغير اللَّه سبحانه وتعالى بمعنى الصنع جائز؛ لوقوعه في كلام اللَّه تعالى، كقوله عز وجل:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] حيث أضاف "أحسن" إلى "الخالقين"، وكقوله تعالى في تعداد ما أنعم اللَّه على نبيّه عيسى عليه السلام:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الآية [المائدة: 110]، فإذا ورد ذلك في القرآن، فلا توقف، ولا اعتراض {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(ثُمَّ) بعد فراغه من الركوع والسجود (يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ) الجارّ والمجرور خبر "يكون" مقدّمًا على اسمها، وهو:"اللَّه اغفر بي. . . إلخ"، و"ما" موصولة، و"يقول" صلتها، حُذف منه العائد؛ أي: الذي يقوله (بَيْنَ

(1)

"المفهم" 2/ 403.

(2)

"تفسير القرطبيّ" 12/ 110.

ص: 104

التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ) وقوله: ("اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) اسم "يكون" محكيّ؛ لقصد لفظه (مَا قَدَّمْتُ) أي: من السيّئة، و"ما" موصول مفعول "اغفر" (وَمَا أَخَّرْتُ) أي: من عمل؛ أي: جميع ما فَرَط مني، قاله الطيبيّ، وقيل: ما قدّمت قبل النبوّة، وما أخّرت بعدها، وقيل: ما أخّرته في علمك مما قضيته عليّ، وقيل: معناه إن وقع مني في المستقبل ذنبٌ، فاجعله مقرونًا بمغفرتك، فالمراد من طلب المغفرة قبل الوقوع أن يُغفر إذا وقع (وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ) أي: جميع ذنوبي؛ لأنها إما سرٌّ، أو عَلَنٌ (وَمَا أَسْرَفْتُ) أي: جاوزت فيه الحدّ (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) أي: ذنوبي التي لا أعلمها عددًا وكمًّا وكيفًا (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ) قيل: معناه قدّم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخّر من شاء عن مراتبهم، كما اقتضته حكمته، وقيل: قدّم من أحبّ من أوليائه على غيرهم من عبيده، وأخّر من أبعده من غيرهم، فلا مقدّم لما أخّره، ولا مؤخّر لما قدّمه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: تقدّم من تشاء، فتجعلهم أنبياء وأولياء وعلماء وفضلاء، وتؤخّر من تشاء، فتجعله فرعون وأبا جهل، أو تُملِّك الملك من تشاء، وتَنزع الملك ممن تشاء، وعلى الجملة فكلّ تقديم وتأخير منه. انتهى

(1)

.

(لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ") أي: لا معبود بحقّ إلا أنت سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 1812 و 1813](771)، و (أبو داود) في "الصلاة"(744 و 760 و 761 و 2509)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(266) و"الدعوات"(3421 و 3422 و 3423)، و (النسائيّ)(2/ 129 و 220)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(864 و 1054)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (1607

(1)

"المفهم" 2/ 403.

ص: 105

و 1608)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1761 و 1762)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(152)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 232)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 94 و 102 و 103)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 282)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(179)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 199) و"مشكل الآثار"(1/ 488)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(462 و 463 و 743)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 296)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1771 و 1772 و 1773)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 32)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(572)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان بعض الأذكار التي تُفتتح بها الصلاة، وهو شاملٌ للمكتوبة، والنافلة، فقد أخرج الحديث الترمذيّ، وأبو داود وابن حبّان، مقيّدًا بالمكتوبة، ولفظه:"إذا قام إلى الصلاة المكتوبة"، وفي رواية للدارقطنيّ:"إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة"، وكذلك رواه الشافعيّ، وقيّده أيضًا بالمكتوبة، فالقول بكون هذا الذكر خصوصًا بصلاة التطوّع كما زعمه الحنفيّة مردودٌ، وإيراد مسلم له هنا في "باب صلاة الليل" لا يدلّ على اختصاصه بها، وأما ما وقع عند النسائيّ بلفظ:"كان إذا قام يصلي تطوّعًا، قال: اللَّه أكبر، وجّهت وجهي. . . إلخ" فليس فيه دليلٌ أيضًا على كونه مخصوصًا بالتطوّع؛ لوجود التقييد بالمكتوبة في أكثر روايات عليّ رضي الله عنه.

وأما ما أجاب به بعض الحنفيّة بأنه كان ذلك في المكتوبة في أول الأمر، كما في "شرح المنية" لابن أمير حاج، فغير صحيح؛ إذ ليس عليه دليلٌ، فتبصّر.

2 -

(ومنها): أن الإمام ابن حبّان رحمه الله استدلّ بهذا الحديث على الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن، وردّ على من زعم ذلك، فقال في "صحيحه":"ذكرُ الخبر الْمُدحِض قول من من زعم أن الدعاء في الصلوات بما ليس في كتاب اللَّه يُبطل الصلاة"، ثم أورد حديث عليّ رضي الله عنه هذا.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: قوله: "سجد وجهي للذي خلقه، وصوَّره، وشَقّ سمعه"، فيه دليل لمذهب الزهريّ أن الأذنين من الوجه، وقال جماعة من العلماء: هما من الرأس، وآخرون: أعلاهما من الرأس، وأسفلهما

ص: 106

من الوجه، وقال آخرون: ما أقبل على الوجه فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس، وقال الشافعيّ، والجمهور: هما عضوان مستقلان، لا من الرأس ولا من الوجه، بل يُطَهَّران بماء مستقل، ومسحهما سنةٌ، خلافًا للشيعة.

وأجاب الجمهور عن احتجاج الزهريّ بجوابين:

أحدهما: أن المراد بالوجه جملة الذات، كقوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، ويؤيد هذا أن السجود يقع بأعضاء أُخَرَ مع الوجه.

والثاني: أن الشيء يضاف إلى ما يجاوره، كما يقال: بساتين البلد، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: مسألة هل الرأس من الوجه، أم لا؟ قد استوفيت بحثها في "شرح النسائيّ"، ورجّحت مذهب من يقول: إنهما من الرأس؛ لقوّة أدلّته، فراجعه

(2)

تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

4 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ دعاء الافتتاح بما في هذا الحديث، إلا أن يكون إمامًا لقوم لا يؤثرون التطويل.

5 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ الذكر في الركوع والسجود والاعتدال والدعاء قبل السلام.

6 -

(ومنها): بيان أن الشرّ لا يضاف إلى اللَّه، وقد تقدّم اختلاف العلماء في معناه، وقد أجاد الإمام ابن القيّم رحمه الله، حيث قال في كتابه "شفاء العليل" في الباب الحادي والعشرين في تنزيه القضاء الإلهي عن الشرّ في الكلام على آية:{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية [آل عمران: 26] ما نصّه: فتناولت الآية ملكه وحده، وتصرفه، وعموم قدرته، وتضمنت أن هذه التصرفات كلها بيده، وأنها كلها خير، فسَلْبُهُ الملكَ عمن يشاء، وإذلاله من يشاء خير، وإن كان شرًّا بالنسبة إلى المسلوب الذليل، فإن هذا التصرف دائر بين العدل والفضل والحكمة والمصلحة، لا تخرج عن ذلك، وهذا كله خير، يُحْمَد عليه الربّ، ويُثْنَى عليه به، كما يُحْمَد ويُثْنَى عليه بتنزيهه عن الشرّ، وأنه ليس إليه كما ثبت في "صحيح

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 60.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 2/ 366 - 381.

ص: 107

مسلم" أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يثني على ربه بذلك في دعاء الاستفتاح، في قوله: "لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشرّ ليس إليك، أنا بك، وإليك، تباركت وتعاليت"، فتبارك وتعالى عن نسبة الشرّ إليه، بل كل ما نُسِب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرًّا لانقطاع نسبته وإضافته إليه، فلو أضيف إليه لم يكن شرًّا، وهو سبحانه خالق الخير والشرّ، فالشرّ في بعض مخلوقاته، لا في خلقه وفعله، وخلقُهُ وفعلُهُ وقضاؤه وقدره خيرٌ كله، ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضعُ الشيء في غير موضعه، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كلّه، والشر وضع الشيء في غير محله، فإذا وُضِعَ في محله لم يكن شرًّا، فعُلِم أن الشرّ ليس إليه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك.

ثم قال: فإن قلت: فلم خلَقه، وهو شرٌّ؟، قلت: خلْقه له وفعله خيرٌ لا شرٌّ، فإن الخلق والفعل قائم به سبحانه وتعالى، والشرّ يستحيل قيامه به، واتّصافه به، وما كان في المخلوق من شرّ فلعدم إضافته ونسبته إليه، والفعل والخلق يُضاف إليه، فكان خيرًا. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وقال العلامة ابن أبي العزّ رحمه الله في "شرح العقيدة الطحاويّة" موضّحًا معنى قوله: "والشرُّ ليس إليك": أي: فإنك لا تخلق شرًّا محضًا، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة، هو باعتبارها خيرٌ، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شرّ جزديّ إضافيّ، فأما شرّ كليّ أو شر مطلقٌ، فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردًا قطّ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 2]، وإما أن يحذف فاعله، كقول الجنّ:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10]، وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل اللَّه من الرحمة والحكمة، لا يقدر قدره إلا اللَّه تعالى، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شرّ جزئيّ بالإضافة يكون شرًّا كليًّا عامًّا، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيرًا، أو

(1)

"شفاء العليل" 1/ 179 - 180.

ص: 108

مصلحةً للعباد، كالمطر العامّ، وكإرسال رسول عامّ، وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيّد كذّابًا عليه بالمعجزات التي أيّد بها الصادقين، فإن هذا شرّ عامّ للناس يُضِلّهم، فيُفسِد عليهم دينهم ودنياهم وأخراهم، وليس هذا كالْمَلِك الظالم والعدوّ، فإن الملك الظالم، لا بدّ أن يدفع اللَّه به من الشرّ أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنةً بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وإذا قُدِّر كثرة ظلمه فذاك خير في الدين، كالمصائب تكون كفارةً لذنوبهم، ويثابون على الصبر عليه، ويرجعون فيه إلى اللَّه، ويسغفرونه، ويتوبون إليه، وكذلك ما يُسَلَّط عليهم من العدوّ، ولهذا قد يُمَكِّن اللَّه كثيرًا من الملوك الظالمين مدّةً، وأما المتنبئون الكذابون فلا يُطيل تمكينهم، بل لا بدّ أن يُهلكهم؛ لأن فسادهم عامّ في الدين والدنيا والآخرة، قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} [الحاقة: 44 - 46]. انتهى كلام أبي العزُّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1813]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ الْمَاجِشُونِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ:"وَجَّهْتُ وَجْهِي"، وَقَالَ:"وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، وَقَالَ: وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، وَقَالَ:"وَصَوَّرَهُ فَأَحْسَنَ صُوَرَهُ"، وَقَالَ: وَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ"، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

(1)

"شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 412 - 413.

ص: 109

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ إمامٌ [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ [10](238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم، البغداديّ، لقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

5 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) الماجشون المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فقيهٌ مصنِّفٌ [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

6 -

(عَمُّهُ الْمَاجِشُونُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) هو: عبد اللَّه بن أبي سلمة التيميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 106)(م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 555.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي: بإسناد الأعرج الماضي، وهو عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ: وَإِذَا سَلَّمَ قَالَ. . . إلخ) لا تنافي بين الروايتين؛ لأن معنى "وإذا سلّم قال. . . إلخ" أي: إذا أراد التسليم، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} الآية [النحل: 98]؛ أي: إذا أردت قراءة القرآن، فيكون قوله:"اللهم اغفر لي. . . إلخ" قبل التسليم.

على أنه لا يبعد أن يكون قاله في الموضعين، قبل التسليم وبعده.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة، عن عمّه الماجشون هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(05)

ثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد العزيز -ابن عبد اللَّه بن أبي سلمة- عن عمه الماجشون بن أبي سلمة، عن الأعرج، عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا استفتح الصلاة يكبر، ثم يقول: "وَجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا

ص: 110

أنت، اصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك، وأتوب إليك"، وإذا ركع قال: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظامي وعصبي"، وإذا رفع رأسه قال: "سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ملء السموات والأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعدُ"، وإذا سجد قال: "اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره، فأحسن صُوَرَهُ، فشق سمعه وبصره، فتبارك اللَّه أحسن الخالقين"، وإذا فرغ من الصلاة وسلم قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت".

قال عبد اللَّه

(1)

قال

(2)

: بلغنا عن إسحاق ابن راهويه، عن النضر بن شُمَيل، أنه قال في هذا الحديث:"والشر ليس إليك" قال: لا يُتَقَرَّب بالشر إليك.

حدّثنا حُجَين، حدّثنا عبد العزيز، عن عمه الماجشون بن أبي سلمة، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة كبّر، ثم قال:"وجهت وجهي. . . " فذكر مثله، إلا أنه قال:"واصرف عني سيئها". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثالث عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" والمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب يوم الاثنين المبارك 21/ 1/ 1427 هـ الموافق (20 فبراير 2006 م).

(1)

هو عبد اللَّه ابن الإمام أحمد، راوي "المسند" عنه.

(2)

الظاهر أنه مؤكّد "قال" الأول.

ص: 111

أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الرابع عشر مفتتحًا بـ (29) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ) رقم الحديث [1814](772).

"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

(29) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1814]

(772) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ الْأَحْنَفِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ "الْبَقَرَةَ"، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 112

الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ

(1)

، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ "النِّسَاءَ"

(2)

، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ "آلَ عِمْرَانَ"، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يَقُولُ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ:"سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى"، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ، قَالَ

(3)

: وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ مِنَ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ:"سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ").

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199) عن (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، ورُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) عن (82) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

4 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

6 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

(1)

وفي نسخة: "يصلي بها ركعةً".

(2)

وفي نسخة: "سورة النساء".

(3)

وفي نسخة: "قال مسلمٌ".

ص: 113

7 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجة ورعٌ، إلا أنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

8 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

9 -

(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السّلميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات في ولاية عمر بن هُبيرة على العراق (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 120.

10 -

(الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ الْأَحْنَفِ) الكوفيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن حذيفة، وابن مسعود، ومَعْقِل بن عامر، وصِلَة بن زُفَر.

وروى عنه سعد بن عُبيدة، وعلقمة بن مرثد، وسلمة بن كهيل، وأبو حَصِين الأَسَديّ.

قال ابن المدينيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة: كان ثقةً، وله أحاديثُ، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

11 -

(صِلَةُ بْنُ زُفَرَ)

(1)

الْعَبسيّ، أبو العلاء، ويقال: أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، تابعيّ كبير [2].

رَوَى عن عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وابن مسعود، وعليّ، وابن عباس.

وروى عنه أبو وائل، وهو أكبر منه، ورِبْعيّ بن حِرَاش، وهو من أقرانه، والمستورد بن الأحنف، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وأيوب السختيانيّ، وغيرهم.

(1)

"صِلَةُ" بكسر الصاد المهملة، و"زُفَر" بضمّ الزاي، وفتح الفاء.

ص: 114

قال ابن خِرَاش: كوفيّ ثقةٌ، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال شعبة: قلبُ صلة من ذهب، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال خليفة: مات في ولاية مصعب بن الزبير، وكذا قال ابن سعيد، وزاد: وكان ثقةً، وله أحاديثُ، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نُمَير، وابن صالح -يعني العجليّ- وقال أبو وائل: لَقِيتُ صلةَ، وكان ما علمت برًّا، وروى ابن أبي حاتم من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قلب صلة بن زفر من ذهب -يعني أنه مُنَوَّرٌ كالذهب-.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (772)، وحديث (2420):"لأبعثنّ إليكم رجلًا أمينًا. . . ".

12 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حِسْل، أو حُسيل العبسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات في أول خلافة عليّ رضي الله عنه سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة أسانيد لخّصها بالتحويل، فقوله:"جميعًا" يعود إلى شيخيه: زهير، وإسحاق، فكلاهما رويا عن جرير بن عبد الحميد، وقوله:"كلُّهم" يرجع إلى الثلاثة، وهم شيوخ شيوخه، وهم عبد اللَّه بن نمير، وأبو معاوية، وجرير بن عبد الحميد، فثلاثتهم رووا عن الأعمش.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، فكلهم كوفيّون، سوى زهير، فبغداديّ، وإسحاق فمروزيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه أربعة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن سعد بن عُبيدة، عن المستورِدِ، عن صِلَة بن زُفَر.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو صاحب سرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعة، كما في "صحيح مسلم"، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 115

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي: ليلةً من الليالي (فَافْتَتَحَ "الْبَقَرَةَ") أي: ابتدأ بقراءة سورة البقرة بعد الفاتحة، وإنما لم يذكرها؛ لكونها معروفة (فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ) وفي نسخة: "يصلي بها ركعةً" بحذف "في"، ومعناه: ظننت أنه يصلّي بها، فيقسمها على ركعتين، وأراد بالركعة الصلاة بكاملها، وهي ركعتان، ولا بدّ من هذا التأويل، فينتظم الكلام بعده، وعلى هذا فقوله:"ثم مضى" معناه: قرأ معظمها بحيث غَلَب على ظني أنه لا يركع الركعة الأولى إلا في آخر البقرة، فحينئذ قلت: يركع الركعة الأولى بها، فجاوز، وافتتح النساء، قاله النوويُّ رحمه الله

(1)

.

(فَمَضَى) أي: استمرّ في قراءته (فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا) أي: ظننت أنه يركع عند آخر "سورة البقرة"(ثُمَّ افْتَتَحَ "النِّسَاءَ") أي: ثم استمرّ بعد أن ختم "البقرة"، فبدأ بقراءة "سورة النساء" (فَقَرَأَهَا) أي: قرأ كل السورة (ثُمَّ افْتَتَحَ "آلَ عِمْرَانَ"، فَقَرَأَهَا) أي: كلها.

قال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليل لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين، حين كتبوا المصحف، وإنه لم يكن ذلك من ترتيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل وَكَلَهُ إلى أمته بعده، قال: وهذا قول مالك، وجمهور العلماء، واختاره القاضي أبو بكر الباقلانيّ، قال ابن الباقلانيّ: هو أصحّ القولين، مع احتمالهما، قال: والذي نقوله: إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التلقين والتعليم، وإنه لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك نصّ، ولا حدّ تحرم مخالفته، ولذلك اختَلَفَ ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان رضي الله عنه، قال: واستجاز النبيّ صلى الله عليه وسلم والأمة بعده في جميع الأعصار ترك ترتيب السور في الصلاة والدرس والتلقين.

قال: وأما على قول من يقول من أهل العلم: إن ذلك بتوقيف من

(1)

"شرح النووي" 6/ 61.

ص: 116

النبيّ صلى الله عليه وسلم حدَّده لهم، كما استقر في مصحف عثمان رضي الله عنه، وإنما اختَلَفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف، والعرض الأخير، فيُتَأَوَّل قراءته صلى الله عليه وسلم "النساء" أوّلًا، ثم "آل عمران" هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب، وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أُبَيّ رضي الله عنه، قال: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى، وإنما يكره ذلك في ركعة، ولمن يتلو في غير صلاة، قال: وقد أباحه بعضهم، وتَأوَّل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسًا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من اللَّه تعالى على ما هي عليه الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يترجّح عندي قول من قال: إن ترتيب السور على ما هي عليه الآن كان بتوقيف من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي العرضة الأخيرة التي عرضها صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام، كما هو المجمع عليه في ترتيب الآيات، فلا فرق بينهما في ذلك، وأما ما ثبت من قراءته صلى الله عليه وسلم "النساء" قبل "آل عمران"، ونحو ذلك فيُحمَلُ على بيان الجواز، وأن الترتيب في القراءة غير لازم، بل في الرسم والكتابة فقط، فيجوز أن يقرأ بالسورة قبل التي قبلها في الرسم.

ويَحتَمِلُ أن يكون ذلك قبل أن يوحى إليه بترتيبها على ما هي عليه الآن، وأما اختلاف مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في ترتيبها، فيُحمَل على عدم وصول العلم إليهم بتوقيف النبيّ صلى الله عليه وسلم بالترتيب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا) أي: مترفِّقًا متمهِّلًا، من قولهم: على رِسْلِكَ؛ أي: على رِفْقِكَ، قال القرطبيُّ: هذا التطويل، وهذه الكيفيّة التي صدرت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة إنما كان منه بحسب وقت صادفه، ووجْدٍ وَجَده، فاستطاب ما كان فيه، واستغرقه عما سواه، وهو موافقٌ لما قاله في حديث آخر:"إذا أمّ أحدكم فليُخفّف، وإذا صلّى وحده فليطوّل ما شاء"

(1)

. انتهى

(2)

.

(1)

متّفقٌ عليه.

(2)

"المفهم" 2/ 405.

ص: 117

(إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آية يُذكر فيها التسبيح، كقوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74]، وقوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1] سبّح اللَّه سبحانه وتعالى (وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ) أي: إذا قرأ آية تحثّ على سؤال اللَّه سبحانه وتعالى سأله، وفي رواية أبي داود:"وما مرّ بآية رحمة إلا وقف عندها، فسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف عندها، فتعوّذ"(وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ) أي: بآية فيها تعوّذ بأن تُذكر فيها النار، أو الوعيد (تَعَوَّذَ) أي: اعتصم باللَّه تعالى من عذابه.

(ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ) أي: شرع (يَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ"، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم مكث في ركوعه طويلًا قريبًا من طول قيامه (ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى") قيل: الحكمة في تخصيص الركوع بـ "العظيم"، والسجود بـ "الأعلى" أن السجود لَمّا كان فيه غاية التواضع؛ لِمَا فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام كان أفضل وأبلغ في التواضع من الركوع، فحسُن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفضيل، وهو "الأعلى"، بخلاف "العظيم"؛ ليكون الأبلغ مع الأبلغ، والمطلق مع المطلق، وأيضًا فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم:"أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجد"، فربّما يُتوهّم قرب المسافة، فنُدب "سبحان ربي الأعلى"؛ دفعًا لهذا التوهّم، وأيضًا في السجود غاية الانحطاط من العبد، فيناسبه أن يصف فيه ربّه بالعلوّ

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ) أي: في الطول.

(قَالَ) وفي نسخة: "قال مسلم"؛ يعني: صاحب الكتاب (وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ) أي: ابن عبد الحميد (مِنَ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ") الزيادة قوله: "ربنا لك الحمد"؛ لأن قوله: "سمع اللَّه لمن حمده"

(1)

راجع: "المرعاة" 3/ 195.

ص: 118

ثابتٌ في روايتهم جميعًا، كما مرّ آنفًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 1814](772)، و (أبو داود) في "الصلاة"(871)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(262)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(1008 و 1009 و 1046 و 1133 و 1664 و 1665)، و"الكبرى"(1080 و 1081)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(897 و 1351)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 248)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(415)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 97 و 382 و 384 و 389 و 394)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 299)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(604 و 668)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1897 و 2604)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 235)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 334)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1706 و 1801 و 1818)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1763 و 1764)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 309 و 310)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(622)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.

2 -

(ومنها): استحباب الترسّل في القراءة.

3 -

(ومنها): بيان استحباب التسبيح عند المرور بآية فيها تسبيح، والسؤال عن قراءة آية فيها سؤال، والتعوذ إذا مرّ بآية فيه ذكر عذاب، وهذا عامّ لكل قارئ في الصلاة وغيرها، وإلى هذا ذهبت الشافعيّة، وقالوا: لا فرق في ذلك بين كون المصلّي إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا، ولا بين الفرض والنفل.

ص: 119

وذهبت الحنفيّة إلى أن ذلك يكون في التطوّع، لا في المكتوبة، وبهذا قالت المالكيّة، وقالوا: إن الدعاء أثناء القراءة في الفريضة مكروه إلا للمأموم، فله أن يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا مرّ ذكره في قراءة الإمام، وأن يسأل الجنّة إذا مرّ بآية فيها ذكرها، وأن يستعيذ من النار إذا مرّ بآية فيها ذكرها

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح عندي القول باستحباب التسبيح والسؤال، والتعوّذ لكلّ قارئ في التطوّع دون الفرض، كما هو مذهب المالكيّة والحنفيّة؛ لأنه المنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل ذلك عنه في الفريضة، فالأولى الاقتصار على مورد النصّ، ولأن الإمام مأمور بالتخفيف، فلا يُشرع له التطويل بما ذُكر، وأما المأموم فلا بأس أن يفعل ذلك؛ لأنه لم يؤمر بالتخفيف كالإمام، فليُتنبّه

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): بيان استحباب تكرير "سبحان ربي العظيم" في الركوع، و"سبحان ربي الأعلى" في السجود، قال النوويُّ رحمه الله: وهو مذهبنا، ومذهب الأوزاعيّ، وأبي حنيفة، والكوفيين، وأحمد، والجمهور، وقال مالك: لا يتعيّن ذكر التسبيح، انتهى.

5 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز تطويل الاعتدال من الركوع، وهو قول الجمهور، وفيه ردّ على الشافعيّة حيث لا يُجيزونه، بل يبطلون به الصلاة، وهذا عجيب مع ثبوت الأحاديث الصحيحة الكثيرة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يُطيله، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

(1)

راجع: "المنهل العذب المورود" 5/ 317 - 318.

(2)

كنت رجّحت في "شرح النسائيّ" ما ذهب إليه الشافعيّة من الاستحباب لكلّ مصلّ فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا، إلا أنه ترجح عندي الآن ما ذكرته، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ص: 120

[1815]

(773) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قَالَ: قِيلَ

(1)

: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ مشهور [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سَلَمَة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه سنة (32) أو قبلها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

والباقون ذُكروا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لاختلافهما في صيغة الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه إسحاق، فمروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

(1)

وفي نسخة: "قال: قلت".

ص: 121

5 -

(ومنها): أن فيه "عبد اللَّه" مهملًا، والقاعدة فيه أنه إذا كان الإسناد كوفيًّا كما هنا كان ابن مسعود رضي الله عنه، وإذا كان بصريًّا فهو ابن عباسّ، أو مدنيًّا، فهو ابن عمر، أو مكيًّا، فهو ابن الزبير، أو مصريًّا أو شاميًّا، فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وقد تقدّم هذا غير مرّة.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنهم أحد السابقين إلى الإسلام، ومن كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم، وقرّائهم، ذو مناقب جمّة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ من طريق شعبة، عن الأعمش:"ليلةً"(فَأَطَالَ) أي: القيام، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"فلم يزل قائمًا"(حَتَّى هَمَمْتُ) أي: أردت وقصدت، يقال: هَمَمتُ بالشيء هَمًّا، من باب نصر: إذا أردته ولم تفعله

(1)

. (بِأَمْرِ سَوْءٍ) بإضافة "أَمْرٍ" إلى "سَوْءٍ"، قاله في "الفتح"، وقال في "المصباح": أساء زيدٌ في فعله، وفَعَلَ سُوءًا بالضمّ، والاسم السُّوءَى على فُعْلَى، وهو رجلُ سَوْءٍ بالفتح والإضافة، وعَمَلُ سَوْءٍ، فإن عَرَّفتَ الأولَ، قلتَ: الرجلُ السَّوْءُ، والعملُ السَّوْءُ على النعت. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": ولا خير في قول السُوْءِ بالفتح والضمّ، إذا فتحتَ فمعناه: في قولٍ قبيحٍ، وإذا ضممتَ فمعناه: في أن تقول سُوءًا، وقُرئ {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] بالوجهين؛ أي: الهزيمةِ والشرِّ والرَّدَى والفسادِ، وكذا أمطرت السماء مطرَ السَّوْء، أو المضموم الضررُ، والمفتوح الفساد والنار، ومنه:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] في قراءةٍ، ورجلُ سَوْءٍ، ورجلُ السَّوْءِ بالفتح والإضافة. انتهى

(3)

.

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 641.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 298.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 18.

ص: 122

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن مما سبق أن "أمر سوء" هنا بالإضافة، فلا يكون "سوء" صفة لـ "أمر"، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو وائل (قِيلَ) وفي نسخة: "قلتُ"، وفي رواية البخاريّ:"قلنا"(وَمَا هَمَمْتَ بهِ؟) أي: أيّ شيء أردت أن تفعله معه صلى الله عليه وسلم؟ (قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ) أي: أترك الصلاة معه، قال في "الفتح": وفي الحديث دليلٌ على اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه قويًّا محافظًا على الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وما هَمَّ بالقعود إلا بعد طولٍ كثيرٍ، ما اعتاده، وأخرج مسلم من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"أفضل الصلاة طول القنوت"، فاستدلّ به على ذلك، ويَحْتَمِلُ أن يراد بالقنوت في حديث جابر رضي الله عنه الخشوع.

وذَهَب كثير من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم إلى أن كثرة الركوع والسجود أفضل، وقد أخرج مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أحبّ الأعمال إلى اللَّه، فقال:"عليك بكثرة السجود للَّه. . . " الحديث.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي -كما استظهره الحافظ رحمه الله أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمن كان قويًّا على تطويل القيام والركوع والسجود، كما هو أكثر فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو الأفضل في حقّه، ومن لا يستطيع ذلك، وكان كثرة الركوع والسجود أخفّ عليه، فهو الأفضل في حقّه، فبهذا يُجمع بين حديثي جابر، وثوبان رضي الله عنهما، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب تطويل صلاة الليل.

2 -

(ومنها): بيان جواز الاقتداء في غير المكتوبات.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار، وأن لا يخالفوا بفعل، ولا قول، ما لم يكن حرامًا، واتَّفَقَ العلماء على أنه إذا شَقَّ على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام، وعَجَزَ عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود رضي الله عنه؛ للتأدب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله النوويُّ رحمه الله.

4 -

(ومنها): أن مخالفة الإمام في أفعاله معدودة في العمل السيِّئ.

ص: 123

5 -

(ومنها): جواز استفهام الإمام ورئيس القوم إذا لم يفهم مراده؛ لأن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه ما عرفوا مراده من قوله: "هممت بأمرِ سَوْءٍ" حتى استفهموه عنه، ولم ينكر عليهم استفهامهم عن ذلك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1816]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَلِيلِ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَلِيلِ) الْخَزّاز -بمعجمات- أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن عليّ بن مُسْهِر، وعبد الرحيم بن سليمان، وحفص بن غياث، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وروى له أبو داود بواسطة الذُّهْليّ حديثًا، والدارميّ، والصنعانيّ، والفَسَويّ، ويعقوب بن شيبة، وغيرهم.

قال أبو حاتم: كان من الثقات، وقال العجليّ: ثقةٌ صاحب سنة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مُطَيَّن: كان ثقةً، وكَتَب عنه ابن نُمَير، ومات سنة (225)، وذكر أبو نعيم الإستراباذيّ أنه مات سنة (224).

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "القدر"، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (773)، و (2263):"رؤيا المسلم يراها أو ترى له. . . "، و (2416):"فداك أبي وأمي".

2 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الهرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمد صدوقٌ، عمي، فتلقّن، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

ص: 124

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد الأعمش الماضي، وهو: عن أبي وائل، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1418)

حدّثنا عبد اللَّه بن عامر بن زُرَارة، وسُويد بن سعيد قالا: حدّثنا علي بن مُسهر، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال: صليت ذات ليلة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمرِ سَوْءٍ، قلت: وما ذاك الأمر؟ قال: هممت أن أجلس، وأتركه. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(30) - (بَابُ بَيَانِ كَرَاهِيَةِ أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ لَيْلَهُ كُلَّهُ لَا يُصَلِّي فِيهِ، وَبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أثَرِ الشَّيْطَانِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1817]

(774) - (حَدَّثَنَا

(1)

عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ، قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ:"ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ"، أَوْ قَالَ:"في أُذُنِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد اللَّه السَّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبت حجةٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وكذا لطائف الإسناد.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 125

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: ذُكِرَ) بالبناء للمفعول (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، لكن أخرج سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ما يؤخذ منه أنه هو، ولفظه بعد سياق الحديث بنحوه:"وايم اللَّه، لقد بال في أذن صاحبكم ليلة" يعني: نفسه. انتهى. (نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ) أي: دخل في الصباح، فـ "أصبح" هنا تامّة، كقوله تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} [الروم: 17].

[تنبيه]: ظاهر إيراد المصنّف رحمه الله لهذا الحديث خلال أحاديث قيام الليل أنه حمله على ترك قيام الليل، ومثله صنيع البخاريُّ رحمه الله، حيث أورده في "كتاب التهجّد".

ويَحْتَمِلُ أنه ترك صلاة العشاء، وقد ذكر ابن حبّان في "صحيحه" عن سفيان الثوريّ أنه قال: هذا عندنا يشبه أن يكون نام عن الفريضة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول عندي أقرب، واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ من طريق أبي الأحوص، عن منصور:"ما زال نائمًا حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة"، قال في "الفتح": المراد الجنس، ويَحْتَمِل العهدَ، ويُراد به صلاة الليل، أو المكتوبة. انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ") بالتثنية (أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: "فِي أُذُنِهِ") بالإفراد.

واختُلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته، قال القرطبيّ وغيره: لا مانع من ذلك؛ إذ لا إحالة فيه؛ لأنه ثبت أن الشيطان يأكل، ويشرب، ويَنكِح، فلا مانع من أن يبول، وقيل: كناية عن سدّ الشيطان أذن الذي نام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر، وقيل: معناه: أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل،

(1)

"صحيح ابن حبان" 6/ 302 رقم (2562).

(2)

"الفتح" 3/ 35.

ص: 126

فحجب سمعه عن الذكر، وقيل: هو كناية عن ازدراء الشيطان به، وقيل: معناه: أن الشيطان استولى عليه، واستخفّ به، حتى اتخذه كالكنيف المعدّ للبول، إذ من عادة المستخفّ بالشيء أن يبول عليه، وقيل: هو مثل مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم، كمن وقع البول في أذنه، فثقّل أذنه، وأفسد حسّه، والعرب تَكني عن الفساد بالبول، قال الراجز:

بَالَ سُهَيْلٌ فِي الْفَضِيخِ فَفَسَدْ

وكنى بذلك عن طلوعه؛ لأنه وقت إفساد الفضيخ، فعبّر عنه بالبول.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي القول الأول هو الصواب، فبول الشيطان في أذن هذا النائم على حقيقته؛ إذ لا مانع من ذلك، كما تقدم عن القرطبي وغيره، فلا داعي لصرف ظاهر النصّ إلى هذه التأويلات التي ذكروها؛ إذ هي تكلفٌ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

ووقع في رواية الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث عند أحمد: "قال الحسن: إن بوله واللَّه لثقيل"، ورَوى محمد بن نصر من طريق قيس بن أبي حازم، عن ابن مسعود رضي الله عنه:"حسبُ الرجل من الخيبة والشرّ أن ينام حتى يصبح، وقد بال الشيطان في أذنه"، وهو موقوف صحيح الإسناد قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: خصّ الأذن بالذكر، وإن كانت العين أنسب بالنوم إشارةً إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الانتباه، وخصّ البول لأنه أسهل مدخلًا في التجاويف، وأسرع نفوذًا في العروق، فيورث الكسل في جميع الأعضاء. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 3/ 35.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1202.

ص: 127

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 1817](774)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1144)، و"بدء الخلق"(3270)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1608، 1609) وفي "الكبرى"(1302)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1330)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 375 و 427)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1130)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2562)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2218)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1766)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 15)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1818]

(775) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ حَدَّثَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ، فَقَالَ: "أَلا تُصَلُّونَ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ، وَهُوَ مُدْبِرٌ، يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(عُقَيْلُ) بن خالد الأمويّ مولاهم الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام فقيهٌ، رأس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

ص: 128

5 -

(عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ، زين العابدين، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ [3].

روى عن أبيه، وعمه الحسن، وأرسل عن جده علي بن أبي طالب، وروى عن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم.

روى عنه أولاده: محمد، وزيد، وعبد اللَّه وعمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطاوس بن كيسان وغيرهم.

مات سنة (93)، وقيل غير ذلك.

أخرج له الجماعة.

6 -

(الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن أبي طالب الهاشميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، وأحد سَيِّدَيْ شباب أهل الجنة.

رَوَى عن جده صلى الله عليه وسلم، وأبيه، وأمه، وخاله هند بن أبي هالة، وعمر بن الخطاب.

ورَوَى عنه أخوه الحسن، وبنوه: عليّ، وزيد، وسكينة، وفاطمة، وابن ابنه أبو جعفر الباقر، والشعبيّ، وعكرمة، وكُرز التيميّ، وسِنَان بن أبي سنان الدُّؤلي، وعبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، والفرزدق، وجماعة.

قال الزبير بن بكار: وُلد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع، وقال جعفر بن محمد: كان بين الحسن والحسين طهر واحد.

وأخرج البخاريّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أُتي عبيد اللَّه بن زياد برأس الحسين عليه السلام، فجُعِل في طست، فجعل يَنكُت، وقال في حسنه شيئًا، فقال أنس: كان أشبههم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوبًا بالوسمة

(1)

.

وأخرج أبو يعلى بسند حسن عن جابر رضي الله عنه قال: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوله

(2)

.

وأخرج أحمد في "مسنده" بسند صحيح عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف النهار، أشعث أغبر، معه قارورة فيها دم يلتقطه، أو يتتبع فيها شيئًا، قال: قلت: يا رسول اللَّه ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قُتل ذلك اليوم.

(1)

"صحيح البخاريّ" 7/ 94.

(2)

رواه أبو يعلى في "مسنده" 3/ 397.

ص: 129

وأخرج ابن ماجه برقم (658) بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حامل الحسين بن علي على عاتقه، ولُعابه يسيل عليه.

وأخرج أحمد، والنسائيّ بسند صحيح عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة"

(1)

.

وأخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأقبل الحسن والحسين، عليهما قميصان أحمران، يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثم قال:"صدق اللَّه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} [التغابن: 15] رأيت هذين، فلم أصبر"، ثم أخذ في الخطبة

(2)

، ومناقبه رضي الله عنه جمّة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (775)، وحديث (1979):"أصبتُ شارفًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مغنم يوم بدر. . . "، وأعاده بعده.

[تنبيه]: كون الحسين هنا بالتصغير هو الموجود في النسخ التي بين أيدينا كلّها، وهكذا قال النوويُّ رحمه الله، ودونك عبارته:

هكذا ضبطناه أن الحسين بن علي -بضم الحاء- على التصغير، وكذا في جميع نسخ بلادنا التي رأيتها مع كثرتها، وذكره الدارقطنيّ في "كتاب الاستدراكات"، وقال: إنه وقع في رواية مسلم أن الحسن -بفتح الحاء- على التكبير، قال الدارقطنيّ: كذا رواه مسلم عن قتيبة أن الحسن بن عليّ، وتابعه على ذلك إبراهيم بن نصر النهاونديّ، والْحُنَينيّ، وخالفهم النسائيّ، والسَّرّاج، وموسى بن هارون، فرووه عن قتيبة أن الحسين؛ يعني: بالتصغير، قال: ورواه أبو صالح، وحمزة بن زياد، والوليد بن صالح عن ليث، فقالوا فيه: الحسن، وقال يونس المؤدِّب، وأبو النضر، وغيرهما عن ليث: الحسين؛ يعني: بالتصغير، قال: وكذلك قال أصحاب الزهريّ، منهم صالح بن كيسان، وابن أبي عتيق، وابن جريج، وإسحاق بن راشد، وزيد بن أبي أُنيسة، وشعيب، وحكيم بن حكيم، ويحيى بن أبي أنيسة، وعُقيل من رواية ابن لَهِيعة عنه،

(1)

"المسند" 3/ 3، و"الخصائص" للنسائيّ (ص 150).

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود 3/ 358.

ص: 130

وعبد الرحمن بن إسحاق، وعبيد اللَّه بن أبي زياد وغيرهم، وأما معمر فأرسله عن الزهريّ، عن علي بن حسين، وقول من قال عن ليث: الحسن بن علي وَهَمٌ؛ يعني: من قاله بالتكبير فقد غَلِطَ، هذا كلام الدارقطنيّ.

وحاصله أنه يقول: إن الصواب من رواية ليث: الحسين بالتصغير، وقد بيّنا أنه الموجود في روايات بلادنا واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويُّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": وحَكَى الدارقطني أن كاتب الليث رواه عن الليث، عن عُقيل، عن الزهريّ، فقال:"عن علي بن الحسين، عن الحسن بن عليّ". وكذا وقع في رواية الحجاج بن أبي مَنِيع، عن جدّه، عن الزهريّ، في تفسير ابن مردويه، وهو وهَمٌ، والصواب:"عن الحسين"، ويؤيّده رواية حَكيم بن حَكيم، عن الزهريّ، عن علي بن الحسين، عن أبيه، أخرجها النسائي والطبريّ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن سند المصنّف رحمه الله على الصواب حيث وقع فيه الحسين مصغّرًا لا مكبّرًا، فلعلّ الدارقطنيّ رحمه الله وجد نسخة أخطأ فيها الناسخ، فكتب الحسن مكبّرًا، فانتقده بناء عليه، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

7 -

(عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه تقدّم قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عُقيل، و"ليث" مصريّ، وقتيبة بغلانيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، والابن عن أبيه عن جدّه.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": إن هذا الإسناد من أصح الأسانيد، ومن أشرف التراجم الواردة فيمن روى عن أبيه، عن جدّه. انتهى، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 64.

(2)

"الفتح" 3/ 14.

ص: 131

شرح الحديث:

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ) أي: أتاه ليلًا، يقال: طَرَق النجمُ طُرُوقًا، من باب قَعَدَ: طَلَعَ، وكلّ ما أتى ليلًا، فقد طَرَقَ، وهو طارق. قاله في "المصباح"، وفي رواية البخاريّ:"طرقه وفاطمةَ بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلةً"، فقوله:"ليلةً" للتأكيد، وحَكَى ابن فارس أن معنى "طَرَقَ": أتى، فعلى هذا يكون قوله:"ليلةً" لبيان وقت المجيء، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله:"ليلةً" أي: مرّة واحدة، قاله في "الفتح".

(وَفَاطِمَةَ) بالنصب عطفًا على الضمير المنصوب (فَقَالَ: "أَلَا تُصَلُّونَ؟ ") بضمير الجمع هكذا هو عند المصنّف، والنسائيّ، قال النوويُّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "تصلّون"، وجمع الاثنين صحيح، لكن هل هو حقيقة، أو مجاز؟ فيه الخلاف المشهور، والأكثرون على أنه مجاز، وقال آخرون: حقيقة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الراجح أنه حقيقة، وإليه ذهب الإمام مالك رحمه الله، وشواهده في كتاب اللَّه تعالى وغيره كثيرة، كقوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الآية [التحريم: 4]، وقوله:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} الآية [النساء: 11]. واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية البخاري: "ألا تصليان" بالتثنية، وهي واضحة.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بيَدِ اللَّهِ) اقتبس عليّ رضي الله عنه ذلك من قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية [الزمر: 42]. وفي رواية النسائيّ من طريق حكيم بن حكيم، عن الزهريّ:"قال عليّ: فجلست، وأنا أَعْرُك عيني، وأنا أقول: واللَّه ما نصلي إلا ما كتب اللَّه لنا، إنما أنفسنا بيد اللَّه".

(فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا) أي: إذا أراد اللَّه تعالى أن يوقظنا أيقظنا، وأصل البعث إثارة الشيء من موضعه (فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي: رجع إلى بيته (حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ) وفي رواية كريمة عند البخاريّ: "حين قلنا ذلك".

زاد في رواية البخاريّ: "ولم يَرجع إليّ شيئًا"، أي: لم يُجبني، وفيه أن

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 65.

ص: 132

السكوت يكون جوابًا، والإعراض عن القول الذي لا يطابق المراد، وإن كان حقًّا في نفسه، قاله في "الفتح".

(ثُمَّ سَمِعْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ مُدْبِرٌ) ولفظ البخاريّ: "وهو مُوَلٍّ" (يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيَقُولُ:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} هذا إنكار لجدل عليّ رضي الله عنه؛ لأنه تمسك بالتقدير، والمشيئة في مقابلة التكليف، وهو مردود، ولا يتأتى إلا عن كثرة جدله، نعم التكليف هنا ندبيّ، لا وجوبي، فلذلك انصرف صلى الله عليه وسلم عنهما، ولو كان وجوبيًّا لما تركهما على حالهما، أفاده السنديُّ رحمه الله.

وقال النوويّ رحمه الله: المختار في معناه أنه تعجّب من سُرعة جوابه، وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه، وقيل: قاله تسليمًا لعذرهما، وأنه لا عتب عليهما. انتهى.

وقال في "الفتح": فيه جواز ضرب الفخذ عند التأسف، وقال ابن التين رحمه الله: كَرِهَ احتجاجه بالآية المذكورة، وأراد منه أن ينسُب التقصير إلى نفسه. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 1818](775)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1127)، و"التفسير"(4724)، و"الاعتصام"(7347)، و"التوحيد"(7465)، وفي "الأدب المفرد"(955)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1611 و 1612)، وفي "الكبرى"(131)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 91 و 112)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1139 و 1140)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2566)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2206 و 2207 و 2208 و 2209)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1767)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 500)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على صلاة الليل، وبيان فضيلتها، وإيقاظ النائمين من

ص: 133

الأهل والقرابة لها، قال الطبريُّ رحمه الله: لولا ما عَلم النبيّ صلى الله عليه وسلم من عِظَم فضل الصلاة في الليل ما كان يُزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله اللَّه لخلقه سَكَنًا، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدَّعَة والسكون، امتثالًا لقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآية [طه: 132]. انتهى.

2 -

(ومنها): أمر الإنسان صاحبه بصلاة الليل، وتعهّد الإمام وكبير القوم رعيّته بالنظر في مصالح دينهم ودنياهم.

3 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ المشيئة للَّه تعالى، وأن العبد لا يفعل شيئًا إلا بمشيئة اللَّه تعالى، قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الإنسان: 30].

4 -

(ومنها): أنه ينبغي للناصح إذا لم تُقبَل نصيحته، أو اعتُذِرَ إليه بما لا يرتضيه أن ينكفّ، ولا يُعنّف إلا لمصلحة.

5 -

(ومنها): أن فيه جواز الانتزاع من القرآن، وترجيح قول من قال: إن اللام في قوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ} للعموم، لا لخصوص الكفار.

6 -

(ومنها): فيه منقبة لعليّ رضي الله عنه، حيث لم يكتم ما فيه عليه أدنى غَضَاضة، فقدّم مصلحة نشر العلم، وتبليغه على كتمه.

7 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": ونقل ابن بطال عن المهلَّب قال: فيه أنه ليس للإمام أن يشدد في النوافل، حيث قَنِعَ صلى الله عليه وسلم بقول عليّ رضي الله عنه:"أنفسنا بيد اللَّه"؛ لأنه كلام صحيح في العذر عن التنفُّل، ولو كان فرضًا ما عذره، قال: وأما ضربه فخذه، وقراءته الآية، فدالّ على أنه ظَنّ أنه أحرجهم، فَنَدِمَ على إنباههم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كذا قال المهلّب، وأقرّه ابن بطال، وفيه نظر لا يخفى، بل الأظهر أنه صلى الله عليه وسلم إنما فَعل ذلك كَراهةً لاحتجاج عليّ رضي الله عنه بالآية المذكورة، فإن الأولى في مثل هذا أن ينسُب التقصير إلى نفسه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 3/ 15.

ص: 134

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1819]

(776) - (حَدَّثَنَا

(1)

عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ

(2)

عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلَاثَ عُقَدٍ، إِذَا نَامَ، بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ: عَلَيْكَ لَيْلًا طَوِيلًا، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ، فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَتَانِ، فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل أَذَنَةَ، ثقةٌ حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجة إمام مشهورٌ، من رؤوس [8](198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

4 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

5 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه: فالأول ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "قال: يعقد الشيطان".

ص: 135

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من أبي الزناد، وسفيان مكيّ، وشيخاه بغداديّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي: يرفع هذا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه من كلام الأعرج، وإنما عدل عن قوله:"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، أو نحو ذلك؛ لكونه نسي الصيغة التي قالها أبو هريرة رضي الله عنه، هل هي "قال رسول اللَّه"، أو "حدّثنا"، أو نحو ذلك، فأتى بصيغة تشمل كلّ الصيغ الصالحة لذلك، واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ، من طريق مالك، عن أبي الزناد:"عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال إلخ".

("يَعْقِدُ) بكسر القاف، من باب ضرب (الشَّيْطَان) أي: إبليس، أو بعض جنوده، ولعله بالنظر إلى كل شخص شيطانه، قاله السنديّ، وقال في "الفتح": كأن المراد به الجنس، وفاعل ذلك هو القرين، أو غيره، ويَحْتَمِل أن يراد به رأس الشياطين، وهو إبليس، وتُجوّز نسبة ذلك إليه؛ لكونه الآمر به الداعي إليه. انتهى

(1)

.

(عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ) أي: مؤخّر عنقه، وقافيةُ كل شيء مؤخّره، ومنه قافية القصيدة، وفي "النهاية": القافية القفا، وقيل: مؤخّر الرأس، وقيل: وسطه.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: القافية: القفا، وقيل: قافية الرأس مؤخّره، وقيل: وسطه، أراد تثقيله في النوم وإطالته، فكأنه قد شدّ عليه شِدادًا، وعقد ثلاث عُقد. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 3/ 31.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1200.

ص: 136

وظاهر قوله: "أحدكم" التعميم في المخاطبين، ومن في معناهم، ويمكن أن يُخصّ منه مَن وَرَدَ في حقّه أنه يُحْفَظ من الشيطان، كالأنبياء عليهم السلام، ومن تناوله قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وكمن قرأ آية الكرسيّ عند نومه، فقد ثبت أنه يُحفظ من الشيطان حتى يُصبح، أفاده في "الفتح".

وقال في موضع آخر: وقد يُظَنّ أن بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إن قارئ آية الكرسيّ عند نومه لا يقربه الشيطان" معارضة، وليس كذلك؛ لأن العقد إن حُمل على الأمر المعنويّ، والقربَ على الأمر الحسيّ، وكذا العكس، فلا إشكال؛ إذ لا يلزم من سحره إياه مثلًا أن يماسّه، كما لا يلزم من مماسّته أن يقربه بسرقة، أو أذى في جسده، ونحو ذلك، وإن حُملا على المعنيين، أو العكس، فيجاب بادّعاء الخصوص في عموم أحدهما، والأقرب أن المخصوص حديث الباب، كما تقدّم تخصيصه عن ابن عبد البرّ بمن لم ينو القيام، فكذا يمكن أن يقال: يختصّ بمن لم يقرأ آية الكرسيّ؛ لطرد الشيطان عنه. انتهى، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(ثَلَاثَ عُقَدٍ) منصوب على المفعوليّة لـ "يَعْقِد"، و"الْعُقَد" بضمّ، ففتح جمع عُقْدة، بضمّ، فسكون، قال البيضاويُّ رحمه الله: التقييد بالثلاث، إما للتأكيد، أو لأن ما تنحلّ به عقده ثلاثة أشياء: الذكر، والوضوء، والصلاة، فكأن الشيطان مَنَعَ عن كلّ واحدة منها بعقدة عقدها. انتهى.

(إِذَا نَامَ) ظرف لـ "يعقد"، وفي رواية البخاريّ:"إذا هو نام"، قال في "الفتح": للأكثر، وللحموي والمستملي:"إذا هو نائمٌ"، بوزن فاعل، والأول أصوب، وهو الذي في "الموطّأ". انتهى.

(بِكُلِّ عُقْدَةٍ) متعلّق بـ "يضرب"، وللبخاريّ:"يضرب على مكان كلّ عُقدة"، قال في "الفتح": كذا للمستملي، ولبعضهم بحذف "على"، وللكشميهنيّ بلفظ:"عند مكان". انتهى.

وقوله: (يَضْرِبُ) أي: بيده على العقدة تأكيدًا وإحكامًا لها قائلًا: "عليك ليلًا طويلًا"، وقيل: معنى "يضرب": يَحْجُب الحسّ عن النائم حتى لا يستيقظ، ومنه قوله تعالى:{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف: 11]؛ أي: حجبنا

ص: 137

الحسّ أن يَلِجَ في آذانهم، فينتبهوا، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"ما أحد ينام، إلا ضُرِب على سِمَاخِه بجرير معقود"، أخرجه المخلص في "فوائده"، و"السماخ" -بكسر المهملة، وآخره معجمة، ويقال بالصاد المهملة بدل السين-، وعند سعيد بن منصور بسند جيّد عن ابن عمر رضي الله عنهما:"ما أصبح رجل على غير وتر إلا أصبح على رأسه جرير قدر سبعين ذراعًا".

(عَلَيْكَ لَيْلًا طَوِيلًا) هكذا هو في معظم نسخ بلادنا في "صحيح مسلم"، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين:"عليك ليلًا طويلًا" بالنصب على الإغراء، ورواه بعضهم:"عليك ليلٌ طويلٌ" بالرفع؛ أي: بقي عليك ليلٌ طويلٌ، قاله النوويُّ رحمه الله.

ووقع عند البخاريّ في جميع طرقه: "عليك ليلٌ طويلٌ" بالرفع على الابتداء؛ أي: باق عليك، أو بإضمار فعل؛ أي: بَقِيَ.

وقال القرطبيُّ رحمه الله: روايتنا الصحيحة: "عليك ليلٌ طويلٌ" على الابتداء والخبر، وقد وقع في بعض الروايات:"عليك ليلًا طويلًا" بالنصب على الإغراء، والرفع أولى من جهة المعنى؛ لأنه الأمكن في الغرور من حيث إنه يخبره عن طول الليل، ثم يأمره بالرُّقَاد بقوله:"فارقُدْ"، وإذا نُصِب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرُّقَاد، وحينئذ يكون قوله:"فارقُدْ" ضائعًا. انتهى

(1)

.

ومقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام، والإلباس عليه.

قال في "الفتح": ظاهره اختصاص ذلك بنوم الليل، وهو كذلك، لكن لا يبعد أن يجيء مثله في النهار كالنوم حالة الإبراد مثلًا.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: قوله: "يضرب على كلّ عُقدة عليك ليل طويلٌ": "على" الأولُ متّصلٌ بـ "يضرب"، والثاني مع ما بعده مفعول للقول المحذوف؛ أي: يُلقي الشيطان على كلّ عقدة يعقدها هذا القول، وهو قوله:"عليك ليلٌ طويلٌ"، قال صاحب "المغرب": يقال: ضرب الشَّبَكةَ على الطائر: ألقاها عليه، و"عليك" إما خبر لقوله:"ليلٌ"؛ أي: ليلٌ طويلٌ باق عليك، أو إغراء؛

(1)

"المفهم" 2/ 409.

ص: 138

أي: عليك بالنوم أمامك ليلٌ طويلٌ، فالكلام حينئذ جملتان، والثانية مستأنفة، كالتعليل للأولى. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال القرطبيُّ رحمه الله: هذا الذي يعقده الشيطان كأنه من باب عَقد السواحر {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] وذلك أنهنّ يأخذن خيطًا، فيعقدن عليه عقدةً منه، ويتكلّمن بالسحر، فيتأثّر المسحور عند ذلك، إما بمرض، أو تخييل، أو تحريك قلب، أو تحزين، أو غير ذلك، فشُبّه فعل الشيطان بالنائم بفعل السواحر، وذلك أن النائم كلّما أراد أن يقوم ليذكر اللَّه تعالى، أو يصلّي غرّه وخَدَعه، بأن يقول له: عليك ليلٌ طويلٌ فارقُد، فيُريه أنه لطول ما بقي عليه من الليل ما يمكنه استيفاء راحته من النوم، وقيامه بعد ذلك لحزبه، فيُصغي لذلك ويرقُد، ثم إن استيقظ ثانيةً فعل به ذلك، وكذلك ثالثةً، فلا يستيقظ من الثالثة إلا وقد طلع الفجر، فيفوته ما كان أراد من القيام. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وقد اختُلِفَ في هذه العُقَد، فقيل: هو على الحقيقة، وأنه كما يَعْقِد الساحر مَن يسحره، وأكثر من يفعله النساء، تأخذ إحداهنّ الخيط، فتعقد منه عُقدة، وتتكلّم عليه بالسحر، فيتأثّر المسحور عند ذلك، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق: 4]، وعلى هذا فالمعقود شيء عند قافية الرأس، لا قافية الرأس نفسها، وهل العقد في شعر الرأس، أو في غيره؟ الأقرب الثاني؛ إذ ليس لكلّ أحد شعر، ويؤيده ما ورد في بعض طرقه أن على رأس كل آدمي حبلًا، ففي رواية ابن ماجه، ومحمد بن نصر من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"على قافية رأس أحدكم حبل، فيه ثلاث عُقَد"، ولأحمد من طريق الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"إذا نام أحدكم عُقِد على رأسه بجرير"، ولابن خزيمة، وابن حبّان من حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا:"ما من ذَكَر، ولا أنثى إلا على رأسه جَرير معقود حين يرقُد. . . " الحديث، وفي "الثواب" لآدم بن أبي إياس من مرسل الحسن نحوه.

و"الجرير" بفتح الجيم: هو الحبل، وفَهِمَ بعضهم من هذا أن العُقَدَ

(1)

"الكاشف" 4/ 1200 - 1201.

(2)

"المفهم" 2/ 408 - 409.

ص: 139

لازمة، ويردّه التصريح بأنها تنحلّ بالصلاة، فيلزم إعادة عَقْدها، فأبهم فاعله في حديث جابر، وفُسّر في حديث غيره.

وقيل: هو على المجاز كأنه شُبّه فعل الشيطان بالنائم بفعل الساحر بالمسحور، فلما كان الساحر يمنع بعقده ذلك التصرّف مَن يحاول عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم.

وقيل: المراد به عقد القلب، وتصميمه على الشيء، كأنه يوسوس له بأنه بقي من الليلة قطعة طويلة، فيتأخّر عن القيام، وانحلال العُقَد كناية عن علمه بكذبه فيما وسوس به.

وقيل: العقد كناية عن تثبيط الشيطان للنائم بالقول المذكور، ومنه عَقَدت فلانًا عن امرأته؛ أي: منعته عنها، أو عن تثقيله عليه النوم، كأنه قد شدّ عليه شدادًا.

وقال بعضهم: المراد بالعُقَد الثلاث الأكل، والشرب، والنوم؛ لأن من أكثر الأكل والشرب كثُر نومه. واستبعده المحبّ الطبريّ؛ لأن الحديث يقتضي أن العُقَد تقع عند النوم، فهي غيره.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى على البصير أن الصواب حمل الحديث على ظاهره، فعقد الشيطان على قافيته عقد ظاهرٌ، لا مجازٌ، فكما يعقد الساحر الحبل على المسحور، كذلك الشيطان يعقد العقد الثلاث على قافية النائم، فتبصّر واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال القرطبيُّ رحمه الله: الحكمة في الاقتصار على الثلاث أن أغلب ما يكون انتباه الإنسان في السَّحَر، فإن اتفق له أن يستيقظ، ويرجع إلى النوم ثلاث مرّات لم تنقَض النومة الثالثة في الغالب إلا وقد ذهب الليل، وطلع الفجر.

وقال البيضاويّ: التقييد بالثلاث إما للتأكيد، أو لأنه يريد أن يقطعه عن ثلاثة أشياء، الذكر، والوضوء، والصلاة، فكأنه مُنع من كل واحدة منها بعقدة عقدها على رأسه، وكأن تخصيص القفا بذلك لكونه محلّ الوهم، ومجال تصرّفه، وهو أطوع القُوَى للشيطان، وأسرعها إجابة لدعوته

(1)

.

(1)

"الفتح" 3/ 31 - 32.

ص: 140

وفي كلام الشيخ الملويّ: أن العقد يقع على خِزَانة الإلهيات من الحافظة، وهي الكنز المحصّل من القوى، ومنها يتناول القلب ما يريد التذكر به

(1)

. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأولى عدم الخوض في مثل هذا؛ إذ لم يأت من الشارع تحقيق ذلك، فليُسلّم له علم حقيقته، ولنكتف بظاهر ما صحّ لدينا، وهو ضرب الشيطان على قافية رأس النائم، ففيه السلامة من القول بلا علم، قال اللَّه تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [الإسراء: 36]، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

زاد في رواية البخاريّ: "فارقُدْ" أي: نَمْ.

(فَإِذَا اسْتَيْقَظَ) أي: من نومه (فَذَكَرَ اللَّهَ) قال في "الفتح": لا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره، بل كل ما صدق عليه ذكر اللَّه أجزأ، ويدخل فيه تلاوة القرآن، وقراءة الحديث النبويّ، والاشتغال بالعلم الشرعيّ، وأولى ما يُذكر به ما أخرجه البخاريّ من حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من تعارّ من الليل، فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد للَّه، وسبحان اللَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه، ثم قال: اللهم اغفر لي -أو دعا- استجيب له، فإن توضأ قُبلت صلاته". انتهى.

(انْحَلَّتْ) أي: انفتحت (عُقْدَةٌ) أي: واحدة من تلك العقد الثلاث، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"انحلّ عُقَده" بلفظ الجمع بلا اختلاف في نسخه، قال في "الفتح": ووقع لبعض رواة "الموطأ" بالإفراد -يعني: كرواية مسلم هنا- قال: ويؤيّده رواية أحمد المشار إليها قبلُ، فإن فيها:"فإن ذكر اللَّه انحلّت عقدة واحدة، وإن قام، فتوضأ أُطلقت الثانية، فإن صلى أطلقت الثالثة"، وكأنه محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعًا، فيحتاج إلى الوضوء إذا انتبه، فيكون لكلّ فعل عقدة يحلُّها. انتهى.

(وَإِذَا تَوَضَّأَ) إنما خصّ الوضوء بالذكر؛ لأنه الغالب، وإلا فالجنب لا

(1)

"الفتح" 3/ 32.

ص: 141

تُحَلُّ عقدته إلا بالاغتسال، وهل يقوم التيمم مقام الوضوء، أو الغسل لمن ساغ له ذلك؟ محل بحث، قال الحافظ: والذي يظهر إجزاؤه، ولا شكّ أن في مُعاناة الوضوء عونًا كبيرًا على طرد النوم لا يظهر مثله في التيمم.

(انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَتَانِ) الأولى بالذكر، والثانية بالوضوء، وقال النوويُّ رحمه الله: معناه: تمام عقدتين؛ أي: انحلَّت عقدة ثانيةٌ، وتَمّ بها عقدتان، وهو بمعنى قول اللَّه تعالى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] أي: في تمام أربعة، ومعناه في يومين آخرين، تمّت الجملة بهما أربعة أيام، ومثله في الحديث الصحيح:"من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى توضع في القبر فقيراطان"، هذا لفظ إحدى روايات مسلم، ورَوَى البخاريّ ومسلم من طرُق كثيرة بمعناه، والمراد قيراطان بالأول، ومعناه أن بالصلاة يحصل قيراط، وبالاتّباع قيراط آخر، يتم به الجملة قيراطان.

ودليل أن الجملة قيراطان رواية مسلم في "صحيحه": "من خرج مع جنازة من بيتها، وصلى عليها، ثم تَبِعها حتى تُدْفَن كان له قيراطان من الأجر، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد".

وفي رواية للبخاريّ في أول "صحيحه": "من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتى يصلى عليها، ويُفْرَغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تُدفَن، فإنه يرجع بقيراط"، وهذه الألفاظ كلها من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.

ومثله في "صحيح مسلم": "من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله"، وقد سبق بيانه في موضعه. انتهى كلام النوويُّ رحمه الله

(1)

.

(فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ) بصيغة الجمع؛ أي: العُقَد الثلاث، قال في "الفتح": وظاهره أن العُقَد تنحلّ كلّها بالصلاة خاصّةً، وهو كذلك في حقّ من لم يَحتج إلى الطهارة، كمن نام متمكّنًا مثلًا، ثم انتبه، فصلّى من قبل أن

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 66.

ص: 142

يذكر اللَّه، أو يتطهّر، فإن الصلاة تجزئه في حلّ الْعُقَد كلّها؛ لأنها تستلزم الطهارة، وتتضمّن الذكر، وعلى هذا فيكون معنى قوله:"فإذا صلى انحَلَّت عُقَدُهُ كلُّها" إن كان المراد به من لا يحتاج إلى الوضوء فظاهر على ما قررناه، وإن كان من يحتاج إليه، فالمعنى انحلَّت بكلٍّ عقدةٌ، أو انحلت عقده كلُّها بانحلال الأخيرة التي بها يتم انحلال العُقَد.

وفي رواية أحمد: "فإن قام فذكر اللَّه انحلت واحدة، فإن قام فتوضأ أُطلقت الثانية، فإن صلى أُطلقت الثالثة"، وهذا محمول على الغالب، وهو من ينام مضطجعًا، فيحتاج إلى تجديد الطهارة عند استيقاظه، فيكون لكل فعلٍ عقدةٌ يحُلُّها. انتهى.

(فَأَصْبَحَ) أي: دخل في الصباح، أو صار (نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ) أي: لسروره بما وفّقه اللَّه تعالى له من الطاعة، مع ما يبارك له في نفسه وتصرفه في كل أموره، وبما وَعَده من الثواب، وبما زال عنه من عُقَد الشيطان، قاله النوويُّ رحمه الله.

قال الحافظ: كذا قيل، والذي يظهر أن في صلاة الليل سرًّا في طيب النفس، وإن لم يستحضر المصلي شيئًا مما ذُكِر وكذا عكسه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} [المزمل: 6]، وقد استنبط بعضهم منه أن من فعل ذلك مرّةً، ثم عاد إلى النوم لا يعود إليه الشيطان بالعَقْد المذكور ثانيًا.

واستثنى بعضهم ممن يقوم، ويذكر، ويتوضأ، ويصلي من لم ينهه ذلك عن الفحشاء، بل يفعل ذلك من غير أن يُقلع، والذي يظهر فيه التفصيل بين من يفعل ذلك مع الندم والتوبة والعزم على الإقلاع، وبين الْمُصِرّ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: قوله: "فأصبح نشيطًا طيّب النفس" مُثّلت حالة من لم يتكاسل، ولم ينم عن وظائفه التي تُسرع به إلى مقام الزُّلْفَى، وتُنشّطه لاكتساب السعادة الْعُظمى، فكلما همّت النفس اللوّامة بالسلوك تداركها التوفيق بالخلاص من نفث الشيطان في عُقَد النفس الأمارة بالسوء، فتُصبح مطمئنّةً نشيطةَ القلب، طيّبة النفس ظاهرًا في سيمائها أثرُ السجود بحالة من أسره العدوّ، وشدّ على قفاه برِبْقة الأسر عُقْدة بعد عقدة استيثاقًا، وهو يتحرّى الخلاص منه بلطائف

ص: 143

حيله مرّةً بعد أخرى حتى يتخلّص منه بالكلّيّة، ويذهب لسبيله بلا مانع ولا منازع، بخلاف من أطاع الشيطان حتى يتمكّن من النفس الأمارة، يضرب العقد على قافية رأسه، فهل يستويان؟ {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} [الملك: 22]. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَإِلَّا) ليست أداة استثناء، وإنما هي "إن" الشرطيّة أُدغمت في "لا" النافية؛ أي: وإن لم يفعل ما ذُكر من الذكر، والوضوء، والصلاة (أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ) أي: بتركه ما كان اعتاده، أو أراده من فعل الخير، كذا قيل، وقد تقدم ما فيه، قاله في "الفتح".

وقال النوويُّ رحمه الله: معناه: لِمَا عليه من عُقَد الشيطان وآثار تثبيطه، واستيلائه، مع أنه لم يزل ذلك عنه. انتهى.

وقال القرطبيُّ: قوله: "أصبح خبيث النفس" أي: بشؤم تفريطه، وبإتمام خديعة الشيطان عليه؛ إذ قد حمله على أن فاته الحظّ الأوفر من قيام الليل.

وقوله: "كسلان" أي: متثاقلًا عن الخيرات، فلا يكاد تسخو نفسه، ولا تخفّ عليها صلاةً ولا غيرها من القربات، وربّما يحمله ذلك على تضييع الواجبات. انتهى

(2)

.

وقوله: (كَسْلَانَ") غير منصرف للوصف، ولزيادة الألف والنون، وهو مذكّر كَسْلَى، وقد وقع لبعض رواة "الموطّأ":"كسلانًا" مصروفًا، وليس بشيء، قاله القرطبيُّ رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "وليس بشيء" فيه نظرٌ؛ لأنه إن صحّ رواية فله وجه صحيح في العربيّة، وذلك أن يُحمل على لغة بني أسد، فإنهم يصرفون كل صفة جاء على فعلان، كسكران، وعطشان، وغضبان؛ لأنهم يؤنّثونه بالتاء، ويستغنون بفعلانة عن فَعْلَى، بخلاف لغة غيرهم من العرب

(4)

، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1201.

(2)

"المفهم" 2/ 409 - 410.

(3)

"المفهم" 2/ 410.

(4)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 154.

ص: 144

قال في "الفتح": ومقتضى قوله: "وإلا أصبح" أنه إن لم يجمع الأمور الثلاثة دخل تحت من يصبح خبيثًا كسلان، وإن أتى ببعضها، وهو كذلك، لكن يَختلف ذلك بالموّة والخفّة، فمن ذكر اللَّه مثلًا كان في ذلك أخفّ ممن لم يذكر أصلًا، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"فإن قام فصلى انحلّت العُقَد كلهنّ، وإن استيقظ، ولم يتوضأ، ولم يصلّ أصبحت العقد كلها كهيئتها".

وقال ابن عبد البرُّ رحمه الله: هذا الذمّ يختصّ بمن لم يَقُم إلى صلاته وضيّعها، أما من كانت عادته القيام إلى الصلاة المكتوبة، أو إلى النافلة بالليل، فغلبته عينه، فنام، فقد ثبت أن اللَّه يكتب له أجر صلاته، ونومُهُ عليه صدقة.

وقال أيضًا: زعم قوم أن هذا الحديث يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم خبُثت نفسي"، وليس كذلك؛ لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذمًّا لفعله، ولكلّ من الحديثين وجه.

وقال الباجيّ: ليس بين الحديثين اختلاف؛ لأنه نَهَى عن إضافة ذلك إلى النفس؛ لكون الخبث بمعنى فساد الدين، ووَصَفَ بعضَ الأفعال بذلك تحذيرًا منها وتنفيرًا.

قال الحافظ رحمه الله: تقرير الإشكال أنه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن إضافة ذلك إلى النفس، فكل ما نُهي المؤمن أن يضيفه إلى نفسه نُهي أن يضيفه إلى أخيه المؤمن، وقد وَصَفَ صلى الله عليه وسلم هذا المرء بهذه الصفة، فيلزم جواز وصفنا له بذلك لمحل التأسي، ويحصل الانفصال فيما يظهر بأن النهي محمول على ما إذا لم يكن هناك حامل على الوصف بذلك، كالتنفير والتحذير.

[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو الفضل العراقيُّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" أن السرّ في استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين المبادرةُ إلى حلّ عُقَد الشيطان، وبناه على أن الحلّ لا يتمّ إلا بتمام الصلاة، وهو واضح؛ لأنه لو شرع في صلاة، ثم أفسدها لم يساو من أتمّها، وكذا الوضوء، وكأن الشروع في حلّ العقد يحصل بالشروع في العبادة، وينتهي بانتهائها.

ص: 145

وقد ورد الأمر بصلاة الركعتين الخفيفتين عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاندفع إيراد من أورد أن الركعتين الخفيفتين إنما وردتا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهو منزّه عن عَقْد الشيطان، حتى ولو لم يَرِد الأمر بذلك لأمكن أن يقال: يُحْمَل فعله على تعليم أمته، وإرشادهم إلى ما يحفظهم من الشيطان.

وقد وقع عند ابن خزيمة من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه في آخر الحديث: "فحُلُّوا عقد الشيطان ولو بركعتين"، قاله في "الفتح"، وهو بحث نفيس جدًّا.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح" أيضًا: ادَّعَى ابن العربيّ أن البخاريّ أومأ هنا إلى وجوب صلاة الليل لقوله: "يعقد الشيطان"، وفيه نظرٌ، فقد صرَّح البخاريّ في خامس ترجمة من أبواب التهجد بخلافه، حيث قال:"من غير إيجاب"، وأيضًا فما تقدم تقريره من أنه حَمَل الصلاة هنا على المكتوبة يدفع ما قاله ابن العربي أيضًا.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أر النقل في القول بإيجابه إلا عن بعض التابعين، قال ابن عبد البرّ: شَذّ بعض التابعين، فأوجب قيام الليل، ولو قدر حلب شاة، والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه، ونقله غيره عن الحسن وابن سيرين، والذي وجدناه عن الحسن ما أخرجه محمد بن نصر وغيره عنه أنه قيل له: ما تقول في رجل استظهر القرآن كله لا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ فقال: لعن اللَّه هذا إنما يتوسد القرآن، فقيل له: قال اللَّه تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، قال: نعم، ولو قدر خمسين آية، وكأن هذا هو مستند مَن نقل عن الحسن الوجوب.

ونقل الترمذيّ عن إسحاق ابن راهويه أنه قال: إنما قيام الليل على أصحاب القرآن، وهذا يخصص نُقِل عن الحسن، وهو أقرب، وليس فيه تصريح بالوجوب أيضًا. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.

ص: 146

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 1819](776)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1142) و"بدء الخلق"(3269)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1306)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1607) و"الكبرى"(1301)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 176)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 243)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1131)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2553)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2215 و 2216 و 2217)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1768)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 15 و 16)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الترغيب في قيام الليل.

2 -

(ومنها): بيان تسلط الشيطان على الإنسان، وحرصه على أن لا يتقرّب إلى ربّه، فيصدّه عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة.

3 -

(ومنها): الحثّ على ذكر اللَّه تعالى عند الاستيقاظ، وجاءت فيه أذكار مخصوصة مشهورة في الصحيح، ولا يتعين لهذه الفضيلة ذكر، لكن الأذكار المأثورة فيه أفضل.

4 -

(ومنها): التحريض على الوضوء حينئذ، وعلى الصلاة، وإن قَلّت.

5 -

(ومنها): بيان فضل ذكر اللَّه تعالى، والوضوء، والصلاة، حيث تنحلّ بها العُقَد التي يعقدها الشيطان على رأس الإنسان.

6 -

(ومنها): بيان أن من اجتهد، ودفع عن نفسه مكائد الشيطان، فاز بالنفحات الربانية، فأصبح طيّب النفس، نشيطًا، ومن تقاعس عن ذلك، ولم يجتهد، فقد وافق مراد الشيطان، وابتعد عن تلك النفحات، فأصبح خبيث النفس، كسلان، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 147

(31) - (بَابُ بَيَانِ أَفْضَلِيّةِ أَدَاءِ النَّوَافِلِ فِي الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1820]

(777) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا

(2)

يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(يَحْيَى) بن سعيد القطّان الأحول، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمام حجة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 117) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه رضي الله عنهما، مات رضي الله عنه سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

ص: 148

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عبيد اللَّه، والباقيان بصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، رَوَى (2630) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: "مِنْ" للتبعيض، والمراد النوافل بدليل حديث جابر رضي الله عنه التالي:"إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته".

وقال القاضي عياض رحمه الله: قيل: هذا في الفريضة، ومعناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم، ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة، وعبيد، ومريض، ونحوهم، قال: وقال الجمهور: بل هو في النافلة، لإخفائها، وللحديث الآخر:"أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

قال النووي: الصواب أن المراد النافلة، وجميع أحاديث الباب تقتضيه، ولا يجوز حمله على الفريضة. انتهى.

قال الحافظ بعد نقل كلام عياض ما نصه: وهذا، وإن كان محتمِلًا، لكن الأول هو الراجح.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما صوّبه النوويّ رحمه الله هو الحقّ عندي، وكونه محتملًا للفريضة كما قال الحافظ بعيد، وكيف يَحْتَمِل، مع حديث:"فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"؟، واللَّه تعالى أعلم.

قال النوويّ رحمه الله: وإنما حثّ على النافلة في البيت، لكونه أخفى، وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرّك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة، والملائكة، وينفر منه الشيطان، كما جاء في الحديث الآخر، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه بعده:"فإن اللَّه جاعل في بيته من صلاته خيرًا".

(وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا") أي: لا تصيّروها كالقبور التي ليست فيها صلاة، وقال السنديُّ رحمه الله: أي: كالقبور في الخلوّ عن ذكر اللَّه، والصلاة، أو لا

ص: 149

تكونوا كالأموات في الغفلة عن ذكر اللَّه تعالى، والصلاة، فتكون البيوت لكم قبورًا، مساكن للأموات. انتهى.

[تنبيه]: احتجّ الإمام البخاريُّ رحمه الله في "صحيحه" بهذا الحديث على كراهية الصلاة في المقابر، فقال:"باب كراهية الصلاة في المقابر"، فاعتَرَض عليه الإسماعيليّ بأن الحديث دالّ على كراهة الصلاة في القبر، لا في المقابر.

ورُدّ عليه بأنه قد ورد الحديث بلفظ "المقابر" كما رواه مسلم الآتي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر".

وقال ابن التين: تأوّله البخاريّ على كراهة الصلاة في المقابر، وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت؛ إذ الموتى لا يصلّون، كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلّون في بيوتهم، وهي القبور، قال: فأما جواز الصلاة في المقابر، أو المنع منه، فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: إن أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق، فمسلّم، وإن أراد نفي ذلك مطلقًا، فلا، فقد قدّمنا وجه استنباطه.

وقال في "النهاية"، تبعًا لـ "المطالع": إن تأويل البخاريّ مرجوح، والأولى قول من قال: معناه إن الميت لا يصلي في قبره.

وقد نقل ابن المنذر رحمه الله عن أكثر أهل العلم أنهم استدلّوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغويّ في "شرح السنّة"، والخطابيّ، وقال أيضًا: يَحْتَمِل أن المراد: لا تجعلوا بيوتكم وطنًا للنوم فقط، لا تصلّون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يصلّي.

وقال التوربستيّ: حاصل ما يَحْتَمِله أربعة معان، فذكر الثلاثة الماضية، ورابعها: يَحْتَمِل أن يكون المراد أنّ مَن لم يصلّ في بيته جعل نفسه كالميت، وبيته كالقبر.

قال الحافظ: ويؤيده ما رواه مسلم: "مثلُ البيت الذي يُذكرُ اللَّهُ فيه، والبيت الذي لا يُذكر اللَّه فيه، كمثل الحيّ والميت".

قال الخطابيّ: وأما مَن تأوّله على النهي عن دفن الموتى في البيوت، فليس بشيء، فقد دُفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته.

ص: 150

قال الحافظ رحمه الله: ما ادَّعَى أنه تأويل هو ظاهر لفظ الحديث، ولا سيّما إن جُعل النهي حكمًا منفصلًا عن الأمر، وما استَدَلّ به على ردّه تَعَقّبه الكرمانيّ، فقال: لعلّ ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي أن الأنبياء يُدفنون حيث يموتون.

قال الحافظ: هذا الحديث رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن أبي بكر رضي الله عنه مرفوعًا:"ما قُبض نبيّ إلا دُفن حيث يُقبض"، وفي إسناده حسين بن عبد اللَّه الهاشميّ، وهو ضعيف، وله طُرُقٌ أخرى، مرسلة، ذكرها البيهقيّ في "الدلائل"، ورَوَى الترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ في "الكبرى" من طريق سالم بن عُبيد الأشجعيّ الصحابيّ رضي الله عنه، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له:"فأين يُدفن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: في المكان الذي قَبَض اللَّه فيه روحَهُ، فإنه لم يَقبض روحَه إلا في مكان طيّب". وإسناده صحيح، لكنه موقوف، والذي قبله أصرح في المقصود.

وإذا حُمِل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متّجِهٌ؛ لأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيّرها مقابر، فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله:"لا تجعلوا بيوتكم مقابر"، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقًا، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي حققه الحافظ رحمه الله بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وحاصله أن استدلال البخاريّ رحمه الله بالحديث على النهي عن الصلاة في المقابر صحيحٌ، وكذا استدلال من استدلّ به على النهي عن الدفن في البيوت واضح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا بيوتكم مقابر"، فإنه ظاهر في ذلك، ولأنه إذا دُفن في البيوت مع أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة في البيوت فلا بُدّ أن تكون الصلاة فيه واقعة عند القبر، وهو ممنوع، وأما دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته، فإنه خاصّ بالأنبياء عليهم السلام وبهذا يُجمَع بين الأحاديث، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 151

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1820 و 1821](777)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(432) و"التهجّد"(1187)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1043 و 1448)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(451 و 3270)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1598) و"الكبرى"(1290)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1377)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 6)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1205)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3059 و 3060)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1769 و 1770)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب الصلاة في البيوت.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن الصلاة في القبور، كما سبق احتجاج البخاريّ رحمه الله به، وكذا استدلّ به ابن المنذر، والخطّابيّ، وغيرهما، كما قاله ابن رجب رحمه الله في "شرح البخاريّ"

(1)

، بل نقل ابن المنذر رحمه الله عن أكثر أهل العلم أنهم استدلّوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغويّ في "شرح السنّة"

(2)

.

3 -

(ومنها): بيان عدم مشروعيّة الدفن في البيوت، على ما سبق وجهه، وقد عرفت ما فيه من الكلام، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1821]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا").

(1)

"فتح الباري" لابن رجب رحمه الله 3/ 232.

(2)

راجع: "المرعاة" 3/ 421.

ص: 152

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

2 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيَانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقون ذُكروا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1822]

(778) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل باب.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل باب أيضًا.

5 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الإسكاف الواسطيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

6 -

(جَابِرُ) بن عبد اللَّه رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحاد صيغة أدائهما.

ص: 153

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى الأعمش، وأبو سفيان واسطيّ، ثم مكيّ، وجابر رضي الله عنه مدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَضَى) أي: أدّى (أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ) أي: المكتوبة (فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا) أي: حظًّا (مِنْ صَلَاِتِهِ) أي: النافلة (فَإِنَّ اللَّهَ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن اللَّه سبحانه وتعالى (جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ) قال القرطبي رحمه الله: الضمير فيه عائد على المصلّي الذي تضمّنه الكلام المتقدّم، وقوله:(مِنْ صَلَاتِهِ)"من" هنا سببيّة؛ بمعنى: "من أجل"(خَيْرًا") التنوين فيه للتعظيم؛ أي: خيرًا عظيمًا، قال القرطبيّ رحمه الله: والخير الذي يُجعل في البيت بسبب التنفّل هو عمارته بذكر اللَّه تعالى، وبطاعته، وبالملائكة، وبدعائهم، واستغفارهم، وما يحصُل لأهله من الثواب والبركة. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1822](778)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 316)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1206)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2490)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1943)، و (أبو عوانة) في "مسنده"

(1)

"المفهم" 2/ 411.

ص: 154

(3061)

، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1770)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 189)، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 59)، وابن ماجه في "سننه"(1376)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1206)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 189) من طريق سفيان وزائدة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، وعن جابر، عن أبي سعيد الخدريّ، فجعله من مسند أبي سعيد رضي الله عنه.

والظاهر أن الأرجح رواية أبي معاوية، عن الأعمش أنه من مسند جابر رضي الله عنه، كما هو رأي المصنّف رحمه الله، حيث اقتصر على إخراجها، ولم يذكر الاختلاف في السند على عادته، وذلك لأمرين:

[أحدهما]: أن أبا معاوية أحفظ مَن روى حديث الأعمش، فيقدّم على غيره.

[الثاني]: أنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه عبد اللَّه بن نُمير، عن الأعمش عند أحمد في "مسنده"(3/ 316) وأبو خالد الأحمر، وعبدة بن سليمان، كلاهما عن الأعمش عند ابن خزيمة في "صحيحه"(1206).

والحاصل أن رواية المصنّف رحمه الله هي الراجحة، فتنبّه.

على أنه يُمكن أن يكون الحديث صحيحًا بالطريقين؛ لأن الرواية الثانية راويها سفيان الثوريّ، وهو مقدّم في شيوخه، كما هو مشهور، وتابعه عليه زائد بن قُدامة، وهو ثقةٌ ثبتٌ حجة، فتكون روايته محفوظة أيضًا، فتأمّل.

وأما ما أخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 59) عن موسى

(1)

، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي سعيد، فضعيف؛ لضعف ابن لهيعة، ومخالفته الثقات الأثبات المذكورين، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على أداء النوافل في البيت.

2 -

(ومنها): بيان أن المكتوبة لا تصلَّى إلا في المسجد.

(1)

هو موسى بن داود الضبيّ الْخُلقانيّ الطرسوسيّ، نزيل بغداد، صدوق فقيه زاهد له أوهام من صغار التاسعة، مات سنة (217). انتهى "ت".

ص: 155

3 -

(ومنها): بيان فضل الصلاة وأنها سبب لحصول الخير والبركة.

4 -

(ومنها): بيان أنه لا ينبغي للمسلم أن يهجر بيته، ويجعله مكانًا للنوم، والأكل والشرب ومباشرة الأهل فقط، بل ينبغي له أن يجعل فيه نوافل العبادات حتى تنزل فيه البركات، فتعمّ من فيه من الأهل والأولاد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1823]

(779) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ) هو: عبد اللَّه بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) ذُكر في السند الماضي.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قبل بابين.

4 -

(بُرَيْدُ) بن عبد اللَّه بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو بُرْدة الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

5 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104)، وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن

ص: 156

بينهما، لاتفاقهما في صيغة الأداء، حيث اتّفق كيفيّة تحمّلهما في كونه بالسماع من لفظ الشيخ، فتنبّه.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه عبد اللَّه بن بَرّاد، فانفرد به هو، وعلّق له البخاريّ، وأما شيخه محمد بن العلاء، فقد اتّفق الأئمة الستّة بالرواية عنه بلا واسطة، كما مرّ غير مرّة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن جدّه، عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، أمّره عمر، ثم عثمان رضي الله عنهما، وهو أحد الحكمين بصفّين، وكان من أحسن الناس صوتًا في القرآن، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد أُوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام"، متّفقٌ عليه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَثَلُ) أي: صفة (الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ) بالبناء للمفعول (وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ") قال الطيبيّ رحمه الله في شرح حديث: "مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه مثل الحيّ والميت" ما نصّه: شبّه الذاكر بالحيّ الذي تزيّن ظاهره بنور الحياة، وإشراقها فيه، وبالتصرّف التامّ فيما يريد، وباطنه مُنوَّرٌ بنور العلم والفهم والإدراك، كذلك الذاكر مُزيَّنٌ ظاهره بنور العمل والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة، فقلبه مستقرّ في حظيرة القدس، وسرّه في مَخْدَع الوصل، وغير الذاكر عاطل ظاهره، وباطلٌ باطنه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: هكذا رواه المصنّف رحمه الله بهذا اللفظ، ورواه البخاريّ رحمه الله بلفظ:"مَثَلُ الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، مَثَلُ الحيّ والميت".

قال في "الفتح": هكذا وقع في جميع نسخ البخاريّ، وقد أخرجه مسلم، عن أبي كُريب، وهو محمد بن العلاء، شيخ البخاريّ فيه بسنده المذكور،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1722.

ص: 157

بلفظ: "مثل البيت الذي يُذْكَر اللَّه فيه، والبيت الذي لا يُذْكَر اللَّه فيه، مَثَلُ الحيّ والميت"، وكذا أخرجه الإسماعيليّ، وابن حبان في "صحيحه" جميعًا عن أبي يعلى، عن أبي كريب، وكذا أخرجه أبو عوانة، عن أحمد بن عبد الحميد، والإسماعيلي أيضًا عن الحسن بن سفيان، عن عبد اللَّه بن بَرّاد، وعن القاسم بن زكريا، عن يوسف بن موسى، وإبراهيم بن سعيد الجوهريّ، وموسى بن عبد الرحمن المسروقيّ، والقاسم بن دينار، كلهم عن أبي أسامة، فتوارُدُ هؤلاء على هذا اللفظ يدلّ على أنه هو الذي حَدَّث به بُريد بن عبد اللَّه، شيخ أبي أسامة، وانفراد البخاريّ باللفظ المذكور، دون بقية أصحاب أبي كريب، وأصحاب أبي أسامة يُشعِر بأنه رواه من حفظه، أو تجوز في روايته بالمعنى الذي وقع له، وهو أن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقةً هو الساكن، لا السَّكَن، وأن إطلاق الحيّ والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت، فشُبِّه الذاكر بالحيّ الذي ظاهره مُتَزَيِّنٌ بنور الحياة، وباطنه بنور المعرفة، وغير الذاكر بالميت الذي ظاهره عاطلٌ، وباطنه باطل، وقيل: موقع التشبيه بالحيّ والميت لما في الحيّ من النفع من يواليه، والضرّ من يعاديه، وليس ذلك في الميّت. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1823](779)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6407)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(854)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3910)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1771)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل ذكر اللَّه سبحانه وتعالى.

(1)

"الفتح" 11/ 214 "كتاب الدعوات" رقم (6407).

ص: 158

2 -

(ومنها): بيان استحباب ذكر اللَّه تعالى في البيت، وأنه لا ينبغي خلوه منه.

3 -

(ومنها): بيان جواز التمثيل، لإيضاح المسألة.

4 -

(ومنها): بيان فضل البيت الذي يُذكر اللَّه تعالى فيه على البيت الذي لا يُذكر اللَّه تعالى فيه.

5 -

(ومنها): أن طول العمر في الطاعة فضيلة، وإن كان الميت ينتقل إلى خير؛ لأن الحيّ يستلحق به، ويزيد عليه بما يفعله من الطاعات.

6 -

(ومنها): أن المراد بالذكر الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات، وهي:"سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، ويُطْلَق ذكر اللَّه أيضًا، ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه، كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة، ثم الذكرُ يقع تارةً باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكرُ بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم اللَّه تعالى، ونفي النقائص عنه ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجهَ، وأخلص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغ الكمال.

وقال الفخر الرازيّ: المراد بذكر اللسان: الألفاظُ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد، والذكرُ بالقلب: التفكرُ في أدلة الذات والصفات، وفي أدلة التكاليف من الأمر والنهي، حتى يطلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات اللَّه، والذكرُ بالجوارح: هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثم سَمَّى اللَّه الصلاة ذكرًا، فقال:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].

ونُقِل عن بعض العارفين قال: الذكر على سبعة أنحاء، فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم

ص: 159

والرضاء، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1824]

(780) - (حَدَّثَنَا

(2)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ

(3)

مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

3 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو زيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

4 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السّمّان الزّيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى يعقوب، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة.

(1)

"الفتح" 11/ 212 - 213 "كتاب الدعوات" رقم (6407).

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "يفرُّ".

ص: 160

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(تَجْعَلُوا) ولفظ ابن حبّان في "صحيحه": "لا تتخذوا بيوتكم مقابر، صلّوا فيها، فإن الشيطان ليفرّ من البيت الذي يسمع سورة البقرة تُقرأ فيه"

(1)

.

(بُيُوتَكُمْ) بضمّ الموحّدة وكسرها، قاله القاري رحمه الله

(2)

، وهو: جمع بيت (مَقَابِرَ) أي: خاليةً عن الذكر والطاعة، فتكون كالمقابر، وتكونون كالموتى فيها، أو معناه: لا تدفِنُوا موتاكم فيها، ويدلّ على المعنى الأول قوله:"إن الشيطان يفرّ" -بكسر الفاء- أي: يخرج ويَشْرُد، والجملة مستأنفةٌ كالتعليل، أفاده القاري

(3)

.

وقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "ينفر" هكذا ضبطه الجمهور "يَنْفِر"، ورواه بعض رُواة مسلم:"يَفِرّ"، وكلاهما صحيح. انتهى

(4)

. (مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ") والمعنى: أنه ييأس من إغواء أهله ببركة هذه السورة، أو لما يرى من جدّهم في الدين، واجتهادهم في طلب اليقين

(5)

.

وقال القاضي البيضاويّ رحمه الله: قوله: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر" أي: كالمقابر خاليةً عن الذكر والطاعة، واجعلوا لها نصيبًا من القراءة والصلاة، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه البقرة؛ أي: ييأس من إغواء أهله وتسويلهم، لما يرى من جدّهم في الدين، ورسوخهم في الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم:"من قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا"

(6)

. انتهى

(7)

.

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 3/ 62 رقم (783).

(2)

"المرقاة" 4/ 625 - 626.

(3)

"المرقاة" 4/ 626.

(4)

"شرح النوويّ" 6/ 69.

(5)

"المرقاة" 4/ 626.

(6)

حديث ضعيف، أخرجه ابن عديّ في "الكامل" (7/ 224) بلفظ:"من قرأ البقرة وآل عمران عُدَّ فينا"، وفيه قصّة.

(7)

راجع: "الكاشف" 5/ 1640.

ص: 161

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إن الشيطان. . . إلخ" استئناف كالتعليل للنهي، كقوله تعالى:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]، فلا بدّ من بيان وجه المناسبة بين التعليل والمعلّل، وذلك أن معنى التشبيه: لا تكونوا كالموتى في القبور، عارين عن القراءة والذكر، غير منفِّرين للشيطان، ونحوُهُ في النهي قوله تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، نهاهم عن أن يموتوا على غير الإسلام، والمراد الأمر بثباتهم على الإسلام بحيث إذا أدركهم الموت أدركهم وهم مسلمون، فكذا هنا المراد أمرهم بقراءة القرآن، والعمل به، والتحرّي في استنباط معانيه، والكشف عن حقائقه، بحيث يصير ذا جِدّ وحظّ وافر من ذلك مراغمةً للشيطان، فقوله:"لا تجعلوا بيوتكم مقابر" كناية عن هذه المعاني. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1824](780)، و (الترمذيّ) في "فضائل القرآن"(2877)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(965)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 284 و 337 و 378 و 388)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(783)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3907 و 3908 و 3909)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1772)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1192)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على صلاة النوافل في البيوت.

2 -

(ومنها): النهي عن اتّخاذ البيت مهجورًا كالقبر لا يُصلَّى فيه، ولا يُذكر اللَّه عز وجل فيه.

3 -

(ومنها): الحثّ على قراءة "سورة البقرة" في البيت.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1640.

ص: 162

4 -

(ومنها): جواز إطلاق لفظ "سورة البقرة" بلا كراهة، وأما كَراهة من كَرِهَ قول:"سورة البقرة" ونحوها، وقال: إنما يقال: السورة التي تُذكَر فيها البقرة، فرأي باطل، تردّ عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وسبقت المسألة، وسنعيدها قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- في أبواب فضائل القرآن.

5 -

(ومنها): بيان فضيلة "سورة البقرة" حيث إنها تطرد الشيطان، فلا يقرب البيت الذي تُقرأ فيه، وسيأتي مزيد بيان لفضلها في أبواب فضائل القرآن قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

(ومنها): ما قيل: إنما خصّت "سورة البقرة" بهذه الفضيلة؛ لطولها، وكثرة أسماء اللَّه تعالى، واشتمالها على الأحكام الكثيرة، وبيان الشرائع، والقِصَص، والمواعظ، والوقائع الغريبة، والمعجزات العجيبة، وذكر خاصّة أوليائه، والمصطفَيْنَ من عباده، وفضيحة قبائح الشيطان وكيده، وكشف ما توسّل به إلى التسويل على آدم عليه السلام وذرّيّته.

قال بعض العلماء: هي مشتملة على ألف خبر، وألف أمر، وألف نهي

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1825]

(781) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَيْرَةً بخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ

(2)

، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهَا، قَالَ: فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، قَالَ: ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً، فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ، قَالَ: فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ، حَتَّى

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" 1/ 70.

(2)

وفي نسخة: "أو حصيرة".

ص: 163

ظنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) ذُكر في الباب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ) بن أبي هِنْد الْفَزَاريّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [6].

رَوَى عن أبيه، وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن المسيِّب، وإسماعيل بن أبي حكيم، وبكير بن الأشج، وسالم أبي النضر، وسُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، وغيرهم.

وروى عنه يزيد بن الهاد، ومات قبله، ومالك، وابن المبارك، ويحيى، وعبد الرحمن، ووكيع، وإسماعيل بن جعفر، وسليمان بن بلال، وعيسى بن يونس، وغندر، وعبد الرزاق، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: ثقةٌ ثقةٌ، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو بكر بن خلاد الباهليّ: سألت يحيى بن سعد عنه، فقال: كان صالحًا تَعرِفُ وتُنكِر، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ، روى عنه يحيى ولم يرفعه كما رفع غيره، وروى عنه مالك كلامًا، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال العجليّ، ويعقوب بن سفيان: مدنيّ ثقةٌ، وقال ابن خلفون: وثّقه ابن المدينيّ، وابن الْبَرْقيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ.

قال البخاريّ عن مكي بن إبراهيم: سمعت منه سنة (144)، وقال أحمد، عن مكي: سمعت منه سنة (147) وذكر ابن حبان أنه مات فيها، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، مات سنة ست أو سبع وأربعين يعني: ومائة، وكذا أخرجه ابن أبي خيثمة، قال: فيما بلغني.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم

ص: 164

(781)

، وحديث (950):"مستريح ومستراح منه. . . "، و (1509):"من أعتق رقبة مؤمنةً. . . ".

4 -

(سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.

5 -

(بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد، مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

6 -

(زيْدُ بْنُ ثَابِتِ) بن الضحّاك الأنصاريّ النجّاريّ الصحابيّ الشهير، أبو سعيد، وأبو خارجة، مات رضي الله عنه سنة (5 أو 48) وقيل: بعد (50)(ع) تقدم في "الحيض" 22/ 793.

لطائف هذا الإسناد.

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رضي الله عنه.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عبد اللَّه بن سعيد، والباقيان بصريان.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستّة بلا واسطة، وقد تقدّم بيان هذا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، كان كاتب الوحي للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بالراء، قال النوويّ رحمه الله: معنى "احتجر حُجْرة" أي: حَوَّط موضعًا من المسجد بحصير؛ ليستره؛ ليصلي فيه، ولا يمر بين يديه مارٌّ، ولا يتهَوَّش بغيره، ويتوفر خشوعه، وفراغ قلبه. انتهى.

وفي رواية موسى بن عقبة، عن أبي النضر التالية:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ حجرةً في المسجد من حصير".

ص: 165

وفي رواية البخاريّ: "اتَّخَذَ حُجْرَةً، قال: حسبت أنه قال من حصير في رمضان. . . ".

قال في "الفتح": قوله: "حُجْرةً" كذا للأكثر بالراء، ولأبي ذرّ عن اثحمميهنيّ بالزاي؛ أي: شيئًا حاجزًا؛ يعني: مانعًا بينه وبين الناس.

(حُجَيْرَةً) بضمّ الحاء المهملة: تصغير حُجْرة، قال في "المصباح":"الحُجْرة" أي -بضمّ، فسكون-: البيتُ، والجمع حُجَر، وحُجُرَات، مثلُ غُرَف، وغُرُفات في وجوهها. انتهى.

(بِخَصَفَةٍ) بفتحات، قال ابن الأثير رحمه الله:"الْخَصَفَةُ" بالتحريك: واحدة الْخَصَفِ، وهي الْجُلَّةُ التي يُكْنَز فيها التَّمْرُ، وكأنها فَعَلٌ بمعنى مفعول، من الْخَصْفِ، وهو ضمّ الشيء إلى الشيء؛ لأنه منسوجٌ من الْخُوص". انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": "الْخَصَفَةَ" محرَّكةً: الْجُلّةُ تُعْمَل من الْخُوص للتمر، والثوبُ الْغَليظُ جدًّا، والجمع خَصَفٌ وخِصَافٌ، بالكسر

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الْخَصَفَة: حَصِيرٌ يُخْصَفُ؛ أي: يُخاط من السَّعَفِ، ومنه قوله تعالى:{يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]؛ أي: يَخِيطان، والْخَصَفَة: ما يُخْصَفُ، والْحَصِيرُ: ما يُنْسَجُ، وهو على الشك من الراوي، وكان هذا العمل منه صلى الله عليه وسلم، وهذا القول في رمضان، وقد تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها. انتهى

(3)

.

(أَوْ) للشكّ من الراوي (حَصِيرٍ) وفي نسخة: "أو حصيرة"، قال النوويُّ رحمه الله: والْخَصَفَةُ والْحَصِير بمعنًى، شَكّ الراوي في المذكورة منهما. انتهى.

وقال في "القاموس": الْحَصِير: الباريّة، وقال في مادّة "بور": الباريّة: الحصير المنسوج. انتهى.

وقال في "المصباح": الحصير: الباريّة، وجمعها حُصُرٌ، مثلُ بَرِيد وبُرُد. انتهى.

(1)

"النهاية" 2/ 37.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 134.

(3)

"المفهم" 2/ 412.

ص: 166

(فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي: من بيته (يُصَلِّي فِيهَا) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: حال كونه مصلّيًا في تلك الْحُجْرة، وكان ذلك في رمضان، كما سبق بيانه في حديث عائشة رضي الله عنها.

واستُشْكِلَ صلاته صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ لأنه يلزم منه أن يكون تاركًا للأفضل الذي أَمَر الناس به، حيث قال:"صلّوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

وأجيب عنه بأوجه:

[منها]: أن هذه الصلاة مما استُثنِيَ؛ لأن الأفضل عند الجمهور في صلاة التراويح المسجد.

[ومنها]: أنه صلى الله عليه وسلم كان معتكفًا، إذ ذاك، والمعتكف لا يصلي إلا في المسجد.

[ومنها]: أنه إذا احتجر صار كأنه بيت بخصوصه.

[ومنها]: أن السبب في كون صلاة التطوّع في البيت أفضل عدم شَوْبه بالرياء غالبًا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم منزّه عن الرياء في بيته، وفي غير بيته.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ويظهر لي وجه آخر، وهو أنّ ذلك لبيان الجواز، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئًا للتشريع يكون أفضل في حقّه، وإن كان في حقّنا أدون، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) زيد رضي الله عنه (فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، وكذا هو في النسخ، وأصل التتبع الطلبُ، ومعناه هنا: طلبوا موضعه، واجتمعوا إليه. انتهى. وفي رواية موسى بن عقبة التالية:"حتى اجتمع إليه ناسٌ"(وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، قَالَ: ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً) أي: غير هذه الليلة، وفي رواية موسى بن عقبة التالية:"فصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها ليالي"؛ أي: من رمضان، وقد بُيّنت تلك الليالي في حديث عائشة رضي الله عنها، المتقدّم، من رواية عروة عنها، ولفظه: "عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل

ص: 167

المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلَّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجدُ عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد، فقال: أما بعدُ، فإنه لم يَخْفَ علي شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تُفْرَض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها".

فتبيّن بهذا أن هذه الليلة التي لم يخرُج فيها إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليست الليلة الثانية، بل هي الرابعة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَحَضَرُوا) إلى المسجد (وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ) أي: تأخّر عن الخروج إليهم، فقوله:(قَالَ) زيد (فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ) تأكيد لمعنى الإبطاء (فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ) أي: ليعلم بحضورهم، فيخرُج إليهم، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد:"حتى سمعتُ ناسًا منهم يقولون: الصلاة".

(وَحَصَبُوا الْبَابَ) أي: رَمَوهُ بالحصباء، وهي الحصى الصغار؛ حرصًا على خروجه إليهم ليصلّي بهم، وتنبيهًا له؛ لظنهم نسيانه، وهذا ظاهر في كونه صلى الله عليه وسلم دخل بيتًا من بيوت أزواجه بعدما صلى بهم الفريضة، فلم يخرج منه إلى الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، فحصبوا باب بيته؛ ليخرج منه إلى حجرة الحصير، فيصلّوا بصلاته من ورائها.

(فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا) وكان خروجه صلى الله عليه وسلم ذلك لصلاة الفجر، كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها المذكور، لا عند رفع أصواتهم، وحصبهم بابه، كما يوهمه ظاهر هذا الرواية، فتنبّه، (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي: بعد صلاته الصبح، وتشهّده، وقوله:"أما بعدُ"، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المذكور ("مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ). قال في "الفتح": كذا للأكثر، وللكشميهنيّ:"صُنْعكم" بضم الصاد، وسكون النون، قال: وليس المراد به صلاتهم فقط، بل كونهم رفعوا أصواتهم، وسبّحوا به؛ ليخرُج إليهم، وحصب بعضهم الباب؛ لظنّهم أنه نائمٌ

(1)

، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:"فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم".

(1)

"الفتح" 2/ 252.

ص: 168

(حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ) أي: قيام الليل، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:"ولكني خشيتُ أن تُفرض عليكم صلاة الليل، فتعجزوا عنها"، وهذا ظاهر في أن عدم خروجه إليهم كان لهذه الخشية، لا لكون المسجد امتلأ، وضاق عن المصلين، قاله في "الفتح".

زاد في رواية موسى بن عقبة التالية: "ولو كُتب عليكم ما قمتم به"؛ أي: لتركتموه مع القدرة عليه، وفي رواية للبخاري:"ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل، فتَعْجِزوا عنها"؛ أي: تشق عليكم، فتتركونها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكلّيّ؛ لأنه يُسقطُ التكليفَ من أصله.

(فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ) أي: الزموا أداء النوافل التي لا تستحبّ فيها الجماعة، والتي لا تختصّ بالمسجد، كركعتي تحيّة المسجد، والأمرُ للاستحباب، وإنما قيّدنا بالنوافل؛ لأن المكتوبة تؤدَّى في المساجد، لا في البيوت، كما بيّنه بالاستثناء في قوله:(فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ) هذا عامّ في جميع النوافل والسنن، إلا النوافل التي هي من شعار الإسلام، كالعيد، والكسوف، والاستسقاء، وكذا ما يختصّ بالمسجد، كركعتي تحية المسجد، كما ذكرناه آنفًا.

قال في "الفتح": المراد بالمكتوبة الصلوات الخمس لا ما وجب بعارض كالمنذورة، والمراد بالمرء جنس الرجال، فلا يرد استثناء النساء؛ لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوهنّ المساجد، وبيوتهنّ خير لهنّ"، أخرجه مسلم

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: قد ورد هذا الحديث في صلاة رمضان في مسجده صلى الله عليه وسلم، فإذا كان صلاة رمضان في البيت خيرًا منها في مسجده صلى الله عليه وسلم، فكيف غيرها في مسجد آخر؟ نعم كثير من العلماء يرون أن صلاة رمضان في المسجد أفضل، وهذا يخالف هذا الحديث؛ لأن مورده صلاة رمضان، إلا أن يقال: صار أفضل حين صار أداؤها في المسجد من شعار الإسلام، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: في كلامه الأخير نظر لا يخفى، ومتى

(1)

"الفتح" 2/ 252.

ص: 169

صار أداؤها في المسجد شعار الإسلام؟ وقد قال عمر رضي الله عنه بعدما جمع الناس على إمام واحد: "نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون"، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، رواه البخاريُّ رحمه الله.

والحاصل أن صلاة رمضان في البيت أفضل في كلّ زمن، على ظاهر حديث الباب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ") أي: المفروضة، قال النوويّ رحمه الله: وإنما حثّ على التنفّل في البيت؛ لكونه أخفى، وأبعد من الرياء، ولتحصل البركة للبيت به، وتنزل الرحمة فيه، وينفر منه الشيطان، قال في "الفتح": وعلى هذا يمكن أن يخرج بقوله: "في بيته" بيت غيره، ولو أَمِنَ فيه من الرياء. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 1825 و 1826](781)، و (البخاريّ) في "الأذان"(731) و"الاعتصام"(7290) و"الأدب"(6113)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1447)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(450)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1598)، و"الكبرى"(1292 و 1291)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 182 و 183 و 184 و 186 و 187)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(250)، و (الدارميّ) في "سننه"(1373)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1203 و 1204)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2491)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2210 و 2211)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1773 و 1774 و 1775)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 109)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"الفتح" 2/ 252 - 253.

ص: 170

1 -

(منها): الحثّ على الصلاة في البيوت، وبيان فضل ذلك، ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم فَضَّلَ الصلاة في البيت على الصلاة في مسجده، مع أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.

2 -

(ومنها): بيان جواز اتّخاذ حجرة ونحوه في المسجد إذا لم يكن فيه تضييق على المصلين ونحوهم، ولم يتخذه دائمًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحتجرها بالليل، يصلي فيها، ويُنَحِّيها في النهار ويبسطها كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها في الباب التالي، ثم ترك ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار، وعاد إلى الصلاة في البيت.

3 -

(ومنها): مشروعيّة قيام الليل، ولا سيما في رمضان جماعةً؛ لأن الخشية الّتي علّل بها النبيّ صلى الله عليه وسلم عدم خروجه إليهم أُمنت بعده صلى الله عليه وسلم، ولذا جمعهم عمر بن الخطاب على أُبيّ بن كعب، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا لا ينافي أفضلية الصلاة في البيت، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن الكبير إذا فعل شيئًا، خلافَ ما اعتاده منه أتباعه يَذْكُر لهم عذره، وحكمه، والحكمة فيه.

5 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا، والاكتفاء بما قلّ منها، والشفقة على أمته، والرأفة بهم، ومراعاة مصالحهم، فينبغي لولاة الأمور، وكبار الناس، والمتبوعين في علم وغيره الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك.

6 -

(ومنها): ترك بعض المصالح لخوف المفسدة، وتقديم أهمّ المصلحتين.

7 -

(ومنها): جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة.

8 -

(ومنها): ترك الأذان والإقامة للنوافل إذا صُلّيتْ جماعةً.

9 -

(ومنها): الإنكار على من يتكلّف ما لم يكلَّف به، فقد أنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم صنيعهم هذا حيث تكلّفوا ما لم يأمرهم به من التجمّع في المسجد لصلاة الليل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 171

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1826]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ، مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا لَيَالِيَ، حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ:"وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون المعروف بالسمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 112.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

4 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ إمامٌ في المغازي [5] (ت 141) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ذِكرُ سالم أبي النضر بين موسى بن عقبة، وبسر في هذا الإسناد هو رواية الأكثرين، عن موسى، وخالفهم ابن جريج، عن موسى، فلم يذكر أبا النضر في الإسناد، أخرجه النسائيّ في "الكبرى"(2/ 1291).

قال الحافظ رحمه الله: ورواية الجماعة أولى، وقد وافقهم مالك في الإسناد، لكن لم يرفعه في "الموطأ"، وقد أخرجه من طريقه النسائيّ في "الكبرى" أيضًا (2/ 1292)، ورُوي عنه خارج "الموطأ" مرفوعًا. انتهى

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

(2)

"الفتح" 2/ 252 "كتاب الأذان" رقم (731).

ص: 172

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير موسى بن عُقبة.

[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة، عن أبي النضر هذه ساقها الإمام البخاريُّ رحمه الله في "كتاب الاعتصام" من "صحيحه"، فقال:

(7290)

حدّثنا إسحاق

(1)

، أخبرنا عفّان، حدّثنا وهيب، حدّثنا موسى بن عقبة، سمعت أبا النضر يحدّث عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرةً في المسجد من حَصير، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها ليالي، حتى اجتمع إليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلةً، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح؛ ليخرج إليهم، فقال:"ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم، حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كُتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا الصلاة المكتوبة". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(32) - (بَابُ بَيَانِ فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الدَّائِمِ، وَإِنْ قَلَّ، وَكَرَاهِيَةِ التَّعَمُّقِ وَالتَّشَدُّدِ فِي الْعِبَادَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1827]

(782) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، يَعْنِي الثَّقَفِيَّ، حَدَّثَنَا

(2)

عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَصِيرٌ، وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ، فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ"، وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ).

(1)

هو ابن منصور الكوسج، أفاده في "الفتح" 13/ 283.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 173

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد، أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِنِ، ثقةٌ ثبتٌ [10](252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر العمريّ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، وشيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الأئمة الستّة بلا واسطة، وقد مرّ غير مرّة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من عبيد اللَّه، والأولان بصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين رَوَى بعضهم عن بعض: ابن عجلان عبيد اللَّه، عن سعيد، عن أبي سلمة.

5 -

(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة.

6 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الحديث، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَصِيرٌ) -بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- جمعه حُصُر، مثل بَرِيد وبُرُد: هو البساط الصغير من

ص: 174

النبات، وقيل: سَفِيفَة تُصنع من بَرْديّ، وأسَل، ثم تُفْرَش؛ سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض، وقيل: الحصير المنسوج، سُمِّي حصيرًا؛ لأنه حُصِرت طاقاته بعضُهَا مع بعض، أفاده في "اللسان".

(وَكَانَ يُحَجِّرُهُ) بتشديد الجيم، من التحجير؛ أي: يتّخذه كالحُجْرَة؛ لئلا يمر عليه مارّ، وليتوفر خشوعه (مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض (فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ) أي: شرعوا وأخذوا (يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ) أي: مقتدين بصلاته صلى الله عليه وسلم (وَيَبْسُطُهُ) أي: ذلك الحصير (بِالنَّهَارِ) الباء بمعنى "في"؛ أي: يجعله بساطًا يجلس عليه في النهار (فَثَابُوا) -بالثاء المثلَّثة، ثم موحدة- أي: اجتمعوا إليه، وفي رواية البخاري:"فثاب إليه ناس"، ووقع عند الخطابيُّ:"آبُوا" أي: رجعوا، وفي روا ية الكشميهني والسرخسي:"فثاروا" -بالمثلثة، والراء- أي: قاموا، قاله في "الفتح".

وقوله: (ذَاتَ لَيْلَةٍ) أي: ليلة من الليالي، وقد تقدّم أنه الليلة الرابعة (فَقَالَ) هذا معطوف على محذوف تبيّنه الروايات الأخرى؛ أي: فلم يخرُج إليهم حتى طلع الفجر، فخرج إليهم، وصلى بهم الفجر، فلما سلّم قال لهم:("يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ) أي: الزَمُوا من الأعمال ما تستطيعون المداومة عليه، فـ "عليكم" اسم فعل بمعنى "الزموا"، و"ما" موصولة مفعول به و"عليكم"، و"تطيقون" صلته، حُذف منه العائد؛ لكونه فضلةً، كما قال في "الخلاصة":

. . . . . . . . . . . . . . .

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"

والمعنى: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلّف ما لا يطاق، وقال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِلُ أن يكون خاصًّا بصلاة الليل، ويَحْتَمِل أن يكون عامًّا في الأعمال الشرعيّة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: سبب وروده خاصّ بالصلاة، ولكن اللفظ عامّ، وهو المعتبر. انتهى

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 1/ 126.

ص: 175

(فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) بفتح الميم في الموضعين، مضارع مَلّ، يقال: مَلِلْته، ومَلِلتُ منه مَلَلًا، من باب تَعِبَ، وملالةً: سئِمْتُ، وضَجِرْتُ، والفاعل مَلُولٌ، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أمللته الشيءَ، قاله في "المصباح"

(1)

.

وفي الرواية الآتية: "لا يسأم حتى تسأموا"، والمعنى واحد.

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: المَلَل، والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال في حق اللَّه تعالى، فيجب تأويل الحديث، قال المحققون: معناه لا يعاملكم معاملة المالِّ، فيقطع عنكم ثوابه، وجزاءه، وبسط فضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم.

وقيل: معناه لا يملّ إذا مَلِلْتم، قاله ابن قتيبة وغيره، وحكاه الخطابيّ وغيره، وأنشدوا فيه شعرًا، قالوا: ومثاله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى يقطع خصومه، معناه: لا ينقطع إذا انقطع خصومه، ولو كان معناه: ينقطع إذا انقطع خصومه، لم يكن له فضل على غيره. انتهى

(2)

.

وقال السيوطيّ رحمه الله في شرح النسائيّ: الْمَلالُ: استثقال الشيء والنفور عنه بعد محبته، وهو محال على اللَّه تعالى باتفاق، قال الإسماعيلي، وجماعة من المحققين: إنما أُطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازًا، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].

وقال القرطبيُّ رحمه الله: وجه مجازه أنه تعالى لمّا قطع ثوابه عمن قطع العمل مَلالًا عبّر عن ذلك بالملال، من باب تسمية الشيء باسم سببه، وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه، وهذا كله بناء على أن "حتى" على بابها في انتهاء الغاية، وما يترتب عليها من المفهوم.

وجنح بعضهم إلى تأويلها، فقيل: معناه لا يمل اللَّه إذا مَلِلْتم، وهو مستعمل في كلام العرب، يقولون: لا يفعل كذا حتى يَبْيَضَّ القارُ، أو حتى يَشِيب الغراب، ومنه قولهم في البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه؛ لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية، وهذا المثال أشبه من الذي قبله؛

(1)

"المصباح المنير" 2/ 580.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 71.

ص: 176

لأن شَيب الغراب ليس ممكنًا عادة بخلاف الملال من العابد.

وقال المازريّ رحمه الله: قيل: "حتى" هنا بمعنى الواو، فيكون التقدير: لا يملّ، وتملّون، فنَفَى عنه الْمَلال، وأثبته لهم، قال: وقد قيل: "حتى" بمعنى "حين"، والأول أليق، وأحرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية.

وقال ابن حبان في "صحيحه": هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد مما يخاطب به إلا بها، وهذا رأيه في جميع المتشابه. انتهى كلام السيوطيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ليس في هذا الحديث إثبات الملل للَّه عز وجل صريحًا، بل هو من باب مفهوم المخالفة، وأما صريحه فنفي الملل عنه، فلا ينبغي أن نثبت به صفة الملل، فالأولى عندي قول بعضهم: إن "حتى" هنا بمعنى الواو، وليست للغاية، فيكون المعنى: إن اللَّه لا يمل، وأنتم تملون، أو يكون المعنى: لا يمل إذا مللتم.

والمراد به تشجيعهم على المداومة على الأعمال القليلة التي لا تنقطع، ولا تؤدي إلى الملل، حيث إن اللَّه تعالى لا يلحقه ملل، فلا ينبغي للعبد أن يمل عن الإقبال عليه، إذ يؤدي مَلَلُهُ إلى إعراض اللَّه عنه، فإن من أعرض عن اللَّه أعرض اللَّه عنه، فقد أخرج الشيخان عن أبي واقد الليثيّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، فأما أحدهم فأوى إلى اللَّه، فآواه اللَّه، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا اللَّه منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض اللَّه عنه"، متفق عليه.

ثم عطف عَلَى العلّة المذكورة علّةً أخرى، فقال (وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَما دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ") ولأن الأحبّ من الأعمال إلى اللَّه عز وجل ما داوم عليه صاحبه، وإن كان ذلك العمل قليلًا.

قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه: "دُووِمَ عليه"، وكذا هو في معظم النسخ "دُووِم" بواوين، ووقع في بعضها:"دُوِم" بواو واحدة، والصواب الأول. انتهى

(2)

.

(1)

"زهر الرُّبَى" 2/ 68 - 69.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 71.

ص: 177

وقال ابن العربيّ: معنى المحبة من اللَّه تعالى تعلق الإرادة بالثواب؛ أي: أكثر الأعمال ثوابًا أدومها، وإن قل.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله ابن العربيّ تأويل لمعنى المحبة بلازمها، وهذا غير صحيح؛ لأنه يؤدي إلى نفي صفة المحبة عن اللَّه تعالى بمعناها الحقيقيّ اللائق به سبحانه وتعالى، فالصواب إثباتها له، كما أثبتتها النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة على المعنى اللائق به سبحانه وتعالى، كسائر صفاته العليّة، من الرضا، والإرادة، والقدرة، والعلم، وغيرها من غير فرق، ولا يلزم في ذلك تشبيهه بالمخلوقين؛ إذ صفاته تعالى لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته تعالى لا تشبه ذواتهم، ولا فرقَ، وإنما يلزم التشبيه لو أثبتناها على المعنى الذي تفسر به إذا كانت للمخلوق، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا، فتبصر بالإنصاف، ولا تتحير بتقليد ذوي الاعتساف، واسلك سبيل السلف، تسلم من الضلال والتَّلَف.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه الحثّ على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيرًا من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة، والذكر، والمراقبة، والنية، والإخلاص، والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة.

وقال ابن الجوزيُّ: إنما أحب العمل الدائم؛ لمعنيين:

أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمُعرِض بعد الوصول، فهو متعرض لهذا، ولهذا أورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا تتعين عليه.

والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتًا ما كمن لازم يومًا كاملًا ثم انقطع. انتهى

(1)

.

زاد في رواية النسائيّ: "ثم ترك مصلّاه ذلك، فما عاد له حتى

(1)

راجع: "زَهْر الرُّبَى في شرح المجتبى" 2/ 69 - 72.

ص: 178

قبضه عز وجل"؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة في المكان الذي اتخذ فيه حجرة؛ خوفأ من حرصهم على ذلك أوّلًا، ثم تركهم له عجزًا آخرًا.

(وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ) أي: لازموه، وداوموا عليه، والظاهر أن المراد بالآل هنا أهل بيته صلى الله عليه وسلم، وخواصه من أزواجه، وقرابته، ونحوهم، كما تدلّ عليه الرواية الاتية عن القاسم بن محمد، قال:"وكانت عائشة إذا عَمِلت العمل لزمته"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1827 و 1828](782)، و (البخاريّ) في "الأذان"(730) و"اللباس"(5861)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1368)، و (النسائيّ) في "القبلة"(762) و"الكبرى"(838)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(942)، و (الحميديّ) في "مسنده"(183)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 40 و 61 و 84 و 241 و 267)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2571)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3062 و 3063)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1776 و 1777)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز أن يحتجر الإنسان موضعًا في المسجد؛ ليصلي فيه، لكن إذا لم يضرّ بأحد.

2 -

(ومنها): بيان جواز الاقتداء بمن كان بينه وبين الإمام حاجز، جدارٌ أو غيره، إذا لم تشتبه عليه انتقالات الإمام، وإلا فلا.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة، وقيام الليل.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 6/ 72.

ص: 179

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، والتقلّل منها، حيث إنه كان يكتفي بحصير واحد يجلس عليه نهارًا، ويتخذه حُجْرة ليلًا.

5 -

(ومنها): بيان جواز النافلة في المسجد، وإن البيت أفضل منه.

6 -

(ومنها): بيان مشروعية الجماعة في النافلة.

7 -

(ومنها): بيان أن العبادة التي يُداوم عليها الإنسان أفضل، وإن قلّت من العبادة التي لا يداوم عليها، وإن كثُرت.

8 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص في تتبع أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، للاقتداء به.

9 -

(ومنها): بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، ورأفته بأمته، حيث أرشدهم إلى ما يُصلِحُهم، وهو التمسك من الأعمال بما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط، والقلب منشرحًا، فتتم العبادة، بخلاف من تعاطى من الأعمال ما يشق عليه، فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه، أو يفعله بكلفة، وبغير انشراح القلب، فيفوته خير عظيم، وقد ذم اللَّه سبحانه وتعالى من اعتاد عبادة، ثم أفرط فيها، فقال تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] الآية، وقد نَدِمَ عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في آخر حياته لَمّا شقّ عليه القيام بما التزمه من العبادات على تركه قبول رخصة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): بيان فضل أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث إنهم يعتنون بإثبات أيّ عمل من أعمال الخير بدؤوا به، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1828]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ").

ص: 180

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

3 -

(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ فاضلٌ عابد [5](ت 125) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، وهو عمّه (يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تعيين السائل عن ذلك

(1)

. (أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ") قال في "الفتح": فيه سؤالٌ، وهو أن المسئول عنه أحبّ الأعمال، وظاهره السؤال عن ذات العمل، فلم يتطابقا، ويُمكن أن يقال: إن هذا السؤال وقع بعد قوله في الحديث الماضي في الصلاة، وفي الحجّ، وفي الوالدين حيث أجاب بالصلاة، ثم بالبرّ. . . إلخ، ثم خَتَمَ ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البرّ، ولو كان مفضولًا أحبّ إلى اللَّه تعالى من عمل يكون أعظم أجرًا، لكن ليس فيه مداومة. انتهى

(2)

.

وهذا الحديث سيأتي للمصنّف رحمه الله في "كتاب صفة القيامة والجنّة" مطوّلًا، من طريق موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سَدِّدوا، وقاربوا، وأبشروا، فإنه لن يُدْخِل الجنةَ أحدًا عمَلُهُ"، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى اللَّه أدومه وإن قلّ"

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 11/ 304 "كتاب الرقاق" رقم (6465).

(2)

"الفتح" 11/ 304 "كتاب الرقاق" رقم (6465).

(3)

سيأتي برقم (2818).

ص: 181

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1828](782)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6464 و 6465 و 6467)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 125 و 176 و 180 و 273)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1515)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1777)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1829]

(783) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُور، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟، هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ؟)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ حجة [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.

(1)

وفي نسخة: "ما كان يستطيع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ص: 182

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد (60) أو بعد (70)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

7 -

(عَائِشَةُ) رضي الله عنها ذُكرت قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "قال زهير: حدّثنا جرير" وفائدته بيان تصريح زهير بالتحديث بخلاف إسحاق، فلم يصرّح، وَيحتمل أن يكون المراد أن لفظ الحديث لزهير، وأما إسحاق فرواه بمعناه، وقد تقدّم هذا في "شرح المقدّمة" مفصّلًا، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه أيضًا، كما مرّ آنفًا، وعائشة رضي الله عنها مدنيّة.

5 -

(ومنها): أن هذا الإسناد مما يُعدّ من أصحّ الأسانيد، كما قاله في "الفتح".

6 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، على قول من يقول: إن منصورًا من صغار التابعين، وفيه رواية الراوي عن خاله، فعلقمة خال لإبراهيم.

7 -

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيس رحمه الله أنه (قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها، مقتبس من قوله سبحانه وتعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وقوله:(عَائِشَةَ) بالنصب على البدليّة وقوله: (قَالَ: قُلْتُ) بيان لكيفيّة سؤاله إياها (يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ

ص: 183

عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟) أي: من الصلاة، والصوم وغيرهما؟ وقوله:(هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟) بدل من "كيف كان. . . إلخ"؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم هل كان يخصّ بحض الأيام بعبادة مخصوصة لا يفعل مثلها في غيره؟ (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (لَا) أي: ما كان يخصّ بعض الأيام بشيء من العبادة.

قال في "الفتح": وقد استُشكل قولها هذا بما ثبت عنها أن أكثر صيامه كان في شعبان كما سيأتي تقريره في "كتاب الصيام"، وبأنه كان يصوم أيام البيض، كما ثبت في "السنن".

وأجيب بأن مرادها تخصيص عبادة معينة في وقت خاص، وإكثاره الصيام في شعبان إنما كان؛ لأنه كان يعتريه الْوَعْك كثيرًا، وكان يكثر السفر في الغزو، فيفطر بعض الأيام التي كان يريد أن يصومها، فيتفق أن لا يتمكن من قضاء ذلك إلا في شعبان، فيصير صيامه في شعبان بحسب الصورة أكثر من صيامه في غيره، وأما أيام البيض فلم يكن يواظب على صيامها في أيام بعينها، بل كان ربما صام من أول الشهر، وربما صام من وسطه، وربما صام من آخره، ولهذا قال أنس رضي الله عنه: ما كنت تشاء أن تراه صائمًا من النهار إلا رأيته، ولا قائمًا من الليل إلا رأيته. انتهى

(1)

.

(كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً) -بكسر الدال المهملة، وسكون التحتانية- أي: دائمًا، والدِّيمة في الأصل: المطر المستمرُّ مع سكون، بلا رَعْد ولا بَرْق، ثم استُعْمِل في غيره، وأصلها الواو، فقُلبت ياءً؛ لانكسار ما قبلها.

(وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ) وفي رواية للبخاريّ في "كتاب الصوم": "يُطيق" في الموضعين (مَا) موصولة مفعول "يستطيع"(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ؟) هكذا في النسخ بحذف العائد، وهو جائزٌ، كما نبّهت عليه قريبًا، وفي بعض النسخ:"ما كان يستطيع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"؛ أي: الذي يستطيعه صلى الله عليه وسلم، من العبادة كميّةً كانت، أو كيفيةً، من خشوع، وخضوع، وإخبات، وإخلاص.

[تنبيه]: أخرج المصنّف رحمه الله في "كتاب الصيام" ما يعارض حديث عائشة رضي الله عنها هذا من حديث عائشة رضي الله عنها نفسِها مما يقتضي نفي المداومة، وهو ما

(1)

"الفتح" 11/ 305.

ص: 184

أخرجه من طريق أبي سلمة، ومن طريق عبد اللَّه بن شقيق جميعًا، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن صيام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت:"كان يصوم حتى نقول: قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر"، وأخرج نحوه البخاريّ من حديث ابن عباس رضي الله عنها، ومن حديث أنس رضي الله عنه.

ويمكن الجمع بينهما بأن قولها: "كان عمله ديمة" معناه: أن اختلاف حاله في الإكثار من الصوم، ثم من الفطر كان مُستدامًا مستمِرًّا، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يوظف على نفسه العبادة، فربما شغله عن بعضها شاغل، فيقضيها على التوالي، فيشتبه الحال على من يرى ذلك، فقول عائشة رضي الله عنها:"كان عمله ديمة" مُنَزَّلٌ على التوظيف، وقولها:"كان يصوم حتى نقول: قد صام. . . إلخ" مُنَزَّل على الحال الثاني.

وقيل: معناه أنه كان لا يقصد نفلًا ابتداءً في يوم بعينه فيصومه، بل إذا صام يومًا بعينه كالخميس مثلًا داوم على صومه

(1)

، والجمع الأول أوضح، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: قال ابن التين رحمه الله: استَدَلَّ بعضهم بحديث عائشة هذا على كراهة تحري صيام يوم من الأسبوع.

وأجاب الزين ابن الْمُنَيِّر بأن السائل في حديث عائشة رضي الله عنها إنما سأل عن تخصيص يوم من الأيام من حيث كونها أيامًا، وأما ما ورد تخصيصه من الأيام بالصيام، فإنما خُصِّص لأمر لا يشاركه فيه بقية الأيام، كيوم عرفة، ويوم عاشوراء، وأيام البيض، وجميع ما عُيّن لمعنى خاصّ، وإنما سأل عن تخصيص يوم؛ لكونه مثلًا يوم السبت.

قال الحافظ رحمه الله: ويُشْكِل على هذا الجواب صوم الاثنين والخميس، فقد وردت فيهما أحاديث صحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وصححه ابن حبان من طريق رَبِيعة الْجُرَشيّ عنها، ولفظه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس"، وحديث أسامة رضي الله عنه: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين والخميس، فسألته،

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 277 "كتاب الصوم" رقم (1987).

ص: 185

فقال: إن الأعمال تُعْرَض يوم الاثنين والخميس، فأُحِبّ أن يُرْفَع عملي، وأنا صائم"، أخرجه النسائيّ، وأبو داود، وصححه ابن خزيمة.

ويُجاب عن هذا الإشكال أن يقال: لعلّ المراد بالأيام المسئول عنها الأيامُ الثلاثةُ من كل شهر، فكأن السائل لَمّا سمع أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيّام، ورَغَّب في أنها تكون أيام البيض، سأل عائشة رضي الله عنها، هل كان يخصها بالبيض؟ فقالت: لا، كان عمله ديمة، تعني لو جعلها البيض لتعينت، وداوم عليها؛ لأنه كان يحب أن يكون عمله دائمًا، لكن أراد التوسعة بعدم تعينها، فكان لا يبالي من أيّ الشهر صامها، فقد رَوَى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وما يبالي من أيّ الشهر صام. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا جمع الحافظ رحمه الله، وأحسن منه ما جمع به القرطبيُّ رحمه الله، حيث قال: جواب عائشة رضي الله عنها هذا بقولها: "لا" محمول على غير الصيام؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصّ الاثنين والخميس بالصيام، فتعيّن صرف حمله إلى غير ذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي جمع به القرطبيّ رحمه الله جمع حسنٌ جدًّا، وحاصله أن جواب عائشة رضي الله عنها سؤال علقمة هل كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخصّ شيئًا من الأيام؟ بقولها:"لا، كان عمله ديمة" محمول على غير الصوم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخصّ بعض الأيام بصوم، كيومي الاثنين والخميس.

ثم وجدت ما يوضّح هذا الجمع، فقد أخرج الحديث أبو عوانة في "مسنده" من طريق أبي النضر، عن شعبة، ولفظه:"سألت عائشة عن صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كانت صلاته ديمة"، فتبيّن بهذا أن السؤال ليس عن عموم أعماله صلى الله عليه وسلم، بل كان عن صلاته فقط، فزال الإشكال من أصله -وللَّه الحمد- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 277 - 278 "كتاب الصوم" رقم (1987).

(2)

"المفهم" 2/ 414.

ص: 186

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1829 و 1830](783)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1987) و"الرقاق"(6466)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1370) و (النسائيّ) في "الرقائق" من "الكبرى"

(1)

، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(303)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1398)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 43 و 55 و 174 و 189)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(322 و 3647)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3053)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1778)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 299)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل العمل الدائم من قيام الليل وغيره.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كثرة الاجتهاد في الوفاء بما التزمه من العبادة، قال القرطبي رحمه الله: هذا يدلّ على شدّة ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه من كثرة التكاليف والاجتهاد في الوفاء بها، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كُلّف بتكاليف خاصّةً به، كما خُصّ به من الواجبات زيادةً على ما ساوى فيه جميع المكلّفين، ثم إنه قد كُلّف مراعاة مصالح أهل بيته، ومصالح الخلق كلّهم خاصّةً وعامّةً الدينيّة والدنيويّة، هذا بالنظر إلى ظاهر أمره، وأما بالنظر إلى خواصّ باطنه مما لا يُدْرَكُ، ولا يمكن وصفه، وغاية العبارة عنه قوله:"إني أعلمكم باللَّه، وأشدّكم له خشيةً"، متّفقٌ عليه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان والعبادات والمشقّات، ليست له راحة، وقال في لفظ آخر:"إني أخشاكم للَّه، وأعلمكم به وبحدوده"، رواه أحمد، وقد كان يتفطّر قدماه من القيام، ويُجهد نفسه من الجوع، ويَربِط على بطنه الحجر والحجرين، وكان ينتهي من إجهاد نفسه إلى

(1)

كتب في هامش "تحفة الأشراف"(11/ 641) أن "كتاب الرقائق" غير مطبوع، واللَّه أعلم.

ص: 187

أن يَرِقّ عليه وليّه، ويرحمه الناظر إليه. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1830]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإنْ قَلَّ"، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ

(2)

لَزِمَتْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمَير، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن قيس بن عمرو الأنصاريّ، أخو يحيى، صدوقٌ سيئ الحفظ [4](ت 141)(خت م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 26/ 1775.

4 -

(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695، وشرح الحديث تقدّم في الأحاديث السابقة، وكذا بيان مسائله.

وقوله: (قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير القاسم.

وقوله: (وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ) وفي نسخة: "إذا عملت عملًا لزمته"، وهو بمعنى قولها الماضي:"وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عَمِلُوا عملًا أثبتوه"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1831]

(784) - (وَحَدَّثَنَا

(3)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ (ح)

(1)

"المفهم" 2/ 414 - 415.

(2)

وفي نسخة: "عملت عملًا".

(3)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 188

وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُود بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ:"مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ، أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ:"حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فَتَرَ قَعَدَ"، وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ:"فَلْيَقْعُدْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن إبراهيم بن مِقِسَم الأسديّ مولاهم، المعروف بابن عليّة، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنَانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

5 -

(أَنَسُ) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الْخَزْرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، وهو (115) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن له فيه شيخين، فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة تحمّله عنهما، حيث أخذه عن أبي بكر مع جماعة، وعن زهير وحده، وأيضًا اختلفا في شيخهما، فأبو بكر قال: حدثنا ابن عُليّة، وزهير قال: حدّثنا إسماعيل، فتنبّه لهذه الدقائق الإسناديّة.

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني نسائيّ، ثم بغداديّ.

5 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وكان من المعمّرين، وقد

ص: 189

تشرّف بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ونال دعوته المباركة، كما تقدّم غير مرّة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ) أي: النبويّ، فـ "أل" فيه للعهد (وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيتَيْنِ) هكذا بالتنكير في رواية المصنّف، وفي رواية البخاريّ:"بين الساريتين" بالتعريف؛ أي: اللتين في جانب المسجد، وكأنهما كانتا معهودتين للمخاطب، والجملة في محلّ نصب على الحال من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية النسائيّ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَرَأَى حَبْلًا مَمْدُودًا، بَيْنَ سَارِيتَيْن".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا هَذَا؟ ") وفي رواية البخاريّ: "ما هذا الحبل؟ "؛ أي: ما فائدة مدّه بين الساريتين؟ (قَالُوا: لِزَيْنَبَ) قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": جزم كثير من الشرّاح، تبعًا للخطيب في "مبهماته" بأنها بنت جحش، أم المؤمنين رضي الله عنها، ولم أر ذلك في شيء من الطرق صريحًا، ووقع في شرح الشيخ سراج الدين ابن الملقّن أن ابن أبي شيبة رواه كذلك، لكنّي لم أر في "مسنده"، و"مصنّفه" زيادة على قوله:"قالوا: لزينب"، أخرجه عن إسماعيل ابن عُليّة، عن عبد العزيز، وكذا أخرجه مسلم عنه، وأبو نُعيم في "المستخرج" من طريقه، وكذلك رواه أحمد في "مسنده" عن إسماعيل، وأخرجه أبو داود عن شيخين له، عن إسماعيل، فقال عن أحدهما:"زينب"، ولم يَنسُبها، وقال عن آخر:"حَمْنَة بنت جحش"، فهذا قرينة في كون زينب هي بنت جحش.

ورَوَى أحمد من طريق حماد، عن حُميد، عن أنس رضي الله عنه أنها حمنة بنت جحش أيضًا، فلعلّ نسبة الحبل إليهما باعتبار أنه ملك لإحداهما، والأخرى المتعلّقة به، وقد تقدّم في "كتاب الحيض" أن بنات جحش كانت كل واحدة منهنّ تُدعَى زينب، فيما قيل، فعلى هذا فالحبل لحمنة، وأطلق عليها زينب باعتبار اسمها الآخر.

ووقع في "صحيح" ابن خزيمة من طريق شعبة عن عبد العزيز: "قالوا: لميمونة بنت الحارث"، وهي رواية شاذّة، وقيل: يَحْتَمِل تعدد القصّة، ووهِمَ

ص: 190

من فسّرها بجويرية بنت الحارث، فإن لتلك قصة أخرى. انتهى

(1)

.

(تُصَلِّي) أي: صلاة الليل قائمةً (فَإِذَا كَسِلَتْ) بكسر السين، قال في "القاموس": الْكَسَلُ محرَّكةً: التثاقُلُ عن الشيء، والفُتُورُ فيه، كَسِلَ كَفَرِحَ، فهو كَسِلٌ، وكَسْلَانٌ، جمعه كِسَالَى مثلّثة الكاف، وكَسَالِي بكسر اللام، وكَسْلَى، كقَتْلَى، وهي كَسِلَةٌ، وكَسْلانَةٌ، وكَسُولٌ، ومِكْسَالٌ. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَوْ فَتَرَتْ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، و"فَتَرَت" بفتح الفاء، والتاء الفوقانيّة، يقال: فَتَرَ عن العمل، من باب قعد: انكسرت حِدّته، ولان بعد شِدّته، ومنه فَتَرَ الحرُّ: إذا انكسر فترةً، وفُتُورًا، قاله في "المصباح"

(3)

.

وقال في "القاموس": فَتَرَ يفتُر -أي: بضمّ التاء- ويَفْتِرُ -أي بكسرها- فُتُورًا وفُتَارًا: سَكَنَ بعد حِدّة، ولان بعد شدّة. انتهى

(4)

، فأفاد أنه من بابي قعد، وضرب.

والمعنى هنا: أنها إذا كَسِلت عن القيام للصلاة (أَمْسَكَتْ بِهِ) أي: تعلّقتْ به، قال في "اللسان": مَسَكَ بالشيء، وأمسك به، وتَمَسَّك، وتماسك، واستمسك، ومَسَّكَ: كله احتَبَسَ، وفي التنزيل:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170]، قال خالد بن زُهَير [من الطويل]:

فَكُنْ مَعْقِلًا فِي قَوْمِكَ ابْنَ خُوَيْلِدٍ

وَمَسِّكْ بِأَسْبَابٍ أَضَاعَ رُعَاتُهَا

قال في "التهذيب" في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} بسكون الميم، وسائر الْقُرّاء يُمَسِّكون بالتشديد، وأما قوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، فإن أبا عمرو، وابن عامر، ويعقوب الحضرميّ، قرأوا:(وَلَا تمسِّكُوْا) بتشديدها، وخففها الباقون، ومعنى قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} : أي: يؤمنون به، ويَحْكُمون بما فيه، وقال الجوهريّ: أمسكتُ بالشيء، وتمسكت به، واستمسكت به، وامتسكت: كلُّه بمعنى اعتصمت، وكذلك مَسَّكتُ به تمسيكًا، وقُرِئ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ

(1)

"الفتح" 3/ 44 "كتاب التهجّد" رقم (1150).

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 44.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 461.

(4)

"القاموس المحيط" 2/ 107.

ص: 191

الْكَوَافِرِ}، وفي التنزيل:{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "تعلّقت به".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("حُلُّوهُ) -بضم الحاء- أمرٌ من حَلَّ العُقْدَةَ يحُلُّها، من باب قتل: نَقَضَها، وزاد في رواية البخاريّ لفظة "لا" قبله، ولفظه:"لا، حُلُّوه"، قال في "الفتح": يَحْتَمِل النفي؛ أي: لا يكون هذا الحبل، أو لا يُحْمَد، ويَحْتَمِل النهي؛ أي: لا تفعلوه. انتهى

(2)

.

(لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ) -بفتح النون-؛ أي: مدّة نشاطه (فَإِذَا كَسِلَ، أَوْ فتَرَ قَعَدَ") بصيغة الماضي، وهو خبر بمعنى الأمر (وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ:"فَلْيَقْعُدْ") يعني: أن رواية "قَعَد" بصيغة الماضي لفظ شيخه أبي بكر، وأما شيخه زُهير، فرواه بلفظ:"فليقعد" بصيغة الأمر، وهذا الأمر يَحْتَمِل أن يكون أمرًا بالقعود عن القيام، فيُستدلّ به على جواز افتتاح الصلاة قائمًا، والقعود في أثنائها، وفيه اختلاف بين العلماء، والصحيح جوازه، ويَحْتَمِل أن يكون أمرًا بالقعود عن الصلاة؛ أي: بترك ما كان عَزَم عليه من التنفّل، ويمكن أن يستدلّ به على قطع النافلة بعد الدخول فيها

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال في "الفتح": يُستدلّ به على قطع النافلة، وفيه نظرٌ؛ لأنه يعارضه قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فالأولى أن يُحْمَل على تخفيف الصلاة، والانتهاء منها بالسلام، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1831 و 1832](784)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1150)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1312)، و (النسائيّ) في "قيام

(1)

"لسان العرب" 10/ 487 - 488.

(2)

"الفتح" 2/ 44.

(3)

راجع: "الفتح" 2/ 44.

ص: 192

الليل" (1643) و"الكبرى" (1306 و 1307)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة" (1271)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 101)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (1180 و 1181)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (2492)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (2223)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (1780 و 1781)، واللَّه أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمّق فيها.

2 -

(ومنها): الأمر بالإقبال على العبادة بنشاط، وأنه إذا فَتَر فليقعد حتى يذهب عنه الفتور.

3 -

(ومنها): إزالة المنكر باليد واللسان من تمكن من ذلك.

4 -

(ومنها): جواز التنفّل للنساء في المسجد من غير كراهة، فإنها كانت تصلي النافلة فيه، فلم يُنكِر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها ذلك، وإنما أنكر عليها التكلُّف لذلك، وجوازه للرجال يكون من باب أولى.

5 -

(ومنها): كراهة التعلّق بالحبل في الصلاة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1832]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمِي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 235) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

وفي نسخة: "بمثله".

ص: 193

وقوله: (مِثْلَهُ) وفي نسخة: "بمثله"؛ أي: بمثل حديث إسماعيل ابن عليّة الماضي.

[تنبيه]: رواية عبد الوارث، عن عبد العزيز بن صُهيب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1150)

حدّثنا أبو معمر

(1)

، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا عبد العزيز بن صُهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال:"ما هذا الحبل؟ " قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فَتَرَت تَعَلَّقَت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا، حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نَشاطه، فإذا فَتَرَ فليقعد". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1833]

(785) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مَرَّتْ بِهَا، وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ

(2)

: هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَنَامُ اللَّيْلَ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتى تَسْأَمُوا").

رجال هذا الإسناد:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجِيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمَليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

(1)

هو عبد اللَّه بن عمرو المقعد البصريّ.

(2)

وفي نسخة: "فقالت".

ص: 194

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقة ثبت عابد [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل باب.

6 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 94) على الصحيح، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

7 -

(عَائِشَةُ) رضي الله عنها تقدّمت في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني مُسلسَلٌ بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، ورواية الراوي عن خالته.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الحديث، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بنصب "زوجَ" على البدليّة (أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ الْحَوْلَاءَ) بالحاء المهملة، والمدّ (بِنْتَ تُوَيْتِ) بمثنّاتين مصغّرًا (ابْنِ حَبِيبِ) بفتح الحاء المهملة، مكبّرًا (ابْنِ أَسَدِ) بفتحتين (ابْنِ عَبْدِ الْعُزَّى) بضم العين المهملة، وتشديد الزاي، مقصورًا، من رهط خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.

قال في "الإصابة": الحَوْلاءُ بنت تُوَيت بن حبيب بن أسد بن عبد الْعُزَّى بن قُصيّ القرشيّة الأسديّة، ذكرها ابن سعد، وقال: أسلمت، وبايعت. انتهى

(1)

.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 93 - 94.

ص: 195

وقال في "العمدة": كانت الْحَوْلاء امرأة صالحةً، عابدةً، مهاجرةً رضي الله عنها انتهى

(1)

.

(مَرَّتْ بِهَا) هكذا، في رواية الزهريّ:"مرّت بها"، وفي رواية هشام بن عروة، عن أبيه التالية:"قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ"، فظاهره التغاير، فيَحْتَمِل أن تكون المارّة امرأة غيرها من بني أسد أيضًا، أو أن قصتها تعددت، والصواب أن القصة واحدةٌ، ويُبَيِّن ذلك روايةُ محمد بن إسحاق، عن هشام في هذا الحديث، ولفظه:"مَرَّت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحولاء بنت تُويت"، أخرجه محمد بن نصر في "كتاب قيام الليل" له، فَيُحْمَلُ على أنها كانت أوّلًا عند عائشة رضي الله عنها، فلما دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها قامت المرأة، فلما قامت لتخرج مَرَّت به في خلال ذهابها، فسأل عنها، وبهذا تجتمع الروايات، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "مرّت"(فَقُلْتُ) وفي نسخة: "فقالت"؛ أي: بعد أن سألها النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها، ففي رواية هشام التالية:"فقال: من هذه؟ "(هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُويتٍ، وَزَعَمُوا) تقدّم أنه يُستعمل للقول المحقّق، وإن كان أكثر استعماله فيما كان باطلًا، أو فيه ارتياب (أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ) أي: كلّه، وفي رواية للبخاريّ:"لا تنام بالليل"، ولأحمد عن يحيى القطّان:"لا تنام تصلّي"(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنَامُ اللَّيْلَ!) هذا قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم إنكارًا عليها، وكراهة فعلها، وتشديدها على نفسها، يوضّح ذلك ما وقع لمالك في "الموطّأ" في هذا الحديث، ولفظه:"وكَرِه ذلك حتى عُرِفتِ الكراهةُ في وجهه"، قاله النوويُّ رحمه الله

(3)

.

(خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ) وفي رواية هشام: "قال: عليكم من العمل ما تُطيقون" أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلّف ما لا يطاق.

(1)

"عمدة القاري" 1/ 256.

(2)

راجع: "الفتح" 1/ 125.

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 73.

ص: 196

وقال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون هذا خاصًّا بصلاة الليل، ويَحْتَمِل أن يكون عامًّا في الأعمال الشرعية. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: سبب وروده خاصّ بالصلاة، ولكن اللفظ عامّ، وهو المعتبر. انتهى، وهو تحقيقٌ حسنٌ.

(فَوَاللَّهِ) فيه مشروعيّة الحلف من غير استحلاف، وقد يُستحبّ إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين، أو حثّ عليه، أو تنفير من محذور (لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا") بفتح أوله، وثالثه، مضارع سئم، بفتح فكسر، يقال: سَئِمتُه أسأمه مهموزًا، من باب تَعِبَ سَأْمًا، وسآمةً: بمعنى ضَجِرْتُهُ، ومَلِلْتُهُ، ويُعدَّى بالحرف أيضًا، فيقال: سَئِمْتُ منه، وفي التنزيل:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49]، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقد تقدّم معناه في حديث عائشة رضي الله عنها المذكور أول الباب بلفظ: "فإن اللَّه لا يملّ حتى تملّوا"، فإنه بمعناه، وقد استوفيت شرحه هناك، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 1833 و 1834](785)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(43) و"التهجّد"(1151)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(311)، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(1642) و"الإيمان"(5037) و"الكبرى"(1307)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(4238)، و (أحمد)(6/ 46 و 51 و 199 و 212 و 231 و 247 و 268)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1485)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(359 و 2586)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2224 و 2225 و 2226)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1782 و 1783)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 300.

ص: 197

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحضّ على التخفيف في أعمال النوافل، ويتضمّن الزجر عن التشدّد والغلوّ فيها، قال القرطبي رحمه الله: وسبب ذلك أن التخفيف يكون معه الدوام والنشاط، فيكثر الثواب؛ لتكرار العمل، وفراغ القلب، بخلاف الشاقّ منها، فإنه يكون معه التشويش، والانقطاع غالبًا. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): كراهة إحياء الليل كله بالعبادة، خشية الفتور، والملل على فاعله، فينقطع عن عبادة التزمها، فيكون رجوعًا عما بذل لربّه من نفسه، ونقل في "الفتح" أن الشافعيّ رحمه الله سئل عن قيام جميع الليل؟ فقال: لا أكرهه إلا من خَشِي أن يضُرّ بصلاة الصبح. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي عزاه إلى الشافعيُّ رحمه الله من عدم كراهته قيام جميع الليل لعله لا يصحّ عنه، كما يرشد إليه ما سيأتي عن النوويّ، وإن صحّ فلا وجه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كرهه، وأنكره على هذه المرأة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): جواز مدح الإنسان بما فيه من أعمال الخير، إذا لم يُخش عليه الافتتان، وما ورد من النهي يُحمل على خوف الفتنة.

4 -

(ومنها): استحباب الاقتصاد في العبادة، وكراهة التنطّع، والتعمّق فيها.

5 -

(ومنها): أن اللَّه تعالى يعامل عبده بما يعامله به هو، فإن أدام الإقبال عليه، أقبل عليه دائمًا، وإن أعرض عنه أعرض عنه، جزاء وفاقًا.

6 -

(ومنها): أن أحب الدين إلى اللَّه تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه، وإن كان قليلًا.

7 -

(ومنها): ما قاله النوويُّ رحمه الله: في هذا دليلٌ لمذهبنا، ومذهب جماعة، أو الأكثرين: أن صلاة جميع الليل مكروهة، وعن جماعة من السلف أنه لا بأس به، وهو رواية عن مالك، إذا لم يَنَم عن الصبح. انتهى.

(1)

"المفهم" 2/ 413.

(2)

"الفتح" 3/ 45 "كتاب التهجّد" رقم (1151).

ص: 198

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله الأولون هو الحقّ؛ لصريح حديث الباب، فقد أنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك على هذه المرأة، فقد تقدّم عن "موطّأ" مالك رحمه الله في هذا الحديث زيادةُ:"وكَرِهَ ذلك، حتى عُرِفت الكراهة في وجهه"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1834]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظ لَهُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةً، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ:"مَنْ هَذِهِ؟ "، فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ، تُصَلِّي، قَالَ:"عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا"، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ بَني أَسَدٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقولها: (وَعِنْدِي امْرَأَةٌ) جملة في محل نصب على الحال، وتقدّم في الحديث الماضي أنها الْحَولاء بنت تُويت رضي الله عنها.

وقولها: (فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ) وفي رواية البخاريّ: "قَالَتْ: فُلَانَةُ"، وهذه اللفظة كناية عن كل عَلَم مؤنث، فلا تنصرف، وزاد عبد الرزّاق، عن معمر، عن هشام في هذا الحديث:"حسنةُ الهيئة"، قاله في "الفتح".

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 199

وقولها: (لَا تَنَامُ، تُصَلِّي) وفي رواية للبخاريّ: "تذكر من صلاتها". قال في "الفتح": بفتح الفوقانية، والفاعل عائشة، وروي بضم الياء التحتانية على البناء لما لم يُسمّ فاعله؛ أي: يذكرون أن صلاتها كثيرة. انتهى.

وقوله: (عَلَيْكُم مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ) وفي رواية البخاريّ: "قال: مَهْ عليكم بما تُطيقون"، فقَوله:"مَهْ" قال الجوهريّ: هي كلمة مبنيّة على السكون، وهي اسمِ، سُمّي به الفعل، والمعنى اكفُفْ، يقال: مَهْمَهْتُهُ: إذا زجرتَهُ، فإن وصلتَ نوَّنْتَ، فقلت: مَيما، وقال الداوديّ: أصل هذه الكلمة "ما هذا؟ "، كالإنكار، فطرحوا بعض اللفظة، فقالوا: مَهْ، فصيّروا الكلمتين كلمة، وهذا الزجر يَحْتَمِل أن يكون لعائشة رضي الله عنها، والمراد نهيها عن مدح المرأة بما ذَكَرتْ، ويَحْتَمِل أن يكون المراد النهي عن ذلك الفعل، وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة، فقالوا: يكره صلاة جميع الليل، قاله في "الفتح"

(1)

.

وإنما عبّر بقوله: "عليكم" مع أن المخاطب النساء؛ طلبًا لتعميم الحكم، فغلّب الذكور على الإناث، واللَّه تعالى أعلم.

وقولها: (وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ) أي: إلى اللَّه تعالى، أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال في "الفتح": في رواية المستملي وحده "إلى اللَّه"، وكذا في رواية عبدة، عن هشام، عند إسحاق ابن راهويه في "مسنده"، وكذا عند البخاريّ ومسلم من طريق أبي سلمة، ولمسلم عن القاسم، كلاهما عن عائشة رضي الله عنها، وقال باقي الرواة عن هشام:"وكان أحبّ الدين إليه"؛ أي: إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصرح به البخاريّ في "الرقاق" في رواية مالك، عن هشام، وليس بين الروايتين تخالف، لأن ما كان أحبّ إلى اللَّه تعالى، كان أحبّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقولها: (مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ) أي: الذي استمرّ عليه، ولم ينقطع عنه، "وإن كان قليلًا، ففي الرواية السابقة من طريق أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها: "وإن أحبّ الأعمال إلى اللَّه ما دُووم عليه، وإن قلّ".

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ. . . إلخ) تقدّم أن هذا السياق ليحيى القطّان، حيث قال المصنّف:"واللفظ له"؛ يعني: أن لفظ المتن لشيخه زهير،

(1)

"الفتح" 1/ 125 - 126.

ص: 200

عن يحيى القطّان، وأما أبو بكر، وأبو كريب، عن أبي أسامة، فروياه بالمعنى، لكن بيّن هنا أن في رواية أبي أُسامة زيادةً، وهي قوله:"وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ"، فإن القطّان رواه بلفظ:"وعندي امرأة"، فليس فيه:"من بني أسد"، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث السابق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(33) - (بَابُ أَمْرِ مَنْ نَعَسَ فِي صَلَاتِهِ، أَوِ اسْتَعْجَمَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِأَنْ يَرْقُدَ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1835]

(786) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْقُدْ، حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ نَاعِسٌ، لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسِ) بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه، إمام دار الهجرة الإمام الفقيه المشهور، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.

ص: 201

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة أسانيد فرّق بينها بالتحويل، لاختلاف صيغ أدائهم، كما أوضحته غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما شيخه أبو كريب، فمن مشايخ الجماعة بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مالك، ومن عداه كلّهم كوفيّون، سوى قُتيبة، فبغلانيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ) وفي رواية النسائيّ: "إذا نَعَسَ الرجل"، وهو بفتح النون والعين المهملة، من باب منع، كما في "القاموس"، وقال في "المصباح": نَعَسَ، يَنْعُسُ من باب قَتَلَ، والاسم: النُّعَاس، فهو ناعسٌ، والجمع نُعَّس، مثلُ رَاكِعٍ ورُكَّعٍ، والمرأة ناعسةٌ، والجمع نَوَاعس، وربما قيل: نَعْسَان ونَعْسَى، حملوه على وسَنان ووَسْنَى.

وأول النوم النعاس وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم، ثم الْوَسَنُ، وهو ثِقَلُ النعاس، ثم التَّرْنيقُ، وهو مخالطة النعاس للعين، ثم الكَرَى، والغَمْض، وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليَقْظان، ثم العَفْق، وهو النوم، وأنت تسمع كلام القوم، ثم الهُجُود، والهُجُوع. انتهى.

(فِي الصَّلَاةِ) متعلّق بـ "نَعَسَ"، وفي رواية النسائيّ:"وهو في الصلاة"، وعليه فالجملة حاليّة (فَلْيَرْقُدْ) بضم القاف، يقال: رَقَدَ يَرْقُدُ رَقَدًا من باب نصر، ورُقَادًا ورُقُودًا: إذا نام ليلًا كان أو نهارًا، وبعضهم يخصّه بنوم الليل، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى.

وفي رواية النسائيّ من طريق أيوب، عن هشام:"فلينصرف"، والمراد أنه ينصرف بالتسليم بعد إكمالها.

ص: 202

وقال الحافظ رحمه الله: وحمله المهلَّب على ظاهره، فقال بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدلّ على أنه إذا كان النعاس أقلّ من ذلك عُفِي عنه، قال: وقد أجمعوا على أن النوم القليل لا ينقض الوضوء، وخالف في ذلك الْمُزَنيّ فقال: ينقض قليله وكثيره، فخرق بذلك الإجماع، كذا قال المهلَّب، وتبعه ابن بطال، وابن التين، وغيرهما وقد تحاملوا على المزنيّ في هذه الدعوى، فقد نقل ابن المنذر، وغيره عن بعض الصحابة رضي الله عنهم والتابعين المصير إلى أن النوم حدث ينقض قليله وكثيره، وهو قول أبي عبيد، وإسحاق ابن راهويه، قال ابن المنذر: وبه أقول؛ لعموم حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه؛ يعني: الذي صححه ابن خزيمة، وغيره، ففيه:"إلا من غائط، أو بول، أو نوم"، فسوّى بينهما في الحكم، والمراد بقليله وكثيره طول زمانه وقصره لا مباديه.

والذين ذهبوا إلى أن النوم مظنة الحدث اختلفوا على أقوال: التفرقة بين قليله وكثيره، وهو قول الزهريّ، ومالك، وبين المضطجع وغيره، وهو قول الثوريّ، وبين المضطجع والمستند وغيرهما، وهو قول أصحاب الرأي، وبينهما والساجد بشرط قصده النوم وبين غيرهم، وهو قول أبي يوسف، وقيل: لا ينقض نوم غير القاعد مطلقًا، وهو قول الشافعي في القديم، وعنه التفصيل بين خارج الصلاة فينقض أو داخلها فلا، وفَصَّل في الجديد بين القاعد المتمكن فلا ينقض وبين غيره فينقض. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم البحث عن هذه الأقوال مستوفى في "كتاب الحيض"، مع ترجيح ما ذهب إليه الشافعيُّ في الجديد؛ لقوّة حجته، فراجعه برقم [8/ 839](376) تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ) غاية للرقاد؛ أي: يرقُد إلى أن يذهب عنه نومه الذي منعه من الصلاة.

ثم بيّن سبب أمره بالرقاد، وتركه الصلاة بقوله:(فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى، وَهُوَ نَاعِسٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (لَعَلَّهُ يَذْهَبُ) أي: يقصد، يقال: ذَهَبَ مَذْهَبَ فُلانٍ: أي: قَصَدَ قَصْدَهُ، قاله في "المصباح"

(2)

، وقوله:(يَسْتَغْفِرُ)

(1)

"الفتح" 1/ 376.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 210.

ص: 203

جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، قال القاضي عياض رحمه الله: معنى "يستغفر" يدعو. انتهى. وبدلّ عليه رواية ابن حبّان في "صحيحه"

(1)

من طريق أيوب، عن هشام بلفظ:"إذا نَعَس الرجل، وهو يصلّي، فلينصرف، لعله يكون يدعو في صلاته، فيدعو على نفسه، وهو لا يدري"(فَيَسُبَّ نَفْسَهُ) بنصب "يسُبّ" على جواب الترجّي، وهو مذهب الكوفيين، ورجحه ابن مالك، حيث قال في "الخلاصة":

وَالْفِعْلُ بَعْدَ الْفَاءِ فِي الرَّجَا نُصِبْ

كَنَصْبِ مَا إِلَى التَّمَنِّي يَنْتَسِبْ

وعليه قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} الآية [غافر: 36، 37] في قراءة من نصب {أَطَّلِعَ} ، وهو حفص، عن عاصم

(2)

.

ويجوز رفعه؛ أي: فهو يسبُّ نفسه.

وقال القرطبي رحمه الله: رويناه برفع الباء من "يسُبُّ" ونصبها، فمن رفع فعلى العطف على "يذهبُ"، ومن نصب فعلى جواب "لعل"، وكأنه أشربها معنى التمنّي، كما قرأ حفص:{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} [غافر: 36، 37] بنصب العين. انتهى

(3)

.

وفي رواية البخاريّ: "فإن أحدكم إذا صلّى، وهو ناعسٌ، لا يدري لعلّه يستغفر، فيسبَّ نفسه".

قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون علة النهي خشية أن يوافق ساعة الإجابة، قاله ابن أبي جمرة

(4)

.

وقال في "العمدة": فإن قلت: كيف يصح ههنا معنى الترجي؟ قلت: الترجي فيه عائد إلى المصلي، لا إلى المتكلم به؛ أي: لا يدري أمستغفر، أم سابّ مترجيًا للاستغفار، فهو بضدّ ذلك، أو استعمل بمعنى التمكن بَيْنَ الاستغفار والسب؛ لأن الترجي بين حصول المرجوّ وعدمه، فمعناه لا يدري:

(1)

راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 6/ 320 رقم (2585).

(2)

"شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 182.

(3)

"المفهم" 2/ 416.

(4)

"الفتح" 1/ 376.

ص: 204

أيستغفر، أم يسبّ؟ وهو متمكن منهما على السوية. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: [فإن قلت]: قد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في نومه في بيت ميمونة رضي الله عنها: "فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني"، ففيه أنه لم يأمره بالنوم.

[قلت]: أجيب عن ذلك بأنه إنما لم يأمره بالنوم؛ لأنه جاء تلك الليلة ليتعلم منه، فتركه، وهو ينعس، ولكن كان ينبّهه بفرك أذنه؛ ليكون أثبت له، أفاده في "العمدة"

(2)

.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": قال المهلَّب: فيه إشارة إلى العلة الموجبة لقطع الصلاة، فمن صار في مثل هذه الحال، فقد انتقض وضوؤه بالإجماع.

كذا قال، وفيه نظرٌ؛ فإن الإشارة إنما هي إلى جواز قطع الصلاة، أو الانصراف إذا سلم منها، وأما النقض فلا يتبين من سياق الحديث؛ لأن جريان ما ذُكِر على اللسان ممكن من الناعس، وهو القائل إن قليل النوم لا ينقض فكيف بالنعاس، وما ادّعاه من الإجماع مُنتقَضٌ، فقد صح عن أبي موسى الأشعريّ، وابن عمر رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب: أن النوم لا ينقض مطلقًا، وفي "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود":"وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فينامون، ثم يصلون، ولا يتوضئون"، فحُمِل على أن ذلك كان، وهم قعود.

لكن في "مسند البزار" بإسناد صحيح في هذا الحديث: "فيضعون جنوبهم، فمنهم من ينام، ثم يقومون إلى الصلاة". انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتَّفَق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"عمدة القاري" 2/ 425.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 2/ 425.

(3)

"الفتح" 1/ 376.

ص: 205

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 1835](786)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(212)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1310)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(355)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(162) و"الكبرى"(154)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1370)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 118)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2583 و 2584)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2219 و 2220 و 2221)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1784 و 1785)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4222)، و (الحميديّ) في "مسنده"(185)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 56 و 202 و 205 و 259)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 321)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 16)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(940)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحث على الخشوع وحضور القلب في العبادة، وذلك لأن الناعس لا يحضر قلبه، والخشوع إنما يكون بحضور القلب.

2 -

(ومنها): الأمر بقطع الصلاة عند غلبة النوم عليه، قال المهلَّب رحمه الله: إنما هذا في صلاة الليل؛ لأن الفريضة ليست في أوقات النوم، ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك.

ورُدّ عليه بأن العبرة بعموم اللفظ، فيُعْمَل به أيضًا في الفرائض إن وقع ما أُمنَ بقاءُ الوقت، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويُّ رحمه الله: هذا عامّ في صلاة الفرض والنفل في الليل والنهار، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، لكن لا يُخرِج فريضة عن وقتها، قال القاضي عياض: وحمله مالك وجماعةٌ على نفل الليل؛ لأنه محلّ النوم غالبًا. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): بيان عدم انتقاض الوضوء بالنعاس، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ سبب الأمر بالانصراف، وهو الدعاء على نفسه، ولو كان النعاس ناقضًا للوضوء لعلَّل الأمر بالنوم به.

4 -

(ومنها): الأخذ بالاحتياط؛ لأنه عَلَّل بأمر مُحْتَمِلٍ.

5 -

(ومنها): أن فيه جواز الدعاء في الصلاة من غير تعيين بشيء من الأدعية.

(1)

"الفتح" 1/ 377.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 74.

ص: 206

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيُّ رحمه الله: الحديث نبّه في آخره على علّة الأمر بالنوم، وهو أنه توقّع منه ما يكون منه من الغلط فيما يقرأ، أو يقول، ولم يجعل علّة ذلك نقض طهارته، فدلّ على أن النوم ليس بحدث على ما تقدّم. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1836]

(787) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ، فَاستَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، فَلْيَضْطَجِعْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قريبًا.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عقبة، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما مرّ آنفًا.

3 -

(ومنها): أن قوله: "فذكر أحاديث. . . إلخ" إشارة إلى أن هذا الحديث من صحيفة همّام بن منبّه المشهورة.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

(1)

"المفهم" 2/ 415 - 416.

ص: 207

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) أنه (قَالَ: هَذَا) الإشارة إلى ما تضمّنته صحيفته المشهورة من الحديث (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) الفاعل ضمير همّام (أَحَادِيثَ، مِنْهَا) أي: من جملة تلك الأحاديث، فالجارّ والمجرور خبر مقدّم وقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) مبتدأ مؤخّر؛ محكيّ؛ لقصد لفظه ("إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ) أي: في الليل، فـ "من" بمعنى "في"، ويَحْتَمِل أن تكون للتبعيض؛ أي: بعض الليل.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قوله: "إذا قام أحدكم من الليل" يَحْتَمِل وجهين:

[أحدهما]: أن القيام هنا على بابه، والمراد القيام للصلاة، ثم يَحْتَمِل على هذا أن يكون القيام على ظاهره، وإن لم يَشْرَع في الصلاة، ويَحْتَمِل أن يراد به القيام للصلاة مع الدخول فيها، ويدل لذلك قوله في حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما:"إذا نَعَسَ أحدكم في الصلاة".

[ثانيهما]: أن يراد بالقيام من الليل نفس صلاة الليل، فإنه يقال لصلاة الليل: قيام الليل. انتهى

(1)

.

(فَاسْتَعْجَمَ) بفتح التاء، مبنيًّا للفاعل، وقوله:(الْقُرْآنُ) مرفوع على الفاعليّة (عَلَى لِسَانِهِ) متعلّق بـ "استَعْجَمَ"؛ أي: استغلق القرآن، ولم ينطق به لسانه لغلبة النعاس، كأنه صارت به عجمة؛ لاختلاط حروف الناعس، وعدم بيانها، قال في "الصحاح": استَعْجَمَ عليه الكلامُ: استَبْهَمَ، وقال في "المحكم": استَعْجَم الرجلُ: سَكَت، واستَعجمت عليه قراءته: انقطعت، فلم يقدر على القراءة من نعاس، وقال في "المشارق": استَعجم عليه القرآن: لم يُفصح به لسانه، ثم قال: استعجم القرآن على لسانه: أي ثقلت عليه القراءة، كالأعجميّ، وقال في "النهاية": استَعجم القرآن على لسانه: أي أُرْتِجَ عليه

(2)

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 89.

(2)

"أُريج عليه" مبنيًّا للمفعول: أُغْلِق عليه.

ص: 208

فلم يقدر أن يقرأ، كأنه صار به عجمة

(1)

.

وقوله: (فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ) يَحْتَمِل معناه أوجهًا:

[أحدها]: أنه لنعاسه صار لا يَفهم ما ينطق به.

[والثاني]: أنه لا يدري لشدة نعاسه ما بعد اللفظ الذي نطق به، حتى يأتي به.

[والثالث]: أنه لشدة نعاسه لا يقدر على النطق أصلًا، وهذه مراتب أخفها الأول، وأشدها الأخير، قاله وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

(فَلْيَضْطَجِعْ") أي: فلينم، وهذا الأمر بالاضطجاع في هذه الصورة، هل هو على سبيل الاستحباب، أو الإيجاب؛ قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: ظواهر الأحاديث تقتضي وجوب ذلك، فأما من حيث المعنى، فإن كان النعاس خفيفًا بحيث يعلم المصلي الناعس أنه أتى بواجبات الصلاة، فإن صلاته صحيحة، فلا يجب عليه الخروج منها، وإن كان بحيث لا يعلم ما أتى به من الواجبات فصلاته غير صحيحة، فيجب الخروج منها، ثم إن ذهب عنه النوم بأمر آخر غير الاضطجاع من تبرد بماء، أو غير ذلك فلا شك أنه لا يجب ذلك؛ لأنه وسيلة إلى ذهاب النوم، وقد ذهب، فإذا حصل المقصد سقطت الوسائل، وإن لم يذهب ذلك إلا بالاضطجاع وجب عليه؛ لأنه مقدمة للواجب.

وقال القاضي عياض رحمه الله: إن من اعتراه ذلك في الفريضة، وكان في وقت سعة لزمه أن يفعل مثل ذلك، وينام حتى يتفرغ للصلاة. انتهى، فحمل الأمر في ذلك على الوجوب. انتهى كلام العراقيّ.

قال وليّ الدين رحمه الله: والظاهر حمل الأمر في ذلك على الاستحباب مطلقًا، وما دام النعاس خفيفًا فلا وجه للوجوب، وإذا اشتد النعاس انقطعت الصلاة؛ لشدته، فلا يحتاج إلى إيجاب القطع؛ لأنه يحصل بغير اختيار المصلي، واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول بوجوب الاضطجاع، هو الظاهر؛ لظاهر

(1)

"طرح التثريب" 3/ 89 - 90.

(2)

"طرح التثريب" 3/ 90.

ص: 209

الأمر، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 1836](787)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1311)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 20)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1372)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2585)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4221)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 318)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 297)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 378)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 16)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(941)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحضّ على الإقبال على الصلاة بخشوع، وفراغ قلب، ونشاط، وتعقل لما يقرأه، ويدعو به.

2 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن النعاس لا ينقض الوضوء، فإنه لم يعلل قطع صلاة الناعس ببطلان طهارته، وإنما علله بتوقع الغلط منه، والنعاس دون النوم، وحقيقة النوم استرخاء البدن، وزوال الاستشعار، وخفاء الكلام، وليس ذلك في النعاس، وأما قول صاحب "المحكم": إن النعاس النوم، فهو مخالف لكلام أكثر أهل اللغة، وقد صرح الشاعر بأنه دونه في قوله [من الكامل]:

وَسْنَانُ أَثْقَلَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ

فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ

وقد قال صاحب "المحكم" بعد ذلك: وقيل: مقاربته، وهذا هو الموافق لكلام غيره، واللَّه أعلم.

3 -

(ومنها): أنه استَدَلَّ به صاحب "المفهم" على أن النوم ليس بحدث، من حيث إنه لم يجعل ذلك علة نقض طهارته.

وتعقّبه العراقيّ، فقال: وفيه نظر من حيث إنه لا تعرّض في الحديث

ص: 210

للنوم، وقد يؤدي النعاس إلى النوم، وقد لا يؤدي إليه بأن يستمر المصلي على صفة الناعس حتى يفرغ. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أنه إنما أمره بالاضطجاع؛ لأنه الهيئة المحمودة في النوم، والمعهودة غالبًا، فلو استلقى، أو نام قاعدًا حصل الغرض بذلك.

5 -

(ومنها): أن ظاهر لفظ الحديث اختصاص ذلك بصلاة الليل؛ لأنه قال: "إذا قام أحدكم من الليل"، لكن المعنى يقتضي أن سائر الصلوات في ذلك سواء، وأنه لا فرق بين الفرض والنفل، والتقييد بالقيام من الليل إنما هو لأن الغالب عليه النعاس في صلاة الليل دون صلاة النهار، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، وقد يقال: إن المعنى يقتضي اختصاص ذلك بصلاة النفل؛ لجواز الخروج من صلاة النفل دون الفرض، حكى القاضي عياض عن ممالك، وجماعة مش العلماء أنهم حملوا الحديث على صلاة الليل؛ لأن الغالب غلبة النوم إنما هي في الليل، وحكى النووي عن مذهب الشافعيّ، والجمهور أنه عام في صلاة الفرض والنفل في الليل والنهار، قاله وليّ الدين رحمه الله.

6 -

(ومنها): قال وليّ الدين رحمه الله: محل هذا الأمر ما إذا لم يكن في فريضة قد ضاق وقتها، فإن ضاق الوقت بأن لم يبق منه زمن يسع صلاة الفرض، فليس له الخروج منها، كذا حمله على ذلك القاضي عياض، وقال: إنه يصلي على ما أمكنه، ويجاهد نفسه، ويدافع النوم جهده، ثم إن تحقق أنه أداها وعقلها أجزأته، وإلا أعادها.

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذي": وما ذكره هو الذي يمشي على قواعد مذهبنا كما في مسألة ما إذا قُدِّم الطعام، وقد بقي من الوقت ما يسع قدر الصلاة، وفيه وجه حكاه المتولي، أنه يأكل وإن خرج الوقت، وهو قول أهل الظاهر، وقد يفرق بين البابين بأن الصلاة بحضرة الطعام لا تؤدي إلى حالة الناعس الذي لا يدري ما يقول، وأن من أداه النعاس إلى هذه الحالة لا يستمر في صلاة الفرض، ولا يسرع فيها حتى يكون على حالة يدري أنه أتى بواجبات الصلاة، وقد روى ابن عبد البر في "التمهيد" بإسناده إلى الضحاك في

(1)

"طرح التثريب" 3/ 92.

ص: 211

قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، قال: سكر النوم، قال ابن عبد البرّ: ولا أعلم أحدًا قال ذلك غير الضحاك، قال العراقيّ: إلا أن الآية دلت على أن من لا يعلم ما يقول لا يدخل في الصلاة، فمن أداه غلبة النوم إلى ذلك، فهو منهي عن الدخول فيها، ومن إتمامها بعد الشروع حتى يعلم ما يقول". انتهى

(1)

.

7 -

(ومنها): أنه على تقدير أن يُحمل القيام من الليل على نفس الصلاة، فإذا أمر بإبطال الصلاة بعد الشروع فيها عند طروء النعاس، فعدم الدخول أولى بذلك؛ لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.

8 -

(ومنها): أنه على تقدير أن يُحمَل القيام من الليل على القيام للصلاة، وإن لم يشرع في الصلاة ففيه منع الناعس من قراءة القرآن، ولو كان في غير صلاة، والمعنى فيه ما يُحذَر من تغييره لكلام اللَّه تعالى، وإن كان في الصلاة قدر زائد، وهو أنه إذا لم يعلم ما قرأ من الواجب لم يؤدّ فرضه

(2)

.

9 -

(ومنها): أنه عَلَّل الأمر في الرُّقاد في حديث عائشة رضي الله عنها بأنه "لعله يذهب، يستغفر، فيسب نفسه"، وقال في حديث آخر:"حتى يعلم ما يقرأ"، والقدر المشترك بين العلتين خشية التخليط فيما يأتي به من القراءة والدعاء، والأمر في القراءة أشدّ؛ لوجوبها، ولعظم المفسدة في تغيير القرآن.

[فإن قلت]: كيف يؤاخذ العبد بما لا يقصد النطق به من تغيير نظم القرآن أو دعائه على نفسه، وهو ناعس؟.

[أجيب]: من وجهين: أحدهما: أن من عَرَّض نفسه للوقوع في ذلك بعد النهي عنه، فهو متعدّ بالصلاة في هذه الحالة، فجنايته على نفسه، وهذا إذا كان عالمًا بالنهي.

والوجه الثاني: إنا وإن قلنا: إنه غير آثم؛ لعدم قصده، إلا أن المقصود من الصلاة أداؤها على ما أمر به، وتحصيل الدعاء لنفسه؛ لكونه أقرب ما يكون من ربه، وهو ساجد، فإذا فات المقصود بكونه لم يعلم ما أتى به من

(1)

"طرح التثريب" 3/ 91.

(2)

"طرح التثريب" 3/ 92.

ص: 212

الواجبات، ولم يحصل له إجابة ما قصد أن يدعو به لنفسه، فهو منهي عن تكليف نفسه ما لا فائدة فيه، قاله العراقيّ رحمه الله.

10 -

(ومنها): قد يُدَّعَى أن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا زيادة على حديث عائشة رضي الله عنها المذكور قبله؛ لأن عدم درايته لما يقول قد يكون لنعاس، وقد يكون لشغل فكر، أو لغير ذلك من الأسباب، لكن الأغلب كونه لنعاس، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(34) - (بَابُ الْأَمْرِ بِتَعَهُّدِ الْقُرْآنِ، وَكَرَاهَةِ قَوْلِ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا، وَجَوَازِ قَوْلِ: أُنْسِيتُهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1837]

(788) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبِ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: "يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً، كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا قبل حديث، وكذا لطائف الإسناد.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ) أي: سمع صوت رجل يقرأ في الليل، وذكر عبد الغني بن سعيد رحمه الله في "المبهمات" أن الرجل هو عبد اللَّه بن يزيد الأنصاريّ، فروى من طريق عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ، فقال:"صوت من هذا؟ " قالوا: عبد اللَّه بن يزيد، قال:"لقد ذَكَّرني آيةً -يرحمه اللَّه- كنت أنسيتها". انتهى.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَرْحَمُهُ اللَّهُ) هذا منه صلى الله عليه وسلم دعاء للرجل على تذكيره له الآية

ص: 213

(لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تعيين الآيات المذكورة، وأغرب من زعم أن المراد بذلك إحدى وعشرون آيةً؛ لأن ابن عبد الحكم قال فيمن أَقَرّ أن عليه كذا وكذا درهمًا أنه يلزمه أحد وعشرون درهمًا، وقال الداوديّ: يكون مقرًّا بدرهمين؛ لأنه أقل ما يقع عليه ذلك، قال: فإن قال: له علي كذا درهمًا كان مُقِرًّا بدرهم واحد. انتهى.

(كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا) وفي لفظ البخاريّ: "أسقطتهنّ (مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا") وفي الرواية التالية: "كنت أُنسيتها"، وهي مفسِّرة لقوله:"أسقطتها"، فكأنه قال: أسقطتها نسيانًا لا عمدًا، وعند الإسماعيليّ:"كنت نَسِيتها" بفتح النون، ليس قبلها همزة، قال الإسماعيليّ: النسيان من النبيّ صلى الله عليه وسلم لشيء من القرآن يكون على قسمين:

أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قُرْب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في السهو:"إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون".

والثاني: أن يرفعه اللَّه عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6، 7]، قال: فأما القسم الأول فعارضٌ سريع الزوال؛ لظاهر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وأما الثاني فداخل في قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1837 و 1838](788)، و (البخاريّ) في

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 284 - 285.

ص: 214

"الشهادة"(2655)، و"فضائل القرآن"(5037 و 5038 و 5042)، و"الدعوات"(6335)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1331)، و"الحروف والقراءات"(3970)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(31)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 138)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(107)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 459)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 379)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 12)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز رفع الصوت بالقراءة في الليل، وفي المسجد، ولا كراهة فيه إذا لم يؤذ أحدًا، ولا تعرّض للرياء والإعجاب، ونحو ذلك.

2 -

(ومنها): بيان استحباب الدعاء من أصاب الإنسان من جهته خيرًا، وإن لم يقصده ذلك الإنسان.

3 -

(ومنها): بيان أن الاستماع للقراءة سنة.

4 -

(ومنها): بيان جواز قول سورة كذا، كسورة البقرة، ونحوها، ولا التفات إلى من خالف في ذلك، فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على استعماله.

5 -

(ومنها): جواز قول المرء: أسقطت آية كذا من سورة كذا، إذا وقع ذلك منه، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي عبد الرحمن السُّلَميّ قال: لا تقل: أسقطت كذا، بل قل: أغفلت، وهو أدبٌ حسنٌ، وليس واجبًا

(1)

.

6 -

(ومنها): أنه دليل على جواز النسيان على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما قد بلّغه إلى الأمة، وقد تقدم في باب سجود السهو الكلام فيما يجوز من السهو عليه صلى الله عليه وسلم، وما لا يجوز، قال القاضي عياض رحمه الله: جمهور المحققين على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم ابتداءً فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جَوَّز قال: لا يُقَرّ عليه، بل لا بدّ أن يتذكره، أو يُذَكَّره، واختلفوا هل من شروط ذلك الفور، أم يصح على التراخي قبل وفاته صلى الله عليه وسلم؟ قال: وأما نسيان ما بَلَّغَه، كما في هذا الحديث فيجوز، قال: وقد سبق بيان سهوه صلى الله عليه وسلم في

(1)

"الفتح" 11/ 286.

ص: 215

الصلاة، قال: وقال بعض الصوفية، ومتابعيهم: لا يجوز السهو عليه صلى الله عليه وسلم أصلًا في شيء، وإنما يقع منه صورته ليس إلّا، وهذا تناقض مردودٌ، ولم يقل بهذا أحد ممن يُقْتَدى به إلا الأستاذ أبو المظفر الإسفرايينيّ، فإنه مال إليه، ورجحه وهو ضعيف متناقضٌ، ذكره النوويّ رحمه الله

(1)

.

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم نسيان القرآن بعد حفظه:

قال في "الفتح": اختَلَف السلف في نسيان القرآن، فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفًا قال: ما من أحد تعلم القرآن، ثم نسيه إلا بذنب أحدثه؛ لأن اللَّه يقول:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، ونسيان القرآن من أعظم المصائب.

واحتجوا أيضا بما أخرجه أبو داود، والترمذيّ من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"عُرِضت عليّ ذنوب أمتي، فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن، أوتيها رجل، ثم نسيها"، وفي إسناده ضعف.

وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه، ولفظه:"أعظم من حامل القرآن وتاركه".

ومن طريق أبي العالية موقوفًا: "كنا نَعُدّ من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه"، وإسناده جيّد.

ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن: كانوا يكرهونه، ويقولون فيه قولًا شديدًا.

ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعًا: "من قرأ القرآن، ثم نسيه، لقي اللَّه وهو أجذم"

(2)

، وفي إسناده أيضًا مقال.

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 76 - 77.

(2)

قال في "الفتح"(11/ 286): واختُلِف في معنى "أجذم" فقيل: مقطوع اليد، وقيل: مقطوع الحجة، وقيل: مقطوع السبب من الخير، وقيل: خالي اليد من الخير، =

ص: 216

وقد قال به من الشافعية أبو المكارم، والرويانيّ، واحتَجّ بأن الإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن، ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به، والتهاون بأمره.

وقال القرطبي: من حفظ القرآن، أو بعضه، فقد عَلَت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أَخَلّ بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها، ناسب أن يعاقب على ذلك، فإن ترك معاهدة القرآن يُفضي إلى الرجوع إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد.

وقال إسحاق ابن راهويه: يُكره للرجل أن يمرّ عليه أربعون يومًا لا يقرأ فيها القرآن. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: القول بكون النسيان من الكبائر على إطلاقه غير صحيح؛ لأنه مما لا دليل عليه، إذ لا تصح الأحاديث فيه، ففي إسناد حديث أنس المذكور عبدُ المجيد بنُ عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، وهو مختلف فيه، والمطلب بن عبد اللَّه بن حنطب، صدوق كثير التدليس والإرسال -كما قال في "التقريب"- وقد عنعنه عن أنس. فالحديث ضعيف.

وأما حديث سعد بن عبادة ففيه يزيد بن أبي زياد ضعيف، وعيسى بن أبي عيسى قال ابن المديني: مجهول لم يرو عنه غير يزيد بن أبي زياد، وقال ابن عبد البر: لم يسمع من سعد بن عبادة، ولا أدركه

(2)

.

وبالجملة: إن الأحاديث في هذا الباب لا تصح، وعلى تقدير صحتها تُحْمَل على من أعرض عن القرآن عملًا وتلاوة، فيكون معنى الحديث على معنى قوله تعالى:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126].

وأما الذي يعمل بالقرآن، وهو حافظ له، ثم عرض له مانع يمنعه عن استذكاره، وشغل يشغله عن مراجعته حتى نسيه، فليس داخلًا في الوعيد،

= وهي متقاربة، وقيل: يُحْشَر مجذومًا حقيقة، ويؤيده أن في رواية زائدة بن قدامة عند عبد بن حميد:"أتى اللَّه يوم القيامة، وهو مجذوم". انتهى.

(1)

"الفتح" 11/ 285 - 286 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5040 - 5042).

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 8/ 227.

ص: 217

بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان ينسى بعض الآيات، فلو كان نسيانه معصية لما نسي صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أن نسيان القرآن بعد حفظه بعذر ليس بمعصية، فضلًا عن أن يكون من الكبائر، وأما نسيانه بدون عذر فإنه من الكبائر؛ لأنه يدل على إعراضه عنه، وعدم مبالاته به، فيدخل تحت الوعيد المذكور في الآية المذكورة، هذا ما ظهر لي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1838]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "رحمه الله، لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أُنْسِيتُهَا) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1839]

(789) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ، كَمَثَلِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطلقَهَا ذَهَبَتْ").

ص: 218

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (114) من رباعيات الكتاب، وهي أعلى ما وقع له من الأسانيد، كما تقدّم غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء الثقات المدنيين، وشيخه، وإن كان نيسابوريًّا، إلا أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك، وغيره.

4 -

(ومنها): أنه أصح الأسانيد مطلقًا، على ما نقل عن الإمام البخاري رحمه الله، كما قال الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث" عند تعداد أصح الأسانيد:

فَمَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سَيِّدِهْ

وَزِيدَ مَا لِلشَّافِعِي فَأحْمَدِهْ

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وأحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، واللَّه أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ) وفي رواية النسائيّ في "فضائل القرآن" من "الكبرى" من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل القرآن كمثل الإبل المعقّلة، إذا عاهدها صاحبها على عُقُلِها أمسكها، وإذا أغفلها ذهبت، إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه"، والجزء الأخير سيأتي في رواية المصنّف.

قال في "الفتح": وقوله: "إنما" يقتضي الحصر على الراجح، لكنه حصر

ص: 219

مخصوص بالنسبة إلى الحفظ والنسيان بالتلاوة والترك. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله:

[إن قلت]: مقتضى الحديث على القول بدلالة "إنما" على الحصر أنه لا مئل لصاحب القرآن سوى المثل المذكور في هذا الحديث، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد ضرب له أمثالًا أخرى، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأتْرُجّة، ريحها طيب، وطعمها طيب".

[قلت]: المراد حصر مَثَله في هذا بالنسبة إلى أمر مخصوص، وهو دوام حفظه بالدرس، ونسيانه بالترك، فهو بالدرس كحافظ البعير بالعقل، وفي نسيانه بالترك، كمضيّع البعير بعدم العقل، وأما بالنسبة إلى أمور أخرى فله أمثلة أخرى، والحصر، وإن كان ظاهره العموم، فهو حصر مخصوص، وله نظائر معروفة، واللَّه أعلم. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله

(2)

.

و"الْمَثَلُ" -بفتحتين، وبكسر، فسكون، وكأمير- الشبْهُ، جمعه: أمثال. والمَثَلُ أيضًا: الصفة، كما في قوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15]. أفاده في "القاموس".

والمراد أن مثل صاحب القرآن مع القرآن، كمثل صاحب الإبل. . . إلخ.

وقال القاضي عياض رحمه الله: ومعنى صاحب القرآن: أي الذي ألِفَه، والمؤالفة: المصاحبة، ومنه: فلان صاحب فلان، وأصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الحديث، وأصحاب الرأي، وأصحاب الصُّفَّة، وأصحاب إبل وغنم، وصاحب كنز، وصاحب عبادة.

وقال في "الفتح": وقوله: ألفه؛ أي: ألف تلاوته، وهو أعم من أن يألفها نظرًا من المصحف، أو عن ظهر قلب، فإن الذي يداوم على ذلك يذلّ له لسانه، ويسهل عليه قراءته، فإذا هجره ثقلت عليه القراءة، وشقت عليه. انتهى

(3)

.

(كَمَثَلِ الابِلِ الْمُعَقَّلَةِ) أي: المشدودة بالعِقَال، والتشديد فيه للتكثير، قاله

(1)

"الفتح" 10/ 98.

(2)

"طرح التثريب" 3/ 104.

(3)

"الفتح" 10/ 98.

ص: 220

ابن الأثير رحمه الله، والمعنى أن حاله كحال صاحب الإبل المعقلة معها، وفي رواية البخاري:"كمثل صاحب الإبل المعقلة".

و"الإبل" -بكسرتين-: اسم جمع، لا واحد لها، وهي مؤنثة؛ لأن اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لما لا يعقل يلزمه التأنيث، وتدخله الهاء إذا صغر، نحو أُبَيْلَةٍ، وغُنَيْمَة، وسُمع إسكان الباء للتخفيف، ومن التأنيث، وإسكان الباء قولُ أبي النجم [الرجز]:

وَالإبْلُ لَا تَصْلُحُ لِلْبُسْتَانِ

وَحَنَّتِ الإبْلُ إلَى الأَوْطَانِ

والجمع آبال، وأبِيلٌ، كَعِبيدٍ، وإذا ثنُيِّ أو جُمع فالمراد قطيعان، أو قطيعات، وكذلك أسماء الجموع، نحو أبقار، وأغنام، والإبل بناء نادر، قال سيبويه: لم يجئ على فِعِلٍ -بكسر الفاء والعين- من الأسماء إلا حرفان، إبِلٌ، وحِبِرٌ، وهو الْقَلَحُ، ومن الصفات إلا حرف، وهي امرأة بِلِزٌ، وهي الضخمة، وبعض الأئمة يذكر ألفاظًا غير ذلك، لم يثبت نقلها عن سيبويه. قاله في "المصباح".

والْمُعَقَّلَة: بضم الميم، وفتح العين، وتشديد القاف، بصيغة اسم المفعول: أي: المشدودة بالعِقَال، وهو الحبل الذي يُشَدُّ في ركبة البعير.

شَبَّهَ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَرْسَ القرآن، واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يُخشَى من الشِّرَاد، فما زال التعاهد موجودًا فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودًا بالعقال، فهو محفوظ. وخص الإبل بالذكر؛ لأنها أشد الحيوان الإنسيِّ نفورًا، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة

(1)

.

(إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا) أي: إن تفقدها، وأحدث العهد بها، قال ابن منظور رحمه الله: والمُعاهدة، والاعتِهَادُ، والتَّعَاهُدُ، والتَّعَهُّدُ واحد، وهو إحداث العهد بما عَهِدته، ويقال للمُحافظ على العهد: مُتَعَهِّد، ومنه قول أبي عَطَاءٍ السِّندِيّ، وكان فصيحًا، يَرْثي ابنَ هُبَيْرَة [من الطويل]:

وَإِنْ تُمْسِ مَهْجُورَ الْفِنَاءِ فَرُبَّمَا

أقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودُ

فَإِنَّكَ لَمْ تَبْعُدْ عَلَى مُتَعَهّدٍ

بَلَى كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرَابِ بَعِيدُ

(1)

راجع: "الفتح" 10/ 98.

ص: 221

قال: وتَعَهَّدَ الشَّيءَ، وتعَاهده، واعتهده: تفقّده، وأحدث العهد به، قال الطِّرِمَّاح [من الخفيف]:

وَيُضِيعُ الَّذِي قَدَ أوْجَبَهُ اللَّهُ

عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَعْتَهِدُهْ

وتَعَهَّدْتُ ضَيْعَتي، وكُلَّ شيء، وهو أفصح من قولك: تعاهدته؛ لأن التعاهد إنما يكون بين اثنين. وفي "التهذيب": ولا يقال: تعاهدته. قال: وأجازها الفراء. انتهى كلام ابن منظور باختصار

(1)

.

(أَمْسَكَهَا) أي: استمرّ إمساكه لها، وفي رواية أيوب عن نافع:"فإن عقلها حفظها".

(وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ") أي: إن حَلَّ وِثَاقَها وتركها انفلتت، وشَرَدَت منه، فلا يقدر على إمساكها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1839 و 1840](789)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5031)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(2/ 154)، و"الكبرى"(1014 و 8041)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3783)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 201)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5971 و 5972 و 6032)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 500 و 10/ 476)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 17 و 23 و 30 و 64 و 112)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(764)، وفوائد الحديث تأتي في حديث ابن مسعود الآتي بعده -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"لسان العرب" 4/ 3150.

ص: 222

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1840]

(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمنِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ، جَمِيعًا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ:"وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ، فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ").

رجال هذا الإسناد: عشرون:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [10](ت 241)(غ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

3 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ) من ولد الْمُسَيَّب بن عابد المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ [10](ت 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

6 -

(أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضَمْرة، أبو ضمرة الليثيّ المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقون ذُكروا في الباب وفي البابين قبله.

و"عبيد اللَّه" هو: ابن عمر رضي الله عنهما الْعُمريّ، و"أَيُّوبُ" هو: ابن أبي تميمة السختيانيّ، و"عبد الرحمن بن يعقوب" هو: القاريّ -بالتشديد- المدنيّ.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) أي: كل هؤلاء الثلاثة: يحيى القطّان، وأبو خالد الأحمر، وعبد اللَّه بن نُمير رووا عن عبيد اللَّه العمريّ.

ص: 223

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ) أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: عبيد اللَّه العمريّ، وأيوب السختيانيّ، وموسى بن عُقبة رووا عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: عبيد اللَّه العمريّ، عن نافع ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 17) فقال:

(4665)

- حدّثنا عبد اللَّهِ، حدّثني أبي، ثنا يحيى، عن عُبَيْدِ اللَّهِ، أخبرني نَافِعٌ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ مَثَلُ صَاحِبِ الإِبِلِ المعقلة، إن عَقَلَهَا صَاحِبُهَا حَبَسَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ". انتهى.

وأما رواية أيوب السختيانيّ، عن نافع، فقد ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه" (3/ 360) فقال:

(5971)

- عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه، يقرؤه بالليل والنهار، كمثل رجل له إبل، فإن عَقَلها حَفِظها، وإن أطلق عُقُلها ذهبت، وكذلك صاحب القرآن". انتهى.

وأما رواية يعقوب بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 20) فقال:

(8043)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا يعقوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنما مثل القرآن، كمثل الإبل المعقلة، إذا عاهدها صاحبها على عُقُلها أمسكها، وإذا أغفلها ذهبت، إذا قام صاحب القرآن، فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقرأه نسيه". انتهى.

وأما رواية أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، فقد ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 380) فقال:

(1792)

- حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، ثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قام صاحب القرآن يقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يَقُم به نسيه". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 224

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1841]

(790) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) ذُكر في السند الماضي.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قبل بابين.

5 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم أيضًا قبل بابين.

6 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة، تقدّم أيضًا قبل بابين.

7 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود، تقدّم أيضًا قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأولان ما أخرج لهما الترمذيّ، والثالث ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه زهير، فبغداديّ، وإسحاق فمروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، منصور، عن أبي وائل، فإن منصورًا تابعي صغير، كما قاله الحافظ في "الفتح"، وقال الحافظ الذهبيّ في ترجمته: وما علمت له روايةً عن أحد من الصحابة، وبلا شك كان عنده بالكوفة بقايا من الصحابة، وهو رجل شابّ، مثل عبد اللَّه بن أبي أوفى، وعمرو بن حريث. انتهى كلام الذهبيّ بتصرف.

ص: 225

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: لكن لما لم يتحقق لقاؤه الصحابة ينبغي أن يجعل من الطبقة السادسة. فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه عبد اللَّه مهملًا، والمراد به عند الكوفيين ابن مسعود، كما هو القاعدة في اصطلاح المحدثين، كما أشار إليه الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث"، بقوله:

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّه فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإنْ يَفِي

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا اطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) قد صرح أبو وائل بالسماع عن عبد اللَّه عند البخاريّ تعليقًا: "قال: سمعت عبد اللَّه، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . ".

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ يَقُولُ)، وفي رواية الأعمش، عن شقيق التالية:"لا يقل أحدكم: نَسِيتُ آية كيت".

و"بئس" هي أخت "نِعم"، فالأولى للذَّمّ، والثانية للمدح، وهما -على الصحيح من أقوال النحاة- فعلان غير متصرفين، يرفعان الفاعل ظاهرًا، أو مضمرًا.

ثم إذا كان الفاعل ظاهرًا فإما يكون مُحَلًّى بالألف واللام للجنس، كقوله تعالى:{نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]، وقوله:{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]. وإما أن يكون مضافًا إلى ما هما فيه، كقوله تعالى:{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]، {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72].

وإن كان الفاعل مضمرًا، فلا بدّ من ذكر اسم نكرة ينصب على التفسير للضمير، كقوله تعالى:{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].

وقد يكون هذا التفسير "ما" على ما نَصّ عليه سيبويه، كما في هذا الحديث، وكما في قوله تعالى:{فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271].

ص: 226

فـ "ما" في هذا الحديث نكرة منصوبة على التمييز، وفاعل "بئس" ضمير مستتر، على الأصح، وقيل:"ما" هي الفاعل، وقوله:"لأحدهم" متعلق بحال محذوف؛ أي: حال كونه كائنًا لأحدهم، أو متعلق بـ "بئس" على رأي بعضهم، وقوله:"أن يقول" في تأويل المصدر مخصوص بالذّمّ، أي: بئس شيئًا قوله.

وإلى ما ذَكَرنَاه من أحوال "نعم" وبئس أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

فِعْلَانِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَيْنِ

نِعْمَ وَبِئْسَ رَافِعَانِ اسْمَيْنِ

مُقَارِنَيْ "ألْ" أوْ مُضَافَيْنِ لِمَا

قَارَنَهَا كَـ "نِعْمَ عُقْبَى الْكُرَمَا"

وَيَرْفَعَانِ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ

مُمَيِّزٌ كَـ "نِعْمَ قَوْمًا مَعْشَرُهْ"

وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ ظَهَرْ

فِيهِ خِلَافٌ عَنْهُمُ قَدِ اشْتَهَرْ

وَ"مَا" مُمَيِّز وَقِيلَ فَاعِلُ

فِي نَحْوِ "نِعْمَ مَا يَقُولُ الْفَاضِلُ"

وَيُذْكَرُ الْمَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا

أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا

وَإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ كَفى

كَـ "الْعِلْمُ نِعْمَ الْمُقْتَنَى وَالْمُقْتَفَى"

(نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ) بفتح النون، وتخفيف السين اتفاقًا، وإنما نَهَى عنه لما فيه من التشبه بمن ذمه اللَّه تعالى بقوله:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]، فالاحتراز عن مثل هذا القول أحسن. أفاده السندي رحمه اللَّه تعالى.

قال النوويّ رحمه الله: (قوله: "كيت وكيت") أي: كذا وكذا، وهو بفتح التاء على المشهور، وحكى الجوهريّ فتحها وكسرها عن أبي عبيد. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "كيتَ وكيتَ" يُعَبَّر بهما عن الْجُمَل الكثيرة، والحديثِ الطويل، ومثلهما "ذَيْتَ وذَيْتَ"، وقال ثعلب: كَيْتَ للأفعال، وذيتَ للأسماء.

وحَكَى ابن التين عن الداوديّ أن هذه الكلمة مثل كذا، إلا أنها خاصة بالمؤنث، قال في "الفتح": وهذا من مفردات الداودي. انتهى.

وقال ابن منظور رحمه الله ما نصه: وكان من الأمر كَيْتَ وكَيْتَ، وإن شئت كسرت التاء، وهي كناية عن القِصَّةِ، أو الأحْدُوثةِ، حكاه سيبويه، وقال الليث: تقول العرب: كان من الأمر كيتَ وكيتَ، قال: وهذه التاء في الأصل

ص: 227

هاءٌ مثل ذَيْتَ وذيتَ، أصلها كَيَّه، وذَيَّه، بالتشديد، فصارت تاء في الوصل. انتهى

(1)

.

(بَلْ هُوَ نُسّيَ) بضم النون، وتشديد المهملة المكسورة، قال القرطبيّ رحمه الله: رواه بعض رواة مسلم مخففًا، قال الحافظ: وكذا هو في "مسند أبي يعلى"، وكذا أخرجه ابن أبي داود في "كتاب الشريعة" من طُرُق متعددة مضبوطة بخط موثوق به على كلّ سين علامة التخفيف، وقال عياض: كان الكناني -يعني أبا الوليد الوقشي- لا يجيز في هذا غير التخفيف.

قال الحافظ: والتثقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاريّ، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في "الغريب" بعد قوله:"كيت وكيت": ليس هو نَسِيَ، ولكنه نُسّيَ، الأول بفتح النون، وتخفيف السين، والثاني بضم النون، وتثقيل السين.

قال القرطبي: التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه، لتفريطه في معاهدته، واستذكاره، قال: ومعنى التخفيف أن الرجل تُرِكَ غيرَ ملتفَتٍ إليه، وهو كقوله تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]؛ أي: تركهم في العذاب، أو تركهم من الرحمة.

وسيأتي الخلاف في متعلق الذم من قوله: "بئس" في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ) أي: واظبوا على تلاوته، واطلبوا من أنفسكم المذاكرة له، ورواية المصنّف بدون عاطف، وكذا هو عند النسائيّ، وفي رواية البخاريّ:"واستذكروا" بواو العطف، قال الطيبي: وهو عطف من حيث المعنى على قوله: "بئسما لأحدهم"؛ أي: لا تقصروا في معاهدته.

وزاد ابن أبي داود من طريق عاصم، عن أبي وائل في هذا الموضع:"فإن هذا القرآن وَحْشِيّ"، وكذا أخرجها من طريق المسيَّب بن رافع، عن ابن مسعود، قاله في "الفتح".

(فَلَهُوَ) الفاء تعليلية؛ أي: لأنه (أَشَدُّ تَفَصِّيًا)، وفي رواية النسائيّ: "أسرع

(1)

"لسان العرب" 5/ 3964 - 3965.

ص: 228

تفصيًا"، بفتح الفاء، وكسر الصاد المهملة الثقيلة، بعدها تحتانية خفيفة: أي خروجًا وتخلُّصًا.

وأصل التَّفَصِّي: أن يكون الشيءُ في مَضِيقٍ، ثم يخرج إلى غيره، قال ابن الأعرابي: أفْصَى: إذا تخلّص من خير، أو شرّ، وقال الجوهري: أصْلُ الفَصْيَةِ الشيءُ تكون فيه، ثم تخرج منه، ويقال: ما كدت أتَفَصَّى من فلان: أي ما كدت أتخلص منه، وتفصّيت من الديون: إذا خرجت منها، وتخلصت. انتهى ملخصًا من "اللسان"

(1)

.

قال في "الفتح": ووقع في حديث عقبة بن عامر بلفظ: "تَفَلُّتًا"، وكذا وقعت عند مسلم في حديث أبي موسى، ونصب على التمييز. انتهى.

(مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ) متعلق بـ "تفصّيًا"؛ أي: أشدّ، وأسرع خروجًا من قلوبهم.

(مِنْ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا") الجار والمجرور الأول متعلق بـ "أشدّ"، وهو على حذف مضاف؛ أي: من تفصي النعم، وقوله:"بعُقُلها" متعلق بحال مقدّر؛ أي: حال كونها كائنة بعقلها، وفي رواية النسائيّ:"من عُقُلها"، فيكون متعلّقًا بالمضاف المقدّر.

و"النَّعَمُ" -بفتحتين-: المال الراعي، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد:"النعم" الجِمَال فقط، ويؤنث، ويذكّر، وجمعه نُعْمَانٌ، مثلُ حَمَلٍ، وحُمْلَان، وأنْعام أيضًا، وقيل:"النعم" الإبل خاصة، والأنعام ذوات الخُفّ، والظّلْفِ، وهي الإبل، والبقر، والغنم، وقيل: تطلق الأنعام على هذه الثلاثة، فماذا انفردت الإبل فهي نَعَم، وإن انفردت البقر والغنم لم تُسَمَّ نَعَمًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: "النعم" أصلها الإبل، والبقر، والغنم، والمراد هنا الإبل خاصة؛ لأنها التي تُعقل.

و"العُقُلُ" بضم العين، والقافِ، ويجوز إسكان القاف، وهو كنظائره، وهو جمع عِقَالٍ، ككتاب وكُتُب، والنعم تذكّر، وتؤنّث، ووقع في هذه

(1)

"لسان العرب" 5/ 2534.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 613 - 614.

ص: 229

الرواية: "بعقلها"، وفي الرواية الثانية:"من عُقُله"، وفي الثالثة:"في عُقُلها"، وكله صحيح، والمراد برواية الباء:"من"، كما في قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] على أحد القولين في معناها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: من رواه: "من عُقُلِها" فهو على الأصل الذي يقتضيه التعدي من لفظ التفلُّت. وأما من رواه بالباء، أو بـ "في"، فيَحْتَمِل أن يكون بمعنى "من"، أو للمصاحبة، أو الظرفية.

والحاصل تشبيه من يتفلّت منه القرآن بالناقة التي تتفلَّت من عقالها، وبقيت متعلقة به، قال الحافظ: كذا قال.

والتحرير أن التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة، فحامل القرآن شُبِّهَ بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالربط.

وقال الطيبيُّ رحمه الله: ليس بين القرآن والناقة مناسبة؛ لأنه قديم، وهي حادثة، لكن وقع التشبيه في المعنى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1841 و 1842 و 1843](790)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5032 و 5039)، و (الترمذيّ) في "القراءات"(2942)، و (النسائيّ) في "الافتتاح" وفي "الكبرى"(1015)، و"فضائل القرآن"(8039)، وفي "عمل اليوم والليلة"(726 و 727 و 728)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5967)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2/ 4)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 478)، و (الحميدي)(91)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 417 و 423 و 429 و 438 و 463)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 308 و 439)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(762)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 381)،

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 77.

(2)

راجع: "الفتح" 10/ 102.

ص: 230

و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 739)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 139 و 167 و 189 و 198 و 290)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 69)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 83 و 8/ 165)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 395)، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الإسماعيلي رحمه الله: روى حماد بن زيد، عن منصور، وعاصم الحديثين معًا موقوفين، وكذا رواهما أبو الأحوص عن منصور، وأما ابن عيينة، فأسند الأول، ووقف الثاني، قال: ورفعهما جميعًا إبراهيم بن طهمان، وعَبِيدَةُ بنُ حُمَيد عن منصور، وهو ظاهر سياق سفيان الثوري.

قال الحافظ رحمه الله: ورواية عَبِيدَة أخرجها ابن أبي داود، ورواية سفيان أخرجها البخاريّ مرفوعة، لكن اقتصر على الحديث الأول، وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه مرفوعًا الحديثين معًا، وفي رواية عبدة بن أبي لبابة تصريح ابن مسعود بقوله:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وذلك يقوي رواية من رفعه عن منصور، واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحاصل أن الحديثين رويا مرفوعين، وموقوفين، والراجح الرفع؛ لكونه زيادة من الثقات الضابطين، مثل شعبة، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن طهمان، وعَبِيدة بن حُمَيد، وغيرهم، فلا التفات إلى قول من أعلّ الحديثين بالوقف، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائد الحديثين

(2)

:

1 -

(منها): الحَثُّ على محافظة القرآن بدوام دراسته، وتكرار تلاوته، والتحذير من تعريضه للنسيان.

2 -

(ومنها): ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد، وتقريبه إلى الأذهان.

3 -

(ومنها): مشروعيّة القسم عند الخبر المقطوع بصدقه؛ مبالغةً في تثبيته في صدور سامعيه، فقد أقسم النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وحديث أبي موسى

(1)

راجع: "الفتح" 11/ 279.

(2)

أي: حديث عبد اللَّه مسعود رضي الله عنه، وحديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما المذكور قبله.

ص: 231

الأشعريّ الآتي مرفوعًا بلفظ: "تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من الإبل في عقلها".

قال في "الفتح": وحَكَى ابن التين عن الداوديّ أن في حديث ابن مسعود حجةً من قال فيمن ادُّعِي عليه بمال، فأنكر، وحَلَفَ، ثم قامت عليه البينة، فقال: كنت نسيت، أو ادَّعَى بينةً، أو إبراءً، أو التمس يمين المدَّعِي أن ذلك يكون له، ويُعْذَر في ذلك، كذا قال. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان صعوبة القرآن على المتساهل في مراجعته، ولا ينافي هذا قوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]؛ لأن تيسيره بالنسبة من أراد حفظه، واجتهد فيه، وصعوبته بالنسبة من لم يتعاهده، ولم يُجهِدْ نفسه فيه.

5 -

(ومنها): النهي عن قول الإنسان: نَسِيتُ آية كذا وكذا، وإنما يقول: نُسِّيتها، وإنما نُهِي عن الأول دون الثاني؛ لأنه يتضمن التساهل فيها، والتغافل عنها، وقد قال اللَّه تعالى:{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 126].

وقال القاضي عياض رحمه الله: أولى ما يتأول عليه الحديث أن معناه ذمّ الحال، لا ذم القول؛ أي: بئست الحالة، حالة من حفظ القرآن، فغفل عنه حتى نسيه. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: الكراهية للتنزيه.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: يؤيد ما قاله النوويّ رحمه الله ما ثبت في "الصحيحين" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلًا يقرأ في سورة بالليل، فقال:"يرحمه اللَّه، لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أُنسيتها من سورة كذا وكذا"، وفي رواية الإسماعيلي:"كنت نَسِيتُها" - بفتح النون، ليس قبلها همزة، فإنه صارف للنهي عن التحريم إلى التنزيه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف العلماء في متعلق الذمّ من قوله: "بئس":

(1)

"الفتح" 11/ 280.

ص: 232

قال في "الفتح": واختُلِف في متعلق الذم من قوله: "بئس" على أوجه:

[الأول]: قيل: هو على نسبة الإنسان إلى نفسه النسيان، وهو لا صنع له فيه، فإذا نسبه إلى نفسه أوهم أنه انفرد بفعله، فكان ينبغي أن يقول: أنسيت، أو نُسّيت -بالتثقيل- على البناء للمجهول فيهما؛ أي: إن اللَّه هو الذي أنساني، كما قال:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} الآية [الأنفال: 17]، وقال:{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} [الواقعة: 64]، وبهذا الوجه جزم ابن بطال، فقال: أراد أن يجري على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى خالقها؛ لما في ذلك من الإقرار له بالعبودية، والاستسلام لقدرته، وذلك أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها مع أن نسبتها إلى مكتسبها جائز بدليل الكتاب والسنة، ثم ذكر الحديث الآتي في [باب نسيان القرآن]

(1)

، قال: وقد أضاف موسى؛ النسيان مرة إلى نفسه، ومرة إلى الشيطان، فقال:{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، ولكل إضافة منها معنى صحيح، فالإضافة إلى اللَّه بمعنى أنه خالق الأفعال كلها، وإلى النفس؛ لأن الإنسان هو المكتسب لها، وإلى الشيطان بمعنى الوسوسة. انتهى.

قال الحافظ: ووقع له ذهول فيما نسبه لموسى، وإنما هو كلام فتاه.

وقال القرطبي رحمه الله: ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نسب النسيان إلى نفسه -يعني حيث قال حينما سمع رجلًا يقرأ سورة: "يرحمه اللَّه لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أنسيتها، من سورة كذا وكذا"، وفي رواية الإسماعيلي: نَسِيتها - وكذا نسبه يوشع إلى نفسه حيث قال: {نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63]، وموسى إلى نفسه حيث قال:{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73]، وقد سيق قول الصحابة:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة: 286] مساق المدح، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} [الأعلى: 6].

فالذي يظهر أن ذلك ليس متعلق الذمّ، وجنح إلى اختيار:

[الوجه الثاني]: وهو كالأول، لكن سبب الذمّ ما فيه من الإشعار بعدم

(1)

الظاهر أنه أراد حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم: "سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ في الليل، فقال: يرحمه اللَّه لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أُنسيتها" من سورة كذا.

ص: 233

الاعتناء بالقرآن؛ إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد، وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته، والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال الإنسان: نسيت الآية الفلانية، فكأنه شهد على نفسه بالتفريط، فيكون متعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد؛ لأنه الذي يورث النسيان.

[الوجه الثالث]: قال الإسماعيليّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون كره له أن يقول: نسيت بمعنى تركت، لا بمعنى السهو العارض، كما قال تعالى:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وهذا اختيار أبي عبيد، وطائفة.

[الوجه الرابع]: قال الإسماعيلي أيضًا: يَحْتَمِل أن يكون فاعل نَسِيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: لا يقل أحد عني إني نسيت آية كذا، فإن اللَّه هو الذي نسّاني ذلك، لحكمة نسخه، ورفع تلاوته، وليس لي في ذلك صنع، بل اللَّه هو الذي يُنسيني لما تُنسخ تلاوته، وهو كقوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، فإن المراد بالمنسيّ ما يُنسَخ تلاوته، فيُنسِي اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم ما يريد نسخ تلاوته.

[الوجه الخامس]: قال الخطابي: يَحْتَمِل أن يكون ذلك خاصًا بزمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان من ضروب النسخ نسيان الشيء الذي ينزل، ثم ينسخ منه بعد نزوله الشيء، فيذهب رسمه، وترفع تلاوته، ويسقط حفظه عن حملته، فيقول القائل: نسيت آية كذا، فنُهُوا عن ذلك؛ لئلا يتوهم على محكم القرآن الضياع، وأشار لهم إلى أن الذي يقع من ذلك إنما هو بإذن اللَّه لما رآه من الحكمة والمصلحة.

[الوجه السادس]: قال الإسماعيلي: وفيه وجه آخر، وهو أن النسيان الذي هو خلاف الذكر إضافته إلى صاحبه مجاز؛ لأنه عارض له لا عن قصد منه؛ لأنه لو قصد نسيان الشيء لكان ذاكرًا له في حال قصده، فهو كما قال: ما مات فلان، ولكن أميت.

قال الحافظ: هو قريب من الوجه الأول، وأرجح الأوجه الوجه الثاني، ويؤيده عطف الأمر باستذكار القرآن عليه. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 11/ 285.

ص: 234

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أرجح الأوجه عندي هو الثاني كما رجحه الحافظ رحمه الله، فيكون سبب الذم هو عدم الاعتناء باستذكار القرآن، وتعاهده، فإذا قال: نسيت آية كيت وكيت فكأنه شهد على نفسه بالتفريط، فيكون مشابهًا للذين ذمهم اللَّه تعالى بسبب إعراضهم عن آياته، بقوله:{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): ليس في حديث ابن مسعود هذا، ولا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدّم تقدير مدة مخصوصة للزمن الذي يُختَم فيه القرآن، لكن مقتضاهما أنه يتلوه على وجه لو نقص عنه لأدى إلى نسيانه، أو نسيان شيء منه، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس في تمكنهم من الحفظ، وفي سرعة النسيان وبطئه.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يختمونه في كل سَبْعٍ.

وفي "سنن أبي داود" وغيره عن أوس بن حذيفة، قال: قلنا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لقد أبطأت عنا الليلة، قال:"إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أختمه"

(1)

، قال أوس: سألت أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف يُحَزّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده

(2)

.

وفي "صحيح البخاري": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللَّه بن عمرو: "واقرأ القرآن في شهر" قلت: إني أجد قوة، حتى قال:"فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك".

(1)

في إسناده عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يعلى مختلف فيه، وعثمان بن عبد اللَّه بن أوس ليس له إلا هذا الحديث، ولم يوثّقه إلا ابن حبّان.

(2)

رمز بعضهم لهذا التحزيب بقوله: "فمي بشوق"، فالفاء رمز الفاتحة، والميم للمائدة، والياء ليونس، والباء لبني إسرائيل، والشين للشعراء، والواو لـ "والصافات"، والقاف لـ "ق".

ص: 235

وممن كان يختمه في كل سبعة أيام: تميمٌ الداري، وعبد الرحمن بن يزيد، وإبراهيم النخعيّ، وعروة بن الزبير، وأبو مِجْلز، وأحمد بن حنبل، وامرأة ابن مسعود، واستحسنه مسروق.

وممن كان يختمه في ثمان: أُبيّ، وأبو قلابة.

وممن كان يختمه في ست: الأسود بن يزيد.

وممن كان يختمه في خمس: علقمة بن قيس.

وممن كان يختمه في ثلاث: ابن مسعود، وقال: من قرأه في أقلّ من ثلاث فهو راجز، وكره ذلك معاذ، وكان المسيَّب بن رافع يختمه في كل ثلاث، ثم يصبح اليوم الذي يختم فيه صائمًا، رواها كلها ابن أبي شيبة رحمه الله.

وروى ابن أبي داود عن بعض السلف أنهم كانوا يختمون في شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال، وقال أحمد بن حنبل: أكثر ما سمعت أنه يختم القرآن في أربعين، وكره الحنابلة تأخيره عن ذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله عبد اللَّه بن عمرو في كم يقرأ القرآن؟ قال:"في أربعين يومًا"، ثم قال:"في شهر"، ثم قال:"في عشرين"، ثم قال:"في خمس عشرة"، ثم قال:"في عشر"، ثم قال:"في سبع"، لم ينزل من سبع. رواه أبو داود.

قالوا: ولأن تأخيره أكثر من ذلك يفضي إلى النسيان، والتهاون به، قالوا: وهذا إذا لم يكن له عذر، فأما مع العذر فواسع له، واستحبوا أن يختمه في سبع، وقالوا: إن قرأه في ثلاث فحسن، لما روي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قلت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن بي قوّةً، قال:"اقرأه في ثلاث". رواه أبو داود. وعن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: أكره أن يقرأه في أقلّ من ثلاث، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يفقه من قرأه في أقلّ من ثلاث"، رواه أبو داود.

وجعل ابن حزم الظاهري قراءته في أقل من ثلاث حرامًا، فقال: يستحب أن يختم القرآن مرة في كل شهر، ويكره أن يختم في أقل من خمسة أيام، فإذا فعل ففي ثلاثة أيام، لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ذلك، ولا يجوز لأحد أن يقرأ أكثر من ثلث القرآن في يوم وليلة، ثم استدلّ على ذلك بالحديث المتقدم:"لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث".

ص: 236

قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: ولا حجة في ذلك على تحريمه، ولا يقال: إن كل من لم يتفقه في القرآن فقد ارتكب محرمًا، ومراد الحديث أنه لا يمكن مع قراءته في أقل من ثلاث التفقه فيه، والتدبر لمعانيه، ولا يتسع الزمان لذلك.

وقد روي عن جماعة من السلف قراءة القرآن كله في ركعة واحدة، منهم عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، وعن عليّ الأزدي وعلقمة قراءته في ليلة واحدة، رواها كلها ابن أبي شيبة في "مصنفه".

وكان الشافعي يختم القرآن في كل يوم وليلة، فإذا كان شهر رمضان ختم في اليوم والليلة مرتين، وكان الأسود يختمه في رمضان في ليلتين، وفي سواه في ست، وكان بعضهم يزيد على ذلك.

قال ابن عبد البر: كان سعيد بن جبير وجماعة يختمون القرآن مرتين وأكثر في ليلة.

وقال النووي: وأكثر ما بلغنا في ذلك عن ابن الكاتب أنه كان يقرأ في اليوم والليلة ثمان ختمات، وأكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة، والترتيل أفضل من العجلة.

وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن زيد بن ثابت: لَأَن أقرأ القرآن في شهر أحب إلي من أن أقرأه في خمس عشرة، ولأن أقرأه في خمس عشرة أحب إليّ من أن أقرأه في عشر، ولأن أقرأه في عشر أحب إليّ من أن أقرأه في سبع، أقِفُ، وأدعو. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي الأفضل أن يقرأ القرآن في شهر؛ لما في رواية البخاري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما: "اقرأ القرآن في شهر"، مع أنه يعلم أن له نشاطًا وقوة على القراءة، فلما استزاده، وألحّ عليه قال له:"اقرأه في عشرين"،. . . إلخ. فدلّ على أن الشهر هو الأولى، لكن من وجد قوة ونشاطًا فله أن يزيد على ذلك حتى يصل إلى سبع، والأفضل أن لا يزيد عليها؛ لأنها التي وقف عندها النبيّ صلى الله عليه وسلم مع إلحاح عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما في طلب الزيادة، وقال له:"ولا تزد على سبع"، فدل على أنه لا أفضل وراءها، ويجوز في ثلاث، ولا يزيد عليها، فإن خير الهدي هدي

ص: 237

النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما ما تقدم نقله عن ابن حزم من تحريمه الختم في أقل من ثلاث فمما لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لعدم نصّ، ولا إجماع على ذلك، فتبصَّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1842]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "تَعَاهَدُوا هَذِهِ الْمَصَاحِفَ، وَرُبَّمَا قَالَ: الْقُرْآنَ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَضيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهِ"، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الأَعْمَشُ) سُليمان بن مِهْرَان، تقدّم قبل باب.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (تَعَاهَدُوا هَذِهِ الْمَصَاحِفَ) جمع مُصحف مثلّث الميم، من أُصْحِف بالضمّ؛ أي: جُعِلت فيه الصحف، قاله في "القاموس"، والمراد به هنا القرآن، كما قال:"وَرُبَّمَا قَالَ: الْقُرْآنَ".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1843]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بِئْسَمَا لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ سُورَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، أَوْ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ").

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 238

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسَانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ) الأسديّ مولاهم، ويقال: مولى قُريش، أبو القاسم البزّاز الكوفيّ، نزيل دمشق، ثقةٌ [4](خ م ل ت س ق) تقدم في "الصلاة" 13/ 897.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1844]

(791) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا"، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِابْنِ بَرَّادٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ) أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(بُرَيْدُ) بن عبد اللَّه بن أبي بُردة، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، تقدّم قبل باب أيضًا.

4 -

(أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل باب أيضًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

ص: 239

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّفاقهما في كيفيّة التحمّل والأداء، على ما بيّنّاه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فعلّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن جدّه، عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ) قال الطيبيّ رحمه الله: تعاهد الشيء، وتعهّده: محافظته، وتجديد العهد به؛ أي: واظبوا على تلاوته، وداوموا على تكراره ودَرْسه كيلا يُنْسَى. انتهى

(1)

. (فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) فيه مشروعيّة الحلف عند الخبر المقطوع بصدقه؛ مبالغةً في تثبيته في صدور سامعيه

(2)

. (لَهُوَ) اللام لتوكيد القسم؛ أي: القرآن (أَشَدُّ تَفَلُّتًا) أي: ذهابًا وخروجًا من الصدور بسُرْعة، قال في "النهاية": التفلُّتُ والإفلاتُ والانفلاتُ: التخلّص من الشيء فَجْأَةً من غير تمكُّثٍ. انتهى

(3)

.

وقال في "القاموس": أفلتني الشيءُ، وتفلّت منّي: انفلت، وأفلته غيره. انتهى

(4)

.

وقال في "المصباح": أفلتَ الطائرُ وغيره إفلاتًا: تخلّص، وأفلتُّهُ: إذا أطلقتَهُ وخلَّصته، يُستعمَلُ لازمًا ومتعدّيًا، وفَلَتَ فَلْتًا، من باب ضرب لُغَةٌ، وفَلَتُّهُ أنا، يستعمل أيضًا لازمًا ومتعدّيًا، وانفلت: خرج بسرعة، وكان ذلك فَلْتَةً: أي: فَجْأَةً حتى كأنه انفلت سرِيعًا. انتهى

(5)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1679.

(2)

راجع: "الفتح" 8/ 700 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5033).

(3)

"النهاية" 3/ 467.

(4)

"القاموس المحيط" 1/ 154.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 480.

ص: 240

(مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا") تقدّم عن القرطبيُّ رحمه الله أن "في" هنا بمعنى "من"، و"العُقُل" بضمتين، أو بضمّ، فسكون: جمع عقال، وهو الحبل الذي تربط به الدابّة.

وقوله: (وَلَفْظُ الْحَدِيثِ لِابْنِ بَرَّادٍ) يعني: أن سياق متن الحديث هذا لشيخه عبد اللَّه بن بَرّاد، وأما شيخه أبو كُريب، فرواه بمعناه، وقد ساقه الإمام البخاريُّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5033)

حدّثنا محمد بن العلاء، حدّثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصِّيًا من الإبل في عقلها". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 1844](791)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5033)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 477)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 397 و 411)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3810 و 3811)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1795)، واللَّه تعالى أعلم.

وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(35) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1845]

(792) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ، مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ").

ص: 241

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل باب.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم أيضًا قبل باب.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّفاقهما في كيفيّة التحمل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، وشيخاه بغداديّان، وسفيان مكي.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي: الزهريّ، عن أبي سلمة.

5 -

(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وهو أبو سلمة.

6 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هكذا وقعت عند المصنّف رواية سفيان، عن الزهريّ، بلفظ:"يبلُغ"، ووقعت عند البخاريّ عن شيخه عليّ ابن المدينيّ، عن سفيان بلفظ:"عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم" والظاهر أن سفيان نسي اللفظ الذي قاله الزهريّ حين حدّث به عمرًا الناقد وزُهيرًا، مع أنه رواه مرفوعًا، فَأَتَى بصيغة تَشْمَل جميع صيغ الرفع، وتذكّره حينما حدّث به ابن المدينيّ، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 242

وفي الرواية الآتية من طريق محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة "أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول. . . " (قَالَ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم ("مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ) -بكسر الذال المعجمة-؛ أي: ما استمع اللَّه عز وجل لشيء مما يُسمَع، (مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ) أي: كاستماعه لنبيّ، فـ "ما" الأولى نافية، والثانية مصدرية، ونَكَّرَ "نبيًّا"؛ لأن المراد به الجنس، ووقع في رواية أبي ذرّ لـ "صحيح البخاريّ":"للنبيّ" بالتعريف، قال في "الفتح": فإن كانت محفوظة فهي للجنس، ووَهِمَ من ظنها للعهد، وتوهم أن المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أذن للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وشرحه على ذلك. انتهى.

زاد في رواية محمد بن إبراهيم الآتية: "حسن الصوت"، وهو بالجر صفة و"نبي".

وقوله: (يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ") جملة فعلية في محل نصب حال من "نبي"؛ أي: يحسّن صوته به حال قراءته، أو هو بمعنى الجهر، فيكون قوله في الرواية الآتية:"يَجْهَر به" تفسيرًا له، أو بمعنى يُلَيّن، ويُرَقّق صوته؛ ليجلب به إلى نفسه وإلى السامعين الحزن والبكاء، وينقطع به عن الخلق إلى الخالق عز وجل، أفاده السنديُّ رحمه الله.

وقال الإمام أبو حاتم بن حبّان رحمه الله في "صحيحه": معنى: "يتغنى بالقرآن" يريد يتحزَّن به، وليس هذا من الْغُنْية، ولو كان ذلك من الغنية لقال: يتغانى به، ولم يقل: يتغنى به، وليس التحزُّن بالقرآن نقاء الْجِرْم

(1)

، وطيب الصوت، وطاعة اللهوات بأنواع النغم بوفاق الوقاع، ولكن التحزُّن بالقرآن، هو أن يقارنه شيئان: الأَسَفُ والتلهُّفُ، الأسف على ما وقع من التقصير، والتلهف على ما يُؤَمَّل من التوقير، فإذا تألم القلب، وتوجع، وتحزّن الصوت، ورَجَّعَ، بَدَرَ الْجَفْنُ بالدموع، والقلب باللموع، فحينئذ يستلذ المتهجّد بالمناجاة، وَيفِرُّ من الخلق إلى وَكْرِ الخلوات، رَجَاءَ غُفْران السالف من الذنوب، والتجاوز عن الجنايات والعيوب، فنسأل اللَّه التوفيق له. انتهى

(2)

.

(1)

بكسر الجيم: الحلق.

(2)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 3/ 29.

ص: 243

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تمام البحث بذكر اختلاف العلماء في معنى التغني في المسألة الرابعة -إن شاء اللَّه تعالى-.

ووقع في رواية عند البخاريّ من طريق ابن شهاب، عن أبي سلمة:"أن يتغنى" بزيادة "أن".

قال في الفتح: وزعم ابن الجوزيّ أن الصواب حذف "أن"، وأن إثباتها وَهَمٌ من بعض الرواة؛ لأنهم كانوا يروون بالمعنى، فربما ظن بعضهم المساواة، فوقع الخطأ؛ لأن الحديث لو كان بلفظ "أن" لكان من الإذن بكسر الهمزة، وسكون الذال بمعنى الإباحة والإطلاق، وليس ذلك مرادًا هنا، وإنما هو من الأَذَن بفتحتين، وهو الاستماع.

وقوله: "أَذِنَ"؛ أي: استمع.

والحاصل أن لفظ "أَذِنَ" بفتحة، ثم كسرة في الماضي، من باب تَعِبَ: مشترك بين الإطلاق والاستماع، تقول: أَذِنْتُ آذَنُ بالمدّ، فإن أردت الإطلاق، فالمصدر بكسرة، ثم سكون، وإن أردت الاستماع فالمصدر بفتحتين، قال عديّ بن زيد [من الرمل]:

أَيُّهَا الْقَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَنْ

إِنَّ هَمّي فِي سَمَاعٍ وَأَذَنْ

أي: في سماع، واستماع.

وقال القرطبيّ: أصل الأَذَنِ -بفتحتين- أن المستمع يميل بأذنه إلى جهة من يسمعه، وهذا المعنى في حقّ اللَّه تعالى لا يراد به ظاهره، وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حقّ اللَّه تعالى إكرام القارئ، وإجزال ثوابه؛ لأن ذلك ثمرة الإصغاء. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ في المعنى المراد بالأذَن هنا أنه بمعنى الإكرام، وإجزال الثواب أراد به أن الكلام من باب المجاز، لا من باب الحقيقة، وهذا غير صحيح؛ لأنه يستلزم عدم إثبات صفة الأَذَن للَّه سبحانه وتعالى، وقد أثبتها له النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا النصّ الصحيح، فالصواب إثباتها على حقيقتها اللائقة بجلاله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من ذلك تشبيهه بمخلوقاته؛ لأن صفاته سبحانه وتعالى لا تشبه صفات المخلوقين، فلو لزم من إثباتها التشبيه للزم أيضًا في الإكرام، وإجزال المثوبة، اللذين أوّل بهما القرطبيّ؛ لأنهما يوصف بهما المخلوق

ص: 244

أيضًا، فيقال: إن فلانًا لَمّا استحسن قراءة فلان أكرمه، وأجزل له العطاء، ونحو ذلك.

والحاصل أن إثبات الصفات الواردة في القرآن، والأحاديث الصحيحة بمعناها الحقيقيّ، لا المجازيّ، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى هو الحق الذي كان عليه سلف هذه الأمة، الذين أثنى عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"خير القرون قرني". . . الحديث، متّفقٌ عليه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [35/ 1845 و 1846 و 1847 و 1848 و 1849 و 1850](792)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5023 و 5024) و"التوحيد"(7544) وفي "خلق أفعال العباد" ص 32، و (أبو داود) في "سننه"(1473)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(1017 و 1018) و"الكبرى"(1090 و 1091) وفي "فضائل القرآن"(8052 و 8048 و 8053)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4166)، و (الحميديّ) في "مسنده"(949)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 464)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 271 و 285 و 450)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(751)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3865 و 3867 و 3868 و 3869 و 3870)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1797 و 1798 و 1799 و 1800 و 1801)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب تزيين القرآن بالصوت الحسن، قال القرطبي رحمه الله: فائدة هذا الخبر حثّ القارئ على إعطاء القراءة حقّها من ترتيلها، وتحسينها، وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن.

2 -

(ومنها): استحباب الاستماع لقراءة قارئ حَسَن الصوت، وسيأتي نقل الإجماع على ذلك، إن شاء اللَّه تعالى.

ص: 245

وقد أخرج ابن أبي داود من طريق ابن أبي مسجعة، قال:"كان عمر رضي الله عنه يُقَدِّم الشاب الحسن الصوت؛ لحسن صوته بين يدي القوم".

3 -

(ومنها): إثبات صفة الأذَن -بفتحتين- بمعنى الاستماع للَّه سبحانه وتعالى ما يليق بجلاله، وأما ما قاله السنديّ وغيره من أنه لما كان الاستماع على اللَّه تعالى محالًا؛ لأنه شأن من يختلف سماعه بكثرة التوجه، وقلّته، وسماعُهُ تعالى لا يختلف قالوا: هذا كناية عن تقريب القارئ، وإجزال مثوبته. انتهى، فغير صحيح؛ لأن قولهم هذا مبني على معنى الاستماع الذي ينسب إلى المخلوق؛ لأنهم لم يفهموا معنى الاستماع إلا بالمعنى الذي ذكروه، وهذا خطأ، فإن الاستماع الذي يكون للَّه سبحانه وتعالى غير الاستماع الذي يكون للمخلوق، وإننا إذ نثبت للَّه تعالى صفاته العلية لا نثبتها بمعناها الذي يكون للمخلوق، وإنما نثبتها بالمعنى الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فتبصر، ولا تتهوّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

4 -

(ومنها): استحباب التغني بقراءة القرآن، لكن بشرط أن لا يُخِلّ بقوانين الأداء، كما قرره أهل القراءة.

قال القرطبيّ رحمه الله: تمسّك بهذا الحديث من يُجوّز قراءة القرآن بالألحان، وهو أبو حنيفة، وجماعة من السلف، وقال به الشافعيّ في التحزين، وكرهه مالك وأكثر العلماء، ولا أشكّ أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو إذا لم يُغيِّر لفظ القرآن بزيادة أو نقصان، أو يُبْهِم معناه بترديد الأصوات، فلا يُفهم معنى القرآن، فإن هذا مما لا شكّ في تحريمه، فأما إذا سلم من ذلك، وحَذَى به حَذْوَ أساليب الغناء والتطريب والتحزين فقط، فقد قال مالك: ينبغي أن نُنزِّه أذكار اللَّه، وقراءة القرآن عن التشبيه بأحوال المجون والباطل، فإنها حقّ وجِدّ وصدقٌ، والغناء هزلٌ ولهو ولَعِبٌ، وهذا الذي قاله مالك وجمهور العلماء هو الصحيح؛ بدليل ما ذُكر، وبأدلّة أخرى. انتهى

(1)

، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المفهم" 2/ 421.

ص: 246

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "يتغنى بالقرآن":

قال سفيان بن عيينة رحمه الله: تفسيره يستغني به، وإليه ميل البخاريُّ رحمه الله، قال الحافظ رحمه الله: ويمكن أن يُستأنس له بما أخرجه أبو داود، وابن الضُّريس، وصححه أبو عوانة عن ابن أبي مليكة، عن عبيد اللَّه بن أبي نَهيك، قال: لقيني سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، وأنا في السوق، فقال: تجار كسبة، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن"، وقد ارتضى أبو عبيد تفسير "يتغنى" بيستغني، وقال: إنه جائز في كلام العرب، وأنشد الأعشى [من المتقارب]:

وَكُنْتُ امْرَءًا زَمَنًا بِالْعِرَاقِ

خَفِيفَ الْمُنَاخِ طَوِيلَ التَّغَنِّي

أي: كثير الاستغناء. وقال المغيرة بن حَبْنَاء [من الطويل]:

كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ

وَنَحْنُ إِذَا مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيَا

قال: فعلى هذا يكون المعنى: من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا، فليس منّا؛ أي: ليس على طريقتنا.

واحتَجَّ أبو عبيد أيضًا بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "من قرأ سورة آل عمران، فهو غني"، ونحو ذلك.

وقال ابن الجوزيُّ رحمه الله: اختلفوا في معنى قوله: "يتغنى" على أربعة أقوال: (أحدها): تحسين الصوت. (والثاني): الاستغناء. (والثالث): التحزُّن. قاله الشافعي. (والرابع): التشاغل به، تقول العرب: تغنى بالمكان أقام به.

قال الحافظ: وفيه قول آخر، حكاه ابن الأنباريّ في "الزهر" قال: المراد به التلذذ، والاستحلاء له، كما يَسْتَلِذُّ أهل الطرب بالغناء، فأَطْلَق عليه تغنيًا من حيث إنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء، وهو كقول النابغة [من الوافر]:

بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلًا

مُفَجَّعَةً عَلَى فَنَنٍ تُغَنِّي

أَطْلق على صوتها غِنَاء؛ لأنه يُطْرِب كما يُطْرِب الغناء، وإن لم يكن غناءً حقيقةً، وهو كقولهم:"العمائم تيجان العرب"، لكونها تقوم مقام التيجان.

وفيه قول آخر حسن، وهو أن يجعله هِجِّيرَاه، كما يجعل المسافر والفارغ هِجّيراه الغناءَ، قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى، وإذا

ص: 247

جلست في أفنيتها، وفي أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكون هِجِّيراهم القراءةَ مكانَ التغني.

ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدِّم، فإنه أراد بقوله:"طويل التغني" طول الإقامة، لا الاستغناء؛ لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء؛ يعني: أنه كان ملازمًا لوطنه بين أهله، كانوا يتمدحون بذلك، كما قال حسان [من الكامل]:

أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمُ

قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفَضَّلِ

أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع، ولا يَبْرَحون من أوطانهم، فيكون معنى الحديث: الحثّ على ملازمة القرآن، وأن لا يُتَعَدَّى إلى غيره، وهو يؤول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاريّ من تخصيص الاستغناء، وأنه يُسْتَغنَى به عن غيره من الكتب.

وقيل: المراد: من لم يغنه القرآن، وينفعه في إيمانه، ويُصَدِّق بما فيه من وعد ووعيد، وقيل: معناه: من لم يَرْتَحْ لقراءته وسماعه، وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر، لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع، إذا أريد به الغنى المعنويّ، وهو غنى النفس، وهو القناعة، لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر؛ لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة، إلا إذا كان ذلك بالخاصية، وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك، فإن فيه إشارة إلى الحثّ على تكلف ذلك، وفي توجيهه تكلف، كأنه قال: ليس منّا من لم يتطلب الغنى بملازمة تلاوته.

قال الحافظ: وأما الذي نقله عن الشافعي، فلم أره صريحًا عنه في تفسير الخبر، وإنما قال في "مختصر المزنيّ": وأحب أن يقرأ حَدْرًا وتحزينًا. انتهى.

قال أهل اللغة: حَدَرْتُ القراءة: أدرجتها، ولم أُمْطِطها، وقرأ فلان تحزينًا: إذا رقق صوته، وصيّره كصوت الحزين.

وقد رَوَى ابن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنه قرأ سورة، فحزنها شبه الرَّثْي"، وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد، قال:"يتغنى به، يتحزَّن به، ويُرَقِّق به قلبه".

وذكر الطبريّ عن الشافعيّ أنه سئل عن تأويل ابن عيينة التغني

ص: 248

بالاستغناء، فلم يرتضه، وقال: لو أراد الاستغناء لقال: لم يستغن، وإنما أراد تحسين الصوت.

قال ابن بطال: وبذلك فسره ابن أبي مليكة، وعبد اللَّه بن المبارك، والنضر بن شُميل، ويؤيده رواية عبد الأعلى، عن معمر، عن ابن شهاب في حديث الباب بلفظ:"ما أَذِنَ لنبي في الترنُّم في القرآن"، أخرجه الطبريّ، وعنده في رواية عبد الرزّاق، عن معمر:"ما أذن لنبيّ حسن الصوت"، وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة، وعند أبي داود، والطحاويّ من رواية عمرو بن دينار، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"حسن الترنّم بالقرآن"، قال الطبري:"والترنم" لا يكون إلا بالصوت، إذا حسّنه القارئ، وطَرَّب به، قال: ولو كان معناه: الاستغناء لما كان لذكر الصوت، ولا لذكر الجهر معنى.

وأخرج ابن ماجه، والكجيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث فَضالة بن عبيد رضي الله عنه مرفوعًا:"لَلَّهُ أشدُّ أَذَنًا -أي: استماعًا- للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَة إلى قينته"، و"القينة": المغنية.

وروى ابن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه رفعه: "تعلموا القرآن، وغنُّوا به، وأفشوه"، كذا وقع عنده، والمشهور عند غيره في الحديث:"وتغنوا به"، والمعروف في كلام العرب أن التغني: الترجيع بالصوت، كما قال حسان [من البسيط]:

تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلَهُ

إِنَّ الْغِنَاءَ بِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ

قال: ولا نعلم في كلام العرب "تغنى" بمعنى استغنى، ولا في أشعارهم، وبيت الأعشى لا حجة فيه؛ لأنه أراد طول الإقامة، ومنه قوله تعالى:{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 68]. وقال: بيت المغيرة أيضًا لا حجة فيه؛ لأن التغاني تفاعل بين اثنين، وليس هو بمعنى "تغنى"، قال: وإنما يأتي "تغنى" من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعّل؛ أي: يظهر خلاف ما عنده، وهذا فاسد المعنى.

قال الحافظ: ويمكن أن يكون بمعنى تكَلَّفه؛ أي: تطلّبه، وحمل نفسه

ص: 249

عليه، ولو شقّ عليه، كما تقدم قريبًا، ويؤيده حديث:"فإن لم تَبْكُوا، فتباكَوْا". وهو في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند أبي عوانة.

وأما إنكاره أن يكون "تغنى" بمعنى "استغنى" في كلام العرب، فمردود، ومن حَفِظَ حجة على من لم يحفظ، وقد صحّ في حديث الخيل:"ورجلٌ ربطها تَعَفُّفًا وتَغَنِّيًا"، وهذا من الاستغناء بلا ريب، والمراد به: يطلب الغنى بها عن الناس بقرينة قوله: "تعفُّفًا".

وممن أنكر تفسير "يتغنى" بيستغني أيضًا الإسماعيلي، فقال: الاستغناء إليه لا يحتاج إلى استماع؛ لأن الاستماع أمر خاصّ زائد على الاكتفاء به، وأيضًا فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة، ثم ساق من وجه آخر عن ابن عيينة، قال: يقولون: إذا رفع صوته، فقد تغنى.

قال الحافظ: قلت: الذي نَقَلَ عنه أنه بمعنى استغنى أتقن لحديثه، وقد نقل أبو داود عنه مثله.

ويمكن الجمع بينهما بأن تفسير "يستغني" من جهته، و"يرفع" عن غيره.

وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة، فقال: لم يصنع شيئًا، حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن عُبيد بن عمير، قال:"كان داود عليه السلام يتغنى -يعني: حين يقرأ- ويَبكي، ويُبكي". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن داود عليه السلام كان يقرأ الزبور بسبعين لحنًا، ويقرأ قراءة يَطرَب منها المحموم، وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في برّ، ولا بحر إلا أنصتت له، واستمعت، وبكت".

وفي الجملة ما فَسَّرَ به ابن عيينة ليس بمدفوع، وإن كانت ظواهر الأخبار تُرَجِّح أن المراد تحسين الصوت، ويؤيده قوله:"يجهر به"، فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة، وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره، ولا سيما إذا كان فقيهًا، وقد جزم الحَلِيميّ بأنها من قول أبي هريرة رضي الله عنه، والعرب تقول: سمعت فلانًا يتغنى بكذا؛ أي: يجهر به.

وقال أبو عاصم: أخذ بيدي ابنُ جريج، فأوقفني على أشعب، فقال:

ص: 250

غَنِّ ابنَ أخي ما بلغ من طمعك، فذكر قصة، فقوله: غنّ؛ أي: أخبرني جهرًا صريحًا، ومنه قول ذي الرُّمَّة [من الطويل]:

أحِبُّ الْمَكَانَ الْقَفْرَ مِنْ أَجْلِ أَنَّنِي

بِهِ أَتَغَنَّى بِاسْمِهَا غَيْرَ مُعْجِمِ

أي: أجهر، ولا أكني.

والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة، وهو أنه يُحَسّن به صوته جاهرًا به مترنمًا على طريق التحزّن، مستغنيًا به عن غيره من الأخبار، طالبًا به غنى النفس، راجيًا به غنى اليد، قال: وقد نظمت ذلك في بيتين:

تَغَنَّ بِالْقُرْآنِ حَسِّنْ بِهِ الصَّوْ

تَ حَزِينًا جَاهِرًا رَنِّمِ

وَاسْتَغْنِ عَنْ كُتُبِ الأُلَى طَالِبا

غِنَى يَدٍ وَالنَّفْسِ ثُمَّ الْزَمِ

انتهى ما في "الفتح" بتصرف يسير.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أرجح الأقوال في معنى: "يتغنى به" في هذا الحديث هو قول من فسّره بتحسين الصوت؛ لكون ظواهر الأخبار تؤيده.

والحاصل أن ما دلت عليه ظواهر الأخبار، وكان واضحًا في استعمال العرب بدون خلاف، وهو كون "يتغنى" بمعنى يحسن صوته، أولى ما يُفَسَّر به هذا الحديث، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان اختلاف أهل العلم في القراءة بالألحان:

قال في "الفتح": كان بين السلف اختلاف في جواز قراءة القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت، وتقديم حسن الصوت على غيره، فلا نزاع في ذلك.

فَحَكَى عبدُ الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكاه أبو الطيب الطبريّ، والماورديّ، وابن حمدان الحنبليّ عن جماعة من أهل العلم، وحَكَى ابن بطال، وعياض، والقرطبيّ من المالكية، والماورديّ، والبندنيجيّ، والغزاليّ من الشافعية، وصاحب "الذخيرة" من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى، وابن عقيل من الحنابلة.

وحَكَى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز، وهو المنصوص للشافعيّ، ونقله الطحاويّ عن الحنفية.

وقال الفورانيّ من الشافعية في "الإبانة": يجوز، بل يستحب، ومحل هذا

ص: 251

الاختلاف إذا لم يَخْتَلّ شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير قال النوويّ رحمه الله في "التبيان": أجمعوا على تحريمه، ولفظه:

أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حدّ القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفًا، أو أخفاه حَرُمَ، قال: وأما القراءة بالألحان، فقد نصّ الشافعيّ في موضع على كراهته، وقال في موضع آخر: لا بأس به، فقال أصحابه: ليس على اختلاف قولين، بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان عن المنهج القويم جاز، وإلا حرم.

وحَكَى الماورديّ عن الشافعيّ أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخرجها حَرُمَ، وكذا حَكَى ابن حمدان الحنبليّ في "الرعاية".

وقال الغزاليّ، والبندنيجيّ، وصاحب "الذخيرة" من الحنفية: إن لم يُفرِط في التمطيط الذي يشوش النظم استُحِبَّ، وإلا فلا.

وأغرب الرافعيّ، فَحَكَى عن "أمالي السرخسي" أنه لا يضرّ التمطيط مطلقًا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، وهذا شذوذ، لا يعرّج عليه.

والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنًا، فليحسّنه ما استطاع، كما قال ابن أبي مليكة أحد رواة الحديث، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح.

ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النَّغَم، فإن الحَسَنَ الصوتِ يزداد حُسْنًا بذلك، وإن خرج عنها أَثَّرَ ذلك في حسنه، وغيرُ الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يَفِ تحسينُ الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وُجِد من يراعيهما معًا، فلا شك في أنه أرجح من غيره؛ لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء، واللَّه أعلم. انتهى ما في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التفصيل حسنٌ جدًّا، وحاصله أن القراءة بالألحان والأنغام الحسنة بشرط عدم الخروج عن قوانين القراءة مستحبّ؛

ص: 252

لأحاديث الباب، وغيرها، وإن اختلّ شرط من شروط الأداء، كأن يمد حرفًا لا يستحقّ المدّ، أو تجاوز في الممدود من المقدار الذي وضعه القراء، أو زاد حرفًا، أو نقص، أو أخفى ما يُظْهَر، أو عكس، أو أدغم ما لا يدغم، أو عكس، أو نحو ذلك فحرام، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1846]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسنَادِ، قَالَ:"كَمَا يَأْذَنُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

2 -

(عَمْرُو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقون تقدّموا قبل باب، ويونس هو: ابن يزيد الأيليّ، وابن شهاب ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الضمير ليونس، وعمرو بن الحارث.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي: بإسناد ابن شهاب الماضي.

وقوله: (قَالَ: كَمَا يَأْذَنُ. . . إلخ) أي: بصيغة المضارع، لكن الذي يأتي في "مستخرج أبي نعيم" بصيغة الماضي، والظاهر أن المصنّف وقع له بلفظ المضارع، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يونس وعمرو بن الحارث هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(2/ 382 - 383) فقال:

(1798)

حدّثنا محمد بن الحسن بن عليّ، ثنا عبد اللَّه بن محمد بن سالم المقدسيّ، ثنا حرملة، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس وعمرو بن الحارث،

ص: 253

عن ابن شهاب، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أَذِن اللَّه لشيء كما أذن لنبي يتغنى بالقرآن". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1847]

(. . .) - (حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، وَهُوَ ابْنُ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ، مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ، يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ الْحَكَم) بن حبيب بن مِهْرَان الْعَبْديّ النيسابوريّ، أبو عبد الرحمن، ثقةٌ زاهدٌ فقيهٌ [10](ت 7 أو 238)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 37.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عُبيد الدّرَاورديّ، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ كان يحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ له أفرادٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 59.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ) قال الإمام ابن حبّان رحمه الله: يريد ما استمع اللَّه لشيء كأَذَنه؛ كاستماعه للذي يتغنى بالقرآن يجهر به، يريد: يتحزَّن بالقراءة على

ص: 254

حسب ما وصفنا نعته. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَسَنِ الصَّوْتِ) بالجرّ صفة لـ "نبيّ".

وقوله: (يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) جملة فعليّة في محلّ نصب على الحال من "نبيّ"؛ أي: يُحسّن صوته به حال قراءته.

وقوله: (يَجْهَرُ بِهِ) جملة فعلية في محلّ نصب على الحال أيضًا، فتكون الحالان إما متداخلتين، أو مترادفتين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1848]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ، وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ: سَمِعَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ) هو: أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم، أبو عبد اللَّه المصريّ، لقبه بَحْشَلٌ، صدوقٌ تغيّر بآخره [11](ت 264)(م) تقدم في "المساجد" 19/ 1277.

2 -

(عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ) الشَّرْعَبيّ -بفتح الشين المعجمة، وسكون الراء، وفتح العين المهملة، بعدها موحّدة- الْمَعَافريّ المصريّ، فقيهٌ لا بأس به [7].

رَوَى عن يزيد بن الهاد، وعبيد اللَّه بن أبي جعفر، وصفوان بن سليم، وخالد بن أبي عمران.

ورَوَى عنه حَيْوَة بن شُرَيح، وضِمَام بن إسماعيل، وعبد الرحمن بن شُريح الإسكندرانيّ، ومغيرة بن الحسن.

(1)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 3/ 30.

ص: 255

قال أبو حاتم: لا بأس به، ليس بالمعروف، وقال ابن شاهين: وَثَّقَه أحمد بن صالح؛ يعني: المصريّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: كان فقيهًا، وقال ضِمَام: سألت عُمَر بن مالك، وكان فقيهًا.

أخرجه أبي داود والنسائي، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث مقرونًا بحَيْوَة بن شُريح.

3 -

(حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحِ) بن صَفْوان التُّجيبيّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه زاهد [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (عَنِ ابْنِ الْهَادِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني: أن كلًّا من عمر بن مالك، وحَيْوة بن شُريح رويا هذا الحديث عن يزيد بن الهاد بسنده الماضي، وهو: عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي: مثل الحديث الماضي.

وقوله: (سَوَاءً) منصوب على الحال؛ أي: حال كون الحديثين مستويين في السياق، إلا ما أشار إلى استثنائه بقوله:"وقال:. . . إلخ".

وقوله: (وَقَالَ. . . إلخ) الظاهر أن الفاعل ضمير شيخه ابن أخي ابن وهب؛ يعني: أنه لم يقل في روايته: "أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول. . . إلخ"، وإنما قال:"عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال. . . " إلخ، واللَّه أعلم.

وقوله: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وقع في النسخ مضبوطًا بالقلم بكسر همزة "إِنَّ"، والظاهر أنه بفتحها، كما يدلّ عليه ظاهر السياق، وكما تدلّ عليه رواية أبي داود الآتية، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عمر بن مالك، وحَيْوَة بن شُريح كلاهما عن يزيد بن الهاد هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه" (2/ 75) فقال:

(1473)

حدّثنا سليمان بن داود الْمَهْريّ، أخبرنا ابن وهب، حدّثني عُمَر بن مالك، وحَيْوَة، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ما أَذِنَ اللَّهُ لشيء، ما أَذِنَ لنبيٍّ حسنِ الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به". انتهى.

ص: 256

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1849]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِقْلٌ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ، كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير البغداديّ، أبو صالح الْقَنْطريّ، ثقةٌ

(2)

[10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

2 -

(هِقْلُ) بن زياد السَّكْسَكيّ الدمشقيّ، نزيل بيروت، قيل: اسمه محمد، وقيل: عبد اللَّه، وهِقْلٌ لقبه، ثقةٌ متقنٌ، وكان كاتب الأوزاعيّ [9](179) أو بعدها (م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1099.

3 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الفقيه المشهور، ثقةٌ ثبت فاضل [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ) قال القرطبي رحمه الله: أي: ما استمع اللَّه، وأصغى، وأصله أن المستمع يَميل بأذنه إلى جهة الْمُسْتَمَع، تقول العرب: أَذِنَ بكسر الذال يَأْذَن بفتحها في المستقبل أَذَنًا بفتح الهمزة والذال في المصدر: إذا أصغى واستمع. انتهى

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

قال في "التقريب": صدوقٌ، والحقّ أنه ثقةٌ، كما يظهر من ترجمته في "تهذيب التهذيب".

(3)

"المفهم" 2/ 421.

ص: 257

وقوله: (كَأَذَنِهِ) بفتحتين: أي: كاستماعه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وبيان مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1850]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ أَيُّوبَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: "كَإِذْنِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيل بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو) بن عَلْقَمَة بن وقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6](ت 145) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

[تنبيه]: وقع في "برنامج الحديث" هنا غلط، وهو أنه تُرجم فيه لمحمد بن عمرو بن حَلْحَلة، والصواب أنه محمد بن عمرو بن علقمة، كما هو في "تحفة الأشراف"(10/ 371).

ومن العجيب أنه ليس لمحمد بن عمرو بن حَلْحَلة رواية عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في الكتب الستّة أصلًا، بل كلّها لمحمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما يظهر من "تحفة الأشراف"(10/ 371 - 404) فتبصّر، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 258

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) يعني: أن حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة مثلُ حديث يحيى بن أبي كثير عنه، وقوله:"مثل" بالنصب على الحالية.

وقول: (غَيْرَ أَنَّ ابْنَ أَيُّوبَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: كَإِذْنِهِ) أي: بكسر الهمزة، وسكون الذال المعجمة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا في رواية ابن أيّوب بكسر الهمزة، وإسكان الذال، قال القاضي: هو على هذه الرواية بمعنى الحثّ على ذلك، والأمر به. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 384) فقال:

(1801)

حدّثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا أبو عُبيد، ثنا إسماعيل بن جعفر (ح) وثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا أبو الربيع الزَّهْرانيّ، ثنا إسماعيل بن جعفر (ح) وثنا إبراهيم بن عبد اللَّه، ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ثنا عليّ بن حُجْر، ثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما أَذِنَ اللَّهُ لشيء، كإذنه

(2)

لرجل"، وقال يوسف: "لنبيّ يتغنى بالقرآن، يجهر به". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1851]

(793) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَهُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

(1)

"شرح النووي" 6/ 79 - 85.

(2)

هكذا النسخة بكسر الهمزة، وقد صرّح مسلم بأن الكسر في رواية يحيى بن أبي فقط، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 259

بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَوِ الْأَشْعَرِيَّ أُعْطيَ مِزْمَارًا، مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصَيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

3 -

(أَبُوهُ) بُرَيدة بن الْحُصَيب الأسلميّ، أبو عبد اللَّه الصحابىّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه أبا بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى ابن بُريدة وأبيه، فمروزيّان، وفيه رواية الراوي عن أبيه في موضعين، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصَيب رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَوِ) للشكّ من الراوي (الْأَشْعَرِيَّ) بفتح الهمزة: نسبة إلى قبيلة مشهورة من اليمن، والأشهر هو: نبت بن أُدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وإنما قيل له: الأشعر؛ لأن أمه ولدته، والشعر على بدنه، قاله في "اللباب"

(1)

:

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 47.

ص: 260

(أُعْطِيَ) بالبناء للمفعول (مِزْمَارًا) بكسر الميم: آلة الزَّمْرِ، قال في "القاموس": زَمَرَ يَزْمُرُ، ويَزْمِرُ زَمْرًا، وزَمِيرًا، وزَمَّرَ تَزْمِيرًا: غَنَّى بالقَصَبِ، وهي زَامِرٌ، وهو زَمَّارٌ، وزَامِرٌ قليلٌ، وفِعلهما الزِّمَارةُ، كالكتابة. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": زَمَرَ زَمْرًا، من باب ضَرَبَ وزَمِيرًا أيضًا، ويَزْمُرُ بالضمّ لغةٌ حكاها أبو زيد، ورجلٌ زَمّارٌ، قالوا: ولا يقال: زَامِرٌ، وامرأةٌ زَامرةٌ، ولا يقال: زَمَّارةٌ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الْمِزمار والْمَزمور: الصوت الحسن، وبه سُمّيت آلة الزَّمْر مزمارًا. انتهى

(3)

.

(مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ") عليه السلام، زاد أبو عوانة في "مسنده" من طريق شعيب بن حرب، عن مالك بن مِغْوَل:"وهو مؤمنٌ مُنِيبٌ".

والمراد بـ "آل داود" داود النبيّ عليه السلام نفسه، و"آل" صلةٌ.

ومزامير داود: ما كان يتغنَّى به من الزَّبُور، وضُرُوب الدُّعاء، وجمع مِزمار ومَزْمور. انتهى

(4)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: المزمور، بفتح الميم وضمّها: هو الآلة التي يُزَمَّر بها، شبّه حسن تلاوته، وحلاوة نَغْمَته بصوت المزمار، وداود هو النبيّ عليه السلام، وإليه المنتهى في حسن الصوت بالقراءة، و"الآل" في قوله:"آل داود" مُقحمةٌ، قيل: معناه ها هنا الشخص. انتهى

(5)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن، وأصل الزَّمْر الغِنَاء، و"آل داود" هو داود عليه السلام نفسه، وآل فلان قد يُطْلَق على نفسه، وكان داود صلى الله عليه وسلم حسن الصوت جِدًّا. انتهى

(6)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"القاموس المحيط" 2/ 40.

(2)

"المصباح المنير".

(3)

"المفهم" 2/ 423.

(4)

"القاموس المحيط" 2/ 40.

(5)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 312.

(6)

"شرح النوويّ" 6/ 80.

ص: 261

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 1851](793)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(83)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 463 و 12/ 122)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 349 و 351 و 359)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 473)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 344 و 4/ 102)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3890)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1802)، واللَّه تعالى أعلم.

وأما فوائد الحديث، فستأتي في المسألة الثالثة من شرح الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1852]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي مُوسَى: "لَوْ رَأَيْتَني، وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ

(1)

الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) بالتصغير الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيّوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الْجَمَلُ، صدوقٌ يُغْرب، من كبار [9](ت 194) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

3 -

(طَلْحَةُ) بن يحيى بن طلحة بن عُبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ يُخطئ [6](ت 148)(م 4) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.

(1)

وفي نسخة: "وأنا أستمع قراءتك".

ص: 262

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وطلحة، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين سوى شيخه، فخُوَارَزْميّ، ثم بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) قيل: اسمه الحارث، وقيل: عامرٌ، وقيل: اسمه كنيته (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي مُوسَى) فيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول: قال لي: ("لَوْ رَأَيْتَني، وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ) وفي بعض النسخ: "قراءتك" بحذف اللام، وكلاهما صحيح؛ لأن الفعل يتعدّى بنفسه، وباللام، قال الفيّوميّ رحمه الله: سَمِعته، وسَمِعتُ له سَمْعًا، وتسمّعتُ، واستمعت، كلُّها يتعدّى بنفسه، وبالحرف بمعنًى، واستَمَع لما كان بقصد؛ لأنه لا يكون إلا بالإصغاء، وسَمِعَ يكون بقصد وبدونه. انتهى

(1)

.

وجواب "لو" محذوف، تقديره لفرحتَ، أو لتعجّبت، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (الْبَارِحَةَ) هي الليلة الماضية، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَرِحَ الشيءُ يَبْرَحُ، من باب تَعِبَ بَرَاحًا: زال من مكانه، ومنه قيل للّيلة الماضية: البارحة، والعرب تقول قبل الزوال: فعلنا الليلةَ كذا؛ لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحة. انتهى

(2)

.

(لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ") المراد بالمزمار: الصوت الحسن، وأصله الآلة، أُطْلِق اسمه على الصوت للمشابهة، وقال الخطابيّ رحمه الله: المراد بـ "آل داود" داودُ نفسه؛ لأنه لم يُنقَل أن أحدًا من أولاد داود عليه السلام، ولا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 289.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 42.

ص: 263

من أقاربه كان أُعطي من حسن الصوت ما أعطيه. انتهى

(1)

.

وذكر البغويّ رحمه الله في "شرح السنّة" ما ذكره الخطّابيّ، ثم قال: وقيل: يجوز أن يكون أراد بآل داود أهل بيته، ولا يُنكر أن يكونوا أشجى أصواتًا من غيرهم، أكرمهم اللَّه به، فإنا نجد حسن الصوت يُتوارث. انتهى

(2)

.

وزاد أبو نعيم في "مستخرجه" من طريق أحمد بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد: "قال: أَمَ

(3)

واللَّه يا رسول اللَّه لو عَلِمتُ أنك تسمع لقراءتي، لحَبّرته لك تحبيرًا".

وأخرج أبو يعلى في "مسنده"، من طريق سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعائشة مَرّا بأبي موسى، وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا، فلما أصبح لقي أبو موسى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا أبا موسى، مررت بك. . . " فذكر الحديث، فقال: أما إني لو عَلِمتُ بمكانك لَحَبَّرته لك تحبيرًا.

وأخرج ابن سعد من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد على شرط مسلم أن أبا موسى قام ليلةً يصلي، فسمع أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم صوته، وكان حُلْوَ الصوت، فقُمْنَ يستمعن، فلما أصبح قيل له: فقال: لو علمتُ لحبّرته لهنّ تحبيرًا.

وللرُّويانيّ من طريق مالك بن مِغْوَل، عن عبد اللَّه بن بُريدة، عن أبيه نحو سياق سعيد بن أبي بردة، وقال فيه: لو علمتُ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستمع قراءتي لحبّرتها تحبيرًا، وأصلها عند أحمد.

وعند الدارميّ من طريق الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأبي موسى، وكان حسن الصوت بالقرآن:"لقد أوتي هذا من مزامير آل داود".

وأصل هذا الحديث عند النسائيّ من طريق عمرو بن الحارث، عن الزهريّ موصولًا بذكر أبي هريرة رضي الله عنه فيه، ولفظه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى، فقال:"لقد أوتي من مزامير آل داود".

(1)

"الفتح" 8/ 710.

(2)

راجع: "شرح السنّة" 4/ 489.

(3)

هكذا النسخة "أم" بحذف الألف، وليُحرّر.

ص: 264

وقد اختُلِف فيه على الزهريّ، فقال معمر وسفيان، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه النسائيّ، وقال الليث، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب مرسلًا.

ولأبي يعلى من طريق عبد الرحمن بن عَوْسَجَةَ، عن البراء، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى، فقال:"كأن صوت هذا من مزامير آل داود".

وأخرج ابن أبي داود بسند صحيح، من طريق أبي عثمان النَّهْدِيّ، قال: دخلت دار أبي موسى الأشعريّ، فما سمعت صوت صَنْجٍ، ولا بَرْبَط، ولا نايٍ أحسن من صوته. وهو في "الحلية" لأبي نعيم.

و"الصَّنْجُ" -بفتح المهملة، وسكون النون، بعدها جيم-: هو آلة تُتَّخَذ من نحاس، كالطبقين، يُضْرَب أحدهما بالآخر.

و"الْبَرْبَط" -بالموحدتين، بينهما راء ساكنة، ثم طاء مهملة- بوزن جَعْفَر: هو آلة تُشْبِه الْعُود، فارسيّ مُعَرَّبٌ.

و"الناي" -بنون بغير همز-: هو المزمار، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 1852](793)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5048)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3855)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7197)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3891)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1803)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 466)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 230 و 231)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب استماع قراءة القارئ الحسن الصوت.

(1)

"الفتح" 8/ 710.

ص: 265

2 -

(ومنها): مدح الصوت الحسن.

3 -

(ومنها): استحباب تحسين الصوت في القراءة، وأن ذلك لا ينافي الإخلاص، فقد أخرج ابن حبان رحمه الله في "صحيحه" عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: استمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قراءتي من الليل، فلما أصبحت، قال:"يا أبا موسى استمعت قراءتك الليلة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود"، قلت: يا رسول اللَّه، لو علمت مكانك لَحَبّرت لك تحبيرًا

(1)

؛ أي: لحسّنته، ولجمّلته.

وأخرج الضياء في "المختارة" عن أنس رضي الله عنه أن أبا موسى رضي الله عنه كان يقرأ ذات ليلة، فمشى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمع، فلما أصبح قيل له، قال: لو علمت لحبّرت لك تحبيرًا، ولشوّقت لك تشويقًا

(2)

.

وأخرج أيضًا عن أنس رضي الله عنه أن أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه كان يقرأ ذات ليلة، فجعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يستمعن، فلما أصبحن أخبر بذلك، فقال: لو علمت لحبّرتكم تحبيرًا، ولشوّقتكم تشويقًا

(3)

.

قال القرطبي رحمه الله: وهذا محمول على أن أبا موسى رضي الله عنه كان يزيد في رفع صوته، وتحسين ترتيله، حتى يُسْمِع النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ويُعرّفه أنه قَبِل عنه كيفيّة أداء القراءة، وأنه متمكّنٌ منها، فيَحمده النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويدعو له، فتحصل له فضيلة ومنقبةٌ، كما فَعَلَ بأُبيّ بن كعب رضي الله عنه، حيث سأله، فأجابه، فقال:"لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر"، رواه مسلم.

ويَحْتَمِلُ أن يكون ذلك ليبالغ في حالةٍ يُطَيّب بها القرآن له، فإن الإنسان قد يتساهل مع نفسه في أموره، ويَعتني بها عند مشاركة غيره فيها، وإن كان مُخلصًا في أصل عمله. انتهى

(4)

.

4 -

(ومنها): بيان ما أكرم اللَّه به أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه حيث أعطاه

(1)

حديث صحيح، أخرجه في "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 16/ 175.

(2)

"الأحاديث المختارة" 5/ 41، وإسناده صحيح.

(3)

"الأحاديث المختارة" 5/ 42، وإسناده صحيح.

(4)

"المفهم" 2/ 423 - 424.

ص: 266

صوتًا حسنًا، وأخرج ابن حبّان في "صحيحه" من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه حدّثه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى الأشعريّ، فقال:"قد أوتي هذا من مزامير آل داود"، قال أبو سلمة: وكان عمر بن الخطّاب يقول لأبي موسى -وهو جالسٌ في المجلس-: يا أبا موسى ذكِّرنا ربّنا، فيقرأ عنده أبو موسى، وهو جالسٌ في المجلس، ويتلاحن.

5 -

(ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه، والنهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا خيف افتتان الممدوح بالعجب ونحوه.

6 -

(ومنها): بيان ما أكرم اللَّه تعالى به نبيّه داود عليه السلام من حسن الصوت، وقد تقدّم عن عبيد بن عمير قال: كان داود عليه السلام يتغنى يعني: حين يقرأ، ويَبْكِي ويُبْكِي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن داود عليه السلام كان يقرأ الزبور بسبعين لَحْنًا، ويقرأ قراءةً يَطْرَب منها المحموم، وكان إذا أراد أن يُبَكِّي نفسه لم تبق دابة في برّ ولا بحرّ إلا أنصتت له، واستمعت، وبكت.

7 -

(ومنها): بيان استحباب تحسين الصوت بالقراءة، قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها، قال أبو عبيد: والأحاديث الواردة في ذلك محمولة على التحزين والتشويق، قال: واختلفوا في القراءة بالألحان، فكرهها مالك والجمهور؛ لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والتفهم، وأباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف؛ للأحاديث، ولأن ذلك سبب للرقة وإثارةِ الخشية، وإقبال النفوس على استماعه.

قال النوويّ: قال الشافعيّ في موضع: أكره القراءة بالألحان، وقال في موضع: لا أكرهها، قال أصحابنا: ليس له بينهما اختلاف، وإنما هو اختلاف حالين، فحيث كرهها أراد إذا مَطَّط، وأخرج الكلام عن موضعه بزيادة أو نقص أو مدّ غير ممدود، وإدغام ما لا يجوز إدغامه، ونحو ذلك، وحيث أباحها أراد إذا لم يكن فيها تغيير لموضوع الكلام. انتهى

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وقد تقدّم

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 80.

ص: 267

مستوفًى في شرح حديث أول الباب، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(36) - (بَابُ ذِكْرِ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "سُورَةَ الْفَتْحِ"، وَتَرْجِيعِهِ فِيهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1853]

(794) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَوَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ، يَقُولُ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، فِي مَسِيرٍ لَهُ، سُورَةَ الْفَتْحِ، عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيَّ النَّاسُ، لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابد [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل بابين.

5 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ) بن إياس بن هلال بن رياب المزنيّ، أبو إياس البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3].

رَوَى عن أبيه، ومَعْقِل بن يسار الْمُزَنيّ، وأبي أيوب الأنصاريّ، وعبد اللَّه بن مُغَفَّل، وجماعة.

ورَوَى عنه ابنه إياس، وابن ابنه المستنير بن أخضر بن معاوية، وثابت

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 268

البنانيّ، وحزم بن أبي حزم، وخالد بن أيوب، وسماك بن حرب، وقتادة، وشعبة، وأبو عوانة، وآخرون.

قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وكذا قال العجليّ، والنسائيّ، وأبو حاتم، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من عقلاء الرجال، وقال مطر الأعنق، عن معاوية بن قُرَّة: لقيت من الصحابة كثيرًا منهم خمسة وعشرون من مُزَينة.

وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: معاوية بن قرة عن عليّ مرسلٌ، وقال أبو حاتم: لم يلق ابن عمر، وقال الشافعيّ: روايته عن عثمان منقطعة.

قال خليفة وغيره: مات سنة ثلاث عشرة ومائة، وقال يحيى بن معين: مات، وهو ابن ست وسبعين سنةً.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث، هذا برقم (794) وأعاده بعده، وحديث (1671) و (1805) و (2341) و (2504) و (2948).

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ) أبو عبد الرحمن صحابيّ بايع تحت الشجرة، ثم نزل البصرة، ومات رضي الله عنه سنة (57) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من شعبة، والباقون كوفيّون، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) بن إياس، وفي رواية للبخاريّ من طريق حجاج بن منهال، عن شعبة: أخبرنا أبو إياس، وأبو إياس كنية معاوية بن قُرّة، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيَّ) بضمّ الميم، وفتح الزاي: نسبة لولد عثمان وأوس ابني عمرو بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر، نُسِبوا إلى مُزَينة بنت

ص: 269

كلب بن وبرة، أم عثمان وأوس، قاله في "اللباب"

(1)

. (يَقُولُ: قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ) أي: في سنة فتح مكة، وكان في رمضان سنة ثمان من الهجرة (فِي مَسِيرٍ لَهُ) أي: في حال سيره، فـ "مسير" بالفتح مصدر ميميّ لسار، يقال: سار يسير سَيْرًا ومَسِيرًا، يكون بالليل والنهار، ويُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، فيقال: سار البعيرُ، وسِرْتُهُ، فهو مَسِيرٌ، قاله في "المصباح"

(2)

.

ويَحْتَمِل أن يكون "مسير" ظرف زمان، أو مكان، فيكون المعنى قرأ في وقت سيره، أو مكانه، واللَّه تعالى أعلم.

(سُورَةَ الْفَتْحِ) زاد في رواية البخاريّ في "فضائل القرآن": "قراءةً لَيِّنةً"(عَلَى رَاحِلَتِهِ) أي: ناقته التي ركبها، قال الفيّوميُّ رحمه الله: الراحلة: الْمَرْكَبُ من الإبل، ذكرًا كان أو أنثى، وبعضهمِ يقول: الراحلة: الناقة التي تصلح أن تُرْحَلَ، وجمعها رَواحل. انتهى

(3)

. (فرَجَّعَ) بتشديد الجيم، من الترجيع، وهو: ترديد القارئ الحرف في الحلق، قاله في "الفتح"، وقال في "النهاية": الترجيع: ترديد القراءة، ومنه ترجيع الأذان، وقيل: هو تقارب ضُرُوب الحركات في الصوت. انتهى

(4)

. (فِي قِرَاءَتِهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ) بن قُرّة (لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيَّ النَّاسُ، لَحَكَيْتُ لَكُمْ قِرَاءَتَهُ) يشير به إلى أن القراءة بالترجيع تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء، وتستميلها بذلك حتى لا تكاد تصبر عن استماع الترجيع المشوب بلذّة الحكمة المهيمنة.

وفي رواية البخاريّ من طريق شبابة، عن شعبة:"ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مُغفّل، وقال: لولا أن تجتمع الناس عليكم، لرَجَّعتُ كما رجَّع ابن مُغفَّل يحكي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت لمعاوية: كيف ترجيعه؟ قال: آآآ ثلاث مرّات"، وللحاكم في "الإكليل" من رواية وهب بن جرير، عن شعبة:"لقرأت بذلك اللحن الذي قرأ به النبيّ صلى الله عليه وسلم"

(5)

.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 326.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 299.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 222 - 223.

(4)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 202.

(5)

"الفتح" 7/ 607 "كتاب المغازي" رقم (4281).

ص: 270

وفي رواية أبي عوانة: "رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وهو يقرأ سورة الفتح، وهو يُرجّع، والناس حول ناقته، وقال: لولا أن يستمع مني من حولي لرجّعت"، وفي رواية:"لأخذت لكم في ذلك الصوت"، وفي رواية: قال شعبة: "ورجّع أبو إياس، ورفع صوته"

(1)

.

قال في "الفتح": وفي قوله: "آ" بمدّ الهمزة والسكوت دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يُراعي في قراءته المدّ والوقف. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: هو محمول على إشباع المدّ في موضعه، ويَحْتَمل أن يكون ذلك حكاية صوته عند هزّ الراحلة إذا كان راكبًا من انضغاط صوته، وتقطيعه لأجل هزّ المركوب. انتهى

(2)

.

قال الحافظ: وهذا فيه نظرٌ؛ لأن في رواية عليّ بن الجعد، عن شعبة، عند الإسماعيليّ:"وهو يقرأ قراءة ليّنةً، فقال: لولا أن يجتمع علينا لقرأت ذلك اللحن"، وكذا أخرجه أبو عُبيدة في "فضائل القرآن" عن أبي النضر، عن شعبة. انتهى

(3)

.

وقال في موضع آخر: ثم قالوا: يَحْتَمِل أمرين: أحدهما: أن ذلك حَدَثَ من هَزّ الناقة، والآخر أنه أشبع المدّ في موضعه، فحَدَثَ ذلك، وهذا الثاني أشبه بالسياق، فإن في بعض طرقه:"لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن"؛ أي: النغم، وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، فأخرج الترمذيّ في "الشمائل" والنسائيّ، وابن ماجه، وابن أبي داود، واللفظ له، من حديث أم هانئ رضي الله عنه:"كنت أسمع صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ، وأنا نائمة، على فراشي يُرَجِّع القرآن".

قال: والذي يظهر أن في الترجيع قدرًا زائدًا على الترتيل، فعند ابن أبي داود، من طريق أبي إسحاق، عن علقمة، قال: بِتُّ مع عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه في داره، فنام، ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيّه، لا يرفع صوته، ويُسْمِع مَن حوله، ويُرَتِّل، ولا يرجّع. انتهى.

(1)

راجع: "مسند أبي عوانة" 2/ 474.

(2)

"المفهم" 2/ 424.

(3)

"الفتح" 8/ 448 "كتاب التفسير" رقم (4835).

ص: 271

قال الجامع عفا اللَّه عنه: فتبيّن بما سبق أن الصواب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَجّع في قراءته قصدًا، لا من هزّ الراحلة، فيُستفاد منه استحباب الترجيع مع مراعاة قوانين القراءة، حتى لا يخرج منها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مغفّل رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 1853 و 1854 و 1855](794)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4281) وفي "التفسير"(4835) و"فضائل القرآن"(5034 و 5047) و"التوحيد"(7540)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1467)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(312)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2/ 3)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 85 - 86) و (5/ 54 و 56)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(748)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3884 و 3885 و 3886)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1805 و 1806)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 53)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1215)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب الترجيع في القراءة، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: معنى الترجيع تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أن ابن أبي جمرة رحمه الله أراد بترجيع الغناء الترجيع الذي يُخرج القراءة عن سنّتها، بإخراج الحروف من غير مخارجها، أو مدّ لا يُمدّ، أو نحو ذلك، وإلا فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رجّع في قراءته، فشرعه لأمته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن فيه بيان ملازمته صلى الله عليه وسلم للعبادة في كلّ أحواله؛ لأنه كان في تلك الحالة راكبًا للناقة، وهو يسير، فلم يترك العبادة بالتلاوة.

3 -

(ومنها): أن في جهره صلى الله عليه وسلم بذلك إرشادًا إلى أن الجهر بالعبادة قد

ص: 272

يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، وذلك عند التعليم، أو إيقاظ الغافل، أو نحو ذلك.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: فيه إجازة القراءة بالترجيع، والألحان الملذّذة للقلوب بحسن الصوت. انتهى (1)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1854]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ

(3)

، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ

(4)

، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ، قَالَ: فَقَرَأَ ابْنُ مُغَفَّلٍ، وَرَجَّعَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْلَا النَّاسُ لَأَخَذْتُ لَكُمْ بِذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مُغَفَّلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252) تقدم في "المقدمة"(ع) 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ) بن عثمان العبديّ، أبو بكر البصريّ، المعروف ببُنْدار، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد اللَّه البصريّ المعروف بغُنْدر، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2. والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (عَلَى نَاقَتِهِ) وفي نسخة: "على ناقة".

وقوله: (ورَجَّعَ) الترجيع: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة،

11) راجع: "الفتح" 13/ 525 "كتاب التوحيد" رقم (7543).

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

زاد في نسخة: "المزنيّ".

(4)

وفي نسخة: "على ناقة".

ص: 273

وأصله الترديد، وترجيع الصوت: ترديده في الحلق، وقد فسر الترجيع عبد اللَّه بن مغفل رضي الله عنه لما سئل عنه بقوله:"آآ آ" بهمزة مفتوحة، بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1855]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: عَلَى رَاحِلَةٍ يَسِيرُ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيب الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "المقدمة" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

4 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

و"شُعْبَةُ" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ) أي: بإسناد شعبة الماضي، وهو: عن معاوية بن قُرّة، عن عبد اللَّه بن مُغفّل رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، ومعاذ بن معاذ، عن شعبة لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 274

(37) - (بَابُ نُزُولِ السَّكِينَةِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1856]

(795) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ، وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ

(1)

، فَقَالَ:"تِلْكَ السَّكِينَةُ، تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ الإمام، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زُهير بن معاوية بن حُديج الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بأَخَرَة [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه الْهَمْدانيّ السبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثر عابدٌ، لكنه يدلّس، واختلط بآخره [3](ت 129) أو قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

4 -

(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (72)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (118) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.

(1)

وفي نسخة: "فذكر ذلك، فقال".

ص: 275

شرح الحديث:

(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنهما، وفي رواية الترمذيّ، من طريق شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت البراء، فزالت عنه تُهمة التدليس، أنه (قَالَ: كَانَ رَجُلٌ) قيل: هو أُسَيد بن حُضَير كما سيأتي من حديث نفسه بعد ثلاثة أحاديث، لكن فيه أنه كان يقرأ "سورة البقرة"، وفي هذا أنه كان يقرأ "سورة الكهف"، وهذا ظاهره التعدد.

وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شَمّاس، لكن في "سورة البقرة" أيضًا.

وأخرج أبو داود، من طريق مرسلة، قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ألم تر ثابتَ بن قيس، لم تزل داره البارحةَ تُزْهِر بمصابيح؟ قال: فلعله قرأ "سورة البقرة؟ "، فسئل، قال: قرأت "سورة البقرة".

ويَحْتَمِل أن يكون قرأ "سورة البقرة"، و"سورة الكهف" جميعًا، أو من كل منهما، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ) جمع شَطَني -بفتح المعجمة- وهو الحبل، وقيل: بشرط طوله، وكأنه كان شديد الصعوبة (فتَغَشَّتْهُ) أي: غطّته، غَشِيَهُ الأمر، وتغشّاه، وأغشيته إياه، وغَشّته، قاله في "القاموس"

(2)

، وقال في "المصباح": والْغِشَاء: الْغِطاءُ وزنًا ومعنًى، وهو اسم من غَشَّيْتُ بالتثقيل: إذا غطّيته، والْغِشَاءُ بالكسر: الْغِطاء أيضًا. انتهى

(3)

.

وقوله: (سَحَابَةٌ) مرفوع على الفاعليّة، وهو بالفتح: الغيم، والجمع سَحَابٌ، وسُحُبٌ بضمّتين، وسَحائب؛ سُمّي بذلك لانسحابه في الهواء

(4)

.

(فَجَعَلَتْ) أي: السحابة (تَدُورُ، وَتَدْنُو) أي: تقرب من ذلك الرجل (وَجَعَلَ فَرَسُهُ) الفرس يُذكّر وبؤنّث، ولذا ذكر الفعل هنا، وأنّثه فيما يأتي، قال

(1)

راجع: "الفتح" 8/ 674 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5011).

(2)

"القاموس المحيط" 4/ 370.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 448.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 266 - 267 بزيادة من "القاموس".

ص: 276

الفيّوميُّ رحمه الله: الفرس يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هو الفرس، وهي الفرس، وتصغير الذكر فُرَيسٌ، والأنثى فُرَيسةٌ على القياس، وجُمعت الفرس على غير لفظها، فقيل: خيلٌ، وعلى لفظها، فقيل: ثلاثة أفراس بالهاء للذكور، وثلاث أفراس بحذفها للإناث. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَنْفِرُ مِنْهَا) هنا بالفاء والنون، والراء، بلا خلاف، وفي الرواية الآتية:"يَنْقُز"، وسيأتي الكلام عليه (فَلَمَّا أَصْبَحَ) أي: دخل ذلك الرجل في الصباح، و"الصباح": خلاف المساء، قال الْجُوَالقيّ: الصباح عند العرب من نصف الليل الآخر إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول، هكذا روى ثَعْلبٌ

(2)

.

(أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ) وفي نسخة بحذف "له"؛ أي: ذكر الرجل ما حصل له في تلك الليلة حال قراءته سورة الكهف (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تِلْكَ السَّكِينَةُ) بمهملة وِزَانُ عظيمة، وحَكَى ابن قرقول والصغانيّ فيها كسر أولها والتشديد بلفظ المرادف لِلْمُدْية، وقد نسبه ابن قرقول للحربيّ، وأنه حكاه عن بعض أهل اللغة.

قال النوويُّ رحمه الله: قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء، المختار أنها شيء من مخلوقات اللَّه تعالى، فيه طمأنينة ورحمة، ومعه الملائكة. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: السكينة مأخوذة من السكون، وهو القار والطُّمأنينة، وهي هنا اسم للملائكة، كما فسّرها في الرواية الأخرى، وسمّاهم بذلك؛ لشدّة وقارهم، وسكونهم؛ تعظيمًا لقراءة هذه السورة.

واختلَفَ المفسّرون في قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [البقرة: 248] على أقوال كثيرة، فقيل: السكون: الرحمة، وقيل: حيوان كالهِرّ، له جناحان وذَنَبٌ، ولعينيه شُعاعٌ، فإذا نظر للجيش انهزم، وقيل: آيات يسكنون لها، وقال ابن وهب: رُوح من اللَّه يتكلّم معهم، ويُبيِّن لهم إذا اختلفوا، وهذا القول أشبهها؛ لأنه موافقٌ لما في هذا الحديث. انتهى

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 467.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 331.

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 82.

(4)

"المفهم" 2/ 437.

ص: 277

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "موافق لما في هذا الحديث"، محلّ نظر؛ إذ لا يظهر وجه موافقته، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قد تَكَرَّر لفظ "السكينة" في القرآن والحديث، فرَوَى الطبري وغيره عن عليّ رضي الله عنه قال: هي ريح هَفّافةٌ، لها وجه كوجه الإنسان، وقيل: لها رأسان، وعن مجاهد: لها رأس كرأس الْهِرّ، وعن الربيع بن أنس: لعينها شعاع، وعن السديّ: السكينة طَسْتٌ من ذهب من الجنة، يُغْسَل فيها قلوب الإنبياء، وعن أبي مالك قال: هي التي أَلْقَى فيها موسى الألواح والتوراة والعصا، وعن وهب بن مُنَبِّه: هي روح من اللَّه، وعن الضحاك بن مُزاحم قال: هي الرحمة، وعنه: هي سكون القلب، وهذا اختيار الطبريّ، وقيل: هي الطمأنينة، وقيل: الوقار، وقيل: الملائكة، ذكره الصغانيّ.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أنها مقولة بالاشتراك على هذه المعاني، فَيُحْمَل كل موضع وردت فيه على ما يليق به، والذي يليق بحديث الباب هو الأول، وليس قول وهب ببعيد.

وأما قوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40]، وقوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4]، فَيَحْتَمِل الأولَ، ويَحْتَمِل قولَ وهب والضحاك.

وأما التي في قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ، فيَحْتَمِل قولَ السديّ وأبي مالك. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الصواب تفسير السكينة بالملائكة، كما تقدّم عن القرطبيّ رحمه الله؛ لأن أولى ما يُفسّر به الغريب ما جاء في رواية أخرى، وهنا صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في الرواية الآتية:"تلك الملائكة. . . إلخ"، فلا أقرب، ولا أظهر، ولا أولى من حملها عليها، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(تَنَزَّلَتْ) وللبخاريّ في رواية الكشميهنيّ: "تَنَزَّلُ" بضم اللام، بغير تاء، والأصل تتنزل، وفي رواية الترمذيّ:"نزلت مع القرآن، أو على القرآن".

وقوله: (لِلْقُرْآنِ") أي: لاستماع تلاوة القرآن، كما قال في الرواية الآتية:"تلك الملائكة، كانت تستمع لك"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 278

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [37/ 1856 و 1857 و 1858](795)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3614) و"التفسير"(4839) و"فضائل القرآن"(5011)، و (الترمذيّ) في "فضائل القرآن"(2885)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2/ 3)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 281 و 284 و 293 و 298)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(769)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3938 و 3939)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1807 و 1808)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1206)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نزول السكينة لقراءة القرآن، وقد تقدّم الاختلاف في معناها، وأن الصحيح أنها الملائكة، كما بُيّن في الرواية الأخرى، ويحصُل عند نزولها طمأنينة القلب، والوقار والسكينة.

2 -

(ومنها): بيان فضيلة قراءة القرآن، وأنها سبب نزول الرحمة، وحضور الملائكة.

3 -

(ومنها): بيان فضيلة استماع قراءة القرآن.

4 -

(ومنها): بيان إكرام اللَّه تعالى عبده المؤمن المخلص في قراءته الخاشع المنيب، حيث يُنزل اللَّه تعالى ملائكته ليستمعوا قراءته، ويؤانسوه بما معهم من النور والطمأنينة، كرامة له، ليزداد يقينًا مع يقينه، واجتهادًا مع اجتهاده.

5 -

(ومنها): بيان جواز رؤية آحاد الأمّة ممن ليس بنبيّ الملائكة عيانًا، ويشاهدهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لو قرأت لأصبحت يراها الناس، من تستتر منهم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1857]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْن الْمُثَنَّى، وَابْن بَشَّارٍ، وَاللَّفْظ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا محَمَّد بْن جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ

ص: 279

الْبَرَاءَ، يَقُولُ: قَرَأَ رَجُلٌ الْكَهْفَ، وَفِي الدَّارِ دَابَّة، فَجَعَلَتْ تَنْفِرُ، فَنَظَرَ، فَإذَا ضَبَابَةٌ، أَوْ سَحَابَةٌ قَدْ غَشِيَتْهُ، قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "اقْرَأْ فُلَانُ

(1)

، فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ، تَنَزَّلَتْ عِنْدَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبله، فمن قبل أبي إسحاق فتقدّموا في الباب الماضي، والبراء رضي الله عنه تقدّم في السند الماضي.

وقوله: (ضَبَابَة) بالفتح: واحد الضَّبَاب، مثلُ سحابة وسَحَاب، وهو نَذى، كالغبار يُغشي الأرض بالغدوات، قاله في "المصباح"

(2)

.

وقال في "القاموس" ما معناه: "الضَّباب" بالفتح: ندًى كالغيم، أو سحاب رقيقٌ كالدخان. انتهى

(3)

.

وقال في "النهاية": "الضبابة": هي البخار المتصاعد من الأرض في يوم الدَّجْنِ، يصير كالظُّلّة، تحجب الأبصار؛ لظلمتها. انتهى

(4)

.

وقوله: (أَوْ سَحَابَةٌ)"أو" الظاهر أنها هنا للشكّ من الراوي.

وقوله: (اقْرَأْ فُلَانُ) أي: استمرّ على قراءتك، و"فلانُ" منادى بحذف حرف النداء، وقد ثبت في بعض النسخ، حيث قال:"اقرأ يا فلانُ".

قال النوويُّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ فلانُ) وفي الرواية الأخرى: "اقرأ" ثلاث مرات، معناه: كان ينبغي أن تستمرّ على قراءة القرآن، وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتستكثر من القراءة التي هى سبب بقائها. انتهى.

[فائدة]: قال الفيّوميُّ رحمه الله: فلانٌ وفُلانةٌ بغير ألف ولام كناية عن الأَنَاسيّ، وبهما كناية عن البهائم، فيقال: رَكِبتُ الفلانَ، وحَلَبتُ الفلانة. انتهى

(5)

.

(1)

وفي نسخة: "اقرأ يا فلان".

(2)

"المصباح المنير" 2/ 357.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 95.

(4)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 70.

(5)

"المصباح" 2/ 481.

ص: 280

وقوله: (فَإِنَّهَا السَّكِينَةُ) الفاء للتعليل؛ أي: إنما أمرتك بالاستمرار على القراءة؛ لأن الذين شاهدتهم هم الملائكة، لا تخاف منهم محذورًا، فينبغي أن تستمرّ على قراءتك، حتى لا ينقطع حضورهم عندك.

(تَنَزَّلَتْ عِنْدَ الْقُرْآنِ، أَوْ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ)"أو" للشكّ من الراوي، شكّ هل قال:"عند القرآن"، أو قال:"للقرآن"؟.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1858]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو دَاوُدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: فَذَكَرَا نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا: تَنْقُزُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجةٌ إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظ [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَا) ضمير التثنية لعبد الرحمن بن مهديّ وأبي داود الطيالسيّ.

وقوله: (نَحْوَهُ) أي: نحو حديث محمد بن جعفر، عن شعبة الماضي.

وقوله: (تَنْقُزُ) بالقاف المضمومة، وبالزاي، قال النوويُّ رحمه الله: هذا هو المشهور، ووقع في بعض نسخ بلادنا:"يَنْفِزُ" بالفاء والزاي، وحكاه القاضي عياض عن بعضهم، وغَلَّطه، ومعنى "يَنْقُزُ" بالقاف والزاي يَثِبُ. انتهى.

ص: 281

وقال القرطبي رحمه الله: والرواية المشهورة "تنفر" من النفور، وعند أبي بحر "تَنْقُزُ" بالقاف والزاي، ومعناه: تَثِبُ، يقال: نَقَزَ الصبيُّ، وقَفَزَ: إذا وَثَبَ. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وقد وقع في رواية لمسلم "يَنْقُزُ" بقاف وزاي، وخَطَّاه عياض، فإن كان من حيث الرواية فذاك، وإلا فمعناها هنا واضح. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "وخطّاه عياض" خطأٌ؛ لأن الذي خطّأه عياض إنما هو ما وقع لبعضهم بلفظ: "ينفز" بالفاء والزاي، لا بالقاف والزاي، كما تقدّم في عبارة النوويّ رحمه الله، فتبصّر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1859]

(796) - (وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيُّ الْحُلْوَانِيُّ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابِ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ، بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ، إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى، فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، قَالَ أُسَيْدٌ

(2)

: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ، حَتَّى مَا أَرَاهَا، قَالَ: فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ، مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي

(3)

، إِذْ جَالَتْ فَرَسِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ"، قَالَ: فَقَرَأْتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ"، قَالَ: فَقَرَأْتُ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ"، قَالَ:

(1)

"المفهم" 2/ 438.

(2)

وفي نسخة: "فقال أُسيدٌ".

(3)

وفي نسخة: "في مِرْبد لي".

ص: 282

فَانْصَرَفْتُ، وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ، فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ، حَتَّى مَا أَرَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ، كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ، مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيفُ [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

5 -

(يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد اللَّه بن أُسامة بن الهاد، تقدّم قبل باب.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ) الأنصاريّ النجّاريّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 96/ 519.

7 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

8 -

(أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ) -بتصغير الاسمين- ابن سماك بن عَتِيك الأنصاريّ الأشهليّ، أبو يحيى الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه سنة (21)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 700.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في كيفيّة التحمّل والأداء.

ص: 283

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له النسائيّ، والثانى تفرّد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول مكيّ، والثاني بغداديّ، ويعقوب وأبوه مدنيّان وبغداديّان.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ: أبي سعيد، عن البراء رضي الله عنهما، ورواية تابعيّ، عن تابعيّ: يزيد، عن عبد اللَّه بن خبّاب، ورواية الابن عن أبيه.

6 -

(ومنها): أن أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّاب) رحمه الله (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ) أي: عبدَ اللَّه بنَ خبّاب (أَنَّ أُسَيْدَ) مصغّرًا (ابْنَ حُضَيْرٍ) -بضمّ الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، آخره راء-.

[تنبيه]: ظاهر قوله: "أن أُسيد بن حضير. . . إلخ" يدلّ على أن الحديث من مسند أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، لكن الصواب أنه من مسند أُسيد بن حُضير رضي الله عنه، لا من مسند أبي سعيد رضي الله عنه، والدليل على ذلك قوله:"قال أسيدٌ: فخشيث أن تطأ يحيى. . . " إلى أن قال: "قال: فغدوت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فإنه ظاهر في كون أبي سعيد رضي الله عنه أخذه من أُسيد رضي الله عنه.

وقد أورد الإمام البخاريّ الحديث في "صحيحه"، فقال معلّقًا:"وقال الليث: حدّثني يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أسيد بن حُضير. . . " فساق الحديث.

ثم قال: "قال ابن الهاد: وحدّثني هذا الحديث عبد اللَّه بن خبّاب، عن أبي سعيد الخدريّ، عن أُسيد بن حُضير". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "وقال الليث. . . إلخ" وصله أبو عبيد، في "فضائل القرآن"، عن يحيى بن بكير، عن الليث بالإسنادين جميعًا.

ص: 284

وقوله: "حدثني يزيد بن الهاد"، هو ابن أسامة بن عبد اللَّه بن شداد بن الهاد.

وقوله: "عن محمد بن إبراهيم" هو التيميّ، وهو من صغار التابعين، ولم يُدرك أُسيد بن حُضير، فروايته عنه منقطعةٌ، لكن الاعتماد في وصل الحديث المذكور على الإسناد الثاني.

قال الإسماعيليّ: محمد بن إبراهيم، عن أُسيد بن حُضير مرسلٌ، وعبد اللَّه بن خَبّاب، عن أبي سعيد متصلٌ، ثم ساقه من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن يزيد بن الهاد، بالإسنادين جميعًا، وقال: هذه الطريق على شرط البخاريّ.

قال الحافظ: وجاء عن الليث فيه إسناد ثالث، أخرجه النسائيّ من طريق شعيب بن الليث، وداود بن منصور كلاهما عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن يزيد بن الهاد بالإسناد الثاني فقط.

وأخرجه مسلم، والنسائيّ أيضًا من طريق إبراهيم بن سعد، عن يزيد بن الهاد بالإسناد الثاني، لكن وقع في روايته: عن أبي سعيد، عن أُسَيد بن حُضَير، وفي لفظ عن أبي سعد، أن أسيد بن حضير قال، لكن في سياقه ما يدلّ على أن أبا سعيد إنما حمله عن أُسيد، فإنه قال في أثنائه: قال أسيد: فخَشِيت أن يطأ يحيى، فغدوت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالحديث من مسند أسيد بن حضير.

وليحيى بن بكير فيه عن الليث إسناد آخر، أخرجه أبو عبيد أيضًا من هذا الوجه، فقال: عن ابن شهاب، عن أُبي بن كعب بن مالك، عن أُسيد بن حُضير. انتهى

(1)

.

(بَيْنَمَا) تقدّم أن أصلها "بين" الظرفيّة زيدت عليها "ما"(هُوَ لَيْلَةً) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ (يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ) بكسر الميم، وفتح الموحّدة: هو الموضع الذي تُجَفَّف فيه التمر، كالْبَيْدر للحنطة ونحوها

(2)

.

(1)

"الفتح" 8/ 680.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 83.

ص: 285

ووقع في رواية أُبي بن كعب المذكورة: "أنه كان يقرأ على ظهر بيته"، وهذا مغاير للقصة التي فيها أنه كان في مِرْبَدِهِ.

وكذا ما جاء أن ابنه كان إلى جانبه، وفرسه مربوطة، فخَشِيَ أن تطأه، وهذا كله مخالفٌ لكونه كان حينئذ على ظهر البيت، إلا أن يراد بظهر البيت خارجه، لا أعلاه فتتحد القصتان، أفاده الحافظ رحمه الله.

وفي رواية محمد بن إبراهيم، عن أُسيد بن حُضير عند البخاريّ:"بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة"، وفي رواية ابن أبي ليلى، عن أُسيد بن حُضير:"بينا أنا أقرأ سورة، فلما انتهيت إلى آخرها"، أخرجه أبو عُبيد، ويستفاد منه أنه ختم السورة التي ابتدأ بها.

(إِذْ) هي الْفُجائيّة، قال ابن هشام رحمه الله في تعداد معاني "إذ": والرابع أن تكون للمفاجأة، نصّ على ذلك سيبويه، وهي الواقعة بعد "بينا"، أو "بينما"، كقوله [من البسيط]:

اسْتَقْدِرِ اللَّهَ خَيْرًا وَارْضَيَنَّ بِهِ

فَبَيْنَمَا الْعُسْرُ إِذْ دَارَتْ مَيَاسِيرُ

وهل هي ظرف مكان، أو زمان، أو حرف بمعنى المفاجأة، أو حرف توكيد؛ أي: زائد؟ أقوال، راجع تفاصيلها في "المغني"

(1)

.

(جَالَتْ فَرَسُهُ) أي: وَثَبَت، قال النوويّ رحمه الله: قال هنا: "جالت"، فأنّث الفرس، وفي الرواية السابقة:"وعنده فرسٌ مربوط"، فذكّره، وهما صحيحان، والفرس يقع على الذكر والأنثى. انتهى

(2)

.

زاد في رواية البخاريّ: "فَسَكَتَ، فَسَكَنَتْ".

(فَقَرَأَ) أي: مرّة أخرى، بعد قطعه القراءة (ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى) أي: مرّةً أخرى (فَقَرَأَ، ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا) أي: مرّة ثالثةً، وعند ابن حبّان من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُسيد رضي الله عنه:"بينما أنا أقرأ الليلةَ سورةَ البقرة إذ سمعت وَجْبَةً من خلفي، فظننت أن فرسي انطلق. . . ".

(قَالَ) وفي نسخة: "فقال"(أُسَيْدٌ) رضي الله عنه (فَخَشِيتُ) بكسر الشين المعجمة،

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 170 - 171.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 83.

ص: 286

ومضارعه يَخْشَى، أي: خِفْتُ (أَنْ تَطَأَ يَحْيَى) اسم ولده الذي كان نائمًا إلى جنبه (فَقُمْتُ إِلَيْهَا) أي: إلى الفرس؛ ليمنعها من وطئ ولده بيده، أو بإحكام رباطها (فَإِذَا) هي الْفُجائيّة، أي: ففاجأني وجود مثلِ الظلّة. . . إلخ (مِثْلُ الظُّلَّةِ) بضمّ الظاء، وتشديد اللام: هي السحابة فوق الرأس، مأخوذة من الظلّ، فقوله:(فَوْقَ رَأْسِي) ذُكر توكيدًا (فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ) بضمّتين: جمعُ سِرَاج، وهو: المصباح، شَبّه الأنوار التي راَها في السحابة بالمصابيح، بجامع الإضاءة، ووضوح الأشياء بها، واللَّه تعالى أعلم.

(عَرَجَتْ) بفتح الراء: من باب نصر: أي: صَعِدت (فِي الْجَوِّ) -بفتح الجيم، وتشديد الواو- هو: ما بين السماء والأرض، ويُطلق أيضًا على ما اتّسع من الأودية، والجمع: الْجِوَاءُ، بالكسر، مثلُ سَهْمٍ وسِهَامٍ

(1)

، والإطلاق الأول هو المراد هنا.

وقوله: (حَتَّى مَا أَرَاهَا)"حتّى" غاية لعروجها في الجوّ، و"ما" نافية (قَالَ) أُسيد رضي الله عنه (فَغَدَوْتُ) أي: ذهبت أول النهار، قال الفيّوميّ رحمه الله: غَدّا غُدُوًّا، من باب قَعَدَ: ذَهَبَ غُدْوَةً، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وجمع الْغُدُوّ غُدًى، مثلُ مُدْيَةٍ ومُدًى، هذا أصله، ثم كَثُرَ حتى استُعْمِلَ في الذهاب والانطلاق أيَّ وقت كان، وكمثل قوله صلى الله عليه وسلم:"واغْدُ يا أُنيسُ إلى امرأة هذا. . . " الحديث، متّفقٌ عليه؛ أي: وانطلق إليها. انتهى

(2)

.

(عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ) تقدّم قريبًا أنها الليلة الماضية، وأن العرب تقول: فعلنا الليلة كذا؛ لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحة كذا (مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض (أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي) وفي نسخة:"في مِرْبَدٍ لي"، وتقدّم أنه مكان تجفيف التمر (إِذْ جَالَتْ فَرَسِي) أي: وثبت، وأنّث الفعل، لما تقدّم.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ") منادى بحذف حرف النداء؛ أي: يا ابن حُضير، وفي رواية البخاريّ بإثباتها.

والمعنى؛ أنه كان ينبغي أن تستمرّ على قراءتك، وليس أمرًا له بالقراءة

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 115.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 443.

ص: 287

في حالة التحديث، وكأنه استحضر صورةَ الحال، فصار كأنه حاضر عنده لَمّا رأى ما رأى، فكأنه يقول: استَمِرّ على قراءتك؛ لتستمر لك البركة بنزول الملائكة، واستماعها لقراءتك، وفَهِمَ أسيد رضي الله عنه ذلك، فأجاب بعذره في قطع القراءة، وهو قوله:"فخَشِيتُ أن تطأ يحيى"؛ أي: خِفْتُ إن استمررت على القراءة أن تطأ الفرس ولدي، ودلّ سياق الحديث على محافظة أسيد رضي الله عنه على خشوعه في صلاته؛ لأنه كان يمكنه أوّلَ ما جالت الفرس أن يرفع رأسه، وكأنه كان بلغه حديث النهي عن رفع المصلي رأسه إلى السماء، فلم يرفعه حتى اشتد به الْخَطْبُ.

ويَحْتَمِلُ أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته، فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم لابن حُضير: "اقرأ" عند إخباره له بما رأى، هو أمر له بالمداومة على القراءة فيما يستأنفه فرحًا بما أطلعه اللَّه تعالى عليه، وكرّر ذلك تأكيدًا. انتهى

(1)

.

وفي رواية ابن حبّان من طريق ابن أبي ليلى، عن أُسيد المذكورة:"فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا أبا عَتِيك"، فالتفتّ، فإذا مثل المصباح مُدَلًّى بين السماء والأرض، وأبو عتيك كُنية أُسيد رضي الله عنه.

(قَالَ) أُسيد رضي الله عنه (فَقَرَأْتُ) أي: مرّةً ثانيةً (ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرِ"، قَالَ) أُسيد رضي الله عنه (فَقَرَأتُ) أي: مرّةً ثالثةً (ثُمَّ جَالَتْ أَيْضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ"، قَالَ) أسيدٌ صلى الله عليه وسلم (فَانْصَرَفْتُ) أي: رجعت من صلاتي، والظاهر أنه بعد الخروج منها بالسلام (وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا) أي: من الفرس (خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ، فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ، فِيهَا أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الْجَوِّ، حَتَّى مَا أَرَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ) أي: الظلّة التي رأيتها هي الملائكة التي (كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ) أي: لسماع قراءتك، وفي رواية البخاريّ:"تلك الملائكة دَنَتْ لصوتك"، وفي رواية أُبيّ بن كعب:"وكان أُسيد حسن الصوت"، وفي رواية يحيى بن أيوب، عن

(1)

"المفهم" 2/ 438.

ص: 288

يزيد بن الهاد، عند الإسماعيليّ أيضًا:"اقرأ أُسَيْدُ، فقد أوتيت من مزامير آل داود"، وفي هذه الزيادة إشارة إلى الباعث على استماع الملائكة لقراءته، وأنها إنما دنت منه؛ لحسن صوته، وجودة قراءته، واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَوْ قَرَأْتَ) وفي رواية ابن أبي ليلى: "أما إنك لو مَضَيتَ"(لَأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ، مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ") قال القرطبي رحمه الله: يعني: لو دُمت على حالتك في قراءتك لأصبحت على تلك الحال ظاهرةً للناس، لكنه قطع القراءة، فارتفعت الملائكة، وغابت لتخصيص الكرامة به، وليعمَلَ الناس على التصديق بالغيب. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم"، وفي رواية ابن أبي ليلى:"لرأيت العجائب"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُسيد بن حُضير رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، لكن البخاريّ أورده معلّقًا، فقال: وقال الليث: حدّثني يزيد بن الهاد. . . إلخ.

[تنبيه]: قد قدّمنا أن هذا الحديث من مسند أُسيد بن حُضير، لكن الحافظ أبو الحجّاج المزيُّ جعله من مسند أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، والحقّ أنه من مسند أُسيد، رواه عنه أبو سعيد رضي الله عنه؛ لدلالة سياق الحديث عليه، كما أسلفنا تحقيقه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 1859](796)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5018)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(140) و"فضائل القرآن"(41 و 99)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 81)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(779)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(566)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 554)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3904 و 3905 و 3906)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1809 و 1810)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 2/ 439.

ص: 289

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما قاله النوويُّ رحمه الله: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، قال الحافظ: كذا أطلق، وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلًا، والحسن الصوت. انتهى.

2 -

(ومنها): أن فيه فضيلةَ القراءة، وأنها سبب نزول الرحمة، وحضور الملائكة.

قال الحافظ رحمه الله: الحكم المذكور أعمّ من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة، من سورة خاصة بصفة خاصة، ويَحْتَمِل من الخصوصية ما لم يُذْكَر، وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ.

3 -

(ومنها): أنه قد أشار في آخر الحديث بقوله: "ما تستتر منهم" إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع، كانوا يستمرّون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم.

4 -

(ومنها): بيان منقبةً عظيمة لأُسيد بن حُضير رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): بيان فضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا، ولو كان من المباح قد يُفَوِّت الخير الكثير، فكيف لو كان بغير الأمر المباح، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(38) - (بابُ بَيَانِ فَضِيلَةِ حَافِظِ الْقُرْآنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1860]

(797) - (حَدَّثَنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنسٍ، عَنْ

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 290

أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ التَّمْرَةِ، لَا رِيحَ لَهَا، وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

- (قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ) رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، وأبو كامل علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون.

3 -

(ومضها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير قُتيبة، فبغلانيّ، وأبي عوانة، فواسطيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ) بن مالك خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، ووقع في رواية البخاريّ من طريق همّام، قال: حدّثنا قتادة، قال: حدّثنا أنس بن

ص: 291

مالك، فصرّح قتادة بالتحديث، فسلم من تُهمة التدليس، على أنه في الرواية من طريق شعبة، عن قتادة، وشعبة لا يروي عن شيوخه المدلّسين إلا ما صرّحوا بالسماع، وقد قلت في ذلك:

شُعْبَةُ لَا يَرْوي عَنِ الْمُدَلِّسِ

إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ

لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعْمَشِ أَوْ

قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِي مَا رَوَوَا

مُعَنْعَنًا لَا تَخْشَ تَدْلِيسًا فَقَدْ

كَفَاكَهُ هَذَا الإِمَامُ الْمُعْتَمَدْ

(عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ) عبد اللَّه بن قيس بن حضّار بن سُليم الصحابيّ المشهور رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ) أي: صفةُ (الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أي: ويعمل به، كما وقع في رواية للبخاريّ من طريق شعبة، عن قتادة، بلفظ:"المؤمن الذي يقرآ القرآن، ويَعْمَل به"، وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن، ولا يخالف ما اشتمل عليه، من أمر، ونهي، لا مطلق التلاوة. وعبّر بصيغة المضارع لإفادة تكريره لها، ومداومته عليها، حتى صارت دأبه وعادته، كفلان يَقري الضيف، ويحمي الحريم، ويُعطي اليتيم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: إثبات القراءة في قوله صلى الله عليه وسلم: "يقرأ القرآن" على صيغة المضارع، ونفيها في قوله:"لا يقرأ القرآن" ليس المراد منها حصولها مرّة، ونفيها بالكلّية، بل المراد منها الاستمرار، والدوام عليها، فإن القراءة دأبه وعادته، أو ليس ذلك من هِجّيراه، كقولك؛ فلان يَقْرِي الضيفَ، وَيحمِي الحريم. انتهى

(1)

.

(مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ) بضم الهمزة والراء، بينهما مثناة ساكنة، وآخره جيم ثقيلة، وقد تخفف، ويزاد قبلها نون ساكنة، ويقال: بحذف الألف مع الوجهين، فتلك أربع لغات، وتبلغ مع التخفيف إلى ثمانية، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال في "القاموس": الأُتْرُجُّ، والأُتْرُجَّةُ، والتُّرُنْجُ، والتُّرُنْجَةُ: معروف. انتهى.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1637.

(2)

"الفتح" 8/ 683 - 684.

ص: 292

(رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ) قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن؛ إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح، فقد يذهب ريح الجوهر، ويبقى طعمه.

ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجّة بالتمثيل، دون غيرها من الفاكهة، التي تجمع طيب الطعم والريح، كالتفاحة لأنه يُتَدَاوى بقشرها، وهو مفرِّحٌ بالخاصية، ويُستخرج من حَبّها دُهن له منافع.

وقيل: إن الجنّ لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يُمَثَّل به القرآن، الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف حَبّه أبيض، فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضا من المزايا، كبر جرمها، وحسن منظرها، وتفريح لونها، ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة، ودباغ مَعِدة، وجَودة هضم، ولها منافع أخرى، مذكورة في "المفردات".

وقال المظهر رحمه الله: المؤمن الذي يقرأ القرآن هكذا من حيث الإيمان في قلبه ثابتٌ، طيّب الباطن، ومن حيث إنه يقرأ القرآن، ويستريح الناس بصوته، ويُثابون بالاستماع إليه، ويتعلّمون منه مثلُ الأترجّة، يستريح الناس برائحتها.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: الْمَثَلُ عبارة عن المشابهة بغيره في معنى من المعاني؛ لإدناء المتوهّم عن المشاهَد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُخاطب بذلك العرب، ويُحاورهم، ولم يكن ليأتي في الأمثال بما لم تشاهده، فيجعلَ ما أورده للتبيان مزيدًا للإبهام، بل يأتيهم بما شاهدوه، وعرفوه؛ ليبلغ ما انتحاه من كشف الغطاء، ورفع الحجاب، ولم يوجد فيما أخرجته الأرض من بركات السماء، لا سيما من الثمار الشجريّة التي آنستها العرب في بلادهم أبلغ في هذا المعنى من الأترجّة، بل هي أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان الأخرى، وأجدى؛ لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها، والخواصّ الموجودة فيها، فمن ذلك كبر جِرْمها، وحسن منظرها، وطيب مطعمها، ولين ملمسها، وذكاء أَرَجها، تملأ الأكفّ بكبر جِرْمها، وتكسيها لينًا، وتُفعم الخياشيم طيبًا، وتأخذ بالأبصار صبغةً ولوثًا، فاقعٌ لونها تسرّ الناظرين، تتوق إليها النفس قبل التناول، تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذواقها طيب نكهة، ودباغ معدة، وقوّة هضم،

ص: 293

اشتركت الحواسّ الأربع دون الاحتظاء بها: البصر، والذوق، والشمّ، واللمس، ثم إنها في أجزائها تنقسم على طبائعَ، فقشرها حارّ يابسٌ، ولحمها حارّ رَطْبٌ، وحماضها باردٌ يابسٌ، وبذرها حارّ مجفّفٌ، وفيها من المنافع ما هو مذكور في الكتب الطبيّة، وأيّةُ ثمرة تبلُغ هذا المبلغ في كمال الخِلْقة، وشمول المنفعة؟.

ثم إنه صلى الله عليه وسلم ضرب المثل بما تُنبته الأرض، ويُخرجه الشجر؛ للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، فخصّ ما يُخرجه الشجر من الأُتْرُجّة والتمر بالمؤمن، وما تُنبته الأرض من الحنظلة والريحانة بالمنافق؛ تنبيهًا على علوّ شأن المؤمن، وارتفاع عمله، ودوام ذلك، وتوقيفًا على ضَعَةِ شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلّة جدواه.

قال الطيبيّ رحمه الله: اعلم أن هذا التشبيه والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوفٍ اشتَمَلَ على معنى معقولٍ صِرْفٍ، لا يُبْرِزُهُ عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام اللَّه تعالى المجيد له تأثيره في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير، وهو المؤمن القارئ، ومنهم من لا نصيب له البتّةَ، وهو المنافق الحقيقيّ، ومن تأثر ظاهره دون باطنه، وهو المرائي، أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لم يقرأه، وإبراز هذه المعاني، وتصويرها في المحسوسات ما هو مذكور في الحديث، ولم يجد ما يوافقها ويلائمها أقرب، ولا أحسن، ولا أجمع من ذلك؛ لأن المشبّهات والمنبّه بها ورادة على التقسيم الحاصر؛ لأن الناس إما مؤمنٌ، أو غير مؤمن، والثاني إما منافقٌ صِرْفٌ، أو مُلحقٌ به، والأول إما مواظبٌ على القراءة، أو غير مواظبٍ عليها، فعلى هذا قس الأثمار المشبّه بها، ووجه الشبه في المذكورات مركّبٌ منتزعٌ من أمرين محسوسين: طعمٌ وريحٌ، وليس بمفرّق، كما في قول امرئ القيس [من الطويل]:

كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا

لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي

انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 15/ 1636 - 1637.

ص: 294

وقال في "الفتح": [فإن قيل]: لو كان لكثرة التقسيم، كأن يقال: الذي يقرأ، ويعمل، وعكسه، والذي يعمل، ولا يقرأ، وعكسه، والأقاسم الأربعة، ممكنة في غير المنافق، وأما المنافق، فليس له إلا قسمان فقط؛ لأنه لا اعتبار بعمله، إذا كان نفاقه نفاق كفر.

[وكأن الجواب عن ذلك]: أن الذي حُذف من التمثيل قسمان: الذي يقرأ ولا يعمل، والذي لا يعمل ولا يقرأ، وهما شبيهان بحال المنافق، فيمكن تشبيه الأول بالريحانة، والثاني بالحنظلة، فاكتفى بذكر المنافق، والقسمان الآخران قد ذُكِرا

(1)

.

(وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أي: ويعمل به، كما في الرواية الأخرى (مَثَلُ التَّمْرَةِ) بالتاء المثنّاة، وسكون الميم (لَا رِيحَ لَهَا) وفي رواية للبخاريّ:"لا ريح فيها"(وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ) -بفتح الراء- هي: كلّ نبت طَيِّبِ الريح من أنوع المشموم (رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ) وفي همّام، عن قتادة:"ومثل الفاجر" بدل المنافق، كما سيشير إليه المصنّف رحمه الله (الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ) هي: كلّ نبات يمتدّ على الأرض كالبطيخ، وثمره يُشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جدًّا، ويُضرب المئل بمرارته

(2)

. (لَيْسَ لَهَا رِيحٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ") وفي رواية للبخاريّ، من طريق شعبة، عن قتادة:"وريحها مر".

[واستُشْكِلت]: هذه الرواية من جهة أن المرارة، من أوصاف الطعوم، فكيف يوصف بها الريح؟.

[وأجيب]: بأن ريحها لما كان كريهًا، استُعير له وصف المرارة.

وأطلق الزركشيّ هنا أن هذه الرواية وَهَمٌ، وأن الصواب ما في رواية هذا الباب:"ولا ريح لها"، ثم قال في "كتاب الأطعمة" لَمّا جاء فيه:"ولا ريح لها"، هذا أصوب من رواية الترمذي:"طعمها مر، وريحها مر"، ثم ذكر توجيهها، وكأنه ما استحضر أنها في هذا الكتاب، وتكلّم عليها، فلذلك نسبها

(1)

"الفتح" 8/ 684 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5020).

(2)

"المرعاة" 7/ 178.

ص: 295

للترمذي، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 1860 و 1861](797)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5020 و 5059) و"الأطعمة"(5427) و"التوحيد"(7560)، و (أبو داود) في "الأدب"(4829 و 4830)، و (الترمذيّ) في "الأمثال"(2865)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(5540) و"فضائل القرآن" من "الكبرى"(106 و 107)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(214)، وأخرجه (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(20933)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 259 و 530)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 397 و 403 و 404 و 408)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(565)، و (الدارميّ) في "سننه"(3366)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(770)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1175)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضيلة حاملي القرآن، وقارئيه.

2 -

(ومنها): ضرب المثل للتقريب للفهم، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دلّ عليه، لا مطلق التلاوة؛ لقوله في الزيادة السابقة:"ويعمل به".

3 -

(ومنها): تشبيه القرآن بالأترجّة؛ لأنها من أفضل الثمار؛ لكبر جِرمها، وحسن منظرها، وطيب طعمها، ولين ملمسها، ولونها يسرّ الناظرين.

4 -

(ومنها): أن فيه تشبيه الإيمان بالطعم الطيبّ؛ لكونه خيرًا باطنيًّا، لا يظهر لكلّ أحد، وتشبيه القرآن بالريح الطيّب، ينتفع بسماعه كلُّ أحد، ويظهر سمحًا لكلّ سامع.

(1)

"الفتح" 8/ 684، "كتاب فضائل القرآن" رقم (5020).

ص: 296

5 -

(ومنها): ما قال التوربشتيّ رحمه الله تعالى: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشار في ضرب هذا المثل إلى معان لا يَهتدِي إليها إلا من أُيِّدَ بالتوفيق:

فمنها أنه ضرب المثل بما تنبته الأرض، ويُخرجه الشجر للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، والمثل وإن ضُرب للمؤمن نفسِهِ، فإن العبرة فيه بالعمل الذي يصدر منه؛ لأن الأعمال هي الكاشفة عن حقيقة الحال.

ومنها: أنه ضرب مثل المؤمن بالأترجّة والتمرة، وهما مما يُخرجه الشجر، وضرب مثل المنافق بما تنبته الأرض؛ تنبيهًا على علو شأن المؤمن، وارتفاع عمله، ودوام ذلك وبقائه ما لم تيبس الشجرة، وتوقيفًا على ضَعَة شأن المنافق، وإحباط عمله، وقلّة جدواه، وسقوط منزلته.

ومنها: أن الأشجار المثمرة لا تخلو عمن يغرسها، فيسقيها، ويُصلح أودها، ويربيها، وكذلك المؤمن يقيّض له من يؤدّبه، ويُعلّمه، ويُهذّبه، ويلُمّ شَعْثه، ويسوّيه، ولا كذلك الحنظلة المهملة المتروكة بالعراء، والمنافق الذي وُكِلَ إلى شيطانه وطبعه وهواه

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1861]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ هَمَّامٍ بَدَلَ "الْمُنَافِقِ":"الْفَاجِرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ويقال له: هُدْبة، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائيّ بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 178 - 179.

ص: 297

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن ديار الْعَوْذيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي.

و"قتادة" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي: بإسناد قتادة الماضي، وهو: عن أنس، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية همّام، عن قتادة هذه ساقها الإمام البخاريُّ رحمه الله، في "صحيحه"، فقال:

(5020)

حدّثنا هُدْبة بن خالد أبو خالد، حدّثنا همام، حدّثنا قتادة، حدّثنا أنس بن مالك، عن أبي موسى الأشعريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مثل الذي يقرأ القرآن كالأُتْرُجّة، طعمها طيب، وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مُرّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مرّ، ولا ريح لها".

ورواية شعبة، عن قتادة هذه ساقها الإمام البخاريُّ رحمه الله أيضًا، فقال:

(5059)

حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن الذي يقرأ القرآن، ويعمل به كالأترجة، طعمها طيب، وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ويعمل به كالتمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة، ريحها طيب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة، طعمها مرّ أو خبيث، وريحها مرّ"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 298

(39) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ الْمَاهِرِ بِالْقُرْآنِ، وَالَّذِي يَتَتَعْتَعُ فِيهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1862]

(798) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ، مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامَ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، رأس [4](ت 117 أو 118)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى) العامريّ الْحَرَشيّ، أبو حاجب البصريّ، قاضيها، ثقةٌ عابدٌ [3] مات فجأة في الصلاة سنة (93)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

6 -

(سَعْدُ بْنُ هِشَامِ) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ [3] استُشهد بالهند (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 15/ 1688.

7 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57) أو بعد ذلك (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

ص: 299

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما، ثم قال:"قال ابن عُبيد: حدّثنا أبو عوانة. . . إلخ"؛ إشارة إلى اختلافهما في صيغة الأداء، وأن قُتيبة لم يصرّح بالتحديث.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن عُبيد، فتفرّد به هو وأبو داود والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنهم ما بين بغلانيّ، وهو قتيبة، وواسطيّ، وهو أبو عوانة، ومدنيّين، وهما: عائشة وسعد، وبصريين، وهم الباقون.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم، عن بعض: قتادة، عن زُرارة، عن سعد.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها أفقه نساء الأمة، وأكثرهنّ روايةً، روت (2210) من الأحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ) أي: الحاذق بها، يقال: مَهَرَ في العلم وغيره يَمْهَرُ بفتحتين مُهُورًا ومَهَارَةً، فهو ماهرٌ؛ أي: حاذقٌ عالمٌ بذلك، ومَهَرَ في صناعته، ومَهَر بها، ومَهَرَهَا: أتقنها معرفةً، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

قال القرطبيُّ رحمه الله نقلًا عَن الهرويُّ رحمه الله: أصل المهارة: الحِذْقُ بالسباحة، قال: ومنه قول امرئ القيس [من الرمل]:

وَتَرَى الضَّبَّ خَفِيفًا مَاهِرًا

ثَانِيًا بُرْثُنَهُ مَا يَنْعَفِرْ

قال المهلّب رحمه الله: المهارة في القرآن: جَوْدة التلاوة بجودة الحفظ، ولا يتردّد فيه؛ لأنه يسّره اللَّه تعالى عليه، كما يسّره على الملائكة، فهو على مثلها في الحفظ والدرجة. انتهى

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 582 - 583.

(2)

"المفهم" 2/ 424 - 425.

ص: 300

وقال النوويّ رحمه الله: الحاذق: الكاملُ الحفظِ الذي لا يَتَوَقَّف، ولا تَشُقّ عليه القراءة بجودة حفظه، وإتقانه. انتهى.

(مَعَ السَّفَرَةِ) بفتحات: جمع سافر ككاتب وكتبة، قال في "الخلاصة":

. . . . . . . . . . . . .

وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكَمَلَهْ

والسافر: الرسول، والسَّفَرَةُ: الرُّسُلُ؛ لأنهم يَسْفِرُون إلى الناس برسالات اللَّه، وقيل: السَّفَرةُ: الكتبة، قاله النوويُّ رحمه الله.

وفعله من باب ضَرَبَ، يقال: سَفَرْتُ بين القوم سِفَارَةً بالكسر: إذا أصلحت بينهم.

وقال البخاريُّ رحمه الله في "صحيحه" في تفسير قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15] الآية، ما حاصله: السَفَرةُ هم: الملائكة، واحدهم سافر، سَفَرْتُ: أصلحت بينهم، وجُعِلت الملائكة إذا نزلت بوحي اللَّه وتأديته، كالسفير الذي يُصْلِح بين القوم. انتهى.

قال في "الفتح": هو قول الفراء بلفظه، وزاد: قال الشاعر [من الوافر]:

وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي

وَمَا أَمْشِي بِغَشٍّ إِنْ مَشَيْتُ

وقد تمسك به من قال: إن جميع الملائكة رسل اللَّه، وللعلماء في ذلك قولان، الصحيح أن فيهم الرسل وغير الرسل، وقد ثبت أن منهم الساجد فلا يقوم، والراكع فلا يعتدل. . . الحديث.

واحتج الأول بقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} الآية [فاطر: 1].

وأجيب بقول اللَّه تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. انتهى

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: "السَّفَرَةُ": جمع سافر، وهم ملائكة الوحي، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يسفرون بين اللَّه وبين خلقه، وقيل: هم الملائكة، والكاتب يُسمَّى سافرًا، ومنه أسفار الكاتب، وعلى هذا فيكون وجهُ كونهم مع الملائكة أن حَمَلَة القرآن يُبلّغون كلام اللَّه تعالى إلى خلقه، فهم سُفَراءُ بين رُسُل اللَّه وبين خلقه، فهم معهم؛ أي: في مرتبتهم في هذه العبادة، ويستفيد من هذا حملة

(1)

"الفتح" 8/ 561.

ص: 301

القرآن: التجوّز في التبليغ والتعليم والاجتهاد في تحصيل الصدق، وإخلاص النيّة للَّه تعالى حتى تصحّ لهم المناسبة بينهم وبين الملائكة. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِلُ أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازلَ، يكون فيها رفيقًا للملائكة السَّفَرَة؛ لاتصافه بصفتهم، من حمل كتاب اللَّه تعالى، قال: ويَحْتَمِلُ أن يراد أنه عامِلٌ بعملهم، وسالِكٌ مسلكهم. انتهى.

(الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ) بفتحات: جمع بارّ، وهم: المطيعون من الْبِرِّ، وهو الطاعة.

(وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ) أي: يتردّد في تلاوته؛ لضعف حفظه، والتعتعة في الكلام: هو الْعِيّ، وقوله:(وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من الفاعل؛ أي: والحال أن القرآن شاقّ وصَعْبٌ على القارئ (لَهُ أَجْرَانِ") أجر بالقراءة، وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته، وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان له أجران، من حيث التلاوة، ومن حيث المشقّة، ودرجات الماهر فوق ذلك كلّه؛ لأنه قد كان القرآن متعتعًا عليه، ثم تَرَقَّى عن ذلك إلى أن تشبّه بالملائكة، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: قال القاضي عياض وغيره من العلماء: ليس معناه أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجرًا؛ لأنه مع السَّفَرَة، وله أجور كثيرة، ولم تُذكَر هذه المنزلة لغيره، وكيف يُلْحَق به من لم يَعْتَنِ بكتاب اللَّه تعالى، وحفظه، وإتقانه، وكثرة تلاوته، وروايته كاعتنائه حتى مَهَرَ فيه؛ واللَّه أعلم. انتهى.

[تنبيه]: وقع هذا الحديث عند البخاريّ بلفظ: "مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السَّفَرَة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "مَثَلُ" -بفتحتين- أي: صفته، وهو كقوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ} [الرعد: 35].

(1)

"المفهم" 2/ 425.

(2)

"المفهم" 2/ 425.

ص: 302

وقوله: وهو حافظ له مع السَّفَرة الكرام البررة، قال ابن التين: معناه: كأنه مع السَّفَرَة فيما يستحقه من الثواب.

قال الحافظ: أراد بذلك تصحيح التركيب، وإلا فظاهره أنه لا ربط بين المبتدأ الذي هو "مَثَلُ" والخبر الذي هو "مع السفرة"، فكأنه قال: المثل بمعنى الشبيه، فيصير كأنه قال: شبيه الذي يحفظ كائن مع السفرة، فكيف به؟.

وقال الخطابيّ: كأنه قال: صفته، وهو حافظ له، كأنه مع السفرة، وصفته وهو عليه شديد أن يستحق أجرين.

وقوله: "ومثل الذي يقرأ القرآن، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران"، قال ابن التين: اختُلِف هل له ضعف أجر الذي يقرأ القرآن حافظًا، أو يضاعف له أجره، وأجر الأول أعظم؟ قال: وهذا أظهر، ولمن رجّح الأول أن يقول: الأجر على قدر المشقة. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 1862 و 1863](798)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4937)، و (أبو داود) في (1454)، و (الترمذيّ) في (2904)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(70 و 71 و 72)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3779)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 490)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 48 و 94 و 98 و 110 و 170 و 192 و 239)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 444)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3800 و 3801 و 3802 و 3803 و 3805 و 3806 و 3807 و 3808 و 3809)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (1814

(1)

"الفتح" 8/ 562.

ص: 303

و 1815 و 1816)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 395)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1173 و 1174)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على حفظ القرآن، وإتقانه، وبيان علوّ منزلة من فعل ذلك.

2 -

(ومنها): بيان فضل الماهر بالقرآن.

3 -

(ومنها): بيان مضاعفة أجر من يتتعتع بالقرآن بسبب كثرة نصبه، وشدّة معاناته؛ إذ الثواب على قدر النصب، فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في عمرتها:"إن لك من الأجر على قدر نصبك، ونفقتك"، رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وهو كما قال، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1863]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: "وَالَّذِي يَقْرَأُ

(1)

، وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرَانِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل حديث.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عَرُوبة مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ،

(1)

وفي نسخة: "والذي يقرأه".

ص: 304

ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

5 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قبل باب.

6 -

(هِشَام الدَّسْتَوَائِيُّ) ابن أبي عبد اللَّه سَنْبَر، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (78) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

و"قتادة" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ) الضمير لسعيد بن أبي عَرُوبة، وهشام الدستوائيّ.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي: بإسناد قتادة السابق، وهو: عن زُرَارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه ساقها الإمام ابن ماجه رحمه الله، فقال:

(3779)

حدّثنا هشام بن عمار، حدّثنا عيسى بن يونس، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زُرَارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السَّفَرَة الكرام البررة، والذي يقرؤه يتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ، له أجران اثنان". انتهى.

وأما رواية هشام، عن قتادة هذه، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(25063)

حدّثنا وكيع، حدّثنا هشام، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه، وهو يَشْتَدُّ عليه، له أجران". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 305

(40) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْحَذْقِ

(1)

فَيهِ، وَإنْ كَانَ الْقَارِئُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1864]

(799) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأُبَيٍّ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ"، قَالَ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: "اللَّهُ سَمَّاكَ لِي"، قَالَ: فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلّهم تقدّموا قبل باب، و"همّام" هو: ابن يحيى، ومن لطائفه أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (119) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأُبَيِّ) بن كعب بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الخزرجيّ النجاريّ، يكنى أبا المنذر، وأبا الطُّفَيل، كان من السابقين من الأنصار، شَهِدَ العقبة، وبدرًا، وما بعدهما، ومات سنة ثلاثين، وقيل غير ذلك، وتقدّمت ترجمته في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.

("إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ) زاد في الرواية التالية: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [البينة: 1]، وزاد الحاكم من وجه آخر عن زِرّ بن حُبَيش، عن أُبَيّ بن كعب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ عليه:{لَمْ يَكُنِ} ، وقرأ فيها:"إن ذات الدين عند اللَّه الحنيفية، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية، من يَفْعَل خيرًا، فلم يكفره"، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

قال في "القاموس": حَذَقَ الصّبيُّ القرآنَ، أو العملَ، كضرب، وعَلِمَ حِذْقًا، وحِذَاقًا، وحِذَاقَةً، ويُكسر الكلّ، أو الْحِذَاقَةُ بالكسر الاسم: تَعَلَّمه كلّه، ومَهَرَ فيه. انتهى.

(2)

"الفتح" 7/ 157 - 158 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3809).

ص: 306

وفي رواية للبخاريّ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لأُبي بن كعب:"إن اللَّه أمرني أن أقرئك القرآن"، قال: آللَّه سماني لك؟ قال: "نعم"، قال: وقد ذُكِرتُ عند رب العالمين؟ قال: "نعم"، فذَرَفَت

(1)

عيناه.

قال في "الفتح": قوله: "أن أُقرئك" أي: أُعلّمك بقراءتي عليك كيف تقرأ، حتى لا تتخالف الروايتان، وقيل: الحكمة فيه؛ لتحقّق قوله تعالى فيها: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)} [البينة: 2]. انتهى

(2)

.

(قَالَ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟) بهمزة الاستفهام؛ أي: هل نَصّ عليّ باسمي، أو قال لك: اقرأ على واحد من أصحابك، فاخترتني أنت؟ فلما قال له:"نعم" بَكَى، إما فرَحًا وسُرُورًا بذلك، وإما خشوعًا وخوفًا من التقصير في شكر تلك النعمة، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال القرطبيُّ رحمه الله: قوله: "آللَّه سمّاني لك؟ " بهمزة الاستفهام على التعجّب منه؛ إذ كان ذلك عنده مستبعدًا؛ لأن تسمية اللَّه تعالى له، وتعيينه ليقرأ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم تشريف عظيمٌ، وتأهيلٌ لم يَحصُل مثله لأحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك لَمّا أخبره بذلك بَكَى من شدّة الفرح والسرور؛ لحصول تلك المنزلة الشريفة، والرتبة المنيفة. انتهى

(4)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُ سَمَّاكَ لِي") وفي رواية للطبراني من وجه آخر، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال:"نعم باسمك، ونسبك في الملأ الأعلى"(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَجَعَلَ) أي: شَرَع وأخذ (أُبَيٌّ) رضي الله عنه (يَبْكِي) قال القرطبيُّ: تَعَجَّب أُبَيٌّ رضي الله عنه من ذلك؛ لأن تسمية اللَّه له، ونصَّه عليه؛ ليقرأ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم تشريف عظيمٌ، فلذلك بَكَى، إما فرحًا، وإما خشوعًا.

وقال أبو عبيد رحمه الله: المراد بالعرض على أُبَيّ رضي الله عنه؛ ليتعلم أُبَيّ منه القراءة، ويتثبت فيها، وليكون عَرْضُ القرآن سنةً، وللتنبيه على فضيلة أُبَيّ بن

(1)

بفتح الذال والراء المعجمة: أي تساقطت بالدموع.

(2)

"الفتح" 8/ 598.

(3)

"الفتح" 7/ 158.

(4)

"المفهم" 2/ 426.

ص: 307

كعب، وتقدُّمه في حفظ القرآن، وليس المراد أن يستذكر منه النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا بذلك العرض. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 1864 و 1865 و 1866](799)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3809) و"التفسير"(4959 و 4960 و 4961)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3792)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(134)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20411)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 130 و 137 و 218 و 233 و 273)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7144)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3958)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1817 و 1818) وفي "الحلية"(1/ 251)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2995 و 3246)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب قراءة القرآن على الْحُذّاق فيه، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه.

2 -

(ومنها): استحباب تواضع الإنسان في أخذ العلم من أهله، وإن كان دونه.

3 -

(ومنها): بيان المنقبة الشريفة لأُبَيّ بن كعب رضي الله عنه بقراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، ولا يُعْلَم أحدٌ من الناس شاركه في هذا.

4 -

(ومنها): بيان منقبة أخرى لأُبيّ رضي الله عنه أيضًا، وهي أنه ذكره اللَّه تعالى، ونصَّ عليه في هذه المنزلة الرفيعة.

5 -

(ومنها): بيان جواز البكاء للسرور والفرح مما يُبَشَّر الإنسان به، ويعطاه من معالي الأمور.

6 -

(ومنها): أنه إنما قال أُبيّ رضي الله عنه: "آللَّه سماني لك؟ "؛ لأنه يجوز أن

ص: 308

يكون اللَّه تعالى أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على رجل من أمته، ولم يَنُصّ على أُبَيّ، فأراد أُبَيّ أن يتحَقَّق، هل نَصّ عليه، أو قال: على رجل؟ فيؤخذ منه الاستثبات في المحتَمِلات.

7 -

(ومنها): أنه اختُلِف في الحكمة في قراءته صلى الله عليه وسلم على أُبَيّ رضي الله عنه، والمختار أن سببها أن تَسْتَنَّ الأمة بذلك في القراءة على أهل الإتقان والفضل، ويتعلموا آداب القراءة، ولا يَأْنَفَ أحدٌ من ذلك.

وقيل: للتنبيه على جلالة أُبَيّ رضي الله عنه، وأهليته لأخذ القرآن عنه، وكان بعده صلى الله عليه وسلم رأسًا، وإمامًا في إقراء القرآن، وهو أجلّ ناشرته، أو من أجلّهم، ويتضمن معجزة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

8 -

(ومنها): ما قيل: إن تخصيص هذه السورة، فلأنها وَجِيزةٌ جامعةٌ لقواعد كثيرة من أصول الدين، وفروعه ومهماته، والإخلاص، وتطهير القلوب، وكان الوقت يقتضي الاختصار، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: خَصّ هذه السورة بالذكر؛ لما اشتملت عليه من التوحيد، والرسالة، والإخلاص، والصُّحُف، والكُتُب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وذكر الصلاة والزكاة والمعاد، وبيان أهل الجنة والنار مع وَجَازتها، ذكره في "الفتح"

(1)

.

9 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إنما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أُبيّ رضي الله عنه؛ ليتلقّن عنه أُبيّ كيفيّة القراءة وصفتها مشافهةً، وليُبيّن طريق تحميل الشيخ للراوي بقراءته عليه، وفي قراءة عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قراءة التلميذ على الشيخ، وكلاهما طريق صحيحٌ. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1865]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ

(1)

"الفتح" 7/ 159 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3809).

(2)

"المفهم" 2/ 426.

ص: 309

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} "، قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَبَكَى).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قبل بابين، و"قتادة، وأنس رضي الله عنهما" ذُكرا في السند الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1866]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيٍّ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

[تنبيه]: قال النوويُّ رحمه الله: هذه الأسانيد الثلاثة رواتها كلهم بصريّون، وهذا من المستطرفات أن يجتمع ثلاثة أسانيد متصلة، مسلسلون بغير قصد، وقد سبق بيان مثله، وشعبة واسطيّ بصريّ، كما سبق بيانه غير مرة.

وفي الطريق الثالث فائدةٌ حسنةٌ، وهي أن قتادة صَرَّح بالسماع من أنس رضي الله عنه، بخلاف الأولين، وقتادةُ مدلِّسٌ، فينتفي أن يُخاف من تدليسه بتصريحه بالسماع، وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم غير مرّة أن شعبة إذا روى عن شيخه المدلّسين، كقتادة، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، والأعمش، لا يروي عنهم إلا ما

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 86.

ص: 310

صرّحوا فيه بالسماع، فلا تضرّ عنعنتهم، وقد نظمت ذلك مع زيادة رواية الليث عن أبي الزبير، ويحيى القطّان عن شيوخه، فقلت:

شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنِ الْمُدَلِّسِ

إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ

لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعْمَشِ أَوْ

قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِي مَا رَوَوْا

مُعَنْعَنًا لَا تَخْشَ تَدْلِيسًا فَقَدْ

كَفَاكَهُ هَذَا الإِمَامُ الْمُعْتَمَدْ

كَذَلِكَ الْقَطَّانُ لَا يَرْوِي لِمَنْ

دَلَّسَ مَا لَيْسَ سَمَاعًا يُؤْتَمَنْ

كَذَاكَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ اللَّيْثُ إِنْ

رَوَى فَلَا تَدْلِيسَ تَخْشَى يَا فَطِنْ

فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرَ مَا

سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ فَاغْتَنِمَا

هَذِي فَوَائِدُ عَزِيزَةُ الْمَنَالْ

يَصْبُو لَهَا مَنْ هَمُّهُ ضَبْطُ الرِّجَالْ

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني: أن خالد بن الحارث حدّث عن شعبة بمثل حديث محمد بن جعفر عنه.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث، عن شعبة هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(41) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ طَلَبِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْحَافِظِ لِلاسْتِمَاعِ، وَالْبُكَاءِ عِنْدَ سَمَاعِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1867]

(800) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ حَفْصٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ"، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْرَأُ

(1)

عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ:"إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ

(1)

وفي نسخة: "أأقرأ".

ص: 311

بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}، رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247) عن (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عارف بالقراءة وَرعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، يرسل كثيرًا [5](ت 96) عن (50) أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَبِيدَةُ) بن عَمْرو السلمانيّ -بسكون اللام، ويقال: بفتحها- المراديّ، أبو عمر الكوفيّ، التابعيّ الكبير ثقةٌ ثبتٌ مخضرمٌ [2] مات قبل (70)(ع) تقدم في "الإيمان" 89/ 468.

7 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ الصحابيّ الشهير، أبو عبد الرحمن، نزل الكوفة، ومات سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما، ثم فصل بقوله:"قال أبو بكر. . . إلخ" يعني: أن شيخه الأول صرّح بتحديث حفص له، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى غير مرّة.

ص: 312

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبا كُريب ممن اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم، عن بض: الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، ورواية الأولين من رواية الأقران.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جَمّة، فإنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ومن السابقين الأولين، ومن كبار العلماء المفتين، وأمّره عمر رضي الله عنه على الكوفة، وكان من أقرأ الصحابة رضي الله عنهم، أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يقرأ القرآن غَضًّا، كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".

وأخرج الإمام أحمد، عن معاوية بن عمرو، قال: حدّثنا زائدة، حدّثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرّ، عن عبد اللَّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه بين أبي بكر وعمر، وعبد اللَّه يصلي، فافتتح "النساء"، فسَحَلَها

(1)

، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أحب أن يقرأ القرآن غَضًّا، كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، ثم تقدم يسأل، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"سل تعطه، سل تعطه، سل تعطه"، فقال فيما سأل:"اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتدّ، ونعيمًا لا يَنفَد، ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد"، قال: فأتى عمر رضي الله عنه عبد اللَّه ليبشّره، فوجد أبا بكر رضي الله عنه قد سبقه، فقال: إن فعلتَ، لقد كنت سَبّاقًا بالخير.

وهذا حديث حسنٌ، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ) أي: بعضه، وفي زيادة هنّاد الآتية:"قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وهو على المنبر: اقرأ عليّ"، (قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْرَأُ

(2)

(1)

أي قرأها كلّها قراءةً متتابعة متّصلةً، قاله في "النهاية" 2/ 348.

(2)

وفي نسخة: "أأقرأ".

ص: 313

عَلَيْكَ) هكذا في معظم النسخ: "أقرأ" بهمزة واحدة، وهو بتقدير همزة الاستفهام، وفي بعض النسخ:"أأقرأ عليك" بهمزتين (وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، والجملة حال من الكاف في "عليك" الأول؛ أي: والحال أن القرآن أنزله اللَّه عليك، فأنت أحقّ بقراءته من غيرك؛ إذ جريان الحكمة على لسان الحكيم أحلى، وكلام المحبوب على لسان الحبيب أولى (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("إِنِّي أَشْتَهِي) وفي الرواية الآتية: "إني أحبّ"(أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي") قال ابن بطّال رحمه الله: يَحْتَمِلُ أن يكون أحبّ أن يسمعه من غيره؛ ليكون عرض القرآن سنّةً، ويَحْتَمِلُ أن يكون لكي يتدبّره، ويتفهّمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبّر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها، وهذا بخلاف قراءته هو صلى الله عليه وسلم على أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، فإنه أراد أن يُعلّمه كيفيّة أداء القراءة، ومخارج الحروف، ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

(فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ) أي: قرأت عليه صلى الله عليه وسلم سورة النساء من أولها، كما يأتي في الرواية التالية بلفظ:"فقرأ عليه من أول سورة النساء"(حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41]) يشهد على كفرهم، فهو كقوله تعالى:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} الآية [المائدة: 117].

فـ "كيف" في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، والعامل في "إذا" هو هذا المقدّر، أو في محلّ نصب بفعل محذوف؛ أي: فكيف يكونون، أو يصنعون، ويجري فيه الوجهان: النصب على التشبيه بالحال، كما هو مذهب سيبويه، أو على التشبيه بالظرفيّة، كما هو مذهب الأخفش، وهو العامل في "إذا" أيضًا.

وقوله: {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} متعلّق بـ {جِئْنَا} ، والمعنى أنه يؤتى بنبيّ كلّ أمّة يشهد عليها ولها ({وَجِئْنَا بِكَ}) يا محمد ({عَلَى هَؤُلَاءِ}) أي: أمّتك ({شَهِيدًا}) حال أي: شاهدًا لمن آمن بالإيمان، وعلى من كفر بالكفر، وعلى من نافق بالنفاق، وقيل: أي: تشهد على صدق هؤلاء الشهداء؛ لحصول علمك بعقائدهم؛ لدلالة كتابك وشرعك على قواعدهم.

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 271.

ص: 314

وقال أبو حيّان: الأظهر أن هذه الجملة في موضع جرّ؛ عطفًا على {جِئْنَا} الأول؛ أي: فكيف يصنعون في وقت المجيئين.

وقال المظهر رحمه الله: قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} الآية [النساء: 41] يعني: فكيف حال الناس في يوم تحضر أمة كلّ نبيّ، ويكون نبيّهم شهيدًا بما فَعَلُوا من قبولهم له، أو ردّهم إياه؟ وكذلك نفعل بك يا محمد وبأمتك. انتهى.

وتعقّبه الطيبيُّ رحمه الله بأن هذا المعنى ينافي قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أي: حفيظًا ومزكّيًا لكم، فالشهادة لهم لا عليهم، فكيف يُفسّر هذا بما يناقضه، بل المعنِيُّ بهؤلاء أشخاصٌ معيّنون من الكفرة.

وقال في "الكشّاف": المعنى: فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فَعَلوا، وهو نبيّهم؟.

قال: وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فلفَرط رأفته، ومزيد شفقته، حيث عزّ عليه عَنَتُهُم، فعزّى عليهم، وبَكَى، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أنه لا تنافي بين الآيتين على تفسير المظهر رحمه الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يشهد على أمته بما لهم وما عليهم كما يشهد الأنبياء على أممهم، ثم الذين شهد لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخير والصلاح من أمته يكونون شهداء على أمم الأنبياء، فلا تعارض بين الآيتين، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال ابن أبي حاتم رحمه الله في "تفسيره": حدّثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدّثنا الصَّلْتُ بن مسعود الْجَحْدريّ، حدّثنا فُضيل بن سليمان، حدّثنا يونس بن محمد بن فَضَالة الأنصاريّ، عن أبيه، قال: وكان أبي ممن صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر، فجلس على الصخرة التي في بني ظَفَر اليوم، ومعه ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وناس من أصحابه، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم قارئًا، فقرأ حتى أتى على هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1683.

ص: 315

بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}، فبكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لَحْيَاه وجنباه، فقال:"يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين أظهرهم، فكيف بمن لم أره". انتهى

(1)

.

وأخرج ابن المبارك في "الزهد" من طريق سعيد بن المسيِّب قال: ليس من يوم إلا تُعرض على النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوةً وعشيةً، فَيَعْرِفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم.

قال الحافظ رحمه الله بعد ذكره هذا الأثر ما نصّه: ففي هذا المرسل ما يَرْفَع الإشكال الذي تضمنه حديث ابن فضالة، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أثر ابن المسيِّب رحمه الله هذا ضعيف، فلا يرفع الإشكال المذكور، وقد أوضح ضعفه الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"، حيث قال:

وأما ما ذكره أبو عبد اللَّه القرطبيّ في "التذكرة" حيث قال: "باب ما جاء في شهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته"، قال ابن المبارك: أخبرنا رجل من الأنصار، عن المنهال بن عمرو، أنه سمع سعيد بن المسيِّب يقول: ليس من يوم إلا تُعْرَض فيه على النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوةً وعشيّةً، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم، فلذلك يَشهَد عليهم، يقول اللَّه تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} ، فإنه أَثَرٌ، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلًا مبهمًا لم يُسَمّ، وهو من كلام سعيد بن المسيِّب لم يرفعه، وقد قبله القرطبيّ، فقال بعد إيراده: قد تقدَّم أن الأعمال تُعْرَض على اللَّه كل يوم اثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، قال: ولا تعارض، فإنه يَحْتَمِل أن يُخَصّ نبينا صلى الله عليه وسلم بما يُعْرَض عليه كلَّ يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الأثر مع ضعفه يعارض الحديث الذي

(1)

راجع: "تفسير ابن أبي حاتم" 3/ 956، و"تفسير ابن كثير" 1/ 685 - 686.

(2)

"الفتح" 8/ 716 - 717 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5055).

(3)

"تفسير ابن كثير" 1/ 686.

ص: 316

أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تُحْشَرُون حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثم قرأ:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، فأول من يُكْسَى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين، وذات الشمال، فأقول: أصحابي، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح، عيسى ابن مريم:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].

فهذا الحديث الصحيح المتّفق عليه يردّ على أثر ابن المسيّب المذكور؛ إذ هو نصّ في كونه صلى الله عليه وسلم لا يَعرف أعمال أمته بالتفصيل بعد موته.

وكذلك يردّه ما تقدّم من حديث فضالة الأنصاريّ رضي الله عنه، ففيه قوله صلى الله عليه وسلم:"يا رب هذا شَهِدتُ على من بين أظهرهم، فكيف بمن لم أره؟ ".

وكذا ما أخرجه ابن جرير الطبريّ، بسنده عن جعفر بن عمرو بن حُرَيث، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"شهيد عليهم ما دمتُ فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم"

(1)

.

والحاصل أن عرض أعمال الأمة كلّها على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته ليس عليه دليلٌ صحيح، إلا ما ورد من عرض الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الطبرانيّ عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، مرفوعًا:"إن للَّه تعالى ملكًا أعطاه سَمْعَ العباد، فليس من أحد يصلي عليّ، إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي أن لا يصلي عليّ عبد صلاةً إلا صلى عليه عشر أمثالها"

(2)

، وهو حديث حسنٌ.

وكذا ما أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد يُسَلِّم عليّ إلا ردّ اللَّه عليّ روحي، حتى أردّ عليه السلام"، واللَّه تعالى أعلم.

(رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ) للشكّ من الراوي (غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي) يَحْتَمل أن يكون من الغمز بمعنى الإشارة بالعين، وغيرها، ويَحْتَمل أن يكون من الغمز

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" 1/ 686.

(2)

حديث حسن، انظر حديث رقم (2176) من "صحيح الجامع" للشيخ الألبانيِّ.

ص: 317

باليد، وهو الجسّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: غَمَزَه غَمْزًا، من باب ضَرَبَ: أشار إليه بعين، أو حاجب، وليس فيه غَمِيزَةٌ، ولا مَغْمَزٌ: أي: عَيْبٌ، وغَمَزْتُهُ بيدي، من قولهم: غَمَزتُ الكبش بيدي: إذا جسسته؛ لتعرف سِمَنَهُ. انتهى

(1)

.

(فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ) وفي رواية البخاريّ: "فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}، قال: "أَمْسِكْ"، فإذا عيناه تَذْرِفان"، وفي رواية له:"قال: حسبك الآن، فالتفتُّ، إليه فإذا عيناه تَذْرِفان".

ومعنى "تَذْرفان" أي: تُطلِقان دمعهما.

قال ابن بطال رحمه الله: إنما بَكَى صلى الله عليه وسلم عند تلاوته هذه الآية؛ لأنه مَثَّل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشِدَّة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق، وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمرٌ يَحِقّ له طول البكاء. انتهى.

وقال الحافظ رحمه الله: الذي يظهر أنه بَكَى رحمةً لأمته؛ لأنه عَلِمَ أنه لا بُدّ أن يشهد عليهم بعَمَلهم، وعَمَلُهُم قد لا يكون مُستقيمًا، فقد يفضي إلى تعذيبهم، واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا تنافي بين ما ذكره ابن بطّال رحمه الله من أسباب البكاء، وبين ما استظهره الحافظ رحمه الله، فالأولى أن المجموع أسباب للبكاء، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "المرعاة": بكاؤه صلى الله عليه وسلم لفرط رحمته على الْمُفَرِّطين، أو لعظم ما تضمّنته الآية من هول المطلع، وشدّة الأمر.

وقيل: إن هذا البكاء بكاء فَرَح، لا بكاء جَزَعٍ؛ لأنه تعالى جعل أمته شُهداء على سائر الأمم، كما قال الشاعر [من الكامل]:

طَفَحَ السُّرُورُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّهُ

مِنْ عُظْمِ مَا قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي

(2)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كون هذا البكاء من نوع بكاء الفرح مما لا يخفى بعده، فالحقّ أنه بكاء خوف وشفقة، كما أسلفناه آنفًا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 453.

(2)

راجع: "المرعاة" 7/ 272.

ص: 318

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 1867 و 1868 و 1869](800)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4582) و"فضائل القرآن"(5049 و 5050 و 5055 و 5056)، وأبو داود في "العلم"(3668)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3025) وفي "الشمائل"(316)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(100 و 103 و 104)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 563)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 380 و 433)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(735 و 7065)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3831 و 3832 و 3833 و 3834)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1819 و 1820 و 1821) وفي "الحلية"(7/ 203)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 319)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 231)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8460 و 8461)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5228)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1220)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب استماع القراءة، والإصغاء إليها، والبكاء عندها، والتدبّر فيها.

2 -

(ومنها): استحباب طلب القراءة من الحافظ المجوّد لقراءته للاستماع إليه، وهي أبلغ في التفهّم والتدبّر من القراءة بنفسه.

3 -

(ومنها): أن فيه تواضعَ أهل العلم والفضل، ولو مع أتباعهم.

4 -

(ومنها): أن فيه بيان منقبة عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، حيث طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه القرآن.

5 -

(ومنها): استحباب البكاء عند قراءة القرآن، قال النوويُّ رحمه الله: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشِعار الصالحين، قال اللَّه تعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109]، وقال:{خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، والأحاديث فيه كثيرة، قال: فإن عزّ عليه البكاء تباكى؛ لحديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه مرفوعًا: "إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة، فإذا قرأتموه فابكُوا،

ص: 319

فإن لم تبكُوا فتباكَوْا. . . " الحديث

(1)

.

وقال الغزاليّ رحمه الله: يستحب البكاء مع القراءة وعندها، وطريق تحصيله أن يُحضر قلبه الحزن، والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد، والوثائق والعهود، ثم ينظر تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزنٌ فَلْيَبك على فقد ذلك؛ فإنه من أعظم المصائب

(2)

.

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إنما بكى النبيّ صلى الله عليه وسلم لعِظَم ما تضمّنته هذه الآية من هول المطلع، وشدّة الأمر، قال: ووقع في غير "صحيح مسلم" أنه قال: لما بلغتها قال: "حسبك"، واحتجّ به أهل التجويد على جواز الوقف الكافي من الآي والمقاطع؛ لأن الكلام حيث قال له:"حسبك" غير تامّ، بل تمامه فيما بعده، وقد قيل: إن قوله لعبد اللَّه: "حسبك" تنبيهٌ على ما في الآية، لا أنه وقفةٌ هناك. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1868]

(. . .) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَمِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، جَمِيعًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ هَنَّادٌ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ لِي

(4)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ:"اقْرَأْ عَلَيَّ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّريِّ) بن مُصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) عن (91) سنة (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

(1)

حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه، وفي سنده إسماعيل بن رافع، أبو رافع الأنصاريّ، ضعّفوه.

(2)

راجع: "الفتح" 8/ 716 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5055).

(3)

"المفهم" 2/ 427.

(4)

وفي نسخة: "قال: قال لي".

ص: 320

3 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني: إسناد الأعمش السابق، وهو عن إبراهيم، عن عَبِيدة، عن عبد اللَّه رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(2/ 391) فقال:

(1820)

حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى، ثنا هناد، ثنا عليّ بن مُسْهِر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَبيدة، عن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر:"اقرأ"، قلت: أقَرأ، وعليك أُنْزِل؟ فقرأ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} ، فرأيت عيني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَان. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1869]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي

(1)

مِسْعَرٌ، وَقَالَ

(2)

أَبُو كُرَيْبٍ: عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قَالَ: أَقْرَأُ

(3)

عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ:"إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"، قَالَ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ، إِلَى قَوْلِهِ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} ، فَبَكَى، قَالَ مِسْعَرٌ: فَحَدَّثَنِي مَعْنٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مَا دُمْتُ فِيهِمْ، أَوْ مَا كُنْتُ فِيهِمْ"، شَكَّ مِسْعَرٌ).

(1)

وفي نسخة: "أخبرني".

(2)

وفي نسخة: "قال".

(3)

وفي نسخة: "آقرأ".

ص: 321

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(مِسْعَرُ) بن كِدَام بن ظُهَير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

3 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، رمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

4 -

(مَعْنُ) بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود الْهُذَليّ المسعوديّ، أبو القاسم الكوفيّ القاضي، ثقةٌ، من كبار [7](خ م) تقدم في "الصلاة" 34/ 1016.

5 -

(جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) المخزوميّ، ثقةٌ

(1)

[3].

رَوَى عن أبيه، وعديّ بن حاتم، وهو جدّه لأمه.

وروى عنه مُساور الورّاق، والمسيَّب بن شريك، ومعن بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (800)، وحديث (1359):"خطب الناس، وعليه عمامة سوداء".

6 -

(أَبُوهُ) عمرو بن حُريث بن عمرو بن عثمان بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ صحابيّ صغير، مات رضي الله عنه سنة (85)(ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1028.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

وقوله: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) هذا الطريق فيه انقطاع؛ لأن إبراهيم النخعيّ لم يلق ابن مسعود رضي الله عنه، ولكنه تقدّم موصولًا

(1)

هذا هو الحقّ، وأما ما قاله في "التقريب": مقبول، فغير مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج مسلم هنا، ووثقّه اين حبّان، وقال الذهبيّ في "الكاشف" 1/ 185 "ثقةٌ"، ولم يتكلّم فيه بجرح، فهو ثقةٌ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 322

من رواية الأعمش عنه، وأيضًا أتبعه بطريق معن بن عبد الرحمن، عن جعفر بن عمرو، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه متّصل، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (قَالَ مِسْعَرٌ: فَحَدَّثَنِي مَعْنٌ. . . إلخ) غرض المصنّف به بيان أن لمسعر في هذا الحديث طريقين: طريق فيه انقطاع، وهو عن عمرو بن مرّة، عن إبراهيم، كما أسلفته آنفًا، وطريق فيه اتّصال، وهو المطلوب هنا، وهو: عن معن، عن جعفر بن عمرو، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1870]

(801) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ بِحِمْصَ، فَقَالَ لِي بَعْضُ الْقَوْمِ: اقْرَأْ عَلَيْنَا، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يُوسُفَ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ

(1)

مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، قَالَ: قُلْتُ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا

(2)

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي: أَحْسَنْتَ، فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ، إِذْ وَجَدْتُ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ؟ لَا تَبْرَحُ حَتَّى أَجْلِدَكَ، قَالَ: فَجَلَدْتُهُ الْحَدَّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس النخعيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

وفي نسخة: "فقال لي رجل".

(2)

وفي نسخة: "لقرأتها".

ص: 323

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة.

5 -

(ومنها): أن هذا الإسناد مما قيل فيه: إنه أصحّ الأسانيد على الإطلاق على ما روي عن ابن معين رحمه الله، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

كَذَا ابْنُ مِهْرَانَ عَنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ

عَلْقَمَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودِ الْحَسَنْ

6 -

(ومنها): أنه وقع عبد اللَّه هنا مهملًا، وهو ابن مسعود؛ لأن القاعدة أنه إذا أُهمِل عبد اللَّه في أسانيد الكوفيين، فهو ابن مسعود، كما أنه إذا أُطلق في المدنيين فهو ابن عمر، وفي المكيين، فهو ابن الزبير، وفي البصريين، فهو ابن عبّاس، وفي الشاميين والمصريين، فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله أيضًا في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ "عَبْدُ اللَّهِ" فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِ

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنْتُ بِحِمْصَ) ظاهر رواية المصنّف رحمه الله هذه يدلّ على أن علقمة لم يحضر القصّة، وإنما نقلها عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكذا أخرجه أبو عوانة، ولفظه:"عن علقمة، قال: قال عبد اللَّه: كنت جالسًا بحمص، فقالوا لي: اقرأ"، وعند أحمد، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، قال: عن عبد اللَّه، أنه قرأ سورة يوسف.

ووقع في رواية البخاريّ: "عن علقمة قال: كنّا بحمص، فقرأ ابن مسعود"، قال في "الفتح": هذا ظاهره أن علقمة حضر القصّة، وكذا أخرجه الإسماعيليّ، عن أبي خليفة، عن محمد بن كثير، شيخ البخاريّ فيه، وأخرجه

ص: 324

أبو نعيم من طريق يوسف القاضي، عن محمد بن كثير، فقال فيه:"عن علقمة، قال: كان عبد اللَّه بحمص". انتهى.

[تنبيه]: "حِمْص" بكسر الحاء المهملة، وسكون الميم، آخره صاد مهملة: كُورةٌ بالشام، أهلها يمانيون، وقد تُذكَّر، قاله في "القاموس"

(1)

.

وقال في "المصباح": "حِمْصُ": البلد المعروف بالصرف وعدمه. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ لِي بَعْضُ الْقَوْمِ: اقْرَأْ عَلَيْنَا) أي: أسمعنا القرآن بصوتك (فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يُوسُفَ) وفي رواية لأبي عوانة، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: خرج إلى الشام في حاجة له، فبينا هو جالس في حَلْقة إذ قالوا له: يا أبا عبد الرحمن اقرأ علينا سورة يوسف، فقرأ. (قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (فَقَالَ رَجُلٌ) وفي بعض النسخ:"فقال لي رجلٌ"، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، وقد قيل: إنه نَهِيك بن سِنَان الذي تقدَّمت له مع ابن مسعود في القرآن قصة غير هذه، لكن لم أر ذلك صريحًا، وفي رواية مسلم:"فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا، فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم: ما هكذا أنزلت"، فإن كان السائل هو القائل، وإلا ففيه مبهم آخر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(3)

.

(مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ) بالبناء للمجهول (قَالَ) عبد اللَّه (قُلْتُ: وَيْحَكَ) قال ابن الأثير رحمه الله: وَيْحَ كلمة ترحّم وتوجّع، تقال لمن وقع في هَلَكَة لا يستحقّها، وقد يقال بمعنى المدح والتعجّب، وهي منصوبة على المصدر، وقد تُرفَع، وتضاف، ولا تضاف، يقال: وَيْحَ زيدٍ، وويحًا له، وويحٌ له. انتهى.

وقال في "القاموس": وَيْحٌ لزيد، وويْحًا له كلمة رحمة، ورفعه على الابتداء

(4)

، ونصبه بإضمار فعل، ووَيْحَ زيد، وويحَهُ نصبهما به أيضًا، وويحَما

(1)

"القاموس المحيط" 2/ 299.

(2)

"المصباح" 1/ 151.

(3)

"الفتح" 8/ 665 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5001).

(4)

قوله: "ورفعه على الابتداء" أي على أنه مبتدأ، والظرف بعده خبره، قال شارح "القاموس" نقلًا عن شيخه: والمسوّغ للابتداء بالنكرة التعظيم المفهوم من التنوين، أو التنكير، أو أن هذه الألفاظ جرت مجرى الأمثال، أو أُقيمت مقام الدعاء، =

ص: 325

زيد بمعناه، أو أصله وَيْ، فوُصلت بحاء مرّةً، وبلام مرّةً، وبباء مرّةً، وبسين مرّةً. انتهى

(1)

.

(وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا) وفي بعض النسخ: "لقرأتها" بحذف "قد"(عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أراد ابن مسعود رضي الله عنه بذلك أنه متأكّد من حفظها، ولم يلحن فيها؛ لشدّة ضبطه، وكثرة مراجعته لها منذ أن سمعها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل إلى إنكارها (فَقَالَ لِي) ذلك الرجل (أَحْسَنْتَ) هذا يدلّ على أنه غلبه السُّكْر، ولذلك ما كان حاله منتظمًا؛ فسرعان ما أنكر عليه، قال له: أحسنت (فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ) أي: بين أوقات تكليمي إياه (إِذْ وَجَدْتُ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (فَقُلْتُ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ؟) قال النوويُّ رحمه الله: معناه: تُنكر بعضه جاهلًا، وليس المراد التكذيب الحقيقيّ، فإنه لو كذّب حقيقةً لكفر، وصار مرتدًّا يجب قتله، وقد أجمعوا على أن من جحد حرفًا مُجمَعًا عليه في القرآن، فهو كفر، تُجرَى عليه أحكام المرتدّين، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

(لَا تَبْرَحُ) أي: لا تذهب من مكانك هذا، يقال: بَرَحَ الشيءُ يَبْرَحُ، من باب تَعِبَ بَرَاحًا: زال من مكانه

(3)

(حَتَّى أَجْلِدَكَ) أي: أضربك بالسوط ضربَ حدّ الْجَلْد، يقال: جلدت الجاني جَلْدًا، من باب ضَرَبَ: ضربته بالْمِجْلَد بكسر الميم، وهو السوط، الواحدة جَلْدَةٌ، مثلُ ضَرْبٍ وضَرْبَةٍ

(4)

.

(قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (فَجَلَدْتُهُ الْحَدَّ) أي: حدّ شرب الخمر، والحدّ في اللغة: الفصل، والمنع، فمن الأول قوله:

وَجَاعِلِ الشَّمْسِ حَدًّا لَا خَفَاءَ بِهِ

ومن الثاني: حددته عن أمره: إذا منعته، فهو محدودٌ، ومنه: الحدود المقدّرة في الشرع؛ لأنها تمنع من الإقدام، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(5)

.

= أو فيها التعجّب دائمًا، أو لوضوحه، أو نحو ذلك مما يُبديه النظر، وتقتضيه قواعد العربيّة. انتهى.

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 256.

(2)

"شرح النوويّ" 1/ 88.

(3)

"المصباح" 1/ 42.

(4)

"المصباح" 1/ 104.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 124 - 125.

ص: 326

وقال ابن الأثير رحمه الله: الحدود هي محارم اللَّه عز وجل وعقوباته التي قَرَنها بالذنوب، وأصل الحدّ: المنع والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فَصَلَت بين الحلال والحرام، فمنها ما لا يُقرب، كالفواحش المحرّمة، ومنه قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، ومنها ما لا يُتعدّى، كالمواريث المعيَّنة، وتزويج الأربع. انتهى

(1)

.

زاد أبو عوانة في روايته ما نصّه: "قال الأعمش: كانوا أمراء حيث كانوا". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كلام الأعمش رحمه الله هذا يدلّ على أن الصحابة رضي الله عنهم مفوّضٌ إليهم من قِبَل الإمام إقامة الحدّ حيثما كانوا، ولذا أقام ابن مسعود رضي الله عنه الحدّ على هذا الرجل، واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحدّ محمول على أن ابن مسعود رضي الله عنه كانت له ولاية إقامة الحدود؛ نيابةً عن الإمام، إما عمومًا، وإما خصوصًا، وعلى أن الرجل اعتَرَفَ بشربها بلا عذر، وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها، وعلى أن التكذيب كان بإنكار بعضه جاهلًا؛ إذ لو كَذّب به حقيقةً لكفر، فقد أجمعوا على أن مَن جَحَد حرفًا مجمعًا عليه من القرآن كَفَرَ. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والاحتمال الأول جَيِّدٌ، ويَحْتَمِل أيضًا أن يكون قوله:"فضربه الحدّ"؛ أي: رفعه إلى الأمير، فضربه فأسند الضرب إلى نفسه مجازًا؛ لكونه كان سببًا فيه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول هو الأقرب، يؤيّده ما تقدّم عن الأعمش، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما أقام عليه الحدّ؛ لأنه جَعَل له ذلك مَن له الولاية، أو لأنه رأى أنه قام عن الإمام بواجب، أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة، فإنه وَلِيَها في زمن عمر، وصدرًا من خلافة عثمان رضي الله عنهما. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: والاحتمال الثاني مُوَجَّه، وفي الأخير غفلةٌ عما في

(1)

"النهاية" 1/ 352.

(2)

"مسند أبي عوانة" 2/ 462.

ص: 327

أول الخبر أن ذلك كان بِحِمْصَ، ولم يَلِها ابن مسعود رضي الله عنه، وإنما دخلها غازيًا، وكان ذلك في خلافة عمر رضي الله عنه.

وأما الجواب الثاني عن الرائحة فَيَرُدّه النقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يرى وجوب الحدّ بمجرد وجود الرائحة، وقد وقع مثلُ ذلك لعثمان رضي الله عنه في قصة الوليد بن عقبة.

ووقع عند الإسماعيليّ إِثْرَ هذا الحديث النقل عن عليّ رضي الله عنه أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها؛ إذ لم يُقِرّ، ولم يُشْهَد عليه.

قال: وأما الجواب عن الثالث فجَيِّد أيضًا، لكن يَحْتَمِل أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه كان لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه من الكلام في حال سكره.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون الرجل كَذَّب ابن مسعود، ولم يُكَذّب بالقرآن، وهو الذي يظهر من قوله:"ما هكذا أُنزلت"، فإن ظاهره أنه أثبت إنزالها، ونَفَى الكيفية التي أوردها ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الرجل ذلك إما جهلًا منه، أو قلة حفظ، أو عدم تثبت بعثه عليه السُّكْر، وسيأتي مزيد بحث في ذلك في "كتاب الطلاق" -إن شاء اللَّه تعالى-

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 1870 و 1871](801)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5001)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(105)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 231)، و (الحميديّ) في "مسنده"(112)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 378 و 424)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3835 و 3836 و 3837 و 3838)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1822)، و (أبو يعلى) في

(1)

"الفتح" 8/ 666.

ص: 328

"مسنده"(5068 و 5193)، و (البزّار) في "مسنده"(1499 و 1775)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1152)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(9/ 344)(9712)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة طلب القراءة من القارئ المجوّد الحسن الصوت، للاستماع إليها.

2 -

(ومنها): الإنكار على من أنكر القراءة الصحيحة، ظنًّا منه أنها غير صحيحة، أو جهلًا بالحكم، وأما إذا أنكر عالِمًا، فإنه يرتدّ بذلك، قال القرطبيُّ رحمه الله: نسبه عبد اللَّه إلى التكذيب بالكتاب على جهة التغليظ، وليس على حقيقته؛ إذ لو كان ذلك لحَكَم بردّته، وقتله؛ إذ هذا حُكم من كذّب بحرف منه، وكأن الرجل إنما كذّب عبد اللَّه لا القرآن، وهو الظاهر من قول الرجل:"ما هكذا أُنزلت"؛ جهالةً منه، أو قلّة حفظ، أو قلّة تثبّت لأجل السكر، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: حدّ عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه للرجل الذي وَجَدَ منه ريح الخمر حجة على من منع وجوب الحدّ بالرائحة، كالحنفية، وقد قال به مالكٌ، وأصحابه، وجماعة من أهل الحجاز.

قال الحافظ رحمه الله: والمسألة خلافيّة شهيرةٌ، وللمانع أن يقول إذا احتَمَل أن يكون أقرّ سقط الاستدلال بذلك.

ولَمّا حَكَى الموفَّق رحمه الله في "المغني" الخلاف في وجوب الحدّ بمجرد الرائحة، اختار أن لا يُحَدّ بالرائحة وحدها، بل لا بُدّ معها من قرينة، كأن يوجد سكران، أو يتقيأها، ونحوه أن يوجد جماعة شُهِروا بالفسق، ويوجد معهم خمر، ويوجد من أحدهم رائحة الخمر.

وحَكَى ابن المنذر رحمه الله عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحدّ بمجرد الرائحة مَن يكون مشهورًا بإدمان شرب الخمر، وقيل بنحو هذا التفصيل فيمن شكّ، وهو في الصلاة، هل خَرَج منه ريح أو لا؟ فإن قارن ذلك وجود

(1)

"المفهم" 2/ 428.

ص: 329

رائحة دلّ ذلك على وجود الحدث فيتوضأ، وإن كان في الصلاة فلينصرف، ويُحْمَل ما ورد من ترك الوضوء مع الشكّ على ما إذا تجرد الظن عن القرينة، وسيكون لنا عودة إلى هذه المسألة في "كتاب الحدود" - إن شاء اللَّه تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1871]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا

(2)

عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: فَقَالَ لِي: أَحْسَنْتَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

3 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (قَالَا) ضمير التثنية في الأول لإسحاق وعليّ بن خشرم، وفي الثاني لأبي بكر، وأبي كريب.

وقوله: (جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ) يعود إلى عيسى بن يونس، وأبي معاوية؛ يعني: أنهما رويا جميعًا عن الأعمش.

(1)

"الفتح" 8/ 666 "كتاب فضائل القرآن" رقم (501).

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 330

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي: بإسناد الأعمش السابق، وهو: عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3580)

حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، أنه قرأ سورة يوسف بحمص، فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فدنا منه عبد اللَّه، فوجد منه ريح الخمر، فقال: أتُكَذِّب بالحقّ، وتشرب الرِّجْسَ؟ لا أَدَعُك، حتى أَجْلِدَك حدًّا، قال: فضربه الحدّ، وقال: واللَّه لهكذا أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وأما رواية عيسى بن يونس، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(42) - (بَابُ فَضْلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَعَلُّمِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1872]

(802) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟ "، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: "فَثَلَاثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد اللَّه بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

3 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.

ص: 331

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في كيفيّة التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي صالح، فمدنيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي صالح.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ) أي: في أهله؛ يعني: في محلّهم، وقيل: أي: في رجوعه إليهم، وقيل: أي: في طريقه (ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ) بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام: جمع خَلِفَةٍ، وهي الحامل من النوق، وهي من أعزّ أموال العرب، من خَلِفَتِ الناقةُ: إذا حَمَلَت، وأخلفت: إذا حالت، وتُجمَع أيضًا على خلائف

(1)

، وقيل: الخلفة: الحامل من النوق إلى أن يمضي عليها نصف أمدها، ثم هي عُشَرَاء، جمعها عِشَار

(2)

.

(1)

ومنه حديث هدم الكعبة: "لَمّا هدموها ظهر فيها مثلُ خلائف الإبل"، أراد بها صخُورًا عِظامًا في أساسها بقدر النوق الحوامل. انتهى. "النهاية" 2/ 68.

(2)

"النهاية" 2/ 68، و"المرعاة" 7/ 173.

ص: 332

وقال في "القاموس": "الْخَلِفُ" ككَتِفٍ: الْمَخَاضُ، وهي الحوامل من النوق، الواحدة بالهاء. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": الْخَلِفَةُ بكسر اللام: هي الحوامل من الإبل، وجمعها مَخَاضٌ، من غير لفظها، كما تُجمَع المرأة على النساء، من غير لفظها، وهي اسم فاعل، يقال: خَلِفَتْ خَلَفًا، من باب تَعِبَ: إذا حَمَلَت، فهي خَلِفَةٌ، مثلُ تَعِبَةٍ، ورُبّما جُمِعت على لفظها، فقيل: خَلِفَاتٌ، وتُحذف الهاءُ أيضًا، فقيل: خَلِفٌ. انتهى

(2)

.

(عِظَامٍ) في الكمّيّة، وهي بالكسر: جمع عظيمة (سِمَانٍ) في الكيفيّة، وهي أيضًا بالكسر: جميع سَمينة؛ أي: كثيرة الشحم والدسم (قُلْنَا: نَعَمْ) أي: نحبّ ذلك بمقتضى الطبيعة، أو على وفق الشريعة؛ ليكون ذريعة للآخرة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: فإذا قلتم ذلك، وغفلتم عما هو أولى ("فَثَلَاثُ آيَاتٍ) أي: فاعلموا أن قراءة ثلاث آيات خير من ثلاث خَلِفَات.

قال الطيبيُّ رحمه الله: الفاء في "فثلاث" جزاء شرط محذوف، فالمعنى: إذا تقرّر ما زعمتم أنكم تُحبّون ما ذكرت لكم، فقد صحّ أن تفضّلوا عليها ما أذكره لكم من قراءة ثلاث آيات؛ لأن هذا من الباقيات الصالحات، وتلك من الزائلات الفانيات. انتهى

(3)

.

(يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ) قال الطيبيُّ رحمه الله: الباء زائدة، أو للإلصاق (فِي صَلَاتِهِ) بيان للأكمل، وتقييد للأفضل، وإلا فالقراءة في غير الصلاة أيضًا خير من الخَلِفات، كما لا يخفى على بصير (خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ) قال الطيبيُّ رحمه الله: فإن قلت: كان من حقّ الظاهر أن يُعرّف "خَلِفات"، وصفتيها؛ ليعود إلى تلك المذكورات.

قلت: لا يُستبعد أن يخالف بين التنكيرين، فإن التنكير في الأولى للشيوع، وبيان الأجناس، وفي الثاني للتفخيم والتعظيم، ولو ذهب إلى

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 136.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 178 - 179.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1634 - 1635، و"المرعاة" 7/ 173.

ص: 333

التعريف لم يَحْسُن حُسنَه. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 1872](802)، و (ابن ماجه) في "كتاب الأدب"(3782)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 397 و 466 و 497)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 431)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3777)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1823)، وفوائد الحديث تأتي في شرح حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه التالي -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1873]

(803) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ:"أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ، فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ "، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ

(3)

، قَالَ:"أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسجِدِ، فَيَعْلَمَ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كتَابِ اللَّهِ عز وجل خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في السند الماضي.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1635.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "نحبّ ذلك" بحذف "كلّنا".

ص: 334

2 -

(الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) اسم دُكين عمرو بن حمّاد بن زُهير التيميّ مولاهم الأحول، أبو نعيم الْمُلائيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 218) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.

3 -

(مُوسَى بْنُ عُلَيٍّ) بالتصغير ابن رَبَاح اللَّخْميّ، أبو عبد الرحمن المصريّ، وَلِيَ إِمْرَةَ مصر سنة ستّين، ثقةٌ

(1)

[7].

رَوَى عن أبيه، والزهريّ، وابن المنكدر، ويزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن أبي منصور.

ورَوَى عنه أسامة بن زيد الليثيّ، وهو أكبر منه، وابن لَهِيعة، والليث، ويحيى بن أيوب، وابن المبارك، وابن مهديّ، وأبو عامر الْعَقَديّ، وابن وهب، ووكيع، وأبو نعيم، وغيرهم.

ذَكَره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل مصر، وقال: كان ثقةً إن شاء اللَّه تعالى، وقال أحمد، وابن معين، والعجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: كان رجلًا صالحًا، يُتقن حديثه، لا يزيد ولا ينقص، صالح الحديث، وكان من ثقات المصريين، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن حنبل: كان ثقةً، وقال الساجيّ: صدوقٌ، قال: وقال ابن معين: لم يكن بالقويّ، وقال ابن عبد البر: ما انفرد به، فليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مولده بالغرب سنة تسع وثمانين، وقال ابن يونس: وُلد بإفريقية سنة تسعين، ومات بالإسكندرية سنة ثلاث وستين ومائة، وفيها أرّخه غير واحد.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (803) وحديث (831) و (1096) و (2898).

4 -

(أَبُوهُ) عَليّ بن رَبَاح بن قَصِير -ضدّ الطويل- بن الْقَشِيب بن يينع بن

(1)

فما قاله في "التقريب": صدوق ربما أخطا، غير صحيح، فإنه وثّقه جلّ الأئمة، وما نقله ابن شاهين عن ابن معين أنه قال: لم يكن بالقويّ، غير قويّ، فإن أكثر الرواة عن ابن معين قالوا: إنه قال: ثقة، ووثقه أحمد، وأبو حاتم، والنسائيّ، والعجليّ، وابن حبّان، فماذا بعد هؤلاء؟، فتبصّر.

ص: 335

أردة بن حُجْر بن جَزِيلة بن لَخْم اللَّخْميّ، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو موسى المصريّ، والمشهور فيه عُلَيّ بالضمّ مصغَّرًا، وكان يغضب منها، من صغار [3].

رَوَى عن عمرو بن العاص، وسُراقة بن مالك بن جُعْشُم، وفَضالة بن عُبيد، والمستورِد بن شداد، وعتبة بن الندّر، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاوية بن حُديج، وأبي قتادة الأنصاريّ، وأبي هريرة، وعقبة بن عامر الجهنيّ، وعبد العزيز بن مروان، وجنادة بن أبي أمية، وأبي قيس مولى عمرو بن العاص.

وروى عنه ابنه موسى، وأبو هانئ حميد بن هانئ، ويزيد بن أبي حبيب، ومعروف بن سُويد الجذاميّ، والحارث بن يزيد الحضرميّ، ويزيد بن محمد القرشيّ، وغيرهم، وفد على معاوية رضي الله عنه.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مصر، قال: كان ثقةً، وقال أبو عبد الرحمن المقرئ، عن موسى بن عُليّ، عن أبيه: كنت خلف معلمي فبكى، فقلت له: ما لك؟ فقال: قُتِل عثمان، وقال غيره: كنت مع عمي، وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقةٌ، وقال الأثرم عن أحمد: ما علمت إلا خيرًا، وقال يعقوب بن سفيان في ثقات التابعين: من أهل مصر عُليّ بن رَباح، وُلد بالمغرب، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال الليث: قال عَليّ بن رباح: لا أجعل في حِلّ من سماني عُليّ، فإن اسمي عَليّ، وقال المقرئ: كان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه عَليّ، قتلوه فبلغ ذلك رَباحًا، فقال: هو عليّ، وكان يغضب من عُليّ، ويُحَرِّج

(1)

على من سماه به، وقال ابن يونس: وُلِد سنة (15) وذهبت عينه يوم ذي الصّواري في البحر مع ابن أبي سَرْح سنة (34)، وكان له من عبد العزيز منزلة، ثم عَتَبَ عليه عبد العزيز، فأغزاه إفريقية، فلم يزل بها إلى أن مات، ويقال: إن وفاته كانت سنة (114)، وقال العَدّاس: تُوُفّي سنة (117).

(1)

هكذا في "تهذيب التهذيب" بتقديم الحاء على الجيم، وفي "تهذيب الكمال" بالعكس، فليُنظر.

ص: 336

قال البخاريّ في "باب غزوة ذات الرِّقَاع": وقال بكر بن سوادة: ثنا زياد بن نافع، عن أبي موسى، أن جابرًا حدّثهم قال: صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم محارب، يعني صلاة الخوف، وقال أبو مسعود في "الأطراف": أبو موسى هو علي بن رباح، ويقال: إنه الغافقيّ.

قال الحافظ: وذكر ابن سعد، وابن معين: أن أهل مصر يقولونه بفتح العين، وأن أهل العراق يقولونه بالضم، وقال الساجيّ: كان ابن وهب يروي عنه، ولا يُصَغِّره، وغَلِطَ ابن منجويه وغيره، فقال: هو عليّ بن رَباح ابن معاوية بن حُديج، فلعله كان في سند علي بن رباح "عن"، فتصحفت "ابن". انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (803) و (831) و (1096) و (1591) و (2898).

5 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهنيّ الصحابيّ المشهور، اختُلف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أبو حمّاد، وَليَ إمرة مصر لمعاوية رضي الله عنهما ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات رضي الله عنه في قرب الستين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين من موسى، والباقيان كوفيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع.

شرح الحديث:

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) الْجُهَنيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من بعض حُجَره إلى المسجد (وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 161.

ص: 337

وَمَوْضِعَ الْحَالِ تَجِيءُ جُمْلَهْ

كَـ "جَاءَ زَيْدٌ وَهْوَ نَاوٍ رِحْلَهْ"

و"الصُّفَّةُ" بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الفاء: مكان مُظَلَّلٌ في مؤخّر المسجد النبويّ، أُعدّ لنزول الغرباء فيه، قال ابن الأثير رحمه الله: أهل الصفّة: هو فقراء المهاجرين ممن لم يكن له منزلٌ يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مُظَلَّل في مسجد المدينة، يسكنونه

(1)

.

قال الفيّوميُّ: الصُّفّة من البيت: جمعها صُفَفٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": صُفّةُ الدار والسَّرْج معروف، جمعه كصُرَد، قال: وأهل الصفّة كانوا أضياف الإسلام، كانوا يبيتون في مسجده صلى الله عليه وسلم، وهي موضعٌ مُظَلَّلٌ من المسجد. انتهى

(3)

.

وقال ابن حجر الهيتميُّ: كانت الصّفَّةُ في مؤخّر المسجد معدّة لفقراء الصحابة غير المتأهّلين، وكانوا يكثرون تارةً حتى يبلغوا نحو المائتين، ويَقِلّون تارةً لإرسالهم في الجهاد وتعليم القرآن.

وقال الجزريُّ: وكانوا سبعين، ويقلّون أحيانًا ويكثرون، وقال السيوطيُّ: عدّهم أبو نُعيم في "الحلية" أكثر من مائة. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ) أي يذهب في الْغُدْوة، وهي أول النهار، يقال: غدا غُدُوًّا، من باب قَعَدَ: ذهب غُدْوةً، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وجمع الغُدْوة غُدًى، مثلُ مُدْيَة ومُدًى، هذا أصله، ثم كثُر، حتى استُعمِل في الذهاب والانطلاق أَيَّ وقت كان

(5)

، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"واغْدُ يا أُنيس على امرأة هذا. . . " الحديث، متّفقٌ عليه

(6)

. (كُلَّ يَوْمٍ) منصوب

(1)

"النهاية" 3/ 37.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 343.

(3)

"القاموس المحيط" 3/ 163.

(4)

راجع: "المرعاة" 7/ 171.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(6)

هو ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام رجل، فقال: أنشدك اللَّه إلا قضيت بيننا بكتاب اللَّه، فقام خصمه، وكان أفقه منه، فقال: اقض بيننا بكتاب اللَّه، وأذن لي، قال:"قل"، =

ص: 338

على الظرفيّة متعلّق بـ "يَغْدو"(إِلَى بُطْحَانَ) -بضم الموحّدة، وسكون الطاء المهملة-: اسم وادٍ بالمدينة، سُمّي بذلك لسعته، وانبساطه، من البَطْح، وهو البسط

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "بَطْحَانُ" بفتح الباء: اسم وادي المدينة، والبَطْحانيّون منسوبون إليه، وأكثرهم يضمّون الباء، ولعله الأصحّ. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": "وبُطْحانُ" بضمّ الموحّدة، وسكون الطاء، وهو الأكثر، قال ابن الأثير في "النهاية": ولعلّه الأصحّ، وقال عياضٌ في "المشارق": هكذا يرويه المحدّثون، وكذا سمعناه من المشايخ، أو الصواب الفتح، وكسر الطاء، كقَطِرَانٍ، كذا قَيّده القالي في "البارع"، وأبو حاتم، والبكريّ في "المعجم"، وزاد الأخير: ولا يجوز غيره، وهو: موضع بالمدينة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وهو أحد أودية المدينة الثلاثة، وهي العقيق، وبطحان، وقناةُ، وروى ابن الأثير فيه الفتح أيضًا، وغيره الكسر، فإذًا هو بالتثليث. انتهى

(3)

.

(أَوْ) الظاهر أن "أو" هنا للتنويع، لا للشكّ، لكن قال في "جامع الأصول":"أو قال: إلى العقيق"، فدلّ على أنه شكّ من الراوي، قاله القاري رحمه الله (إِلَى الْعَقِيقِ) بفتح العين المهملة، وبقافين الأولى مكسورة، بينهما ياء تحتانيّة ساكنة، قال الطيبيُّ: أراد العَقِيق الأصغر، وهو وادٍ على ثلاثة أميال، وقيل: على ميلين من المدينة، عليه أموال أهلها، وإنما خصّهما

= قال: إن ابني كان عَسِيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالًا من أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب اللَّه -جلّ ذكره- المائة شاةٍ والخادمُ رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها".

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1634، و"المرعاة" 7/ 171 - 172.

(2)

"النهاية" 1/ 135.

(3)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 135.

ص: 339

بالذكر؛ لأنهما أقرب المواضع التي يقام فيها أسواق الإبل إلى المدينة. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "العقيق": هو وادٍ من أودية المدينة، مسيلٌ للماء، وهو الذي ورد ذكْرُهُ في الحديث أنه وادٍ مباركٌ، قال: وفي بلاد العرب مواضع كثير، تُسمّى العَقِيق، وكلُّ موضع شَقَقْتَهُ في الأرض، فهو عَقِيقٌ، والجمع أَعِقّةٌ، وعَقَائِق. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميُّ: "العَقِيقُ": الوادي الذي شقّه السيل قديمًا، وهو في بلاد العرب عِدّة مواضع، منها العقيق الأعلى عند مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يلي الْحَرّة إلى منتهى البقيع، وهو مقابر المسلمين، ومنها العقيق الأسفل، وهو أسفل من ذلك، ومنها العقيق الذي يجري ماؤه من غَوْرَيْ تِهَامةَ، وأوسطه بحذاء ذات العرق، قال بعضهم: ويتّصل بعقيق المدينة، وهو الذي ذكره الشافعيُّ، فقال: لو أهلّوا من العقيق كان أحبّ إليّ، وجمعُ العقيق أَعِقّة. انتهى

(3)

.

(فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ) تثنية ناقة، وهي الأنثى من الإبل، قال أبو عُبيد: ولا تُسمَّى ناقةً حتى تُجْذع، والجمعُ أَيْنُقٌ

(4)

، ونُوقٌ، ونِيَاقٌ، قاله في "المصباح"

(5)

.

(كَوْمَاوَيْنِ) تثنية كَوْماء -بفتح الكاف، وسكون الواو، وبالمدّ- قُلبت الهمزة واوًا، وهي الناقة العظيمة السنام.

قال في "المصباح": الْكَومَةُ: الْقِطعةُ من التراب وغيره، وهي الصُّبْرَة، بفتح الكاف وضمّها، وكَوّمتُ كَومةً من الحصى: أي جمعتها، ورفعت لها رأسًا، وناقةٌ كَوْمَاءُ: ضخْمَةُ السنام، وبعيرٌ أَكْوَمُ، والجمع كُومٌ، من باب أحمر. انتهى.

والمعنى: أنه يأتي بناقتين مشرفتي السنام عاليتيه عظيمتيه، وإنما ضرب

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1634.

(2)

"النهاية" 3/ 278.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 422.

(4)

فيه قلبٌ مكانيّ، بتقديم عين الكلمة على فائها.

(5)

"المصباح المنير" 2/ 631.

ص: 340

المثل بها؛ لأنها كانت من أحبّ الأموال إليهم، وأنفس المتاجر لديهم (فِي غَيْرِ إِثْمٍ) أي في غير ما يوجب إثمًا، كسرقة، وغصب، سمّي موجِب الإثم إثمًا مجازًا (وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ") أي وفي غير ما يوجب قطع رحم، وهو تخصيص بعد تعميم (فَقُلْنَا: يَا رَسُوَلَ اللَّهِ كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ) هكذا في النسخة التي شرح عليها الأبيّ بإثبات لفظة "كلّنا"، ووقع في نسخة شرح النوويّ بحذفها، و"نحبّ" بالنون، ووقع في "جامع الأصول" لابن الأثير:"كلّنا يُحبّ ذلك" بالياء، قاله القاري (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَفَلَا يَغْدُو) أي أيترك ذلك، فلا يغدو (أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيَعْلَمَ) بالنصب على جواب النفي، والرفع بالعطف على "يغدو"، وهو بفتح أوله، وسكون ثانيه، وفتح ثالثه، مضارع عَلِمَ ثلاثيًّا، ووقع في "المصابيح":"فيتعلّم"، وقال الطيبيّ: صحّح في "جامع الأصول" بفتح الياء، وسكون العين، أي فيتعلّم آيتين (أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ)"أو" هنا للشكّ من الراوي. انتهى.

وقال في "المرعاة": "فَيعلم" بالتشديد، وفي نسخة صحيحة بالتخفيف، قاله القاري، قلت: وقع في بعض النسخ من "صحيح مسلم": "فيتعلّم"، وهكذا في "المصابيح".

"أو يقرأ" بالرفع والنصب فيهما، قال القاري: قال ميرك: هذه الكلمة يَحْتَمِل أن تكون عَرْضًا، أو نفيًا، وفيه أن الفاء مانعة من كونها للعرض، ثم قال: وقوله: "فيعلم، أو يقرأ" منصوبان على التقدير الأول، مرفوعان على الثاني، قلت: ويجوز نصبهما على الثاني أيضًا؛ لأنه جواب النفي.

ثم قال: "ويُعَلِّمُ" من التعليم في أكثر نسخ "المشكاة"، وصحَّح في "جامع الأصول" كونه من العلم، وكلمة "أو" تَحْتَمِلُ الشكّ والتنويع. انتهى.

وفي الشرح أنه صحّح في "جامع الأصول""فيَعْلَم" بفتح الياء، وسكون العين، فـ "أو" شكّ من الراوي؛ دفعًا لتوهّم كونه من التعليم، فيكون "أو" للتنويع، كذا ذكره الطيبيّ، وعلى التنويع قوله:(مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل تنازع فيه الفعلان، وقوله: "خير" خبر مبتدأ محذوف: أي هما خيرٌ له، أو الغُدُوّ خير له (خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ) أي من الإبل (وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ) بفتح الهمزة: جمع عدد (مِنَ الْإِبِلِ") بيان لـ "الأعداد".

فقوله: "من أعدادهنّ" متعلّقٌ بمحذوف تقديره: وأكثر من أربع آيات خير

ص: 341

من أعدادهنّ من الإبل، فخمس آيات خير من خمس من الإبل، وكذلك الستّ، والسبع، إلى ما فوقُ، من الأعداد.

وقيل: يَحْتَمِلُ أن يكون المعنى أن آيتين خير من ناقتين، ومن أعدادهما من الإبل، وثلاث خير له من ثلاث، ومن أعدادهنّ من الإبل، وكذا أربعٌ.

والحاصل أن الآيات تُفَضَّل على أعدادهنّ من النوق، وعلى أعدادهنّ من الإبل، كذا ذكره الطيبيُّ

(1)

.

قال القاري رحمه الله: ويوضّحه ما قيل: إنه متعلّق بقوله: "آيتين، وثلاث، وأربعٌ"، ومجرور "أعدادهنّ" عائد إلى الأعداد التي سبق ذكرها، و"من الإبل" بدلٌ من "أعدادهنّ"، أو بيانٌ له، يعني: آيتان خير من عدد كثير من الإبل، وكذلك ثلاث وأربعُ آيات منه؛ لأن قراءة القرآن تنفع في الدنيا والآخرة نفعًا عظيمًا، بخلاف الإبل. انتهى.

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أراد ترغيبهم في الباقيات، وتزهيدهم عن الفانيات، فذكر هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى الفهم، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن تقابل بمعرفة آية من كتاب اللَّه تعالى، أو ثوابها من الدرجات العلى، كذا في "المرقاة"

(2)

.

وقال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد أن أخرج الحديث ما نصّه: هذا الخبر أُضْمِر فيه كلمة، وهي: لو تَصَدَّق بها، يريد بقوله: فيتعلم آيتين من كتاب اللَّه خير من ناقتين وثلاث، لو تصدَّق بها؛ لأن فضل تعلم آيتين من كتاب اللَّه أكبر من فضل ناقتين وثلاث، وعِدَادهن من الإبل، لو تصدق بها؛ إذ محال أن يُشَبَّهَ مَن تعلم آيتين من كتاب اللَّه في الأجر بمن نال بعض حُطام الدنيا، فَصَحّ بما وصفتُ صحة ما ذكرتُ. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1634.

(2)

راجع: "مرقاة المفاتيح" 4/ 615.

(3)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 1/ 321.

ص: 342

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 1873](803) و (أبو داود) في "الصلاة"(1456)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 503 و 504)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 154)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(115)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 799)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3778 و 3779)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1824)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن في حديثي الباب بيانَ فضل قراءة القرآن في الصلاة وغيرها.

2 -

(ومنها): بيان فضل تعلّم القرآن، وتعليمه، وأنه خير من كثير من حُطام الدنيا، بل ومن الدنيا، وجميع ما عليها.

3 -

(ومنها): الحثّ والترغيب في ثواب الآخرة الباقية مقارنًا بمنافع الدنيا الفانية.

4 -

(ومنها): مشروعيّة ضرب الأمثال؛ تقريبًا إلى الأفهام، وتوضيحًا للأحكام، قال القرطبيُّ: مقصود الحديث الترغيب في تعلّم القرآن وتعليمه، وخاطبهم على ما تعارفوه، فإنهم أهل إبل، وإلا فأقلّ جزء من ثواب القرآن، وتعليمه خير من الدنيا، وما فيها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"موضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدنيا وما عليها"، رواه البخاريّ

(1)

.

5 -

(ومنها): الحثّ في كسب الحلال الخالي من الإثم وقطيعة الرحم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

رواه البخاريّ في "صحيحه" رقم (2892).

ص: 343

(43) - (بَابُ فَضْلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَفَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1874]

(804) - (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، وَهُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامِ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ، مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ

(1)

عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"، قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ) الْحَلَبيّ، نزيل طَرَسوس، ثقةٌ حجةٌ عابدٌ [10](ت 241)(خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

3 -

(مُعَاوِيَة بْنَ سَلَّامِ) بن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقةٌ [7] في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

4 -

(زَيْدُ) بن سلّام بن أبي سلّام الدمشقيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

5 -

(أَبُو سَلَّامٍ) ممطور الأسود الحبشيّ، ثقةٌ يرسل [3](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

6 -

(أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ) صُدَيّ -بالتصغير- ابن عَجْلان بن الحارث،

(1)

وفي نسخة: "يحاجّان".

ص: 344

ويقال: ابن وهب، ويقال: ابن عمرو بن وهب بن عَرِيب بن وهب بن رِياح بن الحارث بن مَعْن بن مالك بن أَعْصُر الباهليّ الصحابيّ مشهور بكنيته.

رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبادة بن الصامت، وعمرو بن عَبَسَة، وغيرهم.

ورَوَى عنه سليمان بن حبيب المحاربيّ، ومحمد بن زياد الألهانيّ، وأبو سَلّام الأسود، ومكحول الشامي، وشهر بن حوشب، والقاسم بن عبد الرب، ورجاء بن حَيْوة، وسالم بن أبي الجعد، وخالد بن معدان، وأبو غالب الراسبي، وسليم بن عامر، وجماعة.

قال ابن سعد: سكن الشام، ورَوَى أبو يعلى من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قوم فانتهيت إليهم، وأنا طَاوٍ، وهم يأكلون الدم، فقالوا: هَلُمّ، قلت: إنما جئتُ أنهاكم عن هذا، فنمت وأنا مغلوب، فأتاني آت بإناء فيه شراب، فأخذته وشربته، فكَظَّني بطني، فشَبِعتُ ورَوِيتُ، ثم قال لهم رجل منهم: أتاكم رجل من سَرَاة قومكم، فلم تُتحفوه، فأتوني بلبن، فقلت: لا حاجة لي به، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم، ورواه البيهقي في "الدلائل"، وزاد فيه: أنه أرسله إلى قومه باهلة. وقال ابن حبان كان مع عليّ بصِفّين، مات أبو أمامة الباهليّ سنة ست وثمانين، قال ابن الْبَرقيّ: بغير خلاف، وأثبت غيره الخلاف، فقيل: سنة إحدى، قاله محمد بن سعد، وقال عبد الصمد بن سعيد: ولما مات خَلَف ابنًا يقال له: المغلس، وله -يعني صاحب الترجمة- مائة وست سنين، فقد صحّ عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وأخرج البخاريّ في "تاريخه" من طريق حُميد بن ربيعة: رأيت أبا أمامة خرج من عند الوليد بن عبد الملك في ولايته سنة ست وثمانين، ومات ابنه الوليد سنة ست وتسعين، قال: وقال الحسن -يعني ابن رافع- عن ضمرة في "فضائل الصحابة" لخيثمة من طريق وهب بن صدقة، سمعت جدي يوسف بن حزن الباهليّ، سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول: لما نزلت: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18] قلت: يا رسول اللَّه أنا ممن بايعك تحت الشجرة، قال:"أنت مني وأنا منك"، وأخرج أبو يعلى من طريق رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة: أنشأ

ص: 345

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غَزْوًا، فأتيته، فقلت: ادع اللَّه لي بالشهادة، فقال:"اللهم سَلِّمْهم، وغنّمهم. . . " الحديث

(1)

، وأخرج البيهقيّ من طريق سليمان بن عامر: جاء رجل إلى أبي أمامة، فقال: إني رأيت في منامي الملائكة تصلّي عليك كلما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست. الحديث سنده صحيح، ذكره في "الإصابة"

(2)

.

وقال في "تهذيب التهذيب": وقال سُلَيم بن عامر: قلت له: مثلُ مَن أنت يومئذ -يعني يوم حجة الوداع-؟ قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة، قال ابن عيينة: هو آخر من مات من الصحابة بالشام، وقال إسماعيل بن عيّاش، وأبو اليمان، وأحمد بن محمد بن عيسى، صاحب "تاريخ حمص": مات سنة إحدى وثمانين بحمص، وقال عمرو بن عليّ، وخليفة، وأبو عبيد، وغير واحد: مات سنة (86)، زاد بعضهم: وهو ابن (91) سنة.

قال الحافظ: لا يستقيم هذا القدر من سِنِّه مع قوله: إنه كان يوم حجة الوداع ابن ثلاثين، بل مقتضاه أن يكون جاوز المائة بست سنين، أو أكثر، وقال ابن حبان: كان مع عليّ بصِفِّين، وقال البخاريّ: قال خالد بن خَلِيّ عن محمد بن حرب، عن حميد بن ربيعة: رأيت أبا أُمامة خارجًا من عند الوليد في ولايته. وقال ضمرة: مات عبد الملك سنة (86)، وهذا يُقَوّي قول مَن قال: إن أبا إمامة مات سنة (6). وفي الطبراني من طريق راشد بن سعد وغيره، عن أبي أُمامة ما يدلّ على أنه شَهِدَ أحُدًا، لكن إسناده ضعيف

(3)

.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط

(4)

، برقم (804) و (832) و (1036) و (2074) و (2765)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

رواه أحمد في "مسنده" 5/ 204، والطبراني في "الكبير" 19/ 89، والبيهقيّ في "دلائل النبوّة" 2/ 186، قال الحافظ الهيثميّ: رجال أحمد رجال الصحيح.

(2)

"الإصابة" 3/ 339 - 340.

(3)

"تهذيب التهذيب" 2/ 209 - 210.

(4)

والذي ذكره ابن الجوزيُّ في "المجتبى" أن له (250) حديثًا، أخرج البخاريّ منها خمسة، ومسلم ثلاثة، فليُحرّر.

ص: 346

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالشاميين، سوى شيخيه، فالأول حلوانيّ، نزيل مكة، والثاني طرسوسيّ، نزيل بغداد.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره، غير موضع.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الراوي، عن أخيه، عن أبيهما.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه مشهور بكنيته، وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وهذا أول محلّ ذكره، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالشام، ومن المعمّرين، عاش أكثر من تسعين سنة، أو جاوز المائة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ زَيْدٍ) هو ابن أبي سلّام (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ) أباه، وهو ممطور (يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ) صُديّ بن عجلان (الْبَاهِلِيُّ) منسوب إلى قبيلة باهلة (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ) أي اغتنموا قراءته، وداوموا عليه (فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل، أي لأن القرآن (يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ) أي لمَلازمي قراءته، وذلك بأن يتمثّل بصورة يراه الناس، كما يجعل اللَّه تعالى لأعمال العباد صورةً ووزنًا لتوضع في الميزان، واللَّه على كلّ شيء قدير.

وبالجملة فما دلّ عليه ظاهر النصّ لا ينبغي العدول عنه، فعلى المؤمن أن يقبل هذا وأمثاله، ويعتقد أنه لا دخل للعقل في مثل هذا، بل يُسلّم تسليمًا، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ) تثنية الزهراء، تأنيث الأزهر، وهو المضيء الشديد الضوء، أي السورتين المنيرتين، سُمّيتا بالزهراوين؛ لنورهما وهدايتهما، وعِظَم أجرهما لقارئهما، قال في "القاموس": وزَهَرَ السراج، والقمرُ، والوجه كمَنَعَ زُهُورًا: تلألأ كازدهر، والنار أضاءت، وقال أيضًا: وقد زَهُرَ، كفَرِحَ، وكَرُمَ. انتهى

(1)

.

(1)

"القاموس المحيط" 2/ 43.

ص: 347

وقال في "المصباح": وزَهَرَ الشيءُ يَزْهَرُ بفتحتين: صفا لونه وأضاء، وقد يُستعمل في اللون الأبيض خاصّةً، وزَهِرَ الرجل، من باب تَعِبَ: ابيَضَّ، فهو أزهر. انتهى

(1)

.

فكأنهما بالنسبة إلى ما عداهما من السور كنسبة القمرين إلى سائر الكواكب، ولا شكّ أن نور كلام اللَّه أشدّ وأكثر ضياء من جميع الأنوار الكونيّة، وكلّ سورة من سُوَر القرآن زهراء؛ لما فيها من نور بيان الأحكام والمواعظ وغير ذلك من الفوائد، ولما فيها من شفاء الصدور وتنوير القلوب، وتكثير الأجر لقارئها، إلا أن النور الذي في هاتين السورتين أشدّ وأقوى، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ) بالنصب على البدليّة، أو بتقدير "أعني"، ويجوز رفعهما، وسُمّيتا زهراوين؛ لكثرة أنوار الأحكام الشرعيّة، والأسماء الحسنى الإلهيّة فيهما، وذكر السورة في الثانية دون الأولى إشارة إلى بيان جواز كل منهما (فَإِنَّهُمَا) أي السورتان، وقيل: ثوابهما الذي استحقّه التالي لهما العامل بهما، والأول هو الصواب، فإنهما يتصوّران، ويتشكّلان، ويتجسّدان على الحقيقة على ما أسلفناه (تَأْتِيَانِ) أي تحضران (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ) بفتح الغين المعجمة، وتخفيف الميم: أي سحابتان تظلّان صاحبهما عن حرّ الموقف، وإنما سُمّي غَمَامًا؛ لأنه يَغُمّ السماء، أي يسترها (أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ) تثنية غَيَاية، بفتح الغين المعجمة، وتخفيف الياءين من تحتُ، وهي كل شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، من سحابة، أو غَبَرَة، أو غيرهما، قاله الجزريُّ.

وقال المناويُّ: هي ما أظلّ الإنسان فوقه، وأراد به ما له صفاء وضوء؛ إذ الغياية ضوء شُعاع الشمس.

وقال القاري رحمه الله: قيل: الغمامة ما يغُمّ الضوء، ويمحوه؛ لشدّة كثافته، والغياية ما يكون أدون من الغمامة في الكثافة، وأقرب إلى رأس صاحبه، كما يُفعل بالملوك، فيحصُل عنده الظلّ والضوء جميعًا.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 258.

ص: 348

وقال الحفنيُّ: "غيايتان": أي لهما نورٌ وضياء زيادةً على حصول الاستظلال بهما فهو أبلغ مما قبله؛ لأن غايته إنهما يُظلّان كالسحابتين، وليس فيهما نور. انتهى.

(أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ) تثنية فِرْق -بكسر الفاء، وسكون الراء-: أي قَطِيعان، يعني طائفتان وجماعتان (مِنْ طَيْرٍ) جمع طائر (صَوَافَّ) جمع صافّة، وهي الجماعة الواقفة على الصفّ، تقول: صَفَفْتُ القومَ: إذا أقمتهم في الحرب وغيرها على خطّ مستوٍ، وَصَفّت الإبل قوائمها: أي وضعتها صفًّا، فهي صافّةٌ، وصوافُّ، وصفّ الطائر جناحيه: أي بسطهما، ولم يُحرِّكهما.

والمعنى: باسطات أجنحتها متّصلًا بعضها ببعض، بحيث لا يكون بينها فرجة، والمراد أنهما يقيان قارئهما من حرّ الموقف، وكَرْب يوم القيامة، وليست "أو" للشكّ، ولا للتخيير في تشبيه السورتين، ولا للترديد، بل للتنويع، وتقسيم القارئين، فالأول لمن يقرؤهما، ولا يفهم المعنى، والثاني للجامع بين التلاوة ودراية المعنى، والثالث لمن ضمّ إليهما التعليم والإرشاد.

وقال الطيبيُّ: "اقرءوا الزهراوين" الزهراء تأنيث الأزهر، وهو المضيء، ويقال للنيّرين: الأزهران، مَثَّلَ حِرَاسة السورة إياه، وخلاصه ببركتهما عن حرّ الموقف، وكرب القيامة بإظلال أحد هذه الأشياء الثلاثة.

و"الغمامة": السحابة، و"الغيايةُ": كلُّ شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، مثلُ السحابة وغيرها، يقال: غياي القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلّوه، كذا في "الغريبين"، و"الْفِرْقَان": القطعتان، والْفِرْق، والفريق، والْفِرْقة: القطعة، و"الصّوَافُّ": الباسطات أجنحتها متّصلًا بعضها ببعض، جمع صافّة.

وقال البغويُّ في "شرح السنّة": "أو" في الحديث للتنويع لا لشكّ الراوي؛ لاتّساق الروايات كلِّها على هذا الوجه، قالوا: الأول لمن يقرؤهما ولا يفهم معناهما، والثاني لمن وُفّق للجمع بين تلاوة اللفظ دراية المعنى، والثالث لمن ضمّ إليهما تعليم المستعدّين، وبيان حقائقهما لهم، لا جَرَمَ تتمثّل له يوم القيامة مساعيه طُيُورًا صَوَافّ يحرسونه ويُحاجّون عنه. انتهى.

قال الطيبيُّ: وإذا تحقّق التفاوت في المشبّهات يلزم التفاوت في المشبّه بها، فالتظليل بالغمامة دون التظليل بالغياية، فإن الأول عامّ في كلّ أحد،

ص: 349

والثاني مختصّ بمثل الملوك، والثالث مختصّ بمن دعا بقوله:{وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} الآية [ص: 35]، ثم في هذا التشبيه من الغرابة أن شبّههما أوّلًا بالنيّرين في الإشراق، وسطوع النور، وثانيًا بالغمامة والغياية، وبما يُنبئ عما يخالف النور من الظلّ والسواد، كما في الحديث الذي يلي هذا الحديث:"أو ظُلّتان سَوْداوان"، فآذن بهما أن تينك المظلّتين على غير ما عليه المظلّة المتعارفة في الدنيا، فإنها وإن كانت لدفع كرب الحرّ عن صاحبها ولتكرمته، لكن لم تخلُ عن نوع كدورة وشائبة نَصَب، وتلك -رزقنا اللَّه منها- مبرّأةٌ عن ذلك؛ لكونها كالنيّرين في النور والإشراق، مسلوبتي الحرارة والكرب، وآذن بالتشبيه الثالث أنهما مع كونهما مشرقتين مشبّهتين بمظلّة نبيّ اللَّه، ثم بولغ فيه فزيد "تحاجّان"؛ ليُنبّه به على أن ذينك الفريقين من الطير على غير ما عليه طير نبيّ اللَّه من كونهما حامتين صاحبهما عما يسوؤه، شبّههما أوّلًا بالنيّرين؛ ليُنبّه على أن مكانهما مما عداهما مكان القمرين بين سائر النجوم فيما ينشعب منهما لذوي الأبصار، ثم أوقع قوله:"البقرة وآل عمران" بدلًا منهما مبالغة في الكشف والبيان، كما تقول: هل أدلّك على الأكرم الأفضل فلان، وهو أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلّك على فلان الأكرم الأفضل؛ لأنك ثَنَّيتَ ذِكْرَهُ مجملًا أوّلًا، ومفصّلًا ثانيًا، وأوقع البقرة وآل عمران تفسيرًا وإيضاحًا لـ "الزهراوين"، فجعلهما عَلَمين في الإشراق والإضاءة، ثم إن هذا البيان أخرج "الزهراوين" من الاستعارة إلى التشبيه، كقوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} الآية [البقرة: 187]، وهو مع كونه تشبيهًا أبلغ من الاستعارة؛ لادّعاء أنه مفسّر مبيّن للمبهم. انتهى كلام الطيبيُّ

(1)

.

(تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا) وفي بعض النسخ: "يُحاجّان" بالياء: أي تدافع السورتان عن قارئهما الجحيم والزبانية، أو تُجادلان، وتخاصمان الربّ عز وجل، وهو كناية عن المبالغة في الشفاعة، قاله القاري.

وقال التوربشتيّ: الأصل في الْمُحاجّة أن يطلُب كل واحد من

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1641 - 1642.

ص: 350

المتخاصمين أن يردّ صاحبه عن حجّته ومَحَجّته، وأريد به ها هنا مُدافعة السورتين عن صاحبهما، والذّبّ عنه.

وقال الشوكانيّ: "يُحاجّان" أي يُقيمان الحجّة لصاحبهما، ويُجادلان عنه، وصاحبهما هو المستكثر من قراءتهما.

وظاهر الحديث أنهما يتجسّمان حتى تكونا كأحد هذه الأشياء الثلاثة التي شبّههما بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يُقدرهما اللَّه تعالى على النطق بالحجة، وذلك غير مستبعد من قدرة القادر القويّ الذي يقول للشيء {كُنْ فَيَكُونُ} . انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله الشوكانيُّ من كونهما يتصوّران حقيقة، هو الحقّ، وأما ما قاله النووي من أن المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين، ففيه نظر لا يخفى، فما الذي أدّاه إلى ترك ما دلّ عليه ظاهر النصّ؟، ومثله ما طوّل به القرطبيّ نفسه في "المفهم" مما لا ينبغي الالتفات إليه، فتنبّه.

والحاصل أن حمل ظواهر الكتاب والسنّة على ما يقتضيه ظاهرها إذا أمكن هو الحقّ، ولا يصار إلى التأويل إلا أن يأتي دليل يصرفها عن الظاهر، كما في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لَمّا نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] الآية، فقد فهم الصحابة رضي الله عنهم من الآية عموم الظلم، وأقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على فهمهم، ولكن بيّن لهم المراد هنا بأنه الشرك، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ) قال الطيبيُّ: هذا تخصيص بعد تخصيص، بعد تعميم، عَمّم أوّلًا بقوله:"اقرءوا القرآن"، وعلَّق به الشفاعة، ثم خَصّ الزهراوين، وأناط بهما التخليص من كرب حرّ يوم القيامة والمحاجّة عن أصحابهما، وأفرد ثالثًا "البقرة"، وضمّ إليها المعاني الثلاثة الآتية؛ إشارةً إلى أن لكل خاصّيّةً لا يَقِف عليها إلا صاحب الشرع. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّ أَخْذَهَا) أي المواظبة على تلاوتها، والتدبّر في معانيها، والعمل بما فيها (بَرَكَةٌ) أي زيادة ونماء، وقيل: أي منفعةٌ عظيمة (وَتَرْكَهَا) بالنصب،

(1)

راجع: "الكاشف" 5/ 1642.

ص: 351

ويجوز الرفع (حَسْرَةٌ) أي تلَهُّفٌ وتأسّفٌ على ما فات من الثواب، وقيل: ندامة يوم القيامة (وَلَا تَسْتَطِيعُهَا) أي لا يقدر على تحصيلها (الْبَطَلَةُ") -بفتح الباء الموحّدة، والطاء المهملة- أي أصحاب البطالة والكسالة؛ لطولها، ولتعوّدهم الكسل (قَالَ مُعَاوِيَةُ) بن سلّام الراوي عن زيد بن سلّام، موضّحًا معنى "الْبَطَلَة" (بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ) بفتحات: جمع ساحر، ككافر وكفَرَة، كما قال في "الخلاصة":

وَشَاعَ نَحْوُ كَامِلٍ وَكَمَلَهْ

قال في "الكاشف": "الْبَطَلَةُ": السّحرة، عبّر عن السَّحَرَة بالبَطَلَة؛ لأن ما يأتون به باطلٌ، فسمّوا باسم فعلهم الباطل، وإنما لم يقدروا على حفظها، ولم يستطيعوا قراءتها، لزيغهم عن الحقّ، واتّباعهم للوساوس، وانهماكهم في الباطل.

قال الطيبيّ: ويَحْتَمِل أن يراد بـ "البطَلَةِ" المؤاخذون من سَحَرَة البيان، حيث تحدّى فيها بقوله:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} الآية [البقرة: 23] فأُفحموا، وعَجَزوا، وهو من قوله صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان لسحرًا"، رواه البخاريّ.

وقيل: أراد بـ "البَطَلَة" أصحاب البطالة، أي لا يستطيع قراءة ألفاظها، وتدبّر معانيها، والعمل بأوامرها ونواهيها أصحاب البطالة والكسالة. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي أُمامة الباهليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1874 و 1875](804)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5991)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 249 و 254 و 257)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3933)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1825)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7544)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 564)،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1642.

ص: 352

و (ابن حبّان) في "صحيحه"(116)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 395)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1193)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل قراءة القرآن، وأنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه الملازمين لتلاوته العاملين به.

أخرج الإمام أحمد، والدارميّ بسند حسن، عن عبد اللَّه بن بُريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول:"تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البَطَلَة"، قال: ثم مكث ساعةً، ثم قال:"تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظِلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فِرْقان من طير صَوَافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كلَّ تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كلِّ تجارةٍ، فيُعْطَى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكْسَى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذه؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها، فهو في صعودٍ ما دام يَقْرَأ هَذًّا كان أو ترتيلًا"

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان فضل سورة البقرة، وآل عمران، وبيان محاجّتهما عن أصحابهما.

3 -

(ومنها): بيان فضل قراءة سورة البقرة، وأن أخذها بركة لأصحابها، وتركة حسرة، وأن البَطَلَة لا يستطيعونها.

(1)

حديث حسنٌ، أخرجه أحمد في "مسنده"(22441)، والدارميّ في "مسنده"(3257)، وفي سنده بشير بن المهاجر، وثقه ابن معين، وغيره، وتكلّم فيه بعضهم، فهو حسن الحديث، وقد صحّح الحديث الشيخ الألباني رحمه الله. انظر:"السلسلة الصحيحة" 6/ 792.

ص: 353

4 -

(ومنها): أن فيه جوازَ قول "سورة البقرة"، و"سورة آل عمران"، و"سورة النساء"، و"سورة المائدة"، وشبهها، ولا كراهة في ذلك، وكرهه بعض المتقدمين، وقال: إنما يقال: السورة التي يُذْكَر فيها آل عمران، والصواب الأول، وبه قال الجمهور؛ لأن المعنى معلوم، قاله النوويُّ

(1)

.

وقال الإمام البخاريّ في "صحيحه": "باب من لم يَرَ بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا".

قال في "الفتح": أشار بذلك إلى الردّ على من كَرِه ذلك، وقال: لا يقال إلا: السورة التي يُذْكَر فيها كذا.

قال القاضي عياض: حديث أبي مسعود رضي الله عنه حجة في جواز قول سورة البقرة ونحوها، وقد اختُلِف في هذا، فأجازه بعضهم، وكرهه بعضهم، وقال: تقول: السورة التي تُذكر فيها البقرة.

وأقوى في ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث: "اقرءوا الزهراوين: البقرة، وسورة آل عمران"، وقوله:"اقرءوا سورة البقرة"، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال النوويُّ في "الأذكار": يجوز أن يقول: "سورة البقرة"، إلى أن قال:"وسورة العنكبوت"، وكذلك الباقي، ولا كراهة في ذلك، وقال بعض السلف: يكره ذلك، والصواب الأول، وهو قول الجماهير، والأحاديث فيه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحْصَر، وكذلك عن الصحابة، فمن بعدهم.

قال الحافظ رحمه الله: وقد جاء فيما يوافق ما ذهب إليه البعض المشار إليه حديثٌ مرفوعٌ عن أنس رضي الله عنه رفعه: "لا تقولوا: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء"، وكذلك القرآن كله، أخرجه أبو الحسين بن قانع في "فوائده"، والطبرانيّ في "الأوسط"، وفي سنده عُبيس بن ميمون العطار، وهو ضعيف، وأورده ابن الجوزيّ في "الموضوعات"، ونَقَلَ عن أحمد أنه قال: هو حديث منكر.

قال: وقد تقدّم في "باب تاليف القرآن" حديثُ يزيد الفارسيّ، عن ابن

(1)

"شرح مسلم" 6/ 90.

ص: 354

عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ضَعُوها في السورة التي يُذكر فيها كذا".

قال ابن كثير في "تفسيره": ولا شك أن ذلك أحوط، ولكن استقرّ الإجماع على الجواز في المصاحف والتفاسير.

قال: وقد تمسك بالاحتياط المذكور جماعة من المفسرين، منهم أبو محمد بن أبي حاتم، ومن المتقدمين الكلبيّ، وعبد الرزاق.

ونقل القرطبيّ في "تفسيره" عن الحكيم الترمذيّ أن من حرمة القرآن أن لا يقال: سورة كذا، كقولك "سورة البقرة"، و"سورة النحل"، و"سورة النساء"، وإنما يقال: السورة التي يُذكر فيها كذا.

وتعقبه القرطبيّ بأن حديث أبي مسعود رضي الله عنه يعارضه.

قال: ويمكن أن يقال: لا معارضة مع إمكان الجمع، فيكون حديث أبي مسعود ومن وافقه دالًّا على الجواز، وحديث أنس إن ثبت محمول على أنه خلاف الأولى. انتهى كلام الحافظ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا من الحافظ عجيب، فكيف يجمع بين حديث ضعيف، وبين أحاديث صحيحة أخرجها الشيخان وغيرهما؟ على أن ما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة قال به الجماهير، وما ذهب إلى الكراهة إلا قوم شذوذ، إن هذا لهو العجب العُجاب.

والحاصل أن قول "سورة البقرة"، و"سورة آل عمران"، و"سورة النساء"، ونحو ذلك جائز بلا كراهة، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1875]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا

(2)

يَحْيَى، يَعْنِي ابْنَ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُعَاوَيةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"وَكَأَنَّهُمَا" فِي كِلَيْهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُعَاوِيَةَ: بَلَغَنِي).

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 355

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنْديّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجة [11](ت 255) وله (74) سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) التِّنِّيسيّ البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

و"معاوية" بن سلّام ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد معاوية بن سلّام الماضي، وهو: عن زيد، عن أبي سلّام، عن أبي أمامة رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية يحيى بن حسّان، عن معاوية بن سلّام هذه لم أجد ما ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1876]

(805) - (حَدَّثَنَا

(1)

إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ"، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ، مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ:"كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ، بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ، مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسَجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 356

2 -

(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ) الزُّبَيدِيّ، أبو الفضل الْحِمْصيّ المؤذن الْجُرْجُسِيّ -بجيمين مضمومتين، بينهما راء ساكنة، ثم مهملة- ثقةٌ [10].

رَوَى عن الوليد بن مسلم، ومحمد بن حرب الْخَولانيّ، وعقبة بن علقمة البيروتيّ، وبقية بن الوليد، ووكيع، والمعافى بن عمران، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو داود، وروى مسلم، والنسائيّ، وابن ماجه له بواسطة إسحاق بن منصور الْكَوْسَج، وعمران بن بكار الحمصيّ، ومحمد بن يحيى الذُّهْليّ، ومحمد بن عوف الطائيّ، وحدث عنه يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازيّ، وأبو زرعة الدمشقيّ، وأحمد بن الحسن الترمذيّ، وعثمان الدارميّ، ومحمد بن مسلم بن وَارَةَ، وحفص بن عمر شيخه، وغيرهم.

قال الأثرم: سمعت أحمد يُسأل عنه، فأثنى عليه، وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: لا إله إلا إللَّه ما كان أثبته، ما كان فيهم مثله، يعني أهل حمص، وقال إبراهيم بن الجنيد: سئل ابن معين عن حيوة بن شُريح، ويزيد بن عبد ربه، فقال: ثقتان، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، صاحب حديث، وقال محمد بن عوف: سمعت حيوة بن شُريح يقول: أنا ويزيد بن عبد ربه مَن خالفنا عَطِبَ، وقال أبو حاتم: كان صدوقًا أيقظ من حيوة بن شُريح، وقال أبو بكر بن أبي داود: حمصيّ ثقةٌ، أوثق مَن روى عن بقية، وقال ابن أبي حاتم: كان ينزل بحمص عند كَنِيسة جُرْجُس، فنُسب إليها، وقال يعقوب بن سفيان: سمعته يقول: أنا رجل من العرب، وقد ابتُلِيت بهذه الكنيسة، أنسَبُ إليها، ووثقه العجليّ.

وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربع وعشرين ومائتين، وقال يزيد بن عبد ربه: وُلدتُ سنة ثمان وستين ومائة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (805)، وحديث (1471):"مره فليُراجعها حتى تحيض حيضة أخرى. . . ".

3 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القُرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

ص: 357

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ) بن أبي مسلم دينار الأنصاريّ الشاميّ، أخو عمرو بن مهاجر، مولى أسماء بنت يزيد الأشهلية، ثقةٌ [7].

رَوَى عن أخيه عمرو، وأبيه مهاجر، والوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشيّ، والعباس بن سالم، وعُروة بن رُوَيم اللَّخْميّ، وربيعة بن يزيد، ويحيى بن يزيد الرُّهاويّ، وجماعة.

ورَوَى عنه عبد الملك بن أبي عُتبة، وإسماعيل بن عياش، وابن عيينة، وعثمان بن سعيد الحمصيّ، وأبو مُسهِر عبد الأعلى، ومسكين بن بكير، ومروان بن محمد الطَّاطَريّ، والوليد بن مسلم، وهشام بن سعيد الطالقاني، ويحيى بن صالح الوُحَاظيّ، وأبو تَوْبة الربيع بن نافع الحلبيّ، وآخرون.

قال أحمد، وابن معين، ودُحَيم، وأبو زرعة الدمشقيّ، وأبو داود: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، وأخوه عمرو ثقة، ولهما أحاديث كِبَار حِسَانٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال العجليّ: شاميّ ثقةٌ، وأخوه عمرو شاميّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان متقنًا.

وقال الهيثم بن خارجة وغيره: مات سنة سبعين ومائة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

5 -

(الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيُّ) -بضمّ الجيم، وبالشين المعجمة- الْحِمصيّ الزّجّاج، كان على خراج الْغُوطَة أيام هشام، ثقةٌ [4].

رَوَى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي أُمامة، وجُبير بن نُفير، والحارث بن أوس الثقفيّ، وعياض بن غُطَيف، وغيرهم.

ورَوَى عنه يعلى بن عطاء، وإبراهيم بن أبي عَبْلة، وداود بن أبي هند، وبشار بن أبي سيف، وإبراهيم بن سليمان الأفطس، ومحمد بن مهاجر، وعبد اللَّه بن العلاء بن زَبْر، وغيرهم.

قال الغلابيّ، عن ابن معين: رَوَى داود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشيّ، وهو ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: ثقةٌ، وكان ممن قَدِمَ على الحجاج، وقال أبو زرعة الدمشقيّ في الطبقة الثالثة: قديمٌ جَيِّد الحديث، وقال أبو حاتم، ومحمد بن عون: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 358

وقال البخاريّ: الوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشيّ مولى لأبي سفيان الأنصاريّ، قاله أبو شعيب، وأراه الوليد بن أبي مالك، قال ابن عساكر: هذا وَهَمٌ، وكذا قوله: مولى لأبي سفيان، فإنه عربيّ.

قال الحافظ: ويجوز أن يكون مولى بالْحِلْف، وإن كان عربيّ الأصل، فقد تابع البخاريَّ على ما قال أبو حاتم، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان.

أخرج له البخاري في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ) -مصغّر الاسمين- ابن مالك بن عامر الْحَضْرميّ الْحِمْصيّ، ثقةٌ جليلٌ مخضرمٌ [21] ولأبيه صحبة (ت 80) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

7 -

(النَّوَّاسُ

(1)

بْنُ سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ) ويقال: الأنصاريّ الصحابيّ المشهور، قال بعضهم: هو ابن سمعان بن خالد بن عبد اللَّه بن أبي بكر بن كلاب.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو إدريس الخولانيّ، وجُبير بن نُفير الحضرميّ.

قال ابن عبد البرّ: يقال: أبوه وفد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا له وتزوج أخته، فلما دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم تعوّذت منه، فتركها، وهي الكلابية، وقال أبو حاتم الرازيّ، وأبو أحمد العسكريّ: إن النّوّاس سكن الشام.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا برقم (805)، وحديث (2553):"البرّ حسن الخلق. . . "، وأعاده بعده و (2937):"ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول اللَّه ذكرتَ الدجّال. . . " الحديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

بتشديد الواو، آخره سين مهملة.

ص: 359

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالشاميين، غير شيخه، فمروزيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس لى في الكتب الخمسة إلا خمسة أحاديث، راجع:"تحفة الأشراف"(8/ 297 - 299)، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) بتصغير الاسمين أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّوَّاسَ) بفتح النون، وتشديد الواو (ابْنَ سَمْعَانَ) قال النوويُّ: يقال: سَمْعان بكسر السين وفتحها. انتهى

(1)

. وقال في "القاموس" و"شرحه": "وسِمْعانُ" بكسر السين، والعامّة تفتحها

(2)

. (الْكِلَابِيَّ) بكسر الكاف، وتخفيف اللام: نسبة إلى قبيلة معروفة

(3)

. (يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ") بالبناء للمفعول، قيل: مصوّرًا بثوابه، والصواب كما سبق إبقاء النصّ على ظاهره، فيأتي القرآن نفسه، وفي رواية الترمذيّ:"يأتي القرآن"(يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلِهِ) بالجرّ عطفًا على "القرآن"(الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ) هذا إعلام بأن من قرأ القرآن، ولم يعمل به، فلم يُحرِّم حرامه، ولم يُحلِّل حلاله، ولم يعتقد عَظَمته ليس من أهله، ولا يكون القرآن شفيعًا له يوم القيامة، بل يكون حجة عليه، كما تقدّم في حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعًا:"القرآن حجة لك أو عليك".

وأخرج الدارميّ عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنه قال: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن لكم ذكرًا، وكائن بكم نورًا، وكائن عليكم وِزْرًا، اتبعوا القرآن، ولا يتبعكم القرآن، فإنه من يَتَّبعِ القرآن يَهْبِط به في رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن يَزُخُّ

(4)

في قفاه، فيقذفه في جهنم".

(تَقْدُمُهُ) بضمّ الدال، يقال: قَدَمتُ القومَ قَدْمًا، من باب نصر: إذا تقدّمتهم، أي تتقدّم القرآنَ، قال الطيبيُّ: الضمير في "تقدُمهُ" للقرآن، أي يتقدّم

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 91.

(2)

"تاج العروس" 5/ 387.

(3)

راجع: "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 269.

(4)

أي يدفع.

ص: 360

ثوابُهما ثوابَ القرآن، وقيل: يُصوّر القرآن صورة تجيء يوم القيامة بحيث يراها الناس كما تُصوّر أعمال العباد خيرها وشرّها صورةً توضع في الميزان، ومثل ذلك يجب اعتقاده إيمانًا، فإن العقل يعجَزُ عن أمثاله. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: القول الثاني هو الصواب، وأما القول بأن الذي يأتي هو ثواب القرآن، فقدّمنا ضعفه، فلا تغفل، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

(سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ") بالجرّ عطفًا على "البقرةِ"، وقيل: بالرفع عطفًا على "سورةُ"(وَضَرَبَ لَهُمَا) أي للسورتين (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ) قال القرطبيُّ: هذا يدلّ على أن "أو" ليست للشكّ؛ لأنه مثّل السورتين بالأمثال الثلاثة، فيَحْتَمِل أن يكون بمعنى الواو كما يقول به الكوفيّون، وأنشدوا عليه قوله [من البسيط]:

نَالْ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا

كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ

وقوله [من الطويل]:

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ

لِنْفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا

وحملوا عليه في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} الآية [البقرة: 19].

وقال البصريّون: إنها بمعنى الإباحة، فكأنه قال: شَبّهُوهم بكذا وبكذا، وهذا الخلاف جارٍ في هذا الحديث؛ لأنها أمثالٌ معطوفة بـ "أو"، فهي مثل {أَوْ كَصَيِّبٍ} . انتهى

(1)

.

(مَا) نافية (نَسِيتُهُنَّ) أي الأمثال الثلاثة (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها، أي ما سمعت ضربه صلى الله عليه وسلم لها، وقوله:(قَالَ) مبيّنًا لتلك الأمثال ("كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ) تثنية غَمَامة، كسحابة وزنًا ومعنى، أو هي البيضاء، جمعه غَمَامٌ، وغَمَائم

(2)

. (أَوْ ظُلَّتَانِ) بالضمّ: أي سحابتان (سَوْدَاوَانِ) تثنية سوداء، وُصِفتا بالسواد لكثافتهما، وتراكم بعضهما على بعض، وذلك أنفع من يكون من الظلال (بَيْنَهُمَا شَرْقٌ) -بفتح الشين المعجمة، وسكون الراء، بعدها قاف-، وقد روي بفتح الراء، والأول أشهر، كما قال النوويُّ، أي ضياء، ونور

(3)

.

(1)

"المفهم" 2/ 432 - 433.

(2)

راجع: "القاموس" 4/ 157.

(3)

راجع: "شرح النووي" 6/ 91.

ص: 361

وقال في "المفهم": قال القاضي عياضٌ رحمه الله: رويناه بسكون الراء وفتحها، قيل: هو الضياء والنور، قال القرطبيّ: والأشبه أن الشرق بالسكون بمعنى المشرق، يعني أن بين تلك الظلّتين السوداوين مشارق أنوار، وبالفتح هو الضياء نفسه، وإنما نبّه في هذا الحديث على هذا الضياء؛ لأنه لَمّا قال: سوداوان قد يُتَوَّهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك بقوله:"بينهما شرق"، أي مشارق أنوار، أو أنوار حسبما قرّرناه، ويعني بهما سوداوين، أي من كثافتهما التي بسببهما حالتا بين من تحتهما، وبين حرارة الشمس، وشدّة اللَّهَب. انتهى

(1)

.

وقال في "الكاشف": قوله: "بينهما شرق": أي ضوء، وهو الشمس والشقّ أيضًا، وفي "الفائق": هو من قولهم: شاة شرقاء: أي بينهما فرجة وفصلٌ؛ لتميّزهما بالبسملة.

وقال التوربشتيّ: إنما وصفهما بالسواد؛ لكثافتهما، وارتكام بعضهما على بعض، وذلك أجدى ما يكون من الظلال في الأمر المطلوب عنهما، ثم بيّن صلى الله عليه وسلم بقوله:"بينهما شرق" أنهما مع ارتكامهما وكثافتهما لا يستُران الضوء، ولا يمحوانه، فعلى هذا الأشبه أن لا يراد بالشرق الشقّ، ولأنه استغنى بقوله:"ظلّتان" عن بيان البينونة. انتهى

(2)

.

(أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ) بكسر الحاء المهملة، وسكون الزاي: أي جماعة، قال في "القاموس": الْحِزْقُ والْحِزْقَةُ بكسرهما، والحازِقَة، والْحَزِيقُ، والْحَزِيقةُ، والْحَزَاقَةُ: الجماعة، والْحَزِيقةُ: الْحَدِيقةُ، والقِطْعة من كل شيء، جمعه: حَزَائق، وحَزِيقٌ، وحُزُقٌ. انتهى

(3)

.

فهو بمعنى قوله في الحديث الماضي: "فِرْقَان".

وقوله: (مِنْ طَيْرٍ) بيان لـ "حِزْقان"(صَوَافَّ) جمع صافّة: أي باسطات أجنحتهنّ متلاصقات بعضها ببعض، كما كانت تظلّ سليمان عليه السلام (تُحَاجَّانِ عَنْ

(1)

"المفهم" 2/ 433.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1642 - 1643.

(3)

"القاموس" 3/ 221.

ص: 362

صَاحِبِهِمَا") أي تدافعان بالحجة عن قارئهما الملازم لتلاوتهما، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث النّوّاس بن سِمْعان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 1876](805)، و (الترمذيّ) في "كتاب فضائل القرآن"(2883)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 183)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3934 و 3935)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1826)، واللَّه تعالى أعلم.

وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت في شرح حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه الذي قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(44) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ الْفَاتِحَةِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْحَثِّ عَلَى قِرَاءَتِهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1877]

(806) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَحْمَدُ بْنُ جَوَّاسٍ الْحَنْفِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "بَيْنَمَا جِبْرِيلُ

(1)

قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ

(2)

قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ

(3)

قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ").

(1)

وفي نسخة: "جبرائيل".

(2)

وفي نسخة: "ولم يُفتح".

(3)

وفي نسخة: "ولم يَنزل".

ص: 363

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) الْبَجَليّ، أبو عليّ الكوفيّ الْبُورَانيّ، ثقةٌ [10](ت 2 أو 221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ جَوَّاسٍ الْحَنْفِيُّ) أبو عاصم الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

3 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

4 -

(عَمَّارُ بْنُ رُزيقٍ) -بتقديم الراء، مصغّرًا- الضبيّ، أو التميميّ، أبو الأحوص الكوفيّ، ثقةٌ [7](ت 159)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى) بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ، أبو محمد الكوفيّ، وكان أكبر من عمه محمد، ثقةٌ فيه تشيّعٌ [6].

رَوَى عن جده عبد الرحمن، وأبيه عيسى، وأمية بن هند المزنيّ، وسعيد بن جبير، وعبد اللَّه بن أبي الجعد الغطفانيّ، والزهريّ، وموسى بن عبد اللَّه بن يزيد الخطميّ، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم.

وروى عنه عمه محمد، وابن ابنه عيسى بن المختار بن عبد اللَّه بن عيسى، وإسماعيل بن أبي خالد، والسفيانان، وشعبة، وشريك، وغيرهم.

قال عليّ بن حكيم: سمعت شريكًا يُثْني على عبد اللَّه بن عيسى، وقال في رواية: كان رجل صدق، وكان يُعَلِّم محتسبًا، وقال ابن عيينة: ثنا عمارة بن القعقاع بن شُبْرُمة وعبد اللَّه بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبى ليلى، وكانوا يقولون: هما أفضل من عمهما، وقال ابن معين: ثقة، وقال في رواية: كان يَتَشَيَّع، وقال أبو الحسن بن الْبَرّاء عن ابن المديني: هو عندي منكر الحديث، وقال ابن خِرَاش: هو أوثق ولد أبي ليلى. وقال النسائي: ثقة ثبت، وقال العجلي: ثقة، وقال الحاكم: هو من أوثق آل أبي ليلى، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وذكر أبو إسحاق الحربيّ في "العلل" أنه لم يسمع من جَدِّه، قال الحافظ: وهو قول مردود، أوردته لأُنَبِّه عليه، فحديثه عن جدّه في "الصحيح".

قال جعفر الطيالسيّ عن ابن معين: مات سنة خمس وثلاثين ومائة.

ص: 364

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (806)، وحديث (820):"أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف. . . " الحديث.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 95) ولم يكمل الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما، مات (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّفاقهما في التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه أحمد بن جوّاس، فانفرد به هو، وأبو داود، وعمار بن رُزيق، فما أخرج له البخاريّ، والترمذي.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، وقد تقدم غير مرة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: "بَيْنَمَا جِبْرِيلُ) وفي نسخة: "جبرائيل"، وقد تقدم الكلام على "بينما" غير مرة، وهي "بين" زيدت عليها "ما"، وتضاف إلى جملة، وتتضمّن معنى الشرط، فتحتاج إلى جواب يتم به معناها، وهو قوله:"سمع نقيضًا"، أي بين أوقات وحالات كون جبريل عليه السلام عنده صلى الله عليه وسلم.

[تنبيه]: قال القاضي ناصر الدين رحمه الله: لعلّ ابن عبّاس رضي الله عنهما ترك الإسناد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لوضوحه، ولا يبعُد أن يقال: قد اتَّفَقَ له وقتٌ، فانكشف له الحال، وتمثّل له جبريل والملك النازل، كما تمثّل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فشاهدهما، وسَمِع مقالتهما مع الرسول صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم بحقائق ذلك. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1648.

ص: 365

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول هو الأقرب والأوضح، كما لا يخفى، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: "جبريل" مبتدأ، خبره قوله:(قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ) الظاهر أن الضمير لجبريل عليه السلام، وفي رواية النسائيّ:"بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعنده جبريل عليه السلام إذ سمع"، والظاهر عليه أن الضمير في "سمع" للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تنافي بينهما؛ لاحتمال أن يكون كلّ منهما سمع النقيض، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الطيبيُّ: قوله: "سَمِعَ" مسندٌ إلى جبريل عليه السلام، ويَحْتَمِل الإسناد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على بُعْد فيها؛ لما يدلّ نسق الكلام، وكذا قال القاضي

(1)

: الضمائر الثلاثة في "سَمِعَ"، و"رَفَعَ"، و"قال" راجعة إلى جبريل عليه السلام؛ لأنه أكثر اطّلاعًا على أحوال السماء، وأحقّ بالإخبار عنها، واختار المظهر أن يكون الضمير في "سَمِعَ"، و"رفع" راجعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي "فقال" إلى جبريل، ولعلّ المختار هذا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله القاضي هو الأولى، كما لا يخفى على من تامّل سياق الكلام، واللَّه تعالى أعلم.

(نَقِيضًا) -بالقاف والضاد المعجمتين- أي صوتًا شديدًا كصوت نقض خشب البناء عند كسره، قاله القاري رحمه الله، وقال النوويُّ: أي صوتًا كصوت الباب إذا فتح.

وقال في "اللسان": وكل صوت لمِفْصَل، وإصبع، فهو نقيض، وقد أنقض ظهرُ فلان: إذا سُمِعَ له نَقِيضٌ، قال الشاعر [من الوافر]:

وَحُزْنٍ تُنْقِضُ الأضْلاع مِنْهُ

مُقِيمٍ فِي الْجَوَانِحِ لَنْ يَزُولَا

ونَقِيضُ الْمِحْجَمَة: صوتُها، إذا شَدّها الحجّامُ بِمَصِّهِ، يقال: أنقض المِحْجَمَةَ؛ قال الأعشى [من الطويل]:

زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ نَقِيضُ الْمَحَاجِمِ

وأنقض الرَّحْلُ: إذا أطَّ. انتهى

(3)

(1)

هو القاضي ناصر الدين البيضاويّ عبد اللَّه بن عمر المتوفّى سنة (685 هـ).

(2)

"الكاشف" 5/ 1646.

(3)

"لسان العرب" 7/ 244.

ص: 366

وقال التوربشتيُّ: انتقاض الشيء صوت المحامل والرحال، وما أشبه ذلك، وحقيقة الانتقاض ليست الصوت، وإنما هي انتقاض الشيء في نفسه حتى يكون منه الصوت. انتهى

(1)

.

(مِنْ فَوْقِهِ) متعلق بمحذوف صفةٍ لـ "نقيضًا"، أي كائنًا من فوقه، وفي رواية الحاكم:"من السماء"، أي من جهة السماء (فَرَفَعَ رَأْسَهُ) أي لينظر إلى سبب النقيض المسموع، وفي رواية النسائيّ:"فرفع جبريل عليه السلام بصره إلى السماء"(فَقَالَ: هَذَا) أي هذا الصوت (بَابٌ) أي صوت باب (مِنَ السَّمَاءِ) أي من سماء الدنيا (فُتِحَ الْيَوْمَ) بالبناء للمفعول، أي الآن، والجملة في محل رفع صفة لـ "باب" (لَمْ يُفْتَحْ) وفي نسخة:"ولم يُفتح"(قَطُّ) أي في الزمان الماضي، وفيها لغات، يقال: ما رأيته قَطُّ -بفتح القاف، وضمها، وضم الطاء المشددة، ويخففان-، وقَطٍّ -بفتح القاف، وكسر الطاء المشددة-: بمعنى الدهر، مخصوص بالماضي، أي فيما مضى من الزمان، أو فيما انقطع من عمري. أفاده في "القاموس"، وقد نظم شيخنا عبد الباسط بن محمد البُورَنِيّ الْمِنَاسِيُّ هذه اللغات، فقال:

وَخَمْسَةً جَعَلَ مَنْ قَطُّ ضَبَطْ

قَطُّ وَقُطُّ قَطِّ ثُمَّ قُطُ قَطْ

(إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ) أي نزل من ذلك الباب الذي لم يُفتح قبل ذلك الوقت ملك، وقال في "المرعاة": هذا من قول الراوي في حكايته لحال سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو بلغه عنه. انتهى

(2)

. (فَقَالَ) جبريل عليه السلام (هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ) وفي نسخة: "ولم يَنْزِل"(قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ) هذا يدلّ على أنه نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة ملك غير جبريل عليه السلام، وقيل: إن جبريل نزل قبل هذا الملك معلّمًا، ومخبرًا بنزول الملك، فهو مشارك له في إنزالها، قاله في "المرعاة".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأوجه أن يقال: إن جبريل عليه السلام نزل بهما أوّلًا قبل ذلك، ثم نزل ذلك الملك في ذلك اليوم ثانيًا لبيان فضلهما، وثوابهما، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1646.

(2)

"المرعاة" 7/ 196.

ص: 367

(فَسَلَّمَ) ذلك الملك النازل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى الحاضرين (وَقَالَ: أَبْشِرْ) بقطع الهمزة أمر من الإبشار رباعيًا (بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا) بالبناء للمفعول، أي افَرحْ بسبب نورين أعطيتهما، قيل: سماهما نورين؛ لأن كلًّا منهما يكون لصاحبه نورًا يسعى أمامه، ولأنه يُرشَدُ، ويهتدي بالتأمّل فيهما إلى الطريق القويم، والمنهج المستقيم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيُّ: قوله: "بنورين" أي بأمرين عظيمين نَيِّرين مبيِّنين لقارئهما، ومنوّرين له، وخُصّت "الفاتحة" بهذا؛ لتضمّنها جملة معاني الإيمان والإسلام والإحسان، فهي آخذة بأصول القواعد الدينيّة، والمعاقد المعارفيّة.

وخُصّت خواتيم سورة البقرة بذلك؛ لما تضمّنته من الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضي الله عنهم بجميل انقيادهم لمقتضاها، وتسليمهم لمعناها، وابتهالهم إلى اللَّه تعالى، ورجوعهم إليه في جميع أمورهم، ولمَا حَصَل فيها من إجابة دعواتهم بعد أن عَلِموها، فخَفَّف عنهم، وغَفَرَ لهم، ونصرهم، وفيها غير ذلك مما يطول تتبّعه. انتهى

(2)

.

(لَمْ يُؤْتَهُمَا) بالبناء للمفعول أيضًا، أي لم يُعطهما (نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) بالجرّ بدل من "نورين"، ويَحْتَمل الرفع على أنه خبر لمحذوف، أي أحدهما فاتحة الكتاب، والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، أي أعني (وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) جمع خاتمة، أي أواخرها، وهي من قوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} إلى آخر السورة.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كذا قيل، وظاهر قوله:"وخواتيم سورة البقرة" بصيغة الجمع يقتضي أن يكون من قوله تعالى {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآيات الثلاث، وهذا هو الذي استظهره في "المرعاة"

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

(لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ) الباء للتعدية؛ لأن قرأ يتعدّى بنفسه، وبالباء، يقال: قرأت أمّ الكتاب، وبأم الكتاب، قاله الفيّوميُّ

(4)

.

(1)

"الكاشف" 5/ 1647.

(2)

"المفهم" 2/ 434.

(3)

راجع: "المرعاة" 7/ 197.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 502.

ص: 368

وقال التوربشتيُّ: الباء زائدة، كقولك: أخذت بزمام الناقة، وأخذت زمامها، وأراد بالحرف -واللَّه أعلم- الطَّرَف منها، فإن حرف الشيء طرفه، وكَنَى به عن كل جملة مستقلّة بنفسها، أي أعطيت ما اشتَمَلت عليه تلك الجملة من المسألة، كقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} ، وكقوله:{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} ، وقوله:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} ، وكقوله:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} ، ونظائره. انتهى

(1)

.

(مِنْهُمَا) أي من فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، قال السنديّ: أي مما فيه من الدعاء (إِلَّا أُعْطِيتَهُ") أي أُعطيت مقتضاه، من العون، والهداية إلى الصراط المستقيم، في الفاتحة، ومن المغفرة، وعدم المؤاخذة في النسيان، والخطأ، وعدم تحميل الإصر، وما لا يطاق، والعفو، والرحمة، والنصر على الكفار، في خواتيم سورة البقرة.

وقال الطيبيُّ: قوله: "إلا أعطيته" حال، والمستثنى منه مقدّر، أي مستعينًا بهما على قضاء ما يَسْنَح من الحوائج كما يفعله الناس إلا أُعطيته، أو يُقدّر صفةً، أي لم تقرأ حرفًا منهما مشتملًا على دعاء وسؤال إلا أُعطيته، أما الحمد والثناء والتمجيد فيُعطى ثوابها، وأما الدعاء والسؤال، فيُسعَفُ بمطلوبه، ويُستجاب، فيوافق هذا التأويل حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل".

وتحرير معنى الدعاء في الفاتحة هو أن المطلوب فيها الهداية المشتملة على النعمة المطلقة، فيتناول نعمة الدارين، ظاهرها وباطنها، جليلها ودقيقها، حتى لا يشذّ منها شيء، وعلى التوقّي من غضب اللَّه وسخطه مطلقًا، دنيا وعُقبى، ومن جميع الأخلاق الذميمة، والضلالات المتنوّعة، وما يعوجه عن الطريق المستقيم، وعلى هذا خاتمة سورة البقرة، فإن قوله:{آمَنَ الرَّسُولُ} إلى قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا} اشتَمَل على معنى التصديق والاعتقاد، ومنه إلى قوله:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} على بيان الانقياد بالسمع والطاعة لما أمر اللَّه تعالى به، ونهى عنه، ومنه إلى آخره على الدعاء الجامع لفلاح الدارين، والفوز

(1)

"الكاشف" 5/ 1647.

ص: 369

بالحسنيين. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: (اعلم): أن هذا العطاء ليس خاصًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، كما يوهمه ظاهر السياق هنا، بل يعمّ أمته أيضًا بسببه صلى الله عليه وسلم؛ إذ الأصل مشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في كل ما أنزل عليه، إلا ما اختَصّ به، ومما يؤيّد هذا ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل"، فإنه عام لكل مصلّ، وما تقدّم أيضًا في "كتاب الإيمان" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} دخل قلوبهم منها شيء، لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قولوا: سمعنا، وأطعنا، وسَلَّمْنَا"، قال: فألقى اللَّه الإيمان في قلوبهم، فأنزل اللَّه تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية، وفيه: قال: "قد فعلت. . . " الحديث، ونحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند المصنّف أيضًا.

والحاصل أن هذا الفضل عامّ لكلّ مخلص في عبادته، متّبع لهديه صلى الله عليه وسلم، نسأل اللَّه عز وجل أن يجعلنا من أتباعه المهتدين بسنته، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 1877](806)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(912)، وفي "الكبرى"(984)، وفي "عمل اليوم والليلة"(722)، وفي "فضائل القرآن"(ج 5 ص 12 - 15)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(778)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 558 - 559)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1827)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12255)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1200)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة):

1 -

(منها): بيان فضل فاتحة الكتاب.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1648.

ص: 370

2 -

(ومنها): بيان فضل خواتيم سورة البقرة.

3 -

(ومنها): بيان كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم على ربه، حيث أكرمه بما لم يكرم الأنبياء الذين قبله، فأعطاه هذين النورين.

4 -

(ومنها): إثبات الأبواب للسماء، وأنها تُفْتَح، وتُغْلَق، وأن بعض الملائكة لا ينزل إلى الأرض إلا لمثل هذه البشارة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في ذكر ما ورد من فضائل فاتحة الكتاب غير حديث الباب:

(فمنها): ما تقدم للمصنف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، الحديث.

(ومنها): ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي سعيد بن الْمُعَلَّى رضي الله عنه قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم أُجبه، فقلت: يا رسول اللَّه إني كنت أصلي، فقال:"ألم يقل اللَّه: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ [الأنفال: 24] "، ثم قال لي:"لأُعَلِّمنّك سورةً، هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد"، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل: "لأعلمنك سورة، هي أعظم سورة في القرآن؟ "، قال:" {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته".

(ومنها): ما أخرجه الشيخان، وأبو داود من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: كنا في مسير لنا، فنزلنا، فجاءت جارية، فقالت: إن سيد الحي سَليم، وإن نفرنا غَيْب، فهل منكم راقٍ؟ فقام معها رجل ما كُنَّا نَأبُنُهُ

(1)

برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنًا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رَقَيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تُحْدِثُوا شيئًا حتى نأتي، ونسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"وما كان يُدريه أنها رقية؟ اقسموا لي بسهم"، وفي بعض

(1)

من بابي ضرب ونصر: أي نتّهمه، أفاده في "ق".

ص: 371

روايات مسلم لهذا الحديث أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقى ذلك السَّلِيم، يعني اللَّدِيغ، يسمونه بذلك تفاؤلًا.

(ومنها): ما أخرجه أحمد في "مسنده" عن عبد اللَّه بن محمد بن عَقِيل، عن ابن جابر، قال: انتهيت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه، فلم يَرُدّ عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه، فلم يردّ عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه، فلم يردّ عليّ، قال: فانطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا خلفه، حتى دخل على رحله، ودخلت أنا المسجد، فجلست كئيبًا حزينًا، فخرج عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد تطهّر، فقال:"عليك السلام ورحمة اللَّه، وعليك السلام ورحمة اللَّه، وعليك السلام ورحمة اللَّه"، ثم قال:"أَلَا أخبرك يا عبد اللَّه بن جابر بخير سورة في القرآن؟ " قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال:"اقرأ الحمد للَّه رب العالمين حتى تختمها".

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا إسناد جيّد، وابن عَقِيل هذا احتج به الأئمة الكبار، وعبد اللَّه بن جابر هذا الصحابيّ ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي، واللَّه أعلم، ويقال: إنه عبد اللَّه بن جابر الأنصاريّ البياضيّ، فيما ذكره الحافظ ابن عساكر. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال العلامة القرطبيُّ: اختَلَفَ العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض، وتفضيل بعض أسماء اللَّه تعالى الحسنى على بعض:

فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض؛ لأن الكل كلام اللَّه، وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها، وذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعريّ، والقاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو حاتم محمد بن حبان البُسْتيّ، وجماعة من الفقهاء، ورُوِي معناه عن مالك، قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض على بعض خطأ؛ وكذلك كَرِهَ مالك أن تعاد سورة، أو تردد دون غيرها، وقال عن مالك

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 11 - 12.

ص: 372

في قول اللَّه تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] قال: مُحكمة مكان منسوخة، ورَوَى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك.

واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الأفضل يشعر بنقص المفضول، والذاتية في الكل واحدة، وهي كلام اللَّه، وكلام اللَّه تعالى لا نقص فيه. قال البُسْتِيّ: ومعنى هذه اللفظة: "ما في التوراة، ولا في الإنجيل، مثل أم القرآن" أن اللَّه تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن؛ إذ اللَّه بفضله فضّل هذه الأمة على غيرها من الأمم، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه، وهو فضل منه لهذه الأمة، قال: ومعنى قوله: "أعظم سورة" أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض.

وقال قوم: بالتفضيل، وأن ما تضمنه قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته، وصفاته ليس موجودًا مثلًا في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] وما كان مثلها، والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها، لا من حيث الصفة، وهذا هو الحق.

وممن قال بالتفضيل إسحاق ابن راهويه، وغيره من العلماء، والمتكلمون، وهو اختيار القاضي أبي بكر ابن العربيّ، وابن الحصار؛ لحديث أبي سعيد بن المُعَلَّى، وحديث أبَيّ بن كعب رضي الله عنهما.

قال ابن الحصار: عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص، وقال ابن العربيّ: قوله: "ما أنزل اللَّه في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في القرآن مثلها" وسكت عن سائر الكتب، كالصحف المنزلة، والزبور وغيرها؛ لأن هذه المذكورة أفضلها، وإذا كان الشيء أفضل الأفضل صار أفضل الكلّ، كقولك: زيد أفضل العلماء، فهو أفضل الناس.

وفي الفاتحة من الصفات ما ليس في غيرها، حتى قيل: إن جميع القرآن فيها، وهي خمس وعشرون كلمة، تضمنت جميع علوم القرآن، ومن شرفها أن اللَّه عز وجل قسمها بينه وبين عبده، ولا تصح القُربة إلا بها، ولا يلحق عمل بثوابها، وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم، كما صارت {قُلْ هُوَ اللَّهُ

ص: 373

أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، إذ القرآن توحيد، وأحكام، ووعظ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فيها التوحيد كله، وبهذا المعنى وقع البيان في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي:"أي آية في القرآن أعظم؟ " قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وإنما كانت أعظم آية؛ لأنها توحيد كلها، كما صار قوله:"أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له" أفضل الذكر؛ لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد، والفاتحة تضمنت التوحيد، والعبادة، والوعظ، والتذكير، ولا يستبعد ذلك في قدرة اللَّه تعالى. انتهى كلام القرطبيّ، وهو بحثٌ نفيس جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1878]

(807) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا مَسْعُودٍ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ فِي الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد اللَّه بن يونس، نُسب لجدّه التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، من كبار [10](227)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ [6](ت 132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 374

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.

6 -

(أَبُو مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

[تنبيه]: اختُلِف في نسبة أبي مسعود رضي الله عنه إلى بدر، هل هو لشهود غزوة بدر، أو لسكناه بدرًا؟ فالأكثر على أنه لم يشهدها، ولم يذكره محمد بن إسحاق ومن اتبعه من أصحاب المغازي في البدريين، وقال الواقديّ، وإبراهيم الحربيّ: لم يشهد بدرًا، وإنما نزل بها، فنُسِب إليها، وكذا قال الإسماعيليّ: لم يصحّ شهود أبي مسعود بدرًا، وإنما كانت مسكنه، فقيل له البدريّ، فأشار إلى أن الاستدلال بأنه شهدها بما يقع في الروايات أنه بدريّ ليس بقويّ؛ لأنه يستلزم أن يقال لكل من شهد بدرًا البدريّ، وليس ذلك مُطّرِدًا.

وممن جزم بأنه شهد بدرًا الإمام البخاريُّ حيث عدّه في "صحيحه" في جملة من شهد بدرًا من الصحابة رضي الله عنهم.

قال الحافظ: لم يَكْتَفِ البخاريّ في جزمه بأنه شهد بدرًا بوقوعه في الروايات أنه بدريّ، بل بقوله في الحديث الذي يليه: إنه شَهِدَ بدرًا

(1)

، فإن الظاهر أنه من كلام عروة بن الزبير، وهو حجة في ذلك؛ لكونه أدرك أبا مسعود، وإن كان رَوَى عنه هذا الحديث بواسطة، ويُرجَّح اختيار البخاريّ ذلك

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ في "المغازي"(4007) من طريق الزهري: "سمعت عروة بن الزبير، يحدِّث عمر بن عبد العزيز في إمارته: أخَّر المغيرة بن شعبة العصر، وهو أمير الكوفة، فدخل عليه أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ، جدُّ زيد بن حسن شَهِدَ بدرًا، فقال: لقد علمت نزل جبريل، فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمس صلوات، ثم قال: هكذا أمرت، كذلك كان بشير بن أبي مسعود، يحدث عن أبيه"، وأخرجه مسلم أيضًا.

ص: 375

بقول نافع حين حدثه أبو لبابة البدريّ، فإنه نسبه إلى شهود بدر، لا إلى نزولها.

وقد اختار أبو عبيد القاسم بن سلام أنه شهدها، ذكره البغويّ في "معجمه" عن عمه، عليّ بن عبد العزيز عنه، وبذلك جزم ابن الكلبيّ، ومسلم في "الكنى"، وقال الطبرانيّ، وأبو أحمد الحاكم: يقال: إنه شَهِدها، وقال الْبَرْقيّ: لم يذكره ابن إسحاق في البدريين، وفي غير هذا الحديث أنه شَهِدها. انتهى.

والقاعدة أن المثبت مقدَّم على النافي، وإنما رَجَّح من نَفَى شهوده بدرًا باعتقاده أن عمدة من أثبت ذلك وصفه بالبدريّ، وأن تلك نسبة إلى نزول بدر، لا إلى شهودها، لكن يُضَعِّف ذلك تصريح مَن صَرَّح منهم بأنه شَهِدها، كما في الحديث الذي أورده البخاريّ، وقال فيه:"فدخل عليه أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ، جدُّ زيد بن حسن، شَهِدَ بدرًا". انتهى كلام الحافظ ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح أن أبا مسعود رضي الله عنه شهد غزوة بدر، فنُسب إليها، كما هو رأي البخاريّ ومسلم، وأبي عبيد القاسم بن سلّام، وابن الكلبيّ، ورجّحه الحافظ؛ لقوّة حجته، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض، عند من جعل منصورًا من صغار التابعين.

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 370 "كتاب المغازي" رقم (4007 و 4008).

ص: 376

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ممن شهِد بدرًا على ما ذهب إليه البخاريّ ومسلم، وجماعة، كما أسلفناه آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بن قيس النخعيُّ أنه (قَالَ: لَقِيتُ أَبَا مَسْعُودٍ) وفي الرواية التالية من طريق عليّ بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة بن قيس، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، قال عبد الرحمن: فلقيت أبا مسعود، وهو يطوف بالبيت، فسألته، فحدّثني به، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي الرواية الثالثة من طريق عيسى بن يونس، وعبد اللَّه كلاهما عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، وعبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله.

قال في "الفتح": فكأن إبراهيم حمله عن علقمة أيضًا بعد أن حدّثه به عبد الرحمن عنه، كما لَقِيَ عبدُ الرحمن أبا مسعود، فحمله عنه بعد أن حدّثه به علقمة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: أبو مسعود هذا هو عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ، قال: ووقع في رواية عبدوس بدله ابن مسعود، وكذا عند الأصيليّ، عن أبي زيد المروزيّ، وصَوّبه الأصيليّ، فأخطأ في ذلك، بل هو تصحيف، قال أبو عليّ الْجَيّانيّ: الصواب عن أبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو، وقد أخرجه أحمد من وجه آخر، عن الأعمش، فقال فيه: عن عقبة بن عمرو. انتهى

(2)

.

(عِنْدَ الْبَيْتِ) وفي رواية الأعمش التالية: "فلقيت أبا مسعود، وهو يطوف بالبيت"(فَقُلْتُ: حَدِيث بَلَغَنِي عَنْكَ) قد تبيّن بما سبق أن الذي حدّثه به عنه هو

(1)

"الفتح" 8/ 671 - 672 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5008 و 5009).

(2)

"الفتح" 8/ 672 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5008 و 5009).

ص: 377

علقمة بن قيس (فِي الْآيَتَيْنِ) أي فضلهما، وفضل قراءتهما، وقوله:(فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ؟) متعلّق بصفة لـ "الآيتين"، أو بحال منهما (فَقَالَ) أبو مسعود رضي الله عنه (نَعَمْ) أي ما بلغك عنّي صحيح، ثم بيّن له الحديث بقوله:(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) يعني من قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة، وآخر الآية الأولى {الْمَصِيرُ} ومن ثم إلى آخر السورة آية واحدة، وأما {مَا كَسَبَتْ} فليست رأس آية باتّفاق العادّين.

فقوله: "الآيتان" مبتدأ أول، وقوله:"من آخر سورة البقرة" متعلّق بصفة له، أي الكائنتان من آخرها، وقوله:(مَنْ قَرَأَهُمَا)"من" مبتدأ ثانٍ، (فِي لَيْلَةٍ) متعلّق بـ "قرأ"، وقوله:(كَفَتَاهُ") بتخفيف الفاء: أي أغنتاه، خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر الأول، ويَحْتَمِل أن يكون "من قرأهما" من "الآيتان".

ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "من قرأ بهما" قيل: هذه الباء زائدة، وقيل: ضُمّن الفعل معنى التبرّك، فعُدّي بالباء، وعلى هذا تقول: قرأت بالسورة، ولا تقول: قرأت بكتابك؛ لفوات معنى التبرّك، قاله السهيلي

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم عن "المصباح" أن قرأ يعدى بنفسه، وبالباء، فلا حاجة إلى دعوى التضمين، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلى أعلم.

وأخرج عليّ بن سعيد العسكريّ في "ثواب القرآن" حديث الباب، من طريق عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن علقمة بن قيس، عن عقبة بن عمرو، بلفظ:"من قرأهما بعد العشاء الآخرة، أجزأتا، {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى آخر السورة".

ومن حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما رفعه: "إن اللَّه كتب كتابًا أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة" وقال في آخره: {آمَنَ الرَّسُولُ} ، وأصله عند الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم. ولأبي عبيد في "فضائل القرآن" من مرسل جُبير بن نُفير نحوه، وزاد:"فاقرءوهما، وعَلِّمُوهما أبناءكم ونساءكم، فإنهما قرآن وصلاة ودعاء".

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 198.

ص: 378

[تنبيه]: اختُلِف في المراد بقوله: "كفتاه"، فقيل: أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن، وقيل: أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقًا، سواء كان داخل الصلاة أم خارجها، وقيل: معناه أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد؛ لما اشتملتا عليه من الإيمان، والأعمال إجمالًا، وقيل: معناه كفتاه كلَّ سوء، وقيل: كفتاه شرّ الشياطين، وقيل: دفعتا عنه شرّ الثقلين: الإنس والجنّ، وقيل: معناه كفاه ما حَصَلَ له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر، وكأنهما اختَصَّتا بذلك لما تضمنتاه من الثناء على الصحابة بجميل انقيادهم إلى اللَّه، وابتهالهم، ورجوعهم إليه، وما حَصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم.

قال في "الفتح": ذَكَرَ الكرمانيّ عن النوويّ أنه قال: كفتاه عن قراءة "سورة الكهف"، و"آية الكرسي"، كذا نقل عنه جازمًا به، ولم يقل ذلك النوويّ، وإنما قال ما نصه: قيل: معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل: من الشيطان، وقيل: من الآفات، ويَحْتَمِل من الجميع، هذا آخر كلامه، وكأن سبب الوهم أن عند النوويّ عقب هذا "باب فضل سورة الكهف"، و"آية الكرسي"، فلعل النسخة التي وقعت للكرمانيّ سقط منها لفظ "باب" وصُحِّفت "فضل"، فصارت: وقيل، واقتصر النوويّ في "الأذكار" على الأول، والثالث نقلًا، ثم قال: قلت: ويجوز أن يراد الأوّلان. انتهى.

وعلى هذا فأقول: يجوز أن يراد جميع ما تقدم، واللَّه أعلم، والوجه الأول وَرَدَ صريحًا من طريق عاصم، عن علقمة، عن أبي مسعود رضي الله عنه رفعه:"من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة".

ويؤيد الرابع حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه رفعه: "إن اللَّه كتب كتابًا، وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا يُقرآن في دار، فيقرَبَها الشيطان ثلاث ليال"، أخرجه الحاكم، وصححه.

وفي حديث معاذ رضي الله عنه لما أمسك الجنيّ: "وآية ذلك لا يقرأ أحد منكم خاتمة سورة البقرة، فيدخل أحد منها بيته تلك الليلة"، أخرجه الحاكم أيضًا. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "الفتح" 8/ 672 - 673 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5008 - 5009).

ص: 379

وقال الشوكانيُّ في "تحفة الذاكرين" بعد ذكره الأقوال المذكورة ما نصّه: ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها، ويؤيّد ذلك ما تقرّر في علم المعاني والبيان من أن حذف المتعلّق مشعرٌ بالتعميم، فكأنه قال: كفتاه من كلّ شرّ، أو من كل ما يُخاف، وفضل اللَّه واسع. انتهى، وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 1878 و 1879](807) و [44/ 1880 و 1881 و 1882](808)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5008 و 5009 و 5040 و 5051)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1397)، و (الترمذيّ) في "فضائل القرآن"(2881)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(718 و 719 و 720 و 721)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1368 و 1369)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2/ 10)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 118 و 121 و 122)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 349)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1141)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(781)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3895 و 3896 و 3897 و 3898)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1828 و 1829 و 1830 و 1831 و 1832)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1199). وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1879]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه

(1)

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا" بحذف الضمير.

ص: 380

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

6 -

(شُعْبَةُ) بن الحجَاج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا، و"منصور" ذُكر في السند الماضي.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ) ضمير التثنية لجرير، وشعبة.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) إشارة إلى إسناد منصور الماضي، وهو: عن إبراهيم النخعيّ، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية جرير، عن منصور هذه ساقها الترمذيُّ في "جامعه"، فقال:

(2881)

حدّثنا أحمد بن منيع، حدّثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم بن يزيد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

وأما رواية شعبة، عن منصور، فساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1397)

حدّثنا حفص بن عُمر، أخبرنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: سألت أبا مسعود، وهو يطوف بالبيت، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1880]

(808) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 381

مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ"، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَقِيتُ أَبَا مَسْعُودٍ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](231)(عم فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

2 -

(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو: عليّ بن مُسهر القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل باب.

4 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ) النخعيّ، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1881]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى، يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ)

(2)

.

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "بمثله".

ص: 382

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ إلخ) هكذا في هذه الرواية أن إبراهيم رواه عن علقمة، وعبد الرحمن كليهما، وهي مخالفة للرواية السابقة، أنه رواه عن عبد الرحمن، عن علقمة، ويُمكن الجمع بأن إبراهيم حمله عن علقمة أيضًا بعد أن حدّثه به عبد الرحمن عنه، كما لقي عبد الرحمن أبا مسعود رضي الله عنه، فحمله عنه بعد أن حدّثه به علقمة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث من طريق شعبة، عن منصور والأعمش ما نصّه: قال أبو حاتم: سمع هذا الخبر عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن أبي مسعود، ثم لقي أبا مسعود في الطواف، فسأله، فحدّثه به. انتهى

(2)

.

وقوله: (مِثْلَهُ) وفي نسخة: "بمثله"، أي بمثل حديث علي بن مُسهر، عن الأعمش السابق.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش هذه ساقها النسائيّ في "السنن الكبرى" (5/ 10) فقال:

(8005)

أخبرنا عليّ بن خَشْرَم، قال: أنا عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، وعبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الآيتان الأخريتان من آخر سورة البقرة، من قرأهما في ليلة كفتاه". انتهى.

وأما رواية عبد اللَّه بن نُمير، عن الأعمش، فساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (2/ 404) فقال:

(1831)

حدّثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عُبيد بن غَنّام، ثنا أبو بكر بن أبي

(1)

راجع: "الفتح" 8/ 672 "كتاب فضائل القرآن".

(2)

"صحيح ابن حبّان" 3/ 60.

ص: 383

شيبة، ثنا عبد اللَّه بن نُمير، عن الأعمش (ح) وثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا إسحاق بن إبراهيم الأكفانيّ، ثنا أبو كريب، ثنا يحيى بن آدم، ثنا قُطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن، وعلقمة، عن أبي مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأهما في ليلة كفتاه". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1882]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَفْصُ) بن غياث بن طَلْق النخعيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل بابين أيضًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (مِثْلَهُ) وفي نسخة: "بمثله"، أي بمثل حديث الأعمش الماضي.

[تنبيه]: رواية حفص، وأبي معاوية كليهما عن الأعمش ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 404) فقال:

(1832)

حدّثنا عبد اللَّه بن يحيى الطلحيّ، ثنا عبيد اللَّه بن غُنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا حفص بن غياث، وأبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأهما في ليلة كفتاه". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "بمثله".

ص: 384

(45) - (بَابُ فَضْلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1883]

(809) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الْغَطَفَانِيِّ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف، عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ

(2)

").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ الزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) الدستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، من رؤوس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ الْغَطَفَانِيُّ) الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ يُرسل كثيرًا، واسم أبي الجعد: رافع [3](ت 7 أو 198)(ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.

6 -

(مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ) ويقال: ابن طلحة الشاميّ، ثقةٌ [21](م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.

(1)

وفي نسخة: "أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(2)

وفي نسخة: "عُصم من فتنة الدجّال".

ص: 385

7 -

(أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ، الصحابيّ الجليل، وقيل: اسمه عامر، وعُويمر لقبه، مشهور بكنيته، مات رضي الله عنه في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل: عاش بعد ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى معدان، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى قتادة، وسالم كوفيّ، والباقيان شاميّان.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: قتادة، عن سالم، عن معدان.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ) جاء بيان المراد من حفظها فيما أخرجه مسلم في "كتاب الفتن"، وأبو داود في "الملاحم" من حديث النّوّاس بن سِمْعَان الكلابيّ رضي الله عنه في حديث الدجال الطويل، وفيه: "فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف"، هذا لفظ مسلم، ولفظ أبي داود: "فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جواركم من فتنبّه".

فقد أوضح في هذا الحديث أن المراد ليس حفظها فقط، بل لا بدّ من قراءتها في وجهه، وأن من فعل ذلك يُجيره اللَّه تعالى من فتنبّه، فلا يضرّه شيء مما معه من التلبيسات والتمويهات، والدّجَل، فإن معه من ذلك ما لا يعلم قدره إلا اللَّه تعالى، ففي حديث النوّاس رضي الله عنه المذكور عند المصنّف: "فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماءَ فتُمطِر، والأرضَ

(1)

وفي نسخة: "أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم".

ص: 386

فتُنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُرًا، وأسبغه ضُروعًا، وأمَدّه خواصر، ثم يأتي القوم، فيدعوهم، فيردُّون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون مُمْحِلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويَمُرّ بالْخَرِبة، فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جَزْلتين رَمْيَة الغَرَض، ثم يدعوه، فيُقبل ويتهلل وجهه، يضحك. . . " الحديث

(1)

.

فهذه الأمور لا ينجو من الاغترار بها إلا من عصمه اللَّه تعالى، ووفّقه لقراءة هذه الآيات، اللهم اعصمنا من شرّ فتنبّه، وشرّ جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك سميع قريب مجيب الدعوات آمين.

(مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف) سيأتي اختلاف الرواة، هل هي من أولها، أو آخرها؟ وأن كونها من أولها هو الأرجح (عُصِمَ) بالبناء للمفعول، أي حُفظ، ووُقي (مِنَ الدَّجَّالِ) أي من شرّه، وفي نسخة:"من فتنة الدجّال".

قال النوويُّ: قيل: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبّرها لم يفتتن بالدجّال، وكذا في آخرها قوله تعالى:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 102].

وقال الطيبيُّ: ويُمكن أن يقال: إن أولئك الفتية كما عُصموا من ذلك الجبّار، كذلك يَعصم اللَّه تعالى القارئ من الجبّارين، قيل: ولا مانع من الجمع، واللام فيه للعهد، وهو الذي في آخر الزمان يدّعي الألوهيّة، ويَحْتَمِل أن يكون للجنس، فإن الدجّال من يَكْثُر منه الكذب والتلبيس، ومنه الحديث:"يكون في آخر الزمان دجّالون. . . " الحديث رواه مسلم، أي كذّابون مموّهون.

وقال السيوطيُّ في "حاشية أبي داود": قال القرطبيّ: اختَلَف المتأوّلون في سبب ذلك، فقيل: لِمَا في قصّة أصحاب الكهف من العجائب والآيات، فمن وَقَفَ عليها لم يَستغرب أمر الدجّال، ولم يَهِلْهُ ذلك، فلم يُفتن به.

وقيل: لقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2] تمسّكًا

(1)

"صحيح مسلم""كتاب الفتن وأشراط الساعة" رقم (2937).

ص: 387

بتخصيص البأس بالشدّة واللدنية، وهو مناسب لما يكون من الدجّال من دعوى الإلهيّة، واستيلائه، وعِظَم فتنبّه، ولذلك عظّم النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره، وحذّر منه، وتعوّذ من فتنبّه، فيكون معنى الحديث أن من قرأ هذه الآيات وتدبّرها، ووقف على معناها حَذِرَهُ، فأَمِنَ منه.

وقيل: إن ذلك من خصائص هذه السورة كلّها، فقد روي:"من حفظ سورة الكهف، ثم أدركه الدجّال لم يُسلّط عليه"، وعلى هذا يجتمع رواية من روى من أول سورة الكهف مع رواية من روى من آخرها، ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلّها. انتهى كلام السيوطيُّ

(1)

.

[تنبيه]: (اعلم): أنه وقع في رواية مسلم هنا، وأبي داود بلفظ:"من حَفِظَ عشر آيات"، ووقع في رواية الترمذيّ:"من قرأ ثلاث آيات"، فقيل: وجه الجمع بين العشر وبين الثلاث أن حديث العشر متأخّر، ومن عَمِل بالعشر، فقد عَمِلَ بالثلاث.

وقيل: حديث الثلاث متأخّر، ومن عُصِم بالثلاث فلا حاجة إلى العشر، قال في "المرعاة": وهذا أقرب إلى أحكام النسخ، قال ميرك: بمجرّد الاحتمال لا يُحكم بالنسخ، وقال القاري: النسخ لا يدخل في الأخبار.

وقيل: حديث العشر في الحفظ، وحديث الثلاث في القراءة، فمن حَفِظَ العشر، وقرأ الثلاث كُفي، وعُصِمَ من فتنة الدجّال.

وفيه أنه وقع في رواية النسائيّ: "من قرأ العشر"، وهي تنافي هذا الجمع.

وقال الشوكانيُّ: لا منافاة بين رواية الثلاث الآيات والعشر الآيات؛ لأن الواجب العمل بالزيادة، فيقرأ عشر آيات من أولها. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: رواية "ثلاث آيات" شاذّة

(2)

، فلا داعي إلى التكلّف للجمع بما ذُكر، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: اختَلف الرواة أيضًا في أن العشر من أولها، أو من آخرها،

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 198 - 199.

(2)

راجع: "السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيُّ رحمه الله 2/ 509 - 510 رقم (1336).

ص: 388

فقال شعبة، عن قتادة عند أحمد، والترمذيّ:"من أول الكهف"، وكذا قال هشام الدستوائيّ عنه عند مسلم، وهمام عنه عند أحمد، ومسلم، وأبي داود، والنسائيّ، وسعيد بن أبي عروبة عنه عند أحمد، وقال شعبة عند أحمد، ومسلم، وأبي داود، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة":"من آخر الكهف"، وهكذا قال هشام في روايته عند أبي داود، وقد تقدّم وجه الجمع في كلام السيوطيُّ الماضي.

وقال الشوكانيُّ: وأما اختلاف الروايات بين أن تكون العشر من أولها أو من آخرها، فينبغي الجمع بينهما بقراءة العشر الأوائل والعشر الأواخر، ومن أراد أن يحصل على الكمال، وَيتمّ له ما تضمّنته هذه الأحاديث كلّها، فليقرأ "سورة الكهف" كلّها يوم الجمعة، وليلة الجمعة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن رواية "من أول الكهف" أرجح؛ لكثرة رواتها، وهم: هشام الدستوائيّ، وشعبة في رواية، وهمّام، وسعيد بن أبي عروبة، وشيبان بن عبد الرحمن النحويّ، ولم يقل:"من آخر الكهف" إلا شعبة في رواية، وتابعه هشام في رواية

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 1883 و 1884](809)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4323)، و (الترمذيّ) في "فضائل القرآن" (2886) بلفظ:"من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف. . . "، و (النسائيّ) في "اليوم والليلة"(949 و 950)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 196 و 6/ 446)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(785 و 786)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 368)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3940، 3941)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1833 و 1834 و 1835)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1204)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيُّ رحمه الله 2/ 121 - 124 رقم (582).

ص: 389

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل سورة الكهف، ولا سيّما الآيات العشر منها.

2 -

(ومنها): بيان فضل حفظ العشر الآيات من سورة الكهف، وقد أسلفت أن الأرجح أنها من أوّلها.

3 -

(ومنها): بيان عِظَم فتنة الدجّال بحيث إنه لا ينجو منها إلا من عصمه اللَّه تعالى.

4 -

(ومنها): بيان رأفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، حيث إنه يخبرهم بما سيأتي من الفتن، ولا سيّما الفتن العظام، كفتنة الدجّال، ثم يبيّن لهم طريق الوقاية والعصمة من تلك الفتن، وهذا مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

[تنبيه]: ورد في فضل قراءة "سورة الكهف" أحاديث، فمنها: ما أخرجه الإمام أحمد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنيّ، عن أبيه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا ما بين السماء والأرض"

(1)

.

وأخرج الحافظ أبو بكر ابن مردويه في "تفسيره" بإسناد له غريب، عن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عَنَان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين"

(2)

.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا الحديث في رفعه نظرٌ، وأحسن أحواله الوقف

(3)

.

وهكذا رَوَى الإمام سعيد بن منصور في "سننه" عن هشيم بن بشير، عن أبي هاشم، عن أبي مِجْلَز، عن قيس بن عُبَاد، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنه

(1)

قال الهيثميُّ في "مجمع الزوائد"(7/ 52 - 53): رواه أحمد والطبرانيّ، وفي إسناد أحمد ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد يُحسّن حديثه. انتهى.

(2)

ضعّفه الشيخ الألبانيّ رحمه الله راجع: "ضعيف الترغيب والترهيب"(447).

(3)

"تفسير ابن كثير" 3/ 102.

ص: 390

قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق"

(1)

، هكذا وقع موقوفًا، وكذا رواه الثوريّ، عن أبي هاشم به، من حديث أبي سعيد الخدريّ.

وقد أخرجه الحاكم في "مستدركه"(2368) عن أبي بكر محمد بن المؤمل، حدثنا الفضيل بن محمد الشعرانيّ، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا هشيم، حدثنا أبو هاشم، عن أبي مِجْلز، عن قيس بن عُباد، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين"، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

ورواه الحافظ أبو بكر البيهقيّ في "سننه"(3249) عن الحاكم، ثم قال البيهقيّ: ورواه يحيى بن كثير، عن شعبة، عن أبي هاشم، بإسناده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من قرأ سورة الكهف كما نزلت، كانت له نورًا يوم القيامة"

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1884]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ شُعْبَةُ:"مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ"، وقَالَ هَمَّامٌ:"مِنْ أَوَّلِ الْكَهْف"، كَمَا قَالَ هِشَامٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

(1)

صححه الشيخ الألبانيُّ رحمه الله موقوفًا ومرفوعًا، راجع:"صحيح الترغيب والترهيب"(736).

(2)

صححه الشيخ الألبانيُّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة"(2651).

ص: 391

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ حجةٌ إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا في هذا الباب، والذي قبله.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ) أي روى كل من شعبة، وهمّام عن قتادة.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة الماضي، وهو: عن سالم بن أبي الجعد الْغَطَفانيّ، عن معدان بن أبي طلحة اليَعْمُريّ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ هَمَّامٌ: "مِنْ أَوَّلِ الْكَهْف"، كَمَا قَالَ هِشَامٌ) الظاهر أن في كلام المصنّف رحمه الله هذا إشارة إلى ترجيح رواية همام بلفظ "من أول الكهف" على رواية شعبة بلفظ "من آخر الكهف"؛ لمتابعة هشام الدستوائيّ له، وقد سبق البحث مستوفًى في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[1885]

(810) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ " قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: "وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ

(1)

الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ

(2)

").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

(1)

وفي نسخة: "ليهنئك".

(2)

وفي نسخة: "يا أبا المنذر".

ص: 392

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلَطَ قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

4 -

(أَبُو السَّلِيلِ) -بفتح السين المهملة، وكسر اللام- ضُرَيب بن نُقَير -بتصغير الاسمين، ونُقَير بالقاف، والراء، ويقال: نُفَير بالفاء بدل القاف، ويقال: نُفيل بالفاء واللام- القيسيّ الْجُرَيريّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن زَهْدَم الْجَرْميّ، ونُعيم بن قعنب، وعبد اللَّه بن رَبَاح، وغُنيم بن قيس، وأبي تَمِيمة الْهُجَيميّ، وغيرهم، وأرسل عن أبي ذرّ، وأبي هريرة، وابن عباس.

ورَوَى عنه أبو الأشهب جعفر بن حيان، وسليمان التيميّ، وسعيد الجريريّ، وعوف الأعرابيّ، وكهمس بن الحسن، وعبد السلام بن أبي حازم، وعثمان بن غياث، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً إن شاء اللَّه، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير وغيره، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (810)، وحديث (1649):"ما عندي ما أحملكم. . . "، وحديث (2635):"صغارهم دعاميص الجنة. . . ".

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ) أبو خالد المدنيّ، سكن البصرة، ثقةٌ [3](م 4) تقدم في "المساجد" 57/ 1562.

6 -

(أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر، سَيِّد القراء، ويكنى أبا الطفيل أيضًا من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، اختُلِف في سنة موته اختلافًا كثيرًا، قيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

ص: 393

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فكوفيّ، وأُبيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الْجُريريّ، عن أبي السليل، عن عبد اللَّه بن رباح.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فمنها: حديث الباب، ومنها: الحديث الذي سبق أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أمرنيّ اللَّه أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} "، ومنها غير ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ) بصيغة اسم الفاعل، كنية أُبيّ بن كعب رضي الله عنه (أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ) قال الطيبيُّ:"أيُّ" مُعربٌ، يستفهم به، لازم للإضافة، ولك أن تُلحق به تاء التأنيث في إضافته إلى المؤنّث، ولك أن تتركها. انتهى

(1)

. (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ) أي حال كونه مصاحبًا لك، قال الطيبيُّ: وقع موقع البيان لما كان يحفظه من كتاب اللَّه؛ لأن "مع" كلمة تدلّ على المصاحبة.

وأما جوابه أوّلًا بقوله: "اللَّه ورسوله أعلم"، وثانيًا بما أتى به، فهو أن سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم للصحابيّ في باب العلم إما أن يكون للحثّ على الاستماع لما يريد أن يُلقي عليه، أو للكشف عن مقدار فهمه، ومبلغ علمه، فلما راعى الأدب بقوله:"اللَّه ورسوله أعلم"، ورآه لا يكتفي بذلك، وأعاد السؤال علم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه.

ويَحْتَمِلُ أن يقال: إنه ما عَلِمَ الجواب أوّلًا، فأحال علمه إلى اللَّه تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فشرح اللَّه تعالى صدره بقذف النور وأعلمه، فأجاب بما أجاب، ألا ترى كيف هنّاه صلى الله عليه وسلم بقوله:"ليهنك العلم". انتهى

(2)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1643.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1643.

ص: 394

وقيل: فوّض الجواب أوّلًا، وأجاب ثانيًا؛ لأنه جوّز أن يكون حَدَثَ أفضلية شيء من الآيات غير التي كان يعلمها، فلما كَرّر عليه السؤال وأعاده بقوله:"يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب اللَّه تعالى معك أعظم؟ "، ظنّ أن مراده صلى الله عليه وسلم طلب الإخبار عما عنده، فأخبره بقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .

(أَعْظَمُ") قال إسحاق ابن راهويه وغيره: المعنى راجع إلى الثواب والأجر، أي أعظم ثوابًا وأجرًا، وهو المختار، كذا ذكره الطيبيّ (قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه (قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ "، قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه (قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}) إنما كانت آية الكرسيّ أعظم آية؛ لأنها مشتملة على أمهات المسائل الإلهيّة، فإنها دالّةٌ على أنه تعالى واحد في الالهيّة، متّصفٌ بالحياة، قائم بنفسه، مُقوِّمٌ لغيره، منزَّهٌ عن التحيّز والحلول، مبرّأٌ عن التغيّر والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يَعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد الذي لا يشفع عنده إلا من أذِنَ له، العالم وحده بالأشياء كلّها جليّها وخفيّها، كلّيّها وجزئيّها، واسع الملك والقدرة، ولا يؤوده شاقّ، ولا يشغله شأن، متعالي عما يُدركه وَهْم، عظيمٌ لا يُحيط به فهم

(1)

.

(قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه (فَضَرَبَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (فِي صَدْرِي) تعدية "ضَرَبَ" مع كونه متعدّيًا بنفسه بـ "في" نظير قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} الآية [الأحقاف: 15]، أي أَوْقِعِ الصلاح فيهم حتى يكونوا محلًا له، كقول الشاعر:

يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي

وفيه إشارة إلى امتلاء صدره علمًا وحكمة.

وإنما ضربه صلى الله عليه وسلم في صدره؛ إشارةً إلى انشراحه، وامتلائه علمًا وحكمةً، واللَّه تعالى أعلم.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ) بلفظ أمر الغائب، بفتح حرف المضارعة، وسكون الهاء، وكسر النون، وفي بعض النسخ:"ليهنئك" بهمزة

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1643.

ص: 395

بعد النون، وهي الأصل، ولإنما حذفت تخفيفًا، أي ليكن العلمُ هَنِيئًا لك، وهذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم لأُبيّ رضي الله عنه بتيسير العلم له، ورسوخه فيه، ويلزمه الإخبار بكونه عالِمًا، وهو المقصود

(1)

.

وقال الطيبيُّ: ظاهره أمر للعلم بأن يكون هنيئًا له، ومعناه الدعاء، وحقيقته إخبار على سبيل الكناية بأنه راسخ في العلم، ومجيد فيه؛ لأنه طبّق المفصل، وأصاب الْمَحَزّ. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: هَنَأَني الطعامُ يَهْنَؤُني، ويَهْنِئُنِي، ويَهْنَأُني، وهَنَأْتُ الطعامَ: أي تهنأت به، وكلُّ أمر يأتيك من غير تَعَبٍ، فهو هنيءٌ، وكذلك الْمَهْنَأُ، والْمُهَنَّأُ، والجمع الْمَهَانِئُ، هذا هو الأصل بالهمز، وقد يُخَفَّف. انتهى

(3)

.

وقال الفيّومي: هَنُؤَ الشيءُ بالضمّ مع الهمزة هَنَاءَةً بالفتح والمدّ: تيسّر من غير مشقّة ولا عَنَاءٍ، فهو هَنِئٌ، ويجوز الإبدال، والإدغام، وهَنَأَني الولدُ يَهْنَؤُني مهموزٌ، من بابي نَفَعَ، وضَرَبَ، وتقول العرب في الدعاء:"لِيَهْنِئكَ الولدُ" بهمزة ساكنة، وبإبدالها ياءً، وحذفُهَا عاميّ، ومعناه: سَرَّني، فهو هانئٌ، وهَنَأْتُهُ هَنْئًا باللغتين: أعطيته، أو أطعمته، وهَنَأَني الطعامُ يَهْنَؤُني: سَاغَ، ولَذّ، وأكلته هَنِيئًا مَرِيئًا: أي بلا مشقّة، ويَهْنُؤُ بضمّ المضارع في الكلّ لغةٌ، قال بعضهم: وليس في الكلام يَفْعُلُ بالضمّ، مهموزًا مما ماضيه بالفتح غيرُ هذا الفعل. انتهى

(4)

.

وقوله: (أَبَا الْمُنْذِرِ") بحذف حرف النداء، كما قال الحريريُّ في "مُلْحته":

وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ

كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتِجِبْ دُعَائِي"

وفي نسخة: "يا أبا المنذر" بإثباتها، وقد تقدّم أنه كنية أُبيّ رضي الله عنه، ويُكنى أيضًا أبا الطُّفَيل، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المرقاة" 4/ 629.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1644.

(3)

"النهاية" 5/ 277.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 642.

ص: 396

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 1885](810)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1460)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 370)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 141)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(178)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3937)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1836)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 197)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 56)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 304 - 344)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4/ 459)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه منقبةً عظيمةً لأُبَيّ بن كعب رضي الله عنه، حيث هنّأه النبيّ صلى الله عليه وسلم بكثرة علمه.

2 -

(ومنها): أن فيه تبجيلَ العالم فُضلاء أصحابه، وتكنيتهم.

3 -

(ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه، إذا كان فيه مصلحة، ولم يُخَفْ عليه إعجاب، ولا نحوه؛ لكمال نفسه، ورسوخه في التقوى.

4 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّ آية من كتاب اللَّه معك أعظم؟ " حجةٌ للقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيله على سائر كتب اللَّه تعالى، قال: وفيه خلاف للعلماء، فمنع منه أبو الحسن الأشعريّ، وأبو بكر الباقلانيّ، وجماعة من الفقهاء والعلماء؛ لأن تفضيل بعضه يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام اللَّه نقص به، وتأوَّل هؤلاء ما ورد من إطلاق أعظم وأفضل في بعض الآيات والسُّوَر بمعنى عظيم وفاضل.

وأجاز ذلك إسحاق ابن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين، قالوا: وهو راجع إلى عِظَمِ أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه، والمختار جواز قول: هذه الآيةُ أو السورةُ أعظم أو أفضل بمعنى أن الثواب المتعلِّق بها أكثر، وهو معنى الحديث، واللَّه أعلم.

ص: 397

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي في المسألة التالية بحثٌ نفيسٌ في هذا الموضوع لشيخ الإسلام ابن تيميّةُ -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما حاصله: اختَلَف العلماء، هل يتفاضل القرآن في نفسه، فيكون بعضه أفضل من بعض؟ على قولين:

(القول الأول): أنه لا يتفاضل في نفسه؛ لأن كلّه كلام اللَّه، وكلام اللَّه صفة له، قالوا: وصفة اللَّه لا تتفاضل، لا سيما مع القول بأنه قديم، فإن القديم لا يتفاضل، كذلك قال هؤلاء في قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، قالوا: فخير إنما يعود إلى غير الآية، مثل نفع العباد وثوابهم.

و (القول الثاني): أن بعض القرآن أفضل من بعض، وهذا قول الأكثرين من الخلف والسلف، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح في الفاتحة:"إنه لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا الزبور، ولا القرآن مثلها"، فنفى أن يكون لها مثلٌ، فكيف يجوز أن يقال: إنه متماثل؟ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب رضي الله عنه: "يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية في كتاب اللَّه أعظم؟ " قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، فضرب بيده في صدره، وقال له:"ليهنك العلم أبا المنذر"، فقد بَيَّن أن هذه الآية أعظم آية في القرآن، وهذا بَيِّنٌ أن بعض الآيات أعظم من بعض.

وأيضًا فإن القرآن كلام اللَّه، والكلام يَشْرُف بالمتكلِّم به، سواء كان خبرًا أو أمرًا، فالخبر يشرف بشرف المخبِر، وبشرف المخبَر عنه، والأمر يشرف بشرف الآمر، وبشرف المأمور به، فالقرآن وإن كان كله مشتركًا، فإن اللَّه تكلم به، لكن منه ما أخبر اللَّه به عن نفسه، ومنه ما أخبر به عن خلقه، ومنه ما أمرهم به، فمنه ما أمرهم فيه بالإيمان، ونهاهم فيه عن الشرك، ومنه ما أمرهم به بكتابة الدين، ونهاهم فيه عن الربا، ومعلوم أن ما أخبر به عن نفسه كـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وأعظم مما أخبر به عن خلقه، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، وما أمر فيه بالإيمان، وما نهى فيه عن الشرك، أعظم مما أمر فيه بكتابة الدَّين،

ص: 398

ونهى فيه عن الربا، ولهذا كان كلام العبد مشتركًا بالنسبة إلى العبد، وهو كلام لمتكلم واحد، ثم إنه يتفاضل بحسب المتكلَّم فيه، فكلام العبد الذي يذكر به ربه، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أفضل من كلامه الذي يذكر فيه خلقه، ويأمر فيه بمباح أو محظور، وإنما غَلِطَ من قال بالأول؛ لأنه نَظَرَ إلى إحدى جهتي الكلام، وهي جهة المتكلِّم به، وأعرض عن الجهة الأخرى، وهي جهة المتكلَّم فيه، وكلاهما للكلام به تعلُّق، يحصل به التفاضل والتماثل.

قالوا: ومن أعاد التفاضل إلى مجرد كثرة الثواب أو قلّته، من غير أن يكون الكلام في نفسه أفضل، كان بمنزلة مَن جَعَل عَمَلين متساويين، وثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر، مع أن العملين في أنفسهما لم يختص أحدهما بمزية، بل كدرهم ودرهم تَصَدَّق بهما رجل واحد، في وقت واحد، ومكان واحد، على اثنين متساويين في الاستحقاق، ونيّته بهما واحدة، ولم يتميز أحدهما على الآخر بفضيلة، فكيف يكون ثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر؟ بل تفاضل الثواب والعقاب دليلٌ على تفاضل الأعمال في الخير والشر.

وهذا الكلام مُتّصل بالكلام في اشتمال الأعمال على صفات، بها كانت صالحة حسنةً، وبها كانت فاسدة قبيحة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

قال: وقول من قال: صفات اللَّه لا تتفاضل ونحو ذلك قولٌ لا في ليل عليه، بل هو مورد النزاع، ومن الذي جعل صفته التي هي الرحمة لا تفضل على صفته التي هي الغضب؟ وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي"، وفي رواية:"تسبق غضبي"، وصفة الموصوف من العلم والإرادة والقدرة والكلام والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات تتفاضل من وجهين:

[أحدهما]: أن بعض الصفات أفضل من بعض، وأدخل في كل الموصوف بها، فإنا نعلم أن اتصاف العبد بالعلم والقدرة والرحمة أفضل من اتصافه بضدّ ذلك، لكن اللَّه تعالى لا يوصف بضدّ ذلك، ولا يوصف إلا بصفات الكمال، وله الأسماء الحسنى، يُدْعَى بها، فلا يدعى إلا بأسمائه الحسنى، وأسماؤه متضمنة لصفاته، وبعض أسمائه أفضل من بعض، وأدخل في كمال الموصوف بها، ولهذا في الدعاء المأثور: "أسألك باسمك العظيم

ص: 399

الأعظم الكبير الأكبر"، و"لقد دعا اللَّه باسمه العظيم الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"، وأمثال ذلك، فتفاضل الأسماء والصفات من الأمور البينات.

[والثاني]: أن الصفة الواحدة قد تتفاضل، فالأمر بمأمور يكون أكمل من الأمر بمأمور آخر، والرضا عن النبيين أعظم من الرضا عمن دونهم، والرحمة لهم أكمل من الرحمة لغيرهم، وتكليم اللَّه لبعض عباده أكمل من تكليمه لبعض، وكذلك سائر هذا الباب، وكما أن أسماءه وصفاته متنوعة، فهي أيضًا متفاضلة، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع مع العقل، وإنما شُبْهة من منع تفاضلها من جنس شبهة من منع تعددها، وذلك يرجع إلى نفي الصفات، كما يقوله الجهمية؛ لِمَا ادَّعَوه من التركيب، وقد بيّنا فساد هذا مبسوطًا في موضعه. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد شيخ الإسلام رحمه الله في هذا البحث، وأفاد، وخلاصته ترجيح قول من قال: إن بعض الآيات والسور تكون أفضل من غيرها، كما هو ظواهر النصوص التي سبقت، فلا داعي إلى دعوى تأويل قوله:"أيّ آية من كتاب اللَّه معك أعظم؟ " بأن معناه: أكثر ثوابًا، لا أنها أعظم من غيرها، فهذا التأويل خلاف الظاهر، فلا ينبغي الالتفات إليه، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(46) - (بَابُ فَضْلِ قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ})

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[6188]

(811) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ،

(1)

"مجموع الفتاوى" 17/ 208 - 212.

ص: 400

عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ " قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، وكذا لطائف الإسناد.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس رضي الله عنه، وقد سبق الخلاف في اسمه واسم أبيه في الباب الماضي (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ) بكسر الجيم، ويقال: بفتحها، قال في "القاموس": عَجِزَ، كضَرَبَ، وسَمِعَ

(1)

، وذكر في "المصباح" أنه من باب ضرب، ثم ذكر أنه كونه من باب تَعِبَ لغة لبعض قَيْس عَيلان، وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وذكر عن ابن الأعرابيّ أنه لا يقال: عَجِزَ الإنسان بالكسر إلا إذا عَظُمت عَجِيزته

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأفصح هنا كسر الجيم، لا فتحها، واللَّه تعالى أعلم.

والهمزة فيه للاستفهام الاستخباريّ (أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ " قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون لهذا الخطاب (وَكَيْفَ يَقْرَأْ) أي أحدنا (ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟) أي لأنه صعب على الدوام عادةً، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند البخاريّ:"فَشَقّ ذلك عليهم، وقالوا: أيّنا يُطيق ذلك يا رسول اللَّه؟ "(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}) أي إلى آخر السورة، أو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} اسم للسورة (تَعْدِلُ) بكسر الدال، يقال: عَدَلهُ، كضربه، وعادله: إذا وازنه وساواه، وأنّثه باعتبار السورة، ويجوز التذكير باعتبار الكلام، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مبتدأ محكيّ؛ لقصد لفظه، وخبره قوله:(ثُلُثَ الْقُرْآنِ") و"الثلث" بضمتين، ويجوز تسكين اللام، قال الفيّوميُّ:"الثلُثُ": جزءٌ من ثلاثة أجزاء، وتُضمّ اللام للإتباع، وتُسكّن، والجمع أَثْلاث، مثلُ عُنُق وأعناق،

(1)

راجع: "القاموس" 2/ 180.

(2)

راجع: "المصباح" 2/ 393.

ص: 401

والثَّلِيثُ مثلُ كَرِيم لغة فيه. انتهى

(1)

.

وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، وأبان العطّار كلاهما عن قتادة:"إن اللَّه جزّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جزءًا من أجزاء القرآن".

[تنبيه]: ظاهر حديث الباب يدلّ على أنه يحصل لمن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} من الثواب مثلُ ثواب من قرأ ثلث القرآن، وأصرح منه حديث أبي أيوب عند أحمد والترمذيّ بلفظ:"من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فقد قرأ ثلث القرآن"، وحديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه عند أبي عُبيد:"من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فكأنما قرأ ثلث القرآن"، فكلٌّ منهما صريح في أن قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن.

وكذا يدلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي عند المصنّف: "احشدوا، فسأقرأ عليكم ثلث القرآن"، وفيه: فخرج عليهم، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ثم قال:"أَلَا إنها تعدل ثلث القرآن".

فقوله صلى الله عليه وسلم: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن" يُحْمَل على أن قراءتها تعدل قراءة ثلث القرآن، ويحصُل لقارئها ثواب من قرأ ثلث القرآن، فالروايات يفسّر بعضها بعضًا، فيكون من قرأها ثلاثًا كمن قرأ ختمةً كاملةً، وللَّه عز وجل أن يُجازي عبده على اليسير بأفضل مما يُجازي به على الكثير. وبالجملة فالواجب علينا أن نقول بما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا نستشكل ما صحّ عنه، ولا نقول: كيف؟، ولا لِمَ؟، بل نكل ما جَهِلنا وجهه وتعليله إلى العالم الخبير، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].

قال الشوكانيُّ: قد عُلِّلَ كونها تعدل ثلث القرآن بعلل ضعيفة واهية، والأحسن أن يقال: إن ذلك لسرّ لم نطّلع عليه، وليس لنا الكشف عن وجهه. انتهى، وهو نفيسٌ جدًّا، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة -إن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 83.

ص: 402

شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ في "صحيحه" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فقال:

(5015)

حدّثنا عمر بن حفص، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش، حدّثنا إبراهيم، والضحاك الْمِشْرَقيّ، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه رحمه الله: أَيَعْجِز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ "، فَشَقّ ذلك عليهم، وقالوا: أَيُّنا يُطيق ذلك يا رسول اللَّه؟ فقال: "اللَّه الواحد الصمد ثلث القرآن". انتهى.

وأخرجه أيضًا أبو داود في "سننه"(1461)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(995).

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1886 و 1887](811)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(701)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 195 و 6/ 442 و 443 و 447)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(211)، و (الدارميّ) في "سننه"(3431)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3942 و 3943)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1837 و 1838)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، وقد قال بعض العلماء: إنها تضاهي كلمة التوحيد؛ لما اشتَمَلَت عليه من الجمل المثبتة والنافية، مع زيادة تعليل، ومعنى النفي فيها أنه الخالق الرزاق المعبود؛ لأنه

ص: 403

ليس فوقه من يمنعه كالوالد، ولا من يساويه في ذلك كالكفء، ولا من يعينه على ذلك كالولد.

2 -

(ومنها): أن فيه إلقاءَ العالم المسائل على أصحابه، وإن لم يبدءوه بسؤالها؛ لأهمّيّتها، وحاجتهم إليها.

3 -

(ومنها): جواز استعمال اللفظ في غير ما يَتبادَر للفهم؛ لأن المتبادِر من إطلاق ثلث القرآن أن المراد ثلث حجمه المكتوب مثلًا، وقد ظهر أن ذلك غير مراد هنا.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في شدّة اهتمامه في تعليم أصحابه ما ينفعهم، وإن لم يسألوه، فهو مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المعنى المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها ثلث القرآن":

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، فحمله بعضهم على ظاهره، فقال: هي ثلث باعتبار معاني القرآن؛ لأنه أحكام، وأخبار، وتوحيد، وقد اشتَمَلت هي على القسم الثالث، فكانت ثلثًا بهذا الاعتبار.

ويُسْتَأنس لهذا بالحديث التالي: "إن اللَّه جزّأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} جزءًا من أجزاء القرآن".

وقال القرطبيُّ: اشتَمَلت هذه السورة على اسمين من أسماء اللَّه تعالى، يتضمنان جميع أصناف الكمال لم يوجدا في غيرها من السُّوَر، وهما "الأحد الصمد"؛ لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال.

وبيان ذلك أن الأحد يُشْعِر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، والصمد يُشعر بجميع أوصاف الكمال؛ لأنه الذي انتهى إليه سؤدده، فكان مرجع الطلب منه وإليه، ولا يتم ذلك على وجه التحقيق إلا لمن حاز جميع خصال الكمال، وذلك لا يصلح إلا للَّه تعالى، فلَمّا اشتَمَلت هذه السورة على

ص: 404

معرفة الذات المقدسة، كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات، وصفات الفعل ثلُثًا. انتهى.

وقال غيره: تضمنت هذه السورة توجيه الاعتقاد، وصدق المعرفة، وما يجب إثباته للَّه تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص، ونفي الولد والوالد المقرِّر لكمال المعنى، ونفي الكفء المتضمِّن لنفي الشبيه والنظير، وهذه مجامع التوحيد الاعتقاديّ، ولذلك عادلت ثلث القرآن؛ لأن القرآن خبر وإنشاء، والانشاء أمر ونهي وإباحة، والخبر خبر عن الخالق، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عن اللَّه، وخلَّصت قارئها من الشرك الاعتقاديّ.

ومنهم من حمل المثلية على تحصيل الثواب، فقال: معنى كونها ثلث القرآن أن ثواب قراءتها يُحَصِّل للقارئ مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن، وقيل: مثله بغير تضعيف، وهي دعوى بغير دليل.

ويُؤَيِّد الإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "قل هو اللَّه أحد تعدل ثلث القرآن"، وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ألا إنها تعدل ثلث القرآن"، ولأبي عبيد من حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه:"من قرأ قل هو اللَّه أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن".

وإذا حُمِل ذلك على ظاهره، فهل ذلك لثلث من القرآن مُعَيَّن، أو لأي ثلث فُرِض منه؟ فيه نظرٌ، ويلزم على الثاني أن من قرأها ثلاثًا كان كمن قرأ ختمة كاملة.

وقيل: المراد مَنْ عَمِل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد، كان كمن قرأ ثلث القرآن.

وادَّعَى بعضهم أن قوله: "تَعْدِل ثلث القرآن" يختص بصاحب الواقعة؛ لأنه لَمّا ردَّدها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد، قال القابسيّ: ولعل الرجل الذي جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها، فلذلك استقَلَّ عمله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ترغيبًا له في عمل الخير، وإن قَلّ.

ولا يخفى ما في هذه الدعوى من البطلان، فتبصّر.

وقال ابن عبد البرّ: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأي. انتهى.

ص: 405

وقال السيوطيُّ: إنه من المتشابه الذي لا يُدرى معناه، وإياه أختار. انتهى.

وقال الزرقانيُّ: السكوت في هذه المسألة وشبهها أفضل من الكلام فيها وأسلم. انتهى.

وقد مال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله إلى، ترجيح القول الأول، ودونك ما قاله:

قال: الأحاديث المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في فضل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وأنها تعدل ثلث القرآن من أصح الأحاديث وأشهرها، حتى قال طائفة من الحفاظ، كالدارقطنيّ: لم يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في فضل سورة من القرآن أكثر مما صحّ عنه في فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، وجاءت الأحاديث بالألفاظ، كقوله:" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن"، وقوله:"من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} مرةَّ فكأنما قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين فكأنما قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثًا فكأنما قرأ القرآن كله"، وقوله للناس:"احتشدوا حتى أقرأ عليكم ثلث القرآن"، فحشدوا حتى قرأ عليهم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} قال:"والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن".

وأما توجيه ذلك، فقد قالت طائفة من أهل العلم: "إن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، هي صفة الرحمن ونسبه، وهي متضمنة ثلث القرآن، وذلك لأن القرآن كلام اللَّه تعالى، والكلام إما إنشاء وإما إخبار، فالإنشاء هو الأمر والنهي، وما يتبع ذلك، كالإباحة ونحوها، وهو الأحكام، والإخبار إما إخبار عن الخالق، وإما إخبار عن المخلوق، فالإخبار عن الخالق هو التوحيد، وما يتضمنه من أسماء اللَّه وصفاته، والإخبار عن المخلوق، هو القصص، وهو الخبر عما كان وعما يكون، ويدخل فيه الخبر عن الأنبياء وأممهم، ومن كذّبهم، والإخبار عن الجنة والنار والثواب والعقاب. قالوا: فبهذا الاعتبار

ص: 406

تكون {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن، لما فيها من التوحيد الذي هو ثلث معاني القرآن.

بقي أن يقال: فإذا كانت تعدل ثلث القرآن مع قلة حروفها، كان للرجل أن يكتفي بها عن سائر القرآن.

فيقال في جواب ذلك: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنها تعدل ثلث القرآن"، وعَدْلُ الشيء بالفتح يقال على ما ليس من جنسه، كما قال تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، فجعل الصيام عَدْل كفارة، وهما جنسان، ولا ريب أن الثواب أنواع مختلفة في الجنة، فإن كل ما يَنتفع به العبدُ ويَلتذُّ به من مأكول ومشروب ومنكوح ومشموم هو من الثواب، وأعلاه النظر إلى وجه اللَّه تعالى، وإذا كانت أحوال الدنيا لاختلاف منافعها يُحتاج إليها كلِّها، وإن كان بعضها يَعْدِل ما هو أكبر منه في الصورة، كما أن ألف دينار تعدل من الفضة والطعام والثياب وغير ذلك ما هو أكبر منها، ثم مَن مَلَك الذهب فقد ملك ما يعدل مقدار ألف دينار من ذلك، وإن كان لا يستغني بذلك عن سائر أنواع المال التي ينتفع بها؛ لأن المساواة وقعت في القدر، لا في النوع والصفة، فكذلك ثواب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، وإن كان يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر، فلا يجب أن يكون مثله في النوع والصفة، وأما سائر القرآن ففيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد ما يَحتاج إليه العبادُ، فلهذا كان الناس محتاجين لسائر القرآن ومنتفعين به منفعة لا تغني عنها هذه السورة، وإن كانت تعدل ثلث القرآن. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ: قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن"، ونحن نقول بما ثبت عنه، ولا نَعْدُوه، ونَكِل ما جَهِلنا من معناه إليه صلى الله عليه وسلم، فبه عَلِمنا ما عَلِمنا، وهو الْمُبِّين عن اللَّه مراده، والقرآن عندنا مع هذا كله كلام اللَّه، وصفة من صفاته، ليس بمخلوق،

(1)

"مجموع الفتاوى" 17/ 206 - 208.

ص: 407

ولا ندري لِمَ تعدل ثلث القرآن، واللَّه يتفضل بما يشاء على عباده، وقد قيل: إن ذلك الرجل مخصوص وحده بأنها تعدل ذلك له، وهذه دعوى لا برهان عليها، وقيل: إنها لما تضمنت التوحيد والإخلاص، كانت كذلك، فلو كان هذا الاعتلال، وهذا المعنى صحيحًا لكانت كل آية تضمنت هذا المعنى يحكم لها بحكمها، وهذا ما لا يُقْدِم العلماءُ عليه من القياس، وكلهم يأباه، ويقف عند ما رواه.

وأخرج بسنده عن إسحاق بن منصور، قال: قلت لأحمد بن حنبل: حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فكأنما قرأ ثلث القرآن"، فلم يَقُم لي على أمر بَيِّنٍ، قال: وقال لي إسحاق ابن راهويه: إنما معنى ذلك أن اللَّه جحل لكلامه فضلًا على سائر الكلام، ثم فَضّل بعض كلامه على بعض، فجعل لبعضه ثوابًا أضعاف ما جعل لغيره من كلامه؛ تحريضًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته على تعليمه، وكثرة قراءته، وليس معناه أن لو قرأ القرآن كله كانت قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ذلك إذا قرأها ثلاث مرات، لا ولو قرأها أكثر من مائتي مرة.

قال أبو عمر: من لم يُجِب في هذا أخلص ممن أجاب فيه، واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي، ويميل إليه قلبي ترجيح القول بتفويض حقيقة المعنى المراد بثلث القرآن إلى اللَّه تعالى، كما يشير إليه كلام ابن عبد البرّ المذكور آنفًا؛ لأن هذه التوجيهات التي ذكروها، والتأويلات التي أوردها لا تطمئنّ إليها النفس، ولا ينشرح لها الصدر، فتأملها بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: أخرج الترمذيّ، والحاكم، وأبو الشيخ من حديث ابن عباس رضي الله عنه رفعه:" {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، و {الْكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن"، وأخرج الترمذيّ أيضًا، وابن أبي شيبة، وأبو الشيخ من طريق سلمة بن وَرْدان، عن أنس رضي الله عنه أن " {الْكَافِرُونَ} والنصر تعدل كل منهما ربع القرآن، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن"، زاد ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ:"وآية الكرسي تعدل ربع القرآن"، وهو حديث ضعيف؛ لضعف سلمة، وإن حسّنه الترمذيّ، فلعله

ص: 408

تساهل فيه؛ لكونه من فضائل الأعمال، وكذا صحح الحاكم حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي سنده يمان بن المغيرة، وهو ضعيف عندهم، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1887]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ مجتهدٌ إمام حجة [10](ت 238) وله (72)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مُحَمَّد بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس واختَلَط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

6 -

(أَبَانُ الْعَطَّارُ) هو: أبان بن يزيد العطّار البصريّ، أبو يزيد، ثقةٌ له أفرادٌ [9] مات في (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

(1)

"الفتح" 8/ 678 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5015).

ص: 409

7 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة، ذُكر قبله.

وقوله: (جَمِيعًا عَنْ قَتَادَةَ) يعني أن كلًّا من سعيد بن أبي عروبة، وأبان العطّار رويا عن قتادة.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة الماضي، وهو: عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

والحديث مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1888]

(812) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى، قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُريرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "احْشُدُوا، فَإنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرًا

(2)

جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ

(3)

الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، صدوقٌ، ربما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن كثير بن زيد بن أفلح العبديّ مولاهم، أبو يوسف الدَّوْرقيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](252) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فَرُّوخ التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله (78) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

(2)

ووقع في نسخة: "خبرٌ" بالرفع.

(3)

وفي نسخة: "فذلك".

ص: 410

4 -

(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليَشْكُريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

5 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، مولى عزّة الأشجعيّة، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه محمد بن حاتم، فتفرّد به هو وأبو داود، ويزيد بن كيسان، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أن شيخه يعقوب أحد التسعة الذين روى لهم الجماعة بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "احْشُدُوا) أي اجتَمعوا، فهو أمر من حشد اللازم، يقال: حَشَدتُ القوم حَشْدًا، من باب نصر، وفي لغة من باب ضرب: إذا جَمَعتهم، وحَشَدُوا: أي اجتمعوا، يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، أفاده الفيّوميُّ

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: معنى "احشُدوا": أي اجتمعوا واستحضروا الناس، والْحَشْدُ: الجماعة، واحتشد القوم لفلان: تجمّعوا له، وتأهّبوا. انتهى

(2)

.

(فَإِنِّي) الفاء للتعليل، أي إنما أمرتكم بالحشد؛ لأني (سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ) أي اجتمع من اجتمع ممن سمع هذا الأمر (ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي من حجرته إلى الناس في المسجد (فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ})

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 136.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 388.

ص: 411

أي هذه السورة بتمامها، ففي الرواية التالية:"فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} حتى ختمها"(ثُمَّ دَخَلَ) صلى الله عليه وسلم بيته (فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَى) بضمّ الهمزة، وفتح الراء بمعنى أظنّ، ويجوز أيضًا فتح همزته، فهو كقول الشاعر [من الطويل]:

وَكُنْتُ أَرَى زَيْدًا كَمَا قِيلَ سَيِّدًا

إِذَ إنَّهُ عَبْدُ الْقَفَا وَاللَّهَازِمِ

قال الخضريُّ في "حاشيته": قوله: "وكنتُ أُرَى" أي أظنّ، والغالب في استعماله بمعنى الظنّ ضمّ همزته، كما قاله يس، وقد تُفْتَحُ، ويتعدّى لمفعولين فقط، فُتِح، أو ضُمّ، والضمير المستتر فاعلٌ، لا نائبه. انتهى كلامه باختصار

(1)

.

وهنا مفعولها الأول قوله: (هَذَا) ومفعولها الثاني قوله: (خَبَرًا) بالنصب على ما في بعض النسخ، وهي النسخة التي شرح عليها الأبيّ، ووقع في معظم النسخ "خبر" بصورة المرفوع، وفيه إشكال، ويَحْتَمِل أن يكون منصوبًا رُسِم بصورة المرفوع، على لغة ربيعة، وعادة قدماء المحدّثين، فإنهم يرسمون المنصوب المنوّن بصورتي المرفوع والمجرور، ويَقِفون عليه بالسكون، فيزول الإشكال، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ) جملة في محلّ نصب صفة لـ "خبرًا"(فَذَاكَ) وفي نسخة: "فذلك"(الَّذِي أَدْخَلَهُ) يعني أن سبب دخوله البيت قبل يقرأ علينا ثلث القرآن هو وحي جاءه من السماء، وهذا قالوه ظنًّا منهم أنه سيقرأ عليهم ثلث القرآن المعروف (ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) أي وقد قرأته (أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (إِنَّهَا) بكسر الهمزة؛ لوقوعها بعد "ألا" الاستفتاحيّة (تَعْدِلُ) تقدّم أنه من باب ضرب، أي تساوي (ثُلُثَ الْقُرْآنِ") وقد تقدّمت أقوال العلماء في المراد من الثلث هنا، ورجحت قول من قال: إنه من متشابه الحديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 192 في "باب إنّ وأخواتها".

ص: 412

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1888 و 1889](812)، و (الترمذيّ) في "فضائل القرآن"(2900)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 429)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3946 و 3947 و 3948 و 3949)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1839 و 1840)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 249)، وبقيّة المسائل تقدّمت في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1889]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَشِيرٍ أَبِي إِسمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ"، فَقَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}، حَتَّى خَتَمَهَا)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 587.

2 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمِي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

3 -

(بَشِيرٌ أَبُو إِسْمَاعِيلَ) هو: بشير بن سلمان الكنديّ، أبو إسماعيل الكوفيّ، والد الحكم، ثقةٌ، يُغْرِب [6].

رَوَى عن أبي حازم الأشجعيّ، وخيثمة بن أبي خيثمة، وسَيّار أبي الْحَكَم، وقيل: عن سيار أبي حمزة، ومجاهد، وعكرمة، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة: "حتى خَتَمَ".

ص: 413

ورَوَى عن ابنه الحكم، والسفيانان، وابن المبارك، وابن فضيل، ووكيع، والفريابيّ، وأبو نعيم، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وهو أحبّ إليّ من يزيد بن كيسان، وقال ابن سعد: كان شيخًا قليل الحديث، وقال البزار: حَدَّث بغير حديث، لم يشاركه فيه أحدٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (812) وحديث (157):"لا تذهب الدنيا حتى يمرّ الرجل على قبر، فيتمرّغ عليه. . . " الحديث، وحديث (2958):"لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قَتَل. . . " الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (حَتَّى خَتَمَهَا) وفي نسخة: "حتى ختم"، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1890]

(813) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِيَ هِلَالٍ، أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَرُوا

(2)

ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ

(1)

وفي نسخة: "حدّثني".

(2)

وفي بعض النسخ: "ذُكِرَ ذَلِكَ" بالبناء للمفعول.

ص: 414

يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ " فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبِ) بن مسلم المصريّ، لقبه بَحْشَل، يكنى أبا عبيد اللَّه، صدوقٌ تغير بأَخَرَةٍ [11](ت 264)(م) تقدم في "المساجد" 19/ 1277.

2 -

(عمُّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدُ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، أبو أيوب، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، قيل: مدني الأصل، وقال ابن يونس: بل نشأ بها، صدوقٌ ضعّفه ابن حزم، ولا سلف له فيه [6] مات بعد (130) أو قبلها، وقيل: قبل الخمسين بسنة (ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

5 -

(أَبُو الرِّجَالِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن حارثة الأنصاريّ، أبو الرجال -بكسر الراء، وتخفيف الجيم- مشهور بهذه الكنية، وهي لقبه، وكنيته في الأصل أبو عبد الرحمن، ثقة [5].

روى عن أمه عمرة، وأنس بن مالك، وسالم بن عبد اللَّه وغيرهم، وعنه بنوه: حارثة، وعبد الرحمن، ومالك وغيرهم.

قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، ووثقه أبو داود والنسائي، وابن حبان، وابن معين، وقال البخاري: ثبت.

أخرج له (خ م س ق)، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط.

6 -

(أُمُّهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن سعد بن زُرَارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

7 -

(عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها ماتت سنة (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

ص: 415

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله من رجال الجماعة، إلا شيخه، فمن أفراده، وأبا الرجال، فما أخرج له أبو داود، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنهم مصريون إلى سعيد، والباقون مدنيون.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أمه، وتابعي، عن تابعية.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) من الأحاديث، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بالنصب على البدليّة من "أبا الرجال"، وهو لقب بصورة الكنية، لُقّب به؛ لأنه وُلد له عشرة رجال، وكنيته أبو عبد الرحمن (حَدَّثَهُ) أي حدّث سعيدًا (عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) رضي الله عنها الأنصاريّة (وَكَانَتْ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ) بفتح الحاء، وقد تكسر، وسكون الجيم، وهو في الأصل حِضْنُ الإنسان، وهو ما دون إبطه إلى الكشح، والمراد هنا أنها كانت في حضانتها، يقال: هو في حِجْره، أي كَنَفه، وحمايته، والجمع حُجُورٌ، أفاده الفيّوميّ

(1)

، وقوله:(زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ على البدليّة من "عائشة"(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا) لم يُعرَف اسمه، وقيل: هو كلثوم بن الْهِدْم، وفيه نظر؛ لأنهم ذكروا أنه مات في أول الهجرة قبل نزول القتال، وقيل: هو كُرز بن زهدم الأنصاريّ، وسمّاه بعضهم كلثوم بن زهدم، وأما من فسّره بأنه قتادة بن النعمان، فأبعد جدًّا، وهذا ظاهرٌ، قاله في "المرعاة"

(2)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح" في شرح حديث أنس رضي الله عنه: "كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء إلخ" ما نصّه: هو كُلْثُوم بن الْهِدْم، رواه ابن منده في "كتاب التوحيد" من طريق أبي صالح، عن ابن عباس، كذا أورده

(1)

"المصباح المنير" 1/ 122.

(2)

"المرعاة" 7/ 202.

ص: 416

بعضهم، و"الْهِدْمُ" بكسر الهاء، وسكون الدال، وهو من بني عمرو بن عوف، سُكّان قباء، وعليه نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم في الهجرة إلى قباء.

قيل: وفي تعيين المبهم به هنا نظرٌ؛ لأن في حديث عائشة رضي الله عنها في هذه القصة أنه كان أمير سرية، وكلثوم بن الهدم مات في أوائل ما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فيما ذكره الطبريّ وغيره من أصحاب المغازي، وذلك قبل أن يبعث السرايا، ثم رأيت بخط بعض من تكلم على رجال "العمدة": كلثوم بن زَهْدَم، وعزاه لابن منده، لكن رأيت أنا بخط الحافظ رشيد الدين العطار، في حواشي "مبهمات الخطيب" نقلًا عن "صفة التصوف" لابن طاهر: أخبرنا عبد الوهاب بن أبي عبد اللَّه بن منده، عن أبيه، فسماه كُرز بن زهدم، فاللَّه أعلم.

وعلى هذا فالذي كان يؤم في مسجد قباء غير أمير السرية، ويدلّ على تغايرهما أن في رواية الباب أنه كان يبدأ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، وأمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة، ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله، وأمير السرية أمر أصحابه أن يسألوه، وفي هذا أنه قال: إنه يحبها، فبَشَّره بالجنة، وأمير السرية قال: إنها صفة الرحمن، فبشره بأن اللَّه يحبه، والجمع بين هذا التغاير كله ممكن، لولا ما تقدم من كون كلثوم بن الهدم مات قبل البعوث والسرايا.

وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان فأبعد جدًّا، فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها، ليس فيه أنه أَمَّ بها، لا في سفر ولا في حضر، ولا أنه سئل عن ذلك، ولا بُشِّرَ. انتهى

(1)

.

(عَلَى سَرِيَّةٍ) أي جعله أميرًا عليها، فقوله:"على سريّة" متعلّق بـ "بعَثَ"، ولا يتعلّق بصفةٍ لـ "رجلًا" كما لا يخفى، ولا بحال منه؛ لأنه بكرةٌ، وإنما لم يقل:"في سريّة"؛ لأن "على" تفيد معنى الاستعلاء.

و"السَّريِة": القِطعَةُ من الجيش، وهي فَعِيلَةٌ بمعنى فاعلة، سُمّيت بذلك؛ لأنها تَسْرِي في خُفْيَة، والجمع سَرَايا، وسَرِيَّات، مثل عَطِيَّة وَعطَايَا، وعَطِيَّات

(2)

.

(1)

"الفتح" 2/ 301 - 302 "كتاب الأذان" رقم (774).

(2)

"المصباح" 1/ 275.

ص: 417

(وَكَانَ) ذلك الرجل (يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ) أي لأنه كان إمامهم (فِي صَلَاتِهِمْ) أي التي يصليها بهم (فَيَخْتِمُ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}) أي يختم القراءة في الصلاة بها، يعني أنه يقرأ بعد الفاتحة ما شاء من القرآن، ثم إذا أراد أن يركع قرأ هذه السورة، وختم القراءة بها.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدلّ على أنه كان يقرأ بغيرها، ثم يقرؤها في كل ركعة، وهذا هو الظاهر.

ويحتمل أن يكون المراد أنه يختم بها آخر قراءته، فيختص بالركعة الأخيرة، وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين سورتين في ركعة. انتهى.

(فَلَمَّا رَجَعُوا) أي من غزوهم ذلك (ذَكَرُوا ذَلِكَ) وفي بعض النسخ: "ذُكر ذلك" بالبناء للمفعول، (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أن الصحابة ذكروا له صلى الله عليه وسلم ما كان يفعله أميرهم ذلك من ختم قراءته بهذه السورة، وهذا يدلّ على أن صنيعه ذلك لم يكن موافقًا لما أَلِفُوه من النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("سَلُوهُ) فعل أمر من سأل، قال الفيّوميُّ: الأمر من سأل اسأل بهمزة وصل، فإن كان معه واوٌ جاز الهمز؛ لأنه الأصل، وجاز الحذف للتخفيف، نحو اسألوا، وسَلُوا، وفيه لغة: سال يسال، من باب خاف يخاف، والأمر من هذه سَلْ، وفي المثنّى والمجموع: سَلَا، وسَلُوا على غير قياس. انتهى

(1)

.

(لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ ") أي التزام ختم القراءة بهذه السورة (فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ) الجار والمجرور متعلِّق بمحذوف، دلّ عليه السؤال، أي إنما أفعل ذلك لأنها صفة الرحمن عز وجل.

و"الصِّفَةُ" من الوَصْف، مثل العِدَةِ من الوَعْدِ، والجمع صِفَات، يقال: وَصَفْتُه وَصْفًا، من باب وَعَدَ: نَعَتُّهُ بما فيه، ويقال: هو مأخوذ من قولهم: وَصَفَ الثوبُ الجسمَ: إذا أظهر حالَهُ، وبَيَّنَ هَيْئَته، ويقال: الصفة هي بالحال المنتقلة، والنعت بما كان في خَلْقٍ، أو خُلُق، أفاده الفيوميّ

(2)

.

وقال في "الفتح": قال ابن التين: إنما قال: إنها صفة الرحمن؛ لأن فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقة من صفاته، وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون

(1)

"المصباح المنير" 1/ 297.

(2)

"المصباح" 1/ 661.

ص: 418

الصحابي المذكور، قال ذلك مستندًا لشيء سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، إما بطريق النصوصية، وإما بطريق الاستنباط.

وقد أخرج البيهقيُّ في "كتاب الأسماء والصفات" بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: صف لنا ربك الذي تعبده، فأنزل اللَّه عز وجل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] إلى آخرها، فقال:"هذه صفة ربي عز وجل". وعن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: انسُبْ لنا ربك، فنزلت "سورة الإخلاص". . . الحديث.

وهو عند ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وصححه الحاكم، وفيه: أنه ليس شيء يولد إلا يموت، وليس شيء يموت إلا يورث، واللَّه لا يموت، ولا يورث، ولم يكن له شِبْهٌ ولا عَدْلٌ، وليس كمثله شيء.

قال البيهقيّ: معنى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ليس كهو شيء، قاله أهل اللغة، قال: ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] يريد بالذي آمنتم به، وهي قراءة ابن عباس، قال: والكاف في قوله: "كمثله" للتأكيد، فنفى اللَّه عنه المثلية بآكد ما يكون من النفي، وأنشد لورقة بن نوفل في زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات:

وَدِينُكَ دِينٌ لَيْسَ دِينٌ كَمِثْلِهِ

ثم أسند عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم: 27] يقول: ليس كمثله شيء، وفي قوله تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] هل تعلم له شبهًا أو مثلًا؟.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "لأنها صفة الرحمن": يَحْتَمِل أن يكون مراده أن فيها ذكر صفة الرحمن، كما لو ذكر وصف، فعبر عن الذكر بأنه الوصف، وإن لم يكن نفس الوصف.

ويَحْتَمِل غير ذلك، إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة، لكن لعل تخصيصها بذلك؛ لأنه ليس فيها إلا صفات اللَّه عز وجل، فاختصت بذلك دون غيرها. انتهى.

(فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا) أي أقرأ هذه السورة التي هي صفة الرحمن عز وجل، يعني أنه لذلك يُحبّ أن يقرأ بها دائمًا؛ لأن من أحبّ شيئًا أكثر من ذكره (فَـ)

ص: 419

لَمّا أخبروه صلى الله عليه وسلم بما قاله الرجل (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) قال ابن دقيق العيد رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون سبب محبة اللَّه له محبته لهذه السورة، ويَحْتَمِل أن يكون لما دلّ عليه كلامه؛ لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الاحتمال الأول هو الأظهر الموافق لظاهر النصّ، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 1890](813)، و (البخاريّ) في "التوحيد"(7375)، و (الترمذيّ) في "فضائل القرآن"(2901)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(993)، و"الكبرى"(1065)، وفي "عمل اليوم والليلة"(703)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3950)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1841)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل "سورة الإخلاص"؛ حيث كانت محبتها موجبةً لمحبة اللَّه عز وجل التي هي أُمْنِيّة كل قاصد، ورغبة كل راغب، اللهم ارزقنا حبك، وحب من ينفعنا حبه عندك، والعمل الذي يبلغنا حبك، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

2 -

(ومنها): بيان جواز الجمع بين سُوَر متعددة غير الفاتحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قرر الرجل على فعله، وبَشَّره بما بشره به.

3 -

(ومنها): بيان جواز خصيص بعض القرآن بميل النفس إليه، والاستكثار منه، ولا يُعدّ ذلك هِجرانًا لغيره من القرآن، قاله ابن المنيِّر رحمه الله.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن الْمُنَيِّر رحمه الله أيضًا في هذا الحديث أن المقاصد تُغَيِّر أحكام الفعل؛ لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها، لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها، لكنه اعتَلّ بحبها، فظهرت صحة

ص: 420

قصده فصوّبه، قال: وفيه ما يُشْعِر بأن سورة الإخلاص مكية. انتهى.

5 -

(ومنها): أن فيه إثبات صفة المحبّة للَّه عز وجل على ما يليق بجلاله، وقد ذكر في "الفتح" اختلاف العلماء المتأخرين في معنى المحبة، أعرضت عن ذكرها هنا؛ لكونها أقوالًا مخالفة لما كان عليه السلف رحمهم اللَّه تعالى، من إثبات صفات اللَّه تعالى التي وصف بها نفسه في كتابه الكريم، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ من أحاديثه، على ما جاءت به من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.

فالحق أن صفة المحبة ثابتة للَّه عز وجل على حقيقتها على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه، ولا يلزم من إثباتها له على هذا الوجه تشبيهه بمخلوقاته، تعالى اللَّه عن ذلك علوًّا كبيرًا، كما أنه لا يلزمنا ذلك حينما نثبت سائر صفات المولى سبحانه، كالسمع، والبصر، والكلام، والعلم، وسائر صفاته، سواءً بسواء، وكما لا يلزمنا أيضًا حينما نثبت له ذاته المقدسة، فإن إثبات الصفات فرع إثبات الذات، فافهم هذا وتحققه، فإنه مما زلَّت فيه أقدام كثير من المتأخرين ممن يشتغل بعلم الكلام، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل، نسأل اللَّه تعالى أن يهدينا الصراط المستقيم، بمنّه وفضله العظيم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": وفي حديث الباب حجة لمن أثبت أن للَّه صفة، وهو قول الجمهور، وشذّ ابن حزم، فقال: هذه لفظة اصطَلَحَ عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، فإن اعترضوا بحديث الباب، فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف، قال: وعلى تقدير صحته، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] صفة الرحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه بخلاف الصفة التي يطلقونها، فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهر أو عرض، كذا قال.

قال الحافظ رحمه الله: وسعيد مُتّفَقٌ على الاحتجاج به، فلا يُلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال اللَّه تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقال بعد أن

ص: 421

ذكر منها عدة أسماء في "سورة الحشر": {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24]، والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات، ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته؛ لأنه إذا ثبت أنه حي مثلًا، فقد ثبت وصفه بصفة زائدة على الذات، وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قال سبحانه وتعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} [الصافات: 180] فنزّه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع.

وقد قسم البيهقي وجماعة من أئمة السنة جميعَ الأسماء المذكورة في القرآن، وفي الأحاديث الصحيحة على قسمين:

[أحدهما]: صفات ذاته، وهي ما استحقَّه فيما لم يزل، ولا يزال.

[والثاني]: صفات فعله، وهي ما استحقَّه فيما لا يزال دون الأزل. قال: ولا يجوز وصفه إلا بما دلّ عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة، أو أجْمِعَ عليه.

ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل، كالحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، من صفات ذاته، وكالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والعفو، والعقوبة، من صفات فعله.

ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة، كالوجه، واليد، والعين، من صفات ذاته، وكالاستواء، والنزول، والمجيء من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له؛ لثبوت الخبر بها على وجه ينفي التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته، ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه، ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

وقال القرطبيُّ في "المفهم": اشتملت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] على اسمين يتضمنان جميع أوصاف الكمال، وهما: الأحد، والصمد، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإن الواحد والأحد -وإن رجعا إلى أصل واحد- فقد افترقا استعمالًا وعرفًا؛ فالوحدة راجعة إلى نفي التعدد والكثرة، والواحد أصل العدد من غير تعرض لنفي ما عداه، والأحد يثبت مدلوله، ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا يستعملونه في النفي، ويستعملون الواحد في الإثبات، ويقال: ما رأيت أحدًا،

ص: 422

ورأيت واحدًا، فالأحد في أسماء اللَّه تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما الصمد فإنه يتضمن جميع أوصاف الكمال؛ لأن معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يُصمَد إليه في الحوائج كلها، وهو لا يتم حقيقة إلا للَّه. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(47) - (بَابُ فَضْلِ قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1891]

(814) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ

(3)

، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رَجاء الْبَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب، [8](ت 188) وله إحدى وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 55.

3 -

(بَيَانُ) بن بِشْر الأحمسيّ البجليّ المعلم، أبو بِشْر الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5].

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 369 - 370.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "أنزلت هذه الليلة"، وفي أخرى:"أُنزلن الليلة".

ص: 423

رَوَى عن أنس، وقيس بن أبي حازم، والشعبيّ ووَبَرَة بن عبد الرحمن الْمُسْلِيّ، وإبراهيم التيميّ، وحُمران بن أبان، وعكرمة، وأبي عمرو الشيبانيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه شعبة، والسفيانان، وشَرِيك، وزائدة، وزهير، ومعتمر، وأبو عوانة، وهاشم بن الْبَرِيد، ومحمد بن فُضيل، وجرير، وغيرهم.

قال ابن المدينيّ: له نحو سبعين حديثًا، وقال أحمد: ثقة من الثقات، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، زاد أبو حاتم: وهو أعلى من فِرَاس، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، وليس بكثير الحديث، رَوَى أقل من مائة حديث، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةً ثبتًا، وقال يعقوب بن سفيان: ثقةٌ، وقال أبو ذَرّ الْهَرَويّ، عن الدارقطنيّ: هو أحد الثقات الأثبات.

وفرّق أبو الفضل الهرويّ، والخطيب، في "المتفق والمفترق" بينه وبين بيان بن بِشْر المعلِّم، يروي عنه هاشم بن الْبَرِيد، زاد الخطيب: ليس لهاشم رواية عن البجليّ.

قال الحافظ: ومما يدلّ على أنهما اثنان أن المعلِّم طائيّ، والآخر بَجَليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، هذا برقم (814) وحديث (1042) و (1224) و (1233) و (1929) و (2475) و (2476).

4 -

(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2]، مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتَغَيَّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.

5 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهَنِيّ، صحابيّ مشهورٌ، اختُلِف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أنه أبو حماد، وَلِيَ إِمْرَةَ مصر لمعاوية رضي الله عنه ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات رضي الله عنه في قرب الستين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

ص: 424

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم: بيان، عن قيس.

4 -

(ومنها): أن قيسًا تابعيّ مخضرمٌ ويقال: له رؤية، وهو الذي انفرد من بين التابعين بالرواية عن العشرة المبشرين بالجنة، على الأصح في عبد الرحمن بن عوف، وليس ذلك لأحد من التابعين غَيرِهِ، وإلى هذا أشار الحافظ السيوطيُّ في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَالتَّابِعُونَ طَبَقَاتٌ عَشَرَهْ

مَعْ خَمْسَةٍ أوَّلُهُمْ ذُو الْعَشَرهْ

وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ

وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمٍ كَثِيرُ

شرح الحديث:

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) الْجُهنيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ) الرؤية المراد بها هنا العلم، والاستفهام تقريريّ، حاصله إثبات ما بعد النفي، أي اعْلَمْ آيات.

وقال الطيبيّ: قوله: "ألم تر" هي كلمة تعجّب وتعجيب، ولذلك بيّن معنى التعجّب بقوله:"لم يُر مثلهنّ".

(أُنْزِلَتِ) بالبناء للمفعول (اللَّيْلَةَ) وفي نسخة: "هذه الليلة"، وفي أخرى:"أُنزِلن الليلة" بنون الجماعة، أي أنزلهنّ اللَّه تعالى عليّ في هذه الليلة (لَمْ يُرَ) قال النوويُّ: ضبطناه بالنون المفتوحة، وبالياء المضمومة مبنيًّا للمفعول، وكلاهما صحيح، وقوله:(مِثْلُهُنَّ) على الأول منصوب على المفعوليّة، وعلى الثاني مرفوع على أنه نائب الفاعل، والجملة في محل نصب صفة بعد صفة، أو حال.

وقوله: (قَطُّ) من ظروف الزمان تُستَعْمَل للماضي، وقد تقدم قول شيخنا عبد الباسط المِنَاسِيُّ رحمه الله تعالى في ضبطها:

وَخَمْسَةً جَعَلَ مَنْ قَطُّ ضَبَطْ

قَطُّ وَقُطُّ قَطِّ ثُمَّ قَطُ قَطْ

والمعنى أنه لم يُنْزِل اللَّه تعالى عليّ فيما مضى من الزمان مثل هؤلاء الآيات في بابهنّ، وهو الاستعاذة، يعني أنه لم يكن آياتُ سورةٍ كُلُّهُنَّ تعويذٌ للقارئ غير هاتين السورتين، ففي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجانّ، وأعين الإنسان، فلما نزلت

ص: 425

المعوّذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما"، أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وقال الترمذيّ: حسن صحيح.

وقال الطيبيُّ: قوله: "لم يُرَ مثلهنّ" أي لم تكن آيات سورة كلّهنّ تعويذات للقارئ من شرّ الأشرار غير هاتين السورتين.

ولذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من عين الجانّ، وعين الإنس، فلما نزلت المعوّذتان أخذ بهما، وترك ما سواهما، ولَمّا سُحِر استشفى بهما، وإنما كان كذلك؛ لأنهما من الجوامع في هذا الباب، فتأمّل في أولاهما كيف خصّ وصف المستعاذ به بربّ الفلق، أي بفالق الإصباح؛ لأن هذا الوقت وقت فَيَضَان الأنوار، ونزول الخيرات والبركات، وخصّ المستعاذ منه بما خلق، فابتدأ بالعامّ من قوله:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} ، أي من شرّ خلقه، وشرّ ما يفعله المكلّفون من المعاصي، ومضارّة بعضهم بعضًا، من ظلم وبغي، وقتل، وضرب، وشتم، وغيره، وما يفعله غير المكلّفين من الحيوان، كالسباع والحشرات، من الأكل، والنَّهْش، واللَّدْغِ، والعضّ، وما وضعه اللَّه تعالى في غير الحيوان، من أنواع الضرر، كالإحراق في النار، والقتل في السمّ.

ثم ثنّى بالعطف عليه ما هو شرّه أخفى من الزمان، ما هو نقيض انفلاق الصبح، من دخول الظلام، واعتكاره المعنِيّ بقوله:{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ؛ لأن انبثاث الشرّ فيه أكثر، والتحرّز منه أصعب، ومنه قولهم:"الليل أخفى للويل"، وخصّ ما يمكن في الزمان بما غائلته خفيّة من النفّاثات والحاسد.

قال الطيبيّ: وقد خصّ شرّ هؤلاء من كل شرّ؛ لخفاء أمره، وأنه يَلْحَق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به، وقيّد الحاسد بـ {إِذَا حَسَدَ} ؛ لأن الحاسد إذا أظهر حسده، وعَمِلَ بمقتضاه من بَغْي الغوائل للمحسود كان شرّه أتمّ، وضرّه أكمل.

ثم تأمّل في ثانيتهما كيف وصف المستعاذ به بالربّ، ثم بالملك، ثم بالإله، وأضافها إلى الناس، وكرّره، وخصّ المستعاذ منه بالوسواس الْمَعْنِيّ به الموسوس من الجنة والناس.

قال: هذه المبالغة في جانب المستعاذ به، والترقّي في الصفات يقتضي

ص: 426

المبالغة في المستعاذ منه، ولعمري إن هذه الوسوسة إما أن تكون في صدر المستعيذ، وهي رأس كلّ شرّ، ومنشأ كلّ ضلالة وكفر وبدعة، أو في صدر من يضادّه، وهي معدن كلّ مضرّة، ومنبع كلّ نكال وعقوبة، فيدخل فيه نفثة كلّ نافث، وحسد كلّ حاسد. انتهى

(1)

.

وقوله: ({قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ") بدل من "آيات"، أو خبر لمحذوف محكيّ لقصد لفظه، أي هنّ {قُلْ أَعُوذُ} إلخ، أو مفعول لفعل مقدّر محكي، أي أعني، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [47/ 1891 و 1892 و 1893](814)، و (الترمذيّ) في "فضائل القرآن"(2902) و (3367)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(954)، و"كتاب الاستعاذة"(5440)، و"الكبرى"(1036)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 144 و 150 و 151 و 152)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 554)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3953 و 3954 و 3955 و 3956 و 3957)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1842 و 1843 و 1844)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 350 و 351)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 394)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عظم فضل هاتين السورتين، وقد سبق اختلاف أهل العلم في جواز إطلاق تفضيل بعض سور القرآن على بعض، وترجيح الراجح من ذلك -وهو الجواز- بدليله في الباب الماضي.

وقال الشوكانيُّ: فيه دليل على مزيد فضلهما، ولا تعارض بين هذا وبين

(1)

"الكاشف" 5/ 1650 - 1651.

ص: 427

ما ورد فيه مثل ذلك من السور والآيات، بل ينبغي أن يُحْمَل ما ورد تفضيله على أنه فاضل على ما عدا ما قد وقع تفضيله بدليل آخر، فالتفضيل من هذه الحيثية إضافيّ لا حقيقيّ، وهذا جمع حسنٌ، فإن مَنَعَ مانع من ذلك فالمرجع الترجيح بين الأدلة القاضية بالتفضيل. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا واضحًا على كون هاتين السورتين من القرآن، وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.

3 -

(ومنها): أن لفظة "قل" من القرآن ثابتة في أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأمة على ذلك، كما قاله النوويُّ.

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله: [فإن قلت]: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر، والمأمور به، فقال:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ، ومعلوم أنه إذا قيل: قل: الحمد للَّه، وقل: سبحان اللَّه، فإن امتثاله أن يقول: الحمد للَّه، وسبحان اللَّه، ولا يقول: قل: سبحان اللَّه؟.

[قلت]: هذا هو السؤال الذي أورده أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينه، وأجابه عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال البخاريّ في "صحيحه": حدّثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عاصم، وعبدة، عن زِرّ، قال: سألت أُبيّ بن كعب عن المعوذتين، فقال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"قيل لي، فقلت"، فنحن نقول كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: حدّثنا علي بن عبد اللَّه، ثنا سفيان، ثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زِرّ بن حُبيش، وحدّثنا عاصم، عن زِرّ قال: سألت أُبيّ بن كعب، قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال: إني سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"قيل لي، فقلت: قل"، فنحن نقول كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القيّم رحمه الله: مفعول القول محذوف، وتقديره قيل لي: قل، أو قيل لي هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي، وتحت هذا السرّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس له في القرآن إلا بلاغه، لا أنه هو أنشأه من قِبَلِ نفسه، بل هو المبلغ له عن اللَّه، وقد قال اللَّه له:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} ، فكان يقتضي البلاغُ التامُّ أن

(1)

"تحفة الذاكرين بعُدّة الحصن الحصين" 1/ 414.

ص: 428

يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} كما قال اللَّه، وهذا هو المعنى الذي أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه بقوله:"قيل لي، فقلت"، أي إني لست مبتدئًا، بل أنا مُبَلِّغٌ، أقول كما يقال لي، وأُبَلِّغ كلام ربي كما أنزله إليّ -فصلوات اللَّه وسلامه عليه- لقد بلغ الرسالة، وأَدَّى الأمانة، وقال كما قيل له، فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول هذا القرآن العربيّ، وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به، ففي هذا الحديث أبين الردّ لهذا القول، وأنه صلى الله عليه وسلم بَلَّغَ القول الذي أُمر بتبليغه على وجهه ولفظه، حتى لِمَا قيل له: قل؛ لأنه مبلغ مَحْضٌ، وما على الرسول إلا البلاغ. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في كون هاتين السورتين من القرآن الكريم:

أخرج النسائيُّ في "سننه"، وصححه ابن خزيمة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن المعوِّذتين، قال عقبة: فأمّنا بهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر.

وفي رواية ابن خزيمة: "سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المعوّذتين، أمن القرآن هما؟ " الحديث.

هذا الحديث يدلّ على أن هاتين السورتين من القرآن العظيم، وهو الذي استقر عليه الإجماع أخيرًا، وكان عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه يخالف في ذلك.

فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بسنده عن زرّ بن حُبَيش، قال: قلت لأبَيّ بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال: أشهد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1] فقلتها، قال:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} [الناس: 1] فقلتها، فنحن نقول ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ورواه أبو بكر الحميدي في "مسنده"، عن سفيان بن عيينة، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، وعاصم بن بهدلة، أنهما سمعا زِرّ بن حبيش، قال: سألت أبي بن

(1)

"بدائع الفوائد" 2/ 428 - 429.

ص: 429

كعب عن المعوذتين، فقلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يَحُكُّ المعوذتين من المصحف؟ فقال: إني سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"قيل لي: قل، فقلت"، فنحن نقول كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وأخرج البخاري في "صحيحه" عن زرّ، قال: سألت أبي بن كعب، فقلت: أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال: إني سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"قيل لي، فقلت"، فنحن نقول كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وأخرج أبو يعلى بسنده عن علقمة، قال: كان عبد اللَّه يحك المعوذتين من المصحف، ويقول: إنما أُمِرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما، ولم يكن عبد اللَّه يقرأ بهما.

وأخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند من حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: كان عبد اللَّه يحك المعوذتين من مصاحفه، ويقول: إنهما ليستا من كتاب اللَّه.

قال الأعمش: وحدثنا عاصم، عن زرّ بن حبيش، عن أبي بن كعب، قال: سألنا عنهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"قيل لي، فقلت".

أورد هذه الأحاديث ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"، ثم قال ما نصه:

وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن مسعود رضي الله عنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوهما في المصاحف الأئمة، ونَفَّذُوهما إلى سائر الآفاق كذلك، وللَّه الحمد والمنة. انتهى كلام ابن كثير ملخصًا

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله بعد ذكره نحو ما تقدم من الأحاديث نقلًا عن البزار ما نصّه: ولم يُتابِع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة.

وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة.

قال الحافظ: وهو في "صحيح مسلم" عن عقبة بن عامر، وزاد فيه ابن

(1)

"تفسير ابن كثير" 4/ 610 - 611.

ص: 430

حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر: "فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل".

وأخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشِّخِّير، عن رجل من الصحابة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرأه المعوذتين، وقال له:"إذا أنت صليت، فاقرأ بهما". وإسناده صحيح.

ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، فقرأ بالمعوذتين".

وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلانيّ في كتاب "الانتصار" -وتبعه عياض وغيره- ما حُكِي عن ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئًا، إلا إذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، قال: فهذا تأويل منه، وليس جحدًا لكونهما قرآنًا.

قال الحافظ: وهو تأويل حسن، إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك، حيث جاء فيها:"ويقول: إنهما ليستا من كتاب اللَّه".

نعم يمكن حمل لفظ كتاب اللَّه على المصحف، فيتمشى التأويل المذكور.

وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيتهما، وإنما كان في صفة من صفاتهما. انتهى.

وغاية ما في هذا أنه أبهم ما بيّنه القاضي، ومن تأمل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع.

وأما قول النووي في "شرح المهذب": أجمع المسلمون على أن المعوذتين، والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئًا كَفَرَ، وما نُقِل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح، ففيه نظر.

وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم، فقال في أوائل "المحلَّى": ما نُقِل عن ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين، فهو كذب باطل.

وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل.

ص: 431

والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يُقبل، بل الرواية صحيحة، والتأويل مُحْتَمِل، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر، فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول.

وقد قال ابن الصباغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة، ولم يقل: إنهم كفروا بذلك، وإنما لم يكفروا لأن الإجماع لم يكن استقر، قال: ونحن الآن نكفر من جحدها، قال: وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوذتين، يعني أنه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك.

وقد استَشْكَل هذا الموضع الفخر الرازيّ، فقال: إن قلنا: إن كونهما من القرآن كان متواترًا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرهما، وإن قلنا: إن كونهما من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعض القرآن لم يتواتر، قال: وهذه عُقْدة صعبة.

وأجيب باحتمال أنه كان متواترًا في عصر ابن مسعود، لكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلت العُقْدة بعون اللَّه تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو كلام نفيس، وبحث أنيسٌ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قد ذكر الإمام ابن القيّم رحمه الله بحثًا نفيسًا يتعلّق بحديث الباب، أحببت إيراده لغزارة فوائده، ونفاسة عوائده، قال رحمه الله بعد أن ذكر بعض الأحاديث الواردة في هاتين السورتين ما نصّه:

والمقصود الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة، بل الضرورةِ إليهما، وأنه لا يَستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًّا في دفع السحر، والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النَّفَس والطعام والشراب واللباس.

فنقول -واللَّه المستعان-: قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول، وهي أصول الاستعاذة: أحدها: نفس الاستعاذة، والثانية المستعاذ به، والثالثة المستعاذ منه، فبمعرفة ذلك تُعْرَف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين،

ص: 432

فلنعقد لهما ثلاثة فصول: الفصل الأول في الاستعاذة، والثاني في المستعاذ به، والثالث في المستعاذ منه:

[الفصل الأول]: الاستعاذة، وبيان معناها:

(اعلم): أن لفظ عاذ، وما تصرف منها يدلّ على التحرّز والتحصّن والنجاة، وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى مَن يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به مَعَاذًا، كما يسمى ملجأً ووَزَرًا.

وفي الحديث أن ابنة الْجَوْن لما أدخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عليها، قالت: أعوذ باللَّه منك، فقال لها:"قد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك"، رواه البخاريّ.

فمعنى أعوذ ألتجئ، وأعتصم، وأتحرز، وفي أصله قولان:

[أحدهما]: أنه مأخوذ من السَّتْر، والثاني أنه مأخوذ من لزوم المجاورة، فأما من قال: إنه من الستر، قال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها: عُوَّذ -بضم العين، وتشديد الواو، وفتحها- فكأنه لما عاذ بالشجرة، واستتر بأصلها وظلها سَمَّوه عُوَّذًا، فكذلك العائذ قد استتر من عدوّه بمن استعاذ به منه، واستجَنَّ به منه.

ومن قال: هو لزوم المجاورة قال: العرب تقول للَّحم إذا لَصِقَ بالعظم، فلم يتخلص منه: عُوَّذ؛ لأنه اعتصم به، واستمسك به، فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به ولزمه، والقولان حقّ، والاستعاذة تنتظمهما معًا، فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، متمسك به، معتصم به، قد استَمْسَك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفًا، وقصده به فهرب منه، فعرض له أبوه في طريق هربه، فإنه يُلقي نفسه عليه، ويستمسك به أعظم استمساك، فكذلك العائذ قد هَرَب من عدوه الذي يَبْغَى هلاكه إلى ربه ومالكه، وفَرّ إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، واستجار به، والتجأ إليه.

وبَعْدُ فمعنى الاستعاذة القائمُ بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام والانطراح بين يدي الربّ، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه أمرٌ لا تحيط به العبارة.

ونظير هذا التعبيرُ عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته، فإن العبارة

ص: 433

تقصر عن وصف ذلك، ولا يُدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لِعِنِّين لم تُخْلَق له شهوة أصلًا، فلو قرّبتها وشبّهتها بما عساك أن تشبهها به، لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه، فإذا وصفتها لمن خُلِقت فيه، ورُكِّبت فيه عَرَفها بالوجود والذوق.

وأصل هذا الفعل أَعْوُذُ بتسكين العين، وضم الواو، ثم أُعل بنقل حركة الواو إلى العين، وتسكين الواو، فقالوا: أعوذ على أصل هذا الباب، ثم طردوا إعلاله، فقالوا في اسم الفاعل: عائذٌ، وأصله عاوِذٌ، فوقعت الواو بعد ألف فاعلٍ، فقلبوها همزة، كما قالوا: قائم وخائف، وقالوا في المصدر: عياذًا باللَّه، وأصله عِوَاذًا كَلِوَاذًا، فقلبوا الواو ياء؛ لكسرة ما قبلها، ولم تَحْصُنها حركتها؛ لأنها قد ضَعُفَتْ بإعلالها في الفعل، وقالوا: مستعيذٌ، وأصله مُستَعْوِذٌ، كمستخرج، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها، ثم قلبت الواو قبلها كسرة، فقلبت ياءً على أصل الباب.

[فإن قلت]: فَلِمَ دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل، كقوله {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} ، ولم تدخل في الماضي والمضارع، بل الأكثر أن يقال: أعوذ باللَّه، وعُذْت باللَّه، دون أستعيذ، واستعذت؟.

[قلت]: السين والتاء دالّة على الطلب، فقوله: أستعيذ باللَّه، أي أطلب العياذ به، كما إذا قلت: أستخير اللَّه، أي أطلب خيرته، وأستغفره، أي أطلب مغفرته، وأستقيله، أي أطلب إقالته، فدخلت في الفعل إيذانًا لطلب هذا المعنى من المعاذ، فإذا قال المأمور: أعوذ باللَّه، فقد امتثل ما طُلب منه؛ لأنه طُلب منه الالتجاء والاعتصام، وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك، فلما كان المستعيذ هاربًا ملتجئًا معتصمًا باللَّه، أَتَى بالفعل الدالّ على ذلك، دون الفعل الدالّ على طلب ذلك، فتأمله.

وهذا بخلاف ما إذا قيل: استَغْفِرِ اللَّهَ، فقال: أستغفر اللَّه، فإنه طُلِب منه أن يطلب المغفرة من اللَّه، فإذا قال: أستغفر اللَّه كان ممتثلًا؛ لأن المعنى أطلب من اللَّه تعالى أن يغفر لي.

وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين، فيقول: أستعيذ باللَّه تعالى، أي أطلب منه أن يعيذني، ولكن هذا معنًى غيرُ نفس

ص: 434

الاعتصام والالتجاء والهرب إليه، فالأول يخبر عن حاله وعياذه بربه، وخبرُه يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه، والثاني طالب سائل من ربه أن يعيذه، كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني، فحال الأول أَكمَل مَجِيء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر.

ولهذا جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في امتثال هذا الأمر: "أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم"، و"أعوذ بكلمات اللَّه التامات"، و"أعوذ بعزة اللَّه وقدرته"، دون أستعيذ، بل الذي علمه اللَّه إياه أن يقول: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس، دون أستعيذ فتأمل هذه الحكمة البديعة.

[الفصل الثاني]: في المستعاذ به:

المستعاذُ به وهو اللَّه وحده ربّ الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شرّ ما استعاذوا من شره.

وقد أخبر اللَّه تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانًا ورَهَقًا، فقال حكاية عن مؤمني الجن:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر، فأمسى في أرض قفر، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح، أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رَهَقًا، أي طغيانًا وإثمًا وشرًّا، يقولون: سُدْنا الإنس والجنّ، والرهق في كلام العرب الإثم، وغشيان المحارم، فزادوهم بهذه الاستعاذة غشيانًا لما كان محظورًا من الكبر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن.

واحتَجَّ أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات اللَّه غير مخلوقة، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم استعاذ بقوله أعوذ بكلمات اللَّه التامات، رواه مسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق أبدًا.

ونظير ذلك قوله: "أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك"، رواه مسلم، فدلَّ على أن رضاه وعفوه من صفاته، وأنه غير مخلوق، وكذلك قوله:"أعوذ بعزة اللَّه وقدرته"، أخرجه مسلم، وقوله: "أعوذ بنور وجهك الذي

ص: 435

أشرقت له الظلمات"، إسناده قابل للتحسين، وما استعاذ به النبيّ صلى الله عليه وسلم غير مخلوق، فإنه لا يستعيذ إلا باللَّه، أو صفة من صفاته.

وجاءت الاستعاذة في هاتين السورتين باسم الربّ والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفَلَق، وإلى الناس، ولا بدّ من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الاستعاذة المطلوبة، ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها، وقد قرَّرنا في مواضع متعددة أن اللَّه عز وجل يُدْعَى بأسمائه الحسنى، فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه.

وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في هاتين السورتين: إنه ما تعوذ المتعوذون بمثلهما، فلا بدّ أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيًا للمطلوب، وهو دفع الشرّ المستعاذ منه، أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشيء المستعاذ منه، فتتبين المناسبة المذكورة، فنقول:

[الفصل الثالث]: في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين، الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين: إما ذنوب وقعت منه، يعاقب عليها، فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشرّ هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرّين وأدومهما، وأشدّهما اتصالًا بصاحبه، وإما شر واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلف، أو غير مكلف، والمكلف إما نظيره، وهو الإنسان، أو ليس نظيره، وهو الجنيّ، وغير المكلف مثل الهوامّ، وذوات الْحُمَّى، وغيرها.

فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها، بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذةً، بحيث لم يبق شرّ من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.

فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة: أحدها: شر المخلوقات التي لها شرّ عمومًا، الثاني: شر الغاسق إذا وقب، الثالث: شر النفاثات في العقد، الرابع: شر الحاسد إذا حسد، فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد، والتحرز منها قبل وقوعها، وبماذا تُدفع بعد وقوعها.

ص: 436

وقبل الكلام في ذلك لا بدّ من بيان الشرّ ما هو؟ وما حقيقته؟ فنقول: الشرّ يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يُفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك.

فالشرور هي الآلام وأسبابها، فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذّة، لكنها شرور؛ لأنها أسباب الآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها، فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والْخَنْق بالْحَبْل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها ولا بدّ ما لم يمنع السببية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه، وأشد اقتضاء لضده، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها، فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب، فيدفع الأقوى للأضعف.

وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة، والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذّةٌ ما هي شرّ، وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة، وهي بمنزلة طعام لذيذ شهيّ لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذّ لآكله، وطاب له مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل، فهكذا المعاصي والذنوب ولا بدّ، حتى لو لم يُخْبِر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده، وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن اللَّه إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].

ومن تأمل ما قَصّ اللَّه تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره، وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال اللَّه عنهم من نعمه، وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب، كما قيل [من المتقارب]:

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا

فَإِنَّ الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ

ص: 437

فما حُفظت نعمة اللَّه بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نار النِّعَم التي تَعْمَل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس.

ومن سافر بفكره في أحوال العالم، استغنى عن تعريف غيره له، والمقصود أن هذه الأسباب شرور ولا بدّ وأما كون مسبباتها شرورًا، فلأنها آلام نفسية وبدنية، فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسيّ ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات.

ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حقَّ التفطن لأعطاه حقّه من الحذر والجدّ في الهرب، ولكن قد ضُرِب على قلبه حجاب الغفلة؛ ليقضي اللَّه أمرًا كان مفعولًا، فلو تيقظ حقّ التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من اللَّه تعالى، وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم، والإشراف والاطلاع على عالم البقاء، فحينئذ يقول:{يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]، و {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].

مَدارُ المستعاذات على الآلام وأسبابها:

ولما كان الشرّ هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبيّ صلى الله عليه وسلم جميعها مدارها على هذين الأصلين، فكلُّ ما استعاذ منه، أو أمر بالاستعاذة منه، فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه، فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع، وأمر بالاستعاذة منهنّ، وهي عذاب القبر، وعذاب النار، فهذان أعظم المؤلمات، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، رواه البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ.

وهذان سبب العذاب المؤلم، فالفتنة سبب العذاب، وذكر الفتنة خصوصًا وعمومًا، وذكر نوعي الفتنة؛ لأنها إما في الحياة، وإما بعد الموت، ففتنة الحياة قد يتراخى عنها العذاب مدةً، وأما فتنة الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ، فعادت الاستعاذة إلى الألم والعذاب وأسبابها، وهذا من آكد

ص: 438

أدعية الصلاة حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يَدْعُ به في التشهد الأخير، وأوجبه ابن حزم في كل تشهد، فإن لم يأت به بطلت صلاته.

استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ثمانية أشياء:

ومن ذلك قوله: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والْحَزَن، والعجز والكسل، والْجُبْن والبخل، وضَلَع الدين، وغلبة الرجال". رواه البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ.

فاستعاذ من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان، فالهم والحزن قرينان، وهما من آلام الروح ومعذباتها، والفرق بينهما أن الهمّ توقع الشر في المستقبل، والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي، أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يَرِدُ على الروح، فإن تعلق بالماضي سُمّي حَزْنًا، وإن تعلق بالمستقبل سمي هَمًّا.

والعجز والكسل قرينان، وهما من أسباب الألم؛ لأنهما يستلزمان فوات المحبوب، فالعجز يستلزم عدم القدرة، والكسل يستلزم عدم إرادته، فتتألم الروح؛ لفواته بحسب تعلقها به، والتذاذها بإدراكه، لو حصل.

والجبن والبخل قرينان؛ لأنهما عدم النفع بالمال والبدن، وهما من أسباب الألم؛ لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة، لا تنال إلا بالبذل والشجاعة، والبخل يحول بينه وبينها أيضًا فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام.

وضَلَع الدين، وقهر الرجال قرينان، وهما مؤلمان للنفس، معذبان لها، أحدهما قهر بحقّ، وهو ضلع الدين، والثاني قهر بباطل، وهو غلبة الرجال، وأيضًا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب، وغلبة الرجال قهر بغير اختياره.

ومن ذلك تعوذه صلى الله عليه وسلم من المأثم والمغرم، رواه البخاريّ، فإنهما يسببان الألم العاجل.

ومن ذلك قوله: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك"،

ص: 439

رواه مسلم، فالسخط سبب الألم، والعقوبة هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام، وأقوى أسبابها.

وهكذا طوّل نفسه الإمام ابن القيّم رحمه الله في هذا الموضوع بما لم يُسبَق إلى جمعه، وتحقيقه، وإيراده في محلّ واحد، فللَّه درّه من إمام محقّق، وجهبذ مدقّق، فإن أردت استيفاء هذا البحث، فارجع إلى كتابه الممتع "بدائع الفوائد"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1892]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ، أَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ، لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ، الْمُعَوِّذَتَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيُ الكوفيّ، أبو عبد الرحمن، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) هو: عبد اللَّه بن نُمَير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب حديث، من أهل السنة، من كبار [9](ت 199) وله (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد الأحمسيّ مولاهم البجليّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (أَوْ أُنْزِلَتْ)"أو" للشكّ من الراوي.

وقوله: (الْمُعَوِّذَتَيْنِ) قال النوويُّ: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيحٌ، وهو منصوب بفعل محذوف، أي أعني المعوّذتين، وهو بكسر الراء. انتهى.

(1)

"بدائع الفوائد" 2/ 424 إلى آخر البحث.

ص: 440

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1893]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، وَكَانَ مِنْ رُفَعَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة القرشيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد إسماعيل الماضي، وهو: عن قيس بن أبي حازم، عن عقبة بن عامر.

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ إلخ) يعني أن وكيعًا اقتصر على قوله: "عن عقبة بن عامر"، وأما أبو أسامة فزاد في روايته قوله:"الجهني، وكان من رُفعاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، والرّفعاء بضم، ففتح: جمع رفيع، أي مرفوع القدر والرتبة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 441

(48) - (بَابُ بَيانِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلّا في اثْنَتَيْنِ"، وقَوْلِهِ: "إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أقوامًا، ويَضَعُ بِهِ آخَرِينَ")

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1894]

(815) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ ابْنُ حَرْبٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ

(1)

: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ الأصل، أبو بكر بنْ أبي شيبة الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير الناقد، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شَدَّاد، أبو خيثمة النسائيّ نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وهو ابنَ (74) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ حجةٌ، من رؤوس الطبقة [8] مات في رجب (198) وله (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

5 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب بن عبد اللَّه بن الحارث بن زُهْرة بن كلاب القرشيّ الزهريّ، أبو بكر الفقيه الحافظ

(1)

وفي نسخة: "إلا في اثنين".

ص: 442

المدنيّ، متفق على جلالته وإتقانه، وهو من رؤوس الطبقة [4](ت 125) أو قبل ذلك بسنة أو سنتين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(سَالِمُ) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عُمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وكان ثبتًا عابدًا فاضلًا، كان يُشَبَّهُ بأبيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

7 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عبد الرحمن، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، كما سبق آنفًا في تراجمهم.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ، وأبو بكر كوفيّ، والباقيان بغداديّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن سالِمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وذو مناقب جمّة، وُلد بعد المبعث بيسير، واستُصْغِر يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة، وهو أحد المكثرين من الصحابة، والعبادلة الأربعة، وكان من أشدّ الناس اتّباعًا للأثر، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَا حَسَدَ) كلمة "لا" لنفي الجنس، و"حَسَدَ" اسمها مبنيّ على الفتح، وخبره محذوف، أي لا حسد جائزٌ، أو صالحٌ، أو نحو ذلك، قاله في "العمدة"

(1)

.

(1)

"عمدة القاري" 2/ 85.

ص: 443

وقال في "القاموس": حَسَدَهُ الشيءَ، وعليه، يَحْسُدُهُ، من باب ضرب ونصر، حَسَدًا بالتحريك، وحُسُودًا بالضمّ، وحَسَادة بالفتح، وحَسَّدّه بالتشديد: تَمَنّى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته، أو يُسْلَبَهما، وهو حاسدٌ من حُسَّد، وحُسّاد، وحَسَدَة، وحَسُودٌ بالفتح من حُسُد بضمتين، وحَسَدَني اللَّهُ إن كنت أَحْسُدُك، أي عاقبني على الْحَسَد، وتحاسدوا حَسَدَ بعضهم بعضًا. انتهى بإيضاح

(1)

.

وقال في "المصباح": حَسَدتُهُ على النعمة، وحَسَدته النعمةَ حَسَدًا بفتح السين أكثر من سكونها، يتعدى إلى الثاني بنفسه، وبالحرف: إذا كَرِهتها عنده، وتمنيت زوالها عنه، وأما الحسد على الشجاعة ونحو ذلك، فهو الْغِبْطة، وفيه معنى التعجب، وليس فيه تمني زوال ذلك عن المحسود، فإن تمنّاه فهو القسم الأول، وهو حرام، والفاعل حاسد، وحَسُود، والجمع حُسّادٌ وحَسَدَةٌ. انتهى

(2)

.

قال في "الفتح": أي لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يحسن الحسد إن حَسُن، أو أُطلق الحسد مبالغةً في الحثّ على تحصيل الخصلتين، كأنه قيل: لو لم يحصلا إلا بالطريق المذموم لكان ما فيهما من الفضل حاملًا على الإقدام على تحصيلهما به، فكيف والطريق المحمود بمكن تحصيلهما به، وهو من جنس قوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، فإن حقيقة السبق أن يتقدّم على غيره في المطلوب. انتهى

(3)

.

وقال النوويُّ: قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقيّ ومجازيّ، فالحقيقيّ تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة، مع النصوص الصحيحة، وأما المجازيّ، فهو الْغِبْطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره، من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحديث: لا غِبْطَةَ محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": الحسد تمني زوال النعمة عن الْمُنْعَم عليه، وخصّه

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 288.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 135.

(3)

"الفتح" 8/ 690 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5025).

(4)

"شرح النوويّ" 6/ 97.

ص: 444

بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحقّ أنه أعمّ، وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحبّ أن يزول ذلك عنه له ليرتفع عليه، أو مطلقًا ليساويه، وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك، من تصميم، أو قول، أو فعل، وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وُضِع في طبعه من حبّ المنهيات، واستَثْنَوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق، يستعين بها على معاصي اللَّه تعالى، فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته.

وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الْغِبْطة، وأطلق الحسد عليها مجازًا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره، من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسةً، فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه:{فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، وإن كان في المعصية فهو مذموم، ومنه:"ولا تنافسوا"، وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم، أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين.

ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية، أو مالية، أو كائنة عنهما، وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة، والقضاء بها وتعليمها.

ويجوز حمل الحسد في الحديث على حقيقته، على أن الاستثناء منقطع، والتقدير نفي الحسد مطلقًا، لكن هاتان الخصلتان محمودتان، ولا حسد فيهما، فلا حسد أصلًا، أفاده في "الفتح"

(1)

. وقال أيضًا:

[فائدة]: زاد أبو هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث ما يدلّ على أن المراد بالحسد المذكور هنا الغبطة، كما ذكرناه ولفظه:"فقال رجل: ليتني أُوتيت مثل ما أوتي فلانٌ، فعَمِلت مثل ما يعمل"، أورده البخاريّ في "فضائل القرآن".

وعند الترمذيّ من حديث أبي كَبْشة الأنماريّ -بفتح الهمزة، وإسكان النون- أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر حديثًا طويلًا فيه استواء العامل في المال بالحقّ والمتمني في الأجر، ولفظه:"وعبدٌ رزقه اللَّه علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادقُ النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت مثل ما يعمل فلان، فأجرهما سواء"، وذكر في ضدّهما أنهما في الوزر سواءٌ، وقال فيه: حديث

(1)

راجع: "الفتح" 1/ 200 - 201 "كتاب العلم" رقم (73).

ص: 445

حسنٌ صحيحٌ، وإطلاق كونهما سواءً يرُدّ على الخطابيّ في جزمه بأن الحديث يدلّ على أن الغنيّ إذا قام بشروط المال، كان أفضل من الفقير، نعم يكون أفضل بالنسبة إلى مَن أعرض، ولم يَتَمَنَّ، لكن الأفضلية المستفادة منه هي بالنسبة إلى هذه الخصلة فقط، لا مطلقًا. انتهى

(1)

.

(إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) كذا في معظم النسخ "اثنتين" بتاء التأنيث، أي لا حسد محمود في شيء إلا في خصلتين، وعلى هذا فقوله:"رجلٌ" بالرفع، والتقدير خصلةُ رجلٍ، فحُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامه، ووقع في بعض النسخ "إلا في اثنين" بالتذكير، وعلى هذا فقوله:"رجلٍ" بالجرّ على البدلية، أي خصلة رجلٍ، ويجوز النصب بإضمار "أعني"، وهي رواية ابن ماجه، كما قاله في "الفتح".

و"في" سببيّة، أي بسبب حصول خصلتين اثنتين، ووقع عند البخاريّ بلفظ "على اثنتين" بـ "على" يقال: حسدته على كذا، أي على وجود ذلك له.

وقال في "العمدة": قوله: (رَجُلٌ) يجوز فيه الأوجه الثلاثة من الإعراب: الرفع على تقدير: إحدى الاثنين خصلةُ رجلٍ، فلما حذف المضاف اكتَسَى المضاف إليه إعرابه، والنصبُ على إضمار: أعني رجلًا، وهي رواية ابن ماجه، والجرّ على أنه بدل من "اثنين"، وأما على رواية "اثنتين" بالتاء فهو بدل أيضًا على تقدير حذف المضاف، أي خصلةُ رجلٍ؛ لأن الاثنتين معناه خصلتين على ما يجيء. انتهى

(2)

.

(آتَاهُ) بمدّ الهمزة، كأعطاه وزنًا ومعنًى (اللَّهُ الْقُرْآنَ) جملة من الفعل والفاعل والمفعولين، أحدهما الضمير المنصوب، والآخر "القرآن"، وهي في محل الرفع، أو الجرّ، أو النصب، على تقدير إعراب "رجل"؛ لأنها وقعت صفةً له.

(فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) أي ساعاته، قال الفيّوميُّ:"الآناء" على أفعال، هي الأوقات، وفي واحدها لغتان: إِنًى بكسر الهمزة والقصر، وإِنْيٌ، وزانُ حِمْلٍ. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 201.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 86.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 28.

ص: 446

وقال في "القاموس": و"الأَنْيُ" ويُكسر، و"الأَنَاءُ"، و"الإِنْوُ" بالكسر: الوَهْنُ، والساعة من الليل، أو ساعةٌ مّا منه، والإِنَى، كـ "إِلَى"، و"عَلَى" كلُّ النهار، جمعه آناءٌ، وأُنِيٌّ، وإِنِيٌّ، وأُنَا، كهُنَا. انتهى

(1)

.

(وَآنَاءَ النَّهَارِ) المراد بالقيام به العمل به مطلقًا، أعمّ من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه، والحكم والفتوى بمقتضاه، وعند أحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلميّ:"رجل آتاه اللَّه القرآن، فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ويتّبع ما فيه".

(وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا) نكّره؛ ليشمل القليل والكثير (فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ") وفي الرواية التالية: "فتصدّق به آناء الليل، وآناء النهار"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1894 و 1895](815)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5025)، و"التوحيد"(7529)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1936)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(97)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4209)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 557)، و (الحميديّ) في "مسنده"(617)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 8 و 36 و 88 و 152)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(729)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3854 و 3855 و 3856 و 3957 و 3858)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1845 و 1846)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13162 و 13351)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 191)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 188)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3537)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 301.

ص: 447

1 -

(منها): بيان فضل من يقوم بالقرآن آناء الليل وآناء النهار.

2 -

(ومنها): بيان فضل إنفاق المال في وجوه الخير آناء الليل وآناء النهار.

3 -

(ومنها): الحثّ على الاغتباط في العلم، وعمل الخير، وأن ذلك ليس من التنافس المذموم.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: فيه من الفقه أن الغنيّ إذا قام بشروط المال، وفَعَلَ ما يُرْضِي ربه تبارك وتعالى، فهو أفضل من الفقير الذي لا يقدر على مثل هذا.

5 -

(ومنها): ما قاله الخطابيُّ: معنى الحديث: الترغيب في طلب العلم، وتعلمه، والتصدق بالمال، وقيل: إنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد، كما رُخِّص في نوع من الكذب، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الكذب لا يحل إلَّا في ثلاث. . . " الحديث

(1)

.

والحسد على ثلاثة أضرب: محرَّم، ومباحٌ، ومحمودٌ، فالمحرم تمنّي زوال النعمة المحسود عليها عن صاحبها، وانتقالها إلى الحاسد، وأما القسمان الآخران، فغبطة، وهو أن يتمنى ما يراه من خير بأحدٍ أن يكون له مثله، فإن كانت في أمور الدنيا فمباحٌ، وإن كانت من الطاعات فمحمودٌ، قال النوويّ: الأول حرام بالإجماع.

وقال بعض الفضلاء: إذا أنعم اللَّه تعالى على أخيك نعمةً، فكَرِهتها، وأحببت زوالها فهو حرامٌ بكل حال، إلّا نعمة أصابها كافرٌ، أو فاجرٌ، أو من يستعين بها على فتنة أو فساد. انتهى

(2)

.

(1)

الحديث متّفق عليه بغير هذا اللفظ، ولفظ مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، وكانت من المهاجرات الأُوَل اللاتي بايعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:"ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس، ويقول خيرًا، ويَنمي خيرًا". قال ابن شهاب: ولم أسمع يُرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 2/ 87.

ص: 448

6 -

(ومنها): ما قاله الطيبيُّ: أثبت الحسد في الحديث لإرادة المبالغة في تحصيل النعمتين الخطيرتين، يعني ولو حصلتا بهذا الطريق المذموم، فينبغي أن يُتَحَرَّى ويُجْتَهَد في تحصيلها، فكيف بالطريق المحمود؟، بل أقول: هو الطريق المحمود لذاته، والمأمور في قوله تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} الآية [البقرة: 148]، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 10 - 11]، فإن السبق هو رَوْمُ نَيْلِ ما لصاحبك، واختصاصك به، قالت الخنساء [من الطويل]:

وَمَا بَلَغَتْ كَفُّ امْرِئٍ مُتَنَاوَلًا مِنَ الْمَجْدِ

إِلَّا وَالَّذِي نَالَ أَطْوَلُ

وهو الحسد المباح الذي سبق ذكره، وكيف لا؟ وكلُّ واحدة من هاتين الخصلتين بلغت غايةً لا أمد فوقها، ولو اجتمعتا في امرئ بلغ من العَلْياء كل مكان. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1895]

(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابَ، فَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَتَصَدَّقَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عِمْران، أبو حفص التُّجِيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه تقدّم قبل باب.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النَّجَاد الأيليّ، أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7] (ت 159) على الصحيح وقيل:(160)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 662 - 663.

ص: 449

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ) أي على خصلتين اثنتين، و"على" هنا سببيّة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1896]

(816) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بهَا وَيُعَلِّمُهَا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودِ) بن غافل بن حبيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء، مناقبه جمة، وأمَّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

والباقون كلّهم تقدّموا في الباب الماضي، فـ "إسماعيل": هو ابن أبي خالد، و"قيس": هو ابن أبي حازم، و"ابن نُمير": هو محمد بن عبد اللَّه بن نُمير.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 450

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه التحديثَ، والعنعنة، والسماع، وكلّها من صيغ الاتّصال.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: إسماعيل، عن قيس.

6 -

(ومنها): أن قيسًا هو التابعيّ الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنة، ولا مشارك له في ذلك، كما سبق قريبًا.

7 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم فقهًا وتجويدًا للقرآن، وتقدّمًا في الإسلام.

شرح الحديث:

(عَنْ قَيْسِ) بن أبي حازم أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ) الحسد تمني الرجل أن يُحَوِّل اللَّه إليه نعمة الآخر، أو فضيلته، ويسلبهما عنه، وفي "مجمع الغرائب": الحسد أن يرى الإنسان لأخيه نعمةً، فيتمنى أن تكون له، وتزول عن أخيه، وهو مذموم، والغبطةُ أن يرى النعمة، فيتمناها لنفسه من غير أن تزول عن صاحبها، وهو محمود، وقال ثعلب: المنافسة أن يتمنى مثل ما له من غير أن يفتقر، وهو مباح، ويقال: الحسد تمني زوال النعمة عن المنعَم عليه، وبعضهم خصه بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحق أنه أعمّ.

ونقل الأزهريّ في "التهذيب" عن ابن الأعرابيّ أنه قال: الْحَسْدَلُ: الْقُرادُ، قال: ومنه أُخِذ الْحَسَدُ؛ لأنه يَقْشِر القلب، كما يَقْشِر القُرَاد الجلدَ، فَيَمتَصُّ دَمَه. انتهى

(1)

، وتقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي.

(إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ) أي لا حسد في شيء إلَّا في اثنتين، أي في خصلتين، ويُرْوَى "إلا في اثنين" أي شيئين، قال في "العمدة"

(2)

:

(1)

"تهذيب اللغة" للأزهريّ 4/ 164.

(2)

راجع "عمدة القاري" 2/ 85.

ص: 451

[فإن قلت]: الحسد موجود في الحاسد، لا في اثنتين، فما معنى هذا الكلام؟.

[أجيب]: بأن المعنى لا حسد للرجل إلا في شأن اثنتين، لا يقال: قد يكون الحسد في غيرهما، فكيف يصحّ الحصر؛ لأنا نقول: المراد لا حسد جائزٌ في شيء من الأشياء إلَّا في اثنتين، أو المعنى: لا رُخْصَة في الحسد في شيء إلَّا في اثنتين.

[فإن قلت]: ما في هذين الاثنين غِبْطَة، وهو غير الحسد، فكيف يقال: لا حسد؟.

[أجيب]: بأنه أَطْلَق الحسد، وأراد الغبطة، من قبيل إطلاق اسم المسبب على السبب.

وقال الخطابيُّ: معنى الحسد ههنا شِدّة الحرص والرغبة، كَنَى بالحسد عنهما؛ لأنهما سببه، والداعي إليه، ولهذا سماه البخاريّ اغتباطًا، وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث ما يُبَيِّن ذلك، فقال فيه:"ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعَمِلت مثل ما يعمل"، ذكره البخاري في "كتاب فضائل القرآن" في "باب اغتباط صاحب القرآن"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فلم يَتَمَنّ السلب، وإنما تمنى أن يكون مثله، وقد تمنى ذلك الصالحون والأخيار.

وفيه قول بأنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد، وإخراج له عن جملة ما حُظِر منه، كما رُخِّص في نوع من الكذب، وإن كانت جملته محظورة، فالمعنى: لا إباحة في شيء من الحسد، إلَّا فيما كان هذا سبيله، أي لا حسد محمودٌ إلَّا هذا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا رأي ضعيف، يظهر ضعفه بالتأمّل في سياق طُرُق الحديث، فإنه واضح في كون المراد الغبطة، لا الحسد المذموم، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقيل: إنه استثناء منقطع بمعنى: لكن في اثنتين.

وقال الكرمانيّ: ويَحْتَمِل أن يكون من قبيل قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] أي لا حسد إلَّا في هذين الاثنين، وفيهما لا حسد أيضًا، فلا حسد أصلًا.

ص: 452

وتعقّبه العينيّ، فقال: المعنى في الآية: لا يذوقون فيها الموت البتة، فوقع قوله:{إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} موقع ذلك؛ لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل، فإنهم يذوقونها في المستقبل، ولا يتأتى هذا المعنى في قوله:"لا حسد إلا في اثنين"، فكيف يكون من قبيل الآية المذكورة؟ وفي الآية جميع الموت منفيّ بخلاف الحسد، فإن جميعه ليس بمنفيّ، فإن الحسد في الخيرات ممدوحٌ، ولهذا نُكِّر الحاسد في قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق: 5]؛ لأن كل حاسد لا يضرّ، قال أبو تمام:

وَمَا حَاسِدٌ فِي الْمَكْرُمَاتِ بِحَاسِدٍ

وكذلك نُكّر الغاسق؛ لأن كل غاسق لا يكون فيه الشرّ، وإنما يكون في بعض دون بعض، بخلاف النفاثات، فإنه عُرِّف؛ لأن كل نفاثة شريرةٌ. انتهى

(1)

.

(رَجُلٌ) تقدّم أنه يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة (آتَاهُ اللَّهُ) بالمدّ في أوله: أي أعطاه اللَّه من الإيتاء، وهو الإعطاء (مَالًا) قال في "العمدة": إنما نَكّره، وعَرَّف الحكمة؛ لأن المراد من الحكمة معرفة الأشياء التي جاء الشرع بها، يعني الشريعة، فأراد التعريف بلام العهد، أو المراد منه القرآن، كما سيأتي، فاللام للعهد أيضًا، بخلاف المال، فلهذا دخل صاحبه بأيّ قدر من المال أهلكه في الحقّ تحت هذا الحكم. انتهى.

(فَسَلَّطَهُ) عَبَّر بالتسليط؛ لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشحّ

(2)

. (عَلَى هَلَكَتِهِ) بفتح اللام والكاف: أي إهلاكه، وعَبَّر بذلك؛ ليدل على أنه لا يُبقي منه شيئًا، وكَمَّله بقوله:(فِي الْحَقِّ) أي في الطاعات؛ ليزيل عنه إيهام الإسراف المذموم، قاله في "الفتح"

(3)

.

(وَرَجُلٌ) عطف على "رجل" الأول، وإعرابه في الأوجه كإعرابه (آتَاهُ اللَّهُ

(1)

"عمدة القاري" 2/ 86 - 87.

(2)

"الفتح" 1/ 166.

(3)

"الفتح" 1/ 166.

ص: 453

حِكْمَةً) هكذا في رواية المصنّف بالتنكير، وعند البخاريّ "الحكمة" بالتعريف، قال في "الفتح": قوله: "الحكمة" اللام للعهد؛ لأن المراد بها القرآن، على ما أشرنا إليه قبلُ، وقيل: المراد بالحكمة كلُّ ما مَنَعَ من الجهل، وزَجَرَ عن القبيح.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كون المراد بالحكمة القرآنَ هو الأرجح؛ لأن حديث ابن عمر رضي الله عنه الماضي، أوضح ذلك، حيث قال:"رجل آتاه اللَّه القرآن، فهو يقوم به. . . "، واللَّه تعالى أعلم.

(فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا") قال النوويّ: معناه: يَعمل بها، ويُعلّمها؛ احتسابًا. انتهى.

وقال الطيبيُّ: قوله: "فسَلَّطَهُ على هلكته"، في هذه العبارة مبالغتان: إحداهما التسليط، فإنه يدلّ على الغلبة، وقهر النفس المجبولة على الشحّ البالغ، والأخرى قوله:"على هلكته"، فإنه يدلّ على أنه لا يُبقي من المال شيئًا، فلما أوهم القرينتان الإسراف والتبذير المقول فيهما: لا خير في السرف، كمّله بقوله:"في الحقّ" كما قيل: لا سرف في الخير.

وكذا القرينة الأخرى اشتَمَلَت على مبالغات: إحداها: الحكمة، فإنها تدلّ على علم دقيتي مع إتقان في العمل، وثانيتها: القضاء بين الناس، وهي مرتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وثالثتها: التعليم، وهي أيضًا من مرتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال اللَّه تعالى:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية [الجمعة: 2].

وقال أيضًا: الحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يُحسن دقائق الصناعات ويُتقنها: حكيمٌ.

قال: وهذا الحديث على ما تقرّر شاهد صدقٍ على وجوب أداء لفظ الحديث من غير إبدال؛ إذ لو وُضع مكان "لا حسد" لا غبطة، ومكان "سُلِّط" ملك، وغيرهما، وأُبدلت الحكمة بالعلم، وهلُمّ جرّا لفاتت تلك الفوائد المقصودة. انتهى كلام الطيبيُّ

(1)

.

وقال في "العمدة": ثم إن لفظ الحكمة إشارة إلى الكمال العلمي،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 663.

ص: 454

ويفضى إلى الكمال العملي، وبكليهما إلى التكميل، والفضيلةُ إما داخلية، وإما خارجية، وأصلُ الفضائل الداخلية العلمُ، وأصلُ الفضائل الخارجية المالُ، ثم الفضائل إمَّا تامّة، وإمَّا فوق التامّة، والأخرى أفضل من الأولى؛ لأنها كاملة متعدية، وهذه قاصرة غير متعدية. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1896](816)، و (البخاريّ) في "العلم"(73)، و"الزكاة"(1409)، و"الأحكام"(7141)، و"الاعتصام"(7316)، و (ابن ماجه) في "كتاب الزهد"(4208)، و (النسائيّ) في "العلم" من "الكبرى"(5840)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1205)، و (وكيع) في "الزهد"(440)، و (الحميديّ) في "مسنده"(99)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 385 و 432)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(90)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3860)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1847 و 1848)، و (الطحاوفي) في "مشكل الآثار"(1/ 190)، و (البيهقيّ) في "كتاب آداب القاضي"(10/ 88)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(138)، و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان العلم"(ص 14)، وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1897]

(817) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ

(2)

عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ

(1)

"عمدة القاري" 2/ 87.

(2)

وفي نسخة: "وكان عمر استعمله".

ص: 455

الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُّمْ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

2 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ) بن عبد اللَّه بن عمرو بن جَحْش الليثيّ، أبو الطفيل، وربما سُمِّي عَمْرًا، وُلد عام أحد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عن أبي بكر رضي الله عنه، فمن بعده وعُمِّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم، قاله مسلم وغيره، (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 7/ 1631.

4 -

(عُمَرُ) بن الخطاب بن نُفَيل بن عبد العزى بن رِيَاح بن عبد اللَّه القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين، مشهورٌ جمّ المناقب، استشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وولي الخلافة عشر سنين ونصفًا (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9، واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، جمّ المناقب رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 456

شرح الحديث:

(عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ) بن خالد بن عُمير بن الحارث الخزاعيّ، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه أبو الطُّفَيل، وجَمِيل بن عبد الرحمن، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن فَرُّوخ، مولى عمر رضي الله عنه، قال ابن عبد البرّ: كان من كبار الصحابة وفضلائهم، وقيل: إنه أسلم يوم الفتح، وأقام بمكة، ولم يهاجر، قال: وأنكر الواقديّ أن تكون له صحبة، وذكره ابن سعد في طبقة الْفَتْحِيين، وذكره ابن حبان، والعسكريّ، وجماعة في الصحابة، أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، سوى الترمذيّ.

(لَقِيَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (بِعُسْفَانَ) -بضم العين، وسكون السين المهملتين-: موضع بين مكة والمدينة، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة، وهو يُذكّر ويؤنّث

(1)

. (وَكَانَ عُمَرُ) رضي الله عنه (يَسْتَعْمِلُهُ) وفي نسخة: "استعمله"(عَلَى مَكَّةَ) أي جعله أميرأ عليها (فَقَالَ) له عمر رضي الله عنه (مَنِ اسْتَعْمَلْتَ) وفي رواية النسائيّ: "من استخلفت؟ "(عَلَى أَهْلِ الْوَادِي) أي على أهل مكة (فَقَالَ) نافع رضي الله عنه (ابْنَ أَبْزَى) بالنصب مفعول لفعل مقدّر، دلّ عليه السؤال، أي استعملتُ ابنَ أبزى -بفتح الهمزة، وسكون الموحّدة، بعدها زاي، مقصورًا- وهو: عبد الرحمن بن أبزى الْخُزَاعيّ، مولى نافع بن عبد الحارث، مختلف في صحبته، استخلفه نافع بن عبد الحارث على أهل مكة أيام عمر، وقال البخاريّ: له صحبة، وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وصَلَّى خلفه، وقال ابن عبد البر: استعمله عليّ على خراسان، وذكره ابن سعد فيمن مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهم أحداث الأسنان، وممن جزم بأن له صحبةً خليفةُ بن خياط، والترمذيّ، ويعقوب بن سفيان، وأبو عروبة، والدارقطني، والْبَرْقيّ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم، أخرج له الجماعة، وتقدّمت ترجمته في "الحيض" 27/ 826.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه (وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ) نافع (مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا) -بفتح

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 409.

ص: 457

الميم-: جمع مولًى، يُطلق على الْمُعْتِق، بكسر التاء، والْمُعْتَق، بفتحها، وهو المراد هنا، وفي رواية النسائيّ:"رجلٌ من موالينا"(قَالَ) عمر رضي الله عنه (فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أفاستخلفت إلخ، والاستفهام للإنكار، وليس إنكار عمر رضي الله عنه توليته عليهم؛ استخفافًا به، واحتقارًا له، وإنما أنكر فوات غرض التولية، وذلك أن المقصود من التولية ضبط أمور الناس، وسياستهم، وهذا يَحتاج أن يكون الْمُوَلَّى عليهم رجلًا مُهابًا، له عظمةٌ وشرفٌ في قلوب العامّة، وذلك أن يكون حرًّا نسيبًا ذا وَجاهة، وإلا استخفّوا به، ولم يُطيعوه، فيفوت بذلك غرض الولاية، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) نافع رضي الله عنه مبيّنًا سبب توليته عليهم، وأنه له مؤهّلًا لذلك (إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل أي عالم بالقرآن، وعاملٌ به (وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ) أي بقسمة المواريث على كتاب اللَّه، زاد في رواية النسائيّ:"قاضٍ": أي عالم بالقضاء بين الناس بالعدل، والمعنى أن هذا الأمير رفعه اللَّه تعالى عليهم بهذه الأمور، وهم يعرفون منه ذلك، فيحترمونه، ويُعظّمونه، ويطيعون أمره، فتستقيم أمورهم، وتستقرّ أحوالهم، ولذلك (قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه مستحسنًا فعل نافع، وأنه قد ولّى عليهم مَن يستحقّ الولاية (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا" (إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في الابتداء (قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ) أي يشرّف، ويكرم في الدنيا والآخرة، بأن يحييهم حياةً طيّبةً في الدنيا، كما قال عز وجل:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] الآية، ويجعلهم في الآخرة {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (بِهَذَا الْكِتَابِ) أي القرآن الكريم البالغ في الشرف، وظهور البرهان مبلغًا لم يبلغه غيره من الكتب المنزّلة على الرسل المتقدّمة، قال الطيبيُّ: أطلق الكتاب على القرآن، ليثبت الكمال؛ لأن اسم الجنس إذا أُطلق على فرد من أفراده يكون محمولًا على كماله، وبلوغه إلى حدّ هو الجنس كلّه، كان غيره ليس منه. انتهى

(1)

.

(أَقْوَامًا) أي يرفع درجة أقوام بسبب الإيمان به، وتعظيم شأنه، والعمل

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 179.

ص: 458

بما فيه (وَيَضَعُ بِهِ) أي يُحقّرهم، ويُصغّر قدرهم في الدنيا والآخرة، بسبب إعراضهم عنه، وعدم عنايتهم به، وتضييعهم حدوده، وجهلهم بما فيه (آخَرِينَ") وهم الذين لم يؤمنوا به،، أو آمنوا، ولم يعملوا به، كما قال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقال:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 1897 و 1898](817)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(218)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20944)، وأخرجه (أحمد) في "مسنده" 1/ 35، و (الدارميّ) في "سننه"(3368)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(772)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3762 و 3763)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1849)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1184)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل من تعلم القرآن وعلّمه، وهو واضح.

2 -

(ومنها): بيان أن من قرأ كتاب اللَّه، وعمل بمقتضاه، مخلصًا رفعه اللَّه تعالى فوق كثير من عباده المؤمنين، ومن قرأه مرائيًا، غير عامل به، وضعه اللَّه أسفل السافلين.

3 -

(ومنها): ما كان عليه عمر رضي الله عنه من متابعة أمرائه في سياستهم لرعيتهم؛ لئلا يضيعوا حقوقهم، فيكون هو المسئول عن ذلك؛ لأنه الراعي الأول، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"كلّكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، متّفقٌ عليه.

4 -

(ومنها): أن من كان عالِمًا بكتاب اللَّه، وبالفرائض، وعرف أحكام القضاء هو الذي يستحقّ أن يتولّى أمور المسلمين، وإن كان دنيء النسب، وأن من كان جاهلًا بهذه الأمور لا يستحقّ ذلك، وإن كان شريف النسب.

ص: 459

5 -

(ومنها): فضل علم الفرائض، وشرفه، فإنه العلم الذي أعلى اللَّه تعالى قدره، حيث تولّى بنفسه قسمته في كتابه العزيز، ولم يكله إلى أحد.

6 -

(ومنها): فضل معرفة أحكام القضاء؛ لأن به تنحلّ المشكلات بين الناس، وتصلح أحوالهم، ويستقيم معاشهم، ويحسن معادهم، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1898]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثيُّ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّ، لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) السَّمَرْقَنْديّ، أبو محمد الدارميّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](255) وله أربع وسبعون (م دت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصَّغَانيّ، أبو بكر، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

3 -

(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولةٌ [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

4 -

(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) يعني أن حديث شعيب عن الزهريّ، مثل حديث إبراهيم بن سعد عنه المذكور قبله.

ص: 460

[تنبيه]: رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ هذه ساقها الدارميُّ في "سننه"، فقال:

(3231)

أخبرنا الحكم بن نافع، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، حدّثني عامر بن واثلة، أن نافع ابن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعُسْفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة، فسلم على عمر، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ فقال نافع: استَخْلَفتُ عليهم ابن أبزى، فقال عمر: ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا، فقال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب اللَّه، عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(49) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَبَيَانِ مَعْنَاهُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1899]

(818) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ، عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ

(2)

، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ، عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَآتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ"، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ"، ثُمَّ قَالَ لِي:"اقْرَأ"، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ:"هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ").

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(2)

وفي نسخة: "فكدت أعجل عليه".

ص: 461

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكَير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ: أصح الأسانيد كلها: مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما[7](179) وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) تقدّم في السند الماضي.

4 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام بن خُوَيلد الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان رضي الله عنه (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ الْقَارِيُّ) بتشديد الياء، يقال: له رؤية، وذكره العجليّ في ثقات التابعين، واختَلَف قول الواقديّ فيه، قال تارة: له صحبة، وتارة تابعيّ [2](ت 88)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 20/ 1745.

6 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه تقدّم في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الزهريّ، عن عروة، عن عبد الرحمن.

5 -

(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة من التابعين، وقد جُمعوا في قوله:

ص: 462

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ) -بتشديد الياء التحتانية-: نسبة إلى القَارَة، بطن من خُزيمة بن مُدركة، والقارَة لقب، واسمه أُثَيع -بالمثلثة مصغرًا- ابن مُلَيح -بالتصغير، وآخره مهملة- ابن الْهُون -بضم الهاء- ابن خُزيمة، وقيل: بل القارّةُ هو الدِّيش -بكسر المهملة، وسكون التحتانية، بعدها معجمة- من ذرية أُثيع المذكور، وليس هو منسوبًا إلى القراءة، وكانوا قد حالفوا بني زُهْرة، وسكنوا معهم بالمدينة بعد الإسلام، وكان عبد الرحمن من كبار التابعين، وقد ذُكِر في الصحابة؛ لكونه أُتِي به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو صغير، أخرج ذلك البغويّ في "مسند الصحابة" بإسناد لا بأس به، ومات سنة ثمان وثمانين، في قول الأكثر، وقيل: سنة ثمانين، قاله في "الفتح"

(1)

.

(قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) الأسديّ، له ولأبيه صحبة، وكان إسلامهما يوم الفتح، وكان لهشام فضل، ومات قبل أبيه، وليس له في البخاريّ روايةٌ، وأخرج له مسلم حديثًا واحدًا مرفوعًا من رواية عروة عنه

(2)

، وهذا يدلّ على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما، وَوَهِمَ مَن زَعَمَ أنه استُشْهِد في خلافة أبي بكر، أو عمر رضي الله عنهما، وأخرج ابن سعد، عن مَعْن بن عيسى، عن مالك، عن الزهريّ: كان هشام بن حكيم يأمر بالمعروف، فكان عمر يقول إذا بلغه الشيء: أَمّا ما عِشْتُ أنا وهشام فلا يكون ذلك

(3)

.

(1)

"الفتح" 8/ 640 - 641 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4992).

(2)

سيأتي في "كتاب البرّ والصلة" برقم (2613) ولفظه:

حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حِزَام، قال: مَرَّ بالشام على أناس، وقد أقيموا في الشمس، وصُبّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذبون في الخراج، فقال: أما إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه يعذب الذين يعذبون في الدنيا".

(3)

"الفتح" 8/ 641 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4992).

ص: 463

(يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ) قال "الفتح": كذا للجميع، وكذا في سائر طُرُق الحديث، في المسانيد والجوامع، وذكر بعض الشُّرّاح أنه وقع عند الخطيب في "المبهمات":"سورة الأحزاب" بدل "الفرقان"، وهو غلط من النسخة التي وَقَفَ عليها، فإن الذي في كتاب الخطيب "الفرقان"، كما في رواية غيره

(1)

. (عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا) أي على الوجه الذي أقرؤها به أنا، فـ "ما" موصولة (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا) يعني أنه أخذ تلك السورة من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مباشرةً، ولم يأخذها بواسطة، ولهذا شدّد النكير عليه؛ لتأكّده من صحّة قراءة نفسه دون صاحبه (فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ) وفي بعض النسخ:"أعجل عليه" بدون "أن"، وهو الغالب في الاستعمال.

ومعناه: قاربت أن آخذه بعَجَلَة، وأجُرّه في الصلاة، وكاد يَفْعَل كذا يكاد، من باب تَعِبَ: قارب الفعل، قال ابن الأنباري: قال اللغويون: كِدتُ أفعلُ: معناه عند العرب قاربت الفعل، ولم أفعل، وما كِدتُ أفعل: معناه فَعَلْتُ بعد إبطاء، قال الأزهري: وهو كذلك، وشاهده قوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، معناه ذبحوها بعد إبطاء؛ لتعذر وِجْدان البقرة عليهم، وقد يكون "ما كدتُ أفعلُ" بمعنى ما قاربت.

وهي من الأفعال الناقصة التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ويكون خبرها غالبًا فعلًا مضارعًا، ولا يقترن غالبًا بـ "أن"، كقوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

كَكَانَ كَادَ وَعَسَى لَكِنْ نَدَرْ

غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ

وَكَوْنُهُ بِدُونِ أنْ بَعْدَ عَسَى

نَزْرٌ وَكَادَ الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا

ومن اقتران خبرها بـ "أن" قول الشاعر [الخفيف]:

كَادَتِ النَّفسُ أن تَفِيضَ عَلَيْهِ

إذْ غَدَا حَشْوَ رَيْطَةٍ وَبُرُودِ

وبعضهم خص اقترانه بالشعر، والصحيح الأول.

(شُمَّ أَمْهَلْتُهُ) أي تركته (حَتَّى انْصَرَفَ) أي سلّم من صلاته، وفي رواية البخاريّ:"فكدت أُساوره في الصلاة، فتصبّرت حتى سلّم"(ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ)

(1)

"الفتح" 8/ 641.

ص: 464

بفتح اللام، وموحّدتين الأولى مشدّدة، والثانية ساكنة: أي جعلت رداءه في عنقه، ثم جَرَرته، قال ابن منظور: ولَبَّبَ الرجلَ: جعل ثيابه في عنقه وصَدْرِهِ في الخصومة، ثم قبضه وجرّه، وأخذ بتلبيبه كذلك. انتهى.

وقال القرطبيُّ: "فلبّبته": أي جمعت ئوبه على حلقه، وأصله من اللبّة، وهي الثغرة التي في أسفل الحلق، وهذا من عمر رضي الله عنه غَيْرةٌ على كتاب اللَّه تعالى، وقوّة في دينه. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فلببته بردائه": أي جمعت عليه ثيابه عند لَبَّته؛ لئلا يتفلت مني، وكان عمر رضي الله عنه شديدًا في الأمر بالمعروف، وفَعَلَ ذلك عن اجتهاد منه؛ لظنه أن هشامًا خالف الصواب، ولهذا لم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل قال له: أرسله. انتهى

(2)

.

زاد في رواية البخاريّ: "فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأتَ".

قال في "الفتح": قوله: فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها" هذا قاله عمر رضي الله عنه استدلالًا على ما ذهب إليه من تخطئة هشام، وإنما ساغ له ذلك؛ لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته، بخلاف هشام، فإنه كان قريب العهد بالإسلام، فَخَشِي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه، فإنه كان قد أتقن ما سَمِعَ، وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قديمًا، ثم لم يسمع ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشامًا من مسلمة الفتح، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرًا، فنشأ اختلافهما من ذلك، ومبادرةُ عمر للإنكار محمولةٌ على أنه لم يكن سمع حديث: "أُنْزِل القرآنُ على سبعة أحرف" إلا في هذه الوقعة. انتهى

(3)

.

(فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا) يعني هشام بن حكيم (يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ، عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

"المفهم" 2/ 447.

(2)

"الفتح" 8/ 641.

(3)

"الفتح" 8/ 641 - 642.

ص: 465

"أَرْسِلْهُ) أي أطلقه من تلبيبك له، وإنما أمره بالإرسال؛ ليتمكّن من القراءة (اقْرَأْ") أي قال عليه السلام لهشام: "اقرأ" بوصل الهمزة؛ لأنه ثلاثيّ، فعل أمر من قرأ يقرأ، كفتح يفتح، أمره بالقراءة؛ ليسمع ما ادُّعي عليه إفساده، ليتّضح ذلك (فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ") بالبناء للمفعول، أي أنزلها اللَّه تعالى عليّ مثل ما قرأها هشام (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي:"اقْرَأْ") وفي رواية البخاريّ: "ثم قال: اقرأ يا عمر"، أمره بالقراءة؛ لتجويز الغلط عليه، أو ليبيّن أن كل واحدة من القراءتين جائزة، كما صوّبه بقوله لكلّ منهما:"هكذا أُنزلت"(فَقَرَأْتُ) وللبخاريّ: "فقرأت القراءة التي أقرأني"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَكَذَا) أي مثل قراءتك هذه (أُنْزِلَتْ) بالبناء للمفعول أيضًا (إِنَّ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في موضع الاستئناف، وهو استئناف بيانيّ، وهو ما وقع جوابًا عن سؤل مقدّر، فكأنه قيل له: ما وجه قولك في هاتين القراءتين: هكذا أُنزلت؟، فأجاب بقوله:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ) بالبناء للمفعول (عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أي على سبعة أوجه، يجوز أن يُقْرَأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة، ولا جملة منه تُقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة.

[فإن قيل]: فإنا نَجِد بعض الكلمات يُقرأ على أكثر من سبعة أوجه.

[فالجواب]: أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة، وإما أن يكون من قبيل الاختلاف في كيفية الأداء، كما في المدّ، والإمالة، ونحوهما.

وقيل: ليس المراد بالسبعة حقيقةُ العدد، بل المراد التسهيل والتيسير، ولفظ السبعة يُطْلَق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يُطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين، وإلى هذا جَنَحَ عياض، ومن تبعه.

وذكر القرطبيّ عن ابن حبان أنه بلغ الاختلاف في معنى الأحرف السبعة إلى خمسة وثلاثين قولًا، ولم يذكر القرطبيّ منها سوى خمسة.

وقال المنذريّ: أكثرها غير مختار، قال الحافظ: ولم أقف على كلام ابن حبان في هذا بعد تتبعي مظانه من "صحيحه"، وسأذكر ما انتهى إليّ من

ص: 466

أقوال العلماء في ذلك مع بيان المقبول منها والمردود -إن شاء اللَّه تعالى- في آخر هذا الباب. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سأذكر هذا البحث مستوفًى في المسألة الخامسة -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ") قال القرطبيّ رحمه الله: الضمير في "منه" للقرآن، لا على الأحرف؛ إذ لو كان عائدًا على الأحرف لقال:"منها"، وإنما أعاده على القرآن ليُبيّن أنه يجوز أن يُقرأ بما تيسّر من الأحرف، ومن القرآن؛ لأنه إذا أباح الاقتصار على قراءة بعض القرآن فلأن يجوز الاقتصار على بعض الأحرف أولى. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فاقرءوا ما تيسّر منه": أي من المُنزَلِ، وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه للتيسير على القارئ، وهذا يُقَوّي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن لغة هشام بلسان قريش، وكذلك عمر، ومع ذلك فقد اختلفت قراءتهما، نَبَّهَ على ذلك ابن عبد البرّ، ونقل عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة، وسيأتي تمام البحث في هذا قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1899 و 1900 و 1901](818)، و (البخاريّ) في "الخصومات"(2419) و"فضائل القرآن"(4992 و 5041) و"استتابة المرتدّين" معلّقًا (6936) و"التوحيد"(7550)، و (أبو داود) في (1475)، و (الترمذيّ) في "القراءات"(2943)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"

(1)

"المفهم" 2/ 451.

ص: 467

(936 و 937 و 938) و"الكبرى"(798 و 1000 و 1008 و 1009 و 11366)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 256)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 453)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20369)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2/ 5)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 517 - 518)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 24 و 40 و 42 و 43)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(1/ 13)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(741)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3849 و 3850 و 3851 و 3852 و 3853)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1851 و 1852 و 18523)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1226)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: سبب إنزال القرآن على سبعةٍ التخفيفُ والتسهيل، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هَوّن على أمتي"، كما صُرِّح به في الرواية الأخرى. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تعليم أصحابه رضي الله عنهم كتاب اللَّه تعالى كما أمره بالتبليغ.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من الصَّلابَةِ في الدين، فقد كاد يقطع الصلاة على هشام؛ لشدة غضبه عليه.

4 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه بيان ما كانوا عليه من الاعتناء بالقرآن، والذبّ عنه، والمحافظة على لفظه، كما سمعوه من غير عدول إلى ما يجوز في العربية.

قال: وأما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر بإرساله فلأنه لم يثبت عنده ما يقتضي تعزيره، ولأن عمر إنما نسبه إلى مخالفته في القراءة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم من جواز القراءة ووجوهها ما لا يعلمه عمر، ولأنه إذا قرأ وهو مُلَبَّبٌ لم يتمكن من حضور البال، وتحقيق القراءة تمكّن المطلَق. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): جواز تلبيب المجرم إذا خيف أن يَتَفَلَّت.

6 -

(ومنها): جواز إطلاق الكذب على الخطأ، فقد قال عمر رضي الله عنه كما

(1)

"شرح النووي" 6/ 99.

(2)

"شرح النووي" 6/ 99.

ص: 468

في رواية البخاريّ لما قاله له هشام رضي الله عنه: أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: كذبت، أي أخطأت وهو لغة أهل الحجاز؛ فإنهم يُطلقون الكذب في موضع الخطأ، أو أطلق عليه الكذب بناءً على غلبة ظنّه.

7 -

(ومنها): بيان سعة رحمة اللَّه تعالى وكرمه على عباده؛ إكرامًا لنبيّها صلى الله عليه وسلم، حيث كانت رسالته رحمة للعالمين، كما قاله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، فقد وسّع عليهم قراءة كتابه الكريم، فأنزله على سبعة أحرف، حتى لا تتضايق على حرف واحد.

8 -

(ومنها): أنه استُدلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "فاقرءوا ما تيسّر منه" على جواز القراءة بكل ما ثبت من القرآن بالشروط التي تقدّمت، وهي شروط لا بدّ من اعتبارها، فمتى اختلّ شرط منها لم تكن تلك القراءة معتمدة.

وقد قرّر ذلك أبو شامة في "الوجيز" تقريرًا بالغًا، وقال: لا يُقطَع بالقراءة بأنها منزلة من عند اللَّه إلا إذا اتفقت الطرق عن ذلك الإمام الذي قام بإمامة المصر بالقراءة، وأجمع أهل عصره، ومن بعدهم على إمامته في ذلك، قال: أما إذا اختلفت الطرق عنه فلا، فلو اشتملت الآية الواحدة على قراءة مختلفة مع وجود الشرط المذكور جازت القراءة بها بشرط أن لا يختل المعنى، ولا يتغير الإعراب.

وذكر أبو شامة في "الوجيز" أن فتوى وردت من العجم لدمشق، سألوا عن قارئ يقرأ عشرًا من القرآن، فيخلط القراءات؟.

فأجاب ابن الحاجب، وابن الصلاح، وغير واحد من أئمة ذلك العصر بالجواز بالشروط التي ذكرناها، كمن يقرأ مثلًا {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] فلا يقرأ لابن كثير بنصب "آدم"، ولأبي عمرو بنصب "كلمات"، وكمن يقرأ {نَغْفِرْ لَكُمْ} [الأعراف: 161] بالنون {خَطِيئَاتِكُمْ} بالرفع. قال أبو شامة: لاشك في منع مثل هذا، وما عداه فجائز، واللَّه أعلم.

قال الحافظ رحمه الله: وقد شاع في زماننا من طائفة من القراء إنكار ذلك، حتى صرَّح بعضهم بتحريمه، فظنّ كثير من الفقهاء أن لهم في ذلك معَتمَدًا، فتابعوهم، وقالوا: أهل كل فنّ أدرى بفنهم، وهذا ذهول ممن قاله، فإن علم الحلال والحرام إنما يُتَلَقَّى من الفقهاء، والذي منع ذلك من القراء إنما هو

ص: 469

محمول على ما إذا قرأ برواية خاصة، فإنه متى خلطها كان كاذبًا على ذلك القارئ الخاص الذي شرع في إقراء روايته، فمن أقرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى، كما قاله الشيخ محيي الدين، وذلك من الأولوية، لا على الحتم، أما المنع على الإطلاق فلا، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة -رحمهم اللَّه تعالى- من جواز قراءة الآية الواحدة بالروايات المختلفة بالشروط المذكورة هو الصواب الحقيق بالقبول، وما عداه مردود مخذول؛ لمخالفته للنص الصحيح المنقول:"فاقرؤوا ما تيسر منه"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

9 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرُّ: فيه ما يدلّ على أن في جبلة الإنسان وطبعه، وإن كان فاضلًا أن ينكر ما يَعْرِف خلافه، وإن جَهِلَ ما أنكر من ذلك؛ لأن الذي بيده من ذلك علم يقينٌ، فلا يزول عنه إلى غير إلا بمثله من العلم واليقين، وكذلك لا يسوغ خلافه إلا بمثل ذلك.

10 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرُّ أيضًا: فيه بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من أنه لا يراعي في ذات اللَّه قريبًا ولا بعيدًا، ولا عدوًّا، ولا صديقًا، وقد كان شديد التفضيل لهشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه، فقد روى مالك قال: كان عمر إذا خَشِي وقوع أمر قال: أَمّا ما بَقِيتُ أنا وهشام بن حكيم فلا، ولكنه إذ سمع منه ما أَنكره لم يسامحه، حتى عَرَفَ موضع الصواب فيه، وكان لا يخاف في اللَّه لومة لائم

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى بُعد هذا البحث على من تأمله؛ لأن تفضيل عمر لهشام لم يكن في وقت اختلافهما في القراءة؛ لأنه كان في ذلك الوقت حديث عهد بالإسلام، وإنما كان تفضيله بعد أن رسخ قدمه في الإسلام، وتفقّه في دين اللَّه، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

11 -

(ومنها): أن فيه بيانَ استعمالهم لمعنى الآية العامة لهم ولمن بعدهم، وهي قوله عز وجل:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]

(1)

"الفتح" 653 - 654 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4992).

(2)

"الاستذكار" 2/ 487.

ص: 470

يعني: إن كان حيًّا، فإن مات فإلى سنّته، كذا قال أهل العلم بالتأويل، قاله ابن عبد البرُّ أيضًا

(1)

.

12 -

(ومنها): أنه إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"؛ تطييبًا لقلب عمر رضي الله عنه؛ لئلا ينكر تصويب الشيئين المختلفين.

وقد وقع عند الطبريّ من طريق إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أبيه، عن جدّه، قال: قرأ رجل، فَغيَّرَ عليه عمر، فاختصما عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: ألم تقرئني يا رسول اللَّه؟ قال: "بلى"، قال: فوقع في صدر عمر شيء عرفه النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجهه، قال: فضرب في صدره، وقال:"أبعد شيطانًا"، قالها ثلاثًا، ثم قال:"يا عمر، القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمةً عذابًا، أو عذابًا رحمة".

ومن طريق ابن عمر: "سمع عمر رجلًا يقرأ"، فذكر نحوه، ولم يذكر:"فوقع في صدر عمر"، لكن قال في آخره:"أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كافٍ شافٍ".

ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام رضي الله عنهما.

[فمنها]: لأبَي بن كعب مع ابن مسعود رضي الله عنهما في سورة النحل، أخرجه الطبري.

[ومنها]: ما أخرجه أحمد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو: أن رجلًا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأيّ ذلك قرأتم أصبتم، فلا تُمارُوا فيه"، قال الحافظ: إسناده حسن.

ولأحمد أيضًا، وأبي عبيد، والطبري من حديث أبي جهم بن الصمة:"إن رجلين اختلفا في آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، فذكر نحو حديث عمرو بن العاص.

وللطبريّ والطبرانيّ عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: "جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد، وأقرأنيها أبيّ بن

(1)

"الاستذكار" 2/ 487.

ص: 471

كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليّ إلى جنبه- فقال عليّ: ليقرأ كل إنسان منكم كما عُلِّمَ، فإنه حسن جميل".

ولابن حبان، والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أقرأني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم، فَرُحتُ إلى المسجد، فقلت لرجل: اقرأها، فإذا هو يقرأ حروفًا ما أقرؤها، فقال: أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه، فتغير وجهه، وقال: "إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف"، ثم أسرّ إلى عليّ شيئًا، فقال علي: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما عُلِّمَ، قال: فانطلقنا، وكلُّ رجل منّا يقرأ حروفًا، لا يقرؤها صاحبه".

وللبخاري في "صحيحه" عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقرأ آيةً، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ خلافها، قال: فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلاكما محسن، فاقرآ"، قال شعبة: أكبر علمي قال: "فإن من كان قبلكم اختلفوا، فأهلكهم"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالأحرف السبعة:

قال العلامة أبو عبد اللَّه القرطبيُّ في مقدمة تفسيره:

قد اختَلَف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا، ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستيّ، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال:

[الأول]: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، كسفيان بن عيينة، وعبد اللَّه بن وهب، والطبريّ، والطحاويّ، وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقْبِلْ، وتَعَالَ، وهَلُمَّ، قال الطحاويّ: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه، قال:"جاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: اقْرَأ على حرف؛ فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف؛ فقال: اقرأ، فكلٌّ شافٍ كافٍ، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة"؛ على نحو

(1)

راجع: "الفتح" 8/ 642 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4992).

ص: 472

"هلُمَّ"، و"تعال"، و"أقبل"، و"اذهب"، و"أسرع"، و"عجِّلْ".

ورَوَى وَرْقَاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ:{لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد: 13]"للذين آمنوا أمهلونا"، "للذين آمنوا أخرونا"، "للذين آمنوا ارقُبُونا".

وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20]"مرُّوا فيه"، "سَعَوْا فيه".

وفي "الصحيحين": قال الزهريّ: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس يختلف في حلال، ولا حرام.

قال الطحاويّ صلى الله عليه وسلم: إنما كانت السعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنهم كانوا أميين، لا يكتب إلا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوُسِّع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متفقًا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا بخلافها.

قال ابن عبد البرُّ: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاصّ لضرورة دَعَت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله الطحاويّ، وابن عبد البر بعيد من الصواب؛ لأنه يستلزم النسخ لحديث:"أنزل القرآن على سبعة أحرف"، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

روى أبو داود عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا أبيّ إني أُقرِئت القرآن، فقيل لي: على حرف، أو حرفين؟، فقال الملك الذي معي: قل: على حرفين، فقيل لي: على حرفين، أو ثلاثة؟، فقال الملك الذي معي: قل: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شافٍ، كافٍ، إن قلت: سميعًا عليمًا، عزيزًا حكيمًا، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب"، حديث صحيح.

ص: 473

وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر من كلام ابن مسعود رضي الله عنه نحوه.

قال القاضي ابن الطيب

(1)

رحمه الله: وإذا ثبتت هذه الرواية -يريد حديث أبَيّ- حُمِلَ على أن هذا كان مطلقًا، ثم نُسِخَ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا اسمًا للَّه تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: دعواه النسخ غير صحيح، بل الذي دلّ عليه هذا الحديث أن اللَّه عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُقْرِئ أمته على سبعة أحرف، ووَسَّع عليه أن يبدل اسمًا باسم آخر، وأما غيره فلا يجوز له أن يبدل اسمًا باسم آخر، كان كان بمعناه، إلا إذا كان ذلك التبديل منقولًا عنه صلى الله عليه وسلم، فإذا أقرأ صحابيًا "سميعًا عليمًا"، وأقرأ آخر "عزيزًا حكيمًا"، جازت القراءة بهذا وبهذا، واللَّه تعالى أعلم.

[القول الثاني]: قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها، يَمَنِها، ونِزَارِها؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئًا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هُذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن.

قال الخطابيّ رحمه الله: على أن في القرآن ما قد قُرئ بسبعة أوجه، وهو قوله:{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]، وقوله:{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] وذكر وجوهًا، كأنه يذهب إلى أن بعضه أنزل على سبعة أحرف، لا كله.

وإلى هذا القول -أي إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، على سبع لغات- ذهب أبو عبيد، القاسم بن سلام، واختاره ابن عطية، قال أبو عبيد: وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظًا فيها من بعض.

وذكر حديث ابن شهاب، عن أنس أن عثمان رضي الله عنهما، قال لهم حين أمرهم

(1)

هو محمد بن الطيّب بن محمد بن جعفر القاضي أبو بكر الباقلانيّ المتوفّى سنة (403 هـ).

ص: 474

أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم أنتم وزيد، فاكتبوه بلغة قريش، فإنه نزل بلغتهم، ذكره البخاريُّ.

وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين، كعب قريش، وكعب خُزَاعَة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة، قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم.

قال القاضي ابن الطيب: معنى قول عثمان رضي الله عنه: فإنه نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره مُنزل بلغة قريش فقط؛ إذ فيه كلمات، وحروف هي خلاف قريش، وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، ولم يقل: قرشيًا، وهذا يدلّ على أنه منزل بجميع لسان العرب، وليس لأحد أن يقول: إنه أراد قريشًا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول: أراد لغة عدنان، دون قحطان، أو ربيعة، دون مضر؛ لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولًا واحدًا.

وقال ابن عبد البرِّ: قول من قال: إن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب، واللَّه أعلم؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات، من تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز.

وقال ابن عطية: معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، أي فيه عبارة عن سبع قبائل، بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هُذيل، ومرة بغير ذلك، بحسب الأفصح والأوجز في اللفظ.

ألا ترى أن "فطر" معناه عند غير قريش: ابتدأ خلق الشيء، وعمله، فجاءت في القرآن، فلم تَتَّجِهْ لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فَطَرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1].

وقال أيضًا: ما كنت أدري معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتِحْك؛ أي أحاكمك.

ص: 475

وكذلك قال عليه السلام بن الخطاب رضي الله عنه، وكان لا يفهم معنى قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] أي على تنقص لهم.

وكذلك اتفق لقطبة بن مالك رضي الله عنه، إذ سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10]. ذكره مسلم في "باب القراءة في صلاة الفجر" إلى غير ذلك من الأمثلة.

[القول الثالث]: أن هذه اللغات السبع إنما تكون في مُضَر، قاله قوم، واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه: نزل القرآن بلغة مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتيم، ومنها لضَبَّة، ومنها لقيس. قالوا: هذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود يحبّ أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر.

وأنكر آخرون أن تكون كلها من مضر، وقالوا: في مضر شواذّ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل كَشْكَشَة قيس، وتَمْتَمَة تميم، فأما كشكشة قيس، فإنهم يجعلون كاف المؤنث شينًا، فيقولون في {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] جعل ربش تحتش سريًا، وأما تمتمة تميم، فيقولون في الناس: النات، وفي أكياس: أكيات، قالوا: وهذه لغات يُرْغَب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء.

وقال آخرون: أما إبدال الهمزة عينًا، وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ به الجِلَّةُ، واحتجوا بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه:"ليسجننه عَتَّى حين"، ذكرها أبو داود، وبقول ذي الرُّمَّة [من الطويل]:

فَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكِ جِيدُهَا

وَلَوْنُكِ إلا عَنَّهَا غَيْرُ طَائِلِ

يريد "إلا أنها".

[القول الرابع]: ما حكاه صاحب "الدلائل" عن بعض العلماء، وحَكَى نحوه القاضي ابن الطيب، قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة، فوجدتها سبعًا:

منها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه، ولا صورته، مثل:{هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] و"أطْهَرَ"، {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13] و"يُضيق".

ص: 476

ومنها: ما لا تتغير صورته، ويتغير معناه بالإعراب، مثل:{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]، و"رَبُّنَا بَاعَدَ".

ومنها: ما تبقى صورته، ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله:{نُنْشِزُهَا} [البقرة: 259]، و"ننشُرُها".

ومنها: ما تتغير صورته، ويبقى معناه: مثل: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، و"كالصوف المنفوش".

ومنها: ما تتغير صورته، ومعناه، مثل:{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)} [الواقعة: 29]، "وطلع منضود".

ومنها: بالتقديم والتأخير، كقوله:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]، "وجاءت سكرة الحق بالموت".

ومنها: بالزيادة والنقصان، مثل قوله:"تسع وتسعون نعجة أنثى"، وقوله:"وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين"، وقوله:"فإن اللَّه من بعد إكراههن لهن غفور رحيم".

[القول الخامس]: إن المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب اللَّه تعالى، وهي أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة، وأمثال.

قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن هذا لا يسمى أحرفًا، وأيضًا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حلال، ولا في تغيير شيء من المعاني.

وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ولكن ليست هذه هي التي أجاز لهم القراءة بها، وإنما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، ومنه قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]. فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق، من تحليل، وتحريم، وغير ذلك.

وقد قيل: إن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف": القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة؛ لأنها كلها صحّت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بشيء؛ لظهور بطلانه. انتهى كلام القرطبيُّ ببعض تصرف

(1)

.

(1)

راجع: "الجامع لأحكام القرآن" 1/ 42 - 46.

ص: 477

وقد طوّل الكلام في تحقيق هذه المسألة الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتحه"، أحببت إيراده هنا لكونه مكملًا لما نقلته من القرطبيّ، وشارحًا له:

قال رحمه الله عند قول البخاريّ رحمه الله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]: أي من المنزل، وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وأنه تيسير على القارئ، وهذا يقوّي قول من قال: المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن لغة هشام بلسان قريش، وكذلك عمر، ومع ذلك فقد اختلفت قراءتهما. نبّه على ذلك ابن عبد البرّ، ونقل عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة.

وذهب أبو عبيد، وآخرون إلى أن المراد اختلاف اللغات، وهو اختيار ابن عطية.

وتُعُقِّب بأن لغات العرب أكثر من سبعة.

وأجيب بأن المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزل القرآن على سبع لغات: منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال: والعجز: سعد بن بكر، وجثيم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن، ويقال لهم: عُلْيا هوزان، ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عُليا هوازن، وسُفلى تميم. يعني بني دارم.

وأخرج أبو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزل القرآن بلغة الكَعْبين، كعبِ قريش، وكعبِ خزاعة. قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة. يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم.

وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر. واستنكره ابن قتيبة، واحتج بقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، فعلى هذا فتكون اللغات السبع في بطون قريش. وبذلك جزم أبو علي الأهوازي.

وقال أبو عبيد: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع متفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وغيرهم. قال: وبعض اللغات أسعد بها من بعض، وأكثر نصيبًا.

ص: 478

وقيل: نزل بلغة مضر خاصة، لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر. وعيّن بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم: هذيل، وكنانة، وقيس، وضَبَّة، وتيم الرباب، وأسد خزيمة، وقريش، فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات.

ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أوّلًا بلسان قريش، ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يُكَلَّف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة، ولِمَا كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيلِ فهمِ المرادِ، كل ذلك مع اتفاق المعنى، وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة، كما تقدم، وتصويب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلًّا منهم.

قال الحافظ: وتَتِمَّةُ ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعى في ذلك السماع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب: أقرأني النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف، ولو لم يكن مسموعًا له، ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته "عتى حين" أي "حتى حين"، وكتب إليه:"إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس لغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل"، وكان ذلك قبل أن يَجْمَع عثمانُ الناسَ على قراءة واحدة.

قال ابن عبد البر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يَحْتَمِل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز، قال: وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل.

قال أبو شامة: ويَحْتَمِل أن يكون مراد عمر، ثم عثمان بقولهما:"نزل بلسان قريش" أن ذلك كان أول نزوله، ثم إن اللَّه تعالى سهّله على الناس، فجوز لهم أن يقرؤوه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب، ليكون بلسان عربي مبين، فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش؛ لأنه الأولى.

ص: 479

وعلى هذا يُحْمَل ما كتب به عمر إلى ابن مسعود؛ لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذًا لا بد من واحدة، فلتكن بلغة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما العربي المجبول على لغته، فلو كلف قراءته بلغة قريش لعسر عليه التحول مع إباحة اللَّه له أن يقرأ بلغته، ويشير إلى هذا قوله في حديث أبيّ رضي الله عنه كما تقدم:"هوّن على أمتي"، وقوله:"إن أمتي لا تطيق ذلك". وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالبًا، وليس المراد كما تقدم أن كل لفظة منه تقرأ منه على سبعة أوجه.

قال ابن عبد البرِّ: وهذا مجمع عليه، بل هو غير ممكن، بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه، إلا الشيء القليل، مثل {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60].

وقد أنكر ابن قتيبة أن يكون في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه. ورَدَّ عليه ابنُ الأنباري بمثل {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]، {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، {وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98].

ويدلّ على ما قرره أنه أنزل أوّلًا بلسان قريش، ثم سهّل على الأمة أن يقرؤوه بغير لسان قريش، وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام، فقد ثبت أن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة، كما تقدم في حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه:"أن جبريل لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عند أضَاة بني غِفَار، فقال: إن اللَّه يأمرك أن تُقرِئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل اللَّه معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك. . . " الحديث. أخرجه مسلم.

وحاصل ما ذهب إليه هؤلاء أن معنى قوله: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، أي أنزل موسعًا على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه، كأنه قال: أنزل على هذا الشرط، أو على هذه التوسعة، وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرؤوه على حرف واحد لشق عليهم، كما تقدم.

قال ابن قتيبة رحمه الله في أول تفسير المشكل له: كان من تيسير اللَّه تعالى أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُقرئ كل قوم بلغتهم، فالهذلي يقرأ "عَتَّى حين" يريد "حتى حين"، والأسدي يقرأ "تِعلَمون" بكسر أوله، والتميمي يهمز، والقرشي لا

ص: 480

يهمز، قال: ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته، وما جرى عليه لسانه طفلًا وناشئًا وكهلًا؛ لشقّ عليه غاية المشقة، فيسّر عليهم ذلك بمثّه، ولو كان المراد أن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه، لقال مثلًا: أنزل سبعة أحرف، وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه، أو وجهان، أو ثلاثة، أو أكثر إلى سبعة.

وقال ابن عبد البرِّ: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات؛ لما تقدم من اختلاف هشام وعمر، ولغتهما واحدة، قالوا: وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو "أَقْبِلْ"، و"تَعَالَ"، و"هَلُمَّ"، ثم ساق الأحاديث الماضية الدالة على ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ، مع اتفاق المعنى، مع انحصار ذلك في سبع لغات.

لكن لاختلاف القولين فائدة أخرى، وهي ما نَبَّهَ عليه أبو عمرو الدانيّ أن الأحرف السبعة ليست متفرقة في القرآن كلها، ولا موجودة فيه في ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية واحدة، فإنما قرأ ببعض الأحرف السبعة، لا بكلها، وهذا إنما يأتي على القول بأن المراد بالأحرف اللغات، وأما قول من يقول بالقول الآخر، فيتأتى ذلك في ختمة واحدة بلا ريب، بل يمكن على ذلك القول أن تحصل الأوجه السبعة في بعض القرآن، كما تقدم.

وقد حَمَل ابن قتيبة وغيره العدد المذكور على الوجوه التي يقع بها التغاير في سبعة أشياء:

[الأول]: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه، ولا صورته، مثل:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] بنصب الراء، ورفعها.

[الثاني]: ما يتغير بتغير الفعل، مثل:{بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19]، و"باعَدَ بين أسفارنا" بصيغة الطلب، والفعل الماضي.

[الثالث]: ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة، مثل:{نُنْشِزُهَا} [البقرة: 259] بالراء والزاي.

[الرابع]: ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر، مثل:{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)} [الواقعة: 29] في قراءة علي: و"طلع منضود".

ص: 481

[الخامس]: ما يتغير بالتقديم والتأخير، مثل:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] في قراءة أبي بكر الصديق، وطلحة بن مصرف، وزين العابدين:"وجاءت سكرة الحق بالموت".

[السادس]: ما يتغير بزيادة، أو نقصان، مِثالُ الزيادة ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما:"وأنذر عشيرتك الأقربين، ورهطك منهم المخلصين"، ومِثالُ النقص، قراءة ابن مسعود، وأبي الدرداء رضي الله عنهما:"والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى".

[السابع]: ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها، مثل {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] في قراءة ابن مسعود، وسعيد بن جبير:"كالصوف المنفوش".

وهذا وجه حسن، لكن استبعده قاسم بن ثابت في "الدلائل"؛ لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت، وأكثرُهم يومئذ لا يكتب، ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها، قال: وأما ما وُجِد من الحروف المتباينة المخرج المتفقة الصورة، مثل {نُنْشِزُهَا} ، و (ننشرها) [البقرة: 259]، فإن السبب في ذلك تقارب معانيها، واتفق تشابه صورتها في الخط.

قال الحافظ: ولا يلزم من ذلك توهين ما ذهب إليه ابن قتيبة؛ لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتفاقًا، وإنما اطلع عليه بالاستقراء، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يخفى.

وقال أبو الفضل الرازيّ رحمه الله: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف:

الأول: اختلاف الأسماء، من إفراد، وتثنية، وجمع، أو تذكير وتأنيث.

الثاني: اختلاف تصريف الأفعال، من ماض، ومضارع، وأمر.

الثالث: وجوه الإعراب.

الرابع: النقص والزيادة.

الخامس: التقديم والتأخير.

السادس: الإبدال.

ص: 482

السابع: اختلاف اللغات، كالفتح، والإمالة، والترقيق، والتفخيم، والإدغام، والإظهار، ونحو ذلك.

قال الحافظ: وقد أخذ كلام ابن قتيبة، ونقّحه.

وذهب قوم إلى أن السبعة الأحرف سبعة أصناف من الكلام، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به، كل من عند ربنا"، أخرجه أبو عبيد، وغيره.

قال ابن عبد البرِّ: هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، ولم يَلْقَ ابنَ مسعود، وقد رده قوم من أهل النظر، منهم أبو جعفر أحمد بن أبي عمران.

قال الحافظ: وأطنب الطبريّ في مقدمة تفسيره في الردّ على من قال به.

وحاصله: أنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة، وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان، والحاكم، وفي تصحيحه نظر، لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود.

وقد أخرجه البيهقيّ من وجه آخر، عن الزهري، عن أبي سلمة مرسلًا، وقال: هذا مرسل جيّد، ثم قال: إن صح فمعنى قوله في هذا الحديث: "سبعة أحرف"، أي سبعة أوجه، كما فُسِّرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى؛ لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد أن الكلمة الواحدة تقرأ على وجهين، وثلاثة، وأربعة إلى سبعة، تهوينًا وتيسيرًا، والشيء الواحد لا يكون حرامًا وحلالًا في حالة واحدة.

وقال أبو عليّ الأهوازي، وأبو العلاء الهمدانيّ: قوله: "زاجر، وآمر" استئناف كلام آخر، أي هو زاجر، أي القرآن، ولم يُرَدْ به تفسيرُ الأحرف السبعة، وإنما تَوَهَّمَ ذلك مَنْ توهمه من جهة الاتفاق في العدد، ويؤيده أنه جاء

ص: 483

في بعض طرقه، "زاجرًا، وآمرًا". . . إلخ بالنصب، أي نزل على هذه الصفة من الأبواب السبعة.

وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب، لا للأحرف، أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله اللَّه على هذه الأصناف، لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب.

قال الحافظ رحمه الله: ومما يوضح أن قوله: "زاجر، وآمر". . . إلخ ليس تفسيرًا للأحرف السبعة ما وقع في مسلم من طريق يونس، عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف السبعة إنما هي في الأمر الذي يكون واحدًا، لا يختلف في حلال، ولا حرام. انتهى كلام الحافظ رحمه الله ببعض تصرف

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تَلَخّص مما تقدم مما ساقه الحافظ رحمه الله من كلام هؤلاء الأئمة الأعلام -رحمهم اللَّه تعالى- أن الراجح هو قول من قال: إن المراد بالأحرف السبعة في حديث الباب هي أوجه القراءة التي تُؤَدَّى بها المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وقد يكون ذلك في لغة واحدة، كما وقع لعمر وهشام بن حكيم رضي الله عنهما، فإنهما قرشيان.

وأما بقية الأقوال فلا تخلو من ضعف، وأضعفها قول من قال: إنه من المتشابه الذي لا يُعْرَف معناه، كما اختاره السيوطيّ في شرح النسائيّ، فإنه من المحال أن يكون القرآن أُنزل على سبعة أحرف، ويؤمر الناس أن يقرؤوه على تلك الأحرف، ولا يدرون ما هي الأحرف؟ هذا من أغرب المحال، وأما تفسير من فسّره بالقراءة السبعة المشهورة فكونه غلطًا أظهر من أن يُشْهَر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم هل الأحرف السبعة المذكورة في الحديث مجموعة في المصحف الموجود اليومَ، أم لا؟:

قد جمع الحافظ رحمه الله في "فتحه" أقوال أهل العلم في هذه المسألة، واستوفاها، مُلَخَّصةً، فأحببت إيرادها هنا لغزارة فوائدها، وكثرة عوائدها:

(1)

راجع: "الفتح" 8/ 642 - 645.

ص: 484

قال رحمه الله: قال أبو شامة رحمه الله: وقد اختَلَف الناس في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم، أو ليس فيه إلا حرف واحد منها؟ مال الباقلاني إلى الأول، وصَرَّح الطبريّ وجماعة بالثاني، وهو المعتمد.

وقد أخرج ابن أبي داود في "المصاحف" عن أبي الطاهر بن السرح، قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين، هل هي الأحرف السبعة؟، قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل "هَلُمَّ"، و"تعالَ"، و"أقبل"، أيّ ذلك قلت أجزأك، قال: وقال لي ابن وهب مثله.

والحقّ أن الذي جُمِعَ في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختُلِف فيه من الأحرف السبعة، لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100] في آخر براءة، وفي غيره بحذف "من"، وكذا وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاآت، وعدة لامات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معًا، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصًا واحدًا، وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءة مما لا يوافق الرسم، فهو مما كانت القراءة جُوّزت به توسعةً على الناس وتسهيلًا؛ فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان، وكَفَّر بعضهم بعضًا اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي.

قال الطبريّ رحمه الله: وصار ما اتَّفَقَ عليه الصحابة من الاقتصار، كمن اقتصر مما خُيِّر فيه على خصلة واحدة؛ لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب، بل على سبيل الرخصة.

قال الحافظ رحمه الله: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: "فاقرؤوا ما تيسر منه".

وقد قرر الطبريّ ذلك تقريرًا أطنب فيه، ووَهَّى من قال بخلافه، ووافقه على ذلك جماعة، منهم أبو العباس بن عمار في "شرح الهداية"، وقال: أصح

ص: 485

ما عليه الحذاق أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها، لا كلها.

وضابطه: ما وافق رسم المصحف، فأما ما خالفه، مثل "أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج"، ومثل "إذا جاء فتح اللَّه والنصر"، فهو من تلك القراءات التي تُرِكت، إن صح السند بها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآنًا، ولا سيما والكثير منها مما يَحْتَمِل أن يكون من التأويل الذي قرن إلى التنزيل، فصار يظن أنه منه.

وقال البغويُّ في "شرح السنة": المصحف الذي استقرّ عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف، وجَمَعَ الناس عليه، وأذهَبَ ما سوى ذلك قطعًا لمادة الخلاف، فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع، كسائر ما نُسِخ ورُفِع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم.

وقال أبو شامة رحمه الله: ظَنّ قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يَظُنّ ذلك بعض أهل الجهل.

وقال ابن عمار أيضًا: لقد فعل مسبِّعُ هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قلَّ نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة، أو زاد ليزيل الشبهة، ووقع له أيضًا في اقتصاره عن كل إمام على راويين أنه صار من سمع قراءة راوٍ ثالثٍ غيرهما أبطلها، وقد تكون هي أشهر، وأصح، وأظهر، وربما بالغ من لا يفهم، فخطأ، أو كفر.

وقال أبو بكر ابن العربيّ رحمه الله: ليست هذه السبعة متعينة للجواز، حتى لا يجوز غيرها، كقراءة أبي جعفر، وشيبة، والأعمش، ونحوهم، فإن هؤلاء مثلهم، أو فوقهم.

وكذا قال غير واحد: منهم مكي بن أبي طالب، وأبو العلاء الهمداني، وغيرهم من أئمة القراء.

وقال أبو حيان: ليس في كتاب ابن مجاهد، ومن تبعه من القراءات

ص: 486

المشهورة إلا النزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويًا، ثم ساق أسماءهم، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي، واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس، فكيف يقتصر على السُّوسي، والدُّوري، وليس لهما مزية على غيرهما؛ لأن الجميع مشتركون في الضبط، والإتقان، والاشتراك في الأخذ، قال: ولا أعرف لهذا سببًا إلا ما قُضِيَ من نقص العلم، فاقتصر هؤلاء على السبعة، ثم اقتصر من بعدهم من السبعة على النزر اليسير.

وقال أبو شامة رحمه الله: لم يُرد ابن مجاهد ما نُسِب إليه، بل أخطأ من نَسَب إليه ذلك.

وقد بالغ أبو طاهر ابن أبي هاشم صاحبه في الردّ على من نسب إليه أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هاشم: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها، أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حَمَل عنه أهل تلك الجهات، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، قال: فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعًا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط، امتثالًا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار، مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة.

وقال مكي بن أبي طالب رحمه الله: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم، وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم ساق نحو ما تقدم، قال: وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كنافع، وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقد غلط غلطًا عظيمًا، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهِم، ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآنًا، وهذا غلط عظيم، فإن الذين صنفوا القراءات من الأئمة المتقدمين -كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي حاتم السجستاني، وأبي جعفر الطبري، وإسماعيل بن إسحاق القاضي- قد ذكروا أضعاف هؤلاء.

قال الحافظ رحمه الله: قلت: اقتصر أبو عبيدة في كتابه على خمسة عشر رجلًا، من كل مصر ثلاثة أنفس: فذكر من مكة ابنَ كثير، وابن محيصن،

ص: 487

وحُميدًا الأعرج، ومن أهل المدينة أبا جعفر، وشيبة، ونافعًا، ومن أهل البصرة أبا عمرو، وعيسى بن عمر، وعبد اللَّه بن أبي إسحاق، ومن أهل الكوفة يحيى بن وَثّاب، وعاصمًا، والأعمش، ومن أهل الشام عبد اللَّه بن عامر، ويحيى بن الحارث، قال: وذهب عني اسم الثالث، ولم يذكر في الكوفيين حمزة، ولا الكسائي، بل قال: إن جمهور أهل الكوفة بعد الثلاثة صاروا إلى قراءة حمزة، ولم يجتمع عليه جماعتهم، قال: وأما الكسائيّ، فكان يتخير القراءات، فأخذ من قراءة الكوفيين بعضًا، وترك بعضًا، وقال بعد أن ساق أسماء من نقلت عنه القراءة من الصحابة والتابعين: فهؤلاء هم الذين يُحكَى عنهم عُظْمُ القراءة، وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث، قال: ثم قام بعدهم بالقراءات قوم ليست لهم أسنانهم، ولا تقدمهم، غير أنهم تجردوا للقراءة، واشتدت عنايتهم بها، وطلبهم لها، حتى صاروا بذلك أئمة يقتدي الناس بهم فيها، فذكرهم.

وذكر أبو حاتم زيادة على عشرين رجلًا، ولم يذكر فيهم ابن عامر، ولا حمزة، ولا الكسائي، وذكر الطبريّ في كتابه اثنين وعشرين رجلًا.

قال مكي: وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو، ويعقوب، وبالكوفة على قراءة حمزة، وعاصم، وبالشام على قراءة ابن عامر، وبمكة على قراءة ابن كثير، وبالمدينة على قراءة نافع، واستمرّوا على ذلك، فلما كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي، وحذف يعقوب، قال: والسبب في الاقتصار على السبعة -مع أن في أئمة القراء من هو أجلّ منهم قدرًا، ومثلهم أكثر من عددهم- أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرين جدًا، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة، والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل عليه السلام إمامًا واحِدًا، ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات، ولا القراءة به، كقراءة يعقوب، وعاصم الجحدري، وأبي جعفر، وشيبة، وغيرهم.

قال: وممن اختار من القراءات كما اختار الكسائي أبو عبيد، وأبو

ص: 488

حاتم، والمفضل، وأبو جعفر الطبري، وغيرهم، وذلك واضح في تصانيفهم في ذلك.

وقد صنف ابن جبير المكي، وكان قبل ابن مجاهد كتابًا في القراءات، فاقتصر على خمسة اختار من كل مصر إمامًا، وإنما اقتصر على ذلك؛ لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار، ويقال: إنه وَجَّهَ بسبعة، هذه الخمسة، ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين، لكن لم نسمع لهذين المصحفين خبرًا، وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف، فاستبدلوا من غير البحرين واليمن قارئين يكمل بهما العدد، فصادف ذلك موافقة العدد الذي ورد الخبر به، وهو "أن القرآن أنزل على سبعة أحرف"، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة، ولم يكن له فطنة، فظن أن المراد بالقراءات السبع الأحرف السبعة، ولا سيما، وقد كثر استعمالهم الحرف في موضع القراءة، فقالوا: قرأ بحرف نافع، وبحرف ابن كثير، فتأكد الظن بذلك، وليس الأمر كما ظنه، والأصل المعتمد عليه عند الأئمة في ذلك أنه الذي يصح سنده في السماع، ويستقيم وجهه في العربية، ويوافق خط المصحف، وربما زاد بعضهم الاتفاق عليه، ونعني بالاتفاق كما قال مكي بن أبي طالب ما اتفق عليه قراء المدينة والكوفة، ولا سيما إذا اتفق نافع وعاصم، قال: وربما أرادوا بالاتفاق ما اتفق عليه أهل الحرمين، قال: وأصح القراءات سندًا نافع، وعاصم، وأفصحها أبو عمرو، والكسائيّ.

وقال ابن السمعانيّ في "الشافي": التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر، ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر رأيهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، قال: وقد صنف غيره في السبع أيضًا، فذكر شيئًا كثيرًا من الروايات عنهم غير ما في كتابه، فلم يقل أحد: إنه لا تجوز القراءة بذلك لخلو ذلك المصحف عنه.

وقال أبو الفضل الرازيّ في "اللوائح" بعد أن ذكر الشبهة التي من أجلها ظن الأغبياء أن أحرف الأئمة السبعة هي المشار إليها في الحديث، وأن الأئمة بعد ابن مجاهد جعلوا القراءات ثمانية أو عشرة لأجل ذلك. قال: واقتفيت أثرهم لأجل ذلك، وأقول: لو اختار إمام من أئمة القراء حروفًا، وجرَّد طريقًا

ص: 489

في القراءة بشرط الاختيار لم يكن ذلك خروجًا عن الأحرف السبعة.

وقال الكواشي: كل ما صحّ سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا، أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من الثلاثة، فهو الشاذ.

قال الحافظ رحمه الله: وإنما أوسعت القول في هذا لما تجدد في الأعصار المتأخرة من توهم أن القراءات المشهورة منحصرة في مثل "التيسير"، و"الشاطبية"، وقد اشتد إنكار أئمة هذا الشأن على من ظن ذلك، كأبي شامة، وأبي حيان، وآخرُ من صرح بذلك السبكي، فقال في "شرح المنهاج" عند الكلام على القراءة بالشاذ: صرح كثير من الفقهاء بأن ما عدا السبعة شاذّ، توهمًا منه انحصار المشهور فيها، والحق أن الخارج عن السبعة على قسمين:

الأول: ما يخالف رسم المصحف، فلا شك في أنه ليس بقرآن.

والثاني: ما لا يخالف رسم المصحف، وهو على قسمين أيضًا:

الأول: ما ورد من طريق غريبة، فهذا ملحق بالأول.

والثاني: ما اشتهر عند أئمة هذا الشأن القراءة به قديمًا وحديثًا، فهذا لا وجه للمنع منه، كقراءة يعقوب، وأبي جعفر، وغيرهما. ثم نقل كلام البغوي، وقال: هو أولى من يعتمد عليه في ذلك، فإنه فقيه محدث مقرئ، ثم قال: وهذا التفصيل بعينه وارد في الروايات عن السبعة، فإن عنهم شيئًا كثيرًا من الشواذ، وهو الذي لم يأت إلا من طريق غريبة، وإن اشتهرت القراءة من ذلك المنفرد، وكذا قال أبو شامة، ونحن وإن قلنا: إن القراءة الصحيحة إليهم نسبت، وعنهم نقلت، فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف، لخروجه عن الأركان الثلاثة، ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وإلى الشروط الثلاثة المذكورة أشار المحقّق ابن الجزريُّ في "طيبة النشر" بقوله:

(1)

"الفتح" 8/ 642 - 648 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4992).

ص: 490

وَكُلُّ مَا وَافَقَ وَجْهًا نَحْوِي

وَكَانَ لِلرَّسْم احْتِمَالًا يَحْوِي

وَصَحَّ إسْنَادًا هُوَ الْقُرْآنُ

فَهذِهِ الثَّلَاثَةُ الأرْكَانُ

وَحَيْثُمَا يَخْتَلُّ شَرْطٌ أَثْبِتِ

شُذُوذَهُ لَوْ أَنَّهُ فِي السَّبْعَةِ

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا خلاصة ما نقلوه، وتحقيق ما قالوه، وهو تحقيق نفيس، وبحث أنيس، لمن له رغبة في العلم، وتطلع إلى الفهم، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في بيان الأحرف التي اختَلَف فيها القرّاء من "سورة الفرقان":

قال الحافظ رحمه الله: لم أَقِف في شيء من طرق حديث عمر رضي الله عنه على تعيين الأحرف التي اختَلَف فيها عمر وهشام رضي الله عنهما من سورة الفرقان، وقد زَعَم بعضهم فيما حكاه ابن التين أنه ليس في هذه السورة عند القراء خلاف فيما ينقص من خط المصحف سوى قوله:{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} ، وقرئ {سِرَاجًا} وجمع سراج، قال: وباقي ما فيها من الخلاف لا يخالف خط المصحف.

قال الحافظ: وقد تتبع أبو عمر بن عبد البرُّ ما اختَلَف فيه القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، فأوردته مُلَخَّصًا، وزدت عليه قدر ما ذكره وزيادةً على ذلك، وفيه تَعَقُّبٌ على ما حكاه ابن التين في سبعة مواضع أو أكثر.

قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} ، قرأ أبو الجوزاء، وأبو السوار:"أنزل" بألف، قوله:{عَلَى عَبْدِهِ} ، قرأ عبد اللَّه بن الزبير، وعاصم الجحدريّ:"على عباده"، ومعاذ أبو حليمة، وأبو نهيك:"على عبيده". قوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} ، قرأ طلحة بن مُصَرِّف، ورويت عن إبراهيم النخعيّ بضم المثناة الأولى، وكسر الثانية، مبنيًا للمفعول، وإذا ابتَدَأ ضَمّ أوله.

قوله: {مَلَكٌ فَيَكُونَ} وقرأ عاصم الجحدريّ، وأبو المتوكل، ويحيى بن يعمر {فَيَكُونَ} بضم النون.

قوله: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} قرأ الأعمش، وأبو حَصِين {يَكُونَ} بالتحتانية.

ص: 491

قوله: {يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ الكوفيون سوى عاصم {نَّأْكُلُ} بالنون، ونقله في "الكامل" عن القاسم وابن سعد وابن مقسم.

قوله: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحميد، وتابعهم أبو بكر، وشيبان، عن عاصم، وكذا محبوب، عن أبي عمرو، ووَرْش {يَجْعَلْ} برفع اللام، والباقون بالجزم؛ عطفًا على محل {جَعَلَ} ، وقيل: لادغامها، وهذا يجري على طريقة أبي عمرو بن العلاء، وقرأ بنصب اللام عُمر بن ذَرّ، وابن أبي عَبْلَة، وطلحة بن سليمان، وعبد اللَّه بن موسى، وذكرها الفراء جوازًا على إضمار "أن"، ولم ينقلها، وضعّفها ابن جني.

قوله: {مَكَانًا ضَيِّقًا} قرأ ابن كثير، والأعمش، وعليّ بن نصر، ومسلمة بن محارب بالتخفيف، ونقلها عقبة بن يسار، عن أبي عمرو أيضًا.

قوله: {مُقَرَّنِينَ} قرأ عاصم الجحدريّ، ومحمد بن السميفع:"مقرنون".

قوله: {ثُبُورًا} قرأ المذكوران بفتح المثلثة.

قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} قرأ ابن كثير، وحفص، عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، والأعرج، والجحدريّ، وكذا الحسن، وقتادة، والأعمش، على اختلاف عنهم بالتحتانية، وقرأ الأعرج بكسر الشين، قال ابن جني: وهي قوية في القياس، متروكة في الاستعمال.

قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قرأ ابن مسعود، وأبو نهيك، وعمر بن ذَرّ:"وما يعبدون من دوننا". قوله: {فَيَقُولُ} قرأ ابن عامر، وطلحة بن مصرف، وسلام، وابن حسان، وطلحة بن سليمان، وعيسى بن عمر، وكذا الحسن، وقتادة، على اختلاف عنهما، ورويت عن عبد الوارث، عن أبي عمرو، بالنون.

قوله: {مَا كَانَ يَنْبَغِي} قرأ أبو عيسى الأسواريّ، وعاصم الجحدريّ بضم الياء وفتح الغين.

قوله: {أَنْ نَتَّخِذَ} قرأ أبو الدرداء، وزيد بن ثابت، والباقر، وأخوه زيد، وجعفر الصادق، ونصر بن علقمة، ومكحول، وشيبة، وحفص بن حميد، وأبو جعفر القارئ، وأبو حاتم السجستانيّ، والزعفرانيّ، ورُوي عن مجاهد، وأبو

ص: 492

رجاء، والحسن بضم أوله وفتح الخاء، على البناء للمفعول، وأنكرها أبو عبيد، وزعم الفراء أن أبا جعفر تفرد بها.

قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} حَكَى القرطبيّ أنها قرئت بالتخفيف.

قوله: {بِمَا تَقُولُونَ} قرأ ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والأعمش، وحميد بن قيس، وابن جريج، وعمر بن ذَرّ، وأبو حيوة، ورويت عن قنبل، بالتحتانية.

قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قرأ حفص في الأكثر عنه، عن عاصم، بالفوقانية، وكذا الأعمش، وطلحة بن مصرّف، وأبو حيوة.

قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ} قرئ "يذقه" بالتحتانية.

قوله: {إِلَّا إِنَّهُمْ} قرئ "أنهم" بفتح الهمزة، والأصل: لأنهم، فحذفت اللام، نُقِل هذا والذي قبله من إعراب السمين.

قوله: {وَيَمْشُونَ} قرأ عليّ وابن مسعود، وابنه عبد الرحمن، وأبو عبد الرحمن السلميّ بفتح الميم، وتشديد الشين، مبنيًا للفاعل وللمفعول أيضًا.

قوله: {حِجْرًا مَحْجُورًا} قرأ الحسن، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، والأعمش، "حجرًا" بضم أوله، وهي لغة، وحَكَى أبو البقاء الفتح عن بعض المصريين، ولم أر من نقلها قراءةً.

قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ الكوفيون، وأبو عمرو، والحسن في المشهور عنهما، وعمرو بن ميمون، ونعيم بن ميسرة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، ووافقهم عبد الوارث، ومعاذ، عن أبي عمرو، وكذا محبوب، وكذا الحمصيّ من الشاميين في نقل الْهُذَليّ.

قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ} قرأ الأكثر بضم النون، وتشديد الزاي، وفتح اللام، "الملائكة" بالرفع، وقرأ خارجة بن مصعب، عن أبي عمرو، ورويت عن معاذ أبي حليمة، بتخفيف الزاي، وضم اللام، والأصل: تنزل الملائكة، فحذفت تخفيفًا، وقرأ أبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وعُمر بن ذَرَ، ورويت عن ابن مسعود، ونقلها ابن مقسم عن المكيّ، واختارها الهذليّ، بفتح النون، وتشديد الزاي، وفتح اللام، على البناء للفاعل، "الملائكةَ" بالنصب، وقرأ جناح بن حبيش، والخفاف، عن أبي عمرو، بالتخفيف "الملائكة" بالرفع على البناء

ص: 493

للفاعل، ورويت عن الخفاف على البناء للمفعول أيضًا، وقرأ ابن كثير في المشهور عنه، وشعيب، عن أبي عمرو، "وننزل" بنونين الثانية خفيفة "الملائكةَ" بالنصب، وقرئ بالتشديد عن ابن كثير أيضًا، وقرأ هارون، عن أبي عمرو بمثناة أوله، وفتح النون، وكسر الزاي الثقيلة، "الملائكة" بالرفع أي تنزل ما أُمِرت به، ورُوِي عن أُبيّ بن كعب مثله، لكن بفتح الزاي، وقرأ أبو السمال، وأبو الأشهب كالمشهور عن ابن كثير، لكن بألف أوله، وعن أُبيّ بن كعب "نزلت" بفتح وتخفيف، وزبادة مثناة في آخره، وعنه مثله، لكن بضم أوله مشددًا، وعنه تنزلت بمثناة في أوله، وفي آخره بوزن تفعلت.

قوله: {يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ أبو عمرو بفتح الياء الأخيرة، من "ليتني".

قوله: {يَاوَيْلَتَى} قرأ الحسن بكسر المثناة بالإضافة، ومنهم من أمال.

قوله: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} قرأ أبو عمرو، وروح، وأهل مكة، إلا رواية ابن مجاهد عن قنبل، بفتح الياء من "قومي".

قوله: {لِنُثَبِّتَ} قرأ ابن مسعود بالتحتانية بدل النون، وكذا رُوي عن حميد بن قيس، وأبي حَصِين، وأبي عمران الْجَوْنيّ.

قوله: {فَدَمَّرْنَاهَا} قرأ عليّ ومسلمة بن محارب "فدمرانهم" بكسر الميم وفتح الراء، وكسر النون الثقيلة، بينهما ألف تثنية، وعن عليّ بغير نون، والخطاب لموسى وهارون.

قوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ} قرأ حمزة، ويعقوب، وحفص:"وثمود" بغير صرف.

قوله: {أُمْطِرَتْ} قرأ معاذ أبو حليمة، وزيد بن عليّ، وأبو نَهِيك "مطرت" بضم أوله، وكسر الطاء، مبنيًا للمفعول، وقرأ ابن مسعود:"أمطروا"، وعنه:"أمطرناهم".

قوله: {مَطَرَ السَّوْءِ} قرأ أبو السمال، وأبو العالية، وعاصم الجحدريّ، بضم السين، وأبو السمال أيضًا مثله بغير همز، وقرأ عليّ، وحفيده زين العابدين، وجعفر بن محمد بن زين العابدين، بفتح السين، وتشديد الواو، بلا همز، وكذا قرأ الضحاك، لكن بالتخفيف.

ص: 494

قوله: {هُزُوًا} قرأ حمزة، وإسماعيل بن جعفر، والمفضل بإسكان الزاي، وحفص بالضم بغير همز.

قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} قرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب:"اختاره اللَّه من بيننا".

قوله: {عَنْ آلِهَتِنَا} قرأ ابن مسعود، وأُبي:"عن عبادة آلهتنا".

قوله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} قرأ ابن مسعود بمد الهمزة، وكسر اللام، والتنوين، بصيغة الجمع، وقرأ الأعرج بكسر أوله، وفتح اللام، بعدها ألف وهاء تأنيث، وهو اسم الشمس، وعنه بضم أوله أيضًا.

قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ الشاميّ بفتح السين.

قوله: {أَوْ يَعْقِلُونَ} قرأ ابن مسعود: "أو يبصرون".

قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ} قرأ ابن مسعود: "جعل".

قوله: {الرِّيَاحَ} قرأ ابن كثير، وابن محيصن، والحسن:"الريح".

قوله: {بُشْرًا} قرأ ابن عامر، وقتادة، وأبو رجاء، وعمرو بن ميمون، بسكون الشين، وتابعهم هارون الأعور، وخارجة بن مصعب، كلاهما عن أبي عمرو، وقرأ الكوفيون، سوى عاصم، وطائفة بفتح أوله، ثم سكون، وكذا قرأ الحسن، وجعفر بن محمد، والعلاء بن شبابة، وقرأ عاصم بموحدة، بدل النون، وتابعه عيسى الهمدانيّ، وأبان بن تغلب، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ في رواية، وابن السميفع بضم الموحدة، مقصور بوزن حبلى.

قوله: {لِنُحْيِيَ بِهِ} قرأ ابن مسعود: "لننشر به".

قوله: {مَيْتًا} قرأ أبو جعفر بالتشديد.

قوله: {وَنُسْقِيَهُ} قرأ أبو عمرو، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، بفتح النون، وهي رواية عن أبي عمرو، وعاصم، والأعمش.

قوله: {وَأَنَاسِيَّ} قرأ يحيى بن الحارث بتخفيف آخره، وهي رواية عن الكسائيّ، وعن أبي بكر بن عياش، وعن قتيبة الميال، وذكرها الفراء جوازًا لا نقلًا.

قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} قرأ عكرمة بتخفيف الراء.

قوله: {لِيَذَّكَّرُوا} قرأ الكوفيون سوى عاصم بسكون الذال مخففًا.

ص: 495

قوله: {وَهَذَا مِلْحٌ} قرأ أبو حَصِين، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل، وأبو حيوة، وعُمر بن ذَرّ، ونقلها الْهُذَليّ عن طلحة بن مصرف، ورويت عن الكسائيّ، وقتيبة الميال، بفتح الميم، وكسر اللام، واستنكرها أبو حاتم السجستانيّ، وقال ابن جني: يجوز أن يكون أراد: مالح، فحذف الألف تخفيفًا، قال: مع أن مالح ليست فصيحة، قوله:{وَحِجْرًا} تقدم.

قوله: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ زيد بن عليّ بجر النون نعتًا للحيّ، وابن معدان بالنصب، قال: على المدح.

قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ} قرأ الميمون، والكسائيّ، وخلف، وأبان بن يزيد، وإسماعيل بن جعفر، ورويت عن أبي عمرو، وعن نافع:"فسل به" بغير همز.

قوله: {لِمَا تَأْمُرُنَا} قرأ الكوفيون بالتحتانية، لكن اختُلِف عن حفص، وقرأ ابن مسعود:"لما تأمرنا به".

قوله: {سِرَاجًا} قرأ الكوفيون سوى عاصم: "سُرُجًا" بضمتين، لكن سكّن الراء الأعمش، ويحيى بن وثاب، وأبان بن تغلب، والشيرازيّ.

قوله: {وَقَمَرًا} قرأ الأعمش، وأبو حَصِين، والحسن، ورويت عن عاصم بضم القاف، وسكون الميم، وعن الأعمش أيضًا فتح أوله.

قوله: {أَنْ يَذَّكَّر} قرأ حمزة بالتخفيف، وأُبيّ بن كعب:"يتذكر"، ورويت عن عليّ، وابن مسعود، وقرأها أيضًا إبراهيم النخعيّ، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وطلحة بن مصرف، وعيسى الهمدانيّ، والباقر، وأبوه، وعبد اللَّه بن إدريس، ونعيم بن ميسرة.

قوله: {يَمْشُونَ} قرأ أُبيّ بن كعب بضم العين، وتشديد الموحدة، والحسن بضمتين، بغير ألف، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، وأبو الجوزاء، بفتح، ثم كسر، ثم تحتانية ساكنة.

قوله: {سُجَّدًا} قرأ عليّ، ومعاذ القارئ، وأبو عبد الرحمن السلميّ، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، وابن السميفع بالتشديد، مبنيًا للفاعل، وعاصم الجحدريّ، وعيسى بن عمر مبنيًا للمفعول.

قوله: {سُجَّدًا} قرأ إبراهيم النخعيّ: "سجودًا".

قوله: {وَمُقَامًا} قرأ أبو زيد بفتح الميم.

ص: 496

قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} قرأ ابن عامر، والمدنيون، وهي رواية أبي عبد الرحمن السلميّ عن عليّ، وعن الحسن، وأبي رجاء، ونعيم بن ميسرة، والمفضل، والأزرق، والجعفيّ، وهي رواية عن أبي بكر، بضم أوله من الرباعيّ، وأنكرها أبو حاتم، وقرأ الكوفيون إلا من تقدم منهم، وأبو عمرو في رواية، بفتح أوله، وضم التاء، وقرأ عاصم الجحدريّ، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر، وهي رواية عن أبي عمرو أيضًا، بضم أوله، وفتح القاف، وتشديد التاء، والباقون بفتح أوله، وكسر التاء.

قوله: {قَوَامًا} قرأ حسان بن عبد الرحمن، صاحب عائشة، بكسر القاف، وأبو حصين، وعيسى بن عمر، بتشديد الواو، مع فتح القاف.

قوله: {يَلْقَ أَثَامًا} قرأ ابن مسعود، وأبو رجاء:"يلقى" بإشباع القاف، وقرأ عمر بن ذَرّ بضم أوله، وفتح اللام، وتشديد القاف، بغير إشباع.

قوله: {يُضَاعَفْ} قرأ أبو بكر، عن عاصم برفع الفاء، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، وشيبة، ويعقوب:"يضعف" بالتشديد، وقرأ طلحة بن سليمان بالنون، "العذاب" بالنصب.

قوله: {وَيَخْلُدْ} قرأ ابن عامر، والأعمش، وأبو بكر عن عاصم بالرفع، وقرأ أبو حيوة بضم أوله، وفتح الخاء، وتشديد اللام، ورويت عن الجعفيّ، عن شعبة، ورويت عن أبي عمرو، لكن بتخفيف اللام، وقرأ طلحة بن مصرف، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، وعاصم الجحدري بالمثناة مع الجزم، على الخطاب.

قوله: {فِيهِ مُهَانًا} قرأ ابن كثير بإشباع الهاء من "فيه" حيث جاء، وتابعه حفص عن عاصم هنا فقط.

قوله: {وَذُرِّيَّاتِنَا} قرأ أبو عمرو، والكوفيون سوى رواية عن عاصم بالإفراد، والباقون بالجمع.

قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ أبو الدرداء، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو المتوكل، وأبو نهيك، وحميد بن قيس، وعمر بن ذَرّ:"قرّات" بصيغة الجمع.

قوله: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} قرأ ابن مسعود: "يجزون الجنة".

ص: 497

قوله: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} قرأ الكوفيون سوى حفص، وابن معدان بفتح أوله، وسكون اللام، وكذا قرأ النميريّ عن المفضل.

قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} قرأ ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير:"فقد كذب الكافرون"، وحَكَى الواقديّ عن بعضهم تخفيف الذال.

قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ} قرأ أبو السمال، وأبو المتوكل، وعيسى بن عمر، وأبان بن تغلب بالفوقانية.

قوله: {لِزَامًا} قرأ أبو السمال بفتح اللام، أسنده أبو حاتم السجستانيّ، عن أبي زيد عنه، ونقلها الهذليّ عن أبان بن تغلب.

قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن أورد بعض ما أوردته: هذا ما في "سورة الفرقان" من الحروف التي بأيدي أهل العلم بالقرآن، واللَّه أعلم بما أَنكَر منها عُمر على هشام، وما قرأ به عمر، فقد يمكن أن يكون هناك حروف أخرى لم تصل إليّ، وليس كل من قرأ بشيء نُقِل ذلك عنه، ولكن إن فات من ذلك شيء فهو النزر اليسير.

قال الحافظ: كذا قال، والذي ذكرناه يزيد على ما ذكره مثله، أو أكثر، ولكنا لا نتقلد عهدة ذلك، ومع ذلك فنقول: يَحْتَمِل أن تكون بقيت أشياء لم يُطَّلَع عليها، على أني تركت أشياء مما يتعلق بصفة الأداء من الهمز والمد والروم والإشمام، ونحو ذلك، ثم بعد كتابتي هذا، وإسماعه وقفت على الكتاب الكبير المسمى بـ "الجامع الأكبر، والبحر الأزخر" تأليف شيخ شيوخنا أبي القاسم عيسى بن عبد العزيز اللَّخْميّ، الذي ذكر أنه جمع فيه سبعة آلاف رواية، من طريق غير ما لا يليق

(1)

وهو في نحو ثلاثين مجلدة، فالتقطت منه ما لم يتقدم ذكره من الاختلاف، فقارب قدر ما كنت ذكرته أوّلًا، وقد أوردته على ترتيب السورة.

قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} قرأ أدهم السدوسي بالمثناة فوق.

قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} قرأ سعيد بن يوسف بكسر الهمزة، وفتح اللام، بعدها ألف.

(1)

هكذا النسخة، فليُنظر، هل هو مصحّف، وإلا فما المراد به؟؟؟؟.

ص: 498

قوله: {وَيَمْشِي} قرأ العلاء بن شبابة، وموسى بن إسحاق، بضم أوله، وفتح الميم، وتشديد الشين المفتوحة، ونُقِل عن الحجاج بضم أوله، وسكون الميم، وبالسين المهملة المكسورة، وقالوا: هو تصحيف.

قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ} قرأ ابن أنعم بتحتانية أوله، وكذا محمد بن جعفر بفتح المثناة الأولى، وسكون الثانية.

قوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} قرأ زهير بن أحمد بمثناة من فوق.

قوله: {جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ سالم بن عامر: "جنات" بصيغة الجمع.

قوله: {مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} قرأ عبد اللَّه بن سلام: "مقرنين" بالتخفيف، وقرأ سهل:"مقرنون" بالتخفيف مع الواو.

قوله: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} قرأ أبو هشام: "أم جنات" بصيغة الجمع.

قوله: {عِبَادِي هَؤُلَاءِ} قرأها الوليد بن مسلم بتحريك الياء.

قوله: {نَسُوا الذِّكْرَ} قرأ أبو مالك بضم النون، وتشديد السين.

قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا} قرأ ابن مسعود: "فما يستطيعون لكم"، وأبي بن كعب:"فما يستطيعون لك"، حَكَى ذلك أحمد بن يحيى بن مالك، عن عبد الوهاب، عن هارون الأعور، وروي عن ابن الأصبهانيّ، عن أبي بكر بن عياش، وعن يوسف بن سعيد، عن خلف بن تميم، عن زائدة، كلاهما عن الأعمش، بزيادة:"لكم" أيضًا.

قوله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} قرأ يحيى بن واضح: "ومن يكذب" بدل "يظلم" ووزنها، وقرأها أيضًا هارون الأعور:"يكذب" بالتشديد.

قوله: {عَذَابًا كَبِيرًا} قرأ شعيب عن أبي حمزة بالمثلثة بدل الموحدة.

قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ} قرأ جعفر بن محمد بفتح الهمزة والزاي، ونصب "الملائكة".

قوله: {عُتُوًّا كَبِيرًا} قرئ: "عتيًا" بتحتانية بدل الواو، وقرأ أبو إسحاق الكوفيّ:"كثيرًا" بالمثلثة بدل الموحدة.

قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} قرأ عبد الرحمن بن عبد اللَّه: "ترون" بالمثناة من فوق.

قوله: {وَيَقُولُونَ} قرأ هشيم عن يونس: "وتقولون" بالمثناة من فوق أيضًا.

ص: 499

قوله: {وَقَدِمْنَا} قرأ سعيد بن إسماعيل بفتح الدال.

قوله: {إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} قرأ الوكيعي: "من عمل صالح" بزيادة "صالح".

قوله: {هَبَاءً} قرأ محارب بضم الهاء مع المد، وقرأ نصر بن يوسف بالضم والقصر والتنوين، وقرأ ابن دينار كذلك، لكن بفتح الهاء.

قوله: {مُسْتَقَرًّا} قرأ طلحة بن موسى بكسر القاف.

قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ} قرأ أبو ضمام: "ويومٌ" بالرفع والتنوين، وأبو وجرة

(1)

بالرفع بلا تنوين، وقرأ عصمة عن الأعمش:"يوم يرون السماء تشقق" بحذف الواو، وزيادة "يرون".

قوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ} قرأ سليمان بن إبراهيم: "الملك" بفتح الميم وكسر اللام.

قوله: {الْحَقُّ} قرأ أبو جعفر بن يزيد بنصب الحق.

قوله: {يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} قرأ عامر بن نصير: "تخذت".

قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ} قرأ المعلى عن الجحدريّ بفتح النون والزاي مخففًا، وقرأ زيد بن عليّ، وعبيد اللَّه بن خليد كذلك، لكن مثقلًا.

قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ} قرأها الحسن بن محمد بن أبي سعدان، عن أبيه بالرفع.

قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} قرأ حامد الرمهرمزيّ

(2)

: "آيات" بالجمع.

قوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ} قرأ سورة بن إبراهيم: "القريات" بالجمع، وقرأ بهرام:"الْقُرية" بالتصغير مثقلًا.

قوله: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} قرأ أبو حمزة عن شعبة بالمثناة من فوق فيهما.

(1)

هكذا النسخة بالراء، والظاهر أنه غلط، والصواب أبو وجزة بالزاي، وهو يزيد بن عبيد السلميّ، المتوفّى سنة (130 هـ) فليُحرّر.

(2)

هكذا النسخة، والظاهر أنه الرامهرمزيّ بألف بعد الراء الأولى، فليُحرّر.

ص: 500

قوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ} وقرأ عثمان بن المبارك بالمثناة من فوق فيهما.

قوله: {أَمْ تَحْسَبُ} قرأ حمزة بن حمزة بضم التحتانية، وفتح السين المهملة.

قوله: {سُبَاتًا} وقرأ يوسف بن أحمد بكسر المهملة أوله، وقال: معناه الراحة.

قوله: {جِهَادًا كَبِيرًا} وقرأ محمد ابن الحنفية بالمثلثة.

قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} قرأ ابن عرفة: "مرّج" بتشديد الراء.

قوله: {هَذَا عَذْبٌ} وقرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان بكسر الذال المعجمة.

قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا} قرأ الحجاج بن يوسف: "سببًا" بمهملة ثم موحدتين.

قوله: {أَنَسْجُدُ} وقرأ أبو المتوكل بالتاء المثناة من فوق.

قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} وقرأ الحسن بن محمد بن أبي سعدان عن أبيه: "خلفه" بفتح الخاء، وبالهاء، ضمير يعود على الليل.

قوله: {عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وقرأ ابن السميفع بضم الهاء.

قوله: {قَالُوا سَلَامًا} قرأ حمزة بن عروة: "سلمًا" بكسر السين، وسكون اللام.

قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ} قرأ جعفر بن إلياس بضم النون، وقال: هو اسم "كان".

قوله: {لَا يَدْعُونَ} قرأ جعفر بن محمد بتشديد الدال.

قوله: {وَلَا يَقْتُلُونَ} قرأ ابن جامع بضم أوله، وفتح القاف، وتشديد التاء المكسورة، وقرأها معاذ كذلك، لكن بألف قبل المثناة.

قوله: {أَثَامًا} قرأ عبد اللَّه بن صالح العجليّ، عن حمزة:"إثمًا" بكسر أوله، وسكون ثانية، بغير ألف قبل الميم، ورُوي عن ابن مسعود بصيغة الجمع "آثامًا".

قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ} قرأ عبد الحميد، عن أبي بكر، وابن أبي عبلة،

ص: 501

وأبان، وابن مجالد، عن عاصم، وأبو عمارة، والبرهميّ، عن الأعمش بسكون الموحدة.

قوله: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قرأ أبو المظفر بنون بدل الراء.

قوله: {ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} قرأ تميم بن زياد بفتح الذال والكاف.

قوله: {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} قرأ سليمان بن يزيد: "بآية" بالإفراد.

قوله: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قرأ معروف بن حكيم: "قرة عين" بالإفراد، وكذا أبو صالح من رواية الكلبيّ عنه، لكن قال:"قرّات عين".

قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ} قرأ جعفر بن محمد: "واجعل لنا من المتقين إمامًا".

قوله: {يُجْزَوْنَ} قرأ أُبيّ في رواية: "يجازون".

قوله: {الْغُرْفَةَ} قرأ أبو حامد: "الغرفات".

قوله: {تَحِيَّةً} قرأ ابن عمير: "تحيات" بالجمع.

قوله: {وَسَلَامًا} قرأ الحارث: "وسلمًا" في الموضعين.

قوله: {مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} قرأ عمير بن عمران: "ومقامًا" بفتح الميم.

قوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} قرأ عبد ربه بن سعيد بتخفيف الذال.

فهذه ستة وخمسون موضعًا ليس فيها من المشهور شيء، فليُضَف إلى ما ذكرته أوّلًا، فتكون جملتها نحوًا من مائة وثلاثين موضعًا، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيد، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1900]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ، أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ

(1)

"الفتح" 8/ 648 - 653 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4992).

ص: 502

هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ، فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، وَزَادَ:"فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْمِسْوَرُ بْنُ مَخَرَمَةَ) بن نوفل بن أُهَيب بن عبد مناف بن زُهْرة الزهريّ، أبو عبد الرحمن، له ولأبيه صحبة، مات سنة أربع وستين (ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.

والباقون تقدّموا في السند الماضي، الباب الماضي.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، وَزَادَ) فاعل "ساق"، و"زاد" ضمير يونس، وهو ابن يزيد الأيليّ، يعني أنه ساق الحديث عن ابن شهاب بمثل ما ساقه مالك عنه، وزاد فيه قوله:"فكدت إلخ".

وقوله: (فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ) بالسين المهملة: أي أعاجله، وأواثبه، قاله النوويُّ.

وقال الفيوميّ رحمه الله: سارَ يَسُورُ: إذا غَضِبَ، والسَّوْرَة اسم منه، والجمع سَوْرَاتٌ، بالسكون للتخفيف، وقال الزُّبَيدِيّ: السَّوْرة: الْحِدَّة، والسَّوْرَة البَطْش، وسار الشرابُ يَسُور سَوْرًا، وسَوْرَةً: إذا أخذ الرأسَ، وسَوْرة الجُوعِ والخَمْرِ: الحِدَّةُ أيضًا، ومنه الْمُسَاوَرَةُ، وفي "التهذيب": والإنسان يُسَاوِر إنسانًا: إذا تناول رأسه، ومعناه المغالبة. انتهى

(1)

.

وقوله: (فتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ) أي تكلّفت الصبر حتى سلّم من صلاته، قال في "القاموس": الصبرُ: نقيض الْجَزَعِ، صَبَرَ يَصْبِرُ، فهو صابرٌ، وصَبِير، وصَبُورٌ، وتَصَبَّرَ، واصطبر، واصَّبَر. انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: أنه حبس نفسه، ومنعها عن التعرّض لهشام بالتلبيب ونحوه إلى أن فرغ من صلاته بالتسليم.

[تنبيه]: رواية يونس، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيُّ في "المجتبى"، فقال:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 294 - 295.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 66.

ص: 503

(938)

أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن المسور بن مَخْرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاريّ أخبراه، أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلما سلم لَبَّبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ فقال: أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فواللَّه إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت به أقوده إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام"، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هكذا أُنزلت"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرأني، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هكذا أنزلت"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1901]

(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، كَرِوَايَةِ يُونُسَ بِإِسْنَادِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

ص: 504

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنفٌ شهيرٌ، عَمِي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع [9](ت 211) وله خمس وثمانون (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154) وهو ابن ثمان وخمسين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

وقوله: (كَرِوَايَةِ يُونُسَ بِإِسْنَادِهِ) يعني أن رواية معمر، عن الزهريّ كرواية يونس عنه بإسناده السابق، وهو عن عروة بن الزبير، والمسور بن مخرمة، كلاهما عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 467) فقال:

(3853)

حدّثنا إسحاق، قال: قرأنا على عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاريّ، أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: مررت بهشام بن حكيم بن حِزَام، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فاستمعت قراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكِدْتُ أن أسوره

(1)

في الصلاة، فنظرت حتى سَلَّم، فلما سلم لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي أسمعك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت له: كذبت، فواللَّه إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي تقرؤها، قال: فانطلقت أقوده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه، إني سمعت هذا يقرأ سورة على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هكذا أنزلت"، ثم قال:"اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرأني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هكذا أنزلت"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن القرءان أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

هكذا النسخة، ولعلّ الصواب:"أن أساوره"، كما عند مسلم، فليُحرَّر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 505

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1902]

(819) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى حَرْفٍ، فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ، فَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا، لَا يَخْتَلَفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذَليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات سنة (68) بالطائف (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون ذُكروا قبل إسناد.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار، إلا في موضع.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن فيه عبيد اللَّه أحد الفقهاء السبعة المشهورين، وقد تقدّموا في شرح حديث أول الباب.

7 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فإنه ابن عم

ص: 506

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسَمَّى البحر والْحَبْر؛ لسعة علمه، وقال عمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عَاشره منا أحد، وهو أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، وأحد العبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة المشهورين بالفتوى رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه قال: (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود حفيد عتبة بن مسعود الصحابيّ، أخي عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنهما (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ) أي حدّث عبيدَ اللَّه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) قال في "الفتح": هذا مما لم يُصَرِّح ابن عباس بسماعه له من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكأنه سمعه من أبي بن كعب، فقد أخرج النسائيّ من طريق عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبَيّ بن كعب نحوه، والحديث مشهور عن أُبّيّ، أخرجه مسلم وغيره من حديثه، وهو الحديث التالي لهذا ("أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام القرآن (عَلَى حَرْفٍ) واحد، أي في الأمر (فَرَاجَعْتُهُ) أي جبريل عليه السلام، أي طلبت منه أن يراجع اللَّه عز وجل في التخفيف على أمتي، وليس المراد أنه صلى الله عليه وسلم راجع جبريل حتى يُخفّف له من عنده؛ لأنه لا يستطيع ذلك، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وفي حديث أُبيّ رضي الله عنه الآتي: "أُرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هَوِّن على أمتي"، وفي رواية:"وإن أمتي لا تطيق ذلك".

(فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ) أي أطلب منه الزيادة في التخفيف، والتوسعة.

وقال النوويّ رحمه الله معناه: لم أزل أطلب منه أن يطلب من اللَّه تعالى الزيادة في الحرف، للتوسعة والتخفيف، ويسأل جبريل ربه سبحانه وتعالى، فيزيده حتى انتهى إلى السبعة. انتهى

(1)

.

وفي رواية أبي داود من حديث أُبَيّ رضي الله عنه: "فقال لي الملك الذي معي: قل: على حرفين، حتى بلغت سبعة أحرف"، وفي رواية للنسائيّ من طريق أنس، عن أُبيّ بن كعب: "أن جبريل وميكائيل أتياني، فقال جبريل: اقرأ

(1)

"شرح النووي" 6/ 101.

ص: 507

القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده"، ولأحمد من حديث أبي بكرة نحوه.

(فَيَزِيدُنِي) أي ويسأل جبريل عليه السلام ربّه في الزيادة (حَتَّى انْتَهَى) أي بلغ طلبه من الزيادة (إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أي أوجه يجوز أن يُقرأ بكلّ وجه منها، كما تقدّم بيان ذلك، وتحقيقه قريبًا.

وقال في "الفتح": قوله: "فلم أزل أستزيده، ويزيدني" في حديث أُبَيّ: "ثم أتاه الثانية، فقال: على حرفين، ثم أتاه الثالثة، فقال: على ثلاثة أحرف، ثم جاءه الرابعة، فقال: إن اللَّه يأمرك أن تُقرئ أمتك على سبعة أحرف، فأَيُّما حرف قرؤوا عليه، فقد أصابوا".

وفي رواية للطبريّ: "على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة"، وفي أخرى له:"من قرأ حرفًا منها فهو كما قرأ".

وفي رواية أبي داود: "ثم قال: ليس منها إلا شافٍ كافٍ، إن قلت سميعًا عليمًا عزيزًا حكيمًا، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب".

وللترمذيّ من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل إني بُعِثتُ إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط. . . " الحديث.

وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند أحمد: "كلها كافٍ شافٍ، كقولك: هَلُمَّ، وتَعَالَ، ما لم تختم. . . " الحديث.

قال الحافظ رحمه الله: وهذه الأحاديث تُقَوِّي أن المراد بالأحرف اللغات، أو القراءات، أي أُنزل القرآن على سبع لغات، أو قراءات، والأحرف جمع حرف، مثل فَلْس وأَفْلُس، فعلى الأول يكون المعنى على سبعة أوجه من اللغات؛ لأن أحد معاني الحرف في اللغة الوجه، كقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} ، وعلى الثاني يكون المراد من إطلاق الحرف على الكلمة مجازًا؛ لكونه بعضها. انتهى

(1)

، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى قريبًا، فلا تنس نصيبك، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

(1)

"الفتح" 8/ 640 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4992).

ص: 508

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريُّ راوي الحديث عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه (بَلَغَنِي) هذا صريح في أن الزهريّ أخذه من غيره، وأن الذي وقع في رواية أحمد، والبيهقيّ من نسبة هذا الكلام إلى الزهريّ نفسِهِ، حيث وقع عقب الحديث: قال الزهريّ: وإنما هذه الأحرف. . . إلخ فيه اختصار من بعض الرواة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ) بالنصب على البدل (إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا، لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: معناه أن ذلك الاختلاف يرجع إلى معنى واحد، وإن اختلف اللفظ من هيئته إلى سبعة أنحاء، وأما إذا اختلف اللفظ بحسب الاختلاف في الأداء إلى أن يصير المنفيّ مثبتًا، والمثبت منفيًّا، والحرام حلالًا، والحلال حرامًا مثلًا، فلا يجوز ذلك؛ لقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. انتهى

(1)

، أي وهذا لَمّا كان من عند اللَّه تعالى لم يجدوا فيه اختلافًا يسيرًا، وكأن ابن شهاب رحمه الله قصد بذلك ردّ ما سبق في شرح حديث عمر رضي الله عنه من قول طائفة في بيان معنى الحديث: إن المراد بالأحرف السبعة أن القرآن أُنزل على سبعة أصناف من الكلام، وقد تقدّم تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1902 و 1903](819)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3219) و"فضائل القرآن"(4991)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 263 و 299 و 313)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3845 و 3846 و 3847)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1854)، وفوائده تقدّمت قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1697.

ص: 509

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1903]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه

(1)

عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة، وكلّهم ذُكروا قبل حديث.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) يعني أن معمرًا روى هذا الحديث عن الزهريّ بإسناده الماضي، وهو: عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:

(2855)

حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده، ويزيدني، فانتهى إلى سبعة أحرف"، قال الزهريّ: وإنما هذه الأحرف في الأمر الواحد، وليس يختلف في حلال ولا حرام. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1904]

(820) - (حَدَّثَنَا

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ

(3)

، فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ، دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ، فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "ثم دخل رجل آخر".

ص: 510

فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَأْنَهُمَا، فَسُقِطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ فِي صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَقًا، فَقَالَ لِي: "يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ

(1)

عَلَى أُمِّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ: اقْرَأْهُ

(2)

عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ: اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ

(3)

بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(جَدُّهُ) هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2] مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين، قيل: إنه غَرِقَ (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) رضي الله عنه تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون تقدّموا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجاله الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه، والراوي عن جدّه.

4 -

(ومنها): أن رواية إسماعيل، عن عبد اللَّه بن عيسى من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن إسماعيل من الطبقة الرابعة، وعبد اللَّه من السادسة، وتقدّم الكلام في أُبيّ رضي الله عنه قريبًا.

(1)

وفي نسخة: "أن يهوّن" في الموضعين.

(2)

وفي نسخة: "أن اقرأ".

(3)

وفي نسخة: "ولك".

ص: 511

شرح الحديث:

(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ) أي النبويّ (فَدَخَلَ رَجُلٌ) يَحْتَمِلُ أن يكون ابن مسعود رضي الله عنه، فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" من طريق يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صُرَد، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنهما قال: قرأت آيةً، وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: "بلى"، فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟ فقال: "بلى، كلاكما محسن مُجْمِل"، قال: فقلت له، فضرب صدري. . . الحديث.

(يُصَلِّي) جملة في محلّ نصب على الحال المقدرّة، كما في قوله تعالى:{فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . (فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ) أي بالقلب، أو اللسان (ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ) وفي نسخة:"رجلٌ آخر"(فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ) أي فأنكرتها عليه أيضًا، وقيل: الظاهر أنه لم تكن قراءة هذا الآخر منكرةً عند أُبيّ رضي الله عنه، وإلا لذكر الإنكار عليه أيضًا (فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ) هذا يدلّ ظاهره على أن أُبيًّا رضي الله عنه أيضًا كان في الصلاة، قال القاري رحمه الله: والظاهر أنها الضحى، أو نحوها من النوافل (دَخَلْنَا جَمِيعًا) أي حال كوننا مجتمعين (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي في حُجْرة من حُجَره، وهو متعلّق بـ "دَخَلنا" (فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا) مشيرًا إلى الرجل الأول الذي أنكر قراءته (قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ) حيث خالفت قراءته قراءتي (وَدَخَلَ آخَرُ) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا عطف على مقدّر، أي قلتُ: إن هذا دخل في المسجد، فقرأ قراءةً أنكرتها عليه، ودخل آخر (فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي بالقراءة حتى يسمع وتأكّد من كون قراءتهما صحيحة، أو خطأ (فَقَرَآ) بلفظ التثنية، أي قرأ الرجلان (فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بتشديد السين المهملة، من التحسين (شَأْنَهُمَا) أي حالهما، والمراد قراءتهما، أي قال: كلامكما محسنٌ، أو قال لكلّ واحد منهما: أحسنت، وعند البيهقيّ:"فقال: أحسنتما، أو أصبتما"، وفي رواية لعبد اللَّه بن أحمد:"قال: قد أحسنتم"

(1)

.

(فَسُقِطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ) أي اعتراني، وأصابني، حَيْرَةٌ ودَهْشَةٌ،

(1)

"المرعاة" 7/ 308.

ص: 512

يعني أنه وقع في خاطره من تكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم في تحسينه لشأنهما ما لم يقع له مثله في الإسلام ولا في الجاهليّة.

فلفظ "سَقَطَ" من السقوط بمعنى الوقوع، وهو مبنيّ للفاعل، والفاعل محذوفٌ، وحذف الفاعل المعلوم جائز عند بعض النحاة

(1)

، ويَحْتَمِل أن يكون مبنيًّا للمفعول، والنائب عن الفاعل الجارّ والمجرور، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "فسُقِط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية"، كذا قيدناه عن شيوخنا "سُقِطَ" على ما لم يسم فاعله، ومعناه: تحيرت، يقال:"سُقِط في يده": إذا تحير في أمره، وقيل ذلك في قوله تعالى:{سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} ، وقيل: نَدِمُوا. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فسقط في نفسي. . . إلخ" معناه: وَسْوَس لي الشيطان تكذيبًا للنبوة، أشدّ مما كنت عليه في الجاهلية؛ لأنه في الجاهلية كان غافلًا أو متشككًا، فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب، فمعنى قوله:"سقط في نفسي" أنه اعْتَرَتْهُ حَيْرَةٌ، ودَهْشَةٌ. انتهى

(3)

.

وعبّر عن الخاطر المستعمل في المعاني بـ "سَقَطَ" المستعمل في الأجسام؛ إشعارًا بشدّة هذا الخاطر وثقله ووقوعه من غير اختيار.

ونقل القاري عن شُرّاح "المصابيح" ضبطهم "سُقِطَ" بصيغة المجهول، واستصوبه، وقال: إن لفظ "سُقِط" جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] بالقراءة المتواترة على الضمّ، فتُحمَل رواية الحديث عليه مطابقة بينهما، ولا شكّ أن قوله تعالى:{فِي أَيْدِيهِمْ} ، وقوله في الحديث:"في نفسي" بمعنى واحد؛ لأنه كثيرًا ما يُعبّر عن النفس بالأيدي، فالمعنى: ندِمتُ من تكذيبي وإنكاري قراءتهما نَدَامةً ما نَدِمتُ مثلها لا في الإسلام ولا إذ كنت في الجاهليّة. انتهى.

(1)

هو مذهب الكسائيّ، أجازه مستدلًّا بحديث:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها، وهو مؤمن"، ونحو قوله تعالى:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)} الآية [القيامة: 26]، ونحو قولهم:"إذا كان غدًا فأتني"، راجع:"حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 235 - 236.

(2)

"مشارق الأنوار" 2/ 227.

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 102.

ص: 513

قال الجامع عفا اللَّه عنه: إن ما قاله القاري من حمل معنى الحديث على معنى الآية، وأنه أراد الندم هنا مما لا يخفى بعده؛ إذ سياق الحديث بخلافه، فالحقّ أنه أراد به الإخبار عما وقع في نفسه من التكذيب، لا الإخبار عن ندمه، كما هو في الآية، وقد تقدّم عن القاضي عياض رحمه الله أنه ضبطه بالبناء للمفعول، وفسّره بمعنى تحيّر في أمره، وكذلك قيل هذا المعنى في الآية أيضًا، فهذا معنى صحيح، لا يخالف تفسيره بأنه أصابته وسوسة، ودهشة، كما لا يخفى، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وقيل: فاعل "سقط" محذوف، أي فوقع في نفسي من التكذيب ما لم أقدر على وصفه، ولم أعهد بمثله، ولا إذ كنت في الجاهليّة، قال: قد أحسن هذا القائل، وأصاب في هذا التقدير، ويشهد له قوله:"فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قد غَشِيني "أي من التكذيب، فـ "مِنْ" على هذا بيانيّة، والواو في "ولا إذ كنت" تستدعي معطوفًا عليه، و"لا" المؤكّدة توجب أن يكون المعطوف عليه منفيًّا، وهو هذا المحذوف، وهذا أسدّ في العربيّة من جعل "ولا إذ كنت" صفة لمصدر محذوف كما سبق؛ لأن واو العطف مانعة، ولو ذهب إلى الحال لجاز على التعسّف. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) معناه: أن الشيطان نزغ في نفسه تكذيبًا لم يعتقده حينما كان في الجاهليّة، وهذه الخواطر إذا لم يستمرّ عليها لا يؤاخذ بها.

قال المازريّ رحمه الله: معنى هذا أنه وقع في نفس أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه نزغة من الشيطان غير مستقرّة، ثم زالت في الحال حين ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده في صدره، ففاض عَرَقًا. انتهى

(2)

.

وفي رواية عند أحمد بسند صحيح: "ما تخلج في نفسي من الإسلام ما تخلج يومئذ"، وفي أخرى:"ما حك في صدري شيء منذ أسلمت إلا أني قرأت آيةً. . . " الحديث

(3)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1695.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 102.

(3)

راجع: "المسند" رقم (20589).

ص: 514

وفي رواية عند الطبريّ: "فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمرّ وجهي، فعَرَف ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وجهي، فضرب بيده في صدري، ثم قال: اللهم أخسئ الشيطان عنه. . . " الحديث

(1)

.

وعند الطبري من وجه آخر، عن أُبَيّ رضي الله عنه أن ذلك وقع بينه وبين ابن مسعود رضي الله عنه، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلاكما محسن"، قال أُبَيّ: فقلت: ما كلانا أحسن، ولا أجمل، قال: فضرب في صدري. . . الحديث.

وبيّنت الرواية الآتية للمصنّف بعد هذا من طريق مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبيّ رضي الله عنه المكان الذي نَزَل فيه ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أنه عليه السلام كان عند أَضَاة بني غِفَار، فأتاه جبريل، فقال:"إن اللَّه يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. . . " الحديث.

وبيّن الطبريّ من هذه الطريق أن السورة المذكورة هي "سورة النحل"

(2)

.

(فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَدْ غَشِيَنِي) أي اعتراني، وأصابني من وسوسة الشيطان، ونزغته (ضَرَبَ فِي صَدْرِي) قال القاضي عياض رحمه الله: ضربه صلى الله عليه وسلم في صدره تثبيتًا له حين رآه قد غشيه ذلك الخاطر المذموم (فَفِضْتُ) بكسر الفاء، بعدها ضاد معجمة، من باب ضرب، قال الفيّوميّ رحمه الله: فاض السيل يَفِيضُ فَيْضًا: كَثُرَ وسال من شَفَة الوادي، وأفاض بالألف لغةٌ، وفاض الإناءُ فَيْضًا: امتلأ، وأفاضه صاحبه: ملأه، وفاض الماء والدم: قَطَرَا، وفاض كلُّ سائل: جَرَى، وفاض الخيرُ: كَثُرَ، وأفاضه اللَّه: كَثَّرَهُ. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: ويقال: فِضْتُ عَرَقًا، وفِصْتُ بالضاد المعجمة، والصاد المهملة، قال القاضي عياض رحمه الله: وروايتنا هنا بالمعجمة، قال النوويّ: وكذا هو في معظم أصول بلادنا، وفي بعضها بالمهملة. انتهى

(4)

.

وقوله: (عَرَقًا) بالتحريك، قال في "القاموس": الْعَرَق: محرّكةً: رَشْحُ جِلْد الحيوان، ويُستعار لغيره. انتهى

(5)

.

(1)

"تفسير الطبري" 1/ 18.

(2)

راجع: "الفتح" 8/ 639.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 485.

(4)

"شرح النووي" 6/ 102.

(5)

"القاموس المحيط" 3/ 262.

ص: 515

وهو منصوب على التمييز، أي فجرى وسال عَرَقي من جميع بدني، وهذا أبلغ من فاض عَرَقي؛ لأن الأول إشارة إلى أن العرَقَ فاض منه حتى كأن النفْسَ فاضت منه، ومثله قول القائل: سالت عيني دمعًا

(1)

.

(وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عز وجل فَرَقًا) بفتحتين: أي خوفًا، يقال: فَرَق فَرَقًا، من باب تَعِبَ: خاف، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أفرقته

(2)

.

قيل: هو منصوب على التمييز أيضًا، قال الطيبيّ رحمه الله: والظاهر أن يكون مفعولًا له، أو حالًا؛ لأنه لا يجوز أن يقال: نظر في فرَقي. انتهى

(3)

.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: الفرق بالتحريك: الخوف، أي أصابني من خشية اللَّه تعالى والهيبة فيما قد غشيني ما أوقفني موقف الناظر إلى اللَّه تعالى؛ إجلالًا وحياءً.

وقال الطيبيّ رحمه الله: كان أُبيّ رضي الله عنه من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ومن الموقنين، وكان طَرَيان ذلك التكذيب بسبب الاختلاف نزغةً من الشيطان، فلما أصاب بركة يده صلى الله عليه وسلم بضربه على صدره زالت تلك الهاجسة إلى الخارج مع الْعَرَق، فرجع الشكّ المسبوق بعلم اليقين إلى عين اليقين، فنظر إلى اللَّه تعالى خوفًا وخجلًا مما غشيه من الشيطان. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ لِي) صلى الله عليه وسلم تسكينًا وتثبيتًا ("يَا أُبَيُّ أُرْسِلَ إِلَيَّ) بالبناء للمفعول، أي أرسل اللَّه تعالى جبريل إليّ، وفي رواية لأحمد:"إن ربي تبارك وتعالى أرسل إليّ"(أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ) بلفظ الأمر، أو المتكلّم المعلوم، قال الطيبيّ:"أن" مفسّرة، وجُوّز كونها مصدريّةً على مذهب سيبويه، وإن كانت داخلة على الأمر (عَلَى حَرْفٍ) تقدّم البحث في معنى الحرف مستوفًى في شرح حديث عمر رضي الله عنه أول الباب (فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ) أي إلى اللَّه تعالى بواسطة جبريل عليه السلام (أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي) بصيغة الأمر، أي سَهِّل ويسّر عليهم، وفي بعض النسخ:"أن يُهوّن" بصيغة المضارع.

قال الطيبيّ رحمه الله: "أن" يجوز أن تكون مفسّرةً؛ لما في "رددتُ" من معنى

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 309.

(2)

"المصباح" 2/ 471.

(3)

راجع: "الكاشف" 5/ 1695.

(4)

"الكاشف" 5/ 1695.

ص: 516

القول، ويجوز أن تكون مصدريّة، ولا يضرّ كون مدخولها أمرًا؛ لأنها تدخل عليه عند سيبويه، والرّدّ هنا ليس ضدّ القبول، وإنما هو رجع وردٌّ للجواب، ولذلك سُمّي إجابةُ اللَّه تعالى أيضًا ردًّا. انتهى.

وقال الأبيّ رحمه الله: "أن" مفسّرة؛ لأن "رددت" في معنى القول، وهو رجع، أي فرجعت إليه القول أن هوّن" من معنى قوله في الحديث الآتي:"فقلت: أسأل اللَّه معافاته ومغفرته". انتهى

(1)

.

(فَرَدَّ إلَيَّ الثَّانِيَةَ) قال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: هذا يستدعي الردّة الأولى، وليس في الكلام ما يُشعر به.

قلت: قوله: "فأرسل إليّ" سُمّي ردًّا، إما مُشاكلةً، أو يكون مسبوقًا بطلب من الرسول كيفيّة القراءة. انتهى

(2)

.

(اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ) بصيغة الأمر، أو المتكلّم المبنيّ للمعلوم، وهو بدون "أن"، وفي بعض النسخ:"أن اقرأ" بإثباتها.

(فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إلَيَّ الثَّالِثَةَ: اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) كذا هو في هذه الرواية، وهي رواية عبد اللَّه بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، ووقع في رواية مجاهد، عن ابن أبي ليلى الآتية بعد هذا ما نصّه:"ثم جاءه الرابعة، فقال: إن اللَّه يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف".

قال النوويّ رحمه الله: هذا مما يُشْكِل معناه، والجمع بين الروايتين، وأقرب ما يقال فيه: إن قوله في الرواية الأولى: "فرَدَّ إليّ الثالثةَ" المراد بالثالثة الأخيرة، وهي الرابعة، فسماها ثالثةً مجازًا، وحَمَلَنا على هذا التأويل تصريحه في الرواية الثانية أن الأحرف السبعة إنما كانت في المرة الرابعة، وهي الأخيرة، ويكون قد حُذِف في الرواية الأولى أيضًا بعض المرات. انتهى

(3)

.

(فَلَكَ

(4)

بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا) وفي بعض النسخ: "رددتها"، قال

(1)

"شرح الأبيّ" 2/ 431.

(2)

"الكاشف" 5/ 1696.

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 102 - 103.

(4)

وفي نسخة: "ولك".

ص: 517

النوويّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنه سقط في الرواية الأولى ذكر بعض الردّات الثلاث، وقد جاءت مبيّنة في الرواية الثانية. انتهى

(1)

.

والمعنى: لك بمقابلة كل رجعة رجعت إليّ، ورددتكها، بمعنى رجعتها إليه، فلم أُهَوِّن على أمتك من أول الأمر (مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا) أي إجابة مسألة تسألنيها، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: مسألةٌ مجابةٌ قطعًا، وأما باقي الدعوات فمرجوَّة ليست قطعية الإجابة، وقد سبق بيان هذا الشرح في كتاب الإيمان. انتهى.

وقال الأبيّ رحمه الله: تقدّم في "كتاب الإيمان": حديث: "لكلّ نبيّ دعوة" أن معناه أن تلك الدعوة محقّقة الإجابة، وأن غيرها على الرجاء، وأن كونها محقّقة الإجابة لا يمنع من قبول غيرها، ومن قبول غيرها هذا الحديثُ؛ لأنه لو لم تكن الأولى والثانية هنا مقبولتين لم يكن لقوله:"فلك بكلّ ردّة مسألة" فائدةٌ، ولأن الدعوات ثلاث، فيتعيّن أن متعلّق الثانية غير متعلّق الأولى؛ لأنه لو اتّحد متعلّقهما كانتا دعوةً واحدة، فلم تكن الدعوات ثلاثًا، فمتعلّق الأولى الدعاء لمن وُجد من الأمة، ومتعلّق الثانية من سيوجد، وقيل: الأولى للمفرّطين في الطاعة، والثانية للمفرّطين في المعصية، والثالثة للجميع. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تسألنيها" صفة مؤكّدة لـ "مسألةٌ"، كقوله تعالى:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، أي مسألةٌ ينبغي لك أن تسألها، وأنك لا تَخِيب فيها. انتهى

(3)

.

قال صلى الله عليه وسلم: (فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي) قالها مرّتين، قيل: الأولى لأهل الكبائر، والأخرى لأهل الصغائر، وقيل: بالعكس، وقيل: لَمّا انقسم المحتاج إلى المغفرة من أمته إلى مُفَرِّطٍ، ومُفْرِّطٍ استغفر صلى الله عليه وسلم للمقتصد الْمُفَرِّطِ في الطاعة، وأخرى للظالم المفْرِطِ في المعصية، أو الأولى للخواصّ؛ لأن كلّ أحد لا يخلو عن تقصيبر مّا في حقّ اللَّه تعالى، كما قال

(1)

"شرح مسلم" 6/ 103.

(2)

"شرح الأبيّ" 2/ 432.

(3)

"الكاشف" 5/ 1696.

ص: 518

تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)} [عبس: 23]، والثانية للعوامّ، أو الأولى في الدنيا، والأخرى في الأخرى

(1)

.

(وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ) أي المسألة الثالثة، وهي الشفاعة الكبرى (لِيَوْمٍ) أي لأجل يوم، أو إلى يوم (يَرْغَبُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَغِبْتُ في الشيء، ورَغِبْته يتعدّى بنفسه أيضًا: إذا أردته، رَغْبًا، بفتح الغين، وسكونها، ورُغْبَى، بفتح الراء وضمّها، ورَغْبَاءً بالفتح والمدّ، ورَغِبْتُ عنه: إذا لم تُرده. انتهى

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: رَغِبَ، كسَمِعَ رَغْبًا، ويُضمّ، ورَغْبَةً: أراده، كارتغب، وعنه: لم يُرِده، وإليه رَغَبًا مُحَرَّكةً، ورَغْبَى -بالفتح- ويُضمّ، ورَغْبَاءَ، كصحرءَ، ورَغَبُوتًا، ورَغَبُوتَى، ورَغَبَانًا، محرّكات، ورُغْبةً بالضمّ، ويُحرّك: ابْتَهَلَ، وهو الضَّرَاعةُ، والمسألة. انتهى

(3)

.

فمعنى قوله: (يَرْغَبُ إلَيَّ) بتشديد الياء (الْخَلْقُ كُلُّهُمْ) أي يحتاجون إلى شفاعتي (حَتَّى إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم") بالرفع عطفًا على "الخلق"، وهو غاية للعموم المستفاد من"كلّهم"، وفيه دليلٌ على رفعة إبراهيم عليه السلام على سائر الأنبياء عليهم السلام وتفضيل نبيّنا صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين.

وقال الطيبيّ رحمه الله: جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسائل الثلاث مقصورة على واحدة، لكن جعل تعدادها بحسب الزمان، مرّتين في الدنيا، ومرّة في الآخرة، يوم يقول الأنبياء كلّهم:"نفسي نفسي"، وهو يقول:"أمتي أمتي".

فقوله: "يرغب إليّ الخلق" صفة لـ "يوم"، أي أخرّت قولي:"اللهم اغفر لأمتي"؛ لأجل يومٍ هذا صفته، وينصر هذا التأويل ما رواه أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لكلّ نبيّ دَعْوةٌ مستجابةٌ، فتعجّل كلُّ نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة -إن شاء اللَّه- من مات من أمتي لا يشرك باللَّه شيئًا"، متّفقٌ عليه، واللفظ لمسلم.

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 310 - 311.

(2)

"المصباح" 1/ 231.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 74.

ص: 519

انظر إلى هذه الرأفة والمرحمة والْحَدَبَ

(1)

لأمته صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1904 و 1905](820)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 127)، و (عبد اللَّه بن أحمد) في "زوائده"(5/ 128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3844)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1855)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3800)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف.

2 -

(ومنها): بيان رأفة اللَّه عز وجل بهذه الأمة بسبب نبيّها صلى الله عليه وسلم حيث وسّع عليها أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف.

3 -

(ومنها): شدّة عناية اللَّه عز وجل بحبيبه صلى الله عليه وسلم حيث أعطاه بكلّ ردّ دعوةً مستجابةً.

4 -

(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم طلب من اللَّه تعالى لأمته السهولة والتيسير في القراءات ثلاث مرّات، فأسعفه اللَّه تعالى، وأنجح مطلوبه، ولم يكتف بذلك، بل أمره بأن يزيد على المسألة بما يسهّل عليهم في الآخرة؛ ليجمع لهم التيسير والتسهيل في الدارين، فاللَّه تعالى أرأف، وأرحم بهم.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة رأفته بأمته، حيث يدّخر لهم دعواته التي وعده اللَّه بإجابتها إلى يوم شديد الهول، فما أشدّ رأفته،

(1)

مصدر حَدِبَ، من باب تعب: إذا عطف عليه.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1696.

ص: 520

ورحمته، فهو صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- كما نعته اللَّه عز وجل بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

6 -

(ومنها): أن فيه بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخرج الشيطان عن قلب أبيّ رضي الله عنه بضرب صدره.

7 -

(ومنها): بيان كرامة أُبيّ رضي الله عنه حيث لم يتسلّط عليه الشيطان، فيغويه كما أغوى كثيرًا ممن كتب اللَّه عليهم الشَّقَاء بالتمادي على التكذيب، بل ألهمه اللَّه تعالى التوبة بضربه صلى الله عليه وسلم في صدره، ودعوته له.

8 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الذي وقع لأُبيّ رضي الله عنه نَزْغة من الشيطان؛ ليشوّش عليه حاله، ويُكدّر عليه وقته، فإنه عظُمَ عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيمًا في نفسه، وإلا فأَيُّ شيء يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات، لكن لما تولَّى اللَّه تعالى بكفايتهم أمرَ الشيطان لم يؤثّر تزيينه وتسويله أثرًا يَركَنُون إليه، ولا يدومون عليه، وإنما كان ذلك امتحانًا لسرائرهم؛ ليُبرز للوجود ما عَلِمَه اللَّه تعالى من ضمائرهم، ولـ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وإلا فانظر مآل هذا الواقع ماذا كان؟، فإنه لَمّا رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أصابه من ذلك الخاطر نبّهه بأن ضرب في صدره، فأعقب ذلك بأن شرَحَ اللَّهُ صدره، وتنوّر باطنه، حتى آل له الكشف والشرح إلى حالة المعاينة، فلما ظهر له قُبْح ذلك الخاطر خاف من اللَّه تعالى، وسببه أنه قد حصَلَ منه التفات إلى ذلك الخاطر، وفَيْضُهُ بالْعَرَق إنما كان استحياءً من اللَّه تعالى، قال: وهذا الخاطر الذي خطر لأُبيّ رضي الله عنه هو من قبيل ما قد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤاخذ به، بل هو من قبيل ما قال فيه:"ذلك محض الإيمان"

(1)

. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

رواه مسلم برقم (133).

(2)

"المفهم" 2/ 451 - 452.

ص: 521

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1905]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَقَرَأَ قِرَاءَةً، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ) فاعل "اقتَصّ" ضمير محمد بن بشر، يعني أن محمد بن بشر ساق الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد بمثل ما ساقه عبد اللَّه بن نمير عنه.

[تنبيه]: رواية محمد بن بشر، عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (6/ 319) فقال:

(31743)

حدّثنا محمد بن بِشْر، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: ثنا عبد اللَّه بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أخبرني أُبيّ بن كعب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"يا أُبَيّ إن ربي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أَنْ هَوِّن على أمتي، فردّ إلي أن اقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل رَدَّة رددتكها مسألةٌ تسألنيها، قال: قلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة إلى يوم يرغب إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1906]

(821) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَاه ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ

ص: 522

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ"، فَقَالَ:"أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ"، فَقَالَ: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ

(1)

أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ"، فَقَالَ: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل بابين.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدّم قبل بابين.

5 -

(الْحَكَمُ) بن عُتَيبة، أبو محمد الكنديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، إلا أنه ربما دَلَّس [5](ت 113) أو بعدها، وله نَيِّفٌ وستون (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

6 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر، أبو الحجاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ إمامٌ في التفسير، وغيره [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104) وله ثلاث وثمانون (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

والباقون ذُكروا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وأن له فيه سندان فرّق بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

(1)

وفي نسخة: "فإن أمتي" في الموضعين.

ص: 523

3 -

(ومنها): أن شيخيه ابن المثنّى، وابن بشّار من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنهم ما بين بصريين، وهم من قبل الحكم، غير أبي بكر، فكوفيّ كالحكم، وابن أبي ليلى، ومكيّ، وهو مجاهد، ومدني، وهو أبَيٌّ رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَار) بفتح الهمزة، وبضاد معجمةَ مقصورة: أي عند مُستَنقِع مائهم، قال ابن سِيدَهْ: الأضَاة: الماء المُستَنقِعُ من سَيْلٍ، أو غيره، والجمعِ أضَوَاتٌ، وأضًا، مقصورٌ، مثل قَنَاةٍ وقَنًا، وإضَاءٌ بالكسر والمدّ، وإضُون، كما يقال: سَنَة وسِنُون، فأضَاةٌ، وأضًا، كحَصَاة وحصًى، وَأضَاةٌ وإضَاءٌ، كرَحَبَةٍ وَرِحَابٍ، ورَقَبَةٍ ورِقَابٍ، وأنشد ابن بَرِّيٍّ في جمعه على إضِينَ للطِّرِمَّاحِ:

مَحَافِرُهَا كأسْرِيَةِ الإضِينَا

(1)

وضبطه ياقوت في "معجمه" بهمزة بعد الألف، فقال: أضَاءَة بني غِفَار بعد الألف همزة مفتوحة، والأضَاءة: الماء المستنقع من سيل أو غيره، ويقال: هو غَدِيرٌ صغير، ويقال: هو مسيل الماء إلى الغدير.

و"غِفَار" قبيلة من كنانة، موضع قريب

(2)

من مكة فوق سَرِفَ قرب التَّنَاضِب، له ذكر في حديث المغازي. انتهى

(3)

.

(قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ) بفتح أول "تقرأ"، من القراءة ثلاثيًّا، فقوله:"أُمّتك" مرفوع على الفاعليّة، و"القرآن" منصوب على المفعوليّة، ووقع في رواية النسائيّ:"أن تُقرئ أمتك القرآن" بضمّ

(1)

"لسان العرب" 14/ 38.

(2)

هكذا نسخة "المعجم"، وفيها ركاكة، ولعل الصواب: موضعهم قريبٌ. . . إلخ.

(3)

"معجم البلدان" 1/ 214.

ص: 524

أوله، من الإقراء رباعيًّا، وعليه فـ "أمتَكَ" مفعول أول، و"القرآن" مفعول ثان، واللَّه تعالى أعلم.

(عَلَى حَرْفٍ") تقدّم البحث في معنى الحرف، وفي المراد به هنا في شرح حديث عمر رضي الله عنه أول الباب.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَسْأَلُ) بصيغة المضارع المسند إلى ضمير المتكلّم، فقوله:(اللَّهَ) منصوب على أنه المفعول الأول، وقوله:(مُعَافَاتَهُ) منصوب على أنه مفعول ثانٍ؛ لأن "سأل" يتعدّى إلى مفعولين، وهو مفرد منصوب بالفتحة، وليس جمع مؤنّث سالم ينصب بالكسر، فتنبّه،

وقوله: (وَمَغْفِرَتَهُ) عطف على "معافاته".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أسأل اللَّه معافاتَه" أي تسهيله وتيسيره، من عَفَا الأثرُ: أي سَهُل وتَغَيَّر، وسؤاله المغفرة؛ مخافة وقوع التقصير فيما يلزم من ذلك، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(وِإنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ") هكذا بالواو، وفي بعض النسخ:"فإن أمتي. . . إلخ" بالفاء، فالجملة تعليل لسؤاله المعافاة والمغفرة.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم سأل اللَّه عز وجل أن يتجاوز عن أمته عن القراءة على حرف واحد، ويُوَسِّع لها، ويغفر لها ذنوبها، فإنها لا تطيق ذلك، لعدم وحدة لغتهم، فلو كُلِّفوا أن يقرؤوا بلغة قريش التي هي لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم مثلًا لشقّ عليهم ذلك؛ لعدم ممارستهم لها.

وقد أخرج الترمذيُّ عن زِرّ بن حُبَيش، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: لَقِي رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريلَ، فقال:"يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قطّ، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف"، قال الترمذي: حسن صحيح.

وأخرج النسائيّ بإسناد صحيح، عن أنس، عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنهما قال: ما حاك في صدري منذ أسلمت إلا أني قرأت آيةً، وقرأها آخر غير قراءتي،

(1)

"المفهم" 2/ 452 - 453.

ص: 525

فقلت: أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي اللَّه أقرأتني آية كذا وكذا؟ قال: "نعم"، وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: "نعم، إن جبريل وميكائيل عليهم السلام أتياني، فقعد جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل عليه السلام: اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده، استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فكلُّ حرف شافٍ كافٍ". انتهى.

(ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ) أي أتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم المرة الثانية، أو الإتيانة الثانية، فالثانية منصوب على الظرفية، أو على المفعولية المطلقة (فَقَالَ) جبريل ("إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ"، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ) وفي بعض النسخ: "فإن"(أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ"، فَقَالَ: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ"، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا") أي فَأيُّ حرف من الحروف السبعة قرؤوا عليه فقد وافقوا الصواب.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: لا تَتَجَاوز أمتك سبعة أحرف، ولهم الخيار في السبعة، ويجب عليهم نقل السبعة إلى من بعدهم بالتخيير فيها، وأنها لا تُتَجَاوَز، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: تكلّم النسائي في حديث أبي رضي الله عنه هذا، فقال في "سننه" بعد أن أخرجه بسند المصنّف ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: هذا الحديث خُولف فيه الْحَكَمُ، خالفه منصور بن المعتمر، رواه عن مجاهد، عن عُبيد بن عُمير، مرسلًا. انتهى.

(1)

"شرح مسلم" 6/ 104.

ص: 526

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أن النسائيَّ أراد تضعيف رواية الحكم موصولًا؛ لمخالفة منصور له، لكن مثل هذه المخالفة لا تضرّ؛ لأن الحكم ثقةٌ حافظ، فتكون زيادته مقبولةً، ولذا أخرجه مسلم هنا، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 1906 و 1907](821)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1478)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(939) و"الكبرى"(1011)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(558)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 127 و 128)، و (عبد اللَّه بن أحمد) في "زوائد المسند"(128)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3840 و 3841 و 3842 و 3843)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1856). وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1907]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، رَجَّح ابن معين أخاه المثنى عليه [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

و"شعبة" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي بإسناد شعبة الماضي، وهو: عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 527

(50) - (بَابُ تَرْتِيلِ الْقِرَاءَةِ، وَاجْتِنَابِ الْهَذِّ، وَهُوَ الإِفْرَاطُ فِي السُّرْعَةِ، وَإِبَاحَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، فَأَكْثَرَ فِي رَكْعَةٍ)

[1908]

(822) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ، أَلِفًا تَجِدُهُ أَمْ يَاءً {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} ، أَوْ {من ماء غير ياسن}؟ قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكُلَّ الْقُرْآنِ قَدْ أَحْصَيْتَ غَيْرَ هَذَا؟

(1)

قَالَ: إِنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ، إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، إِنِّي لَأَعْلَمُ

(2)

النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ، فَدَخَلَ عَلْقَمَةُ فِي إِثْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَنِي بِهَا. قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: نَهِيكُ ابْنُ سِنَانٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ الأصلِ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمَير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أبو عبد الرحمن، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 2.

3 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 197) وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد

(1)

وفي نسخة: "غير هذا الحرف".

(2)

وفي نسخة: "لأعرف".

ص: 528

الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءات، وَرِعٌ، لكنه يدلِّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

5 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سَلَمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود بن غافل بن حَبِيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، مناقبه جمة، وأَمّره عُمر رضي الله عنه على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي وائل، وتقدّم الكلام على الصحابيّ قريبًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ) بفتح النون، وكسر الهاء (ابْنُ سِنَانٍ) بكسر السين المهملة، وتخفيف النون، قال ابن حبّان في "الثقات": نَهِيك بن سِنَان البجليّ، كوفيّ يروي عن ابن مسعود، رَوَى عنه أبو وائل. انتهى

(1)

.

وفي "تعجيل المنفعة" قال: نَهِيك بن سنان البجليّ كوفيّ، عن ابن مسعود، وعنه أبو وائل، وإبراهيم التيميّ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، ووقع في "المسند" عن إبراهيم التيميّ، عن نَهِيك بن سنان أنه أتى ابن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هَذًّا كهَذِّ الشعر. . . الحديث. انتهى

(2)

.

(1)

"الثقات" لابن حبّان 5/ 480.

(2)

"تعجيل المنفعة" 1/ 425.

ص: 529

(إِلَى عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية ابن مسعود رضي الله عنه (كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ، أَلِفًا تَجِدُهُ أَمْ يَاءً {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ})[محمد: 15] أي: غير متغير الرائحة، يقال: أَسَنَ الماءُ أُسُونًا، من باب قَعَدَ، ويَأْسِنُ بالكسر أيضًا: تغيّر، فلم يُشرَب، فهو آسنٌ، على فاعلٍ، وأَسِنَ أَسَنًا، فهو أَسِنٌ، مثلُ تَعِبَ تَعَبًا، فهو تَعِبٌ لغةٌ، قاله الفيّوميُّ رحمه الله

(1)

.

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ في "تفسيره": و"الآسِنُ" من الماء مثل الآجِنِ، وقد أَسَنَ الماءُ يَأْسُنُ ويَأْسِنُ أَسْنًا، وأُسُونًا: إذا تغيرت رائحته، وكذلك أَجَنَ الماءُ يَأْجُنُ ويَأْجِنُ أَجْنًا، وأُجُونًا، ويقال بالكسر فيهما: أَجِنَ، وأَسِنَ يَأْسَنُ، وَيأْجَنُ أَسَنًا وأَجَنًا، قاله اليزيديّ، وأَسِنَ الرجلُ أيضًا يَأْسَنُ بالكسر لا غير: إذا دخل البئرَ، فأصابته ريح مُنتنة من ريح البئر، أو غير ذلك، فغُشِي عليه، أو دار رأسه، قال زهير [من البسيط]:

قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّ أَنَامِلُهُ

يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ الْمَائِح الْأَسِنِ

ويُرْوَى الْوَسِنِ، وتَأَسَّنَ الماءُ: تغير.

وقراءة العامة "آسِنٍ" بالمد، وقرأ ابن كثير وحميد "أَسِنٍ" بالقصر، وهما لغتان، مثل حاذر، وحَذِرٍ، وقال الأخفش: أَسِنٌ للحال، وآسِنٌ مثلُ فاعل يراد به الاستقبال. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

وقال السمين الحلبيّ رحمه الله: قوله: "آسن" قرأ ابن كثير "أَسِنِ" بزنة حَذِرٍ، وهو اسم فاعل، من أَسِنَ بالكسر يَأْسَنُ، فهو أَسِنٌ، كحَذِرَ يَحْذرُ فهو حَذِرٌ، والباقون "آسن" بزنة ضارب، من أَسَنَ بالفتح يَأْسِنُ، يقال: أَسَنَ الماءُ بالفتح يَأْسُنُ، ويَأْسِنُ بالكسر والضمّ أُسُونًا، كذا ذكره ثعلبٌ في "فصيحه"، وقال اليزيديّ: يقال: أَسِنَ بالكسر يَأْسَنُ بالفتح أَسَنًا: أي: تغيّر طعمه، وأما أَسِنَ الرجلُ: إذا دخل بئرًا، فأصابه من ريحها ما جعل في رأسه دُوَارًا، فَأَسِنَ بالكسر فقط، قال الشاعر:

قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ. . . . . . . . .

البيت الماضي

وقُرئَ "يَسِن" بالياء بدل الهمزة، قال أبو عليّ: هو تخفيفُ أَسِنٍ، وهو

(1)

"المصباح المنير" 1/ 15.

(2)

راجع: "تفسير القرطبي" 16/ 236.

ص: 530

تخفيفٌ غريبٌ. انتهى كلام السمين رحمه الله

(1)

.

(أَوْ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ يَاسِنٍ؟) قال في "شرح القاموس": ماءٌ ياسنٌ متغيِّرٌ، لغةٌ في آسن، لبعض العرب. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: لم أجد من ذكر من القرّاء من قرأ بـ "ياسن" بوزن فاعل، كما في هذا الحديث، إلا ما تقدّم من حكاية السمين أنه قرئ بـ "يَسِنٍ" بوزن فَعِل، كفَرِحٍ، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو وائل (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (وَكُلَّ الْقُرْآنِ) بنصب "كلَّ" مفعولًا مقدّمًا لـ (قَدْ أَحْصَيْتَ) أي: استوعبت حفظه (غَيْرَ هَذَا؟) وفي نسخة: "غير هذا الحرف"، وهذا ليس بجواب، وإنما لم يُجبه لأنه فَهِمَ منه أنه غير مسترشد في سؤاله؛ إذ لو كان مسترشِدًا لوجب جوابه، أفاده النوويُّ رحمه الله

(3)

.

(قَالَ) الرجل (إِنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ)"الْمُفَصَّل" بصيغة اسم المفعول المضعّف اختُلف في أوله، والصحيح أنه من {ق} إلى آخر القرآن، وسُمّي مفصّلًا؛ لكثرة الفصل بين سُوره بالبسملة على الصحيح، قاله في "الفتح"

(4)

.

(فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ) بفتح الهاء، وتشديد الذال العجمة: أي سَرْدًا وإفراطًا في السرعة، وهو منصوب على المصدر، وهو استفهام إنكار بحذف أداة الاستفهام، وذكر في "الفتح"

(5)

أنها ثابتة في رواية منصور عند مسلم، ولم أر ذلك في النسخ التي عندي، ولعله وجد نسخة أثبتت ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

وإنما قال له ذلك؛ لأن تلك الصفة كانت عادتهم في إنشاد الشعر. انتهى.

(1)

"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 9/ 692.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 9/ 370.

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 104.

(4)

"الفتح" 2/ 302 "كتاب الأذان" رقم (775).

(5)

راجع: "الفتح" 2/ 302 - 303.

ص: 531

وقال النوويُّ رحمه الله: معناه إن الرجل أخبر بكثرة حفظه وإتقانه، فقال ابن مسعود: تَهُذُّه هَذًّا، وهو بتشديد الذال، وهو شِدّة الإسراع والإفراط في العَجَلَة، ففيه النهي عن الْهَذّ، والحثُّ على الترتيل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء، قال القاضي: وأباحت طائفةٌ قليلةٌ الْهَذَّ. انتهى.

وقوله: (كَهَذِّ الشِّعْرِ) معناه: في تحفّظه وروايته، لا في إسناده وترنّمه؛ لأنه يرتّل في الإنشاد والترنّم في العادة، قاله النوويُّ رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا إنكار منه على من يُسرع في قراءته، ولا يُرتّل، ولا يتدبّر، ونصب "هَذًّا" على المصدر، كأنه قال: أتَهُذُّ هَذًّا، وهَذُّ الشِّعر: الاسترسال في إنشاده من غير تدبّر في معانيه، ومعنى هذا أن الشعر هو الذي إن فَعَل الإنسان فيه ذلك سُوِّغ له، وأما في القرآن فلا ينبغي مثل ذلك فيه، بل يقرأ بترتيل وتدبّر، ولذلك قال:(إِنَّ أقوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) هذا اقتباس من حديث الخوارج حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا يجاوز حناجرهم"، متّفقٌ عليه، وهو كناية عن عدم الفهم؛ أي: لا يجاوز القرآن تراقيهم؛ لِيَصِلَ إلى قلوبهم، فليس حظّهم منه إلا مروره على ألسنتهم.

و"التراقي": جمع تَرْقُوَة، وهي عظام أعالي الصدر

(1)

، وقال في "المصباح": التَّرْقُوة وزنها فَعْلُوَةٌ بفتح الفاء، وضمّ اللام، وهي العظم الذي بين ثُغْرَة النَّحْر والعاتق من الجانبين، قال بعضهم: ولا تكون التَّرْقُوة لشيء من الحيوانات إلا للإنسان خاصّةً. انتهى

(2)

.

(وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ) قال النوويّ رحمه الله: معناه أن قومًا ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم؛ ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعقُّله وتدبره بوقوعه في القلب. انتهى.

(إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ) هذا مذهب ابن مسعود رضي الله عنه، وقد سبق في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة طول القنوت"، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، بيان مذاهب العلماء في هذه المسألة، وأن

(1)

"المفهم" 2/ 454.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 74.

ص: 532

الأرجح هو القول بأفضليّة طول القيام على كثرة الركوع والسجود، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(إِنِّي لَأَعْلَمُ

(1)

النَّظَائِرَ) أي: السور المتماثلة في المعاني، كالموعظة، أو الْحِكَم، أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي؛ لما سيظهر عند تعيينها، قال المحبّ الطبريّ رحمه الله: كنت أظنّ أن المراد أنها متساوية في العد، حتى اعتبرتها، فلم أجد فيها شيئًا متساويًا. انتهى

(2)

.

(الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ) بضمّ الراء وكسرها، من بابي نصر، وضرب: أي: يجمع بين السور.

وقوله: (سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مفعول لفعل مقدّر يدلّ عليه ما قبله؛ أي: يَقْرِن سورتين في كل ركعة، والمراد أنه يقرن بينهما بعد قراءة الفاتحة، وإنما سكت عنها، لظهور أمرها، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه من مجلسه ذلك، فدخل بيته (فَدَخَلَ عَلْقَمَةُ فِي إِثْرِهِ) بكسر، فسكون، أو بفتحتين: أي: بعده، يعني: أن علقمة تبع عبد اللَّه إلى بيته، فدخل عليه، ليسأله عن تلك النظائر، فسأله عنها (ثُمَّ خَرَجَ) إلى القوم (فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَنِي بِهَا) وفي رواية أبي معاوية، عن الأعمش التالية: فجاء علقمة؛ ليدخل عليه، فقلنا له: سله عن النظائر التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في ركعة، فدخل عليه، فسأله، ثم خرج علينا، فقال:"عشرون سورة من المفصّل في تأليف عبد اللَّه"، وفي رواية واصل الأحدب، عن أبي وائل الآتية:"ثمانية عشر من المفصّل، وسورتين من آل حم".

[تنبيه]: لم يقع عند الشيخين تفسير تلك النظائر العشرين، وقد وقع في رواية أبي داود من طريق أبي إسحاق، عن علقمة والأسود، قالا: أتى ابنَ مسعود رجلٌ، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أَهَذًّا كهذّ الشِّعْر، وَنثْرًا كَنثْرِ الدَّقَل؟ لكن النبيّ كان يقرن بين النظائر، السورتين في ركعة:"الرحمن"، و"النجم" في ركعة، و"اقتربت"، و"الحاقة" في ركعة، و"الطور"، و"الذاريات" في ركعة، و"إذا وقعت"، و"نون" في ركعة، و"سأل سائل"،

(1)

وفي نسخة: "لأعرف".

(2)

"الفتح" 2/ 303.

ص: 533

و"النازعات" في ركعة، و"ويل للمطففين"، و"عبس" في ركعة، و"المدثر"، و"المزمل" في ركعة، و"هل أتى"، و"لا أقسم بيوم القيامة" في ركعة، و"عم يتساءلون"، و"المرسلات" في ركعة، و"الدخان"، و"إذا الشمس كورت" في ركعة

(1)

.

قال أبو داود رحمه الله: هذا تأليف ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

وعند ابن خزيمة في "صحيحه": قال الأعمش: وهي عشرون سورة على تأليف عبد اللَّه، أولهنّ "الرحمن"، وآخرهن "الدخان":"الرحمن" و"النجم"، و"الذاريات" و"الطور"، هذه النظائر، و"اقتربت" و"الحاقة"، و"الواقعة" و"ن"، و"النازعات" و"سأل سائل"، و"المدثر" و"المزمل"، و"ويل للمطففين" و"عبس"، و"لا أقسم" و"هل أتى"، و"المرسلات" و"عم يتساءلون"، و"إذا الشمس كورت" و"الدخان". انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": وقع في "فضائل القرآن" من رواية واصل، عن أبي وائل:"ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم"، وَبَيَّنَ في رواية أبي حمزة عن الأعمش أن قوله:"عشرين سورة" إنما سمعه أبو وائل من علقمة، عن عبد اللَّه، ولفظه: فقام عبد اللَّه، ودخل علقمة معه، ثم خرج علقمة، فسألناه؟ فقال: عشرون سورة من المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن "حم الدخان" و"عم يتساءلون". ولابن خزيمة من طريق أبي خالد الأحمر، عن الأعمش، مثله، وزاد فيه: فقال الأعمش: أولهن "الرحمن"، وآخرهنّ "الدخان"، ثم سردها، وكذلك سردها أبو إسحاق، عن علقمة والأسود، عن عبد اللَّه فيما أخرجه أبو داود متصلًا بالحديث بعد قوله: كان يقرأ النظائر، السورتين في ركعة:"الرحمن" و"النجم" في ركعة. . . إلى آخر ما

(1)

هكذا نسخة "سنن أبي داود" التي بين يديّ، والذي في "الفتح" و"عمدة القاري" نقلًا عن "سنن أبي داود":"وإذا الشمس كوّرت" و"الدخان" بتأخير "الدخان"، وهو الموافق لما في "صحيح ابن خزيمة"، فليُحرّر، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

راجع: "سنن أبي داود" 2/ 560 رقم (1396).

(3)

"صحيح ابن خزيمة" 1/ 269 - 270.

ص: 534

تقدم، ثم قال: هذا لفظ أبي داود، والآخر مثله، إلا أنه لم يقل:"في ركعة" في شيء منها، وذكر السورة الرابعة قبل الثالثة، والعاشرة قبل التاسعة، ولم يخالفه في الاقتران، وقد سردها أيضًا محمد بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي وائل، أخرجه الطبراني، لكن قدّم وأخّر في بعض، وحذف بعضها، ومحمد ضعيف.

وعُرِفَ بهذا أن قوله في رواية واصل: "وسورتين من آل حم" مشكلٌ؛ لأن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من "الحواميم" غير "الدخان"، فيُحْمَل على التغليب، أو فيه حذف، كأنه قال: وسورتين إحداهما من "آل حم"، وكذا قوله في رواية حمزة:"آخرهن حم "الدخان"، و"عم يتساءلون"" مشكل؛ لأن "حم الدخان" آخرهن في جميع الروايات، وأما "عم" فهي في رواية أبي خالد السابعة عشرة، وفي رواية أبي إسحاق الثامنة عشرة، فكأن فيه تجوّزًا؛ لأن "عم" وقعت في الركعتين الأخيرتين في الجملة.

ويتبين بهذا أن في قوله في حديث الباب: "عشرون سورة من المفصل" تجوزًا؛ لأن "الدخان" ليست منه، ولذلك فصلها من المفصل في رواية واصل، نعم يصح ذلك على أحد الآراء في حد "المفصل"، كما تقدم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وقال في موضع آخر: والجمع بينهما

(2)

أن الثماني عشرة غير سورة "الدخان" والتي معها، وإطلاق "المفصل" على الجميع تغليب، وإلا فـ "الدخان" ليست من المفصَّل على المرجَّح، لكن يَحْتَمِل أن يكون تأليف ابن مسعود على خلاف تأليف غيره، فإن في آخر رواية الأعمش على تأليف ابن مسعود آخرهن "حم الدخان"، و"عم"، فعلى هذا لا تغليب. انتهى

(3)

.

(قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد اللَّه بن نمير شيخه الثاني في هذا الإسناد (فِي رِوَايَتِهِ) عن وكيع (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ) بفتح الموحّدة، وكسر

(1)

"الفتح" 2/ 303 - 304 "كتاب الأذان" رقم (775).

(2)

أي بين رواية "ثماني عشرة"، ورواية "عشرين سورة".

(3)

"الفتح" 8/ 707 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5043).

ص: 535

الجيم: اسم قبيلة، وهو: بَجِيلة بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث أخي الأزد بن الغوث، وقيل: إن بَجِيلة اسم أمهم، وهي من سعد العشيرة، وأختها باهلة، وَلَدتا قبيلتين عظيمتين، نزلت الكوفة، قاله في "اللباب"

(1)

.

(إِلَى عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (وَلَمْ يَقُلْ: نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ) أي: لم يذكره باسمه، وإنما ذكره بنسبه، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 1908 و 1909 و 1910 و 1911 و 1912 و 1913](822)، و (البخاريّ) في "الأذان"(775) و"فضائل القرآن"(4996 و 5043)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(602)، و (النسائيّ) في "الافتتاح"(1004 و 1005 و 1006) و"الكبرى"(1076 و 1077 و 1078)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 380 و 412 و 417 و 418 و 421 و 427 و 436)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(538)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1795 و 1796)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1857 و 1858 و 1859 و 1860 و 1861)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز قراءة سورتين غير الفاتحة في ركعة، وقد روى أبو داود، وصححه ابن خزيمة من طريق عبد اللَّه بن شقيق، قال:"سألت عائشة، أكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل".

ولا يخالف هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين "البقرة" وغيرها من الطوال؛ لأنه يُحْمَل على النادر. وقال القاضي عياض رحمه الله: في حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا ما يدلّ على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبًا، وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد من قراءة البقرة وغيرها في ركعة، فكان

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 85.

ص: 536

نادرًا. قال الحافظ رحمه الله: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدلّ على المواظبة، بل فيه أنه كان يَقْرِن بين هذه السور المعيّنات إذا قرأ من المفصل.

2 -

(ومنها): أن فيه موافقة لقول عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما أن صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر.

3 -

(ومنها): كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، والإنكار على من يَهُذُّ القرآن هَذًّا؛ لأن ذلك ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني القرآن.

قال في "الفتح": ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر، لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرًا. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: وفيه النهي عن الهَذّ، والحثُّ على الترتيل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء، قال القاضي: وأباحت طائفةٌ قليلةٌ الهَذَّ. انتهى.

4 -

(ومنها): جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها؛ لأن بعض هذه السور أطول من التي قبلها.

5 -

(ومنها): أن فيه ما يُقَوِّي قول من قال: إن تأليف السور كان عن اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن تأليف عبد اللَّه المذكور مغاير لتأليف مصحف عثمان رضي الله عنهما.

قال في "الفتح": قال ابن بطال: لا نعلم أحدًا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة، لا داخل الصلاة، ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ "الكهف" قبل "البقرة"، و"الحج" قبل "الكهف" مثلًا، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسًا، فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر، مبالغة في حفظها، وتذليلًا للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن، فهو حرام فيه.

وقال القاضي عياض في شرح حديث حذيفة رضي الله عنه: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة "النساء" قبل "آل عمران": هو كذلك في مصحف أُبَيّ بن كعب، وفيه حجة لمن يقول: إن ترتيب السور اجتهاد، وليس بتوقيف من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور العلماء، واختاره القاضي الباقلانيّ، قال: وترتيب السور ليس بواجب في التلاوة، ولا في الصلاة، ولا في الدرس، ولا في التعليم، فلذلك اختَلَفت المصاحف، فلما كُتِبَ مصحف عثمان رتبوه على ما

ص: 537

هو عليه الآن، فلذلك اختلف ترتيب مصاحف الصحابة، ثم ذكر نحو كلام ابن بطال، ثم قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من اللَّه تعالى، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

وقال "كتاب فضائل القرآن" في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا: وأن فيه دلالة على أن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثمانيّ، وكان أوله "الفاتحة"، ثم "البقرة"، ثم "النساء"، ثم "آل عمران"، ولم يكن على ترتيب النزول، ويقال: إن مصحف عليّ رضي الله عنه كان على ترتيب النزول، أوله "اقرأ" ثم "المدثر"، ثم "ن والقلم"، ثم "المزمل"، ثم "تبت"، ثم "التكوير"، ثم "سبح"، وهكذا إلى آخر المكيّ، ثم المدنيّ، واللَّه أعلم.

وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن، فقال القاضي أبو بكر الباقلانيّ: يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويَحْتَمِل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعارض به جبريل عليه السلام في كل سنة، فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري.

قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر بل الذي يظهر أنه كان يعارض به على ترتيب النزول.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "يعارض به على ترتيب النزول" يحتاج إلى دليل، فالأظهر ما قاله القاضي، وجزم به ابن الأنباريّ، فتأمل.

قال: نعم ترتيب بعض السور على بعض أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفًا، وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة رضي الله عنهم.

وقد أخرج أحمد، وأصحاب "السنن"، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عَمَدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر "بسم اللَّه الرحمن الرحيم"، ووضعتموهما في السبع الطوال؟

(1)

"الفتح" 2/ 304.

ص: 538

فقال عثمان: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما ينزل عليه السورة ذات العدد، فإذا نزل عليه الشيء -يعني: منها- دعا بعض من كان يكتب، فيقول:"ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا"، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بها، فظننت أنها منها، فقُبِض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يُبَيِّن لنا أنها منها. انتهى.

فهذا يدلّ على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفًا، ولمّا لم يُفْصِح النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمر "براءة" أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادًا منه رضي الله عنه.

ونَقَلَ صاحب "الإقناع" أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ولا يؤخذ بهذا، وكان من علامة ابتداء السورة نزول "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" أول ما ينزل شيء منها، كما أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان، والحاكم، من طريق عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينزل بسم اللَّه الرحمن الرحيم"، وفي رواية:"فإذا نزلت بسم اللَّه الرحمن الرحيم، علموا أن السورة قد انقضت".

ومما يدلّ على أن ترتيب المصحف كان توقيفًا ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وغيرهما عن أوس بن أبي أوس حذيفة المقفيّ رضي الله عنه قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، فذكر الحديث، وفيه:"فقال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: طرأ عليَّ حِزْبِي من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه"، قال: فسألنا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تُحَزّبون القرآن؟ قالوا: نُحَزِّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل، من {ق} حتى تختم.

قال: فهذا يدلّ على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ويَحْتَمِل أن الذي كان مُرَتَّبًا حينئذ حزب المفصَّل خاصةً، بخلاف ما عداه، فيَحْتَمِل أن يكون كان فيه تقديم وتأخير، كما ثبت من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ "النساء" بعد "البقرة" قبل "آل عمران".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن الأرجح أن ترتيب السور على ما هو

ص: 539

عليه الآن بالتوقيف من النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما هو العرضة الأخيرة له صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام، كما أن ترتيب الآيات توقيفي بلا خلاف، ودليل ذلك ما تقدّم من قصّة عثمان رضي الله عنه في آية الأنفال والتوبة، وحديثه صحيح، وكذلك حديث أوس المذكور، وهو وإن كان في سنده عثمان بن عبد اللَّه بن أوس، ولم يوثّقه غير ابن حبّان، فقد رَوَى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ومثل هذا في التابعين يكون حديثه حسنًا على أقل تقدير.

والحاصل أن ترتيب الآيات والسور توقيفيّ، وأما ما سبق من حديث حُذيفة رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم قرأ النساء قبل آل عمران ونحو ذلك فيُحمل على أن ذلك قبل الترتيب، أو أن ذلك لبيان الجواز، فيجوز أن يقرأ الإنسان سورة قبل التي قبلها، وليس الترتيب في القراءة ونحوه واجبًا، بل هو مستحبّ، وهذا الوجه أقرب.

وأما ما ثبت من مخالفة مصاحف بعض الصحابة، كمصحف ابن مسعود رضي الله عنه ونحوه، فيُحمل بأنهم لم يصل إليهم الترتيب الأخير، فَبَقُوا على الأمر الأول، واللَّه تعالى أعلم.

قال: ويستفاد من هذا الحديث حديث أوس أن الراجح في المفصل أنه من أول "سورة ق" إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تُعَدّ في الثلث الأول، فإنه يلزم مَن عَدَّها أن يكون أول المفصل من الحجرات، وبه جزم جماعة من الأئمة. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1909]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَجَاءَ عَلْقَمَةُ لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ، فَقُلْنَا لَهُ: سَلْهُ عَنِ النَّظَائِرِ

(1)

"الفتح" 8/ 657 - 658 "كتاب فضائل القرآن".

ص: 540

الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: عِشْرُونَ سُورَةً

(1)

مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِي تَأْلِيفِ عَبْدِ اللَّهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء بن كُريب الْهَمْدانيّ الكوفي مشهور بكنيته، ثقةٌ حافظٌ [10](247) وهو ابن سبع وثمانين سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، عَمِيَ وهو صغيرٌ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) وله اثنتان وثمانون سنةً، وقد رُمِي بالإرجاء (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ)"نَهِيك" بفتح النون، وكسر الهاء، و"سِنَان" بكسر السين المهملة، وتخفيف النون.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لأبي معاوية.

وقوله: (لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ) أي: على ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: (عِشْرُونَ سُورَةً) وفي بعض النسخ: "عشرون سورة في عشر ركعات"، قال القاضي عياض-رحمه الله: هذا صحيحٌ موافق لرواية عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم كان احدى عشرة ركعة بالوتر، وأن هذا كان قدر قراءته غالبًا، وأن تطويله الوارد إنما كان في التدبر والترتيل، وما ورد من غير ذلك في قراءته "البقرة"، و"النساء"، و"آل عمران" كان في نادر من الأوقات. انتهى.

وقوله: (فِي تَأْلِيفِ عَبْدِ اللَّهِ) يعني: أن هذا الذي ذكره من ترتيب السور واقع في ترتيب عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه لمصحفه، وهذا كما أسلفناه أنه لم يصل إليه الترتيب الأخير، فبقي على ما كان عليه في أول الأمر، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1)

وفي نسخة: "عشرون سورة في عشر ركعات".

ص: 541

(3596)

حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: جاء رجل إلى عبد اللَّه من بني بَجِيلة، يقال له: نَهِيك بن سِنَان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف تقرأ هذه الآية، أياءً تجدها أو ألفًا، {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أو (غير ياسن)؟ فقال له عبد اللَّه: أَوَكُلَّ القرآن أحصيتَ غير هذه الآية؟ قال: إنني لأقرأ المفصَّل في ركعة، فقال عبد اللَّه: هَذًّا كهَذِّ الشعر، إن مِن أحسن الصلاة الركوعَ والسجودَ، وليقرأن القرآن أقوام لا يجاوز تراقيهم، ولكنه إذا قرأه فَرَسَخَ في القلب نَفَع، إني لأعرف النظائر التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ سورتين في ركعة، قال: ثم قام، فدخل، فجاء علقمة، فدخل عليه، قال: فقلنا له: سله لنا عن النظائر التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ سورتين في ركعة، قال: فدخل، فسأله، ثم خرج إلينا، فقال: عشرون سورةً من أول المفصل في تأليف عبد اللَّه. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى -بحمد اللَّه تعالى وتوفيقه- تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1910]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا

(1)

الْأَعْمَشُ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا، وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اثْنَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، عِشْرِينَ

(2)

سُورَةً فِي عَشْرِ رَكَعَاتٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل، الكوفيّ، نَزَل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187) أو (191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "عشرون".

ص: 542

وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: حدّثنا بسند الأعمش السابق، وهو عن أبي وائل، عن عبد اللَّه رضي الله عنه.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا) يعني: أن عيسى بن يونس حدّث عن الأعمش بمثل ما حدّث به كل من وكيع، وأبي معاوية عنه.

وقوله: (اثْنَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ) منصوب بفعل محذوف؛ أي: يجمع سورتين اثنتين في ركعة واحدة.

وقوله: (عِشْرِينَ

(1)

سُورَةً فِي عَشْرِ رَكَعَاتٍ) بنصشا عشرين بفعل مقدّر؛ أي: يقرأ عشرين سورة في عشر ركعات، وفي بعض النسخ "عشرون" بالرفع، فيكون خبرًا لمحذوف؛ أي: هي عشرون. . . إلخ.

[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش هذه ساقها النسائيُّ رحمه الله بسند المصنّف، فقال:

(1004)

أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد اللَّه قال: إني لأعرف النظائر التي كان يقرأ بهنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشرين سورةً في عشر ركعات، ثم أخذ بيد علقمة، فدخل، ثم خرج إلينا علقمة، فسألناه، فأخبرنا بهنّ. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1911]

(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَوْمًا، بَعْدَمَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ، فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَنَا، قَالَ: فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً، قَالَ: فَخَرَجَتِ الْجَارِيةُ، فَقَالَتْ: أَلَا تَدْخُلُونَ، فَدَخَلْنَا، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا، وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لَا، إِلَّا أَنَّا ظنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "عشرون".

ص: 543

ظنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً؟ قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ؟

(1)

قَالَ: فَنَظَرَتْ، فَإِذَا هِيَ لَمْ تَطْلُعْ، فَأَقْبَلَ يُسَبِّحُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ، قَالَ

(2)

: يَا جَارِيةُ انْظُرِي، هَلْ طَلَعَتْ؟، فَنَظَرَتْ، فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقالَنَا يَوْمَنَا هَذَا، فَقَالَ مَهْدِيٌّ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ كُلَّهُ، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّا لَقَدْ سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ

(3)

، وَإِنِّي لَأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ

(4)

مِنَ الْمُفَصَّلِ، وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبي شَيْبة الْحَبَطيّ الأُبُلّيّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمِي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطر الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 6 أو 235) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأَزْديّ الْمِعْوَليّ -بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو- أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

3 -

(وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ) هو: واصل بن حَيّان الأَسَديّ الكوفيّ، بَيّاع السَّابَرِيّ -بمهملة، وموحدة- ثقةٌ ثبت [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

[تنبيه]: قال في "الفتح": واصل هو ابن حيان -بمهملة، وتحتانية ثقيلة- الأحدب الكوفيّ، ووقع صريحًا عند الإسماعيليّ، وزعم خَلَفٌ في "الأطراف" أنه واصل مولى أبي عُيينة بن المهلَّب، وغَلَّطوه في ذلك، فإن مولى أبي عيينة بصريّ، وروايته عن البصريين، وليست له رواية عن الكوفيين، وأبو وائل شيخ واصلٍ هذا كوفيّ. انتهى

(5)

.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

وفي نسخة: "هل طلعت الشمس؟ ".

(2)

وفي نسخة: "فقال".

(3)

وفي نسخة: "القرآن".

(4)

وفي نسخة: "ثماني عشرة".

(5)

"الفتح" 8/ 707 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5044).

ص: 544

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه، فأُبُلّيّ، وهي قرية من قرى البصرة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة أنه (قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه أي: ذَهبنا إليه أول النهار، يقال: غدا عليه غُدُوًّا، وغُدْوَة بالضمّ، واغتدى: بَكَّرَ، قاله في "القاموس"

(1)

.

وقال في "المصباح": غدا غُدُوًّا، من باب قَعَدَ: ذَهَبَ غُدْوةً، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وجمع الْغُدْوة غُدًى، مثلُ مُدْيَةٍ ومُدًى، هذا أصله، ثم كثُر حتى استُعمِل في الذهاب والانطلاق أيَّ وقت كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"واغْدُ يا أُنيس. . . "

(2)

؛ أي: انطلق. انتهى

(3)

.

وقوله: (يَوْمًا) متعلّق بـ "غدونا"، وكذا قوله:(بَعْدَمَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ) بالفتح، وكالْغُدوة بالضمّ: البُكْرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، قاله في "القاموس". (فَسَلَّمْنَا بِالْبَاب) أي: قلنا السلام عليكم، ونحن عند الباب (فَأَذِنَ لَنَا) بالبناء للفاعل؛ أي: أَذِن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه بالدخول عليه، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، والمراد أنهم استأذنوا بعد السلام، وهذا هو السنّة، أن يقدّم السلام على الاستئذان، وقد أخرج أحمد، وأبو داود، واللفظ له، بسند صحيح، عن رِبْعيّ بن حِرَاش قال: حدّثنا رجل من بني عامر، أنه استأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت، فقال: أَلِجُ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لخادمه: "اخْرُجْ إلى هذا، فعلّمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخلُ؟ "، فسمعه الرجل: فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 369.

(2)

متّفقٌ عليه.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 443.

ص: 545

(قَالَ) أبو وائل (فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ) أي: تمهّلنا وتأخّرنا فيه، يقال: مَكَثَ مَكْثًا، من باب نَصَرَ: إذا أقام، وتَلَبَّثَ، فهو ماكثٌ، ومَكُثَ مُكْثًا، فهو مَكِيثٌ، مثلُ قَرُبَ قُرْبًا، فهو قَرِيبٌ لغةٌ، وقرأ السبعة {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] باللغتين، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أمكثه، وتمكّث في أمره: إذا لم يَعْجَلْ فيه

(1)

.

(هُنَيَّةً) بضمّ الهاء، وتشديد الياء تصغير هَنَة، بفتحتين، ويقال: هُنَيْهَةٌ أيضًا؛ أي: قليلًا من الزمان، قاله ابن الأثير

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْهَنُ" خفيف النون كناية عن كلّ اسم جنس، والأُنثى هَنَةٌ، ولامها محذوفة، ففي لغة هي هاءٌ، فيُصغَّر على هُنَيْهَةٍ، ومنه يقال: مَكُثَ هُنَيْهَةً: أي: ساعةً لطيفةً، وفي لغة هي واوٌ، فيُصغّر في المؤنّث على هُنَيّة، والهمز خطأٌ؛ إذ لا وجه له، وجمعها هَنَوَاتٌ، ورُبّما جُمعت هَنَات على لفظها، مثل عِدَاتٍ، ويُقال في المذكّر: هُنَيٌّ. انتهى

(3)

.

وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "باب ما يقال في افتتاح الصلاة" فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(قَالَ) أبو وائل (فَخَرَجَتِ الْجَارَيةُ) لا يُعرف اسمها

(4)

. (فَقَالَتْ: أَلَا تَدْخُلُونَ)"ألا" بفتح الهمزة، وتخفيف اللام: أداة تحضيض؛ أي: ادخلوا (فَدَخَلْنَا، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ)"إذا" هنا فجائيّة؛ أي: ففاجأنا جلوس عبد اللَّه رضي الله عنه (يُسَبِّحُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "جالسٌ"، والمراد أنه يسبّح اللَّه تعالى، ويذكره، وليس المراد أنه يتنفّل بالصلاة؛ لأن ذلك الوقت ليس بوقت صلاة.

(فَقَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا)"ما" استفهاميّة، والاستفهام إنكاريّ؛ أي: أيّ شيء منعكم من دخول البيت؟ (وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟) جملة حاليةّ من الفاعل (فَقُلْنَا: لَا) نافية؛ أي: لم يمنعنا من الدخول (إِلَّا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ) بفتح "أَنّ" في الموضعين، فالأول في تأويل المصدر فاعل

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 577.

(2)

"النهاية" 5/ 279.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 641.

(4)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 161.

ص: 546

للفعل المقدّر المدلول عليه بـ "لا"؛ لأنها في قوّة الجملة، كما قدّرناه آنفًا، والاستثناء مفرّغ؛ أي: لم يمنعنا إلا ظنّنا. . . إلخ، والثاني سدّ مسدّ مفعولي "ظَنّ".

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: لا مانع لنا إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم، فنُزعجه، ومعنى قولهم:"ظننا": توهّمنا، وجَوّزنا، لا أنهم أرادوا الظنّ المعروف للأصوليين، وهو رجحان الاعتقاد. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه (ظَنَنْتُمْ) بحذف همزة الاستفهام الإنكاريّ؛ أي: أظننتم (بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ) يريد ابن مسعود رضي الله عنه نفسه؛ لأن أمه كان يقال لها: أم عبد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره يقولون لابن مسعود رضي الله عنه: ابن أمّ عبد. (كَفْلَةً؟) مفعول لـ "ظننتم"، يقال: ظننته بكذا: إذا اتّهمته؛ أي: أتتّهمون أهل بيتي غافلين عن الطاعة؟.

وفيه أنه ينبغي للرجل مراعاة أهل بيته ورَعِيّته في أمور دينهم، حتى لا يغفلوا عنها.

(قَالَ) أبو وائل (ثُمَّ أَقْبَلَ يُسَبِّحُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ، فَقَالَ: يَا جَارِيةُ انْظُرِي هَلْ طَلَعَتْ؟) وفي نسخة: "هل طلعت الشمس؟ "(قَالَ: فَنَظَرَتْ، فَإِذَا) فجائيّة، كما سبق قريبًا (هِيَ لَمْ تَطْلُعْ) بضمّ اللام، من باب قعد (فَأَقْبَلَ يُسَبِّحُ) أي: فأخبرته الجارية بعدم طلوعها، فأقبل على تسبيحه (حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ، قَالَ) وفي نسخة: "فقال"(يَا جَارِيةُ انْظُرِي، هَلْ طَلَعَتْ؟، فَنَظَرَتْ، فَإِذَا هِيَ قَدْ طَلَعَتْ) أي: فأخبرته بطلوعها، فقال. . . إلخ.

قال النوويّ رحمه الله: وفيه قبول خبر الواحد، وخبر المرأة، والعمل بالظنّ مع إمكان اليقين؛ لأنه عمل بقولها، وهو مفيد للظنّ، مع قدرته على رؤية الشمس. انتهى.

(فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَالَنَا يَوْمَنَا هَذَا) أي: أقال عَثْرتنا، ولم يؤاخذنا بسيّئاتنا في هذا اليوم، فلم يُهلكنا، بل صفح عنّا، حتى أطلع علينا الشمس من

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 107.

ص: 547

مطلعها، يقال: أقال اللَّه عَثْرته: إذا رفعه من سقوطه، ومنه الإقالة في البيع؛ لأنها رفع العقد، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقال في "اللسان": يقال: أقال اللَّه فلانًا عَثْرته بمعنى صَفَحَ عنه، وأقال اللَّه عَثْرتك، وأقالكها. انتهى

(2)

.

وهذا فيه أنه ينبغي للإنسان أن يشكر اللَّه تعالى إذا أصبح، ويتذكّر ما منّ به عليه؛ إذ لم يؤاخذه بسيّئاته، بل صفح عنه، وأطلع عليه الشمس، وأيقظه من نومه، فمنه الفضل والنعمة، وله الحمد والمنّة، سبحانك لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

(فَقَالَ مَهْدِيٌّ) أي: ابن ميمون الراوي عن واصل الأحدب (وَأَحْسِبُهُ) أي: أظنّ واصلًا (قَالَ: وَلَمْ يُهْلِكْنَا بِذُنُوبِنَا) أي: زاد على قوله: "أقالنا يومنا هذا" قوله: "ولم يُهلكنا بذنوبنا".

(قَالَ) أبو وائل (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْم) هو نَهِيك بن سِنان الذي مرّ ذكره في الحديث الماضي (قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ) أي: في الليلة الماضية، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَرِحَ الشيءُ يَبْرَحُ، من باب تَعِبَ بَرَاحًا: زال من مكانه، ومنه قيل للّيلة الماضية: البارحة، والعرب تقول قبل الزوال: فعلنا الليلة كذا؛ لقربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحة. انتهى

(3)

.

وقوله: (كُلَّهُ) بالنصب توكيد لـ "المفصَّل".

(قَالَ) أبو وائل (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (هَذًّا) تقدّم أنه منصوب على المصدريّة؛ أي: أتَهُذّ هذًّا وهو بفتح الهاء، وبالذال المعجمة المنونة، قال الخطابيّ: معناه سرعة القراءة بغير تأمل، كما ينشد الشعر، وأصل الهَذّ سرعة الدفع. انتهى.

وهذا من ابن مسعود رضي الله عنه إنكارٌ على الرجل في إسراعه في قراءته، وعدم ترتيله، وتدبّره.

وقوله: (كَهَذِّ الشِّعْرِ) أي: مثل هذّ الشاعر في إنشاده شعره، قال

(1)

"المصباح" 2/ 521.

(2)

"لسان العرب" 11/ 580.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 42.

ص: 548

القرطبيّ رحمه الله: وهذُّ الشعر: الاسترسال في إنشاده من غير تدبّر في معانيه، ومعنى هذا أن الشعر هو الذي إن فَعَل الإنسان فيه ذلك سُوِّغ له، وأما في القرآن فما ينبغي مثل ذلك، بل يُقرأ بترتيل وتدبّر. انتهى

(1)

.

وعند أحمد من طريق الأسود بن يزيد، عن عبد اللَّه بن مسعود، أن رجلًا أتاه، فقال: قرأت المفصل في ركعة، فقال:"بل هَذَذْتَ كهَذِّ الشعر، وكَنَثْر الدَّقَلِ".

وعند سعيد بن منصور، من طريق يسار، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، أنه قال في هذه القصّة:"إنما فُصِّل لتُفَصِّلوه"

(2)

.

(إِنَّا لَقَدْ سَمِعْنَا الْقَرَائِنَ) جمع قرينة، هو بمعنى قوله الماضي:"النظائر"، وقد مرّ البحث فيها مستوفًى، وللَّه الحمد، وفي نسخة:"القرآن" (وَإِنِّي لَأَحْفَظُ الْقَرَائِنَ الَّتِي كَانَ يَقْرَؤُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ

(3)

مِنَ الْمُفَصَّلِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول المشهورة "ثمانية عشر"، وفي نادرٍ منها:"ثمان عشرة"، والأول صحيح أيضًا على تقدير ثمانية عشر نظيرًا، وقوله:(وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم) يعني: من السور التي أولها {حم (1)} ، كقولك: فلان من آل فلان، قال القاضي رحمه الله: ويجوز أن يكون المراد {حم (1)} نفسها، كما قال في الحديث:"من مزامير آل داود"؛ أي: داود عليه السلام نفسه.

وفيه دليل على أن المفصل ما بعد "آل حم"، وقوله في الرواية الأولى:"عشرون من المفصّل"، وقوله هنا:"ثمانية عشر من المفصل، وسورتين من آل حم" لا تعارض فيه؛ لأن مراده في الأولى معظم العشرين من المفصل.

قال العلماء: أول القرآن السبع الطّوَال، ثم ذوات المئين، وهو ما كان في السورة منها مائة آية ونحوها، ثم المثاني، ثم المفصَّل، وقد سبق بيان الخلاف في أول المفصّل، فقيل: من القتال، وقيل: من الحجرات، وقيل: من {ق}

(4)

.

(1)

"المفهم" 2/ 453 - 454.

(2)

راجع: "الفتح" 8/ 707.

(3)

وفي نسخة: "ثماني عشرة".

(4)

"شرح النوويّ" 6/ 107.

ص: 549

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم ترجيح القول بأن أوّل المفصّل من {ق} ؛ لما سبق من الأدلّة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قوله: "من آل حاميم" أي: السورة التي أولها {حم} وقيل: يريد {حم} نفسها، كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه:"أنه أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"؛ يعني: داود نفسه.

وقال الخطابيّ: قوله: "آل داود" يريد به داود نفسه، وهو كقوله تعالى:{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].

وتعقبه ابن التين بأن دليله يخالف تأويله، قال: وإنما يتم مراده لو كان الذي يدخل أشد العذاب فرعون وحده.

وقال الكرمانيّ: لولا أن هذا الحرف ورد في الكتابة منفصلًا يعني: "آل" وحدها و"حم" وحدها لجاز أن تكون الألف واللام التي لتعريف الجنس، والتقدير: وسورتين من الحواميم.

قال الحافظ: لكن الرواية أيضًا ليست فيها واو، نعم في رواية الأعمش المذكورة:"آخرهنّ من الحواميم"، وهو يؤيد الاحتمال المذكور، واللَّه أعلم.

وأغرب الداوديّ، فقال: قوله: "من آل حاميم" من كلام أبي وائل، وإلا فإن أول المفصل عند ابن مسعود من أول الجاثية. انتهى.

وهذا إنما يَرِدُ لو كان ترتيب مصحف ابن مسعود كترتيب المصحف العثمانيّ، والأمر بخلاف ذلك، فإن ترتيب السور في مصحف ابن مسعود يغاير الترتيب في المصحف العثمانيّ، فلعلّ هذا منها، ويكون أول المفصل عنده أول الجاثية، والدخان متأخرة في ترتيبه عن الجاثية، لا مانع من ذلك.

وقد أجاب النوويّ على طريق التنزل بأن المراد بقوله: "عشرين من أول المفصل"، أي: معظم العشرين. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق بيان مسائله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 8/ 707 "كتاب فضائل القرآن"(5044).

ص: 550

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1912]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَجِيلَةَ، يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ

(1)

، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَلِمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهِنَّ، سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ) الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله أربع، أو خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدَامة الثَّقَفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سنة [7](160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد اللَّه السَّلَميّ، أبو عَتَّاب -بمثناة ثقيلة، ثم موحدة- الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان لا يدلس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فِي رَكْعَةٍ) وفي بعض النسخ: "في كلّ ركعة" في الموضعين.

وقوله: (سُورَتَيْنِ في رَكْعَةٍ) بنصب "سورتين" بفعل مقدّر دلّ عليه ما قبله؛ أي: يقرأ سورتين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "في كل ركعة" في الموضعين.

ص: 551

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1913]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا وَائِلٍ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنِّي قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، قَالَ: فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ سُورَتَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو بْنِ مُرَّةَ) الجملي الكوفي، ثقة عابد [5](ت 118)(ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وفي السند الذي قبله.

وقوله: (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) وفي نسخة: "في ركعة".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(51) - (بَابُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَاتِ)

(2)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1914]

(823) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ،

(1)

وفي نسخة: "في ركعة".

(2)

"القراءات": جمع قراءة، وهي في الاصطلاح: مذهبٌ يذهب إليه إمام من الأئمة مخالفًا به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات عنه. انتهى. "فتح المنعم" 4/ 23.

ص: 552

حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا سَأَلَ الْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ، وَهُوَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، أَدَالًا أَمْ ذَالًا؟ قَالَ: بَلْ دَالًا، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {مُدَّكِرٍ} دَالًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ) بن عبد اللَّه بن قيس التميميّ الْيَرْبُوعيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبت، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بأَخَرَة [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(أَبُو إِسحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد الْهَمْدانيّ، أبو إسحاق السَّبِيعيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ، واختلط بأخرة، وكان يدلّس [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

4 -

(الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النَّخَعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

والصحابيّ: سبق في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع.

[تنبيه]: إن قلت: قد سبق في ترجمة زهير آنفًا أن سماعه من أبي إسحاق بعد اختلاطه، فلم أخرج المصنّف الحديث من روايته؟.

[أجيب]: بأنه لم ينفرد بروايته عنه، بل تابعه عليه شعبة، كما في الرواية

ص: 553

التالية، وسفيان الثوريّ، كما في "صحيح البخاريّ"

(1)

وهما ممن روى عن أبي إسحاق قبل اختلاطه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي إسحاق السبيعيِّ أنه (قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا) لا يُعرف اسمه

(2)

(سَأَل الْأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ، وَهُوَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ) جملة في محلّ نصب على الحال من "الأسود"(فِي الْمَسْجدِ) الظاهر أنه مسجد الكوفة (فَقَالَ) ذلك الرجل السائل (كَيْفَ تَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ: {فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ} [القمر: 22]، أَدَالًا أَمْ ذَالًا؟) منصوب على الحاليّة لفعل محذوف، تقديره: أتقرؤها؟.

والمعنى: أتقرؤها بالدال المهملة، كما هو قراءة العامّة، أم تقرؤها بالذال المعجة، كما يقرؤها بعضهم؟ قال في "الفتح": قرأها بعض السلف بالمعجمة، وهو منقول أيضًا عن قتادة. انتهى

(3)

. (قَالَ) الأسود (بَلْ دَالًا) أي: بل أقرؤها بالدال المهملة، ثم دليله على هذا، فقال:(سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {مُّدَّكِرٍ} ودَالًا) أي: بالدال المهملة، وأصله مُذتكرٌ بتاء مثنّاة فوقيّة بعد ذال معجمة، من باب الافتعال، فأبدلت التاء دالًا مهملة، ثم أُهملت المعجمة، لمقاربتها، ثم أُدغمت، فصار النطق بدال مهملة، وإلى قاعدة تاء الافتعال أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ طْبَقِ

فِي "ادَّانَ" وَ"ازْدَدْ" وَادَّكِرْ" دَالًا بَقِي

وقال السمين الحلبيّ رحمه الله: قوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ـ وأصله مُذتكر، فأُبدلت التاء دالًا مهملةً، ثم أُبدلت المعجمة مهملةً، لمقاربتها، قال: وقد قُرئ "مُذْتَكِر" بهذا الأصل، وقرأ قتادة فيما نَقَل عنه أبو الفضل "مذَكِّر" بفتح الذال مخفّفةً، وتشديد الكاف، من ذَكَّرَ بالتشديد، أي: ذَكَّرَ نفسه أو غيره بما مضى من قِصَص الأولين، ونَقَل عنه ابنُ عطيّة كالجماعة، إلَّا أنه بالذال المعجمة،

(1)

"كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3341).

(2)

راجع: "تنبيه المعلم"(ص 162).

(3)

"الفتح" 8/ 485 "كتاب التفسير"(4875).

ص: 554

وهو شاذّ؛ لأن الأول يُقلب للثاني، لا الثاني للأول. انتهى كلام السمين رحمه الله

(1)

.

وقد تكرّر قوله تعالى: {فَهَلْ مِنْ مُّدَكِرٍ} في "سورة اقتربت" بحسب تكرّر القصص، من أخبار الأمم؛ استدعاءً لأفهام السامعين؛ ليعتبروا. قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": {وَلَقَدْ يَسَّرنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ (17)} [القمر] أي: سهّلناه للحفظ، وأَعَنّا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه، فيعانَ عليه، ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، مأخوذ مِن يَسَّرَ ناقته للسفر: إذا رَحَلَها، ويَسَّر فرسه للغزو: إذا أسرجه والجمه، قال [من الطويل]:

وَقُمْتُ إِلَيْهِ بِاللِّجَامِ مُيَسِّرًا

هُنَالِكَ يَجْزِينِي الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ

وقال سعيد بن جبير: ليس من كُتُب اللَّه كتاب يُقرأ كله ظاهرًا إلَّا القرآن، وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلَّا نظرًا، غير موسى، وهارون، ويوشع بن نون، وعُزير -صلوات اللَّه عليهم- ومن أجل ذلك افْتُتِنُوا بعزير لَمّا كَتَب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أُحرقت، فيَسَّرَ اللَّه تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه، ليذَّكَّروا ما فيه؛ أي: يفتعلوا الذكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات، وكالتركيب فيهم {فَهَل مِن مُّدَكِرٍ} قارئٍ يقرؤه، وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلمٍ، فيعانَ عليه؟.

وكُرِّر في هذه السورة، للتنبيه والإفهام، وقيل: إن اللَّه تعالى اقتَصَّ في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم، وقِصَص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين، فكان في كل قصة ونبأ ذِكْرٌ للمستمع أن لَوِ ادَّكَر، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله:{فَهَل مِن مُّدَّكِر} ؛ لأن "هل" كلمة استفهام، تستدعي أَفهامهم التي رُكِّبت في

(1)

"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 10/ 136.

(2)

"الفتح" 8/ 485 "كتاب التفسير"(4875).

ص: 555

أجوافهم، وجعلها حجة عليهم، فاللام من "هل" للاستعراض، والهاء للاستخراج. انتهى كلام القرطبيُّ رحمه الله

(1)

، وهو نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1914 و 1915](823)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3341 و 3345 و 3376) و"التفسير"(4869 و 4870 و 4871 و 4872 و 4873 و 4874)، و (أبو داود) في "الحروف والقراءات"(3994)، و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(11555)، و (الترمذيّ) في "القراءات"(2937)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3971 و 3972 و 3973)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1862 و 1863)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1915]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ: {فَهَلْ مِن مُّدَكِرٍ}).

رجال هذا الإسناد: سبعة.

وكلّهم تقدّموا في الإسناد الماضي، والذي قبله.

وقوله: (كَانَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ) المراد بالحرف الكلمة التي تُقرأ على الوجوه، قال في "اللسان": كلُّ كلمة تقرأ على الوجوه تُسمّى حَرْفًا، تقول: هذا في حرف ابن مسعود؛ أي: في قراءة ابن مسعود، وقال ابن سِيدَهْ: والحرف: القراءات التي تُقرأ على أوجه. انتهى

(2)

.

(1)

"تفسير القرطبي" 17/ 134.

(2)

"لسان العرب" 9/ 41.

ص: 556

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام شرحه، وتخريجه في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1916]

(824) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَدِمْنَا الشَّامَ، فَأَتَانَا أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا، قَالَ: فَكَيْفَ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ، يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} "وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى"، قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ أَقْرَأَ:{وَمَا خَلَقَ} ، فَلَا أُتَابِعُهُمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقةٌ جليلٌ، إلَّا أنه يرسل كثيرًا [5](96) وهو ابن خمسين أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

2 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [3] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

3 -

(أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُوَيمر بن زيد بن قيمس الأنصاريّ الصحابيّ الجليل، أول مشاهده أُحُدٌ، وكان عابدًا، وقد اخْتُلِفَ في اسم أبيه، وأما هو فمشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامرٌ، وعُويمر لقب، مات في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنهما، وقيل: عاش بعد ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 557

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في كيفيّة التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلَّا شيخه أبا بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبو كريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَلْقَمَةَ) بن قيس رحمه الله أنه (قَالَ: قَدِمْنَا) بكسر الدال؛ أي: دخلنا (الشَّامَ) بالهمز ودونه: البلد المعروف (فَأَتَانَا أَبُو الدَّرْدَاءِ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية:"أتى علقمة الشام، فدخل مسجدًا، فصلى فيه، ثم قام إلى حلقة، فجلس فيها. . . "، وفي رواية للبخاريّ من طريق سفيان الثوريّ، عن الأعمش:"دخلت في نفر من أصحاب عبد اللَّه الشام، فسَمِع بنا أبو الدرداء، فأتانا، فقال: أفيكم من يقرأ؟. . . "، وفي رواية من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش:"قَدِمَ أصحاب عبد اللَّه على أبي الدرداء، فطلبهم، فوجدهم، فقال: أيّكم يقرأ على قراءة عبد اللَّه؟ "، (فَقَالَ: أَفِيكُمْ أَحَدٌ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؟) أي: ابن مسعود رضي الله عنه، قال علقمة (فَقُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا) مبتدأ حُذف خبره؛ أي: أنا أقرأ قراءته، وفي رواية البخاريّ:"فقال: أيُّكم يقرأ على قراءة عبد اللَّه؟ قالوا: كلُّنا، قال: فأيكم أحفظ، وأشاروا إلى علقمة".

(قَالَ: فَكَيْفَ سَمِعْتَ عَبْدَ اللَّهِ، يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}؟ قَالَ) علقمة (سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} "وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى") كذا في هذه

ص: 558

الرواية بحذف {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} ، وفي رواية الشعبيُّ الآتية:"فقرأت: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)}، "والذكر والأنثى"، فأثبتها، ولعلّ في هذه الرواية اختصارًا (قَالَ) أبو الدرداء رضي الله عنه (وَأَنَا وَاللَّهِ هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا) أي: بلفظ: "والذكر والأنثى" (وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ) أي: أهل الشام (يُرِيدُونَ أَنْ أَقْرَأَ: {وَمَا خَلَقَ}) أي: كقراءة الجماعة (فَلَا أُتَابِعُهُمْ) أي: على ترك القراءة التي سمعتها منه صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة في هذا الحديث:"وأن هؤلاء يريدونني أن أزول عما أقرأني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويقولون لي: اقرأ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)}، وإني واللَّه لا أطيعهم".

قال في "الفتح": وفي هذا بيانٌ واضحٌ أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه كانت كذلك، والذي وقع في غير هذه الطريق أنه قرأ:"والذي خلق الذكر والأنثى"، كذا في كثير من كتب القراءات الشاذّة، وهذه القراءة لَمْ يذكرها أبو عبيد إلَّا عن الحسن البصريّ، وأما ابن مسعود فهذا الإسناد المذكور في "الصحيحين" عنه من أصح الأسانيد، يروي به الأحاديث.

قال: ثم هذه القراءة لَمْ تُنقَل إلَّا عمن ذُكر هنا، ومن عداهم قرؤوا:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (3)} ، وعليها استقرّ الأمر مع قوة إسناد ذلك إلى أبي الدرداء، ومن ذكر معه، ولعل هذا مما نُسِخَت تلاوته، ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء، ومن ذكر معه، والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه، وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لَمْ يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حَمَلُوا القراءة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ولم يقرأ أحد منهم بهذا، فهذا مما يُقَوِّي أن التلاوة بها نُسخت. انتهى

(1)

.

وقال النوويُّ رحمه الله في "شرحه": قال القاضي: قال المازريّ: يجب أن يُعْتَقد في هذا الخبر، وما في معناه أن ذلك كان قرآنًا، ثم نُسِخ، ولم يَعْلَم من خالف النسخ، فبقي على النسخ.

(1)

"الفتح" 8/ 578 "كتاب التفسير" رقم (4944).

ص: 559

قال: ولعل هذا وقع من بعضهم قبل أن يبلغهم مصحف عثمان رضي الله عنه المجمع عليه المحذوف منه كل منسوخ، وأما بعد ظهور مصحف عثمان، فلا يُظَنّ بأحد منهم أنه خالف فيه، وأما ابن مسعود، فرويت عنه روايات كثيرة، منها ما ليس بثابت عند أهل النقل، وما ثبت منها مخالفًا لما قلناه، فهو محمول على أنه كان يكتب في مصحفه بعض الإحكام والتفاسير، مما يعتقد أنه ليس بقرآن، وكان لا يعتقد تحريم ذلك، وكان يراه كصحيفة يُثْبِت فيها ما يشاء، وكان رأي عثمان والجماعة منع ذلك؛ لئلا يتطاول الزمان، ويُظَنّ ذلك قرآنًا.

قال المازريّ: فعاد الخلاف إلى مسألة فقهية، وهي أنه هل يجوز إلحاق بعض التفاسير في أثناء المصحف؟.

قال: ويَحْتَمِل ما رُوي من إسقاط المعوذتين من مصحف ابن مسعود رضي الله عنه أنه اعتَقَد أنه لا يلزمه كتب كل القرآن، وكَتَبَ ما سواهما، وتركهما؛ لشهرتهما عنده وعند الناس، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 1916 و 1917 و 1918 و 1919](824)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3287 و 3742 و 3743 و 3761) و"التفسير"(4943 و 4944) و"الاستئذان"(6278)، و (الترمذيّ) في "القراءات"(2939)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(194)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3959 و 3960 و 3961 و 3962 و 3963 و 3964 و 3965 و 3966)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1864 و 1865 و 1866)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6330)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"شرح النووي" 6/ 109.

ص: 560

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة التمسّك بما سمعوه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن خالفهم الناس جميعًا.

2 -

(ومنها): بيان ما كانوا عليه من شدّة الحرص على تثبيت ما عندهم من العلم بموافقة غيرهم ممن سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم مثلهم.

3 -

(ومنها): بيان أنه لا ينبغي للإنسان الالتفات إلى من خالفه إذا تأكّد أن الذي عليه هو الحقّ، ولا سيّما إذا وجد من يوافقه عليه.

4 -

(ومنها): بيان أن الاعتماد في القرآن على التلقّي من النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأخذ عن حفّاظ أمته، ففي عهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على التلقي من فِيه صلى الله عليه وسلم بدون واسطة، ومن لم يستطع منهم ذلك أخذ عمن أخذه عنه صلى الله عليه وسلم، وقد اشتَهَرَ في كل طبقة من طبقات الأمة جماعة بحفظهم القرآن، وتحفيظه، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم قد اختَلَف أخذهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم انتشَرُوا في الأمصار اختلف الآخذون عنهم من التابعين، ثم تصدّى في كل مصر قوم للقراءات، يضبطونها، ويعتنون بها، ويعلّمونها إلى أن أُلّفت في ذلك كتب القراءات المشهورة، فحُفظ بذلك القرآن الكريم، فكان ذلك مصداقًا للَّه عز وجل:{إنا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ، لَحَفِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1917]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَتَى عَلْقَمَةُ الشَّامَ، فَدَخَلَ مَسْجِدًا، فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى حَلْقَةٍ، فَجَلَسَ فِيهَا، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ، فَعَرَفْتُ فِيهِ تَحَوُّشَ الْقَوْمِ وَهَيْئَتَهُمْ، قَالَ: فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي، ثُمَّ قَالَ: أَتَحْفَظُ كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ؟ فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).

ص: 561

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبت [10](240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، نزيل الرّيّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8](ت 188) وله إحدى وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(مُغِيرَةُ) بن مِقْسَم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلَّا أنه كان يُدَلِّس، ولا سيما عن إبراهيم [6](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَتَى عَلْقَمَةُ الشَّامَ. . . إلخ) لا يقال: هذا فيه إرسال؛ لأن إبراهيم ما حضر القصّة؛ لأنا نقول: إنه رواه عن علقمة، كما بيّنته الروايات الأخرى، وأيضًا قوله:"فعرفت فيه تحوّش القوم. . . إلخ" ظاهر في كونه أخذه عنه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (فَدَخَلَ مَسْجِدًا) أي: مسجد دمشق، ففي رواية أحمد:"عن علقمة، أنه قَدِمَ الشام، فدخل مسجد دمشق، فصلى فيه ركعتين، وقال: اللهم ارزقني جليسًا صالحًا. . . " الحديث.

وقوله: (إِلَى حَلْقَةٍ) بإسكان اللام في اللغة المشهورة، قال الجوهريّ وغيره: ويقال في لغة رديئة بفتحها، قاله النوويّ

(1)

.

وقوله: (فَجَاءَ رَجُلٌ) هو أبو الدرداء رضي الله عنه، كما بُيّن في الروايات الأخرى.

وقوله: (تَحَوُّشَ الْقَوْمِ) بمثنّاة في أوّله مفتوحة، وحاء مهملة، وواو مشدّدة، وشين معجمة: أي: انقباضهم، قال القاضي عياض رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يريد الْفِطْنة والذكاء، يقال: رجلٌ حَوْشُ الفؤاد: أي: حديده. انتهى.

(1)

"شرح مسلم" 6/ 109.

ص: 562

وقال في "النهاية": يقال: احتوش القومُ على فلان: إذا جعلوه وَسْطَهُم، وتحوَّشُوا عنه: إذا تنحَّوْا. انتهى

(1)

.

والمعنى المناسب هنا هو الانقباض، يعني: أن القوم منقبضون عنه، وذلك أنهم يريدونه أن يتابعهم على هذه القراءة، فلا يوافقهم، فهم يعتزلونه، ويبتعدون، وينقبضون عن مجالسته، ومتابعته، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَهَيْئَتَهُمْ) بالنصب عطفًا على "تحوّشَ القوم"؛ أي: ورأيت حالهم معه من المجانبة له.

وقوله: (أَتَحْفَظُ كَمَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ؟) يعني: عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير مغيرة، أي: ذكر مغيرة الحديث عن إبراهيم، بمثل ما ذكره الأعمش عنه.

[تنبيه]: رواية مغيرة، عن إبراهيم هذه ساقها الإمام البخاريُّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3742)

حدّثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل، عن المغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قَدِمُت الشأم، فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا، فأتيت قومًا، فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء، فقلت: إني دعوت اللَّه أن ييسر لي جليسًا صالحًا، فيسّرك لي، قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أوَليس عندكم ابن أم عبد، صاحب النعلين والْوِسَاد والْمِطْهَرة، وفيكم الذي أجاره اللَّه من الشيطان؟؛ يعني: على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، أوَليس فيكم صاحب سر النبيّ صلى الله عليه وسلم "الذي لا يعلمه أحد غيره؟ ثم قال: كيف يقرأ عبد اللَّه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ؟، فقرأت عليه:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} ، "والذكر والأنثى"، قال: واللَّه لقد أقرأنيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من فِيه إلى فِيَّ.

وفي رواية: قال: ما زال بي هؤلاء حتى كادوا يستنزلوني عن شيء سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(1)

"النهاية" 1/ 461.

ص: 563

وفي رواية لأحمد: "فما زال هؤلاء حتى شَكَّكوني، ثم قال: ألم يكن فيكم صاحب الوِسَاد، وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره، والذي أجير من الشيطان على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ صاحب الوساد ابن مسعود، وصاحب السر حذيفة، والذي أجير من الشيطان عمّار. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1918]

(. . .) - (حَدَّثَنَا

(1)

عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ لِي: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: مِنْ أَيِّهِمْ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: هَلْ تَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاقْرَأْ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ، قال: فقرأت: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} ، "وَالذَّكَرِ وَالْأَنثَى"، قَالَ: فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) بن إياس السَّعْدي المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ المعروف بابن علية، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن ثلاث وثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) الْقُشَيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 564

البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، كان يهم بأَخَرَة [5] (ت 145) وقيل: قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ مشهورٌ فقيهٌ فاضلٌ، قال مكحول: ما رأيت أفقه منه [3] مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَضَحِكَ) أي: تعجّبًا وفرحًا بموافقة ابن مسعود لقراءته التي سمعها، وحفظها من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1919]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ، فَلَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى البصريّ الساميّ -بالمهملة- أبو محمد، وكان يغضب إذا قيل له: أبو هَمّام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

والباقون ذُكروا في الباب، و"داود" هو ابن أبي هند المذكور في السند الماضي، و"عامر" هو الشعبيّ المذكور فيه أيضًا.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عبد الأعلى.

[تنبيه]: رواية عبد الأعلى، عن داود هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 565

(52) - (بَابُ بَيَانِ الأَوْقَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1920]

(825) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ: أصح الأسانيد كلها مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما[7](179)، وقال الواقديّ: بلغ تسعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) -بفتح المهملة، وتشديد الموحدة- ابن مُنقِذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [4](ت 121) وهو ابن أربع وسبعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى رَبِيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 566

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: محمد بن يحيى، عن الأعرج.

5 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثًا، روى (5374) حديثًا، واللَّه -تعالى- أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح همزة "أَنَّ"؛ لوقوعها موقع المصدر، كما قال في "الخلاصة":

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدّ مَصْدَرِ

مَسَدَّها وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

فقد وقعت هنا مفعول "قرأتُ"؛ أي: قرأت نهي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ("نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ) أي: بعد أداء صلاة العصر (حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ) أي: بعد أداء صلاة الصبح (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ") قال القرطبيّ رحمه الله: مذهب أبي حنيفة رحمه الله حَمْلُ هذا النهي على عمومه في النوافل كلّها، والفرائض المقضيّات، ولم يَستثن من الصلوات شيئًا، وخصّ الجمهور من ذلك المقضيّات، وخصّ الشافعيّ ما كان من النوافل معلَّقًا على سبب، فتُصلَّى لحضور سببها، كتحيّة المسجد، وسجود التلاوة، وركعتي الطواف، والإحرام، وغير ذلك. انتهى

(1)

.

وسيأتي البحث في هذا مُستوفًى مع ترجيح مذهب الشافعي قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المفهم" 2/ 457.

ص: 567

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1920](825)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(584 و 588)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(561) وفي "الكبرى"(1545)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1252)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 221)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 52)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 348)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2463)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 462 و 529)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1275)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1543 و 1544)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1122)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1867)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 452)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(774)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة في أوقات النهي:

قال النوويّ رحمه الله: أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات، واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها، واختلفوا في النوافل التي لها سبب، كصلاة تحية المسجد، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة العيد، والكسوف، وفي صلاة الجنازة، وقضاء الفوائت، ومذهب الشافعي وطائفة، جواز ذلك كله بلا كراهة، ومذهب أبي حنيفة وآخرين أنه داخل في النهي لعموم الأحاديث، واحتج الشافعي وموافقوه بأنه ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر، وهذا صريح في قضاء السنة الفائتة، فالحاضرة أولى، والفريضة المقضية أولى، وكذا الجنازة. انتهى

(1)

.

وما ادعاه من الإجماع والاتفاق مُتَعَّقب، فقد حَكَى غيره عن طائفة من السلف الإباحة مطلقًا، وقالوا بالنسخ لأحاديث النهي، وهو مذهب داود، وعن طائفة المنع مطلقًا، وحَكَى آخرون الإجماع على جواز صلاة الجنازة في هذه

(1)

"شرح مسلم" 6/ 110.

ص: 568

الأوقات، ولكنه متعقب بما سيأتي في بابه، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال في "الطرح": صح النهي عن الصلاة في حالتين أُخريين، وهما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ففي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"شهِدَ عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس"، وفي رواية:"حتى تطلع، وبعد العصر حتى تغرب"، وهو في "الصحيحين" أيضًا من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد بلفظ:"حتى تطلع الشمس".

وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، والجمهور، وهو مذهب الحنفية أيضًا، إلَّا أنهم رأوا النهي في هاتين الحالتين أخف منه في الصُّوَرِ المتقدمة -يعني: الطلوع، والاستواء، والغروب- كما سنحكيه عنهم.

ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عمر، وابن مسعود، وخالد بن الوليد، وأبي العالية، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن سيرين، وغيرهم، وقال الترمذي: وهو قول أكثر الفقهاء، من الصحابة، فمن بعدهم، وحكاه ابن عبد البرّ عن أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة، وسعد، ومعاذ بن عفراء، وابن عباس رضي الله عنهم، قال: وحسبك بضرب عمر رضي الله عنه على ذلك بالدِّرَّة؛ لأنه لا يستجيز ذلك من أصحابه إلَّا لصحة ذلك عنده.

وذهب آخرون، إلى أنه لا تكره الصلاة في هاتين الصورتين -يعني: بعد صلاتي الصبح، والعصر- ومال إليه ابن المنذر بعد ذكره ثبوت النهي عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، فدلّ قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تصلوا بعد العصر، إلَّا والشمس مرتفعة"، وقوله:"لا تحرّوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان"، مع قول عقبة بن عامر:"ثلاث ساعات، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَنْهَى أن يُصَلَّى فيهنّ" الحديث، مع سائر الأخبار المذكورة في غير هذا الكتاب على أن الوقت المنهي عن الصلاة فيه هذه الأوقات الثلاثة.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 71.

ص: 569

قال: فممن روينا عنه الرخصة في التطوع بعد العصر عليّ بن أبي طالب، ورَوَينا معنى ذلك عن الزبير، وابن الزبير، وتميم الداريّ، والنعمان بن بشير، وأبي أيوب الأنصاريّ، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم، وفَعَلَ ذلك الأسودُ بنُ يزيد، وعمرو بن ميمون، ومسروق، وشُريح، وعبد اللَّه بن أبي الهُذَيل، وأبو بردة، وعبد الرحمن بن الأسود، وعبد الرحمن بن البيلمانيّ، والأحنف بن قيس.

وقال أحمد: لا نفعله، ولا نعيب فاعله، وبه قال أبو خيثمة، وأبو أيوب.

وحكى ابن بطال إباحةَ الصلاة بعد الصبح، والعصر عن ابن مسعود، وأصحابه، وبلال، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم.

قال العراقي: الذي في "مصنف ابن أبي شيبة" عن أكثر هؤلاء المذكورين فعلُ الركعتين بعد العصر، ولا يلزم من إباحتهم الركعتين بورود النصّ فيهما إباحة التطوع بعد العصر مطلقًا، فيكون هذا مذهبًا ثالثًا مفصلًا بين الركعتين، وما زاد عليهما.

وقال ابن عبد البرّ: قال قائلون: لا بأس بالتطوع بعد الصبح والعصر؛ لأن النهي إنما قُصِد به ترك الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها.

واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا بعد العصر، إلَّا أن تصلوا، والشمس مرتفعة"، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها"، وبإجماع المسلمين على الصلاة على الجنازة بعد الصبح، والعصر، إذا لَمْ يكن عند الطلوع، والغروب، قالوا: فالنهي عن الصلاة بعد الصبح، والعصر هذا معناه، وحقيقته، قالوا: ومخرجه على قطع الذريعة؛ لأنه لو أبيحت الصلاة بعد الصبح، والعصر، لَمْ يُؤْمَنْ التمادي فيها إلى الأوقات المنهي عنها، وهي حين طلوع الشمس، وحين غروبها، هذا مذهب ابن عمر، قال: أما أنا فلا أنهى أحدًا يصلي من ليل، أو نهار، غير أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها، فإن رسول اللَّه رضي الله عنهم عن ذلك، ذكره عبد الرزاق، قال العراقيّ: وهو في "صحيح البخاريّ".

قال ابن عبد البرّ: هو قول عطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، وابن جريج، ورُوِيَ عن ابن مسعود مثله، وهو مذهب عائشة، قالت: أوهم عمر،

ص: 570

إنما نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة أن يتحرى بها طلوع الشمس، أو غروبها.

وقال محمد بن سيرين: تكره الصلاة في ثلاث ساعات: بعد صلاة العصر، وبعد الصبح، ونصف النهار في شدة الحرّ، وتحرم في ساعتين حين يطلع قرن الشمس حتى يستوي طلوعها، وحين تصفر حتى يستوي غروبها. انتهى.

وهو مذهب رابع؛ لأن المذكورين قبله لَمْ يكرهوا الصلاة بعد الصبح، والعصر، وهذا كرهها.

قال في "الطرح": فإن قلت: هذا مذهب الحنفية؛ لأنهم اقتصروا في كتبهم على الكراهة في هاتين الصورتين، وعَبَّرُوا في الصور الأخرى بعدم الجواز.

قلت: هو كذلك، ومع ذلك، فيخالفهم؛ لأنه ضم حالة الاستواء إلى هاتين الصورتين في الكراهة، وهم ضمّوها إلى طلوع الشمس وغروبها في عدم الجواز.

وذهب محمد بن جرير الطبريّ إلى التحريم في حالتي الطلوع، والغروب، والكراهة فيما بعد العصر، والصبح.

ثم قال ابن عبد البرّ: وقال آخرون: لا يجوز بعد الصبح؛ أي: ويجوز بعد العصر، وممن ذهب إليه ابن عمر، ثم روى بإسناده عن قدامة بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، قال: ماتت عمتي، وقد أوصت أن يصلي عليها عبد اللَّه بن عمر، فجئته حين صلينا الصبح، فأعلمته، فقال: اجلس، فجلست حتى طلعت الشمس، وصَفَت، ثم قام، فصلى عليها، قالوا: فهذا ابن عمر، وهو يبيح الصلاة بعد العصر، قد كرهها بعد الصبح.

فهذه مذهب خامس في المسألة، وبه قال ابن حزم الظاهري: مَنَعَ الصلاةَ بعد صلاة الصبح، وجوّزها بعد صلاة العصر إلى الاصفرار؛ لحديث الركعتين، ولحديث عليّ رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الصلاة بعد العصر، إلَّا والشمس مرتفعةٌ"، وهو في "سنن أبي داود"، وإسناده صحيح، وزاد عليه داود

ص: 571

الظاهريّ، فجوّزها إلى غروب الشمس، ورأى النهيَ عن ذلك منسوخًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال: إن الصلاة في هذه الأوقات ممنوعة، مطلقًا، إلَّا ذوات الأسباب، وهذا مذهب الشافعي، وطائفة من الصحابة، وطائفة من التابعين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

.

والمراد بذوات الأسباب: هي التي لها سبب متقدّم عليها، مثل الفائتةِ، فريضةً كانت أو نافلةً، وصلاةِ الجنازة، وسجودِ التلاوة، والشكرِ، وصلاةِ الكسوف، وصلاةِ الاستسقاء، وصلاةِ الطواف، وركعتي الوضوء، وتحية المسجد، ونحوِ ذلك.

وكذا يستثنى من النهي الصلاةُ بعد الحصر، والشمسُ بيضاءُ نَقِيَّةٌ.

أما استثناء ذوات الأسباب؛ فللأدلة الكثيرة:

(منها): حديث أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من نَسِيَ صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يُصَلِيها إذا ذكرها"، متفق عليه، واللفظ لمسلم، ففيه دلالةٌ على أن من تذكر، أو استيقظ في هذه الأوقات، فعليه أن يصلي الصلاة.

(ومنها): حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: صلى ركعتين بعد العصر، فلما انصرف، قال:"يا بنت أبي أمَيَّةَ سألتِ عن الركعتين بعد العصر، إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن اللتين بعد الظهر، فهما هاتان الركعتان، بعد العصر"، رواه الشيخان.

(ومنها): أن عائشة رضي الله عنها قالت: "صلاتان لَمْ يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعهما سرًا، ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد صلاة العصر"، رواه الشيخان.

(ومنها): حديث يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجته، وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته، وانحرف، إذا هو برجلين في آخر القوم، لَمْ يصليا معه، قال:"عَلَيَّ بهما"،

(1)

"طرح التثريب" 2/ 185 - 187.

(2)

انظر: "مجموع الفتاوى" 23/ 19.

ص: 572

فجيء بهما، تَرْعَدُ فرائصهما، قال:"ما منعكما أن تصليا معنا؟ " فقالا: يا رسول اللَّه إنا قد كنا صلينا في رحالنا، قال:"فلا تفعلا، فإذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة"، رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح. انتهى

(1)

.

أقول: ففي هذا الحديث إباحة النافلة بعد الصبح؛ لما ذكرنا.

قال الإمام ابن حبان رحمه الله في "صحيحه": أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، ووصيف بن عبد اللَّه الحافظ بـ "أنطاكية"، قالا: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبيه، عن جدّه قيس بن قهد "أنه صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصبح، ولم يكن ركع ركعتي الفجر، فلما سلّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قام يركع ركعتي الفجر، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ينظر إليه، فلم ينكر ذلك عليه". انتهى

(2)

.

أقول: هذا إسناد صحيح.

وكذا ما ورد في تحية المسجد يوم الجمعة، والإمام يخطب، مع أن الوقت وقت استماع، للخطبة، ففي رواية الشيخين من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام، فليصلّ ركعتين"، وفي رواية مسلم:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوّز فيهما".

فأمرُه صلى الله عليه وسلم الداخل حال الخطبة بصلاة ركعتين، والتجوّز فيهما يدل على أن تحية المسجد تجوز، وإن كان الوقت وقت استماع الخطبة، ومثله الأوقات المذكورة، واللَّه -تعالى- أعلم.

وأما استثناء الصلاة بعد العصر، والشمسُ مرتفعة، فلحديث عليّ رضي الله عنه قال:"نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر، إلَّا أن تكون الشمس بيضاءَ نَقِيَّة مرتفعة"، وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والنسائيّ بإسناد صحيح.

والحاصل أن أقوى المذاهب في هذه المسألة مذهب من قال: إن ذوات

(1)

راجع: "المجموع" 4/ 171 - 172.

(2)

"صحيح ابن حبان" 2/ 49.

ص: 573

الأسباب تجوز في هذه الأوقات دون ما سواها؛ للأدلة التي ذُكِرَتْ وغيرها، وكذا الصلاةُ بعد العصر، والشمس مرتفعة؛ لما ذُكر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله قد حقّق هذا الموضوع في "الفتاوى الكبرى" أحببت أن أختم البحث به؛ لنفاسته، قال رحمه الله:

ومن هذا الباب فعل الصلاة التي لها سبب، مثل تحية المسجد بعد الفجر والعصر، فمن العلماء من يستحب ذلك، ومنهم من يكرهه كراهة تحريم، أو تنزيه، والسنة إما أن تستحبه، وإما أن تكرهه، والصحيح قول من استحب ذلك، وهو مذهب الشافعيّ، وأحمد في إحدى الروايتين، اختارها طائفة من أصحابه، فإن أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"، عموم خصوص خُصَّ منها صلاة الجنائز باتفاق المسلمين، وخُصّ منها قضاء الفوائت بقوله:"من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح"، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قضى ركعتي الظهر بعد العصر، وقال للرجلين اللذين رآهما لم يصليا بعد الفجر في مسجد الخيف:"إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة"، وقد قال:"يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت، وصلى فيه أية ساعة شاء، من ليل أو نهار".

فهذه النصوص تُبَيِّن أن ذلك العموم خرجت منه صُوَرٌ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، فهو أمر عامّ لَمْ يُخَصّ منه سورة، فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص، بل العموم المحفوظ أولى من العموم المخصوص.

وأيضًا فإن الصلاة والإمام على المنبر أشدّ من الصلاة بعد الفجر والعصر، وقد ثبت عنه في "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد، والإمام يخطب، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"، فلما أمر بالركعتين في وقت هذا النهي، فكذلك في وقت ذلك النهي وأولى، ولأن أحاديث النهي في بعضها:"لا تتحرَّوا بصلاتكم"، فنهى عن التحري للصلاة ذلك الوقت، ولأن

ص: 574

من العلماء من قال: إن النهي فيها نهي تنزيه لا تحريم، ومن السلف من جوَّز التطوع بعد العصر مطلقًا، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها؛ لأن النهي عن الصلاة إنما كان سدًّا للذريعة إلى التشبه بالكفار، وما كان منهيًّا عنه للذريعة، فإنه يُفعل لأجل المصلحة الراجحة، كالصلاة التي لها سبب، تفوت بفوات السبب إن لَمْ تفعل فيه، وإلا فاتت المصلحة، والتطوع المطلق لا يحتاج إلى فعله وقت النهي، فإن الإنسان لا يستغرق الليل والنهار بالصلاة، فلم يكن في النهي تفويت مصلحة، وفي فعله فيه مفسدة، بخلاف التطوع الذي له سبب يفوت كسجدة التلاوة، وصلاة الكسوف، ثم إنه إذا جاز ركعتا الطواف مع إمكان تأخير الطواف، فما يفوت أولى أن يجوز.

وطائفة من أصحابنا يجوّزون قضاء السنن الرواتب دون غيرها؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم قضى ركعتي الظهر، ورُوي عنه أنه رَخَّص في قضاء ركعتي الفجر، فيقال: إذا جاز قضاء السنة الراتبة مع إمكان تأخيرها، فما يفوت كالكسوف، وسجود التلاوة، وتحية المسجد أولى أن يجوز، بل قد ثبت بالحديث الصحيح قضاء الفريضة في هذا الوقت، مع أنه قد يُستحب تأخير قضائها، كما أخّر النبيّ صلى الله عليه وسلم قضاء الفجر لَمّا نام عنها في غزوة خيبر، وقال:"إن هذا وادٍ حضرنا فيه الشيطان"، فإذا جاز فعل ما يمكن تأخيره، فما لا يمكن، ولا يستحب تأخيره أولى. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ يؤيّد ما أسلفته من ترجيح القول بجواز ذوات الأسباب، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه -تعالى- أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1921]

(826) - (وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، جَمِيعًا عَنْ هُشَيْمٍ، قَالَ دَاوُدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

"الفتاوى الكبرى" 2/ 494 - 495.

ص: 575

مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ أَحَبَّهُمْ إِلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) بالتصغير الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ) الصائغ البغداديّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10] من أفراد المصنّف رحمه الله تقدم في "الحيض" 10/ 748.

3 -

(هُشَيْمُ) بن بشير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم -بمعجمتين- الواسطيّ، ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(منصورُ) بن زاذان -بزاي، وذال معجمة- الواسطيّ، أبو المغيرة الثّقَفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 129) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1019.

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يدلّس، وهو رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

6 -

(أَبُو الْعَالِيَةِ) رُفَيع -بالتصغير- ابن مِهْران، أبو العالية الرياحيّ -بكسر الراء، والتحتانية- ثقةٌ كثير الإرسال [2] مات سنة تسعين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 425.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد اللَّه البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

8 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين أيضًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنهم ما بين بغداديين، وهما شيخاه، وواسطيين وهما هشيم ومنصور، وبصريِّينَ وهم قتادة، وأبو العا لية، وابنُ عباس، ومدنيّ، وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

ص: 576

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة أنه (قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ) هو: الرِّياحيّ -بالياء التحتانية- رُفَيع بن مهران، قال الحافظ رحمه الله: وقع مُصَرحًا به عند الإسماعيليّ من رواية غندر، عن شعبة. انتهى.

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (وَكَانَ أَحَبَّهُمْ إِلَيَّ) جملة "كان" معترضة بين العامل ومعموله، ولفظ البخاري:"شَهِدَ عندي رجال مرضيُّون، وأرضاهم عندي عمر".

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: في هذا الحديث ردّ على الرافضة فيما يدّعونه من المباينة بين أهل البيت، وأكابر الصحابة رضي الله عنهم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": لَمْ يقع لنا تسمية الرجال الذين حَدَّثوا ابنَ عباس بهذا الحديث، وبلغني أن بعض من تكلم على "العمدة" تجاسر، وزعم أنهم المذكورون فيها عند قول مصنفها: وفي الباب عن فلان، وفلان. ولقد أخطأ هذا المتجاسر خطأ بَيّنًا، فلا حول ولا قوة إلَّا باللَّه. انتهى

(2)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ) أي: بعد أداء صلاة الصبح؛ لأنه لا جائز أن يكون الحكم فيه متعلقًا بالوقت، إذ لا بد من أداء الصبح، فتعيّن التقدير المذكور، أفاده في "الفتح".

(حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ، كلاهما عن قتادة التالية:"حتى تُشْرِقَ الشمس"، وكذا هو عند البخاريّ، قال في "الفتح": بضم أوله من أشرق، يقال: أشرقت الشمس: ارتفعت، وأضاءت، قال الحافظ: ويؤيده حديث أبي سعيد بلفظ: "حتى ترتفع الشمس"،

(1)

"إحكام الإحكام" 2/ 75 بنسخة "العدّة".

(2)

"الفتح" 2/ 71.

ص: 577

ويروى بفتح أوله، وضم ثالثه بوزن تَغْرُبَ، يقال: شَرَقَت الشمس: أي: طلعت.

ويجمع بين روايتي الطلوع والإشراق بأن المراد بالطلوع طلوع مخصوص، أي: حتى تطلع مرتفعةً، أفاده في "الفتح".

(وَ) نهى أيضًا عن الصلاة (بَعْدَ الْعَصْرِ) أي: سد أداء صلاة العصر (حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ") قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "نَهَى عن الصلاة بعد الصبح" أي: بعد صلاة الصبح، و"بعد العصر" أي: بعد صلاة العصر، فإن الأوقات المكروهة على قسمين:

[منها]: ما تتعلق الكراهة فيه بالفعل، بمعنى أنه إن تأخر الفعل لَمْ تُكره الصلاة قبله، وإن تقدم في أول الوقت كُرهت، وذلك في صلاة الصبح، وصلاة العصر، فعلى هذا يَختَلف وقت الكراهة في الطول والقصر.

[ومنها]: ما يتعلق فيه الكراهة بالوقت، كطلوع الشمس إلى الارتفاع، ووقت الاستواء، ولا يحسن أن يكون في هذا الحديث الحكم مُعَلَّقًا بالوقت، بل لا بد من أداء صلاة الصبح، وصلاة العصر، فتعيّن أن يكون المراد بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر.

قال: وهذا الحديث معمول به عند فقهاء الأمصار، وعن بعض المتقدمين، والظاهرية فيه خلافٌ من بعض الوجوه. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1921 و 1922](826)، و (البخاريّ) في (581)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1276)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(562)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1250)، و (أحمد) في "مسنده" (1/

(1)

"إحكام الإحكام" 1/ 150.

ص: 578

18 و 20 و 39 و 50 و 51)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1123 و 1124 و 1125 و 1126)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1868 و 1869)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1922]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ (ع) وَحَدَّثَنِي

(1)

أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ (ع) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سَعِيدٍ وَهِشَامٍ:"بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شَدّاد، أبو خثيمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وهو ابن أربع وسبعين (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فَرُّوخ التميميّ، أبو سعيد القطان البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدْوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج رحمه الله، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِي) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

5 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(سَعِيدُ) بن أبي عَرُوبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيفُ، كثير التدليس، واختَلَطَ، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

7 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 579

8 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) بن أبي عبد اللَّه الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ، رُبّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

9 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر، وزانُ جعفر، أبو بكر البصريّ الدّستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](154) وله ثمان وسبعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

10 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة، ذُكر قبله.

وقوله: (حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بضم التاء، وكسر الراء، وهكذا أشار إليه القاضي عياض في "شرح مسلم"، وضبطناه أيضًا بفتح التاء، وضم الراء، وهو الذي ضبطه أكثر رواة بلادنا، وهو الذي ذكره القاضي عياض في "المشارق"، قال أهل اللغة: يقال: شَرَقَت الشمسُ تَشْرُق: أي: طلَعَت، على وزن طَلَعَت تَطْلُعُ، وغَرَبت تَغْرُب، ويقال: أشَرَقَت تُشْرِقُ: أي: ارتفعت، وأضاءت، ومنه قوله تعالى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]؛ أي: أضاءت، فمن فتح التاء هنا احتَجّ بأن باقي الروايات قبل هذه الرواية وبعدها:"حتى تطلُع الشمس"، فوجب حمل هذه على موافقتها، ومن قال بضم التاء احتَجَّ له القاضي بالأحاديث الأُخَر في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، والنهي عن الصلاة إذا بدا حاجب الشمس حتى تَبْرُز، وحديث "ثلاثُ ساعاتٍ. . . " وفيه:"حين تطلُع الشمس بازغَةً حتى ترتفع"، قال: وهذا كله يبيّن أن المراد بالطلوع في الروايات الأُخَر ارتفاعها وإشراقها وإضاءتها، لا مجرد ظهور قُرْصها، وهذا الذي قاله القاضي صحيحٌ متعينٌ، لا عدول عنده؛ للجمع بين الروايات. انتهى كلام النوويُّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ) الضمير لشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وهشام الدستوائيّ؛ يعني: أن كل هؤلاء الثلاثة رووا عن قتادة، بإسناده الماضي، وهو: عن أبي العالية، عن ابن عبّاس، عمن حدّثه من الصحابة، ومنهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وهو أحبّهم إليه.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن قتادة هذه ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 316) فقال:

ص: 580

(1123)

حدّثنا أبو قلابة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: أخبرني قتادة، قال: سمعت أبا العالية يحدِّث عن ابن عباس، قال: شَهِدَ عندي رجال مرضيون، فيهم عمر، وأرضاهم عندي عمر:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس". انتهى.

وأما رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، فساقها أبو عوانة أيضًا (1/ 317) فقال:

(1125)

حدّثنا أبو عليّ الزعفرانيّ، قال: ثنا عبد الوهاب (ع) وحدّثنا الصغانيّ، قال: ثنا رَوْحُ بن عُبَادة، قالا: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: شهد عندي رجال مرضيون، فيهم عمر، وأرضاهم عندي عمر:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس". انتهى.

وأما رواية هشام الدستوائيّ، عن قتادة، فساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(581)

حدّثنا حفص بن عمر، قال: حدّثنا هشام، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الصلاة بعد الصبح حتى تُشْرِق الشمسُ، وبعد العصر حتى تغرب"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1923]

(827) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ").

ص: 581

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثيُّ) المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107) وقد جاز الثمانين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.

2 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، استُصْغِر بأُحد، ثم شَهِد ما بعدها، ومات بالمدينة سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

والباقون تقدّموا قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثيِّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ) أي: بعد أدائها (حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ) أي: بعد أدائها (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ") قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: "صيغة النفي في ألفاظ الشارع إذا دخلت على فعل، كان الأولى حَمْلُها على نفي الفعل الشرعيّ، لا على نفي الفعل الوجوديّ، فيكون قوله: "لا صلاة بعد الصبح" نفيًا للصلاة الشرعية، لا الحسية، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الظاهر أن الشارع يُطْلِق ألفاظه على عُرْفه، وهو الشرعيّ، وأيضًا فإنا إذا حملناه على الفعل الحسيّ، وهو غير منتفٍ احتجنا إلى إضمار؛ لتصحيح اللفظ، وهو المسمى بدلالة الاقتضاء، وينشأ النظر في أن

ص: 582

اللفظ يكون عامًّا، أو مجملًا، أو ظاهرًا في بعض المحامل، أما إذا حملناه على نفي الحقيقة الشرعية لَمْ نَحتج إلى إضمار، فكان أولى.

ومن هذا البحث يُطَّلَع على كلام الفقهاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلَّا بوليّ"، فإنك إذا حملته على الحقيقة الشرعية لَمْ تحتج إلى إضمار، فإنه يكون نفيًا للنكاح الشرعيّ، وإن حملته على الحقيقة الحسية، وهي غير منتفية عند عدم الوليّ حسًّا احتجت إلى إضمار، فحينئذ يُضْمِر بعضهم الصحة، وبعضهم الكمال، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صيام لمن لم يُبَيِّت الصيام من الليل". انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

وقال في "الفتح": وحَكَى أبو الفتح اليَعْمُريّ عن جماعة من السلف أنهم قالوا: إن النهي عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر إنما هو إعلام بأنهما لا يُتَطَوَّع بعدهما، ولم يقصد الوقت بالنهي، كما قَصَدَ به وقت الطلوع، ووقت الغروب.

قال: ويُؤَيِّد ذلك ما رواه أبو داود، والنسائيّ في سناد حسنٍ

(2)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصَلُّوا بعد الصبح، ولا بعد العصر، إلَّا أن تكون الشمس نقيَّة"، وفي رواية:"مرتفعةً".

فدَلَّ على أن المراد بالبعدية ليس على عمومه، وإنما المراد وقت الطلوع، ووقت الغروب، وما قاربهما واللَّه أعلم. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: لفظ البخاريّ في هذا الحديث: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس"، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وفي هذا الحديث زيادة على الأول -يعني حديث عمر رضي الله عنه فإنه مدّ الكراهة إلى ارتفاع الشمس، وليس المراد مطلق الارتفاع عن الأفق، بل الارتفاع الذي تزول عنده صفرة الشمس أو حمرتها،

(1)

"إحكام الإحكام" 1/ 151.

(2)

تقدّم أنه سند صحيح، وفيه وهب بن الأجدع، وهو تابعيّ روى عنه هلال بن يساف، والشعبيّ، ووثقه ابن حبّان والعجليّ، ولم يتكلم فيه أحد، فهو ثقةٌ، فتنبّه.

(3)

"الفتح" 2/ 74.

ص: 583

وهو مقدَّر بقدر رُمْحٍ أو رمحين. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1923](827)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(586) و"فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"(1188 و 1197) و"كتاب جزاء الصيد"(1864) و"الصوم"(1992 و 1995)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(567 و 568)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1128)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1870)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1924]

(828) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَتَحَرَّى

(2)

أَحَدُكُمْ، فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوَعِ الشَّمْسِ، وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(نَافِعٌ) أبو عبد اللَّه المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

2 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدويّ أبو عبد الرحمن الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقيان ذُكرا في الباب.

(1)

"إحكام الإحكام" 1/ 151.

(2)

وفي نسخة: "لا يتحَرَّ".

ص: 584

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، كما تقدّم غير مرّة، وهو (120) من رباعيات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلَّا شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصح الأسانيد على الإطلاق عند الإمام البخاريُّ، كما أخرجه الحاكم عنه، وروى الخطيب البغداديّ بسنده عن يحيى بن بكرٍ أنه قال لأبي زرعة الرازيّ: يا أبا زرعة ليس ذا زعزعة عن زَوْبعة، إنما ترفع الستر، فتنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة، حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما

(1)

.

5 -

(ومنها): أن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، وُلد بعد المبحث بيسير، واستُصغِر يوم أحد، وهو ابن أربع عشرة، وكان من أشدّ الناس اتّباعأ للأثر، رَوَى (2630) حديثًا، واللَّه -تعالى- أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ) كذا في معظم النسخ "يَتَحَرَّى" بإثبات الألف، ووقع في بعضها بلفظ:"لا يتحرَّ" بحذف الألف، وهو الذي في نسخة "شرح الأبّيّ".

وقال في "الطرح": قوله: "لا يتحرى" وكذا وقع في "الموطأ" و"الصحيحين" بإثبات الألف، وكان الوجه حذفها؛ ليكون علامة جزمه، ولكن الإثبات إشباع، فهو على حد قوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]، فيمن قرأ بإثبات الياء. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "تدريب الراوي" 1/ 78.

(2)

"طرح الثثريب" 2/ 182.

ص: 585

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأولى من دعوى الإشباع أن تكون "لا" نافية، والفعل مرفوع، وهو خبر، فيكون النفي بمعنى النهي المؤكّد؛ لأن النفي المستفاد من النهي آكد، كما أسلفناه غير مرّة.

قال السهيليّ رحمه الله: يجوز الخبر عن مستقرّ أمر الشرع؛ أي: لا يكون إلَّا هذا. انتهى

(1)

.

وأما حذفها، فتكون "لا" فيه ناهية، والفعل مجزوم بها، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "الكاشف": "لا يتحرّى" نفي بمعنى النهي، يقال: فلان يتحرّى الأمرَ: أي: يتوخّاه ويقصده، ومن الحرَى اشتُقّ التحريّ في الأماكن ونحوها، وهو طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظنّ، كما اشتُقّ التقمّنُ من القَمَن، ولفظ الحديث يَحْتَمل وجهين: التحرّي بمعنى التوخّي والقصد؛ أي: لا يقصد الوقت الذي تطلع فيه الشممس، أو تغرب، ويتوخّاه، فيصلي فيه، والآخر: التحرّي بمعنى طلب ما هو أحرى بالاستعمال؛ أي: لا يصلّي في ذلك الوقت ظنًّا منه أنه قد عَمِل بما هو الأحري، والأول أوجه، وأبلغ في معنى المراد. انتهى

(2)

.

(فَيُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا) قال في "الفتح": بنصب "يُصَلِّي"، والمراد نفي التحرّي والصلاة معًا، ويجوز الرفع: أي: لا يتحرَّى أحدكم الصلاة في وقت كذا، فهو يصلي فيه، وقال ابن خروف: يجوز في "فيصلي" ثلاثة أوجه: الجزم على العطف؛ أي: لا يتحرَّ، ولا يصلِّ، والرفع على القطع؛ أي: لا يتحرَّي، فهو يصلي، والنصب على جواب النهي، والمعنى: لا يتحرَّى مصليًا.

وقد وقع في رواية القعنبيّ في "الموطأ": "لا يتحرَّى أحدكم أن يصلي"، ومعناه: لا يتحرى الصلاة، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 73.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1117.

(3)

"الفتح" 73 - 74.

ص: 586

وقال الطيبيّ: قوله: "فيصلي" نصب على إضمار "أن" وهو جواب النهي، ويجوز أن يتعلّق بالفعل المنهيّ عنه أيضًا، فالفعل المنهيّ معلّلٌ في الأول، والفعل المعلّل منهيّ في الثاني، أما تقدير الثاني: فلا يتحرّى أحدكم فِعلًا يكون سببًا لوقوع الصلاة في زمان الكراهية، وعلى الأول كأنه لَمّا قيل:"لا يتحرّى أحدكم"، قيل: لماذا نهينا عن ذلك؛ فقيل: خِيفة أن تصلُّوا أوان الكراهية. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1924 و 1925](828) و [52/ 926](829)، (والبخاريّ) في "المواقيت"(585) و (589) و"فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة"(1192) و"الحجّ"(1629) و"بدء الخلق"(3272)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1415)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(563 و 564) و"الكبرى"(1546)، و (الحميديّ) في "مسنده"(666)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 13 و 19 و 24 و 29 و 33 و 36 و 63 و 106)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1273)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1130 و 1131 و 1132)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1871 و 1872 و 1873)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1925]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ع) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ

(2)

، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَلَا غُرُوبَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ شَيْطَانٍ").

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1117.

(2)

وفي نسخة: "أن ابن عمر".

ص: 587

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب أيضًا.

4 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل بابين.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.

6 -

(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير بن العوّام الأَسَديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلس [5](ت 5 أو 146) وله سبع وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

7 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم قبل بابين.

8 -

(ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما ذُكر قبله.

وقوله: (لَا تَحَرَّوْا) أصله لا تتحرّوا بتاءين، حُذفت إحداهما تخفيفًا، كقوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقوله:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وقوله:{تَصَدَّى} [عبس: 6]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يَقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

وقوله: (فَإِنَّهَا تَطْلُعُ) تقدّم أنه بضمّ اللام، من باب قعد (بِقَرْنَيْ شَيْطَانٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "بقرني شيطان" في حديث ابن عمر، وفي حديث عمرو بن عَبَسَة:"بين قرني شيطان"، قيل: المراد بقرني الشيطان حزبه وأتباعه، وقيل: قُوّته وغلبته، وانتشار فساده، وقيل: القرنان ناحيتا الرأس، وأنه على ظاهره، وهذا هو الأقوى، قالوا: ومعناه أنه يُدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات؛ ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، وحينئذ يكون له ولبنيه تسلط ظاهر، وتمكّن من أن يُلَبِّسوا على المصلين صلاتهم، فكُرهت الصلاة حينئذ؛ صيانةً لها، كما كُرهت في الأماكن التي هي مأوى الشيطان.

وفي رواية لأبي داود، والنسائيّ في حديث عمرو بن عَبَسَة:"فإنها تطلُع بين قرني شيطان، فيصلي لها الكفار".

وفي بعض أصول مسلم في حديث ابن عمر هنا: "بقرني الشيطان" بالألف واللام.

ص: 588

وسُمِّي شيطانًا؛ لتَمَرُّده وعُتُوِّه، وكلُّ ماردٍ عاتٍ شيطانٌ.

والأظهر أنه مُشتقّ من شَطَنَ: إذا بَعُدَ؛ لبعده من الخير والرحمة، وقيل: مشتق من شاط: إذا هلك واحترق. انتهى كلام النوويُّ رحمه الله

(1)

.

وقال الخطابيّ رحمه الله: اختلفوا في تأويله على وجوه: فقال قائل: معناه مقارنة الشيطان الشمس عند دنوّها للغروب على معنى ما رُوي: "إن الشيطان يقارنها إذا طلعت، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها"، فحُرِّمت الصلاة في هذه الأوقات لذلك، وقيل: معنى قرن الشيطان قوّته من قولك: أنا مُقْرِن لهذا الأمر؛ أي: مطيق له، قويّ عليه، قال اللَّه تعالى:{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13]: أي: مطيقين، وذلك أن الشيطان إنما يَقْوَى أمره في هذه الأوقات؛ لأنه يُسَوّل لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات الثلاثة.

وقيل: قرنه حزبه، وأصحابه الذين يعبدون الشمس، يقال: هؤلاء قرنٌ؛ أي: نَشْءٌ جاؤوا بعد قرن مضى.

وقيل: إن هذا تمثيل وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم، وتسويفه، وتزيينه ذلك في قلوبهم، وذوات القرون إنما تُعالج الأشياء، وتدفعها بقرونها، فكأنهم لما دَفَعُوا الصلاة وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرَّت الشمس، صار ذلك منهم بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون وتدافعه، بأرواقها، واللَّه أعلم.

وفيه خامس قاله بعض أهل العلم، وهو أن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها، وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه، وهما جانبا رأسه، فينقلب سجود الكفار عبادةً له. انتهى كلام الخطابيّ رحمه الله

(2)

.

وهذا الوجه الخامس هو الراجح، كما سبق ترجيح النوويُّ رحمه الله له؛ لكونه أوفق لظاهر النصّ، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

وقال ابن قُتيبة رحمه الله في "تأويل مختلف الحديث" في الردّ على من أنكر

(1)

"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 6/ 112.

(2)

من نسخة "عون المعبود" 2/ 60.

ص: 589

الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس؛ لطلوعها بين قرني الشيطان: قال:

فَكَرِه لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نصلي في الوقت الذي يَسْجُد فيه عَبَدَة الشمس للشمس، وأعلمنا أن الشياطين حينئذ، أو أن إبليس في ذلك الوقت في جهة مطلع الشمس، فهم يسجدون له بسجودهم للشمس، ويَؤُمُّونه، ولم يُرِدْ بالقرن ما تَصَوَّروا في أنفسهم من قرون البقر، وقرون الشاء، وإنما القرن ههنا حرف الرأس، وللرأس قرنان؛ أي: حرفان وجانبان، ولا أرى القرن الذي يطلع في ذلك الموضع سُمِّي قرنًا إلَّا باسم موضعه، كما تسمي العرب الشيءَ باسم ما كان له موضعًا أو سببًا، فيقولون رَفَعَ عَقِيرته، يريدون صوته؛ لأن رجلًا قُطِعت رجله فرفعها، واستغاث من أجلها، فقيل لمن رفع صوته: رفع عقيرته، ومثلُ هذا كثير في كلام العرب، وكذلك قوله في المشرق:"من ههنا يطلع قرن الشيطان"، لا يريد به ما يَسْبِق إلى وهم السامع من قرون البقر، وإنما يريد: من ههنا يطلع رأس الشيطان.

وكان وهب بن منبّه يقول في ذي القرنين: إنه رجل من أهل الإسكندرية، واسمه الإسكندروس، وأنه كان حَلَمَ حُلْمًا رأى فيه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقَصَّ رؤياه على قومه، فسَمَّوه ذي القرنين، وأراد بأخذه بقرنيها أنه أخذ بجانبيها.

والقرون أيضًا خُصَل الشعر، كل خُصْلة قَرْن، ولذلك قيل للروم: ذات القرون، يراد أنهم يطوّلون الشعور، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا أن الشيطان في وقت طلوع الشمس، وعند سجود عَبَدَتها لها مائل مع الشمس، فالشمس تجري من قبل رأسه، فأَمَرَنا أن لا نصلي في هذا الوقت الذي يكفر فيه هؤلاء، ويصلّون للشمس وللشيطان، وهذا أمر مُغَيَّبٌ عنا، لا نعلم منه إلَّا ما عُلِّمنا، والذي أخبرتك به شيء يحتمله التأويل، ويباعده عن الشناعة، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن قتيبة رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق أن أرجح التأويل في

(1)

"تأويل مختلف الحديث" 1/ 125 - 126.

ص: 590

هذا الحديث أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "بين قرني شيطان" على ظاهره، وأنه يدني رأسه للشمس في تلك الأوقات حتى تقع عبادة الشمس له، وهذا معنى ظاهر ملائم للنصّ، بل منصوص عليه، وكذا نصّ أيضًا بأن في نصف النهار تُسجر جهنم، فلا ينبغي العدول عما جاء عن الشارع من التعليل إلى التكلّفات بالتأويلات المظنونة.

ومن الغريب ما نقله الصنعانيّ في "حاشية العمدة" عن ابن عبد السلام أنه قال: لَمْ أقف على معنى كراهة الصلاة في الأوقات الخمس، ولا على معنى التعليل بطلوعها بين قرني الشيطان، ومقاربتها إياه في الاستواء، والتضيّف للغروب، وقد عُلّل ذلك بأن عُبّادها يصلّون في هذه الأوقات، وهذا لا يصحّ. إلى آخر كلامه

(1)

.

وهذا أمر غريب، فهل هناك توضيح من أكثر توضيح النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعليله النهي عن الصلاة في هذه الأوقات بطلوع الشمس بين قرني الشيطان، وبكون الكفّار يسجدون لها حينئذ، فنهى عن التشبّه بهم في تلك الأوقات؟، فهذا أوضح تعليل، وأبين معنى للنهي المذكور، فتأمله تجده أوضح كالشمس، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وتخريجه في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1926]

(829) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ع) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَابْنُ بِشْرٍ

(3)

، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا بَدَا حَاجِبُ

(1)

راجع: "العدّة حاشية العمدة" 2/ 81.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "ومحمد بن بشر".

ص: 591

الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ").

هذا الإسناد هو الإسناد الماضي بعينه.

وقوله: (إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ)"بدا" هنا غير مهموز، ومعناه: ظهر، و"حاجب الشمس": كناية عن طرفها الذي يبدو أَوّلًا، وقال القرطبيّ: حاجب الشمس: أول ما يبدو منها في الطلوع، وهو أول ما يغيب منها. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى تَبْرُزَ) بالتاء المثنّاة فوقُ: أي: حتى تصير الشمس بارزةً ظاهرةً، والمراد أن ترتفع، ويخرج وقت كراهة الصلاة، بأن تكون قدر رمح، كما سبق تحقيقه.

والحديث متّفقٌ عليه، كما تقدّم الكلام قبله، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1927]

(830) - (وَحَدَّثَنَا

(2)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ خَيْرِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ، فَقَالَ:"إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم"

(3)

، فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ، وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

(1)

"المفهم" 2/ 457 - 458.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(3)

وفي نسخة: "على من قبلكم".

ص: 592

3 -

(خَيْرُ بْنُ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ) هو: خَيْر بن نُعَيم بن مرة بن كُريب، أبو نعيم، ويقال: أبو إسماعيل الحضرميّ المصريّ، القاضي بمصر وببَرْقَة، صدوقٌ فقيهٌ [6].

رَوَى عن عبد اللَّه بن هُبيرة، وسهل بن مُعَلَّى بن أنس، وأبي الزبير، وعطاء، وغيرهم.

ورَوَى عنه عمرو بن الحارث، وابن لَهِيعة، والليث، ويزيد بن أبي حبيب، وسعيد بن أبي أيوب، في آخرين.

قال أبو زرعة: صدوقٌ لا بأس به، وقال أبو حاتم: صالحٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ضمام بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي حبيب: ما أدركت من قُضاة مصر أفقه منه.

وقال ابن يونس: تُوُفِّي سنة (137).

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث، وله عند النسائيّ حديثان: هذا، وحديث في قوله تعالى:{وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 2].

[تنبيه]: "الْحَضْرَميّ": -بفتح أوله، والراء، وسكون المعجمة- نسبة إلى حضرموت، بلد بأقصى اليمن، وقبيلة، قاله في "لب اللباب" 1/ 249.

4 -

(ابْنُ هُبَيْرَةَ) هو: عبد اللَّه بن هُبيرة بن أسعد بن كهلان السَّبئيّ -بفتح المهملة والموحدة، ثم همزة مقصورة- الحضرميّ المصريّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن مَسْلَمة بن مُخَلَّد، وعبد الرحمن بن غَنْم، وأبي تَمِيم الْجَيشانيّ، وعبد الرحمن بن جُبير، وبلال بن عبد اللَّه بن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم.

ورَوَى عنه بكر بن عمرو، وحيوة بن شُريح، وخير بن نُعَيم، وابن لَهِيعة، وجماعة.

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ، وقال أبو داود: معروفٌ، ووثقه يعقوب بن سفيان، وذكره ابن حبان في "الثقات".

ص: 593

وفي "صحيح مسلم"

(1)

من طريق ابن إسحاق: حدّثني يزيد، عن خير بن نُعَيم، عن عبد اللَّه بن هُبيرة، وكان ثقةً.

وقال ابن يونس: وُلد سنة الجماعة، ومات سنة ست وعشرين ومائة.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

5 -

(أَبُو تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيُّ) -بجيم، وياء ساكنة، بعدها معجمة- عبد اللَّه بن مالك بن أبي الأسحم -بمهملتين- مشهور بكنيته الرُّعَينيّ المصريّ، أصله من اليمن، وُلِد هو وأخوه سيف في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهاجر زمن عمر رضي الله عنه، ثقةٌ مخضرمٌ [2].

رَوَى عن عمر، وعليّ، ومعاذ بن جبل، وأبي بَصْرَة، وأبي ذر الغفاريين، وقيس بن سعد بن عُبادة، وعقبة بن عامر الجهنيّ.

ورَوى عنه عبد اللَّه بن هُبيرة، وبكر بن سَوَادة، وجعفر بن ربيعة، وأبو الخير مَرْثَد بن عبد اللَّه، وكعب بن علقمة التَّنُوخيّ، وغيرهم.

قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد: كان من أعبد أهل مصر، وقال أبو يونس: قرأ القرآن على معاذ باليمن، وشَهِدَ فتح مصر، وذكره يعقوب بن سفيان في جملة الثقات عن أهل مصر، وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ، مات قديمًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره الدُّولابيّ في الصحابة من "كتاب الكنى"، ولعل ذلك لإدراكه.

وقال ابن يونس: مات سنة سبع وسبعين.

أخرج له المصنّف، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: لَمْ يُعْلِم له المزيّ علامة البخاريّ، وقد أخرج له أثرًا، من رواية أبي الخير اليزنيّ عنه، وهو في الصلاة، وقد ذكره المزيّ في

(1)

هو السند التالي لهذا الحديث رقم [1928].

ص: 594

"الأطراف" في ترجمة أبي الخير، عن عقبة بن عامر. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: "الجَيْشانيّ" -بفتح أوله، والمعجمة- نسبة إلى جيشان قبيلة من اليمن، وموضع. انتهى. "لب اللباب" 1/ 229.

6 -

(أَبُو بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ) هو: حُمَيل -مثلُ حُمَيد، لكن آخره لام، وقيل: بفتح أوله، وقيل: بالجيم- ابن بَصْرة -بفتح الموحدة- ابن وَقّاص بن حاجب بن غِفَار، أبو بصرة الغِفَاريّ الصحابيّ، سكن مصر، ومات بها.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه.

ورَوَى عنه عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وأبو الخير مَرْثَد الْيَزَنيّ، وعبد الرحمن بن شِمَاسة، وأبو تميم الجيشانيّ، وغيرهم.

قال ابن يونس: شَهِد فتح مصر، واختطّ بها، ومات بها، ودُفن في مقبرتها.

[تنبيه]: وقع في اسم أبي بصرة اختلاف، قيل: حَمِيل -بفتح الحاء- قاله الدراوَرْديّ في روايته، وذكر ابن المدينيّ عن بعض الْغِفاريين أنه تصحيف، وذكر البخاريّ أنه وَهَمٌ.

وقيل: حُمَيل بالضمّ، وعليه الأكثر، وصححه ابن المدينيّ، وابن حبان، وابن عبد البرّ، وابن ماكولا، ونَقَل الاتفاق عليه وغيرهم.

وقيل: جَمِيل بالجيم، قاله مالك في حديث أبي هريرة حين خرج إلى الطور، وذكر البخاريّ، وابن حبان أنه وَهَمٌ.

وقيل: اسمه زيد، حكاه الباروديّ، وقد قيل فيه: بصرة بن أبي بصرة، كأنه قلب، قاله في "التهذيب"

(2)

. واللَّه أعلم

أخرج له البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (830)، وحديث (2543):"إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط. . . " الحديث.

[تنبيه]: "الغفاريّ": بالكسر، وتخفيف الفاء، وراء: نسبة إلى غفار بن

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 414.

(2)

"تهذيب التهذيب" 1/ 502.

ص: 595

مليك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. انتهى. "لب اللباب" 2/ 134، واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، إلَّا شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل مصر.

3 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: ابن هُبَيرة، عن أبي تَميم.

4 -

(ومنها): أن خير بن نعيم، وابن هُبَيرة، وأبا تَمِيم، وأبا بَصْرة، هذا الباب أول محل ذكرهم، وليس لهم في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث، إلَّا أبا بصرة، فله حديث آخر، كما أسلفته آنفًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَصْرَةَ) بالموحّدة، والصاد المهملة، تقدّم الخلاف في اسمه آنفًا (الْغِفَارِيِّ) أنه (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ) -بميم مضمومة، وخاء معجمة مفتوحة، ثم ميم مفتوحة مشدّدة، وقيل: بميم مفتوحة، وخاء ساكنة، وميم مكسورة بعدها، وفي آخرها صاد مهملة-: اسم موضع معروف

(1)

.

وفي "القاموس" وشرحه: و"المَخْمِص"، كَمَنْزِل، وضبطه الصاغاني، كمَقْعَد: اسم طريق في جبل عَيْرٍ إلى مكة -حرسها اللَّه تعالى-.

وقد جاء ذكره في الحديث، قال أبو صَخْرٍ الْهُذَلِيّ [من الطويل]:

فَجَلَّلَ ذَا عَيْرٍ وَوَالَى رهَامُهُ

وَعَن مَخْمِصِ الْحَجَّاجِ لَيْسَ بِنَاكِبِ

انتهى

(2)

.

وعند أحمد من طريق ابن لَهِيعة، عن ابن هُبَيرة:"صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في واد من أوديتهم، يقال له المخمص صلاة العصر".

(1)

"شرح النووي" 6/ 113، و"مرقاة المفاتيح" 3/ 476.

(2)

"القاموس" وشرحه 4/ 390.

ص: 596

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم، ولأحمد "فلما انصرف قال":("إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ) أي: صلاة العصر (عُرِضَتْ) بالبناء للمفعول، يقال: عَرَضَ عليه الشيءَ: أراه إِيَّاه

(1)

. (عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) وفي نسخة: "على من قبلكم"؛ أي: اليهود، والنصارى قاله القاري (فَضَيَّعُوهَا) أي: لَمْ يقوموا بحقّها، وما حافظوا على مراعاتها، فأهلكهم اللَّه تعالى، فاحذروا أن تكونوا مثلهم، ولذا قال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]؛ أي: العصر على الصحيح، خصت بالمحافظة، قاله القاري.

وفي رواية لأحمد: "فَتَوَانَوْا فيها، وتَرَكُوها".

(فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا) ولأحمد: "فمن صلاها منكم"(كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ) إحداهما: للمحافظة عليها، خلافًا لمن قبلهم، والثانية أجر عمله كسائر الصلوات، قاله الطيبيُّ رحمه الله، أو أجر للمحافظة على العبادة، وأجر لترك البيع والشراء بالزَّهَادة، فإن وقت العصر كان زمان سوقهم، وأوان شغلهم، وقال ابن حَجَرٍ الهَيْتَمِيّ: مرةً لفضلها؛ لأنَّها الوُسْطَى، ومرة للمحافظة عليها، ومشاركةُ بقية الصلوات لها في هذا لا يؤثر في تخصيصها بمجموع الأمرين، قاله في "المرقاة"

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الطيبيُّ رحمه الله أظهر، فتأمل، واللَّه أعلم.

(وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا) أي: بعد صلاة العصر (حَتَّى يَطْلُعَ) تقدّم أنه بضمّ اللام، من باب قعد (الشَّاهِدُ، وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ") مبتدأ وخبره، سُمِّي شاهدًا؛ لأنه يَشْهَدُ الليلَ؛ أي: يَحْضُر ويظهر فيه، ومنه قيل لصلاة المغرب: صلاة الشاهد، ويجوز أن يُحْمَل على الاستعارة، شُبِّهَ النجمُ عند طلوعه دليلًا على وجود الليل بالشاهد الذي تَثبتُ به الدَّعَاوِي، قاله الطيبيُّ رحمه الله

(3)

.

وقال في "اللسان": ورَوَى شَمِر فِي حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه: أنه ذكر صلاة العصر، ثم قال: ولا صلاة بعدها حتى يُرَى الشاهد، قال: قلنا لأبي أيوب: ما الشاهد؟ قال: النجم، كأنه يَشْهَدُ في الليل؛ أي: يَحْضُرُ،

(1)

راجع: "القاموس" 1/ 832.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 3/ 139.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1124.

ص: 597

ويَظهَرُ، وصلاةُ الشاهد: صلاة المغرب، وهو اسمها، قال شَمِر: هو راجع إلى ما فسره أبو أيوب أنه النجم.

وقال غيره: وتسمى هذه الصلاة صلاة البَصَرِ؛ لأنه تُبْصَر في وقته نجوم السماء، فالبَصَرُ يدرك رؤية النجم، ولذلك قيل له: صلاة البصر.

وقيل في صلاة الشاهد: إِنَّها صلاة الفجر؛ لأن المسافر يُصَلّيها كالشاهد، لا يَقْصُرُ منها، قال [من الرجز]:

فَصَبَّحَتْ قَبْلَ أَذَانِ الأوَّلِ

تيْمَاءَ وَالصُّبْحُ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ

قَبْلَ صَلاةِ الشَّاهِدِ الْمُسْتَعْجِلِ

ورُويَ عن أبي سعيد الضرير أنه قال: صلاة المغرب تسمى شاهدًا؛ لاستواء المقيم والمسافر فيها، وأنها لا تقصر. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: اختلف العلماء في تأويل قوله: "حتى يطلع الشاهد"، فمنهم من حمله على كراهة التنفّل قبل المغرب حتى تُصلَّي، وهو قول من كَرِهَ ذلك من العلماء، وقال: قوله: "لا صلاة بعدها" إنما هو نهي عن التنفّل بعد العصر، فيستمرّ النهي حتى يُصلِّي المغربَ، فإذا فَرَغ منها جاز التنفّل، وحينئذ تطلُع النجوم غالبًا.

ومنهم: من قال: إنما أراد أن النهي يزول بغروب الشمس، وإنما علّقه بطلوع الشاهد؛ لأنه مظنّةٌ له، والحكم يتعلّق بالغروب نفسه.

ومنهم من زعم أن الشاهد نجم خفيٌّ يراه من كان حديد البصر بمجرّد غروب الشمس، فرؤيته علامة لغروبها.

وزعم بعضهم أن المراد بالشاهد الليل، وفيه بُعْدٌ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: عندي الأظهر والأرجح أنه عَنَى بقوله: "حتى يطلع الشاهد" غروب الشمس؛ وذلك لأن ظهور النجم ورؤيته لا يكون إلَّا بغروبها، وهذا لا ينافي النصوص الثابتة أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بغروب الشمس، كما في "الصحيحين" وغيرهما.

فلا حاجة لتضعيف هذا الحديث بالأحاديث التي دلّت على استحباب

(1)

"لسان العرب" 3/ 240 - 241.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 4/ 355.

ص: 598

التعجيل في المغرب، كما أبداه في "الفتح"، حيث قال: واستُدلّ بهذه الأحاديث على ضعف حديث أبي بصرة الغفاريّ رضي الله عنه رفعه في أثناء حديث: "ولا صلاة بعدها حتى يُرى الشاهد"، والشاهد النجم. انتهى

(1)

.

فإن المراد برؤية الشاهد غروب الشمس، كما قرّرته آنفًا، فلا تنافي بين الأحاديث، فتبصّر.

والظاهر أن الحافظ ما استحضر إخراج مسلم له في "صحيحه"، ولذا لَمْ يتعرّض لإخراجه له، واللَّه تعالى أعلم.

وكذلك لا وجه لاستدلال النسائيِّ رحمه الله بهذا الحديث على تأخير المغرب، وقد أوضحت ذلك في "شرح المجتبى"

(2)

، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

[تنبيه]: قوله: "والشاهِدُ النجم"، يَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا، كما هو ظاهر رواية المصنّف والنسائيّ.

ويَحْتَمِل أن يكون مُدرجًا من أحد الرواة، ويدل عليه ما في "المسند":

(6/ 397) قال عبد اللَّه بن أحمد: حدثني أبي، ثنا يحيى بن إسحاق، قال: أخبرني ابن لَهِيعة، أنا عبد اللَّه بن هُبَيرة، قال: سمعت أبا تميم الجَيْشَاني، عن أبي بَصْرَة الغِفَارِي، قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وادٍ من أوْدِيَتِهِمْ يقال له: المخمص صلاة العصر، فقال:"إن هذه الصلاة صلاةَ العصر عُرِضَت على الذين من قبلكم، فضيعوها، إلا ومن صلاها ضُعِّف له أجره مرتين، إلا ولا صلاة بعدها حتى تَرَوُا الشاهدَ".

قلت لابن لهيعة: ما الشاهد؟ قال: الكوكب، الأعرابُ يُسَمُّون الكوكب شاهد الليل. انتهى

(3)

.

فهذا يدلّ على أن التفسير من ابن لهيعة، وفيه ابن لهيعة؛ وهو متكلم فيه.

وما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" قال: حدّثنا أحمد بن

(1)

"الفتح" 2/ 52.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 7/ 13 - 20.

(3)

"المسند" 6/ 397.

ص: 599

عبد الوهاب بن نَجْدَة الحوطيّ، ثنا أحمد بن خالد الوَهْبي، ثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي تميم الجيشانيّ، عن أبي أيوب الأنصاريّ، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة -يعني: العصر- فرضت على من كان قبلكم، فضيّعوها، فمن حافظ منكم اليوم عليها، أعطي أجرها مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يُرَى الشاهد"؛ يعني: النجم.

فظاهر هذا أنه مدرج، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو معروف بالتدليس، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بصرة الغفاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1927 و 1928](830)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(521)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(1/ 579)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 396 و 397)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 278)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 448 و 2/ 452)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 300)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1874 و 1875)، و (الحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 153)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عِظَم شأن صلاة العصر، وشدّة الحثّ عليها، حيث إنها عُرضت على الأمم السابقة، وأمروا بالمحافظة عليها.

2 -

(ومنها): بيان فضيلة هذه الأمة، حيث إنها قامت بالمحافظة على صلاة لَمْ يقم بها من تقدّمها من الأمم، وهذا فضل من اللَّه عز وجل عظيم، وتوفيقٌ منه جسيم، فله الحمد أوّلًا وآخرًا.

3 -

(ومنها)؛ بيان مضاعفة الأجر لمن حافظ على صلاة العصر مرّتين.

4 -

(ومنها): بيان النهي عن الصلاة بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، ولكن ليس على إطلاقه، فقد صحّ إباحة الصلاة بعد العصر، والشمس بيضاء

ص: 600

مرتفعة، في حديث عليّ رضي الله عنه، وكذا إباحة ذوات الأسباب كما أسلفت تحقيق ذلك كلّه قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1928]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ

(1)

، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ خَيْرِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ السَّبَائِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً، عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

2 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(ابْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطَّلبيّ مولاهم المدنيّ، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق، يُدَلِّس، ورُمِي بالتشيع والقدر، من صغار [5] (ت 150) ويقال: بعدها (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) المصريّ، أبو رجاء، واسم أبيه سُوَيد، ثقةٌ فقيهٌ، يُرْسِل [5](ت 128) وقدَ قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَكَانَ ثِقَةً) الظاهر أنه من كلام خير بن نُعيم.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي: بمثل حديث الليث؛ يعني: أن حديث يزيد بن أبي حبيب، عن خير بن نُعيم مثلُ حديث الليث بن سعد الماضي عنه.

(1)

وفي نسخة: "يعقوب بن إبراهيم بن سعد".

ص: 601

[تنبيه]: رواية يزيد بن أبي حبيب، عن خير بن نُعيم هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(26683)

حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني يزيد بن حبيب، عن خير بن نُعَيم الحضرميّ، عن عبد اللَّه بن هُبَيرة السبائيّ، وكان ثقةً، عن أبي تميم، عن أبي بَصْرة الغِفاريّ، قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فلما انصرف قال:"إن هذه الصلاة عُرِضت على من كان قبلكم، فتَوَانَوْا فيها، وتركوها، فمن صلاها منكم ضُعِّف له أجرها ضعفين، ولا صلاة بعدها حتى يُرَى الشاهد"، والشاهد: النجم. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1929]

(831) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ) بالتصغير ابن رَبَاح -بموحدة- اللَّخْميّ، أبو عبد الرحمن المصريّ، صدوقٌ، ربما أخطأ [7](ت 163) وله نيف وسبعون سنةً (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 42/ 1873.

2 -

(أَبُوهُ) عليّ بن رَبَاح بن قَصِير -ضدّ الطويل- اللخميّ، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقةٌ، والمشهور فيه عُلَيّ بالتصغير، وكان يغضب منها، من كبار [3] مات سنة بضع عشرة ومائة (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 42/ 1873.

3 -

(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ) الصحابي المشهور اختُلِف في كنيته على

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 602

سبعة أقوال، أشهرها أنه أبو حماد، وَليَ إِمْرَة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات رضي الله عنه في قرب الستين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل مصر.

3 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه، وأن عُلَيَّ بن رَبَاح بالضم لا نظير له في هذا الاسم، واللَّه -تعالى- أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ) تقدّم آنفًا أن المشهور تصغيره، وأنه كان يكره ذلك (عَنْ أَبِيهِ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ) بضم الجيم، وفتح الهاء، نسبة إلى جُهَينة، قبيلة من قُضَاعَة

(1)

. (يَقُولُ: ثَلَاثُ سَاعَاتٍ) مبتدأ خبره جملة "كان. . . إلخ"؛ أي: ثلاثة أوقات (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ) هو بإطلاقه يَشمَل صلاة الجنازة؛ لأنَّها صلاة، قاله في "المرعاة".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لكن المراد تأخيرها إلى هذه الأوقات، وتحرِّي أدائها فيها، بدليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَحَرَّى أحدكم، فيصليَ عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها"، متفق عليه، وفي رواية للبخاري:"ولا تَحَيَّنُوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني الشيطان"، فإنه يدلّ على أن المنهي عنه هو القصد للصلاة في هذه الأوقات، لا أداء ما حضر فيها، كالصلاة على الجنازة الحاضرة في تلك الأوقات، فتنبّه، واللَّه -تعالى- أعلم.

(أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا) قال في "المصباح": وقَبَرتُ المَيْتَ، قَبْرًا، من

(1)

راجع: "لب اللباب" 1/ 225.

ص: 603

بابي قَتَلَ وضَرَبَ؛ دَفَنْتُهُ، وأقبرته بالألف: أمرت أنْ يُقْبَرَ، أو جعلت له قبرًا. انتهى. والمَوْتَى، جمع مَيْت.

قال القرطبيّ رحمه الله: رُوي بـ "أو"، وبالواو، وهي أظهر، ويكون مراد النهي الصلاةَ على الجنازة والدفنَ؛ لأنه إنما يكون إثر الصلاة عليها، وأما رواية "أو" ففيها إشكال، إلَّا إذا قلنا: إن "أو" بمعنى الواو، كما قال الكوفيّون. انتهى

(1)

.

وفيه دليلٌ على أن دفن الميت في هذه الأوقات الثلاثة منهي عنه، وإليه ذهب أحمد، وهو الحقّ؛ لظاهر الحديث.

قال السنديّ رحمه الله: ظاهر الحديث كراهة الدفن في هذه الأوقات، وهو قول أحمد، وغيره، ومن لا يقول به يؤَوِّل الحديث بأن المراد صلاة الجنازة على الميت بطريق الكناية؛ للملازمة بين الدفن والصلاة، ولا يخفى أنه تأويل بعيد، لا ينساق الذهن إليه من لفظ الحديث، يقال: قبره: إذا دفنه، ولا يقال: قبره: إذا صلى عليه، قال: والأقرب أن الحديث يميل إلى قول أحمد، وغيره: أن الدفن مكروه في هذه الأوقات. انتهى.

وقال البيهقيّ رحمه الله: نهيه عن القبر في هذه الساعات لا يتناول الصلاة على الجنازة، وهو عند كثير من أهل العلماء محمول على كراهية الدفن في تلك الساعات. انتهى.

قال في "المرعاة": قلت: حمله أبو داود على الدفن الحقيقيّ حيث بوّب عليه في الجنائز: "باب الدفن عند طلوع الشمس، وعند غروبها"، وإليه يظهر ميل النسائيّ، حيث عقد عليه في أثناء أبواب الدفن:"باب الساعات التي نُهِي عن إقبار الموتى فيها"، وحمله ابن ماجه على الصلاة والدفن كليهما، فقد بوَّب عليه في الجنائز:"باب الأوقات التي لا يُصَلَّى فيها على الميت، ولا يُدْفَن"، وحمله الترمذيّ على الصلاة، ولذلك بوَّب عليه:"باب كراهية الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس، وعند غروبها"، وأيَّده بما نُقِل عن ابن المبارك، قال: معنى هذا الحديث: "أو أن نقبر فيهنّ موتانا"؛ يعني: الصلاة

(1)

"المفهم" 2/ 458.

ص: 604

على الجنازة. انتهى. وقد ضعَّف النووي هذا التأويل، وزيَّفه، كالسنديّ، هذا.

وقد علمتَ مما قدمنا أن صلاة الجنازة مكروهة في هذه الأوقات عند مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، واستدَلَّ هؤلاء بحديث عقبة هذا وغيره من الأحاديث المطلقة الدالة على كراهة الصلاة في هذه الساعات خلافًا للشافعيّ، والقول الأول هو الظاهر.

قال الخطابيّ رحمه الله: قول الجماعة أولى؛ لموافقة الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله الإمام الشافعيّ رحمه الله عندي هو الأولى؛ لما عَرَفت من أن الراجح أن ذوات الأسباب لا تُمنَعُ في تلك الأوقات؛ إذ النهي محمول على التحرِّي فيها، في كان ذا سبب، ليس فيه تَحَرٍّ، فتفطن، واللَّه تعالى أعلم.

ثم بيّن تلك الساعات، فذكر الأولى بقوله:

(حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً) أي: طالعةً، ظاهرةً لا يخفى طلوعها، وهي حال مؤكِّدة لعاملها، كما قال في "الخلاصة":

وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أكِّدَا

فِي نَحْوِ لا تَعْثَ فِي الأَرْضِ مُفْسِدَا

(حَتَّى تَرْتَفِعَ) أي: إلى أن ترتفع كرُمح في رأي العين، كما بيّنته رواية عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه عند النسائيّ، بلفظ:"فَدَعِ الصلاةَ حتى ترتفع قِيدَ رمح، ويَذْهَبَ شعاعها".

(وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ) هي شدة الحرّ، وقيل: حَدُّ انتِصَافِ النهار؛ أي: يَقِف، ويستقرّ الظلُّ الذي يَقِفُ عادةً حسب ما يبدو، فإن الظل عند الظهيرة لا يظهر له حركة سريعة، حتى يظهر بِمَرْأى العين أنه واقف، وهو سائر حقيقة.

قال في "المجمع": إذا بلغت الشمس وسط السماء، أبطأت حركتها إلى أن تزول، فيحسب الناظر المتأمل أنها وقفت، وهي سائرة، ولا شكّ أن الظل تابع لها.

والحاصل: أن المراد: وعند الاستواء. وقيل: المراد بقائم الظهيرة

(1)

"المرعاة" 3/ 454 - 455.

ص: 605

الشخص القائم في الظهيرة، فإن الناس في السفر يَقِفُون في هذا الوقت؛ لشدة الحرّ، ليستريحوا.

وقال النوويّ رحمه الله: الظهيرة حال استواء الشمس، ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظلّ في المشرق، ولا في المغرب.

وقال ابن حجر الهيتميّ رحمه الله: الظهيرة: هي نصف النهار، وقائمها، إمَّا الظلّ، وقيامُهُ: وقوفه؛ من قامت به دابته: وقفت، والمراد بوقوفه بطء حركته الناشئُ عن بطء حركة الشمس حينئذ باعتبار ما يظهر للناظر ببادئ الرأي، وإلا فهي سائرة على حالها، وإمَّا القائمُ فيها؛ لأنه حينئذ لا يميل له ظل إلى جهة المشرق، ولا جهة المغرب، وذلك كله كناية عن وقت استواء الشمس في وسط السماء، أفاده في "المرعاة"

(1)

.

(حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ) أي: عن وسط السماء إلى جهة المغرب، وميلها هذا هو الزوال، قال ابن حجر رحمه الله: ووقتُ الاستواء المذكور، وإن كان وقتًا ضيقًا لا يسع صلاة، إلَّا أنه يسع التحريمة، فيحرُم تعمُّد التحريم فيه. انتهى.

ثم ذكر الثالثة بقوله:

(وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ) -بتشديد الياء بعد الضاد المفتوحة، صيغة مضارع، أصله تتضيف بالتاءين، حذفت إحداهما، كـ {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، و {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، أي: تميل، وقيل: هو بسكون الياء بعد الضاد المكسورة، يقال: ضاف يضيف: إذا مال.

وقال في "القاموس": وضاف: مال، كتَضَيَّفَ، وضَيَّفَ، وأضَفْتُهُ: أمَلْتُهُ. انتهى.

وقال التوربشتيّ: أصل الضيف: الميل، يقال: ضِفْتُ إلى كذا: مِلت إليه، وسمّي الضيف ضيفًا، لميله إلى الذي نزل عليه. انتهى.

والمعنى: وحين تميل، وتجنح الشمس (لِلْغُرُوبِ) أي: تبدأ في الغروب (حَتَّى تَغْرُبَ) أي: إلى أن يتكامل غروبها، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "المرعاة" 3/ 455 - 456.

ص: 606

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1929](831)، و (أبو داود)(3192)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(1030)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(560 و 565) وفي "الجنائز"(2013) وفي "الكبرى"(1543) و (1548)، و (ابن ماجه) في إقامة الصلاة" (1519)، و (أحمد) في "مسنده" (4/ 152).

وفوائد الحديث تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1930]

(832) - (حَدَّثَنِي

(1)

أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَمَّارٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -قَالَ عِكْرِمَةُ: وَلَقِيَ شَدَّادٌ أَبَا أُمَامَةَ، وَوَاثِلَةَ، وَصَحِبَ أَنَسًا إِلَى الشَّامِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَضْلًا وَخَيْرًا- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيّ: كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَهُمْ

(2)

يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، فَسَمِعْتُ

(3)

بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفِيًا، جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: "أَنَا نَبِيٌّ"، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: "أَرْسَلَنِي اللَّهُ"، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ"

(4)

،

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

(2)

وفي نسخة: "وأنهم".

(3)

وفي نسخة: "قال: فسمعتُ".

(4)

وفي نسخة: "وأن توحِّد اللَّه، لا تُشرك به شيئًا".

ص: 607

قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: "حُرٌّ وَعَبْدٌ"، قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ، قَالَ:"إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلَا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ، فَأْتِنِي"، قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَكُنْتُ فِي أَهْلِي، فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الْأَخْبَارَ، وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ؟ فَقَالُوا: النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاعٌ، وَقَدْ أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: "نَعَمْ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ"، قَالَ: فَقُلْتُ: بَلَي، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَأَجْهَلُهُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ: "صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَمنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ

(1)

، وَحِينَئِذٍ

(2)

يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ، حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَة مَحْضُورَةٌ، حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ"، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَالْوُضُوءُ حَدِّثْنِي عَنْهُ، قَالَ: "مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ، فَيَتَمَضْمَضُ

(3)

، وَيَسْتَنْشِقُ، فَيَنْتَثِرُ

(4)

، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ، ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إِلَّا

(1)

وفي نسخة: "بين قرني الشيطان".

(2)

وفي نسخة: "فإنه حينئذ".

(3)

وفي نسخة: "فيُمَضمِض".

(4)

وفي نسخة: "فيستنثر".

ص: 608

انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"، فَحَدَّثَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا أُمَامَةَ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ: يَا عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ انْظُرْ مَا تَقُولُ، فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ يُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ؟، فَقَالَ عَمْرٌو: يَا أَبَا أُمَامَةَ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَاقْتَرَبَ أَجَلِي، وَمَا بِي حَاجَةٌ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ

(1)

، لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ مَا حَدَّثْتُ بِهِ أَبَدًا

(2)

، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ)

(3)

نزيل مكة، صدوقٌ

(4)

[11](ت 255)(م) تقدم في "الصلاة" 11/ 886.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن موسى الْجُرَشِيّ -بالجيم المضمومة، والشين المعجمة- أبو محمد اليماميّ، مولى بني أمية، ثقةٌ، له أفراد [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العِجْليّ، أبو عمار اليماميّ، أصله من البصرة، صدوقٌ يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل الستين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

4 -

(شَدَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَمَّارٍ) القرشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ يرسل [4](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1337.

5 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يُدَلِّس ويُرْسِل [5] (ت 132) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

(1)

وفي نسخة: "ولا على رسوله".

(2)

وفي نسخة: "ما حدّثتُ به أحدًا أبدًا".

(3)

بفتح الميم، وإسكان العين المهملة، وكسر القاف: منسوب إلى مَعْقِر، وهي ناحيةٌ باليمن. "شرح النووي" 6/ 114 - 115.

(4)

وقوله في "التقريب": "مقبول" غير مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وهو شيخ مسلم في "صحيحه"، ولم يتكلّم عنه أحد بجرح، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 609

6 -

(أَبُو أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عَجْلان الباهليّ الصحابيّ المشهور، سكن الشام، ومات رضي الله عنه بها سنة (86)(ع) تقدم في "المسافرين" 43/ 874.

7 -

(عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ) هو: عمرو بن عبسة -بموحّدة، ومهملتين مفتوحات- ابن عامر بن خالد بن غاضرة بن عَتّاب بن امرئ القيس بن بهثة بن سُلَيم السُّلَميّ، أبو نَجِيح، وقيل: أبو شُعيب، وقيل غير ذلك في نسبه، أسلم قديمًا بمكة، وكان أخا أبي ذرّ لأمه.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن مسعود، وسهل بن سعد، وأبو أمامة الباهليّ، ومعدان بن أبي طلحة اليعمريّ، وأبو عبد اللَّه الصُّنابحيّ، وغيرهم.

قال الواقديّ: أسلم بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه، حتى مضت بدر، وأُحد، والخندق، والحديبية، وخيبر، ثم قَدِمَ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك المدينة، وقال ابن سعد: يقولون: إنه رابع، أو خامس في الإسلام، وقال أبو نعيم: كان قبل أن يُسلم يَعتزل عبادة الأصنام، وقال الحاكم أبو أحمد: نزل الشام، وقال غيره: مات بِحِمْصَ.

قال الحافظ رحمه الله: وكانت وفاته في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه فيما أظنّ، فإني ما وجدت له ذكرًا في الفتنة، ولا في خلافة معاوية رضي الله عنه.

وذكر في "الخلاصة" أن له ثمانية وأربعين حديثًا، انفرد مسلم بحديث.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، إلَّا مرّة.

شرح الحديث:

(قَالَ عِكْرِمَةُ) بن عمّار رحمه الله (وَلَقِيَ شَدَّادٌ أَبَا أُمَامَةَ) الباهليّ رضي الله عنه، أشار عكرمة رحمه الله بهذا الكلام إلى بيان اتّصال هذا الحديث عن طريق شدّاد بن عبد اللَّه؛ لأنه لقي أبا أمامة رضي الله عنه، وسمع منه، بخلاف طريق يحيى بن أبي

ص: 610

كثير، فإنها منقطعة، لَمْ يسمع من أبي أمامة، بل لَمْ يسمع من صحابيّ أصلًا، إلَّا أنه رأى أنسًا رضي الله عنه رؤيةً، رآه يُصلي في المسجد الحرام، ولم يرو عنه حديثًا.

والحاصل أنه لما رَوَى عكرمة هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، وشدّاد بن عبد اللَّه، وكلاهما قالا: عن أبي أمامة، ورواية شدّاد عنه متّصلة، لأنه لقيه، بخلاف رواية يحيى، فإنها منقطعة لَمْ يسمع منه، ويحيى معروف بالإرسال والتدليس، بيّن أن الحديث متّصل عن طريق شدّاد، ولا يضرّه انقطاعه عن طريق يحيى، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

(وَ) لقي شدّاد أيضًا (وَاثِلَةَ) هو: واثلةُ بن الأسقع بن كعب بن عامر بن ليث بن عبد مناة، ويقال: ابن الأسقع بن عبيد اللَّه بن عبد ياليل بن ناشب بن غِيرَة بن سعد بن ليث، أبو الأسقع، ويقال: أبو قرصافة، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو الخطاب، ويقال: أبو شداد الليثيّ، أسلم قبل تبوك، وشهدها، وصحح ابن عبد البر القول الثاني في نسبه، قال الحافظ: وهو الصواب، أو يكون سقط من الأول عدّة آباء. انتهى.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي مَرْثَد الْغَنَويّ، وأبي هريرة، وأم سلمة، وروت عنه ابنته فُسَيلة، ويقال: حُصيلة، ويقال: جميلة، وأبو إدريس الخولانيّ، وشداد أبو عمار، ومكحول، وعبد الواحد بن عبد اللَّه البصريّ، وأبو المليح بن أسامة، ومعروف بن الخطاب، وآخرون.

قال ابن سعد: كان من أهل الصُّفّة، فلما قُبِض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام، وقال أبو حاتم: نزل الشام، وكان يشهد المغازي بدمشق وحِمْصَ، وقال أبو الحسن بن سُمَيع، عن دُحَيم: مات بدمشق في خلافة عبد الملك، وقال أبو المغيرة، عن ابن عياش، عن سعيد بن خالد: مات سنة ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وخمس سنين، وكذا قال الدُّوريّ وغيره عن ابن معين، وقال أبو مسهر، وجماعة: مات سنة خمس، وقال سعيد بن بشير، عن قتادة: كان آخر الصحابة موتًا بدمشق.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (972): "لا

ص: 611

تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إليها"، وأعاده بعده، و (2276): "إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل. . . ".

(وَصَحِبَ) شدّاد أيضًا (أنسًا) أي: أنس بن مالك رضي الله عنه (إِلَى الشَّامِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَضْلًا وَخَيْرًا) أي: أثنى عكرمة على شدّاد بن عبد اللَّه بفضل وخير، أي: وصفه بهما، يقال: أثنيت عليه خيرًا وبخير، وأثنيت عليه شرًّا وبشرّ، بمعنى وصفته بهما، وبعضهم يخصّه بالخير، والصواب إطلاقه، وقد سبق تمام البحث في هذا الخلاف عند شرح حديث:"أهلَ الثناء والمجد. . . "، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) تأكيد للأول (قَالَ) أبو أمامة رضي الله عنه (قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ) بفتحات (السُّلَمِيُّ) بضمّ السين المهملة، وفتح اللام: منسوب إلى سُليم قبيلة من العرب، يقال لها: سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مُضَر، تفرّقت في البلاد، وجماعة كثيرة منهم نزلت حِمْصَ، قاله في "الأنساب"

(1)

. (كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ) جملة حاليّة من التاء، و"الجاهليّة": زمن الفترة قبل الإسلام (أَظُنُّ) أي: أعلم، وأتيقّن، فإن الظنّ قد يُطلق على اليقين، كما قال اللَّه تعالى:{فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]

(2)

. (أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ) أي: من الدين الحقّ (وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ) جملة في نصب على الحال، وفي نسخة:"وأنهم يعبدون الأوثان"، فيكون معطوفًا على ما قبله.

و"الأوثان" بفتح الهمزة: جمع وَثَنٍ بفتحتين، وهو الصنم، سواءٌ كان من خشب، أو حجرٍ، أو غيره، ويُجمع أيضًا على وُثْنٍ بضمّ فسكون، مثلُ أَسَد وأُسْد

(3)

.

(فَسَمِعْتُ) وفي نسخة: "قال: فسمعت"(بِرَجُلٍ) يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا) أي: من الوحي السماويّ (فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي) أي: ركبتها، و"الراحلة": هي الْمَرْكب من الإبل، ذكرًا كان أو أُنثى (فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ) أي: على

(1)

"الأنساب" للسمعانيّ 3/ 301، و"اللباب" 1/ 447.

(2)

"المفهم" 2/ 459.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 647.

ص: 612

ذلك الرجل (فَإِذَا) هي الْفُجائيّة؛ أي: ففاجأني وجود (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) حال كونه (مُسْتَخْفِيًا) أي: متواريًا، ومستترًا عن المشركين؛ لئلا يُلحقوا عليه ضررًا (جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع الأصول "جُرَآء" بالجيم المضمومة، جمع جَرِيء بالهمز من الجرأة، وهي الإقدام والتسلّط، وهذا هو سرّ استخفائه.

وذكره الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين""حِرَاء" بالحاء المهملة المكسورة، ومعناه: غِضَابٌ، ذوو غَمّ قد عِيل صبرهم به حتى أَثَّر في أجسامهم، من قولهم: حَرَى جسمه يَحْرِي، كضرب يضرب: إذا نَقَصَ من ألم وغيره، والصحيح أنه بالجيم. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "جُرآء عليه قومه" أي: يجترئون عليه، من الْجُرْأة، وهو مرفوعٌ على أنه خبر مقدّمٌ، و"قومه" مبتدأ مؤخَرٌ، على مذهب البصريين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأفصح في إعراب قوله: "جرآءُ عليه قومه" أن يكون "جرآء" خبرًا مقدّمًا، و"قومه" مبتدأ مؤخّرًا، وإليه أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَالثَّانِ مُبْتَدًا وَذَا الْوَصْفُ خَبَرْ

إِنْ فِي سِوَى الإِفْرَادِ طِبْقًا اسْتَقَرْ

ويجوز أن يكون "جرآءُ" مبتدأً، و"قومه" فاعلًا أغنى عن الخبر على لغة "أكلوني البراغيث"، وهذا الوجه ممنوع عند البصريين؛ لأنه لَمْ يتقدّمه نفي، ولا استفهام، وأجازه الكوفيّون والأخفش، مستدلّين بقول الشاعر [من الوافر]:

فَخَيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ

إِذَا الدَّاعِي الْمُثَوِّبُ قَالَ يَا لَا

وقوله: [من الطويل]:

خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيًا

مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ

(2)

والجملة في محلّ نصب على الحال من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 2/ 465.

(2)

راجع: "شرح ابن عقيل مع حاشية الخضري" 1/ 125 - 126.

ص: 613

(فَتَلَطَّفْتُ) أي: ترفّقت، وتحيّلتُ في الدخول عليه (حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول: "ما أَنت؟ "، وإنما قال:"ما أنت"، ولم يقل:"من أنت؟ "

(1)

؛ لأنه سأله عن صفته، لا عن ذاته، والصفات مما لا يعقل. انتهى.

وقال الأبيّ رحمه الله: ذكر ابن الحاجّ في نقده على "المقرب" عن سيبويه أن "ما" تقع على آحاد أولي العلم، مثل "من"، وعلى أنها للصفة، فيُحتجّ به للقول بأن النبوّة والرسالة مترادفان؛ لا أن النبوّة أعمّ؛ لأن "ما" يُسأل بها عن تمام الحقيقة، فلولا أنهما مترادفان لكان الجواب غير مفيد؛ لأن الأعمّ، وهي النبوّة لا إشعار لها بالأخصّ التي هي الرسالة، ويكون انتقاله إلى قوله:"رسول" من قبيل التعريف اللفظيّ، وهو تبديل لفظ بلفظ أشهر منه. انتهى كلام الأبيّ ببعض تصرّف

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَنَا نَبِيٌّ"، فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟) سؤال عن النبوّة، وهى من جنس ما لا يعقل؛ لأنَّها معنى من المعاني، قاله القرطبيّ، وهو محلّ نظر، فتأمل.

(قَالَ: "أَرْسَلَنِي اللَّهٌ")، فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ) في هذا دلالة ظاهرةٌ على الحثّ على صلة الأرحام؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرنها بالتوحيد، ولم يذكر له جزئيّات الأمور، وإنما ذكر له مهمّها، وبدأ بالصلة، قاله النوويّ

(3)

.

وقال الأبيّ رحمه الله: صحّ أن جواباته صلى الله عليه وسلم كانت بحسب السائل، وبحسب الزمان والحال، فتخصيص صلة الرحم بالذكر يَحْتَمِلُ كونه لرعي حال العرب فيها، أو أن غيرها من الفرائض لَمْ يكن فُرِض. انتهى

(4)

.

(وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ") وفي نسخة: "وأن توحّد اللَّه، ولا تشرك به شيئًا"(قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟) أي: فمن تبعك على هذا الدين الذي أرسلك اللَّه تعالى به من الناس؟ (قَالَ): ("حُرٌّ وَعَبْدٌ")

(1)

وقع في نسخة "المفهم" بلفظ: "من أنت".

(2)

"شرح الأبيّ " 2/ 438.

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 115.

(4)

"شرح الأبيّ" 2/ 438.

ص: 614

خبر لمحذوف دلّ عليه السوال؛ أي: معي حرّ، وعبد (قَالَ) عمرو بن عَبَسَة (وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَبِلَالٌ) هو ابن رباح مؤذّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مولى أبي بكر الصَدّيق رضي الله عنهما (مِمَّنْ آمَنَ بِهِ) أي: ممن صدّق برسالته، واتّبعه على ملّته وفيه منقبة عظيمة لأبي بكر وبلال رضي الله عنهما، حيث إنهما من أوائل من أسلم، بل قد احتجّ به من قال: إنهما أول من أسلم، لكن الصحيح في ذلك التفصيل، فأول من أسلم من الرجال البالغين الأحرار أبو بكر رضي الله عنه، ومن الأرقّاء بلال رضي الله عنه، ومن الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه، ومن الصبيان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن النساء خديجة رضي الله عنها، وإلى هذا أشار السيوطيُّ رحمه الله في ألفيّة الحديث حيث قال:

وَاخْتَلَفُوا أَوَّلَهُمْ إِسْلَامَا

وَقَدْ رَأَوْا جَمْعَهُمُ انْتِظَامَا

أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ فِي الرِّجَالِ

صِدِّيقُهُمْ وَزَيْدُ فِي الْمَوَالِي

وَفِي النِّسَا خَدِيجَةٌ وَذِي الصِّغَرْ

عَلِيُّ وَالرِّقِّ بِلَالٌ اشْتَهَرْ

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما لم يذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم له عليًّا رضي الله عنه؛ لصغره، فإنه أسلم وهو ابن سبع سنين، وقيل: ابن عشر، ولم يذكر خديجة رضي الله عنها أيضًا؛ لأنه فهم منه أنه إنما سأله عن الرجال، فأجابه حسب ذلك، ويُشكل هذا الحديث بحديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، فإنه قال:"ما أسلم أحدٌ إلَّا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام"

(1)

، وظاهره أن أبا بكر وبلالًا أسلما في اليوم الذي أسلم فيه سعد، وأنه أقام سبعة أيام لَمْ يُسلم مع الثلاثة أحدٌ، وحينئذ يلزم أن يكون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم جاء عمرو بن عَبَسَة أبو بكر، وسعد، وبلالٌ، لكن سكت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن سعد إما نسيانًا، وإما لعدم حضوره إذ ذاك بمكة، أو لأمر آخر. انتهى

(2)

.

قال عمرو: (فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ) قال النوويّ رحمه الله: معناه إني متّبعك على إظهار الإسلام هنا، وإقامتي معك. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إني متّبعك" معناه: أصحبك، وأكون معك

(1)

أخرجه البخاريّ في "صحيحه" برقم (3727)"كتاب المناقب".

(2)

"المفهم" 2/ 460 - 461.

(3)

"شرح النووي" 6/ 116.

ص: 615

في موضعك، ولذلك أجابه بقوله:"إنك لا تستطيع يومك هذا"، ولم يردّ عليه إسلامه، وإنما ردّ عليه كونه معه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا) أي: لقوّة شوكة المشركين، وضعف حال المسلمين، فأخاف عليك أن يلحقك منهم ضرر، واللَّه تعالى أعلم.

(أَلَا) أداة عرض (تَرَى حَالِي) من قلّة الأعوان (وَحَالَ النَّاسِ) من قُوّة شوكتهم، وشدّة عداوتهم (وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ) أي: ولكن قد حصل لك أجرك، فابقَ على إسلامك، وارجع إلى قومك، واستمرّ على الإسلام في موطنك حتى تعلم أني قد ظهرت على المشركين، وانتصرت عليهم، فعند ذلك فأتني، كما قال:(فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ) أي: غلبت على المشركين، وانتشرت الدعوة في الأرض (فَأْتِنِي") وفيه علمٌ من أعلام النبوّة، ومعجزة من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر عمرو بن عبسة بأنه سيظهر على قومه الْجُرآء عليه، ويقهرهم، ويُخمِد نارهم، ويَظْهَر منتصرًا على أرض اللَّه عز وجل جميعها، فوقع كما أخبر به، كما وعد اللَّه تعالى بذلك حيث قال:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 9]، وقال:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21]، وقال:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقال:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 51].

(قَالَ) عمرو رضي الله عنه (فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ) أي: بعد أن مكث في مكة نبيًّا مرسلًا ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى التوحيد، ونبذ الشرك (وَكُنْتُ فِي أَهْلِي) أي: جلست فيهم، ومكثتُ معهم (فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّرُ الْأَخْبَارَ) أي: أتطلّب، وأبحث، وأسأل أخبار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشدّة رغبة، وصدق عزيمة (وَأَسْأَلُ النَّاسَ حِينَ قَدِمَ) بكسر الدال؛ أي: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم (الْمَدِينَةَ) مهاجرًا من مكة سنة ثلاث عشرة من بعثته (حَتَّى قَدِمَ عَلَيَّ نَفَرٌّ مِنْ أَهْلِ

(1)

"المفهم" 2/ 461.

ص: 616

يَثْرِبَ) بفتح الياء المثنّاة، وسكون الثاء المثلّثة، وكسر الراء: اسم المدينة قبل الإسلام، قال ابن الأثير: يثرب اسم مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم قديمة، فغيّرها، وسمّاها طيبة وطابةَ؛ كراهية التثريب، وهو اللوم والتعيير، وقيل: هو اسم أرضها، وقيل: سُمّيت باسم رجل من الْعَمَالقة. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": ثَرَبَ عليه يَثْرِبُ، من باب ضَرَبَ: عَتَبَ ولامَ، وبالمضارع بياء الغائب سُمّي رجلٌ من العمالقة، وهو الذي بنى مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسُمّيت المدينة باسمه، قاله السهيليّ، وثَرَّبَ بالتشديد مبالغة وتكثيرٌ، ومنه قوله تعالى:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} الآية [يوسف: 92] انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةَ) بدل من الجارّ والمجرور قبله (فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ؟) يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما أخرج السؤال هذا المخرج؛ تعميةً لحاله على المسؤولين؛ خشية أن يكونوا من أعدائه صلى الله عليه وسلم، فلا يُخبرونه بحقيقة الأمر إذا علموا أنه على دينه، وهذا من فقه عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وقوّة فطنته وذكائه (فَقَالُوا: النَّاسُ إِلَيْهِ سِرَاع) بكسر السين المهملة، وتخفيف الراء؛ أي: مسرعون إلى الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، واتباع دينه، يقال: جاء القومُ سِرَاعًا؛ أي: مسرعين (وَقَدْ أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ) الظاهر أراد ما دبّرت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من غزوة بدر وأُحد والأحزاب، وغيرها، فلم يستطيعوا القضاء عليه، بل نصره اللَّه تعالى عليهم.

ويَحْتَمِل أن يكون المراد ما ذكره اللَّه تعالى في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]، وذلك حين ائتمروا عليه بهذه الأمور، فأذن اللَّه في الهجرة، فهاجر إلى المدينة، فأنزل اللَّه تعالى عليه بعد قدومه المدينة "سورة الأنفال" يُذَكِّر نِعَمَه عليه، وبلاءه عنده

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنِي؟

(1)

راجع: "لسان العرب" 1/ 235.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 81.

(3)

راجع: "تفسير ابن كثير" 2/ 304.

ص: 617

قَالَ): ("نَعَمْ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتَنِي بِمَكَّةَ"، قال) عمرو (فَقُلْتُ: بَلَى) أي: أنا الذي لقيتك بها، قال النوويّ رحمه الله: فيه صحّة الجواب بـ "بلى" وإن لَمْ يكن قبلها نفي، وصحّة الإقرار بها، وهو الصحيح في مذهبنا، وشرط بعض أصحابنا أن يتقدّمها نفيٌ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: صرّح النحويّون بأن "بلى" لا تقع في إيجاب الإثبات، ويردّ عليهم ما وقع في هذا الحديث، وكذا في أحاديث أخرى صحيحة.

قال ابن هشام الأنصاريُّ رحمه الله في "مغنيه" بعد قوله: إنها تختصّ بالنفي، وأنها لا تقع بعد الإيجاب، وقال أيضًا: لا يجاب بها الإيجاب، وذلك متفق عليه، ما نصّه: ولكن وقع في كتب الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرَّد -أي: عن النفي- ففي "صحيح البخاريّ " في "كتاب الإيمان والنذور" أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجَنَّة؟ قالوا: بلى"، وفي "صحيح مسلم" في "كتاب الهبة":"أيَسُرُّك أن يكونوا لك في الْبِرّ سواءً؟ قال: بلي، قال: فلا إذن"، وفيه أيضًا أنه قال:"أنت الذي لقيتني بمكة؟ فقال له المجيب: بلى"، وليس لهؤلاء أن يحتجُّوا بذلك؛ لأنه قليل، فلا يتخرج عليه التنزيل. انتهى

(2)

.

فتبيّن بهذه الأحاديث ونحوها أن الحقّ وقوع "بلى" في إيجاب الإثبات، فترك الاحتجاج بها بدعوى أن الأحاديث لا تكون حجة في القواعد النحويّة، لجواز روايتها بالمعنى، كما تفوّه به بعضهم مكابرةٌ ظاهرةٌ، قد فنّده المحقّقون، كابن مالك وغيره.

وأما ما أجاب به الأبيّ مؤيّدًا قول النحاة بأن النفي هنا مقدَّر، فتكلّف بارد، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَأَجْهَلُهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو: "عما علّمك"، وهو صحيحٌ، ومعناه: أخبرني عن حكمه وصفته، وبيّنه لي. انتهى.

(1)

"شرح النووي" 6/ 116.

(2)

"مغني اللبيب" 1/ 223 - 224.

ص: 618

(أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ) أي: عن وقتها الجائزة فيه بدليل الجواب، وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا سؤال عن تعيين الوقت الذي يجوز التنفّل فيه من الوقت الذي لا يجوز، وإنما قلنا ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فَهِمَ عنه ذلك، فأجابه به، ولو كان سؤاله عن غير ذلك لما كان جوابه مطابقًا للسؤال. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ) أي: سنته وفرضه (ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ) بقطع الهمزة، من الإقصار؛ أي: انته، وكُفّ عنها (حَتَّى تَطْلعَ الشَّمْسُ) وقوله:(حَتَّى تَرْتَفِعَ) بدل مما قبله، وفيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يزول بطلوع الشمس، بل لا بدّ من ارتفاعها، فالمراد بالطلوع المطلق المذكور في بعض الأحاديث الطلوع المخصوص، وهو الارتفاع، لا مجرّد الظهور، وقد ورد قدر الارتفاع مفسّرًا في رواية أبي داود والنسائيّ، فقال:"ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيس رمح أو رمحين"، ولفظ النسائيّ:"قِيد رُمح"، والقِيس والقاس، والقِيد والقاد، والقيب والقاب: معناها القدر.

(فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ) بالتنكير، قيل: هو للتحقير، ووقع في بعض النسخ بالتعريف، وقد تقدّم اختلاف العلماء في المعنى المراد بقرني الشيطان، وأن الأرجح أن المراد به ناحيتا الرأس، وأنه على ظاهره، ومعناه أنه يُدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات؛ ليكون الساجدون للشمس كالساجدين له في الصورة، واللَّه تعالى أعلم.

(وَحِينَئِذٍ) وفي نسخة: "فإنه حينئذ"(يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ) أي: الذين يعبدونها (ثُمَّ) بعد ارتفاع الشمس قدر رُمح (صَلِّ) أي: ما شئت، ففي رواية أبي داود:"ثم صلّ ما شئت"، وعند ابن ماجه:"فصلّ ما بدا لك"(فَإِنَّ الصَّلَاةَ) أي: بعد ارتفاع الشمس، أو الصلاة المشروعة (مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ) قال النوويّ رحمه الله: أي: تحضرها الملائكة، فهي أقرب إلى القبول، وحصول الرحمة، وقال القاري رحمه الله: أي: يحضرها الملائكة؛ ليكتبوا أجرها، ويشهدوا بها لمن صلّاها، ويؤيّده أن في رواية أبي داود:"مشهودة مكتوبة"، وقال الطيبيّ رحمه الله: أي: يحضرها أهل الطاعة، من سكان السماء والأرض، وعلى

(1)

"المفهم" 2/ 461 - 462.

ص: 619

المعنيين، فـ "محضورة" تفسير لـ "مشهودة"، وتأكيد لها، ويَحْتَمل أن يُجعل "مشهودة" على المعنى الأول، و"محضورة" على الثاني، أو الأولى بمعنى الشهادة، والثانية بمعنى الحضور للتبرّك، والتأسيس أولى من التأكيد. انتهى كلام القاري رحمه الله

(1)

.

(حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ) أي: حتى يرتفع الظلّ مع الرمح، أو في الرمح، ولم يبق على الأرض منه شيءٌ، من الاستقلال بمعنى الارتفاع.

قال ابن الملك: يعني: لَمْ يبق ظل الرمح، وهذا بمكة، والمدينة، وحواليهما في أطول يوم في السنة، فإنه لا يبقى عند الزوال ظلّ على وجه الأرض، بل يرتفع عنها، ثم إذا مالت الشمس من جانب المشرق إلى جانب المغرب، وهو أول وقت الظهر يقع الظل على الأرض.

وقيل: من القِلَّةِ، يقال: استقله: إذا رآه قليلًا؛ أي: حتى يَقِلَّ الظلُّ الكائن بالرمح، أدنى غاية القلة، وهو المسمى بظل الزوال.

وقال القاري رحمه الله: وروي: "حتى يستقل الرمحُ بالظل"؛ أي: يرفع الرمح ظله، فالباء للتعدية، وعلى الروايتين هو مجاز عن عدم بقاء ظل الرمح على الأرض، وذلك يكون في وقت الاستواء، وتخصيص الرمح بالذكر؛ لأن العرب كانوا إذا أرادوا معرفة الوقت رَكَزُوا رِمَاحهم في الأرض، ثم نظروا إلى ظلها.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "حتى يستقل الظل بالرمح"؛ أي: يقوم مقابله في جهة الشمال، ليس مائلًا إلى المغرب، ولا إلى المشرق، وهو حالة الاستواء.

وقال التوربشتي رحمه الله: كذا في نسخ "المصابيح"، وفيه تحريف، وصوابه: حتى يَسْتَقِلَّ الرمحُ بالظل، ووافقه صاحب "النهاية" حيث قال: حتى يبلغ ظل الرمح المغروز في الأرض، أدْنَى غايةِ القلَّةِ والنقص، فقوله:"يستقل" من القلة، لا من الإقلال، والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع، والاستبداد.

قال الطيبيُّ رحمه الله: كيف تُرَدّ نسخ "المصابيح" مع موافقتها بعض نسخ مسلم، وكتاب الحميديّ؟ على أن لها محامل:

(1)

راجع: "المرعاة" 3/ 458.

ص: 620

أحدها: أن معناه أن يرتفع الظل معه، ولا يقع منه شيء على الأرض، من قولهم: استقلَّت السماءُ: ارتفعت.

وثانيها: أن يقدر المضاف؛ أي: يُعْلَم قلة الظل بواسطة ظل الرمح.

وثالثها: أن يكون من باب عَرَضتُ الناقةَ على الحوض، وطَيَّنتُ بالفَدَن السياعا، و"السياع": الطين، و"الفَدَنُ": القَصْرُ.

قال صاحب "المفتاح": ولا يشجع على القلب إلَّا كمال البلاغة مع ما فيه من المبالغة من أن الرمح صار بمنزلة الظل في القلة، والظل بمنزلة الرمح. انتهى

(1)

.

ووقع في رواية لأحمد: "حتى يستقل الرمح بالظل"، وفي أخرى:"حتى يقوم الظل قيام الرمح"، وفي رواية أبي داود:"حتى يعدل الرمح ظله"، وفي رواية لأحمد، وهي عند ابن ماجه أيضًا:"حتى يقوم العمود على ظله".

قال السنديّ: العمود: خشبة يقوم عليها البيت، والمراد حتى يبلغ الظل في القلة بحيث لا يظهر إلَّا تحت العمود، ومحلّ قيامه، فيصير كأن العمود قائم عليه، والمراد وقت الاستواء. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ) أي: حين يستقلّ الظلّ بالرمح.

قال الطيبيّ رحمه الله: وفي اسم "إنّ" وجهان: أحدهما "تُسْجَرُ" على إضمار "أن" المصدريّة، كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24].

والثاني: ضمير الشأن محذوفًا من "إنّ" المكسورة المشدّدة، كقول الشاعر [من الطويل]:

فَلَا تَخْذُلِ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا

فَإِنَّ بِهِ تَنَالُ الأُمُورَ وَتَرْأَبُ

(3)

فالتقدير فإنه، يقول: لا تخذل مولاك، وإن ظلمك، فربّما تحتاج إليه، وترجع إلى معاونته في بعض الأمور، فيجبر كسرك، قيل: لا حذف؛ لأن المقصود من الكلام المصدّر به التعظيم والفخامة، فلا يلائمه الاختصار.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1119.

(2)

راجع: "شرح السنديّ على النسائيّ" 1/ 284، و"المرعاة" 3/ 459.

(3)

الشطر الثاني فيه انكسار، فليُحرّر.

ص: 621

وأجيب بأن ضمير الشأن إنما ينبئ عن التعظيم لإبهامه، وحذفه أدلّ على الإبهام، ألا ترى إلى قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} الآية [التوبة: 117]، حَذَف اسم "كاد" وضميرَ الشأن؛ ليزيد التفخيم والتهويل، وله في الأحاديث نظائر، سنذكرها - إن شاء اللَّه تعالى. انتهى كلام الطيبيُّ رحمه الله

(1)

.

(تُسْجَرُ) بالتخفيف والتشديد مبنيًّا للمجهول؛ أي: يوقد عليها إيقادًا بليغًا، من سجر التَّنُّور -بالتخفيف والتشديد-: ملأه وَقُودًا، وأحْمَاهُ، قال الراغب: السَّجْرُ: تهييج النار، يقال: سَجَرْتُ التّنّور، ومنه قوله تعالى:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]. انتهى.

وقال ابن الملك: أي: تُملأ نيران جهنم، وتوقد، ولعل تسجيرها حينئذ لمقارنة الشيطان الشمس، وتهيئة عباد الشمس أن يسجدوا لها.

وقال الخطابيّ رحمه الله: ذكر تسجير جهنم، وكون الشمس بين قرني الشيطان، وما أشبه ذلك من الأشياء التي تُذكر على سبيل التعليل لتحريم شيء، أو لنهي عن شيء أمور لا تدرك معانيها من طريق الْحِسّ والعيان، وإنما يجب علينا الإيمان بها والتصديق للمخبِر بها، والانتهاء إلى أحكامها التي علقت بها. انتهى

(2)

.

(جَهَنَّمُ) قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف أهل العربية، هل جهنم اسم عربي، أم عجمي؟ فقيل: عربي، مشتقّ من الجهومة، وهي كراهة المنظر، وقيل: من قولهم: بئر جهام؛ أي: عميقة، فعلى هذا لَمْ تصرف للعلمية والتأنيث، وقال الأكثرون: هي عجمية مُعَرَّبة، وامتنع صرفها للعلمية والعجمة. انتهى

(3)

.

(فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ) أي: ظهر إلى جهة المشرق، و"الفيء" مختصّ بما بعد الزوال، وأما "الظلّ" فيقع على ما قبل الزوال وما بعده، قاله النوويّ، وقال القاري: أي: رجع بعد ذهابه من وجه الأرض، فهذا وقت الظهر، و"الفيء": ما نسخ الشمسَ، وذلك بالعشيّ، و"الظلُّ": ما نسخته الشمس، وذلك بالغدوّ. انتهى.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1120.

(2)

"معالم السنن" 1/ 276.

(3)

"شرح مسلم" 6/ 117.

ص: 622

(فَصَلِّ) أي: أيَّ صلاة تريدها (فَإنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ، حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ) أي: فرضه، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن النهي لا يدخل بدخول وقت العصر، ولا بصلاة غير المصلّي، وإنما يكره لكلّ إنسان بعد صلاته العصر، حتى لو أخّرها عن أول الوقت لَمْ يكره التنفّل قبلها. انتهى.

(ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ) أي: بالكلّيّة (فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ") أي: فلا يجوز مشابهة أهل النار في عبادتهم فضلًا عن غيرها.

(قَالَ) عمرو بن عبسة رضي الله عنه (فَقُلْتُ: يَا نَبِي اللَّهِ، فَالْوُضُوءُ) بالرفع، وقيل: بالنصب (حَدِّثْنِي عَنْهُ) أي: أخبرني عن فضله (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا) نافية (مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ) بضمّ أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء، من التقريب، مبنيًّا للفاعل، قيل: أو للمفعول (وَضُوءَهُ) بفتح الواو: الماء الذي يتوضّأ به (فَيَتَمَضْمَضُ) وفي نسخة: "فيُمَضْمِضُ"، يقال: مَضْمَضْتُ الماءَ في فمي: إذا حرّكته بالإدارة فيه، وتمضمض بالماء: إذا فعل ذلك، قال الفارابيّ: المضمضمة: صوت الحيّة ونحوها، ويقال: هو تحريكها لسانها، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(وَيَسْتَنْشِقُ) أي: يُدخل الماء في الأنف، ويجذبه بالنفس؛ ليُنزل ما في الأنف، قال ابن الأثير رحمه الله: أي: يُبلغُ الماءَ خياشيمه، وهو من استنشقتُ الريحَ: إذا شَمَمتها مع قوّة. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نَشِقْتُ منه رائحةً أَنْشَقُ، من باب تَعِبَ نَشْقًا، مثلُ فلس، واستنشقتُ الريحَ: شَمِمْتُها، واستنشقتُ الماءَ، وهو جعله في الأنف، وجذبه بالنّفَسِ؛ ليُنْزِل ما في الأنف، فكأن الماء مجعول للاشتمام، مجازٌ، والفقهاءُ يقولون: استَنْشَقتُ بالماء بزيادة الباء. انتهى

(3)

.

(فَيَنْتَثِرُ) وفي نسخة: "فيستنثر"، أي: يُخرج ما في الخيشوم من الأوساخ، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَثَرَ المتوضئ، واستَنْثَرَ بمعنى استنشق، ومنهم من يفرّق، فيجعل الاستنشاق إيصال الماء، والاستنثار إخراج ما في الأنف من

(1)

راجع: "المصباح" 2/ 575.

(2)

"النهاية" 5/ 59.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 606.

ص: 623

مخاط وغيره، ويدلّ عليه الحديث:"كان صلى الله عليه وسلم يستنشق ثلاثًا في كلّ مرّة يستنثر"، وفي حديث:"إذا استنشقت فانتثر" بهمزة وصل، وتُكسر الثاء وتضمّ، وأنثر المتوضئ إنثارًا لغةٌ، وحَمَل أبو عبيد الحديث على هذه اللغة. انتهى

(1)

.

(إِلَّا خَرَّتْ) استثناء مفرغّ، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إلّا خرّت" خبر "ما"، والمستثنى منه مقدّرٌ؛ أي: ما منكم رجلٌ متّصفٌ بهذه الأوصاف، كائنٌ على حال من الأحوال إلَّا على هذه الحالة، وعلى هذا المعنى ينزَّل سائر الاستثناءات، وإن لَمْ يصرّح بالنفي فيها؛ لكونها في سياق النفي بواسطة "ثُمّ" العاطفة؛ أي: سقطت (خَطَايَا وَجْهِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه "خَرّت" بالخاء المعجمة، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة، إلَّا ابن أبي جعفر، فرواه "جَرَت" بالجيم. انتهى. ومعنى "خَرَّت" بالخاء: أي: سقطت، وهو كناية عن مغفرة الذنوب، ومعنى"جَرَت" أي؛ ذهبت ذنوب وجهه مع ماء الوضوء.

والمراد من الخطايا هي الصغائر عند عامّة العلماء.

والمراد بالخطايا الصغائر كما سبق في "كتاب الطهارة" قوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتنبت الكبائر".

وقوله: (وَفِيهِ) أي: خطايا فمه من جهة الكلام والطعام (وَخَيَاشِيمِهِ) أي: أنفه، وهو: جمع خيشوم، وهو أقصى الأنف، وقيل: الخياشيم: عِظام رِقَاقٌ في أصل الأنف، بينه وبين الدماغ، وقيل: غير ذلك.

والمراد: ما اكتسبه من الإثم من جهة رائحة طيبة محرّمة على جهة القصد، والظاهر أن عطف "فيه وخياشيمه" على "وجهه" تفسيريّ؛ لقوله:(ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ) بأن استوعب بالغسل جميعه (إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ) بكسر اللام: هو الشعر النازل على الذَّقَنِ، والجمع: لِحًى، مثلُ سِدْرة وسِدَر، وتُضمّ اللام أيضًا، مثلُ حِلْية وحُلًى

(2)

. (مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ) أي: منضمّتين إليهما، أو "إلى" بمعنى "مع"، و"المرفق" بفتح الميم وكسر الفاء، كالمسجِد، وبالعكس لغتان، وهو كما في

(1)

"المصباح" 2/ 593.

(2)

"المصباح" 2/ 551.

ص: 624

"القاموس" موصل الذراع في العَضُد (إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ) أي: رؤوس أصابعه، وهي: جمع أَنْمَلة بفتح الهمزة، وفتح الميم أكثر من ضمها، وابن قتيبة يجعل الضم من لحن العوام، وبعض المتأخرين من النحاة حكى تثليث الهمزة مع تثليث الميم، فيصير تسع لغات، وهي من الأصابع العقدة، وبعضهم يقول: الأنامل رءوس الأصابع، وعليه قول الأزهريّ: الأنملةُ: الْمَفْصِل الذي فيه الظفر، أفاده الفيّوميُّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "شرح القاموس" نقلا عن شيخه: وقد جمع العزّ القسطلانيّ اللغات التسعة في البيت المشهور مع لغات الإصبع، فقال [من البسيط]:

وَهَمْزَ أنْمَلَةٍ ثَلِّثْ وَثَالثَةً

وَالتّسْعُ في أُصْبُع وَاخْتمْ بأُصْبُوع

(2)

(مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ) ظاهر الاستيعاب، وقد سبق في أبواب الوضوء بيان الخلاف في وجوب استيعاب الرأس بالمسح، وأن الراجح هو القول بالوجوب، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ) ومنها خطايا الأذنين؛ لأنهما من الرأس (مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ) بفتح العين وسكونها (مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ لمذهب العلماء كافّةً أن الواجب غسل الرجلين، وقال الشيعة: الواجب مسحهما، وقال ابن جرير: هو مُخَيَّرٌ، وقال بعض الظاهرية: يجب الغسل والمسح. انتهى

(3)

.

(إِلَّا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ) قال الطيبيّ رحمه الله: "إن" شرطيّة، ورافع "هو" فعلٌ مضمرٌ يفسّره قوله:"قام"، فلما حُذف أُبرز الضمير المستكنّ فيه، وجواب الشرط محذوفٌ، وهو المستثنى منه؛ أي: فلا ينصرف من شيء من الأشياء إلَّا من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، وجاز تقدير النفي لما مرّ من أن الكلام في سياق النفي، قال: هذا مذهب ابن مالك، وصاحب "الكشّاف"، وأما ابن الحاجب فيجيز الاستثناء المفرّغ في الموجب

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 626.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 8/ 147.

(3)

"شرح النوويّ" 6/ 118.

ص: 625

بشرط كونه فضلةً، وأن تحصل به فائدةٌ، كما يقال: قرأت إلَّا يوم الجمعة، ونظير هذا الشرط قول الحماسيّ [من الطويل]:

وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا

فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ

انتهى كلام الطيبيُّ رحمه الله بزيادة

(1)

.

أي فإن قام بعد الفراغ من الوضوء (فَصَلَّى) أي: شرع في الصلاة (فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أي: ذكر اللَّه تعالى ذكرًا كثيرًا، وقيل: فائدته الإعلام بأنّ لفظ الحمد غير متعيّن (وَمَجَّدَهُ) أي: عظّمه بالقلب واللسان، فهو تعميم بعد تعميم، فهو تأكيد لما قبله.

(بِالَّذِي) متعلّق بما قبله على سبيل التنازع؛ أي: بالتحميد والثناء والتمجيد (الذي هُوَ لَهُ أَهْلٌ) أي: يليق بجلاله وعظمته وكماله سبحانه وتعالى، وضمير "هو" عائد على اللَّه تعالى، وضمير "له" عائد على الموصول (وَفَرَّغَ) بتشديد الراء، من التفريغ (قَلْبَهُ لِلَّهِ) أي: جعل قلبه حاضرًا مع اللَّه تعالى، وخاليًا عما سواه، فهو كقوله في الحديث الآخر:"لا يُحدّث فيهما نفسه"(إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ) أي: كصفته وحالته (يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ") يجوز في "يوم" البناء على الفتح؛ لإضافته إلى جملة فعليّة فعلها ماض، ويجوز إعرابه بالكسرة، والأول أولى، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

قال القرطبيّ سبحانه وتعالى: معناه: لا يبقى عليه شيء، لا كبيرة، ولا صغيرةٌ، هذا ظاهره، وقد بيّنّا هذا المعنى في الطهارة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم في "كتاب الطهارة" أن الجمهور على أن إطلاق هذا الحديث ونحوه مقيّد بالصغائر، جمعًا بينه وبين الأحاديث التي قيّدته بذلك، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهنّ، إذا اجتنب الكبائر"، رواه مسلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1120 - 1121 بزيادة من "حاشية الخضري" على "الخلاصة" 1/ 305.

ص: 626

(فَحَدَّثَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ) رضي الله عنه (بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا أُمَامَةَ) الباهليّ رضي الله عنه (صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ: يَا عَمْرَو بْنَ عَبَسَةَ انْظُرْ مَا تَقُولُ) أي: فَكِّر، وتَأنَّ فيما تتكلم به من هذا الفضل الجزيل على هذا الفعل القليل (فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ يُعْطَى هَذَا الرَّجُلُ؟) ولفظ النسائيّ:"أكلَّ هذا يُعطَى في مجلس واحد؟ "، وليس هذا اتهامًا من أبي أمامة لعمرو رضي الله عنهما، وإنما هو استغراب، وتعجُّب من عظيم فضل اللَّه تعالى.

(فَقَالَ عَمْرٌو: يَا أَبا أُمَامَةَ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي) يقال: كَبِرَ الصبيُّ يَكْبَر، من باب تَعِبَ مَكْبِرًا، مثلُ مَسْجِد، وكِبَرًا وزان عِنَبٍ، فهو كَبِير، وجمعه كِبَار، قاله في "المصباح"

(1)

. وفي "القاموس"، وكَبِرَ كفَرِحَ كِبَرًا كعنب، ومَكبِرًا، كمنزل: طعن في السنّ. انتهى.

والسنّ -بكسر السين وتشديد النون-: مقدار العمر، مؤنثة في الناس وغيرهم جمعه أسنان، قاله في "القاموس".

(وَرَقَّ عَظْمِي) كناية عن ضعفه (وَاقْتَرَبَ أَجَلِي) أي: وقت موتي، قال في "القاموس": الأجل محركة: غاية الوقت في الموت. انتهى.

(وَمَا بِي حَاجَةٌ) وفي رواية النسائيّ: "وما بي من فقر"؛ أي: ليس بي حاجة إلى الناس (أَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ) سبحانه وتعالى، وفي رواية النسائيّ:"فأكذب على رسول اللَّه (وَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ) وفي بعض النسخ: "ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم".

والمعنى أن الأسباب الحاملة على الكذب عادةً منتفيةٌ عني، فلست كاذبًا.

(لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ مَا حَدَّثْتُ بِهِ أَبَدًا) وفي نسخة: "ما حدّثت به أحدًا أبدًا".

وفي رواية النسائيّ: "ولقد سمعته أُذناي، ووعاه قلبي، من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: أنه متثبت في ثقل هذا الكلام من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم إن قلبه وعاه له، ولم يطرأ عليه نسيان.

(وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الكلام قد يُسْتَشكل

(1)

"المصباح المنير" 2/ 523.

ص: 627

من حيث إن ظاهره أنه لا يرى التحديث إلَّا بما سمعه أكثر من سبع مرات، ومعلوم أن من سمع مرةً واحدةً جاز له الرواية، بل تجب عليه إذا تعيّن لها.

وجوابه أن معناه: لو لَمْ أتحققه، وأجزم به لَمَا حدثت به، وذَكَر المرّات بيانًا لصورة حاله، ولم يُرِدْ أن ذلك شرطٌ. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمرو بن عبَسَةَ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 1930](832)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1277)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(3579)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(147)، وفي "الصلاة"(572 و 584)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 111 و 112)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(298)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1147)، والدارقطني في "سننه"(1/ 108)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1146 و 1147)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1877)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما لقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من جراءة قومه عليه، وأذاهم له، وصدّهم عن سبيل اللَّه تعالى، فكان يستخفي عنهم حال أداء العبادة.

2 -

(ومنها): بيان فضل أبي بكر وبلال رضي الله عنهما، حيث كانا سابقين إلى الإسلام.

3 -

(ومنها): بيان فضل عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه وكمال عقله حيث كان يدرك في الجاهليّة أن الناس في ضلال حيث يعبدون الأوثان من دون اللَّه تعالى، فلما سمع ببعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إليه مستخبرًا عنه، فلما علم أنه نبيّ من عند اللَّه بادر بالإسلام رضي الله عنه.

4 -

(ومنها): بيان مشروعية سؤال الشخص العلماء عن أحكام دينه، وعَمَّا لَه في ذلك عند اللَّه من الأجر؛ لأن ذلك يبعثه على العمل به، وتزداد رغبته، ويَقْوَى نشاطه.

ص: 628

5 -

(ومنها): بيان أنه ينبغي للمسلم أن يسأل عن أفضل الأوقات والأماكن ليتقرب فيها إلى ربه، ويكثر من طاعته.

6 -

(ومنها): بيان النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وبيان تسلط الشيطان في ذلك الوقت للإغواء.

7 -

(ومنها): النهي عن مشابهة الكفار في عبادتهم.

8 -

(ومنها): النهي عن الصلاة وقت الاستواء؛ لأنه وقت فتح أبواب جهنم، وتسجيرها.

9 -

(ومنها): النهي عن الصلاة وقت الغروب؛ للعلة المتقدمة في الطلوع، وقد تقدّم بيان اختلاف العلماء في حكم الصلاة في هذه الأوقات، وترجيح القول بجواز ذوات الأسباب؛ جمعًا بين الأدلّة، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): بيان فضل الوضوء، وأنه من مكفّرات الذنوب.

11 -

(ومنها): أن فيه دليلًا لمذهب العلماء كافّة أن الواجب غسل القدمين، خلافًا للشيعة حيث قالوا: الواجب مسحهما، ولابن جرير حيث قال: هو مخير، ولبعض الظاهرية حيث قالوا: يجب الغسل والمسح. كما بيّنه النوويُّ رحمه الله.

12 -

(ومنها): بيان فضل الصلاة بعد الوضوء.

13 -

(ومنها): الحثّ على الإخلاص، وفضل حضور القلب في حال العبادة.

14 -

(ومنها): مشروعيّة الاستثبات في الإخبار، وإن كان المخْبِر صادقًا؛ إذ ربما يطرأ له نسيان، أو نحوه.

15 -

(ومنها): أن في كلام عمرو بن عَبَسَةَ رضي الله عنه هنا ما يدلّ على أن الحاجة ربما حملت الشخص على التزيد في الخبر، كما اطُّلعَ على بعض الوضاعين أنهم زادوا على الأحاديث ما ليس منها، ليتكسبوا بذلك أموال الأمراء وغيرهم.

مثل ما وقع لغياث بن إبراهيم حيث زاد الجناح في حديث: "لا سبق إلَّا في نصل، أو خف، أو حافر"؛ إرضاءً للمهديّ حيث إنه كان يلعب بالحمام،

ص: 629

ويُحِبّ ذلك، فأمر له ببَدْرَة، فلما قام قال: أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أنا حملته على هذا، فأمر بذبح الحمام، ورَفَضَ ما كان عليه، وغير ذلك من الحكايات العجيبة المذكورة في كتب من ألّف في الضعفاء والموضوعات، وقد ذكر ابن عراق رحمه الله في مقدمة "تنزية الشريعة" أشياء من ذلك، وقَسَمَ أصناف الوضأعين إلى سبعة أقسام

(1)

، ونظمت ذلك في منظومة سميتها تذكرة الطالبين، في بيان الموضوع وأصناف الوضاعين وهي (151) بيتًا، وقلت في القسم الخامس، وفيه القصة المذكورة:

وَخَامسُ الأقْسَام أهْلَ الْغَرَض

كَمَنْ يَقْصُّ كَاذبًا ذَا مَرَضٍ

وَالشَّاحذينَ وَكَذا مَنْ يَقْرُبُ

للأمَرَاء آخذًا مَا يَطْلُب

كَبَعْض مَنْ قَصَّ بأنَّ عُمَرَا

نُورٌ للإِسْلَام فَبئْسَمَا افْتَرَى

وَمنْهْ مَا افْتَرَاهُ بَعْضُ المُعْتَدي

عَلى ابْن حَنْبَل وَيَحْيَى المُهْتَدي

وَالذَهَبيُّ أنْكَرَ الحكَايَهَ

وَاللَّهُ أعَلَمُ لنَا حمَايَهْ

كَذَاكَ تَكْبيرٌ أَتَى منْ سَائل

ثَلَاثًا افْتَرَاهُ غَيْرُ عَاقل

كَذَا غيَاثٌ لحديث "لَا سَبَقْ"

زَادَ جنَاحًا بئَسَمَا لَهُ اخْتَلَقْ

وَصلَهُ المَهْديْ ببدْرَة فَمَا

أَحْسَنَ في هَذَا وَلَكنْ عنْدَمَا

قَدْ ذَبَحَ الْحَمَامَ وَالَّلهْوَ رَفَضْ

خَفَّفَ مَا لَهُ مِنَ الَّلوْمِ عَرَضْ

واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(53) - (بَابٌ "لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَلَا غُرُوبَهَا")

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1931]

(833) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: وَهِمَ عُمَرُ، إِنَّمَا نَهَى

(1)

راجع: مقدمة "تنزية الشريعة" 1/ 13 - 15.

ص: 630

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ وَغُرُوبُهَا)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، صدوقٌ، رُبَّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمِّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغير قليلًا بأخرة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

4 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ) بن كيسان اليمانيّ، أبو محمد، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرحمن الْحِمْيَريّ مولاهم الفارسيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] (ت 601) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

6 -

(عَائِشَه) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: وَهِمَ عُمَرُ) تعني ابن الخطّاب رضي الله عنه، ووَهِمَ، كغَلِطَ وزنًا ومعنًى.

(1)

وفي نسخة: "أو غروبها".

ص: 631

ووقع في رواية النسائيّ بلفظ "أوهَمَ"، وكذا هو عند أبي عوانة في "مسنده"، وأبي نعيم في "مستخرجه".

قال السنديُّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": هكذا في النسخ بالألف، والصواب "وَهِمَ" -بكسر الهاء- أي: غَلِطَ، أو بفتح الهاء: أي: ذهب وَهْمُهُ إلى ما قال، كما صرَّحوا في مثله، وهو المشهور في رواية هذا الحديث، يقال: أوْهَمَ في حلاته، أو في الكلام: إذا أسقط منها شيئًا، وَوَهِمَ بالكسر: إذا غَلِطَ، وَوَهَمَ بالفتح يَهِمُ: إذا ذهب وَهْمُهُ، إلَّا أن يقال: المراد أن الحديث كان مقيَّدًا، فأسقط القيد من الكلام نسيانًا، ثم تبع إطلاقه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا اعتراض السنديُّ رحمه الله على رواية "أوهم"، لكن قال في "القاموس" بعدما ذكر نحْوَ هذا ما نصُّه: وَهَمَ، كَوَعَدَ، وَوَرِثَ، وأوْهَمَ، بمعنى. انتهى.

وقال في "اللسان": وقال ابن الأعرابيّ: أوْهَمَ، وَوَهِمَ، وَوَهَمَ سواء، وأنشد [من الوافر]:

فَإنْ أخْطَاتُ أَوْ أوْهَمْتُ شَيْئًا

فَقَدْ يَهِمُ الْمُصَافِي بِالْحَبيبِ

وقال الزّبْرِقان بن بَدْر [من الكامل]:

فَبِتِلْكَ أقْضي الْهَمَّ إذْ وَهِمَتْ بِهِ

نَفْسِي وَلَسْتُ بِنَأْنَإٍ عُوَّارِ

وقال شَمِرٌ: أوْهَمَ، وَوَهِمَ، وَوَهَمَ بمعنًى، قال: ولا أرى الصحيح إلَّا هذا. انتهى.

أقول: فعلى هذا إن "أوْهَمَ" بالألف في رواية النسائيّ صواب، وليس بخطإٍ، فتبصّر، واللَّه -تعالى- أعلم.

قال النوويّ رحمه الله: قولها: "وَهِمَ عمرُ" تعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في روايته النهي عن الصلاة بعد العصر مطلقًا، وإنما نُهِي عن التحري.

وقال القاضي عياض رحمه الله: إنما قالت عائشة رضي الله عنها هذا، لِمَا روته من صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر، قال: وما رواه عمر قد رواه أبو سعيد، وأبو هريرة رضي الله عنه، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في مسلم أنه أخبره به غير واحد.

قال النوويّ رحمه الله: ويُجمع بين الروايتين، فرواية التحري محمولة على

ص: 632

تأخير الفريضة إلى هذا الوقت، ورواية النهي محمولة على غير ذوات الأسباب. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: ومقصود عائشة رضي الله عنها أن عمر رضي الله عنه كادْ يَرَى المنع بعد العصر مطلقًا، وهو خطأ، والصواب أن الممنوع هو التحري بالصلاة.

وفي "النهاية": التحري: هو القصد، والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. فالمنهيّ عنه تخصيص الوقتين المذكورين بالصلاة، واعتقادهما أولى وأحرى للصلاة.

أو أرادت عائشة رضي الله عنها أن المنهيّ عنه هو الصلاة عند الطلوع والغروب بخصوصهما، لا بعد العصر والفجر مطلقًا، وعلى كل تقدير فقد وافق عمر على رواية الإطلاق الصحابة، فالوجه أن روايته صحيحة، والإطلاق مراد، والتقييد في بعض الروايات لا يدلّ على نفيه، بل لعله كان للتغليظ في النهي، واللَّه تعالى أعلم. انتهى كلام السنديُّ رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بل الأولى كون التقييد مرادًا؛ على ما تقدم تفصيله، فقد تقدّم أنه يجوز أن يصلي بعد العصر ما دامت الشمس مرتفعةً؛ لثبوت حديث عليّ رضي الله عنه في ذلك، وكذلك يجوز أن يصلّي ذوات الأسباب؛ لصحّة الأدلة على ذلك، فتبصر، واللَّه تعالى أعلم.

(إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَحَرَّى طُلُوعُ الشَّمْسِ)"أن" بالفتح مصدرّية، والفعل مبنيّ للمفعول، والمصدر المؤوّل مجرور بـ "عن" محذوفةً؛ أي: عن تحرّي طلوع الشمس (وَغُرُوبُهَا) وفي نسخة: "أو غروبها"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"شرح النووي" 6/ 119.

ص: 633

أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 1931 و 1932](833)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(570)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 124 و 200 و 255)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1134 و 1135 و 1136)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1878 و 1879)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 453)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1932]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَدَع رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَلَا غُرُوبَهَا، فَتُصَلُّوا عِنْدَ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَسَن الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذَليّ، أبو عليّ الخلّال الْحُلْوانيّ، بضم المهملة، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنِّفٌ شهيرٌ، عَمِيَ في آخر عمره، فتغير، وكان يتشيع [9](ت 211) وله خمس وثمانون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154) وهو ابن ثمان وخمسين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (لَمْ يَدَعْ) أي: لَمْ يترك.

وقوله: (لَا تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَلَا غُرُوبَهَا) وفي نسخة: "لا تتحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها".

ص: 634

وقوله: (فَتُصَلُّوا عِنْدَ ذَلِكَ) بنصب "تُصلُّوا" بـ "أن" مضمرةً بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام شرحه، ومسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(54) - (بَابُ بَيَانِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1933]

(834) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ، وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: اقْرَأْ عليها السلام مِنَّا جَمِيعًا، وَسَلْهَا عَنِ الرَّكعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقُلْ: إِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا

(1)

، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُمَا

(2)

، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَيْهَا، قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا، وَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي بِهِ، فَقَالَتْ: سَلْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بهِ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهُمَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، أَمَّا حِينَ صَلَّاهُمَا، فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ، وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَصَلَّاهُمَا، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيةَ، فَقُلْتُ

(3)

:

(1)

وفي نسخة: "تصلّيها".

(2)

وفي نسخة: "عنها".

(3)

وفي نسخة: "قالت: فقلتُ".

ص: 635

قُومِي بِجَنْبِهِ، فَقُولِي لَهُ: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُكَ

(1)

تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ، قَالَ: فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: "يَا بِنْتَ

(2)

أَبِي أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ

(3)

بِالإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ").

رجال هذا الإسناد:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارَثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، أبو أيوب، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(بُكَيْرُ) بن عبد اللَّه بن الأشجّ، مولى بني مخزوم، أبو عبد اللَّه، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5] (125) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

5 -

(كُرَيْبٌ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هو: كُريب بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم المدنيّ، أبو رشْدِين، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

6 -

(أُمُّ سَلمَةَ) هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمَر بن مخزوم المخزومية، أم المؤمنين، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، ماتت رضي الله عنها سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة إحدي، وقيل: قبل ذلك، والأول أصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

(1)

وفي نسخة: "سمعتك".

(2)

وفي نسخة: "يا ابنة".

(3)

وفي نسخة: "من بني عبد القيس".

ص: 636

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: بكير، عن كريب.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوي، وقد سبق هذا كلّه غير مرّة، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

شرح الحديث:

(عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 6/ 124. (وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ) الزهريّ، أبو جُبير المدنيّ، ابن عم عبد الرحمن بن عوف، وقيل: غير ذلك، شَهِدَ حُنينًا، وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن جُبير بن مُطْعِم، وروى عنه ابناه: عبد اللَّه، وعبد الحميد، والزهريّ، وآخرون.

قال ابن سعد: هو نحو ابن عباس في السنّ، بَقِي إلى فتنة ابن الزبير، وقال ابن منده: مات قبل الحرّة، تفرّد به أبو داود، والنسائيّ، وله ذكر في "الصحيحين" في هذا الحديث فقط.

(وَالْمِسْوَرَ) بكسر الميم، وفتح الواو (ابْنَ مَخْرَمَةَ) بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الراء، ابن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة الزهريّ، أبو عبد الرحمن، له ولأبيه صحبة، مات سنة (64) تقدّم في "الحيض" 18/ 779.

(أَرْسَلُوهُ) أي: أرسلوا كريبًا (إِلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بجرّ "زوج" على البدليّة (فَقَالُوا: اقْرَأْ عليها السلام مِنَّا)"اقرأ" فعل أمر من قرأ، فهمزته همزة وصل، يقال: قرأت على زيد السلامَ أقرؤه عليه قراءةً، وإذا أمرت منه قلت: اقرأ عليه السلام، قال الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأٌ، فلا يقال: اقرأه السلام؛ لأنه بمعنى اتلُ عليه، وحَكَى ابن القطّاع أنه يتعدّى بنفسه رُباعيًّا، فيقال: فلانٌ يُقرئك السلامَ، قاله الفيّوميُّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (جَمِيعًا) حال من الضمير في "منّا"(وَسَلْهَا) أمر سأل يسأل،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 502.

ص: 637

دخله التخفيف، وأصله اسألها، أو هو أمر من سأل يسأل، من باب خاف يخاف، وهو لغة في سأل يسأل (عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ) أي: عن حكم صلاة الركعتين بعد أداء فريضة العصر (وَقُلْ: إِنَّا أُخْبِرْنَا) بالبناء للمفعول (أَنَّكِ) بفتح الهمزة، لسدّها مسدّ المفعول الثاني والثالث و"أُخبر"؛ لأنَّها تتعدّى إلى ثلاث مفاعيل، كما أشار إليه في "الخلاصة" بقوله:

وَكَأَي السَّابِقِ نَبَّا أَخْبَرَا

حَدّثَ أَنْبَأَ كَذَاكَ خَبَّرَا

والمفعول الأول هنا هو النائب عن الفاعل، وهو "نا".

[تنبيه]: قوله: "أخبرنا" على صيغة المجهول، قيل: كان المخبِر عبد اللَّه بن الزبير، ورَوَى ابن أبي شيبة، من طريق عبد اللَّه بن الحارث، قال: دخلت مع ابن عباس على معاوية رضي الله عنها، فأجلسه معاوية على السرير، ثم قال: ما ركعتان يصليهما الناس بعد العصر؟ قال: ذلك ما يُفتي به الناسَ ابنُ الزبير، فأرسل إلى ابن الزبير، فسأله، فقال: أخبرتني بذلك عائشة، فأرسل إلى عائشة، فقالت: أخبرتني أم سلمة، فأرسل إلى أم سلمة، فانطلقت مع الرسول، فذكر القصّة.

واسم الرسول كثير بن الصَّلْت، سماه الطحاويّ في روايته، قال: حدّثنا أحمد بن داود، قال: حدّثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال: حدّثنا سفيان، عن عبد اللَّه بن أبي لَبِيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن معاوية بن أبي سفيان، قال وهو على المنبر لكثير بن الصَّلْت: اذهب إلى عائشة، فسلها عن ركعتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر، فقال أبو سلمة: فقمت معه، قال ابن عباس لعبد اللَّه بن الحارث: اذهب معه، فجئناها، فسألناها، فقالت: لا أدري سلوا أم سلمة، قال: فسألناها، فقالت: دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول اللَّه، ما كنت تصلي هاتين الركعتين، فقال: قَدِمَ عليّ وفد من بني تميم، أو جاءتني صدقةٌ، فشغلوني عن ركعتين، كنت أصليهما بعد الظهر، وهما هاتان

(1)

.

وكثير بن الصلت بن معدي كرب الكنديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، قيل: إنه أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وكان كاتبًا لعبد الملك بن

(1)

حديث صحيح.

ص: 638

مروان، وهو أخو زبيد بن الصَّلت، وعبدِ اللَّه بنِ الحارث بن جَزْء الزُّبَيدي الصحابيّ، ذكره في "العمدة"

(1)

.

(تُصَلِّينَهُمَا) أي: الركعتين، ووقع في بعض النسخ:"تصلينها" بالإفراد؛ أي: الصلاة (وَقَدْ بَلَغَنَا) قال الحافظ رحمه الله: فيه إشارةٌ إلى إنهم لَمْ يسمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فأما ابن عباس، فقد سَمَّى الواسطة، وهو عمر، كما تقدّم من قوله:"شَهِدَ عندي رجال مرضيُّون، وأرضاهم عندي عمر. . . " الحديث

(2)

، وأما الْمِسْوَر، وابن أزهر فلم أقف عنهما على تسمية الواسطة. انتهى

(3)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهُمَا) أي: عن الركعتين، ووقع في بعض النسخ:"عنها"؛ أي: عن الصلاة.

(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما: (وَكُنْتُ أَضْرِبُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَيْهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في بعض الأصول: "أضرب الناس عليها" -أي: بالضاد المعجمة- وفي بعضها: "أصرف الناس عنها" -أي: بالصاد المهملة- وكلاهما صحيح، ولا منافاة بينهما، وكان يضربهم عليها في وقت، ويَصرِفهم عنها في وقت من غير ضرب، أو يصرفهم مع الضرب، ولعله كان يضرب مَن بلغه النهيُ، ويصرف من لم يبلغه من غير ضرب، وقد جاء في غير مسلم أنه كان يَضْرِب عليها بالدّرَّة، وفيه احتياط الإمام لرعيته، ومنعهم من الْبِدَع والمنهيات الشرعيّة، وتعزيرهم عليها. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "وقال ابن عباس: كنت أضرب الناس مع عمر عنها"؛ أي: لأجلها، وفي رواية الكشميهنيّ "عنه"، وكذا في قوله:"نَهَى عنها"، وكأنه ذكَّر الضمير على إرادة الفعل، وهذا موصول بالإسناد المذكور، وقد رَوَى ابن أبي شيبة، من طريق الزهريّ، عن السائب، هو ابن يزيد، قال: رأيت عمر يضرب المنكدر على الصلاة بعد العصر. انتهى

(5)

.

(1)

"عمدة القاري" 7/ 459 "كتاب السهو" رقم (1233).

(2)

هذا لفظ البخاريّ، وأما لفظ مسلم:"قال: سمعت غير واحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، منهم عمر بن الخطّاب، وكان أحبّهم إليّ. . . " الحديث.

(3)

"الفتح" 3/ 126 - 127 "كتاب السهو" رقم (1233).

(4)

"شرح النووي" 6/ 119 - 120.

(5)

"الفتح" 3/ 127.

ص: 639

(قَالَ كُرَيْبٌ) هو موصول بالإسناد المذكور (فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا) أي: على عائشة رضي الله عنها (وَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي بِهِ، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ) وفي رواية الطحاويّ: "فقالت عائشة: ليس عندي، ولكن حدثتني أم سلمة".

وفي رواية أخرى للطحاويّ أن معاوية أرسل إلى عائشة، يسألها عن السجدتين بعد العصر، فقالت: ليس عندي صلاهما، ولكن أم سلمة حدثتني أنه صلاهما عندها، فأرسل إلى أم سلمة، فقالت: صلاهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عندي، لَمْ أره صلاهما قبلُ ولا بعدُ، فقلت: يا رسول اللَّه ما سجدتان رأيتك صليتهما بعد العصر؟ ما رأيتك صليتهما قبلُ ولا بعدُ، فقال: هما سجدتان كنت أصليهما بعد الظهر، فقَدِمَ عليّ قلائص من الصدقة، فنسيتهما حتى صليت العصر، ثم ذكرتهما، فكَرِهت أن أصليهما في المسجد، والناس يرونني، فصليتهما عندك.

والقلائص: جمع قَلُوص، وهو من النُّوق الشابّة، وهي بمنزلة الجارية من النساء، قاله في "العمدة"

(1)

.

(فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا) أي: بقول عائشة رضي الله عنها (فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها، قال النوويّ رحمه الله: هذا فيه أنه يستحب للعالم إذا طُلِب منه تحقيق أمر مُهِمّ، ويَعْلَم أن غيره أعلم به، أو أعرف بأصله أن يرشد إليه إذا أمكنه، وفيه الاعتراف لأهل الفضل بمزيتهم، وفيه إشارة إلى أدب الرسول في حاجة، أنه لا يستقل فيها بتصرف لَمْ يؤذن له فيه، ولهذا لَمْ يستقلَّ كريب بالذهاب إلى أم سلمة؛ لأنهم إنما أرسلوه إلى عائشة، فلما أرشدته عائشة إلى أم سلمة، وكان رسولًا للجماعة، لَمْ يستقلّ بالذهاب حتى رجع إليهم فأخبرهم، فأرسلوه إليها. انتهى.

(بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهُمَا) أي: صلاة الركعتين بعد العصر (ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، أمَّا حِينَ صَلَّاهُمَا، فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ) أي: في المسجد (ثُمَّ دَخَلَ) أي: في بيت أم سلمة رضي الله عنها (وَعِنْدِي نِسْوَةٌ) لا يعرف أسماؤهنّ (مِنْ بَنِي حَرَامٍ) -بحاء، وراء

(1)

"عمدة القاري" 7/ 460.

ص: 640

مهملتين، مفتوحتين-، وهم من الأنصار، وفائدة قولها:(مِنَ الْأَنْصَارِ) مع أن بني حرام من الأنصار الاحتراز من غير الأنصار، فإن في العرب عِدَّة بطون، يقال لهم: بنو حرام، بطن في تميم، وبطن في جُذَام، وبطن في بَكْر بن وائل، وبطن في خُزَاعة، وبطن في عُذْرة، وبطن في بَلِيّ، أفاده في "العمدة"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "من بني حرام"، قد سبق مرّات أن بني حرام بالراء في الأنصار، وحزامًا بالزاي في قُريش. انتهى.

وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" بقوله:

كُلُّ قُرَيْشِيٍّ حِزَامٌ وَهْوَ جَمْ

وَمَا فِي الَانْصَارِ حَرَامٌ مِنْ عَلَمْ

(فَصَلَّاهُمَا، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارَيةَ) لا يُعرف اسمها، ووقع في رواية البخاريّ في "المغازي":"فأرسلت إليه الخادم"، فبه يبطل قول من قال: يَحْتَمِل أن تكون ابنتها زينب، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال النوويّ رحمه الله: فيه قبول خبر الواحد، والمرأةِ، مع القدرة على اليقين بالسماع من لفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(فَقُلْتُ) وفي نسخة: "قالت: فقلت"(قُومِي بِجَنْبِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقُولِي لَهُ: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ) قال النوويّ رحمه الله: إنما قالت عن نفسها: "تقول أم سلمة"، فكَنَت نفسها، ولم تقل: هند باسمها؛ لأنَّها معروفة بكنيتها، ولا بأس بذكر الإنسان نفسه بالكنية، إذا لَمْ يعرف إلَّا بها، أو اشتَهَرَ بها بحيث لا يُعْرَف غالبًا إلَّا بها، وكنيت بابنها سلمة بن أبي سلمة، وكان صحابيًّا رضي الله عنه.

(يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُكَ) قال النوويّ رحمه الله: معنى "أسمعك" سَمِعتك في الماضي، وهو من إطلاق لفظ المضارع لإرادة الماضي، كقوله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} [البقرة: 144]. انتهى.

وفي بعض النسخ: "سَمِعْتُك" بلفظ الماضي، واللَّه تعالى أعلم.

(تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ) أي: اللتين بعد العصر (وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا) أي: فما السرّ في ذلك، وفيه أنه ينبغي للتابع إذا رأى من المتبوع شيئًا يخالف المعروف من طريقته، والمعتاد من حاله، أن يسأله بلطف عنه، فإن كان ناسيًا

(1)

راجع: "عمدة القاري" 7/ 460.

ص: 641

رجع عنه، وإن كان عامدًا، وله معنى مُخَصَّصٌ عرفه التابع، واستفاده، وإن كان مخصوصًا بحال يعلمها، ولم يتجاوزها، وفيه مع هذه الفوائد فائدة أخرى، وهي أنه بالسؤال يَسْلَم من إرسال الظنّ السيئ بتعارض الأفعال، أو الأقوال، وعدم الارتباط بطريق واحد. انتهى

(1)

.

(فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ) أي: تأخّري عن جنبه صلى الله عليه وسلم (قَالَ) كريبٌ ناقلًا عن أم سلمة رضي الله عنها (فَفَعَلَتِ الْجَارِيَةُ) ما أمرتها به أم سلمة رضي الله عنها (فَأَشَارَ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ) أي: لتتأخّر عنه، حتى لا تَشغله عن صلاته، وفيه أن إشارة المصلي بيده ونحوها من الأفعال الخفيفة لا تبطل الصلاة.

(فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ) أي: تأخرت الجارية عن جنبه صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي: سلّم من صلاته (قَالَ) صلى الله عليه وسلم للجارية لتقول لأم سلمة، أو خاطبها نفسها ("يَا بِنْتَ) وفي نسخة:"يا ابنة"(أَبِي أمَيَّةَ) هو والد أم سلمة، واسمه حُذيفة، وقيل: سُهيل بن المغيرة المخزوميّ، وكان يلقّب زاد الراكب؛ لأنه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لا يترك أحدًا يرافقه، ومعه زادٌ، بل يكفي رُفقته من الزاد

(2)

. (سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ) اسم وُضع للجمع، كالقوم والرهط، وواحده إنسانٌ من غير لفظه، مشتقّ من ناس ينوس إذا تدلَّي، وتحرّك، فيُطلق على الجنّ والإنس، كما قال اللَّه عز وجل:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} ثُّم فسّر الناس بقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}

(3)

. (مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ) وفي بعض النسخ: "من بني عبد القيس"(بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ) وللطحاويّ من وجه آخر: "قَدِمَ عليّ قلائص من الصدقة، فنسيتهما، ثم ذكرتهما، فكرهت أن أصليهما في المسجد، والناس يرون، فصليتهما عندك"، وله من وجه آخر:"فجاءني مالٌ، فشغلني"، وله من وجه آخر:"قَدِمَ عليّ وفد من بني تميم، أو جاءتني صدقة".

قال الحافظ: وقوله: "من بني تميم" وَهَمٌ، وإنما هم من عبد القيس، وكأنهم حضروا معهم بمال المصالحة من أهل البحرين، فقد ثبت من طريق

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 120.

(2)

"المرعاة" 3/ 463.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 630.

ص: 642

عمرو بن عوف: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان صالح أهل البحرين، وأَمَّر عليهم العلاء بن الحضرميّ، وأرسل أبا عبيدة، فأتاه بجزيتهم"، ويؤيده أن في رواية عبد اللَّه بن الحارث: أنه كان بعث ساعيًا، وكان قد أهمه شأن المهاجرين، وفيه: فقلت: ما هاتان الركعتان؛ فقال: "شغلني أمر الساعي". انتهى

(1)

.

(فَشَغَلُونِي) تقدّم في "شرح المقدّمة" أن شَغَلَ ثلاثيّ، وأشغل بالألف لَمْ يثبُت عند المحقّقين، فلا يُغترّ بما اشتهر منه على الألسنة، فتنبّه (عَنِ الرَّكعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ) أي: فقضيتهما بعد العصر (فَهُمَا هَاتَانِ) أي: الركعتان اللتان صلّيتهما بعد العصر هما الركعتان اللتان كنت أصليهما بعد صلاة الظهر، قضيتهما الآن بعد العصر.

وفي رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن أم سلمة، عند الطحاويّ من الزيادة: فقلت: أُمِرت بهما؟ فقال: "لا، ولكن كنت أصليهما بعد الظهر، فشُغَلتُ عنهما، فصليتهما الآن"، وله من وجه آخر عنها:"لَمْ أره صلاهما قبلُ ولا بعدُ".

لكن هذا لا ينفي الوقوع، فقد ثبت في مسلم، عن أبي سلمة أنه سأل عائشة رضي الله عنها عنهما؟ فقالت:"كان يصليهما قبل العصر، فشُغِل عنهما، أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها"؛ أي: داوم عليها.

ومن طريق عروة عنها: "ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قطّ".

ومن ثَمَّ اختَلَفَ نظر العلماء، فقيل: تقضى الفوائت في أوقات الكراهة؛ لهذا الحديث، وقيل: هو خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو خاصّ بمن وقع له نظير ما وقع له، وقد تقدم البحث في ذلك مبسوطًا قبل بابين، فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "الفتح" 3/ 127 - 128.

ص: 643

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1933](834)، و (البخاريّ) في "السهو"(12233) وفي "المغازي"(4370)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1273)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 52 - 53)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(3971)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 351 - 352)، و (الدارميّ) في "الصلاة"(1400)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1140)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1880)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1576)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 457)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 302)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(783)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز استماع المصلي إلى كلام غيره، وفهمه له، ولا يقدح ذلك في صلاته.

2 -

(ومنها): أن الأدب فيمن يكلّم المصلي أن يقوم المتكلم إلى جنبه، لا خلفه، ولا أمامه؛ لئلا يشوش عليه، بأن لا تمكنه الإشارة إليه إلَّا بمشقة.

3 -

(ومنها): أن إشارة المصلي بيده ونحوها من الأفعال الخفيفة لا تبطل الصلاة.

4 -

(ومنها): أنه يستحب للعالم إذا طُلِب له تحقيق أمر مهمّ، وعَلِم أن غيره أعلم أو أعرف بأصله أن يُرسل إليه إذا أمكنه.

5 -

(ومنها): الاعتراف لأهل الفضل بمزيتهم.

6 -

(ومنها): أن من أدب الرسول أن لا يستقلّ بتصرف شيء لَمْ يؤذن له فيه، فإن كُريبًا لَمْ يستقلّ بالذهاب إلى أم سلمة رضي الله عنها حتى رجع إليهم.

7 -

(ومنها): أن فيه البحثَ عن علة الحكم، وعن دليله.

8 -

(ومنها): الترغيب في علوّ الإسناد، والفحص عن الجمع بين المتعارضين.

ص: 644

9 -

(ومنها): أن الصحابي إذ! عَمِل بخلاف ما رواه لا يكون كافيًا في الحكم بنسخ مرويّه.

10 -

(ومنها): أن الحكم إذا ثبت لا يزيله إلَّا شيء مقطوع به.

11 -

(ومنها): أن الأصل اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم في أفعاله كلّها إلَّا ما خُصّ به بدليل صحيح صريح.

12 -

(ومنها): أن بعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم قد يخفى عليه ما اطلع عليه غيره.

13 -

(ومنها): أنه لا يُعْدَل إلى الفتوى بالرأي مع وجود النصّ.

14 -

(ومنها): أن العالم لا نقص عليه إذا سئل عما لا يدري، فوَكَلَ الأمر إلى غيره، من هو أعلم منه.

15 -

(ومنها): أن فيه قبول أخبار الآحاد، والاعتماد عليه في الإحكام، ولو كان شخصًا واحدًا رجلًا، أو امرأة؛ لاكتفاء أم سلمة رضي الله عنها بإخبار الجارية.

16 -

(ومنها): أن فيه دلالةً على فطنة أم سلمة رضي الله عنها، وحسن تأتيها بملاطفة سؤالها، واهتمامها بأمر الدين، وكأنها لَمْ تباشر السؤال؛ لحال النسوة اللاتي كُنّ عندها، فيؤخذ منه إكرام الضيف واحترامه.

17 -

(ومنها): أن فيه مشروعيّة زيارةَ النساء المرأة، ولو كان زوجها عندها.

18 -

(ومنها) مشروعيّة التنفل في البيت، ولو كان فيه من ليس منهم.

19 -

(ومنها) إثبات سنّة الظهر بعدها.

20 -

(ومنها) كراهة القرب من المصلي لغير ضرورة.

21 -

(ومنها) ترك تفويت طلب العلم، وإن طرأ ما يَشْغَل عنه.

22 -

(ومنها) جواز الاستنابة في طلب العلم، وأن الوكيل لا يشترط أن يكون مثل موكله في الفضل.

23 -

(ومنها) تعليم الوكيل التصرُّف إذا كان ممن يَجهل ذلك.

24 -

(ومنها) أن فيه إلاستفهامَ بعد التحقُّق؛ لقولها: "وأراك تصليهما".

25 -

(ومنها) المبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فرارًا من الوسوسة.

26 -

(ومنها) أن النسيان جائز على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن فائدة استفسار أم

ص: 645

سلمة رضي الله عنها عن ذلك تجويزها إما النسيان، وإما النسخ، وإما التخصيص به، فظهر وقوع الثالث، واللَّه أعلم.

27 -

(ومنها): أنه إذا تعارضت المصالح والمهمات بدأ بأهمها، ولهذا بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بحديث القوم في الإسلام، وترك سنة الظهر حتى فات وقتها؛ لأن الاشتغال بإرشادهم وبهدايتهم إلى الإسلام أهمّ

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1934]

(835) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ

(2)

، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَل عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا. قَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبِ: قَالَ إِسْمَاعِيلُ: تَعْنِي دَاوَمَ عَلَيْهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابري بفتح الميم والقاف ثم موحدة مكسورة، البغدادي العابد، ثقةٌ من العاشرة، مات سنة أربع وثلاثين وله سبع وسبعون (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) -بضم المهملة، وسكون الجيم- ابن إياس السَّعْديّ

(1)

راجع: "الفتح" 3/ 128 "كتاب السهو" رقم (1233)، و"عمده القاري" 7/ 461 - 462.

(2)

وفي نسخة: "وقتيبة بن سعيد".

ص: 646

المروزي، أبو الحسن نزيل بغداد، ثم مَرْوَ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ) القرشيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، مولى عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حُوَيطب، وقد ينسب إليه، ثقةٌ [6].

رَوَى عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وكريب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، والنعمان بن أبي عياش.

ورَوَى عنه ابنه إسحاق، ومالك، وابن أبي حازم، وموسى بن يعقوب الزَّمَعيّ، وإسماعيل بن جعفر، وابن عيينة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن سعد: تُوُفِّي في أول خلافة أبي جعفر المنصور، وكان كثير الحديث.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (835) و (1087) و (1280) و (1281) و (1574) و (2401).

6 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ ثبتٌ، مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

7 -

(عَائِشَةُ) رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم لاتحاد كيفيّة تحمّله منهم، ثم فصّل في كيّفية أدائهم؛ لاختلافهم فيه.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه، فالأول مصريّ، والثاني بغلانيّ، والثالث مروزيّ.

ص: 647

3 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وأبا سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله (أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (عَنِ السَّجْدَتَيْنِ) أي: الركعتين، فهو من إطلاق الجزء، وإرادة الكلّ (اللَّتَيْنِ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ) أي: أداء فريضة العصر، فليس المراد به بعد خروج وقت العصر (فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (شُغِلَ عَنْهُمَا) ببناء الفعل للمفعول (أَوْ نَسِيَهُمَا) يَحْتَمِل أن يكون الشك من عائشة رضي الله عنها؛ يعني: أنها شَكَّت في سبب تأخيره لهما، هل هو الشغل، أو النسيان؟ ويَحْتَمِل أن يكون من أبي سلمة؛ يعني: أنه شك فيما ذكرت عائشة رضي الله عنها من سبب التأخير، وقد بُيّن في حديث أم سلمة رضي الله عنها المذكور قبل هذا أن السبب هو الشغل بوفد عبد القيس، حيث قَدِموا عليه باسلام قومهم، واللَّه تعالى أعلم.

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث ظاهر في أن المراد بالسجدتين ركعتان، هما سنة العصر قبلها، وقال القاضي عياض رحمه الله: ينبغي أن تُحْمَل على سنة الظهر، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها؛ ليتفق الحديثان، وسنة الظهر تصحّ تسميتها أنها قبل العصر. انتهى

(1)

.

(فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ) أي: قضاء عمّا فاته (ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا) أي: داوم على صلاتهما كل يوم بعد ذلك (وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا) أي: داوم عليها (قَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، الشيخ الأول للمصنِّف في روايته (قَالَ إِسْمَاعِيلُ) هو ابن جعفر (تَعْنِي) عائشة رضي الله عنها بقولها:"أثبتهما"(دَاوَمَ عَلَيْهَا).

[تنبيه]: قول عائشة رضي الله عنها هنا: "أثبتهما" وفي رواية البخاريّ: "ما تركهما حتى لقي اللَّه عز وجل"، وفي لفظ:"لَمْ يكن يَدَعُهما"، وفي لفظ:"ما كان يأتيني في يوم بعد العصر إلَّا صلى ركعتين"، مرادها من الوقت الذي شُغِل عن الركتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ولم تُرِد أنه كان يصلي بعد العصر

(1)

"شرح النووي" 6/ 122.

ص: 648

ركعتين، من أول ما فُرِضت الصلواتُ مثلًا إلى آخر عمره، بل في حديث أم سلمة رضي الله عنها ما يدلّ على أنه لَمْ يكن يفعلهما قبل الوقت الذي ذَكَرَت أنه قضاهما فيه، ذكره في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 1934 و 1935 و 1936 و 1937](835)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(590 و 591 و 592 و 593) و"الحجِّ"(1631)، و (النسائيّ) في "المواقيت"(578) وفي "الكبرى"(1556)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1278)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1577)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 457)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1139)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1881 و 1882 و 1883 و 1884)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(783)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): حديث عائشة رضي الله عنها هذا في شأن الركعتين بعد العصر ورد بروايات كثيرة، فقد أورده هنا المصنّف بلفظ:"كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شُغِل عنهما، أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها"، وبلفظ:"ما ترك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قطّ"، وبلفظ:"صلاتان ما تركهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي قط سرًّا، ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر"، وبلفظ:"ما كان يومه الذي كان يكون عندي إلَّا صلاهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي، تعني الركعتين بعد العصر".

وأخرجه البخاريّ بلفظ: "قالت: والذي ذَهَب به

(2)

ما تركهما حتى

(1)

"الفتح" 2/ 79 "كتاب المواقيت" رقم (593).

(2)

وقوله: "قالت: والذي ذهب به"، في رواية البيهقيّ من طريق إسحاق بن الحسن، =

ص: 649

لقي اللَّه، وما لقي اللَّه تعالى حتى ثَقُل عن الصلاة، وكان يصلي كثيرًا من صلاته قاعدًا، تعني الركعتين بعد العصر، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصليهما، ولا يصليهما في المسجد؛ مخافة أن يَثْقُل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم"، وبلفظ: "ما ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم السجدتين بعد العصر عندي قطّ"، وبلفظ: "ركعتان لَمْ يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدَعُهما سرًّا ولا علانية: ركعتان قبل صلاة الصبح، وركعتان بعد العصر"، وبلفظ: "ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد العصر، إلَّا صلى ركعتين".

قال في "الفتح": تمسّك بهذه الروايات من أجاز التنفل بعد العصر مطلقًا، ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس، وقد تقدم نقل المذاهب في ذلك، وأجاب عنه من أطلق الكراهة بأن فعله هذا يدلّ على جواز استدراك ما فات من الرواتب، من غير كراهة، وأما مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، فهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه رواية ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال، رواه أبو داود، ورواية أبي سلمة، عن عائشة في نحو هذه القصّة، وفي آخره:"وكان إذا صلى صلاة أثبتها"، رواه مسلم، قال البيهقيّ: الذي اختَصَّ به صلى الله عليه وسلم المداومة على ذلك، لا أصل القضاء، وأما ما رُوِي عن ذكوان، عن أم سلمة في هذه

= والإسماعيليّ، من طريق أبي زرعة، كلاهما عن أبي نعيم، شيخ البخاريّ فيه: أنه دخل عليها، فسألها عن ركعتين بعد العصر، فقالت: والذي ذهب بنفسه، تعني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه أيضًا: فقال لها أيمن: إن عمر كان ينهى عنهما، ويضرب عليهما، فقالت: صدقتَ، ولكن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصليهما، فذكره، والخبر بذلك عن عمر أيضًا ثابت في رواية كُريب، عن أم سلمة التي ذكرناها في "بابٌ إذا كُلِّم وهو يصلي"، ففي أول الخبر عن كُريب، أن ابن عباس، والمسور بن مَخْرَمة، وعبد الرحمن بن أزهر، أرسلوه إلى عائشة، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها: إنا أُخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنهما، وقال ابن عباس: وقد كنت أضرب الناس مع عمر عليهما. . . الحديث.

ص: 650

القصة، أنها قالت: فقلت: يا رسول اللَّه أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال: "لا"، فهي رواية ضعيفة، لا تقوم بها حجة

(1)

.

قال الحافظ رحمه الله: أخرجها الطحاويّ، واحتجّ بها على أن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وفيه ما فيه.

[فائدة]: رَوَى الترمذيّ من طريق جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر؛ لأنه أتاه مال، فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لَمْ يَعُدْ، قال الترمذيّ: حديث حسن.

قال الحافظ: وهو من رواية جرير، عن عطاء، وقد سمع منه بعد اختلاطه، وإن صحّ فهو شاهد لحديث أم سلمة رضي الله عنها، لكن ظاهر قوله:"ثم لَمْ يعد" معارض لحديث عائشة المذكور في هذا الباب، فَيُحْمَل النفي على علم الراوي، فإنه لَمْ يَطَّلِع على ذلك، والمثبت مقدَّم على النافي.

وكذا ما رواه النسائيّ، من طريق أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرّة واحدة. . . الحديث، وفي رواية له عنها:"لَمْ أره يصليهما قبلُ ولا بعد"، فيُجْمَع بين الحديثين بأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يكن يصليهما إلَّا في بيته، فلذلك لَمْ يره ابن عباس، ولا أم سلمة رضي الله عنهم، ويشير إلى ذلك قول عائشة رضي الله عنها في الرواية الأولى:"وكان لا يصليهما في المسجد؛ مخافةَ أن يَثْقُل على أمته". انتهى.

[تنبيه]: رَوَى عبد الرزاق، من حديث زيد بن خالد سبب ضرب عمر رضي الله عنه

(1)

علّق بعضهم ردًّا على قول البيهقيّ هذا فيما كتبه على "الفتح"، فقال: ليس الأمر كما قال البيهقيّ، بل حديث أم سلمة المذكور حديث حسنٌ، أخرجه أحمد في "المسند" بإسناد جيّد، وهو حجة على أن قضاء سنّة الظهر بعد العصر من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما قال الطحاويّ. انتهى.

قال الجامع: وفيما قاله نظر لا يخفي، فإن زيادة "أفنقضيهما. . . إلخ" زيادة منكرة، ولقد أجاد الشيخ الألبانيُّ رحمه الله حيث أوضح هذه النكارة، في "السلسلة الضعيفة"، فراجعه (2/ 353) تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

ص: 651

الناسَ، على ذلك، فقال عن زيد بن خالد: إن عمر رآه، وهو خليفة، ركع بعد العصر، فضربه، فذكر الحديث، وفيه: فقال عمر: يا زيدُ لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سُلَّمًا إلى الصلاة حتى اللمل، لَمْ أضرب فيهما، فلعل عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة بعد العصر، إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند غروب الشمس، وهذا يوافق قول ابن عمر الماضي، وما نقلناه عن ابن المنذر وغيره.

وقد رَوَى يحيى بن بكير، عن الليث، عن أبي الأسود، عن عروة، عن تميم الداريّ، نحو رواية زيد بن خالد، وجوابِ عمر له، وفيه: ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلّون ما بين العصر إلى المغرب، حتى يمروا بالساعة التي نَهَى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُصَلَّى فيها، وهذا أيضًا يدل لما قلناه واللَّه أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: بهذا يتبيّن أن ضرب عمر رضي الله عنه الناس على الصلاة بعد العصر كان لخوف أن يستمرّوا حتى يأتي وقت النهي، وهو غروب الشمس، فعلى هذا يكون مذهبه أن وقت النهي غروب الشمس، لا بعد العصر، وإنما يضرب عليه، خوفًا من الاستمرار إلى وقت النهي، وقد سبق أن هذا مذهب بعض أهل العلم، فراجع ما سبق، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

[فائدة]: فَهِمَت عائشة رضي الله عنها من مواظبته صلى الله عليه وسلم على الركعتين بعد العصر، أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس مُختصّ بمن قصد الصلاة عند غروب الشمس، لا إطلاقه، فلهذا قالت ما تقدم نقله عنها، وكانت تتنفل بعد العصر، وقد أخرجه البخاريّ في الحجِّ، من طريق عبد العزيز بن رُفيع، قال: رأيت ابن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر، ويخبر أن عائشة رضي الله عنها حدّثته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يدخل بيتها إلَّا صلاهما، وكأنّ ابن الزبير فَهِمَ من ذلك ما فهمته خالته عائشة رضي الله عنها، واللَّه أعلم.

وقد رَوَى النسائيّ أن معاوية سأل ابن الزبير عن ذلك، فرَدَّ الحديث إلى أم سلمة رضي الله عنها، فذكرت أم سلمة قصة الركعتين حيث شُغِل عنهما، فرجع الأمر إلى ما تقدم، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 2/ 76 - 79 "كتاب مواقيت الصلاة" رقم (593).

ص: 652

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1935]

(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ع) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، جَمِيعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل بابين.

4 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل بابين أيضًا.

5 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم قبل بابين أيضًا.

6 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام، تقدّم قبل بابين أيضًا.

و"عائشة" رضي الله عنها ذكرت قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1936]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ع) وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: صَلَاتَانِ مَا تَرَكهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي قَطُّ سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

ص: 653

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) -بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ، [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ) هو: سليمان بن أبي سليمان، واسم أبيه فَيْرُوز الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود [14](ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، ثقةٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "الحيض" 1/ 686.

6 -

(أَبُوهُ) الأسود بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

والباقيان ذُكرا قبل حديث.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1937]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، وَمَسْرُوقٍ، قَالَا: نَشْهَدُ عَلَى عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا كَانَ يَوْمُهُ الَّذِي كَانَ

(1)

يَكُونُ عِنْدِي إِلَّا صَلَّاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد المعروف بالزَّمِن، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببُندار، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندار، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل بابين.

5 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

(1)

وفي نسخة بحذف لفظة "كان".

ص: 654

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله قبل حديثين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(55) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ)

[1938]

(836) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ فُضَيْل، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْأَيْدِي عَلَى صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَقُلْتُ لَهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ الأصلِ، أبو بكر الكوفيّ ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء بن كُريب الْهَمْدانيّ الكوفيّ مشهور بكنيته، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) وهو ابن سبع وثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْلِ) بن غَزْوان -بفتح المعجمة، وسكون الزاي- الضبيّ مولاهم، أبو عبد الَرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمِي بالتشيع [9](ت 195)(ع) 6 تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

4 -

(مُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ) مولى عمرو بن حُريث، ثقةٌ له أوهامٌ [5](م د ت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الشهير،

ص: 655

خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، خَدَمَهُ عشر سنين، ومات رضي الله عنه سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (121) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، ومختار، فما أخرج له البخاريّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبا كُريب من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه صاحب منقبة عظيمة، وهي خدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، نال بسببها دعواته المباركة، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، ومن المعمّرين، فقد جاوز المائة، كما أسلفته آنفًا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلِ) -بفاءين مضمومتين، ولامين الأولى ساكنة- أنه (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالَكٍ) رضي الله عنهما (عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْعَصْرِ) أي: عن حكم صلاة التطوّع بعد أداء فريضة العصر (فَقَالَ: كَانَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (يَضْرِبُ الْأَيْدِي عَلَى صَلَاةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ) أي: تعزيرًا لمن ارتكب ذلك مع علمه بالنهي (وَكُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوب الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ) أي: سنّة المغرب (فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا) أي: لَمْ يأمرنا صلى الله عليه وسلم بهاتين الركعتين، ولم ينهنا عنهما، بل أقرّنا عليهما، ففي إقراره دليل على سنيّتهما.

[فإن قلت]: كيف نَفَى أنسٌ رضي الله عنه أمره صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت ذلك في "صحيح البخاريّ" وغيره من حديث عبد اللَّه بن مغفّل رضي الله عنه؟.

[قلت]: إنما نفَى أنس رضي الله عنه علمه، لا أصل المشروعيّة بالأمر، فهو لَمْ

ص: 656

يسمع أمره صلى الله عليه وسلم، وإنما رأى تقريره من صلاهما، فأخبر عما علمه، فلا ينافي ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا قبل المغرب".

قال النوويّ رحمه الله: في هذه الروايات استحباب ركعتين بين المغرب وصلاة المغرب، وفي المسألة وجهان لأصحابنا: أشهرهما لا يُستحبّ، وأصحهما عند المحققين يستحب، لهذه الأحاديث، وفي المسألة مذهبان للسلف، واستحبهما جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين أحمد، وإسحق، ولم يستحبهما أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وآخرون من الصحابة، ومالك، وأكثر الفقهاء، وقال النخعيّ: هي بدعةٌ، وحجة هؤلاء أن استحبابهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها قليلًا، وزعم بعضهم في جواب هذه الأحاديث أنها منسوخة، والمختار استحبابها؛ لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وفي "صحيح البخاري"، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا قبل المغرب، صلُّوا قبل المغرب، صلُّوا قبل المغرب"، قال في الثالثة:"لمن شاء".

وأما قولهم: يؤدي إلى تأخير المغرب، فهذا خَيَالٌ منابذٌ للسنة، فلا يُلتَفَت إليه، ومع هذا فهو زَمَنٌ يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها.

وأما من زعم النسخ فهو مجازِفٌ؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلَّا إذا عجزنا عن التأويل، والجمع بين الأحاديث، وعلمنا التاريخ، وليس هنا شيء من ذلك، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة مستوفًى في المسألة الثالثة من الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى- واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رضي الله عنه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"شرح النوويّ" 6/ 123 - 124.

ص: 657

أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 1938](836)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1282)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2118 و 2118)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1885)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1939]

(837) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَيَرْكَعُونَ

(1)

رَكْعَتَيْن رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ، مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ الأُبُلّيّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمِي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 235) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذَكْوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمِي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) البنانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (122) من رباعيّات الكتاب.

(1)

وفي نسخة: "فركعوا".

ص: 658

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، وشيخه أُبُلّيّ، وأُبُلّة قرية من قرى البصرة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ) النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام (فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ) وفي رواية الإسماعيليّ: "إذا أخذ في أذان المغرب"(ابْتَدَرُوا) أي: تسارع الصحابة رضي الله عنهم، وفي رواية البخاريّ من طريق سفيان، عن عمرو بن عامر، عن أنس رضي الله عنه:"لقد رأيت كبار أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري" وفي رواية النسائيّ: "قام ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي "الكبرى" له:"فيبتدر لُبَابُ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(السَّوَارِيَ) جمع سارية، وهي الأُسطوانة، وكأنّ غرضهم بالاستباق إليها الاستتار بها ممن يمر بين أيديهم؛ لكونهم يصلّون فرادى، قاله في "الفتح".

(فَيَرْكَعُونَ) وفي نسخة: "فركعوا" بصيغة الماضي (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) أي: يصلّي كلّ واحد لنفسه ركعتين (حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ) أي: الذي جاء من خارج المدينة (لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ) النبويّ (فَيَحْسِبُ) بفتح السين المهملة عند الأكثرين، ويجوز كسرها عند بعضهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: حسِبْتُ زيدًا قائمًا أحسَبُهُ، من باب تَعِبَ في لغة جميع العرب، إلَّا بني كِنَانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا على غير قياس حِسابًا، بمعنى ظننتُ. انتهى؛ أي: فيظنّ الرجل الغريب (أَنَّ الصَّلَاةَ) أي: فريضة المغرب (قَدْ صُلِّيَتْ) بالبناء للمفعول، وقوله:(مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا)"من" الأولى بالكسر تعليليّة، و"مَن" الثانية بالفتح موصولة؛ أي: ذلك كائنٌ من أجل كثرة المصلّين.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ والنسائيّ في آخر هذا الحديث: "ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء"، وهو من رواية عمرو بن عامر الأنصاريّ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ودونك نصّ البخاريّ:

(625)

حدّثنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا غندر، قال: حدّثنا شعبة،

ص: 659

قال: سمعت عمرو بن عامر الأنصاريّ، عن أنس بن مالك، قال:"كان المؤذّن إذا أذَّن، قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري، حتى يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء"، قال عثمان بن جَبَلَة، وأبو داود، عن شعبة:"لَمْ يكن بينهما إلَّا قليل". انتهى.

وقوله: "ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء" التنوين فيه للتكثير؛ أي: لَمْ يكن بين الأذان والإقامة شيء كثير من الزمن.

قال الحافظ رحمه الله: وبالتقرير الذي ذكرناه يندفع قول من زعم أن الرواية المعلقة معارضة للرواية الموصولة، بل هي مبيِّنة لها، ونفيُ الكثير يقتضي إثبات القليل، وقد أخرج المعلَّقة الإسماعيليّ موصولة من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة بلفظ:"وكان بين الأذان والإقامة قريبٌ"، ولمحمد بن نصر من طريق أبي عامر، عن شعبة نحوه.

وقال ابن المنيِّر رحمه الله: يُجْمَع بين الروايتين بحمل النفي المطلق على المبالغة مجازًا، والإثبات للقليل على الحقيقة.

وحمل بعض العلماء حديث الباب على ظاهره، فقال: دَلَّ قوله: "ولم يكن بينهما شيء" على أن عموم قوله: "بين كل أذانين صلاة" مخصوص بغير المغرب، فإنهم لَمْ يكونوا يصلّون بينهما، بل كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان، ويفرغون مع فراغه، قال: ويؤيد ذلك ما رواه البزار من طريق حيان بن عبيد اللَّه، عن عبد اللَّه بن بُريدة، عن أبيه مثل حديث عبد اللَّه بن مغفّل الآتي في الباب التالي، ولفظه:"بين كل أذانين صلاة -ثلاثًا- لمن شاء" الأول، وزاد في آخره:"إلَّا المغرب". انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وفي قوله: "ويفرغون مع فراغه" نظرٌ؛ لأنه ليس في الحديث ما يقتضيه، ولا يلزم من شروعهم في أثناء الأذان ذلك.

وأما رواية حيان -وهو بفتح المهملة، والتحتانية- فشاذّة؛ لأنه، وإن كان صدوقًا عند البزار، وغيره، لكنه خالف الحفاظ من أصحاب عبد اللَّه بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه.

ص: 660

وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيليّ: وكان بريدة يصلي ركعتين قبل المغرب، فلو كان الاستثناء محفوظًا لَمْ يخالف بريدة روايته.

وقد نقل ابن الجوزيّ في "الموضوعات" عن الفلاس أنه كذَّب حيانًا المذكور. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: سيأتي قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى- تحقيق القول في رواية حَيَّان لن عبيد اللَّه المذكورة، وأن حيان الذي كذّبه الفلاس ليس هو، بل هو حيان بن عبد اللَّه مكبرًا، أبو جبلة الدارميّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 1939](837)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(503) و"الأذان"(625)، و (النسائيّ) في "الأذان"(682) و"الكبرى"(1646)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1163)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 129 و 199 و 280 و 282)، و (الدارميّ) في "سننه"(1448)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1332)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1288)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2120)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1886)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في مذاهب أهل العلم في حكم الصلاة قبل المغرب:

قال الإمام الترمذيُّ رحمه الله في "جامعه": وقد اختلف أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة قبل المغرب، فلم ير بعضهم الصلاة قبل المغرب، وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يصلون قبل صلاة المغرب ركعتين، بين الأذان والإقامة، وقال أحمد وإسحاق: إن صلّاهما فحَسَنٌ، وهذا عندهما على الاستحباب. انتهى.

(1)

"الفتح" 2/ 127 - 128.

ص: 661

وقال في "الفتح": وقال القرطبيّ وغيره: ظاهر حديث أنس رضي الله عنه: أن الركعتين بعد المغرب، وقبل صلاة المغرب كان أمرًا أقر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، وعملوا به، حتى كانوا يستبقون إليه، وهذا يدلّ على الاستحباب، وكأن أصله قوله صلى الله عليه وسلم:"بين كل أذانين صلاة"، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لَمْ يصلهما، فلا ينفي الاستحباب، بل يدلّ على أنهما ليستا من الرواتب، وإلى استحبابهما ذهب أحمد، وإسحاق، وأصحاب الحديث.

ورُوي عن ابن عمر، قال: ما رأيت أحدًا يصليهما على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما.

وهو قول مالك، والشافعيّ، وادَّعَى بعض المالكية نسخهما، فقال: إنما كان ذلك في أول الأمر، حيث نُهِي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فبيّن لهم في ذلك وقت الجواز، ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة إدراك أول وقتها.

وتُعُقّب بأن دعوى النسخ لا دليل عليها.

والمنقول عن ابن عمر رواه أبو داود من طريق طاوس عنه، ورواية أنس المثبتة مقدمة على نفيه. والمنقول عن الخلفاء الأربعة رواه محمد بن نصر وغيره من طريق إبراهيم النخعيّ عنهم، وهو منقطع، ولو ثبت لَمْ يكن فيه دليل على النسخ، ولا الكراهة.

وقد أخرج البخاريّ في أبواب التطوع عن مرثد بن عبد اللَّه اليزنيّ، قال:"أتيت عقبة بن عامر الجهني، فقلت: إلا أعجبك من أبي تميم -يعني: الجيشاني- يركع ركعتين قبل صلاة المغرب، فقال: عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل"، فلعل غيره أيضًا منعه الشغل.

وقد رَوَى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأُبي بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وغيرهم: أنهم كانوا يواظبون عليهما.

وأما قول أبي بكر ابن العربيّ: اختَلَف فيها الصحابة، ولم يفعلها أحد

ص: 662

بعدهم، فمردود بقول محمد بن نصر: وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب.

ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، وعبد اللَّه بن بريدة، ويحيى بن عقيل، والأعرج، وعامر بن عبد اللَّه بن الزبير، وعراك بن مالك، ومن طريق الحسن البصريّ أنه سئل عنهما؟ فقال: حسنتين -واللَّه- لمن أراد اللَّه بهما.

وعن سعيد بن المسيِّب أنه كان يقول: حقّ على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين.

وعن مالك قول آخر باستحبابهما.

وعند الشافعية وجه رجحه النوويّ، ومن تبعه، وقال في "شرح مسلم": قول من قال: إن فِعْلَهُما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خَيَال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما زمن يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها.

قال الحافظ رحمه الله: ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما، كما في ركعتي الفجر.

قيل: والحكمة في الندب إليهما رجاء إجابة الدعاء؛ لأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، وكلما كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر.

واستدل بحديث أنس رضي الله عنه على امتداد وقت المغرب، وليس بواضح. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ثم بدا لي أن أنقل ما ذكره محمد بن نصر بتمامه من مختصره للعلامة أحمد بن علي المقريزي -رحمهما اللَّه تعالى- إتمامًا للفائدة، حيث إن المسألة مهمّة جدًّا، فلا بدّ من تحقيق ما ثبت عن السلف رحمهم الله فيها.

قال رحمه الله:

"باب الركعتين قبل المغرب":

قال اللَّه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فأجمع أهل العلم

(1)

"الفتح" 2/ 128.

ص: 663

على أن الشمس إذا غربت فقد دخل الليل، وحَلّ فطر الصائم، وجاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فإذا غربت الشمس فقد حلّت الصلاة، والصلاة في جميع الأوقات مندوب إليها، مرغب فيها، إلَّا الأوقات التي نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، فإن الصلاة في الليل من أوله إلى آخره مباح مندوب إليه، لَمْ ينه عن الصلاة في شيء من ساعاته، فكل صلاة بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهي من صلاة الليل، والفضائل التي جاءت لصلاة الليل مشتملة على صلاة الليل كله، وإن كانت الصلاة في بعض أوقاته أفضل منها في بعض.

وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون قبل المغرب ركعتين.

وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أَذِنَ في ذلك لمن أراد أن يصلي، وفُعِل على عهده بحضرته، فلم ينه عنه.

حدثنا وهب بن بقية، أخبرني خالد بن عبد اللَّه، عن الجريريّ، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه بن مغفل المزنيّ رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاةٌ، بين كل أذانين صلاة، لمن شاء".

حدثنا محمد بن عبيد، ثنا عبد الوارث بن سعيد، ثنا حسين المعلم، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه المزني. قال: كتبته، فنسيته، لا أدري عبد اللَّه بن معقل، أو مغفل رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، لمن شاء" خشية أن يتخذها الناس سنة.

حدثنا إسحاق، أخبرنا سويد بن عبد العزيز، ثنا ثابت بن عجلان، عن سليم بن عامر، عن عبد اللَّه بن الزبير، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من صلاة مفروضة، إلَّا وبين يديها سجدتان"، قال محمد بن نصر: يعني: ركعتين.

حدثنا إسحاق، ومحمد بن يحيى، قالا: ثنا أبو عامر العقدي، عن شعبة، عن عمرو بن عامر، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "كان المؤذن يؤذن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لصلاة المغرب، فيبتدر لباب أصحاب

ص: 664

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السواري، يصلون الركعتين قبل المغرب، حتى يخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهم يصلون".

زاد محمد بن يحيى: قال: وكان بين الأذان والإقامة يسير.

وعن المختار بن فُلْفُل، قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه، قلت: هل من صلاة بعد العصر؟ قال: لا، حتى تغيب الشمس، قلت: فإذا غابت؟ قال: ركعتين، قلت: قبل الصلاة؟ قال: نعم. قلت: هل رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلت: فهل رآكم تصلّونهما؟ قال: نعم. قلت: أكان أمركم بهما؟ قال: لا، ولا نهانا عنهما، كان إذا أذن المؤذن قام أحدنا فصلى ركعتين.

وعن ثابت، عن أنس:"كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، يصلون الركعتين قبل المغرب".

وعن ثابت، عن أنس:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج إلينا بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فيرانا نصلي، فلا ينهانا، ولا يأمرنا".

وفي رواية: "إن كان المؤذن ليؤذن، فيتبادر ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم السواري، فيصلون ركعتين، في يعاب ذلك عليهم".

وفي أخرى: "كنا بالمدينة إذا أذن بالمغرب ابتدر القوم السواري، يصلّون الركعتين، حتى إن الغريب ليدخل المسجد فيرى أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما".

وفي أخرى: "ثم إذا صليت العصر، فلا تصلّ حتى تغرب الشمس، فإذا غربت الشمس، فصلّ ركعتين، فإن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كذلك كانوا يفعلون".

وعن أبي الخير: رأيت أبا تميم الجيشاني يركع الركعتين حين يسمع أذان المغرب، فأتيت عقبة بن عامر الجهني، فقلت له: إلا أعجبك من أبي تميم الجيشاني -عبد اللَّه بن مالك- يركع ركعتين قبل المغرب، وأنا أريد أن أغمصه، فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل.

وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: كنا نركعهما، إذا زاحمنا؛ يعني: بين الأذان والإقامة في المغرب.

ص: 665

وعن زِرّ: قدمت المدينة، فلزمت عبد الرحمن بن عوف، وأُبي بن كعب، فكانا يصليان قبل صلاة المغرب، لا يدعان ذلك.

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يصلّون عند كل تأذين.

وعن رغبان مولى حبيب بن مسلمة، قال: لقد رأيت أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يهبّون إليهما، كما يهبّون إلى المكتوبة؛ يعني: الركعتين قبل المغرب.

وعن راشد بن يسار: أشهد على خمسة ممن بايع تحت الشجرة أنهم كانوا يصلّون ركعتين قبل المغرب.

وعن يحيى بن أيوب: حدثني ابن طاوس، عن أبيه طاوس: أن أبا أيوب الأنصاري صلى مع أبي بكر رضي الله عنه بعد غروب الشمس قبل الصلاة، ثم لَمْ يصلّ مع عمر رضي الله عنه، ثم صلى مع عثمان رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فقال: إني صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم صليت مع أبي بكر، وفَرِقْتُ من عمر، فلم أصلّ معه، وصليت مع عثمان، إنه ليّن.

قال محمد بن نصر: وهذا عندي، وهمٌ، إنما الحديث في الركعتين بعد العصر، لا في الركعتين قبل المغرب؛ لأن المعروف عن عمر أنه كان ينكر ركعتين بعد العصر، ويضرب عليهما، فأما الركعتان قبل المغرب فلا، وقد رواه معمر، عن ابن طاوس على ما قلنا، وهو أحفظ من يحيى بن أيوب، وأثبت.

وعن خالد بن معدان: أنه كان يركع ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، لَمْ يدعهما حتى لقي اللَّه، وكان يقول: إن أبا الدرداء كان يركعهما، ويقول: لا أدعهما، وإن ضربت بالسياط.

وقال عبد اللَّه بن عمرو الثقفي: رأيت جابر بن عبد اللَّه يصلي ركعتين قبل المغرب.

وعن يحيى بن سعيد، أنه صحب أنس بن مالك إلى الشام، فلم يكن يترك ركعتين عند كل أذان.

وسئل سعيد بن المسيب، عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: ما رأيت فقيهًا يصليهما، ليس سعد بن مالك، وفي رواية: كان المهاجرون لا يركعون

ص: 666

الركعتين قبل المغرب، وكانت الأنصار يركعونهما، وكان أنس يركعهما.

وعن مجاهد: قالت الأنصار: لا نسمع أذانًا إلَّا قمنا فصلينا.

وعن الحسن بن محمد بن الحنفية، أنه كان يقول: إن عند كل أذان ركعتين.

وسئل قتادة عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: كان أبو برزة رضي الله عنه يصليهما.

وسأل رجل ابن عمر، فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: من الذين يحافظون على ركعتي الضحي، فقال: وأنتم تحافظون على الركعتين قبل المغرب، فقال ابن عمر: كنا نحدَّث أن أبواب السماء تفتح عند كل أذان.

وعن ابن عباس: صلاة الأوابين ما بين الأذان وإقامة المغرب.

وعن سويد بن غفلة: كنا نصلي الركعتين قبل المغرب، وهي بدعة ابتدعناها في إمرة عثمان بن غفلة، وعن عبد اللَّه بن بريدة: كان يقال: ثلاث صلوات، صلاة الأوابين، وصلاة المنيبين، وصلاة التوابين، صلاة الأوابين ركعتان قبل صلاة الصبح، وصلاة المنيبين صلاة الضحي، وصلاة التوابين ركعتان قبل المغرب.

وكان عبد اللَّه بن بريدة، ويحيى بن عقيل يصليان قبل المغرب ركعتين.

وعن الحكم: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى يصلي قبل المغرب ركعتين. وسئل الحسن عنهما؟ فقال: حسنتين -واللَّه- جميلتين لمن أراد اللَّه بهما، وعن سعيد بن المسيب: حقّ على كل مؤمن إذا أذن المؤذن يركع ركعتين، وكان الأعرج، وعامر بن عبد اللَّه بن الزبير يركعهما.

وأوصى أنس بن مالك ولده أن لا يدعوهما.

وعن مكحول: على المؤذن أن يركع ركعتين على إثر التأذين، وعن الحكم بن الصلت: رأيت عراك بن مالك إذا أذن المؤذن بالمغرب قام، فصلى سجدتين قبل الصلاة، وعن السكن بن حكيم: رأيت علباء بن أحمر اليشكري إذا غربت الشمس قام فصلى ركعتين قبل المغرب.

وعن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر: إن كان المؤذن ليؤذن بالمغرب، ثم تقرع المجالس من الرجال، يقومون يصلّونهما.

ص: 667

وعن الفضل بن الحسن: أنه كان يقول: الركعتان اللتان تصليان بين يدي المغرب صلاة الأوابين.

وقال أحمد بن حنبل: في الركعتين قبل المغرب أحاديث جياد، أو قال: صحاح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وذكر حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إلَّا أنه قال: لمن شاء، فمن شاء صلي، قيل له: قبل الأذان، أم بين الأذان والإقامة؟ فقال: بين الأذان والإقامة، ثم قال: وإن صلى إذا غربت الشمس، وحلّت الصلاة؛ أي: فهو جائز، قال: هذا شيء ينكره الناس، وتبسم كالمتعجب ممن ينكر ذلك، وسئل عنهما؟ فقال: أنا لا أفعله، وإن فعله رجل لَمْ يكن به بأس.

ذكر من لم يركعهما من الصحابة:

عن النخعيّ، قال: كان بالكوفة من خيار أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو مسعود، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، فأخبرني من رمقهم كلهم، فما رأى أحدًا منهم يصليهما قبل المغرب.

وفي رواية: إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا لا يصلون الركعتين قبل المغرب.

وقيل لإبراهيم: إن ابن أبي الهذيل كان يصلي قبل المغرب ركعتين، فقال: إن ذاك لا يعلم.

قال محمد بن نصر: ليس في حكاية هذا الذي رُوي عن إبراهيم أنه رمقهم، فلم يرهم يصلونهما دليل على كراهتهم لهما، إنما تركوهما؛ لأن تركهما كان مباحًا، ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه لَمْ يرو عنه أنه ركعهما، غير أنه رغّب فيهما، وكان ترغيبه فيهما أكثر من فعله لو فعلهما من غير أن يرغّب فيهما، وقد يجوز أن يكون أولئك الذين حكى عنهم من حكى أنه رمقهم، فلم يرهم يصلّونهما قد صلوهما في غير الوقت الذي رمقهم هذا.

ويجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد ركعهما في بيته حيث لَمْ يره الناس؛ لأن أكثر تطوعه كان في منزله. وكذلك الذين رمقوا بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكونوا قد صلّوا في بيوتهم، ولذلك لَمْ يرهم الذي رمقهم يصلّونهما، فإن كثيرًا من العلماء كانوا لا يتطوعون في المسجد.

ص: 668

عن زيد بن وهب، قال: لما أذَّن المؤذن للمغرب قام رجل، فصلى ركعتين، وجعل يلتفت في صلاته، فعلاه عمر بالدرة، فلما قضى الصلاة، قال: يا أمير المؤمنين، نعم ما كسوت، قال: رأيتك تتلفت في حلاتك، ولم يعب الركعتين.

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، ثني أبي، ثنا حسين، عن ابن بريدة: أن عبد اللَّه المزني حدثه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين، ثم قال:"صلوا قبل المغرب ركعتين"، ثم قال عند الثالثة:"لمن شاء"، خاف أن يحسبها الناس سنة.

قال العلامة أحمد بن علي المقريزيّ في "مختصر قيام الليل": هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فإن عبد الوارث بن عبد الصمد احتجّ به مسلم، والباقون احتج بهم الجماعة.

وقد صحّ في ابن حبان حديث آخر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين قبل المغرب. انتهى

(1)

.

[تنبيهات]:

(الأول): وقع في سند محمد بن نصر سقَطٌ، وهو قول عبد الصمد:"حدثني أبي"، ونص "صحيح ابن حبان" (3/ 59): أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا أبي، حدثني أبي، حدثنا حسين المعلم، عن عبد اللَّه بن بريدة، أن عبد اللَّه المزني، حدثه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين"، ثم قال:"صلوا قبل المغرب ركعتين"، ثم قال عند الثالثة:"لمن شاء" خاف أن يحسبها الناس سنة.

(الثاني): وقع في نسخة "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" نقص، وهو قوله:"ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين"، فألحقه المحقِّق من الأصل:"الأنواع والتقاسيم"، كما ذكر في تعليقه، جزاه اللَّه خيرًا على ذلك.

(الثالث): في قول المقريزيّ: "وقد صح في ابن حبان حديث آخر" نظر؛

(1)

"مختصر قيام الليل" ص 29 - 32.

ص: 669

فإن الحديث هو الحديث الذي أخرجه محمد بن نصر، وليس حديثًا آخر، كما ذكرته الآن، فتبصر.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تحصَّل مما سبق من التحقيق أن المذهب الصحيح هو مذهب من يقول باستحباب الركعتين قبل صلاة المغرب؛ لما سمعت من الأدلة الصحيحة الصريحة، وأما ما ادّعاه بعضهم من النسخ لها فباطل، وأما ما نقل من كراهة بعض السلف لها فيحمل على أنه لَمْ يصل إليهم الخبر الصحيح، أو تأولوه، وليس قول أحد، ولا فعله حجة، إلَّا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي قال اللَّه تعالى في حقه:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. جعلنا اللَّه وإياكم ممن يأخذ بهديه صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا بمنّه وكرمه، آمين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(56) - (بَابُ "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ")

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1940]

(838) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنْ كَهْمَسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ"، قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 251) وهو ابن ثمانين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابد، من كبار [9] مات في آخر سنة ست، أو أول سنة سبع وتسعين ومائة، وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

ص: 670

4 -

(كَهْمَسُ) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ [5](ت 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصَيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل:(115) وله مائة سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 152.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ) بن عبد نَهْم، أبو عبد الرحمن المزنيّ صحابيّ بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، مات سنة سبع وخمسين، وقيل بعد ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من كهمس، وابن بُريدة كان في البصرة، ثم انتقل إلى مرو، والباقون كوفيون.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ: كهمس عن ابن بريدة، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ) أي: الأذان والإقامة، ولا يصحّ حمله على ظاهره؛ لأن الصلاة بين الأذانين مفروضة، والخبر ناطق بالتخيير، لقوله:"لمن شاء". قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: إطلاق الأذان على الإقامة صحيح؛ لأن الأذان إعلام بدخول الوقت، وهي إعلام بحضور فعل الصلاة، ولذا قدّمنا أن الراجح أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" يشمل المقيم، فمن سمعه يقول مثل ما يقول، وقيل: هذا من باب التغليب، كقولهم: القمرين للشمس والقمر، وهو الذي توارد عليه الشرّاح، كما قال في "الفتح"، لكن الأول هو الأولى.

ص: 671

(صَلَاةٌ") مبتدأ، خبره الظرف قبله؛ أي: وقتُ صلاةٍ، أو المراد صلاة نافلةٌ، أو نُكِّرت لكونها تتناول كل عدد نواه المصلي من النافلة كركعتين، أو أربع، أو أكثر، ويَحْتَمِل أن يكون المراد به الحثّ على المبادرة إلى المسجد عند سماع الأذان لانتظار الإقامة؛ لأن منتظر الصلاة في صلاة، قاله الزين ابن المنيِّر رحمه الله

(1)

.

وقال في "النهاية": يريد بها السنن الرواتب التي تصلى بين الأذان والإقامة. انتهى

(2)

.

(قَالَهَا ثَلَاثًا) ولفظ البخاريّ: "بين كل أذانين صلاةٌ، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن شاء"، ولفظ النسائيّ:"بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كلّ أذانين صلاةٌ، لمن شاء".

قال القرطبيّ رحمه الله أراد بالأذانين: الأذان والإقامة، وغَلَّب عليهما اسم الأذان؛ لأن فيهما إعلامًا بالشروع في الصلاة، ووجه هذا الحديث أنه إذا أُذِّن للصلاة، فقد خرج وقتُ النهي، فتجوز الصلاة حينئذ. انتهى

(3)

.

وقال ابن الملك رحمه الله: كَرّره تأكيدًا للحث على النوافل بينهما، وقال المظهر رحمه الله: إنما حرَّضَ صلى الله عليه وسلم أمته على صلاة النفل بين الأذانين؛ لأن الدعاء لا يُرَدّ بين الأذان والإقامة؛ لشرف ذلك الوقت، وإذا كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة أكثر.

وقال القاري رحمه الله: وللمبادرة إلى العبادة، والمسارعة إلى الطاعة، وللفرق بين المخلص والمنافق، وليتهيأ لأداء الفرض على وجه الكمال.

والحاصل أنه يسن أن يصلي بين الأذان والإقامة، وكَرِه أبو حنيفة النفل قبل المغرب؛ لحديث بريدة الأسلميّ رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن عند كل أذانين ركعتين، ما خلا صلاة المغرب"، كذا ذكره بعض علمائنا. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحديث المذكور رواه الدارقطنيّ، ثم

(1)

"الفتح" 2/ 127.

(2)

"زهر الربى" 2/ 28 - 29.

(3)

"المفهم" 2/ 468.

(4)

"مرقاة المفاتيح" 2/ 356.

ص: 672

البيهقيّ في "سننيهما" عن حيان بن عبيد اللَّه العدوي، حدثنا عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب"، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"، ونقل عن الفلاس أنه قال: كان حيان هذا كذابًا، قال العيني: الحديث رواه البزار في "مسنده"، فقال: لا نعلم من رواه عن ابن بريدة إلَّا حيان بن عبيد اللَّه، وهو رجل مشهور من أهل البصرة، لا بأس به. انتهى

(1)

.

قال الجامع: سيأتي الجواب عما قاله العيني في المسائل الآتية في الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.

(قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ") أي: لمن أراد أن يصلي، وفيه بيان أن قوله:"بين كل أذانين صلاة" على التخيير، لا على الإيجاب.

ولفظ البخاريّ: "بين كل أذانين صلاة، ثلاثًا لمن شاء"، وفي لفظ:"بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة"، ثم قال في الثالثة:"لمن شاء".

قال الحافظ رحمه الله: وهذا يبيّن أنه لَمْ يقل: "لمن شاء" إلَّا في المرة الثالثة، بخلاف ما يُشعر به ظاهر الرواية الأولى من أنه قيّد كل مرّة بقوله:"لمن شاء".

وفي رواية لمسلم التالية، وهي رواية الإسماعيليّ:"قال في الرابعة: لمن شاء"، وكأن المراد بالرابعة في هذه الرواية المرة الرابعة؛ أي: اقتصر فيها على قوله: "لمن شاء"، فأطلق عليها بعضهم رابعة باعتبار مطلق القول، وبهذا توافق رواية البخاريّ

(2)

، وفي حديث أنس رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم سلّم ثلاثًا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، رواه البخاريّ، وكأنه قال: بعد الثلاث "لمن شاء" ليدلّ على أن التكرار لتأكيد الاستحباب.

وقال ابن الجوزيّ: فائدة هذا الحديث أنه يجوز أن يتوهم أن الأذان للصلاة يمنع أن يفعل سوى الصلاة التي أُذّن لها، فبيّن أن التطوّع بين الأذان

(1)

"عمدة القاري" 5/ 138.

(2)

سيأتي في شرح الحديث التالي كلام لأبي الحسن بن القطّان أن قوله: "في الرابعة" مما وهم فيه سعيد الجريريّ؛ لاختلاطه، فالمحفوظ رواية كهمس هذه بلفظ:"في الثالثة"، وسيأتي الجواب عنه هناك -إن شاء اللَّه تعالى-.

ص: 673

والإقامة جائز. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مغفّل رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 1940 و 1941](838)، و (البخاريّ) في "الأذان"(624 و 627)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1283)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(185)، و (النسائيّ) في "الأذان"(681)، و"الكبرى"(1645)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1162)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 356)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 54 و 56 و 57)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 336)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1287)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1559 و 1560 و 1561)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2116)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1887 و 1888)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 266)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 475)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(430)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في بيان حديث: "إن عند كل أذانين ركعتين، ما خلا صلاة المغرب":

قال الحافظ أبو الحسن الدارقطنيُّ رحمه الله في "سننه": حدّثنا عليّ بن محمد المصريّ، ثنا الحسن بن غليب، نا عبد الغفار بن داود، نا حيان بن عبيد اللَّه، نا عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن عند كل أذانين ركعتين، ما خلا صلاة المغرب".

قال: ونا عبد اللَّه بن محمد بن عبد العزيز، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حيان بن عبيد اللَّه العدويّ، قال: كنا جلوسًا عند عبد اللَّه بن بريدة، فأذّن مؤذن صلاة الظهر، فلما سمع الأذان قال: قوموا فصلُّوا ركعتين قبل الإقامة، فإن أبي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عند كل أذانين ركعتان قبل الإقامة، ما خلا

(1)

"الفتح" 2/ 127.

ص: 674

أذان المغرب"، قال ابن بريدة: "لقد أدركت عبد اللَّه بن عمر يصلي تينك الركعتين عند المغرب، لا يَدَعُهما على حال، قال: فقمنا فصلينا الركعتين قبل الإقامة، ثم انتظرنا حتى خرج الإمام، فصلينا معه المكتوبة".

خالفه حسين المعلّم، وسعيد الجريريّ، وكهمس بن الحسن، وكلهم ثقات، وحيان بن عبيد اللَّه ليس بقويّ، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

وكتب العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني" ما نصه: والحديث أخرجه البيهقيّ في "سننه"، ورواه البزار في "مسنده"، وقال: لا نعلم رواه عن ابن بريدة إلَّا حيان بن عبيد اللَّه، وهو رجل مشهور، من أهل البصرة، لا بأس به، وقال البيهقيّ في "المعرفة": أخطأ فيه حيان بن عبيد اللَّه في الإسناد والمتن جميعًا.

أما السند، فأخرجاه في "الصحيح" عن سعيد الجريريّ، وكهمس، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه بن مغفل، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"بين كل أذانين صلاة" قال في الثالثة: "لمن شاء".

وأما المتن، فكيف يكون صحيحًا، وفي رواية ابن المبارك، عن كهمس في هذا الحديث، قال: وكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين، وفي رواية حسين المعلم، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه بن مغفل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين"، وقال في الثالثة:"لمن شاء" خشيةَ أن يتخذها الناس سنة، رواه البخاري في "صحيحه". انتهى.

وذكر ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات"، ونقل عن الفلاس أنه قال: كان حيان هذا كذابًا. انتهى.

وقال السيوطيّ في "اللآلئ المصنوعة": قال البزار بعد تخريجه: لا نعلم رواه إلَّا حيان، وهو بصري مشهور، ليس به بأس، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": لكنه اختلط، وذكره ابن عديّ في "الضعفاء". انتهى.

وحيان هذا غير الذي كذّبه الفلاس؛ ذاك حيان بن عبد اللَّه -بالتكبير- أبو جبلة الدارميّ، وهذا حيان بن عبيد اللَّه -بالتصغير- أبو زهير البصريّ،

(1)

"سنن الدارقطني" 1/ 264 - 265.

ص: 675

ذكرهما في "الميزان"، وقال في ترجمة البصريّ: قال البخاريّ: ذكر الصلت عنه الاختلاط، وكذا قال في "اللسان"، وزاد في ترجمة البصريّ: وقال أبو حاتم: صدوق، وقال إسحاق ابن راهويه: كان رجل صدق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حزم: مجهول، فلم يصب. انتهى.

وفي "صحيح البخاريّ" من طريق كهمس، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه بن مغفل: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بين كل أذانين صلاة". انتهى

(1)

.

وقال البيهقيُّ رحمه الله في "سننه" بعد أن أخرج حديث كهمس، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه بن مغفل: رواه حيان بن عبيد اللَّه، عن عبد اللَّه بن بريدة، فأخطأ في إسناده، وأتى بزيادة لَمْ يتابَع عليها، ثم أخرجه بسنده، ثم أخرج بسنده عن ابن خزيمة، أنه قال على إثر هذا الحديث: حيان بن عبيد اللَّه هذا قد أخطأ في الإسناد؛ لأن كهمس بن الحسن، وسعيد بن إياس الجريريّ، وعبد المؤمن الْعَتَكيّ رووا الخبر عن ابن بريدة، عن عبد اللَّه بن مغفل، لا عن أبيه، هذا علمي من الجنس الذي كان الشافعيُّ رحمه الله يقول: أخذ طريق الْمَجَرَّة، فهذا الشيخ لَمَّا رأى أخبار ابن بريدة عن أبيه توهّم أن هذا الخبر هو أيضًا عن أبيه، ولعل لما رأى العامّة لا تصلي قبل المغرب توهّم أنه لا يصلى قبل المغرب، فزاد هذه الكلمة في الخبر، وازداد علمًا بأن هذه الرواية خطأ أن ابن المبارك قال في حديثه عن كهمس: فكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين، فلو كان ابن بريدة قد سمع من أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الاستثناء الذي زاد حيان بن عبيد اللَّه في الخبر:"ما خلا صلاة المغرب" لَمْ يكن يخالف خبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ساق نجر ابن المبارك بسنده، انظر:"السنن الكبرى"(2/ 474 - 475).

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد تبيّن بما تقدم أن زيادة الاستثناء: "ما خلا صلاة المغرب" لا تصح، بل هي زيادة منكرة؛ لمخالفة حيان بن عبيد اللَّه للثقات فيها، فهو وإن قال فيه أبو حاتم: صدوق، وقال ابن راهويه: رجل صدق، وقال البزار: ليس به بأس، إلَّا أن جرحه يقدَّم؛ لكونه مفسرًا، فقد قال البخاريّ: ذكر الصلت عنه الاختلاط، وقال الدارقطني: ليس بقويّ، وذكره ابن

(1)

"التعليق المغني" 1/ 264 - 266.

ص: 676

عدي في "الضعفاء"، ومن المقرَّر عند المحدثين أن الجرح المفسَّر مقدَّم على التعديل على الراجح، بل رجّح بعضهم تقديم الجرح مطلقًا، قال الحافظ السيوطيُّ رحمه الله في "ألفية الحديث":

وَقَدِّمِ الْجَرْحَ وَلَوْ عَدَّلَهُ

أَكْثَرُ فِي الْأَقْوَى فَإِنْ فَصَّلَهُ

فَقَالَ مِنْهُ تَابَ أَوْ نَفَاهُ

بِوَجْهِهِ قُدِّمَ مَنْ زَكَّاهُ

وبهذا تعلم ضعف ما قاله ابن التركمانيّ في "الجوهر النقيّ" بعد ذكر من وثقه: فهذه زيادة من ثقةٌ، فيُحْمَل على أن لابن بريدة فيه سندين، سمعه من ابن مغفل بغير تلك الزيادة، وسمعه من أبيه بالزيادة. انتهى

(1)

.

فإن هذا ليس من تحقيق المحدثين، بل من الواجب عليه أن يذكر قول من ضعّفه، ثم يعمل بمقتضى ما قاله المحدثون، من تقديم الجرح، أو التعديل، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وعمدة العنيد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1941]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: "لِمَنْ شَاءَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس الْجُرَيريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

والباقون ذكروا قبله.

وقوله: (مِثْلَهُ) أي: مثل حديث كهمس، عن عبد اللَّه بن بُريدة.

(1)

"الجوهر النقيّ" 2/ 476.

ص: 677

وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ. . . إلخ) هذه الرواية مخالفة لما سبق من رواية كهمس من أنه قال ذلك في الثالثة، وقد أشار إلى الطعن فيها الحافظ أبو الحسن ابن القطّان في "بيان الوهم والإيهام"، فقال تعقّبه على الحافظ عبد الحقّ الإشبيليّ في "أحكامه" ما نصّه: وذكر من عند مسلم حديث ابن مغفل: "بين كل أذانين صلاة"، ثم قال: وفي رواية: "قال في الرابعة: لمن شاء"، ولم يبيّن أن هذه الزيادة من رواية سعيد الجريريّ على غير لفظ كهمس في أنها قالها في الثالثة. انتهى

(1)

.

وذكر أبو الحسن أيضًا في موضع آخر أن هذه الرواية مما اختلط فيها الْجُريريّ، فقال: وقد ذكروا أن حديث "بين كل أذانين صلاة" مما تبين فيه اختلاطه، قال عمرو بن عليّ الفلاس في "تاريخه": سمعت يحيى بن سعيد يقول: أتيت الْجُريريّ، فقال: حدّثنا عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه بن عمرو:"بين كل أذانين صلاةٌ"، فلما خرجت قال لي رجل: إنما هو عن عبد اللَّه بن المغفل، فرجعت إليه، فقلت له: فقال: عن عبد اللَّه بن المغفل. انتهى كلام ابن القطّان رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال أبو الحسن القطّان رحمه الله، ويعكُر عليه أن عبد الأعلى ممن أخذ عن الجُريريّ قبل اختلاطه، وتابعه عليه يزيد بن زريع، عند ابن خزيمة، وابن عليّة عند ابن حبّان، وهما أيضًا ممن روى عنه قبل الاختلاط، ولذا أخرجه مسلم هنا في "صحيحه".

فالأولى أن يقال: إن معنى "في الرابعة" أن لفظ "لمن شاء" قالها صلى الله عليه وسلم في الرابعة، يعنى أنه قال:"بين كل أذانين صلاة" ثلاث مرّات، ثم قال في الرابعة:"لمن شاء"، فتوافق معنى الرواية الأخرى:"ثم قال في الثالثة: لمن شاء"؛ أي: فهي رابعة في نفسها، مضافة إلى الثالثة قبلها حيث صدرت معها، فتبصرّ، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: رواية سعيد الجُريريّ، عن عبد اللَّه بن بريدة هذه بلفظ: "قال في

(1)

"بيان الوهم والإيهام في كتاب الإحكام" 4/ 344.

(2)

"بيان الوهم والإيهام في كتاب الإحكام" 4/ 344 - 345.

ص: 678

الرابعة" لَمْ أجد من ساقها، وأوردها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه" (2/ 136) رقم (7384) ولم يسق متنها، بل أحاله على لفظ كهمس، كالمصنّف، ولم يذكر قوله: "إلَّا أنه قال في الرابعة: لمن شاء"، ورأيت ابن حبّان رحمه الله ساق الحديث في "صحيحه" من طريق ابن عُليّة، بغير هذا اللفظ، ونصّه:

(1560)

أخبرنا الحسين بن عبد اللَّه بن يزيد القطان، قال: حدّثنا أيوب بن محمد الوزان، قال: حدّثنا إسماعيل ابن علية، قال: حدّثنا سعيد الجريريّ، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن عبد اللَّه بن مغفل، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء". انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(57) - (بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ)

قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: الخوف غمّ على ما سيكون، والحزن غمّ على ما مضي، قال: وليس المراد من هذه الترجمة أن صلاة الخوف تقتضي صلاة مستقلّة، كقولنا: صلاة العيد، ولا أنه يؤثّر في تغيير قدر الصلاة، أو وقتها، كقولنا: صلاة السفر، وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما في "صحيح مسلم":"إن اللَّه فرض الصلاة في الخوف ركعة" المراد للمأموم مع الإمام؛ جمعًا بين الأحاديث، وإنما المراد أنه يؤثّر في كيفيّة إقامة الفرائض، واحتمال أمور فيها كانت لا تُحتمل في غيرها، ثم هي في الأكثر لا تؤثّر في كيفيّة إقامة الفرائض، بل في إقامتها بالجماعة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله في تأويل حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: المراد للمأموم مع الإمام. . . إلخ هذا غير مسلّم، بل الصواب أن حديثه على ظاهره، وأن صلاة الخوف ركعة عند اشتداد الخوف، وقد قدّمنا هذا البحث مستوفًى

(1)

"صحيح ابن حبان" 4/ 427.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الإحكام" 4/ 349.

ص: 679

في "كتاب صلاة المسافرين"، فراجعه

(1)

تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

(اعلم): أنه لما كان لصلاة الخوف أحكام، وصفات تختصّ بها عن غيرها من الصلوات الأَمْنِيَّة دعت الحاجة إلى تقديم تنبيهات مهمة؛ ليكون الطالب على بصيرة، ويمكن الإحالة إليها عند الحاجة في بيان الأحاديث الآتية، إن شاء اللَّه تعالى، فلنذكرها في مسائل:

(المسألة الأولى): قال القرطبيُّ رحمه الله في "المفهم": قولنا: صلاة الخوف، هي الصلاة المعهودة تَحْضُر، والمسلمون متعرّضون لحرب العدوّ، وقد اختلف العلماء، هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة المعهودة عن أصل مشروعيتها المعروفة، أم لا؟

فذهب الجمهور إلى أن للخوف تأثيرًا في تغيير الصلاة على ما يأتي تفصيل مذاهبهم.

وذهب أبو يوسف إلى أنه لا تغيير في الصلاة لأجل الخوف اليوم، وإنما كان التغيير المرويّ في ذلك، والذي عليه القرآن خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، مستدلًّا بخصوصية خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 102]، قال: فإذا لَمْ يكن فيهم لَمْ تكن صلاة الخوف. وهذا لا حجة فيه لثلاثة أوجه:

(أحدها): أنّا أُمرنا باتباعه، والتأسي به، فيلزم اتباعه مطلقًا، حتى يدلّ دليل واضحٌ على الخصوص، ولا يصلح ما ذكره دليلًا على ذلك، ولو كان مثل ذلك دليلًا على الخصوصية للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، لكن قد تقرّر بدليل إجماعيّ أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، وكذلك ما يُخاطَبُ هو به، كقوله تعالى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس: 94]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64]، ونحوه كثير.

(وثانيها): أنه قد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أصلي". متفق عليه.

(1)

راجع: شرح حديث رقم [1575](687).

ص: 680

(وثالثها): أن الصحابة رضي الله عنهم اطّرحوا توهّم الخصوص في هذه الصلاة، وعَدَّوْه إلى غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، فلا يُلتفت إلى قول من ادّعى الخصوصيّة. انتهى كلام القرطبيُّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": معنى قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: 101] أي: سافرتم، ومفهومه أن القصر مختصّ بالسفر، وهو كذلك، وأما قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229] فمفهومه اختصاص القصر بالخوف أيضًا، وقد سأل يعلى بن أميّة الصحابيُ عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه عن ذلك، فذكر أنه سأل رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"صدقة تصدّق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته"، أخرجه مسلم، فثبت القصر في الأمن ببيان السنّة. واختُلف في صلاة الخوف في الحضر، فمنعه ابن الماجشون، أخذًا بالمفهوم أيضًا، وأجازه الباقون.

وأما قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فقد أخذ بمفهومه أبو يوسف في إحدى الروايتين عنه، والحسن بن زياد اللؤلؤيّ من أصحابه، وإبراهيم ابن عليّة، وحُكي عن المزنيّ صاحب الشافعيّ.

واحتُجّ عليهم بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على فعل ذلك بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، فعموم منطوقه مقدّم على ذلك المفهوم.

وقال ابن العربيّ وغيره: شرط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم إنما ورد لبيان الحكم، لا لوجوده، والتقدير: بيّن لهم بفعلك لكونه أوضح من القول، ثم إن الأصل أن كلّ عذر طرأ على العبادة فهو على التساوي كالقصر، والكيفيةُ وردت لبيان الحَذَر من العدوّ، وذلك لا يقتضي التخصيص بقوم دون قوم.

وقال الزين ابن المنيّر: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم، كالخوف في قوله تعالى:{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101].

وقال الطحاويّ: كان أبو يوسف قد قال مرةً: لا تُصلّى صلاةُ الخوف بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزعم أن الناس إنما صلّوها معه لفضل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا القول عندنا ليس بشيء، وقد كان محمد بن شُجاع يَعيبه، ويقول:

(1)

"المفهم" 2/ 468 - 469.

ص: 681

إن الصلاة خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعًا، إلَّا أنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): أنه قد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات كثيرة، ورجّح ابن عبد البرّ الكيفية الواردة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو الحديث الأول هنا برقم [1942 و 1943 و 1944](839) - على غيرها لقوة الإسناد، ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يُتمّ صلاته قبل سلام إمامه.

وعن أحمد قال: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث، أو سبعة أيّها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه الآتي برقم [1947](841)، وكذا رجحه الشافعيّ، ولم يختر إسحاق شيئًا على شيء، وبه قال الطبريّ، وغير واحد، منهم ابن المنذر، وسَرَدَ ثمانية أوجه، وكذا ابن حبّان في "صحيحه"، وزاد تاسعًا.

وقال ابن حزم: صحّ فيها أربعة عشر وجهًا، وبيّنها في "جزء مفرد".

وقال ابن العربي في "القبس": جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ستة عشر رواية مختلفة، ولم يُبيّنها. وقال النوويّ نحوه في "شرح مسلم"، ولم يبيّنها أيضًا، وقد بيّنها الحافظ أبو الفضل العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، وزاد وجهًا آخر، فصارت سبعة عشر وجهًا، لكن يمكن أن تتداخل.

وقال صاحب "الهدي": أصلها ستّ صفات، وبلّغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصّة جعلوا ذلك وجهًا من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا هو المعتمد، وإليه أشار شيخنا -يعني: الحافظ العراقي- بقوله: يمكن تداخلها. وحكى ابن القصّار المالكيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرّات.

وقال ابن العربيّ: صلاها أربعًا وعشرين مرّة.

وقال الخطابيّ: صلاها النبيّ صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة بأشكال متباينة، يتحرّى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها

ص: 682

متفقة المعنى. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ الزيلعيّ رحمه الله: ذَكَر بعض الفقهاء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في عشرة مواضع، والذي استقرّ عند أهل السير والمغازي أربعة مواضع: ذات الرقاع، وبطن نخل، وعُسفان، وذي قَرَد.

فحديث ذات الرقاع أخرجه البخاريّ ومسلم، عن مالك، عن يزيد بن رُومان، عن صالح بن خَوَّات، عن سهل بن أبي حَثْمَة، وفي لفظ للبخاريّ عمن صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه. . . الحديث.

وحديث بطن نخلة أخرجه النسائيّ، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنخل، والعدوّ بيننا وبين القبلة. . . الحديث.

وحديث عُسْفان أخرجه أبو داود، والنسائيّ، عن مجاهد، عن أبي عَيّاش الزُّرَقيّ، زيد بن الصامت، قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بعُسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد. . . الحديث، ورواه البيهقيّ في "المعرفة" بلفظ: حدَّثنا أبو عَيّاش، قال، وفي هذا تصريح بسماع مجاهد، من أبي عياش.

وحديث ذي قَرَد، أخرجه النسائيّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد. . . الحديث، وروى الواقديّ في "المغازي": حدّثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: أول ما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في غزوة ذات الرِّقَاع، ثم صلاها بعدُ بعُسفان بينهما أربع سنين، قال الواقديّ: وهذا عندنا أثبت من غيره. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختلف الجمهور في كيفيّة صلاة الخوف على أقوال كثيرة؛ لاختلاف الأحاديث المرويّة في ذلك، فلنذكر تلك الأحاديث، ونذكر مع كل حديث من قال به إن وجدنا ذلك -إن شاء اللَّه تعالى- فلنبدأ من ذلك بالحديث الأول، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ومضمون أنه صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعةً، والأخرى مواجِهَة العدوّ، ثم انصرفوا، وقاموا مقام أصحابهم

(1)

راجع: "الفتح" 3/ 102.

(2)

"نصب الراية" 2/ 247.

ص: 683

مقبلين على العدوّ، وجاء أولئك، وصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة.

وبه أخذ الأوزاعيّ، وأشهب، وحُكي عن الشافعيّ، واختُلف في تأويل قضائهم، فقيل: قضَوا معًا، وهو تأويل ابن حبيب، وعليه حمَلَ قول أشهب، وقيل: قضوا مفترقين، مثل حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وهو المنصوص لأشهب.

الحديث الثاني: حديث جابر رضي الله عنه، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم صفّهم صفّين خلفه، والعدوّ بينهم وبين القبلة، وصلّى بهم جميعًا صلاة واحدةً، لكنه لَمّا سجد سجد معه الصفّ الأول الذي يليه، وقام الصفّ المؤخّر، ثم تقدّموا، وتأخّر المقدّم، ثم فعلوا في الركعة الثانية كما فعلوا في الأولى، ونحوه حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وبهذا قال ابن أبي ليلي، وأبو يوسف في قولٍ له، إذا كان العدوّ في القبلة، ورُوي عن الشافعيّ، واختاره بعض أصحابه، وأصحاب مالك.

الحديث الثالث: حديث سهل بن أبي حَثْمَة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الأولى ركعةً، ثم ثبت قائمًا، فأتمّوا لأنفسهم، ثم انصرفوا، وصَفُّوا وِجاهَ العدوّ، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلّى بهم ركعةً، ثم ثبت جالسًا حتى أتمّوا، ثم سلّم بهم، ونحوه حديث صالح بن خَوَّات، وبهذا قال مالك، والشافعيّ، وأبو ثور.

الحديث الرابع: حديث أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه أنه صلى أربع ركعات بكلّ طائفة ركعتين، وهو اختيار الحسن، وذُكر عن الشافعيّ، ورواه غير مسلم من طريق أبي بكرة وجابر، وأنه سلّم من كل ركعتين، قال الطحاويّ: إنما كان هذا في أول الإسلام؛ إذ كان يجوز أن تُصلى الفريضة مرّتين، ثم نُسخ ذلك.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: دعوى النسخ غير صحيحة، وقد قدّمنا أن أصح المذاهب مذهب من يرى صحة اقتداء المفترض بالمتنفّل؛ لما صحّ من قصّة معاذ رضي الله عنه حيث كان يصلي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم يذهب إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة، فتبصّر، وباللَّه تعالى التوفيق.

الحديث الخامس: رواه أبو هريرة، وابن مسعود رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة التي وراءه ركعة، ثم انصرفوا، ولم يُسلّموا، فوقفوا بإزاء العدوّ، وجاء الآخرون، فصلى بهم ركعةً، ثم سلّم، فقضى هؤلاء ركعتهم، ثم سلّموا،

ص: 684

وذهبوا، فقاموا مقام أولئك، ورجع أولئك، فصلّوا لأنفسهم ركعةً، ثم سلّموا.

والفرق بين هذه الرواية ورواية ابن عمر أن ظاهر قضاء أولئك في حديث ابن عمر في حالة واحدة، ويبقى الإمام كالحارس وحده، وها هنا قضاؤهم متفرّقٌ على صفة صلاتهم، وقد تأوّل بعضهم حديث ابن عمر على ما في حديث ابن مسعود، وبهذا أخذ أبو حنيفة، وأصحابه، إلَّا أبا يوسف، وهو نصّ قول أشهب من المالكيّة، خلاف ما تأوّل عليه ابن حبيب.

الحديث السادس: ذكره أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كبّر، فكبّر معه الصفّان جميعًا، وفيه أن الطائفة الثانية لَمَّا صلّت معه ركعةً، وسلّمت رجعت إلى مقام أصحابهم، وجاءت الطائفة الأولى، فصلّوا ركعةً لأنفسهم، فرجعوا إلى مقام أصحابهم، وأتمّ أولئك لأنفسهم.

الحديث السابع: ذكره أبو داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أنها قامت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقابلة العدوّ، وظهورهم إلى القبلة، فكبّر جميعهم، ثم صلى بالذين معه ركعةً، والآخرون قيام، ثم قام، وذهبت الطائفة التي معه إلى العدوّ، وأقبلت تلك، فصلى بهم ركعةً، ثم أقبلت الطائفة الأولى، فصلّوا ركعةً، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائمٌ، ثم صلى بهم ركعةً، ثم أقبلت الطائفة الأولى، فصلّت ركعةً، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه، ثم سلّم، وسلّموا جميعًا

(1)

.

الحديث الثامن: حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه كبّر، وكبّرت معه الطائفة التي تليه، وصلّى بهم ركعةً وسجدةً، وثبت جالسًا، وسجدوا هم السجدة التي بقيت لهم، ثم انصرفوا القهقري، حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائفة الأخرى، فكبّروا، ثم ركعوا، يعني: لأنفسهم، ثم سجد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ يعني: سجدته التي بقيت عليه من الركعة الأولى، فسجدوا معه، ثم قام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأتموا هم السجدة التي بقيت عليهم، ثم قامت الطائفتان، فصلى بهم جميعًا ركعة كأسرع الإسراع

(2)

.

الحديث التاسع: حديث ابن أبي حَثْمة من رواية صالح بن خَوّات عنه، أن الطائفة الأولى لَمّا صلّت ركعتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم صلّت الركعة الأخرى

(1)

رواه أبو داود برقم (1240).

(2)

رواه أبو داود برقم (1242).

ص: 685

لنفسها سلّمت، ثم تقدّمت، وجاءت الأخرى، وهذا خلاف الحديث الآخر الذي ذُكر فيه آخرًا، ثم سلّم بهم جميعًا.

ومن رواية القاسم في حديث ابن أبي حَثْمة أنه صلى الله عليه وسلم سلّم عند تمام صلاته الركعة الثانية بالطائفة الثانية، وأتمّوا بعد سلامه خلاف الروايات الأُخَر عن القاسم، ويزيد بن رُومان أنه انتظرهم حتى قَضَوْا، ثم سلّم.

وقد اختلف قول مالك لصحّة القياس أن القضاء إنما يكون بعد سلام الإمام، وهو اختيار أبي ثور، واختيار الشافعيّ في الرواية الأخرى.

الحديث العاشر: ما رواه أبو داود من حديث حُذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم صلّى بكل طائفة ركعةً، ولم يقضوا، ويؤيّده حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: صلاة الخوف ركعةٌ، وبه قال إسحاق. انتهى كلام القرطبيُّ رحمه الله

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": هذه الأخبار ليس بينها تضادٌّ، ولا تهاتُرٌ، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف مرارًا، في أحوال مختلفة، بأنواع متباينة، على حسب ما ذكرناها، أراد صلى الله عليه وسلم به تعليم أمته صلاة الخوف، أنه مباح لهم أن يصلوا أَيَّ نوع من الأنواع التسعة التي صلاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الخوف، على حسب الحاجة إليها، والمرء مباح له أن يصلي ما شاء عند الخوف من هذه الأنواع التي ذكرناها؛ إذ هي من اختلاف المباح، من غير أن يكون بينها تضادٌّ، أو تهاترٌ. انتهى

(2)

.

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد": وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أن أباح اللَّه سبحانه وتعالى قصرَ أركان الصلاة وعددها إذا اجتمع الخوف والسفر، وقصرَ العدد وحده إذا كان سفر لا خوف معه، وقصر الأركان وحدها إذا كان خوف لا سفر معه، وهذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم، وبه تُعْلَم الحكمة في تقييد القصر في الآية بالضرب في الأرض والخوف.

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف إذا كان العدوّ بينه وبين القبلة أن

(1)

"المفهم" 2/ 470 - 473.

(2)

"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 7/ 145.

ص: 686

يَصُفَّ المسلمين كلهم خلفه، ويكبّر ويكبّرون جميعًا، ثم يركع فيركعون جميعًا، ثم يرفع ويرفعون جميعًا معه، ثم ينحدر بالسجود، والصف الذي يليه خاصّةً، ويقوم الصف المؤخر مُوَاجِهَ العدوّ، فإذا فرغ من الركعة الأولى، ونَهَضَ إلى الثانية، سجد الصف المؤخر بعد قيامه سجدتين، ثم قاموا، فتقدموا إلى مكان الصف الأول، وتأخر الصف الأول مكانهم؛ لتحصل فضيلة الصف الأول للطائفتين، وليدرك الصف الثاني مع النبيّ صلى الله عليه وسلم السجدتين في الركعة الثانية، كما أدرك الأول معه السجدتين في الأولى، فتستوي الطائفتان فيما أدركوا معه، وفيما قَضَوْا لأنفسهم، وذلك غاية العدل، فإذا رَكَعَ صَنَعَ الطائفتان كما صنعوا أول مرّة، فإذا جلس للتشهد، سجد الصف المؤخر سجدتين، ولحقوه في التشهد، فيسلّم بهم جميعًا.

وإن كان العدوّ في غير جهة القبلة، فإنه كان تارةً يجعلهم فرقتين: فرقة بإزاء العدوّ، وفرقة تصلي معه، فتصلي معه إحدى الفرقتين ركعةً، ثم تنصرف في صلاتها إلى مكان الفرقة الأخرى، وتجيء الأخرى إلى مكان هذه، فتصلي معه الركعة الثانية، ثم تسلم وتقضي كل طائفة ركعةً ركعةً بعد سلام الإمام.

وتارةً كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعةً، ثم يقوم إلى الثانية، وتقضي هي ركعةً، وهو واقفٌ، وتسلم قبل ركوعه، وتأتي الطائفة الأخرى، فتصلي معه الركعة الثانية، فإذا جلس في التشهد، قامت فقضت ركعةً، وهو ينتظرها في التشهد، فإذا تشهدت يسلم بهم.

وتارةً كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين، فتسلم قبله، وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الركعتين الأخيرتين، ويسلم بهم، فتكون له أربعًا، ولهم ركعتين ركعتين.

وتارةً كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعتين، ويسلم بهم، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعتين ويسلم، فيكون قد صلى بهم بكل طائفة صلاةً.

وتارةً كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعةً، فتذهب ولا تقضي شيئًا، وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعةً، ولا تقضي شيئًا، فيكون له ركعتان، ولهم ركعةً ركعةً، وهذه الأوجه كلُّها تجوز الصلاة بها.

ص: 687

قال الإمام أحمد رحمه الله: كلُّ حديث يُرْوَى في أبواب صلاة الخوف، فالعمل به جائزٌ.

وقال: ستةُ أوجه، أو سبعةٌ تروى فيها كلُّها جائزة.

وقال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه: تقول بالأحاديث كلها، كل حديث في موضعه، أو تختار واحدًا منها؟، قال: أنا أقول: من ذهب إليها كلِّها فحسن.

وظاهرُ هذا أنه جَوَّزَ أن تصلي كل طائفة معه ركعةً ركعةً، ولا تقضي شيئًا، وهذا مذهب ابن عباس، وجابر بن عبد اللَّه، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والحكم، وإسحاق ابن راهويه.

قال صاحب "المغني": وعموم كلام أحمد يقتضي جواز ذلك، وأصحابنا ينكرونه. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قول هؤلاء الإئمة بجواز ركعة واحدة في شدّة الخوف هو الحقّ؛ لقوّة دليله، وقد أسلفت تحقيقه في "كتاب صلاة المسافرين"، فارجع إليه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

قال ابن القيّم رحمه الله: وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف صفات أُخَرُ ترجع كلها إلى هذه، وهذه أصولها، وربما اختلف بعض ألفاظها، وقد ذكرها بعضهم عشر صفات، وذكرها أبو محمد بن حزم نحو خمس عشرة صفةً، والصحيح ما ذكرناه أَوّلًا، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصّة جعلوا ذلك وجوهًا من فعل النبيّ، وإنما هو من اختلاف الرواة، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): أنه اختُلف في أيّ سنة شُرعت صلاة الخوف؟ فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع، واختَلَف أهل السير في أيّ سنة كانت هي؟، فقال عامّة أهل السير، ابن إسحاق، وابن عبد البرّ، وغيرهما: إنها كانت بعد بني النضير، والخندق، في جمادى الأولى سنة أربع، وقال ابن سعد، وابن حبّان: في عاشر محرّم سنة خمس، وقال أبو معشر: بعد

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 1/ 531 - 532.

ص: 688

بني قريظة في آخر السنة الخامسة، وأول التي تليها، وقال البخاريّ: بعد خيبر في السنة السابعة، ورجحه الإمام ابن القيّم، والحافظ، وذهب ابن القيّم إلى أن أول صلاة صليت للخوف بعُسْفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق، وقريظة سنة ست، وصليت بذات الرقاع أيضًا، فعلم أنها بعد الخندق، وبعد عُسفان، وقد بسط الكلام في "الهدي" في الاستدلال لذلك، وإليه جنح الحافظ في "الفتح"، حيث قال بعد الاستدلال لهذا القول: وإذا تقرّر أن أول ما صليت صلاة الخوف بعُسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صليت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد عسفان، فتعيّن تأخرها عن الخندق، وعن قريظة، وعن الحديبية أيضًا، فيَقْوَى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن غزوة خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أنهم اتفقوا على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يصل صلاة الخوف في غزوة الخندق، واختلفوا في سبب ذلك، فقيل: كانت بعد نزول صلاة الخوف، وأنه أخرها نسيانًا، يدلّ عليه ما روى أحمد من حديث ابن لهيعة عن أبي جمعة حبيب بن سباع، قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال:"هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟ " قالوا: لا يا رسول اللَّه، ما صليتها، فأمر المؤذن، فأقام، فصلى العصر، ثم أعاد المغرب، قال الحافظ: وفي صحته نظر؛ لأنه مخالف لما في "الصحيحين" من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "واللَّه ما صليتها"، ويمكن الجمع بينهما بتكلف.

وقيل: أخّرها عمدًا؛ لأنه كان مشغولًا بالقتال، والاشتغالُ بالقتال، والمسايفة يمنع الصلاة، قاله صاحب "الهداية"، والطحاويّ، وأبو بكر الجصاص.

وقيل: لأنه لَمْ يكن أُمر حينئذ أن يصلي صلاة الخوف راكبًا، فقد رُوي عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال:"كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فشُغِلنا. . . " الحديث، وفي آخره: "وذلك قبل أن ينزل عليه: {فَإِنْ خِفْتُمْ

(1)

راجع: "الفتح" 8/ 187 - 188، و"مرعاة المفاتيح" 1/ 5.

ص: 689

فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] "، أخرجه أحمد، والنسائيّ، والطيالسيّ، وعبد الرزاق، وغيرهم.

وقيل: لتعذر الطهارة، وقيل: لأنه كان في الحضر، وشرط صلاة الخوف أن تكون في السفر

(1)

، قاله ابن الماجشون.

وقيل: أخّرها عمدًا؛ لأنه كانت قبل نزول صلاة الخوف، وإليه ذهب الجمهور، كما قال ابن رشد، وبه جزم ابن القيّم في "الهدي"، والحافظ في "الفتح"، والقرطبيّ في "شرح مختصر مسلم"، وعياض في "الشفا"، وغيرهم، وهو الراجح

(2)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ} الآية [النساء: 101 - 102].

قد ذكر طائفة من السلف أنها نزلت في صلاة في السفر، لا في صلاة السفر بمجرده؛ ولهذا ذَكَر عقيبها قوله تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]، ثم ذكر صفة صلاة الخوف، فكان ذلك تفسيرًا للقصر المذكور في الآية الأولى، وهذا هو الذي يشير إليه البخاريّ، وهو مروي عن مجاهد والسديّ والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير وغيره.

وتقدير هذا من وجهين:

أحدهما: أن المراد بقصر الصلاة قصر أركانها بالإيماء ونحوه، وقصر عدد الصلاة إلى ركعة. فأما صلاة السفر، فإنها ركعتان، وهي تمام غير قصر، كما قاله عمر رضي الله عنه.

ورَوَى سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يقول: الركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة، أخرجه ابن جرير وغيره.

وروى ابن المبارك عن المسعودي، عن يزيد الفقير، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يُسأل عن الركعتين في السفر: أقصرُهما؟ قالَ: إنما القصر ركعةٌ عندَ القتال، وإن الركعتين في السفر ليستا بقصرٍ.

(1)

سيأتي أن الراجح مشروعيّتها في الحضر أيضًا.

(2)

"المرعاة" 5/ 1 - 2.

ص: 690

وأخرج الجوزجاني من طريق زائدة بن عمير الطائي، أنه سأل ابن عباس عن تقصير الصلاة في السفر؟ قال: إنها ليست بتقصير، هما ركعتان من حين تخرج من أهلك إلى أن ترجع إليهم.

وأخرج الإمام أحمد بإسناد منقطع، عن ابن عباس، قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، وحين أقام أربعًا أربعًا.

وقال ابن عباس: فمن صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين.

وقال ابن عباس: لَمْ تقصر الصلاة إلّا مرّة واحدة حيث صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين، وصلى الناس ركعة واحدة. يعني: في الخوف.

وروى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ركعة ركعة. قال سعيد: كيف تكون مقصورة وهما ركعتان؟.

والوجه الثاني: أن القصر المذكور في هذه الآية مطلق، يدخل فيه قصر العدد، وقصر الأركان ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السفر، فأما إذا انفرد أحد الأمرين -وهو السفر أو الخوف- فإنه يختص بأحد نوعي القصر، فانفراد السفر يختص بقصر العدد، وانفراد الخوف يختص بقصر الأركان. لكن هذا مما لم يفهم من ظاهر القرآن، وإنما بيّن دلالةً عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والآية لا تنافيه، وإن كان ظاهرها لا يدل عليه. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

وقيل: إن قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] نزلت بسبب القصر في السفر من غير خوف، وإن بقية الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف.

روي ذلك عن عَلِيّ رضي الله عنه، أخرجه ابن جرير، عنه بإسناد ضعيف جدًا، لا يصح. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

وقد روي ما يدل على أن الآية الأولى المذكور فيها قصر الصلاة إنما نزلت في صلاة الخوف.

فرَوَى منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزُّرَقيّ، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعُسفان -وعلى المشركين خالد بن الوليد- فصلينا الظهر، فقال

ص: 691

المشركونَ: لقد أصبنا غرةً، لقد أصبنا غفلةً، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشرطون أمامه، فصفَّ خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صف، وصفّ بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعًا، ثم سجدوا وسجد الصف الذين يلونه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا فسلّم عليهم جميعًا، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود -وهذا لفظه- والنسائي وابن حبان في "صحيحه" والحاكم.

وقال: على شرطهما.

وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن مجاهد: نا أبو عياش الزرقي، قال:"كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" فذكره.

وردّ ابن حبان بذلك على من زعم: أن مجاهدًا لَمْ يسمعه من أبي عياش، وأن أبا عياش لا صحبة له.

كأنه يشير إلى ما نقله الترمذيّ في "علله" عن البخاري، أنه قال: كل الروايات عندي صحيحةٌ في صلاة الخوف، إلَّا حديث مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، فإني أراه مرسلًا.

قال الحافظ ابن رجب: وابن حبان لَمْ يفهم ما أراده البخاريّ، فإن البخاري لَمْ ينكر أن يكون أبو عياش له صحبةٌ، وقد عدَّه في "تاريخه" من الصحابة، ولا أنكر سماع مجاهد من أبي عياش، وإنما مراده: أن هذا الحديث الصواب: عن مجاهد إرساله عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر أبي عياش؛ كذلك رواه أصحاب مجاهد، عنه بخلاف رواية منصور، عنه، فرواه عكرمة بن خالد وعمر بن ذر وأيوب بن موسى ثلاثتهم، عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا من غير ذكر أبي عياش.

ص: 692

وهذا أصح عند البخاريّ، وكذلك صحح إرساله عبد العزيز النخشبي وغيره من الحفاظ.

وأما أبو حاتم الرازيّ، فإنه قال -في حديث منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش-: إنه صحيح. قيل له: فهذه الزيادة: "فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر" محفوظةٌ هي؟ قال: نعم.

وقال الإمام أحمد: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح.

وقد جاء في رواية: فنزلت {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] وهذا لا ينافي رواية: "فنزلت آية القصر" بل تبيّن أنه لَمْ تنزل آية القصر بانفرادها في هذا اليوم، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف.

وهذا كله مما يشهد بأن آية القصر أريد بها قصر الخوف في السفر، وإن دلت على قصر السفر بغير خوف بوجه من الدلالة. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1942]

(839) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ، مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّيّ -بمهملة- أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان، وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

(1)

"فتح الباري" للحافظ ابن رجب رحمه الله 8/ 341 - 347.

ص: 693

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنِّفٌ، شهيرٌ، عَمِيَ في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع، [9](ت 211) وله خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن شهاب، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ المتَّفَق على جلالته وإتقانه، من رؤوس الطبقة [4] (ت 125) وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(سَالِمُ) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عُمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، وكان ثبتًا عابدًا فاضلًا، كان يُشَبَّه بابيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أن نصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين، وعبد كِسّيّ، والباقيان يمنيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه جمّ المناقب، فهو ابن صحابيّ، وُلِد بعد المبحث بيسير، واستُصغِر يوم أُحد، وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، وكان من أشدّ الناس اتباعًا للأثر رضي الله عنه، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 694

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ) من إضافة الحكم إلى سببه (بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً) وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ:"قال: غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْد، فوازينا العدوّ، فصاففنا لهم، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلّي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدوّ. . . "(وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ) أي: مقابلته للحراسة (ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي: رجع هؤلاء الذين صلّوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعةً (وَقَامُوا فِي مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ) أي: الذين لَمْ يصلّوا؛ لاشتغالهم بالحراسة (مُقْبلِينَ) حال من الضمير في "قاموا"(عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ) الذين لَمْ يصلَّوا (ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً) زاد عبد الرزاق عن ابن جريج، عن الزهريّ:"مثل نصف صلاة الصبح"، قال في "الفتح": وفي قوله: "مثل نصف صلاة الصبح" إشارة إلى أن الصلاة المذكورة كانت غير الصبح، فعلى هذا فهي رباعيةٌ، وسيأتي في "المغازي" ما يدلّ على أنها كانت العصر، وفيه دليل على أن الركعة المقضيّة لا بدّ فيها من القراءة لكل من الطائفتين خلافًا لمن أجاز للثانية ترك القراءة. انتهى.

(ثمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً) وفي رواية البخاريّ: "فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه"، قال في "الفتح": لَمْ تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة، ويَحْتَمِل أنهم أتموا على التعاقب، وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة، وإفراد الإمام وحده، ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه:"ثم سَلَّم، فقام هؤلاء -أي: الطائفة الثانية- فقضوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا". انتهى.

وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها، ثم أتصت الطائفة الأولى بعدها، ووقع في الرافعيّ تبعًا لغيره من كتب الفقه أن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أن الطائفة الثانية تأخرت، وجاءت الطائفة الأولى، فأتموا ركعةً، ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية، فأتموا.

ص: 695

قال الحافظ رحمه الله: ولم نقف على ذلك في شيء من الطرق، وبهذه الكيفية أخذ الحنفية، واختار الكيفية التي في حديث ابن مسعود أشهب، والأوزاعيّ، وهي الموافقة لحديث سهل بن أبي حَثْمَة من رواية مالك، عن يحيى بن سعيد. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1942 و 1943 و 1944](839)، و (البخاريّ) في "صلاة الخوف"(942 و 943) و"المغازي"(4132 و 4133) و"التفسير"(4535)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1243)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(564)، و (النسائيّ) في "صلاة الخوف"(1538 و 1539 و 1540 و 1541) و"الكبرى"(1928 و 1929 و 1930)، و (مالك) في "الموطأ"(130)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4241)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2879)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 132 و 147 و 150 و 155)، و (الدارميّ) في "سننه"(1529)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(980 و 981 و 1354 و 1355 و 1366 و 1367)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2879)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 312)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2411 و 2412 و 2413)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1889 و 1890 و 1891)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 59)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 260)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1092)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة صلاة الخوف.

2 -

(ومنها): بيان عِظَم أمر صلاة الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها؛ لارتكاب أمور كثيرة، لا تُغتفر في غيرها، ولو صلى كلُّ امرئ منفردًا لَمْ يقع الاحتياج إلى معظم ذلك.

ص: 696

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "طائفة" على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد، لكن لا بد أن تكون التي تحرس يحصل الثقة بها في ذلك، والطائفة تطلق على الكثير والقليل، حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة، ووقع لهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد، ويحرس واحد، ثم يصلي الآخر، وهو أقلّ ما يُتَصَوَّر في صلاة الخوف جماعة على القول بأقل الجماعة مطلقًا، لكن قال الشافعي: أكره أن تكون كل طائفة أقلّ من ثلاثة؛ لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله: {أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]، ذكره النوويّ وغيره

(1)

، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في كيفية صلاة الخوف:

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: كان مالك يقول بحديثه عن يزيد بن رُومان أن الإمام ينتظر تمام الطائفة الثانية، ويسلّم بهم، وهو قول الشافعيّ، واختياره، ثم رجع مالك عن ذلك إلى حديث يحيى بن سعيد، عن القاسم أن الإمام يسلّم إذا أكمل صلاته، ويقوم مَن وراءه، فيأتون بركعة، ويسلّمون، وقد زاد ابن القاسم في "الموطأ" في آخر حديث يحيى بن سعيد: وقال مالك: هذا الحديث أحبّ إليّ، قال أحمد بن خالد: وبه قال جماعة أصحاب مالك، إلَّا أشهب، فإنه أخذ بحديث ابن عمر في صلاة الخوف.

ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم بن محمد القياسُ على سائر الصلوات في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدًا سبقه بشيء، وأن السنّة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سُبقوا به بعد سلام الإمام. وقول أبي ثور في ذلك كقول مالك سواءً؛ لحديث القاسم، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة.

وقال الشافعي: حديث يزيد بن رُومان، عن صالح بن خَوّات مسندٌ، والمصير إليه أولى من حديث القاسم؛ لأنه موقوف

(2)

، قال: وهو أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب اللَّه عز وجل.

(1)

راجع: "الفتح" 3/ 499.

(2)

الصحيح أنه صحّ مرفوعًا من طريق القاسم، كما عند النسائيّ برقم (1536).

ص: 697

ومن حجته أن اللَّه عز وجل ذكر استفتاح الإمام ببعضهم لقوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] وذكر انصراف الطائفتين، والإمامِ من الصلاة معًا بقوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103] ذلك للجميع، لا للبعض، ولم يذكر أن على واحد منهم قضاءً، قال: وفي الآية دليل على أن الطائفة الثانية لا تدخل في الصلاة إلَّا بانصراف الأولى، لقوله:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} ، وفي قوله:{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} دليل على أن الطائفة الثانية تنصرف، ولم يبق عليها من الصلاة شيء تفعله بعد الإمام.

هذا كله نَزَعَ به بعض أصحاب الشافعيّ بالاحتجاج له على الكوفيين وغيرهم.

ولم يختلف قول مالك، والشافعيّ، وأبي ثور أن الإمام إذا قرأ في الركعة الثانية بأم القرآن وسورة قبل أن تأتي الطائفة الأخرى، ثم أتته، فركع بها حين دخلت معه، قبل أن تقرأ شيئًا أنه يجزئهم، إلَّا أن الشافعي قال: إن أدركوا معهم ما يمكنهم فيه قراءة فاتحة الكتاب فلا يجزئهم إلَّا أن يقرؤوها.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدم في باب القراءة أن الراجح أن المسبوق إذا أدرك الركوع ولم يدرك القراءة لا تجزئه تلك الركعة، بل لا بدّ من قضائها بعد سلام الإمام؛ لأنه لا صلاة إلَّا بأم القرآن. فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

قال ابن عبد البرّ: وقول أحمد بن حنبل في صلاة الخوف كقول الشافعيّ سواءً على حديث سهل بن أبي حَثْمَة، وروايةُ يزيد بن رُومان هو المختار عند أحمد، وكان لا يَعيب مَن فعل شيئًا من الأوجه المروية في صلاة الخوف، قال: ولكني أختار حديث سهل بن أبي حثمة؛ لأنه أنكى للعدوّ.

وقال الأثرم: قلت له: حديث سهل بن أبي حثمة تستعمله، والعدوّ مستقبلُ القبلة، وغيرُ مستقبلها؟ قال: نعم هذا أنكى لهم؛ لأنه يصلي بطائفة، ثم يذهبون، ثم يصلي بأخرى، ثم يذهبون.

ص: 698

واختار داود بن عليّ وأصحابه أيضًا حديث سهل بن أبي حثمة من رواية يزيد بن رومان، وغيره، عن صالح بن خَوّات، عن سهل بن أبي حثمة.

قال: وأما أبو حنيفة وأصحابه، إلَّا أبا يوسف، فإنهم ذهبوا إلى ما رواه الثوريّ، وشريك، وزائدة، وابن فضيل، عن خُصيف، عن أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، عن أبيه، قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة، وطائفة مستقبلو العدوّ، صلى بالذين وراءه ركعة وسجدتين، وانصرفوا، ولم يسلّموا، فوقفوا بإزاء العدوّ، ثم جاء الآخرون، فقاموا مقامهم، فصلى بهم ركعة، ثم سلّم، فقام هؤلاء، فصلّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي القبلة، ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلّوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا

(1)

.

وروى أبو الأسود، عن عروة بن الزبير، عن مروان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء

(2)

.

وأما الثوري فخَيَّرَ في صلاة الخوف على ثلاثة أوجه:

(أحدها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي ذهب إليه أبو حنيفة.

(والثاني): حديث أبي عياش الزُّرقي، وإليه ذهب ابن أبي ليلى جملةً، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه إذا كان العدوّ في القبلة.

(والثالث): حديث ثعلبة بن زَهْدَم، عن حُذيفة. انتهى كلام ابن عبد البرّ بتصرف

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الحقّ أن كل ما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه فعله، يجوز العمل به، كما قال الإمام أحمد وغيره، وأن اختيار بعض الكيفيات يكون على حسب المصالح المترتبة عليه، فأيّ كيفية كانت أحوط في

(1)

أخرجه أبو داود، وفيه خُصيف بن عبد الرحمن مختلفٌ فيه، وأبو عبيدة لَمْ يسمع من أبيه.

(2)

حديث صحيح، رواه النسائيّ برقم (1543).

(3)

راجع: "الاستذكار" 7/ 67 - 73، و"التمهيد" 15/ 257.

ص: 699

الحراسة، فهي الأولى بالنسبة لتلك الحالة، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1943]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَوْفِ، وَيَقُولُ: صَلَّيْتُهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَى).

رجال هذا الحديث: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ لَمْ يتكلم فيه أحد بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(فُلَيْحُ) بن سليمان بن أبي المغيرة الْخُزَاعيّ، أو الأسلميّ، أبو يحيى المدنيّ، ويقال: فُليح لقبٌ، واسمه عبد الملك، صدوق كثير الخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 575.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِهَذَا الْمَعْنَى) أي: بمعنى الحديث الماضي؛ يعني: أن فُليحًا روى حديث صلاة الخوف عن الزهري بمعنى حديث معمر عنه، لا بلفظه.

[تنبيه]: رواية فُليح، عن الزهريّ هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 430) فقال:

(1890)

حدّثنا حبيب بن الحسن، ثنا يوسف القاضي، ثنا أبو الربيع، ثنا فُليح

(1)

، عن الزهريّ، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه، أنه كان يحدِّث عن صلاة الخوف، ويقول: صليتها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: كبّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصفٌ وراءه، فركع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعةً مثل نصف صلاة الصبح، ثم انصرفوا، فأقبلوا على الحدوّ، وأقبلت طائفة أخرى، فصلَّوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم،

(1)

تصحّف هذا الاسم في الأصل إلى "أفلح"، فليُتنبّه.

ص: 700

ففعل مثل ذلك، ثم سلَّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام كل رجل من الطائفتين، فصلى لنفسه ركعة وسجدتين. انتهى، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1944]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي بَعْض أَيَّامِهِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبُوا، وَجَاءَ الْآخَرُونَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَصَلِّ رَاكِبًا، أَوْ قَائِمًا تُومِئُ إِيمَاءً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الكوفيّ، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجةٌ، من رؤوس الطبقة [7] وكان ربما دلس (ت 161) وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عَيّاش -بتحتانية، ومعجمة- الأسديّ، مولى آل الزبير، ثقةٌ فقيهٌ إمامٌ في المغازي [5] لَمْ يصحّ أن ابن معين ليّنه (ت 141) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

5 -

(نَافِعٌ) أبو عبد اللَّه المدنيّ، مولى ابن عمر رضي الله عنهما، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

و"ابن عمر" رضي الله عنهما ذُكر قبله.

ص: 701

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالكوفيين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وتقدَّم الكلام في ابن عمر رضي الله عنهما السند الماضي.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (قَالَ: صلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ) أي: في بعض غزواته، وأيام حروبه العدوّ، وقد سبق في رواية سالم أنه قال:"غزوت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل نجد"، وهذه الغزوة غزوة غطفان، وكانت في ربيع سنة ثلاث

(1)

.

ولفظ البخاريّ في "التفسير" من طريق مالك، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف، قال: يتقدّم الإمام، وطائفة من الناس، فيصلي بهم الإمام ركعةً، وتكون طائفةٌ منهم بينهم وبين العدو لَمْ يصلوا، فماذا صلى الذين معه ركعةً استأخروا مكان الذين لَمْ يصلوا، ولا يسلّمون، ويتقدم الذين لَمْ يصلوا فيصلّون معه ركعةً، ثم ينصرف الإمام، وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلّون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين. . . إلخ.

(فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ) الطائفة هي القطعة من الناس، قيل: أقلّ ما تُطلق عليه أربعة، وقال الشافعيّ: أقلها ثلاثة، وقال مجاهد: الواحد في فوقه، وهو قول قتادة، وأكثرها أربعون

(2)

. (وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ) بكسر الهمزة، ممدودًا: هو المقابل، والعدوّ ضدّ الصديق، يُطلق على الواحد وغيره، والمذكّر والمؤنّث، وربّما قيل: عدوّةٌ، وهو خلاف القياس؛ لأن فَعُولًا بمعنى فاعل لا

(1)

"العدّة حاشية العمدة" 3/ 215.

(2)

"العدّة حاشية العمدة" 4/ 215.

ص: 702

يؤنّث، لكن حَمَلوه على مقابله، وهو صديق وصديقة

(1)

. (فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبُوا) إلى مكان الطائفة الذين لَمْ يصلّوا (وَجَاءَ الْآخَرُونَ) بفتح الخاء والمدّ جمع آخَر بوزن أَفْعَل (فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً) وفي رواية البخاريّ المتقدّمة: " فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعةً بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين".

(قَالَ) أي: نافع (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ) أي: شديد، فالتنوين للتعظيم (أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) بأن لا يمكن معه الانقسام والاصطفاف، وغير ذلك (فَصَلِّ) حال كونك (رَاكِبًا) على دابّة (أَوْ) صلّ حال كونك (قَائِمًا) على قدميك، حال كونك (تُومِئُ إِيمَاءً) ولفظ البخاريّ:"فإن كان خوفٌ هو أشدُّ من ذلك صَلَّوا رِجَالًا قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا، مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها". قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد اللَّه بن عمر ذكر ذلك إلَّا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وحاصل المعنى أنه إذا اشتدّ الخوف، والتحم القتال، ووقعت المسايفة، أو اشتدّ الخوف من غير التحام القتال والمسايفة، صلَّوا كيفما أمكنهم، رجالًا، أو ركبانًا، إلى القبلة، أو إلى غيرها، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ولا يؤخّرون الصلاة عن وقتها، وبهذا قالت الحنابلة، فيجوز عندهم الصلاة في شدّة الخوف، وحالة المسايفة، والتحام القتال، ماشيًا وراكبًا، وطالبًا ومطلوبًا، وكذا عند الشافعيّة، إلَّا لطالب عدوّ لا يخشى كرّهم عليه، أو انقطاعًا من رفقته، وكذا عند المالكيّة، ولكنهم قالوا: لا يصنعون ذلك حتى يخشوا فوت الوقت، وأيضًا اختلفوا في الطالب، فقال ابن عبد الحكم: لا يصلي إلَّا بالأرض صلاة الأمن، وقال ابن حبيب: هو في سعة من ذلك، وإن كان طالبًا، وحُكي ذلك عن مالك.

وقالت الحنفيّة: لا تجوز الصلاة في حال المسايفة والقتال، ولا في حالة المشي مطلقًا؛ أي: لا طالبًا ولا مطلوبًا، وتجوز الصلاة راكبًا للمطلوب، ولو كانت الدابّة سائرةً، لا للطالب. قيل: قول ابن عمر في هذا الحديث: قيامًا

(1)

"العدّة" 4/ 215.

ص: 703

على أقدامهم يؤيّد الحنفيّة في نفي الصلاة في حالة المشي، وإليه يظهر ميل البخاريّ حيث قال:"باب صلاة الخوف رجالًا وركبانًا" راجل: قائمٌ، قال الحافظ: يريد به أن المراد به ههنا القائم، ويُطلق على الماشي أيضًا، وهو المراد في "سورة الحجّ"{يَأْتُوكَ رِجَالًا} الآية. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال ابن المنذر رحمه الله: كلُّ من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته يومئ إيماءً، وإن كان طالبًا نزل فصلى على الأرض، قال الشافعيّ: إلا أن ينقطع عن أصحابه، فيخاف عود المطلوب عليه، فيجزئه ذلك.

قال: وعُرِف بهذا أن الطالب فيه التفصيل، بخلاف المطلوب، ووجه الفرق أن شدة الخوف في المطلوب ظاهرةٌ؛ لتحقق السبب المقتضي لها، وأما الطالب فلا يخاف استيلاء العدو عليه، وإنما يخاف أن يفوته العدوّ.

قال: وما نقله ابن المنذر متعقَّب بكلام الأوزاعيّ، فإنه قيّده بخوف الفوت، ولم يستثن طالبًا من مطلوب، وبه قال ابن حبيب من المالكية، وذكر أبو إسحاق الفزاريّ في "كتاب السير" له عن الأوزاعيّ، قال: إذا خاف الطالبون إن نزلوا بالأرض فوت العدو صَلَّوا حيث وَجَّهوا على كل حال. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيُّ رحمه الله بعد ذكره كلام ابن عمر المذكور ما نصّه: قال في "الموطّأ": مستقبل القبلة، وغير مستقبلها، وبهذا أخذ مالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وعامّة الفقهاء، ويشهد له قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، قال بعض علمائنا: بحسب ما يتمكّن منه، وقال جماعة من الصحابة، والسلف: يصلّي في الخوف ركعةً يومئ إيماءً، وقاله الضحّاك، قال: فإن لم يقدر على ركعة فتكبيرتين حيث كان وجهه، وقال إسحاق: إن لم يقدر على ركعة إنما يصلي سجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة، وقال الأوزاعيّ نحوه، إذا تهيّأ الفتح، لكن إن لم يقدر على ركعة، ولا على سجدة لم تجزه التكبيرة، وأخّرها حتى يأمنوا.

(1)

راجع: "المرعاة" 5/ 8.

(2)

"الفتح" 2/ 506.

ص: 704

ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة الخائف جملة متى تهيّأ له أن يأتي بها على وجهها، ويؤخّرها إلى أن يتمكّنوا من ذلك، واحتجّوا بتأخير النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، ولا حجة لهم فيه؛ لأن صلاة الخوف إنما شُرِعت بعد ذلك على ما تقدّم.

واختلف الذين قالوا بجواز ذلك للمطلوب في جواز ذلك للطالب، فمالك، وجماعة من أصحابه على التسوية بينهما، وقال الشافعي، والأوزاعيّ، وفقهاء أصحاب الحديث، وابن عبد الحكم: لا يصلّي الطالب إلا بالأرض.

ثم اختلفوا فيما يباح له من العمل في الصلاة، فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدوّ، وما يضطرّ إليه من ذلك من مشيٍ ونحوه، وقال الشافعيّ: إنما يجوز من ذلك الشيء اليسير، والطعنة، والضربة، فأما ما كثُر فلا تجزئه الصلاة، ونحوه عن محمد بن الحسن. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أقرب الأقوال القول بجوازه مطلقًا، سواء كان مطلوبًا أو طالبًا على حسب الإمكان راكبًا كان، أو ماشيًا، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قوله: "قال ابن عمر. . . إلخ" ظاهره أن هذا الكلام موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما، قال الحافظ في "الفتح": وقد أخرج مسلم حديث ابن عمر، من طريق سفيان الثوريّ، عن موسى بن عقبة، فذكر صلاة الخوف نحو سياق الزهريّ، عن سالم، وقال في آخره: قال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فليصلّ راكبًا أو قائمًا يومئ إيماءً.

ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبد الرحمن، عن موسى بن عقبة موقوفًا كله، لكن قال في آخره: وأخبرنا نافع أن عبد اللَّه بن عمر كان يخبر بهذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاقتضى ذلك رفعه كله.

وروى مالك في "الموطأ"، عن نافع كذلك، لكن قال في آخره: قال نافع: لا أرى عبد اللَّه بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزاد في آخره:"مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها"، وقد أخرجه البخاريّ من هذا الوجه في "تفسير سورة البقرة".

(1)

"المفهم" 2/ 475 - 476.

ص: 705

ورواه عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا كله بغير شكّ، أخرجه ابن ماجه، ولفظه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: "أن يكون الإمام يصلي بطائفة"، فذكر نحو سياق سالم، عن أبيه، وقال في آخره:"فإن كان خوفٌ أشدّ من ذلك فرجالًا وركبانًا"، وإسناده جيد.

والحاصل أنه اختُلِف في قوله: "فإن كان خوفٌ أشدُّ من ذلك" هل هو مرفوعٌ، أو موقوف على ابن عمر، والراجح رفعه، واللَّه أعلم. انتهى ما في "الفتح"، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، وفوائده في شرح الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1945]

(840) - (حَدَّثَنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ، صَفٌّ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نُحُورِ

(2)

الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ، وَالصَّفُ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا، قَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "في نحر".

ص: 706

حَرَسُكُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائِهِمْ)

(1)

.

رجال هذا الإِسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) مَيْسَرة الْعَرْزميّ -بفتح المهملة، وسكون الراء، وبالزاي المفتوحة- الكوفيّ، ثقة

(2)

[5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

4 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح، واسم أبيه أسلم القرشيّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](114) على المشهور، وقيل: إنه تغير بأَخَرَة، ولم يكثر ذلك منه (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه، غزا تسع عشرة غزوةً، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، ومن المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ

(1)

وفي نسخة: "بأمرائكم".

(2)

وقوله في "التقريب": صدوق له أوهام، فيه نظر، بل هو ثقةٌ على الإطلاق، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب" 2/ 613 - 614.

ص: 707

الْخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ) أي: جعلنا خلفه صفّين (صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ) جملة في محلّ نصب على الحال، وفي الرواية التالية تعيين العدوّ الذين حاربوهم، قال:"غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قومًا من جهينة، فقاتلونا قتالًا شديدًا، فلما صلّينا الظهر قال المشركون: لو مِلْنا عليهم مَيْلةً لاقتطعناهم، فأخبر جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاةٌ هي أحبّ إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر قال: صفّنا صفّين، والمشركون بيننا وبين القبلة. . . " الحديث.

وروى أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، والبيهقيّ، وابن حبّان في "صحيحه" من حديث أبي عيّاش الزُّرَقيّ رضي الله عنه مثل حديث جابر رضي الله عنه، وزاد تعيين محلّ الصلاة أنها كانت بعُسفان، فالظاهر أن جابرًا رضي الله عنه روى القصّتين معًا؛ أي: قصّة صلاة الخوف بغزوة ذات الرّقاع، وكان العدوّ فيها في غير جهة القبلة، وقصّة صلاة الخوف بغزوة عُسفان، وكان العدوّ فيها وجاه القبلة، واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

(فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي: للدخول في الصلاة (وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا) أي: كبّر الصفان كلاهما معه صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ رَكَعَ) أي: بعد القراءة (وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ) أي: هبط وخرّ لأجل السجود (وَالصَّفّ الَّذِي يَلِيهِ) أي: وانحدر الصفّ الذي يقرب منه صلى الله عليه وسلم، وهو عطف على الضمير المتصّل من دون تأكيد؛ لوجود الفصل (وَقَامَ) أي: بقي قائمًا (الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ) أي: في مقابلتهم، ونحر كل شيء أوله (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ) أي: أدّاه، وفرغ منه (وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ) أي: رفعوا رؤوسهم من السجود، وقاموا معه صلى الله عليه وسلم إلى الركعة الثانية (انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا) من سجودهم (ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ) أي: إلى مكان الصفّ الأول (وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ) قيل: الحكمة في التقدّم والتأخّر حيازةُ فضيلة المعيّة في الركعة الثانية؛ جبرًا لما فاتهم من المعيّة في الركعة الأولى، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المرعاة" 5/ 16.

ص: 708

(ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي: بعد أن قام، وقرأ الفاتحة والسورة (وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفَّ الْمُؤَخَّرُ) أي: الذي كان مقدّمًا في الركعة الأولى (فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ) هكذا في بعض النسخ "نحور" بلفظ الجمع، وفي بعضها "نحر" بالإفراد (فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا) وفي الرواية التالية: "فلما سجد الصفّ الثاني، ثم جلسوا جميعًا سلّم عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

والحديث دليلٌ على أنه إذا كان العدوّ في جهة القبلة فإنه يُخالف ما إذا لم يكن كذلك، فإنها تُمكن الحراسة مع دخولهم جميعًا في الصلاة، وذلك أن الحاجة إلى الحراسة إنما تكون في حال السجود فقط؛ لأن حال الركوع لا يمتنع معه إدراك أحوال العدوّ، فيتابعون الإمام جميعًا في القيام والركوع، ويَحرِس الصفّ المؤخّر في حال السجدتين بأن يتركوا المتابعة للإمام، ثم يسجدون عند قيام الصفّ الأول، ويتقدّم الصفّ المؤخّر إلى محلّ الصفّ المقدّم، ويتأخّر المقدّم ليتابع المؤخّر الإمام في السجدتين الأخيرتين، فيصحّ مع كل من الطائفتين المتابعة في سجدتين.

قال النوويّ رحمه الله: وحديث ابن عباس -أي: عند البخاريّ وغيره- نحو حديث جابر، لكن ليس فيه تقدم الصفّ، وتأخر الآخر، وبهذا الحديث قال الشافعيّ، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف إذا كان العدو في جهة القبلة، ويجوز عند الشافعيّ تقدم الصف الثاني، وتأخر الأول، كما في رواية جابر، ويجوز بقاؤهما على حالهما، كما هو ظاهر حديث ابن عباس. انتهى.

قال في "المرعاة": والصفة المذكورة في حديث جابر رضي الله عنه لا توافق ظاهر الآية، ولا توافق الرواية الأولى عن ابن عمر، ولا رواية يزيد بن رُومان، ولا رواية جابر في غزوة ذات الرقاع، إلا أنه قد يقال: إنها تختلف باختلاف الأحوال.

وقال الطحاويّ رحمه الله: ليس هذا بخلاف القرآن؛ لجواز أن يكون قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} [النساء: 102] إذا كان العدوّ في غير القبلة،

ص: 709

وذلك ببيانه صلى الله عليه وسلم، ثمّ بيّن كيفيّة الصلاة إذا كان العدوّ في جهة القبلة. انتهى

(1)

.

(قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه (كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ) الجار والمجرور متعلّق بـ "يصنع" مقدّرًا؛ أي: صنع النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما يصنع الْحَرَس الآن بأمرائهم.

و"الْحَرَسُ" بفتحتين: جمع حارس، هم: خَدَم السلطان المرتَّبون لحفظه وحِرَاسته، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَرَسَهُ يَحْرُسُه، من باب قتل: حَفِظَه، والاسم: الْحِرَاسة، فهو حارسٌ، والجمع حَرَسٌ، وحُرَّاسٌ، مثلُ خادم وخَدَمٍ، وخُدَّام، وحَرَسُ السلطان: أعوانه، جُعِلَ عَلَمًا على الجمع لهذه الحالة المخصوصة، ولا يُستَعْمَل له واحد من لفظه، ولهذا نُسِب إلى الجمع، فقيل: حَرَسِيٌّ، ولو جُعِل الْحَرَسُ هنا جمعَ حارس لقيل: حارسيٌّ، قالوا: ولا يقال: حارسيّ، إلا إذا ذُهِبَ به إلى معنى الْحِرَاسة دون الجنس. انتهى

(2)

.

وقوله: (هَؤُلَاءِ) بدل من "حَرَسُكم"، وقوله:(بِأُمُرَائِهِمْ) متعلّق بـ "يصنع"، وفي نسخة:"بأمرائكم"، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وعلّقه البخاريّ في "المغازي" رقم (4130).

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1945 و 1946](840)، و (النسائيّ) في "صلاة الخوف"(1547 و 1548) و"الكبرى"(1935 و 1936)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1260)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1738)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 463)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 319 و 374)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2877)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(10377)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(1/ 319)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (2414 و 2415 و 2416 و 2417

(1)

"المرعاة" 5/ 17 - 18.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 129.

ص: 710

و 2418)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1892 و 1893)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 257)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1097)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): أورد الإمام البخاريُّ رحمه الله حديث جابر رضي الله عنه في "صحيحه" هذا من طريق أبي الزبير معلّقًا مختصرًا، ولفظه: وقال معاذ: حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:"كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنخل. . . "، فذكر صلاة الخوف، قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": أورده مختصرًا معلّقًا؛ لأن غرضه الإشارة إلى أن روايات جابر متفقة على أن الغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة "ذات الرِّقاع"، لكن فيه نظر؛ لأن سياق رواية هشام، عن أبي الزبير هذه تدلّ على أنه حديث آخر في غزوة أخرى.

وبيان ذلك أن في هذا الحديث عند الطيالسيّ وغيره: "أن المشركين قالوا: دعوهم، فإن لهم صلاةً هي أحبّ إليهم من أبنائهم، قال: فنزل جبريل، فأخبره، فصلى بأصحابه العصر، وصفّهم صفّين. . . "، فذكر صفة صلاة الخوف، وهذه القصّة إنما هي في غزوة عُسفان.

وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق زُهير بن معاوية، عن أبي الزبير، بلفظ يدلّ على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع، ولفظه:

عن جابر رضي الله عنه، قال:"غزونا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قومًا من جُهينة، فقاتلونا قتالًا شديدًا، فلما أن صلينا الظهر قال المشركون: لو مِلْنا عليهم مَيلَة واحدة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: وقالوا: ستأتيهم صلاة هي أحبّ إليهم من الأولاد. . . "، فذكر الحديث.

وروى أحمد، والترمذيّ، وصححه، والنسائيّ من طريق عبد اللَّه بن شقيق، عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنَان وعُسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاةً هي أحبّ إليهم من أبنائهم. . . "، فذكر الحديث في نزول جبريل لصلاة الخوف.

وروى أحمد، وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان من حديث أبي عياش الزرقيّ رضي الله عنه، قال: "كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بعُسفان، فصلّى بنا الظهر، وعلى

ص: 711

المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلةً، ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه، هي أحبّ إليهم من أموالهم، وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر، ففرّقنا فرقتين. . . " الحديث، وسياقه نحو رواية زُهير، عن أبي الزبير، عن جابر، وهو ظاهر في اتحاد القصّة.

وقد روى الواقديّ من حديث خالد بن الوليد، قال:"لَمّا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الحُديبية لقيته بعُسفان، فوقفت بإزائه، وتعرّضت له، فصلّى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نُغير عليهم، فلم يُعزَم لنا، فأطلع اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فصلى بأصحابه العصرَ صلاةَ الخوف. . . " الحديث، وهو ظاهر فيما قرّرته أن صلاة الخوف بعسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابرًا روى القصّتين معًا.

فأما رواية أبي الزبير عنه ففي قصّة عُسفان، وأما رواية أبي سلمة، ووهب بن كيسان، وأبي موسى البصريّ عنه، ففي غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب، وثعلبة.

وإذا تقرّر أن أول ما صلّيت صلًا الخوف في عُسفان، وكانت في عمرة الحديبية، وهي بعد الخندق وقريظة، وقد صلّيت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وهي بعد عُسفان، فتعيّن تأخرها عن الخندق، وعن قُريظة، وعن الحديبية أيضًا، فيَقْوَى القولُ بأنها بعد خيبر؛ لأن غزوة خيبر عقب الرجوع من الحديبية.

وأما قول الغزاليّ: إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات فهو غلطٌ واضحٌ، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره.

وقال بعض من انتصر للغزاليّ: لعله أراد آخر غزوة صُلّيت فيها صلاة الخوف، وهذا انتصار مردود أيضًا؛ لما أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبّان من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه صلّى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، وإنما أسلم أبو بكرة في غزوة الطائف باتفاق، وذلك بعد غزوة ذات الرقاع قطعًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 7/ 488 "كتاب المغازي" رقم (4130).

ص: 712

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1946]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَاتَلُونَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الظُّهْرَ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ مِلْنَا عَلَيْهِمْ مَيْلَةً لَاقْتَطَعْنَاهُمْ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَقَالُوا إِنَّهُ سَتَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْلَادِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ، قَالَ: صَفَّنَا صَفَّيْنِ، وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا، وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا

(1)

، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي، فَقَامُوا مَقَامَ الْأَوَّلِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا، وَرَكَعَ فَرَكَعْنَا، ثُمَّ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، وَقَامَ الثَّانِي، فَلَمَّا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: ثُمَّ خَصَّ جَابِرٌ أَنْ قَالَ: كَمَا يُصَلِّي أُمَرَاؤُكمْ هَؤُلَاءِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ) بن عبد اللَّه بن قيس التميميّ الْيَرْبوعيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ،، إلا أنه يدلِّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

و"جَابِرٌ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (123) من رباعيّات الكتاب.

(1)

وفي نسخة: "وركعنا".

ص: 713

وقوله: (قَوْمًا مِنْ جُهَيْنَةَ) بضمّ الجيم، وفتح الهاء: اسم قبيلة من قُضاعة، وهو: جُهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قُضاعة، قاله في "اللباب"

(1)

.

وقوله: (ثُمَّ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في بعض النسخ "الصفُّ الأول"، ولم يقع في أكثرها ذكر "الأول"، والمراد الصفُّ المقدم الآن. انتهى

(2)

.

والحديث تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1947]

(841) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صالِحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ، فَصَفَّهُمْ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ يَلُونَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا، حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُمْ رَكْعَةً، ثُمَّ تَقَدَّمُوا، وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ كَانُوا قُدَّامَهُمْ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ قَعَدَ حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقة متقنٌ، من كبار [9](196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج بن الورد العتكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ الثقة الحافظ المتقن العابد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 216.

(2)

"شرح النووي" 6/ 127 - 128.

ص: 714

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصديق التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ جليلٌ، قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه [6](ت 126) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.

5 -

(أَبُوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيميّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

6 -

(صالِحُ بْنُ خَوَّاتِ

(1)

بْنِ جُبَيْرٍ) بن جبير بن النعمان الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [4](ع).

رَوَى عن أبيه، وخاله، وسهل بن أبي حَثْمة، وروى عنه ابنه خَوّات، ويزيد بن رُومان، وعامر بن عبد اللَّه بن الزبير، والقاسم بن محمد.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: قليل الحديث.

رَوَى له الجماعة حديث صلاة الخوف هذا فقط.

7 -

(سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ) واسمه عبد اللَّه، وقيل: عامر، وقيل: هو سهل بن عبد اللَّه بن أبي حثمة عامر بن ساعدة بن عامر بن عديّ بن جُشَم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاريّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو يحيى، ويقال: أبو محمد المدنيّ.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن زيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة.

وروى عنه ابنه محمد، وابن أخيه محمد بن سليمان بن أبي حثمة، وبُشَير بن يسار، وصالح بن خوَّات، ونافع بن جبير بن مُطْعِم، وعروة بن الزبير، وأرسل عنه الزهريّ.

قال ابن أبي حاتم عن أبيه: بايع تحت الشجرة، وشَهِد المشاهد كلها إلا بدرًا، وكان دليل النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُحد، قال ابن أبي حاتم: سمعت رجلًا من ولده سأله أبي عن ذلك، وأخبره به.

وقال الواقديّ: مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه.

(1)

بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو، وآخره تاء مثناة.

ص: 715

قال ابن منده: قول الواقديّ أصحّ، وكذا جزم به ابن حبان، وأبو جعفر الطبريّ، وابن السكن، والحاكم أبو أحمد وغيرهم، ومنهم مَن عَيَّن مولده سنة ثلاث من الهجرة، وقال ابن القطان: قول أبي حاتم لا يصح عندهم البتة، والغلط فيه من هذا الرجل الذي لا يُدْرَى من هو؟ وإنما الذي بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم خارِصًا أبوه أبو حثمة، وهو الذي كان دليل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أُحد، كذا ذكره ابن جرير وغيره.

وتُوُفِّي رضي الله عنه في أول خلافة معاوية رضي الله عنه وهكذا ذكر ابن عبد البرّ.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أنه اشتبه بسهل بن الحنظلية، فإنه مذكور بهذا الوصف، قال: وقرأت بخط الذهبيّ أظنّ سهلًا مات زمن معاوية.

قال الحافظ: ويقويه حكمهم على رواية الزهريّ عنه بالإرسال، لكن الذي جزم به الطبري أن الذي مات في خلافة معاوية هو أبوه أبو حَثْمة، واللَّه أعلم. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (841) و (1540) وأعاده بعده و (1669) وكرّره أربع مرّات.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه مرّتين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وأن القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وهو من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا نحو ستة أحاديث، راجع "تحفة الأشراف"(3/ 612 - 619).

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ) بفتح المهملة، وسكون المثناة، وقد سبق آنفًا الخلاف في اسمه، واسم أبيه، فلا تغفل.

ص: 716

واتَّفَق أهل العلم بالأخبار على أن سهلًا كان صغيرًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا ما ذكر ابن أبي حاتم، عن رجل من ولد سهل أنه حدّثه أنه بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد، إلا بدرًا، وكان الدّليلَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُحُد.

وقد تعقّب هذا جماعة من أهل المعرفة، وقالوا: إن هذه الصفة لأبيه، وأما هو فمات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان سنين، وممن جزم بذلك الطبريّ، وابن حبّان، وابن السكن،، وغير واحد، وعلى هذا فتكون روايته لقصة صلاة الخوف مرسلةً، ويتعيّن أن يكون مراد صالح بن خوّات في الرواية التالية:"عمن صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف" غيرَهُ، والذي يظهر أنه أبوه، كما سيأتي، إن شاء اللَّه تعالى. أفاده في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: الذي يظهر مما سبق أن هذه الرواية مرسلة؛ لأن الراجح أن سهل بن أبي حثمة لم يشهدها؛ حيث إنه كان صغيرًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان ابن ثمان سنين حين موته صلى الله عليه وسلم، فلم يكن إذ ذاك في سنّ من يخرج في تلك الغزوة، فتكون روايته من مراسيل الصحابة، ومما يقوّي قول من قال: إن سهل بن أبي حثمة لم يشهد ذلك، قول صالح بن خوّات في الرواية التالية:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف"، ولم يقل:"صلى بنا" كما هو في رواية غيره، فيكون مراد صالح بن خوّات في الرواية التالية:"عمن صلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ" غيره، واستظهر الحافظ رحمه الله أن يكون أبوه

(2)

، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فِي الْخَوْفِ) الظاهر أن تلك الصلاة كانت في غزوة ذات الرّقاع، كما صُرّح به في الرواية التالية (فَصَفهُمْ خَلْفَهُ صَفيْنِ) ظاهر هذه الرواية يخالف الرواية التالية فإن في هذه يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم جعلهم صفّين خلفه، وصلى بهم، وتلك ظاهرة في أنه جعلهم طائفتين: طائفة صفّت خلفه، وطائفة ذهبت لمواجهة العدوّ، ويُمكن أن يُجمع بينهما بالحمل على تعدّد الواقعة، ففي صلاة لَمّا كان العدوّ في جهة القبلة جعلهم صفّين،

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 490.

(2)

راجع: "الفتح" 7/ 490 "كتاب المغازي"(4131)، و"المرعاة" 5/ 12.

ص: 717

وصلّى بهم، وفي صلاة أخرى لَمّا كانوا في غير جهة القبلة، جعلهم طائفتين، واللَّه تعالى أعلم.

(فَصَلَّى بِالَّذِينَ يَلُونَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ) صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا، حَتَّى صَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُمْ) أي: خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصفّ الذي يليه؛ أي: صلّى أهل الصفّ الثاني لأنفسهم (رَكْعَةً، ثُمَّ تَقَدَّمُوا) أي: تقدّم أهل الصفّ الثاني على أهل الصفّ الأول (وَتَأَخَّرَ الَّذِينَ كَانُوا قُدَّامَهُمْ) أي: وهم الذين صلّى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى (فَصَلَّى بِهِمْ) أي: بأهل الصفّ الثاني الذين تقدّموا إليه (رَكْعَةً) أي: وهي الركعة الثانية (ثُمَّ قَعَدَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى صَلّى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا) أي: إلى أن صلّى أهل الصفّ الذين تأخّروا لأنفسهم (رَكْعَةً) أخرى (ثُمَّ سَلَّمَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم بهم جميعًا؛ أي: بأهل الصفّين، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن أبى حثمة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1947](841)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4131)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1237 و 1239)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(565 و 566)، و (النسائيّ) في "صلاة الخوف"(1536 و 1553) وفي "الكبرى"(1924 - 1941)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1259)، و (مالك) في "الموطأ"(164)، و (الشافعيّ) في "الرسالة"(ص 183 - 244)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 448)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1356)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2886)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2424 و 2425)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 432)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 310)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(10325 و 10331 و 10346 و 10363)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 253)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1094)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 718

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1948]

(842) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ

(1)

، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأثمُّوا لأنفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](216) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، الفقيه إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ) الأسديّ، أبو رَوْح المدنيّ، مولى آل الزبير، ثقةٌ [5].

رَوَى عن ابن الزبير، وأنس، وعبيد اللَّه وسالم ابني عبد اللَّه بن عمر، وصالح بن خَوَّات بن جبير، وعروة بن الزبير، والزهريّ، وهو من أقرانه، وأرسل عن أبي هريرة.

ورَوَى عنه هشام بن عروة، وعبيد اللَّه بن عمر، وأبو حازم سلمة بن دينار، ومعاوية بن أبي مُزَرِّد، وابن إسحاق، وخارجة بن عبد اللَّه بن سليمان بن زيد بن ثابت، ومالك، ويزيد بن عبد الملك النَّوْفليّ، وجرير بن حازم، وجماعة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال

(1)

وفي نسخة: "أن طائفة صفّت صلّت معه".

ص: 719

غيره: قرأ القرآن على عبد اللَّه بن عباس بن أبي ربيعة، وقرأ عليه نافع بن أبي نُعَيم، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن سعد عن الواقديّ وغيره: مات سنة ثلاثين ومائة، وكان عالِمًا كثير الحديث، ثقة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، برقم (842) و (1504) و (2555) و (2972).

4 -

(صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ) ذُكر قبله.

5 -

(مَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": قيل: إن اسم هذا المبهم سهل بن أبي حَثْمة؛ لأن القاسم بن محمد رَوَى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، وهذا هو الظاهر من رواية البخاريّ، ولكن الراجح أنه أبوه خوّات بن جُبير؛ لأن أبا أويس رَوَى هذا الحديث عن يزيد بن رُومَان شيخ مالك فيه، فقال: عن صالح بن خوّات، عن أبيه، أخرجه ابن مَنْدَهْ في "معرفة الصحابة" من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقيّ من طريق عبد اللَّه بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوّات، عن أبيه، وجزم النوويّ في "تهذيبه" بأنه خوّات بن جُبير، وقال: إنه محقَّقٌ من رواية مسلم وغيره، وسبقه لذلك الغزاليّ، فقال: إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوّات بن جُبير، وقال الرافعيّ في "شرح الوجيز": اشتهر هذا في كتب الفقه، والمنقول في كتب الحديث رواية صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حَثْمَة، وعمن صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فلعلّ المبهم هو خوّات والد صالح. قال الحافظ: وكأنه لم يقف على رواية خوّات التي ذكرتها، وباللَّه تعالى التوفيق.

ويَحْتَمِل أن صالحًا سمعه من أبيه، ومن سهل بن أبي حثْمة، فلذلك يُبهمه تارة، ويعيّنه أخرى، إلا أن تعيين كونها كانت ذات الرقاع إنما هو في روايته عن أبيه، وليس في رواية صالح، عن سهل أنه صلاها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وينفع هذا فيما سنذكره قريبًا من استبعاد أن يكون سهل بن أبي حثمة كان في سنّ تاريخ من يَخْرُج في تلك الغَزَاة، فإنه لا يلزم من ذلك أن لا يرويها، فتكون روايته إياها مرسل صحابيّ، فبهذا يقوى تفسير الذي صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم-

ص: 720

بِخَوّات، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ) -بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو، آخره مثناة- أي: ابن جبير بن النعمان الأنصاريّ، وصالح تابعيّ ثقة، ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث الواحد، وأبوه أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، وهو صحابيّ جليل، أولُ مشاهده أُحدٌ، ومات بالمدينة سنة أربعين، أفاده في "الفتح"

(2)

.

(عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) سبق آنفًا أن الراجح أنه أبوه خَوّات رضي الله عنه (يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ) -بكسر الراء-: جمع الرُّقعة، بمعنى الخِرْقة، وهي القطعة من الثوب، سُمِّيت هذه الغزوة ذات الرقاع؛ لأن الظَّهر كان قليلًا، وأقدام المسلمين نَقِبَت من الحَفَاء، فلفّوا عليها الخِرَق، وهي الرقاع، رواه البخاريّ ومسلم عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وهو الصحيح في تسميتها، وقيل: لأنهم رقّعوا فيها راياتهم، وقيل: بشجرة في ذلك الموضع، يقال لها: ذات الرقاع، وقيل: بل الأرض التي كانوا نزلوا بها كانت ذات ألوان تُشبه الرقاع. وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبّان، وقال الواقدي: سميت بجبل هناك، فيه بُقَع، وهذا لعله مستند ابن حبّان، ويكون قد تصحّف جبل بِخَيْل.

(1)

"الفتح" 7/ 487 "كتاب المغازي" رقم (4129).

(2)

"الفتح" 7/ 487.

ص: 721

وقد رجّح السُّهيليّ، والنوويّ السبب الذي ذكره أبو موسى رضي الله عنه، ثم قال النوويّ: ويَحْتَمِل أن تكون سُميت بالمجموع، وأغرب الداوديّ، فقال: سميت ذات الرِّقاع؛ لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، كذا في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: اختُلف في هذه الغزوة متى كانت، فجنح البخاريّ في "الصحيح" إلى أنها كانت بعد خيبر، وعن ابن إسحاق أنها بعد بني النضير، وقبل الخندق، سنة أربع، وعند ابن سعد، وابن حبّان أنه كان في المحرّم سنة خمس، وقد تقدم الكلام في هذا في المسائل التي سبقت في أوّل "باب صلاة الخوف".

ثم رأيت الإمام ابن القيّم رحمه الله أجاد في هذا البحث، وأفاد، حيث قال رحمه الله:

ثم غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة نجد، فخرج في جمادى الأولى من السنة الرابعة، وقيل: في المحرم يريد محاربَ، وبني ثعلبة بن سعد بن غَطَفان، واستَعْمَل على المدينة أبا ذرّ الغفاريّ، وقيل: عثمان بن عفان، وخرج في أربعمائة من أصحابه، وقيل: سبعمائة، فلقي جمعًا من غَطَفان، فتواقفوا، ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى بهم يومئذ صلاة الخوف.

هكذا قال ابن إسحاق وجماعة من أهل السير والمغازي في تاريخ هذه الغَزَاة، وصلاة الخوف بها، وتلقاه الناس عنهم، وهو مشكل جدًّا، فإنه قد صح أن المشركين حَبَسُوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غابت الشمس.

وفي "السنن"، و"مسندي أحمد والشافعيّ" -رحمهما اللَّه- أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فصلاهنّ جميعًا، وذلك قبل نزول صلاة الخوف، والخندق بعد ذات الرقاع سنة خمس.

والظاهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أول صلاة صلاها للخوف بعُسفان، كما قال أبو

(1)

"الفتح" 7/ 483.

ص: 722

عياش الزُّرَقيّ رضي الله عنه: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بعسفان، فصلى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غَفْلَةً، ثم قالوا: إن لهم صلاةً بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا العصر، ففرَّقنا فرقتين، وذكر الحديث، رواه أحمد، وأهل "السنن".

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نازلًا بين ضَجْنان وعُسفان محاصرًا للمشركين، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم، أَجْمِعُوا أمركم، ثم ميلوا عليهم مَيْلَةً واحدةً، فجاء جبريل، فأمره أن يَقْسِم أصحابه نصفين، وذكر الحديث، قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح.

ولا خلاف بينهم أن غزوة عُسفان كانت بعد الخندق، وقد صحّ عنه أنه صلى صلاة الخوف بذات الرقاع، فعلم أنها بعد الخندق، وبعد عسفان.

ويُؤَيِّد هذا أن أبا هريرة وأبا موسى الأشعري شَهِدا ذات الرقاع، كما في "الصحيحين" عن أبي موسى، أنه شهد غزوة ذات الرقاع، وأنهم كانوا يَلُفُّون على أرجلهم الْخِرَق لَمَّا نَقِبَت.

وأما أبو هريرة، ففي "المسند"، و"السنن" أن مروان بن الحكم سأله، هل صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال: عام غزوة نجد.

وهذا يدلّ على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وأن من جعلها قبل الخندق فقد وَهِمَ وَهْمًا ظاهرًا، ولما لم يفطن بعضهم لهذا ادَّعَى أن غزوة ذات الرقاع كانت مرتين، فمرةً قبل الخندق، ومرةً بعدها على عادتهم في تعديد الوقائع إذا اختلفت ألفاظها أو تاريخها، ولو صح لهذا القائل ما ذكره، ولا يصحّ لم يمكن أن يكون قد صلى بهم صلاة الخوف في المرة الأولى؛ لما تقدم من قصة عُسفان، وكونِها بعد الخندق، ولهم أن يجيبوا عن هذا بأن تأخير يوم الخندق جائز غير منسوخ، وأن في حال المسايفة يجوز تأخير الصلاة إلى أن يتمكن من فعلها، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله وغيره، لكن لا حيلة لهم في قصة عُسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها، وأنها بعد الخندق.

ص: 723

فالصواب تحويل غزوة ذات الرقاع من هذا الموضع إلى ما بعد الخندق، بل بعد خيبر، وإنما ذكرناها ها هنا تقليدًا لأهل المغازي والسير، ثم تبيّن لنا وهمهم، وباللَّه التوفيق.

ومما يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد الخندق، ما رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معلَّق بالشجرة، فأخذ السيف فاخترطه، فذكر القصّة، وقال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان.

وصلاة الخوف إنما شُرِعت بعد الخندق، بل هذا يدل على أنها بعد عُسفان، واللَّه أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره ابن القيّم رحمه الله بحثٌ نفيسٌ جدًّا، وحاصله أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد الخندق، بل بعد خيبر، وأنه صلى الله عليه وسلم صلى فيها صلاة الخوف، وصلاها قبلها بعُسفان، وأول ما شُرعت صلاةُ الخوف بعُسفان، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(صَلَاةَ الْخَوْفِ) مفعول "صلى"(أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ) بالفاء هكذا في أكثر النسخ، ووقع في بعضها:"صَلَّت معه"، وهما صحيحان، قاله النوويّ

(2)

. (وَطَائِفَةٌ) يَحْتَمل النصب عطفًا على "طائفةً"، والرفع على الابتداء؛ أي: وطائفة أُخرى، وقوله:(وُجَاهَ الْعَدُوِّ) بكسر الواو، وضمّها؛ أي: مقابله، منصوب على الظرفيّة، وهو معطوفٌ على "معه" في الوجه الأول، ومتعلّق بخبر المبتدأ على الوجه الثاني.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وطائفة وجاه العدو" هو بكسر الواو وضمها، يقال: وجاهه، وتُجاهه: أي: قبالته، والطائفة: الفِرْقة، والقطعة من الشيء، تقع على القليل والكثير، لكن قال الشافعيّ: أكره أن تكون الطائفة في صلاة الخوف أقلّ من ثلاثة، فينبغي أن تكون الطائفة التي مع الإمام ثلاثة فأكثر،

(1)

"زاد المعاد" 3/ 250 - 254.

(2)

"شرح النوويّ" 6/ 128 - 129.

ص: 724

والذين في وجه العدوّ كذلك، واستَدَلَّ بقول اللَّه تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا} إلى آخر الآية [النساء: 102]، فأعاد على كل طائفة ضمير الجمع، وأقل الجمع ثلاثة على المشهور. انتهى

(1)

.

(فَصَلَّى) النبيّ صلى الله عليه وسلم (بالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ) لَمّا قام صلى الله عليه وسلم إلى الركعة الثانية (ثَبَتَ) حال كونه (قَائِمًا، وَأَتَمُّوا) أي: أتمّت هذه الطائفة التي صلّت معه الركعة الأولى (لِأَنْفُسِهِمْ) بإضافة الركعة الثانية (ثُمَّ) بعد سلامهم من صلاتهم (انْصَرَفُوا) إلى العدّو (فَصَفُّوا) من باب نصر، يتعدّى ويلزم، والمراد هنا اللازم (وُجَاهَ الْعَدُوِّ) أي: وهم في غير حالة الصلاة، حيث انتهوا منها، وسلّموا (وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى) التي كانت مواجهة العدوّ إلى مكان الطائفة الأولى، فاقتدوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم (فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ) من صلاته صلى الله عليه وسلم، وهي الركعة الثانية له (ثُمَّ ثَبَتَ) صلى الله عليه وسلم حال كونه (جَالِسًا) للتشهّد، ولم يخرج من صلاته بسلام (وَأَتَمُّوا) أي: الطائفة الثانية (لأَنْفُسِهِمْ) الركعة الأخرى، وجلسوا معه في التشهّد (ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ) أي: معهم؛ ليحصل لهم فضيلة التسليم معه صلى الله عليه وسلم، كما حصل للطائفة الأولى فضيلة التحريم معه، وقد صلى كل طائفة معه صلى الله عليه وسلم ركعةً، وركعة لأنفسهم وُحدانًا، وهذه إحدى الكيفيات الثابتة في صلاة الخوف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختارها الشافعيّ، وأحمد -رحمهما اللَّه تعالى- وقد تقدّم تحقيق ذلك قريبًا، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث صالح بن خَوّات، عمن صلّى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1948](842)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4129)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1238)، و (النسائيّ) في "صلاة الخوف"

(1)

"شرح النووي" 6/ 129.

ص: 725

(1537)

و"الكبرى"(1925)، و (مالك) في "الموطأ"(130)، و (الشافعيّ) في "الرسالة" في الفقرة (509 و 677) بتحقيق أحمد محمد شاكر، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2426)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1895)، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1949]

(843) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ

(1)

، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ: كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بِشَجَرةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرَطَهُ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: "اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ"، قَالَ: فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ، قَالَ: فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

2 -

(أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ) العطّار، أبو زيد البصريّ، ثقةٌ، له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

3 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلِّس ويرسل [5] (ت 132) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه

(1)

وفي نسخة: "عفّان بن مسلم".

ص: 726

عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وأبان، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ) بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ في "المغازي" من طريق ابن شهاب، عن سِنَان بن أبي سِنَان الدُّؤَليّ، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نجد، فلما قَفَلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثيرِ الْعِضَاه، فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتفرّق الناس في العضاه، يستظلون بالشجر، ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحت سَمُرة، فعلَّق بها سيفه. . . الحديث، وسيأتي نحوه للمصنّف في "الفضائل".

(حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ) أي: بالمكان الذي كانت به غزوة ذات الرقاع، وقد تقدّم الكلام في سبب تسميتها في الحديث الماضي (قَالَ) جابر رضي الله عنه (كُنَّا) أي: معشر الصحابة عند إرادة نزول المنزل (إِذَا أَتَيْنَا) أي: مررنا (عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ) أي: مظلّلة؛ أي: ذات ظلّ كثيف؛ يعني: كثيرة الظلّ (تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي: لينزل تحتها، ويستظلّ بظلّها الكثيف؛ يعني: ففعلنا بذات الرقاع هذا الفعل، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم تحت شجرة؛ للاستراحة (قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اسمه غَوْرث بفتح الغين المعجمة، وسكون الواو، وفتح الراء، وبالثاء المثلثة، وقيل: بضم أوله، مأخوذ من الغَرَث

(1)

، وهو

(1)

من باب فَرَحَ، كما في "ق".

ص: 727

الجوع، وحَكَى الخطابيّ فيه غُوَيرث بالتصغير، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": و"غَوْرَث" وزانُ جَعْفَر، وقيل: بضم أوله، وهو بغين معجمة، وراء، ومثلثة، مأخوذ من الغرث، وهو الجوع، ووقع عند الخطيب بالكاف بدل المثلثة، وحَكَى الخطابيّ فيه غويرث بالتصغير، وحَكَى عياض أن بعض المغاربة قال في البخاري بالعين المهملة، قال: وصوابه بالمعجمة. انتهى

(2)

.

(وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ) الواو فيه للحال، والجملة الاسميّة في محلّ نصب على الحال (بِشَجَرَةٍ) أي: وهي الشجرة التي استظلّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأَخَذَ) الرجل المشرك (سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لكونه وجده نائمًا (فَاخْتَرَطَهُ) -بالخاء المعجمة، والمثنّاة الفوقيّة، والراء، آخره طاء مهملة- أي: سلّه من غِمده، وهو غلافه (فَقَالَ) الرجل (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَخَافُنِي؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَا") أي؟ لا أخافك (قَالَ) الرجل (فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟) برفع "يمنعُ"؛ لأن "من" استفهاميّة، تتضمّن معنى النفي، كأنه قال: لا مانع لك مني، وكرّر ذلك في رواية البخاريّ ثلاث مرات.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُ) الذي سلّطك عليّ (يَمْنَعُني مِنْكَ) أي: يخلّصني من أذاك لي؛ إذ لا حول ولا قوّة إلا به.

قال الطيبيّ رحمه الله: كان يكفي في الجواب أن يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللَّه، فبسط اعتمادًا على اللَّه، واعتضادًا بحفظه وكَلَئِه، قال اللَّه تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "من يمنعك مني؟ " استفهام يتضمن النفي، كأنه قال: لا مانع لك مني، وقوله:"اللَّه" أي: يمنعك اللَّه، قاله ثلاث مرات، فلم يبالِ صلى الله عليه وسلم بقوله، ولا عَرَّج عليه؛ ثقة باللَّه، وتوكلًا عليه، فلما شاهد هذا الرجل تلك القوّة التي فارق بها عادة الناس في مثل تلك الحالة، تحقّق صدقه، وعَلِمَ أنه لا يصل إليه بضرر، وهذا من أعظم الخوارق للعادة، فإنه عدوٌّ متمكنٌ،

(1)

"عمدة القاري" 19/ 268 "كتاب المغازي" رقم (4136).

(2)

"الفتح" 7/ 493 "كتاب المغازي" رقم (4136).

ص: 728

بيده سيفٌ مشهورٌ، وموتٌ حاضرٌ، ولم يتَغَيَّرْ له صلى الله عليه وسلم بحال، ولا حَصَلَ له رَوْعٌ ولا جَزَعٌ، وهذا من أعظم الكرامات، ومع اقتران التحدِّي يكون من أوضح المعجزات. انتهى

(1)

.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَتَهَدَّدَهُ) أي: خوّفه (أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهره يُشعر بأنهم حضروا القصّة، وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، فإنه وقع في رواية للبخاريّ بعد قوله:"فعلّق بها سيفه"، قوله:"قال جابرٌ: فنِمنا نومةً، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا، فإذا عنده أعرابيّ جالسٌ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط عليّ سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت، وهو في يده صَلْتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: اللَّه ثلاثًا، ولم يعاقبه، وجلس"، فقد بيّنت هذه الرواية أن هذا القدر لم يحضره الصحابة، وإنما سمعوه من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن دعاهم، واستيقظوا من نومهم.

ووقع في رواية أخرى للبخاريّ بعد قوله: "قلت: اللَّه، فشام السيف"، والمراد أغمده، وكأن الأعرابيّ لَمّا شاهد ذلك الثبات العظيم، وعَرَفَ أنه حيل بينه وبينه تحقّق صدقه، وعَلِمَ أنه لا يصل إليه، فألقى السلاح، وأمكن من نفسه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَغْمَدَ السَّيْفَ) من الإغماد؛ أي: أدخله في غلافه (وَعَلَّقَهُ) أي: على مكانه.

وعند ابن إسحاق: لَمّا نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحت شجرة نَزَعَ ثوبيه، ونَشَرَهما على الشجرة؛ لِيَجِفَّا من مطر أصابه، واضطجع تحتها، فقال الكفار لدعثور، وكان سيدهم، وكان شجاعًا: قد انفرد محمد، فعليك به، فأقبل ومعه صارمٌ حتى قام على رأسه، فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اللَّه، فدفع جبريل عليه الصلاة والسلام في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: من يمنعك أنت مني اليوم؟ قال: لا أحد، فقال: قم، فاذهب لشأنك، فلما وَلَّى قال: أنت خير مني، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بذلك منك، ثم أسلم بعدُ، وفي لفظ: قال: وأنا أشهد أن لا إله إلَّا اللَّه، وأنك

(1)

"عمدة القاري" 14/ 190.

ص: 729

رسول اللَّه، ثم أتى قومه، فدعاهم إلى الإسلام، وفي رواية البيهقيّ: فسقط السيف من يد الأعرابيّ، فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال:"من يمنعك مني؟ "، قال: كن خير آخذ، قال: فتُسْلِمُ؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلَّى سبيله، فأتى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. انتهى.

ويُجمع بين قوله: "فها هو جالسٌ، ثم لم يُعاقبه"، وبين رواية ابن إسحاق بأن قوله:"فاذهب لشأنك" كان بعد أن أخبره الصحابة بقصّته، فمنّ عليه؛ لشدّة رغبته صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفّار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولم يؤاخذه بما صنع، بل عفا عنه، وقد تقدّم أنه أسلم بعد ذلك، وأنه رجع إلى قومه، واهتدى به خلق كثير

(1)

.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ) أي: أُذّن، وأقيم للصلاة (فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ) ثم سلّم وسلّموا (ثُمَّ تَأَخَّرُوا) أي: إلى جهة العدوّ (وَصَلَّى) النبيّ صلى الله عليه وسلم متنفّلًا (بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى) أي: التي كانت في مواجهة العدوّ بعد مجيئها إليه صلى الله عليه وسلم (رَكْعَتَيْنِ) ثم سلّم وسلّموا (قَالَ) جابرٌ رضي الله عنه (فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ) أي: بتسليمتين فرضًا ونفلًا (وَللْقَوْمِ رَكْعَتَانِ) فرضًا، واستُدِلّ به على جواز صلاة المفترض خلف المتنفّل، كذا قرّره النوويّ وغيره، وهو الحقّ، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 1949 و 1950](843) وفي "الفضائل" 5950

(2)

، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2910 و 2913) و"المغازي" (4134

(1)

راجع: "المرعاة" 5/ 14.

(2)

هذا الرقم رقم نسخة دار السلام (ص 1011) وهو نحو ترقيمي.

ص: 730

و 4135 و 4136)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 464)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 364)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 315)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1353)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2884)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 60 و 61)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2427 و 2428)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1896 و 1897)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 259)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1095)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة حبّهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتعظيمهم له غاية التعظيم، وإيثارهم له على أنفسهم.

2 -

(ومنها): جواز تفرّق الناس عن الإمام في القائلة، وطلبهم الظلّ والراحة، ولكن ليس ذلك في غير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلَّا بعد أن يبقى معه مَن يَحْرُسه من أصحابه؛ لأن اللَّه تعالى قد كان ضَمِنَ لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعصمه من أذى الناس.

3 -

(ومنها): جواز تعليق السيف بالشجرة في السفر عند النوم وقت القائلة.

4 -

(ومنها): أن حراسة الإمام في القائلة، وفي الليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ.

5 -

(ومنها): بيان فرط شجاعته صلى الله عليه وسلم، وقوّة يقينه بربّه، وصبره على الأذى، وصفحه عن الجهال.

6 -

(ومنها): بيان أعظم معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعظيمِ عناية اللَّه سبحانه وتعالى بعصمته من أعدائه، فقد سقط السيف من يد ذلك الأعرابيّ دون أن يقاومه أحد من الناس، بل محض فضل من اللَّه تعالى، كما وعده بذلك، فقال:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وقال:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

7 -

(ومنها): جواز نوم المسافر إذا أَمِنَ، وأن المجاهد أيضًا إذا أَمِنَ نام ووضع سلاحه، وإن خاف فلا؛ لأن اللَّه تعالى أمر بأخذه، حيث قال:{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} الآية [النساء: 102].

ص: 731

8 -

(ومنها): أن الإمام يدعو أتباعه إذا أنكر شخصًا.

9 -

(ومنها): جواز ترك الإمام معاقبة من جفا عليه، وتوعّده إن شاء، وإن أحب العفو عفا.

10 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على جواز اقتداء المفترض بالمتنفّل، كذا قرّره النوويّ في "شرحه"؛ جمعًا بينه وبين حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه النسائيّ (1552) عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين، ثم سلّم، ثم صلى بآخرين أيضًا ركعتين ثم سلم".

وأخرجه أيضًا البغويّ في "شرح السنّة"، ولفظه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخزف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين، ثم سلّم، ثم جاءت طائفة أخرى، فصلّى بهم ركعتين، ثم سلّم".

ومثله حديث أبي بكرة رضي الله عنه أخرجه النسائيّ أيضًا (1551) ولفظه: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم في الخوف ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالقوم الآخرين ركعتين ثم سلم، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعًا".

فدلّ على أنه يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفّل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم متنفّل في الركعتين الأخيرتين قطعًا، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في شرح حديث قصّة معاذ رضي الله عنه، في "باب القراءة في العشاء" رقم [1045](465) فراجعه تستفد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[1950]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى، يَعْنِي ابْنَ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا

(2)

مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 732

الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) السَّمَرْقَنْديّ، أبو محمد الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ، فاضلٌ، متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) التَّنِّيسيّ، أصله من البصرة، ثقةٌ [9](ت 208) وله (64) سنةً (خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

3 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ سَلَّامٍ) -بتشديد اللام- ابن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حِمْصَ، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

والباقون ذُكروا قبله، و"يحيى": هو ابن أبي كثير.

والحديث قد سبق شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الرابع عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" والمؤذّن يؤذّن لصلاة الفجر ليلة الاثنين المباركة (27/ 7/ 1427 هـ) الموافق (21 أغسطس - آب 2006 م).

أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

ص: 733

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".

ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء السابع عشر مفتتحًا بـ 7 - (كتاب الجمعة)، (1) - (بَابُ الأَمْرِ بِالغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ) رقم الحديث [1951](844).

"سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 734