الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم الثلاثاء المبارك وقت أذان صلاة الفجر 30/ 10/ 1427 هـ أول الجزء الثامن عشر من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى.
10 - (كِتَابُ الْكسُوفِ)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: "الكسوف" لغةً: التغيُّر إلى سواد، ومنه كَسَفَ وجهُهُ وحالُهُ، وكَسَفَت الشمسُ: اسودّت، وذهب شُعاعها.
قال الفيوميّ رحمه الله: كَسَفَت الشمسُ، من باب ضرب، كُسُوفاً، وكذلك القمر، قاله ابن فارس، والأزهريّ، وقال ابن الْقُوطيّة أيضاً: كَسَفَ القمرُ، والشمسُ، والوجهُ: تَغَيَّرَ، وكسَفَها الله، كَسْفاً، من باب ضرب أيضاً، يتعدى، ولا يتعدّى، والمصدر فارق، ونُقل: انكسفت الشمسُ، فبعضهم يجعله مطاوِعاً، مثل كسرته، فانكسَرَ، وعليه حديث:"انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وبعضهم يجعله غَلَطاً، ويقول: كَسَفتُها، فكَسَفَتْ هي، لا غيرُ، وقيل: الكُسُوف ذَهَاب البعض، والخسوف ذَهَاب الكلّ، وإذا عَدَّيتَ الفعلَ، نصبتَ عنه المفعول باسم الفاعل، كما تنصبه بالفعل، قال جَرير [من البسيط]:
الشَّمْسُ طَالِعَةً لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ
…
تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
في البيت تقديم وتأخيرٌ، والتقديرُ: الشمسُ في حال طُلوعها، وبكائها عليك ليست تَكسف النجومَ والقمرَ، لعدم ضوئها.
وقال أبو زيد: كَسَفت الشمسُ كُسُوفاً: اسودّت بالنهار، وكسفت الشمسُ النجومَ: غَلَبَ ضوءها على النجوم، فلم يبدُ منها شيء. انتهى.
وقال في مادة "خَسَفَ": وخَسَفَه اللهُ سبحانه وتعالى: - أي: من باب ضرب - يتعدَّى، ولا يتعدَّى، وخَسَفَ القمرُ: ذهب ضوءه، أو نقص، وهو الكسوف
أيضاً، وقال ثَعْلَبٌ: أجود الكلام: خَسَف القمرُ، وكَسَفت الشمسُ، وقال أبو حاتم في الفَرْق: إذا ذهب بعض الشمس، فهو الكُسُوف، وإذا ذهب جميعه، فهو الخُسُوفُ. انتهى.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"؟ "باب هل يقول: كَسَفَت الشمسُ، أو خَسَفَت؟ "، وقال الله تعالى:{وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} [القيامة: 8]. انتهى.
قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: أَتَى بلفظ الاستفهام إشعاراً منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء.
قال الحافظ رحمه الله: ولعله أشار إلى ما رواه ابن عُيينة، عن الزهريّ، عن عروة، قال:"لا تقولوا: كَسَفت الشمسُ، ولكن قولوا: خَسَفت"، وهذا موقوف صحيح، رواه سعيد بن منصور عنه، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه، لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه؛ لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهريّ أنه أفصح، وقيل: يتعين ذلك، وحَكَى عياض عن بعضهم عكسه، وغلّطه؛ لثبوته بالخاء في القمر في القرآن، وكأن هذا هو السرّ في استشهاد البخاريّ به في الترجمة، وقيل: يقال بهما في كل منهما، وبه جاءت الأحاديث، ولا شكّ أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف؛ لأن الكسوف التغيُّر إلى سواد، والخسوف النقصان، أو الذلّ، فإذا قيل في الشمس: كَسَفت، أو خَسَفت؛ لأنها تتغير، ويلحقها النقص، ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان.
وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، وبالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون، وبالكاف لتغيره. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخَّص مما ذُكر أن الراجح جواز إطلاق الكسوف، والخسوف لكل من الشمس، والقمر؛ لورود النصوص الكثيرة بذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
(1) - (بَابُ بَيَانِ كيْفِيّةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَمَا جَاءَ مِنَ الأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، والدُّعَاءِ، وَالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْكُسُوفِ)
[2089]
(901) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيبَةُ ثنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَأَطَالَ الْقِيَامَ جِدًّا، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ جِدًّا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَكَبِّرُوا، وَادْعُوا اللهَ، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، اِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ "، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ:"إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسِ) إمام دار الهجرة الحجة الثبت، رأس المتقنين، كبير المتثبّتين، [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199) عن (84) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
5 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه ربما دلّس [5](ت 145)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
6 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، وسبب ذلك اختلاف شيخيه، فسند قتيبة بالعنعنة، وسند أبي بكر بالتحديث إلى هشام، وفيه أيضاً بيان أن لفظ الحديث لأبي بكر، وأما قتيبة فرواه بالمعنى، فتنبّه لهذه الدقائق.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن السند الأول مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فهو بغلانيّ، وقد دخل المدينة، والثاني مسلسلٌ من هشام، والباقيان كوفيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وقد تقدّموا غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها، ذات المناقب الجمّة، فهي أمّ المؤمنين، الصدّيقة ابنة الصدّيق رضي الله عنهما، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنت حبيبه، قد أنزل الله تعالى براءتها في كتابه، وهي من المكثرين السبعة، روت من الحديث (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ) فيه دليل على جواز استعمال الخسوف في الشمس، وهي لغة ثابتة، كما تقدّم
(1)
. (فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في وقته بالمدينة، وذلك في السنة العاشرة من الهجرة، كما عليه جمهور أهل السير، في ربيع الأول، أو في رمضان، أو في ذي الحجة في عاشر الشهر، وعليه الأكثر
(2)
. (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي) فيه أنه ينبغي المبادرة بالصلاة عند الخسوف، لقولها: "فقام
…
إلخ" بالفاء التعقيبيّة، وهو مشروعيّة صلاة الكسوف جماعة، وهو مذهب الجمهور
(3)
، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
وقال في "الفتح": استُدِلّ به على أنه صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوضوء، فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال، وفيه نظرٌ؛ لأن في السياق حذفاً، ففي رواية ابن شهاب:"خسفت الشمس، فخرج إلى المسجد، فصفّ الناسُ وراءه"، وفي رواية عمرة:"فخسفت، فرجع ضُحًى، فمَرّ بين الْحُجَر، ثم قام يصلي"، وإذا ثبتت هذه الأفعال، جاز أن يكون حذف أيضًا "فتوضأ، ثم قام يصلي"، فلا يكون نصًّا في أنه كان على وضوء. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ احتمالاً قد ثبت نصًّا، ففي رواية النسائيّ (13/ 1481) من طريق أبي حفصة، عن عائشة رضي الله عنها: "لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضأ، وأمر، فنودي أن الصلاة جامعة
…
" الحديث، فدلّ على أنه توضأ، غايةُ الأمر أن الراوي اختصر في هذا الحديث ذكر الوضوء، والله تعالى أعلم.
(فَأَطَالَ الْقِيَامَ) وفي رواية أبي حفصة المذكورة أن عائشة قالت: "فحسبت قرأ البقرة"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري:"فقرأ نحواً من سورة البقرة في الركعة الأولى"، ونحوه للنسائي، ونحوه لأبي داود، من طريق
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 292.
(2)
"عون المعبود" 4/ 41.
(3)
"الإعلام" 4/ 292.
سليمان بن يسار، عن عروة، وزاد فيه:"أنه قرأ في القيام من الركعة الثانية نحواً من آل عمران".
وقولها: (جِدًّا) بكسر الجيم، منصوب على المصدر؛ أي: يجدّ جِدّاَ
(1)
، والمراد من هذا القيام قيام القراءة.
(ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا) لم يُذكر في الحديث له حدّ، قال ابن الملقن رحمه الله: ذكر أصحابنا أنه يطوّله بقدر مائة آية من البقرة، واختار غيرهم أنه لا يطوّله إلا بما لا يضرّ بمن خلفه. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ جِدًّا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ) في رواية ابن شهاب الآتية: "ثم قال: سمع الله من حمده، ربنا ولك الحمد"، واستُدِلّ به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى.
واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة، لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وان كان محمد بن مسلمة المالكيّ خالف فيه.
والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كلُّ ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعاً؛ لأنها أصل برأسه، وبهذا المعنى رَدّ الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى مغ من زيادة الركوع فيها.
وقد أشار الطحاويّ إلى أن قول أصحابه جرى على القياس في صلاة النوافل، لكن اعتُرِض بأن القياس مع وجود النص يَضْمَحِلّ، وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة، واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنصّ والقياس، بخلاف من لم يعمل به، قاله في "الفتح"، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
(1)
"شرح النووي" 6/ 200.
(2)
"الإعلام" 4/ 293.
(ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ جِدًّا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أَرَ في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه، وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما، ولم يقع في هذه الرواية ذكر تطويل الاعتدال الذي يقع فيه السجود بعده، ولا تطويل الجلوس بين السجدتين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أما تطويل الاعتدال الذي بعده السجود، فسيأتي في حديث جابر رضي الله عنه الآتي بعد باب، وتكلّم فيه النوويّ، وسيأتي الجواب عنه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ سَجَدَ) قال النوويّ رحمه الله: هذا مما يَحتجّ به من يقول: لا يطوّل السجود، وحجة الآخرين الأحاديث المصرّحة بتطويلة، ويُحْمَل هذا المطلق عليها. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ قَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: سلّم من الصلاة، وفي رواية النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن نَمِر، عن الزهريّ:"ثمّ تشهّد، ثمّ سلّم"(وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) وفي رواية ابن شهاب الآتية: "وانجلت الشمس قبل أن ينصرف"(فَخَطَبَ النَّاسَ) فيه مشروعيّة الخطبة للكسوف، قال الحافظ رحمه الله: والعجب أن مالكاً رَوَى حديث هشام هذا، وفيه التصريح بالخطبة، ولم يقل به أصحابه، قال: واستُدِلّ به على أن الانجلاء لا يُسقِط الخطبة، بخلاف ما لو انجلت قبل أن يشرع في الصلاة، فإنه يُسقط الصلاة والخطبة، فلو انجلت في أثناء الصلاة أتمّها على الهيئة المذكورة عند من قال بها، وعن أصبغ: يتمها على هيئة النوافل المعتادة. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 3/ 406.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 205.
(3)
"الفتح" 3/ 406.
(فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ) وفي حديث سمرة رضي الله عنه عند النسائيّ زيادةُ: "وشَهِد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبد الله ورسوله".
قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن الخطبة يكون أولها الحمد لله، والثناء عليه، ومذهب الشافعيّ أن لفظة "الحمد لله" متعيّنة، فلو قال معناها لم تصحّ خطبته. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: في عدم صحة الخطبة بذلك نظرٌ لا يخفى، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الجمعة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ اللهِ) وفي رواية: "آيتان من آيات الله"؛ أي: علامتان دالّتان على وحدانيّة الله تعالى، وعظيم قدرته، أو على تخويف العباد من بأس الله تعالى وسطوته، ويؤيّده قوله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبي رحمه الله؛ أي: دليلان على وجود الله عز وجل، وقهره، وكمال قدرته، وخصّهما بالذكر لما وقع للناس من أنهما يخسفان لموت عظيم، وهذا إنما صدر عمن لا علم عنده، ممن ضعف عقله، واختَلَّ فهمه، فردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم جهالتهم، وتضمّن ذلك الردّ على من قال بتأثيرات النجوم، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان، وهو أن الله تعالى يُخَوِّف بهما عباده.
[فإن قيل]: فأيُّ تخويف في ذلك، والكسوف أمر عاديّ بحسب تقابل هذه النيّرات، وحجب بعضها لبعض، وذلك يجري مجرى حجب الجسم الكثيف نور الشمس عما يقابله من الأرض، وذلك لا يحصل به تخويفٌ؟.
[قلنا]: لا نُسلّم أنّ سبب الكسوف ما ادَّعَوه، ومن أين عَرَفوا ذلك؟ بالعقل أم بالنقل؟، وكلّ واحد منهما إما بواسطة نظر، أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعةٌ، وغايتهم أن يقولوا: ذلك مبنيّ على أمور هندسيّة ورصديّة تُفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع أيضاً ما ذكروه إلى القطع
(3)
، وهو أول المسألة.
(1)
"شرح النووي" 6/ 200.
(2)
"الفتح" 3/ 402.
(3)
كذا النسخة، ولعله:"من القطع"، فليُحرّر.
ولئن سلّمنا ذلك جدلاً، لكنا نقول: يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعدّدة، أوضحها أن ذلك مذكّر بالكسوفات التي تكون بين يدي الساعة، ويُمكن أن يكون ذلك الكسوف منها، ولذلك قام صلى الله عليه وسلم فَزِعاً يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا؟ وقد قال الله عز وجل:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} [القيامة: 7 - 9]، قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما، وقيل غير ذلك.
وأيضأ فإن كلّ ما في هذا العالم علويّه وسُفليّه دليلٌ على نفوذ قدرة الله، وتمام قهره واستغنائه، وعدم مبالاته، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وخصّ هنا خسوفهما بالتخويف؛ لأنهما أمران علويّان نادران طارئان عظيمان، والنادر العظيم مخوّف موجعٌ بخلاف ما يكثر وقوعه، فإنه لا يحصل منه ذلك غالباً، وأيضًا فَلِمَا وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدهما، ولمَا وَقَعَ للجهّال من اعتقاد تأثيرهما. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(وَإِنَّهُمَا لَا يَنْخَسِفَانِ) بفتح أوله، ويجوز الضمّ، وحكى ابن الصلاح منعه
(2)
. (لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ) إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا ردًّا عليهم حيث قالوا: كَسَفَت الشمس لموت إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي في الروايات الآتية.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: والحكمة في هذا الكلام أن بعض الجاهلية الضُّلال كانوا يعظمون الشمس والقمر، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنهما آيتان مخلوقتان لله تعالى، لا صنع لهما، بل هما كسائر المخلوقات، يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما، وكان بعض الضلال من المنجِّمين وغيرهم يقول: لا ينكسفان إلا لموت عظيم، أو نحو ذلك، فبيّن أن هذا باطل لا يُغْتَرّ بأقوالهم، لا سيما وقد صادف موت إبراهيم رضي الله عنه. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": استُشكلت قوله: "ولا لحياته"؛ لأن السياق إنما ورد في حقّ من ظنّ أن ذلك لموت إبراهيم، ولم يذكروا الحياة.
(1)
"المفهم" 2/ 552 - 553.
(2)
"الفتح" 3/ 403.
(3)
"شرح النووي" 6/ 201.
والجواب أن فائدة ذكر الحياة دفع توهّم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سبباً للفقد أن لا يكون سبباً للإيجاد، فعمّم الشارع النفي؛ لدفع هذا التوهّم. انتهى
(1)
.
وتعقّبه الصنعانيّ رحمه الله، فقال: لا يخفى أن في كلام الحافظ بحثين:
الأول أن القائلين: "كَسَفت الشمس لموت إبراهيم" جعلوا الكسوف مُسبّباً عن موته، لا سبباً، كما قاله الحافظ.
الثاني: أن التوهّم بالكسوف يكون سبباً للإيجاد فيه البحث الأول؛ إذ الكلام في المسبّب لا في السبب، ثم إن كون الكسوف سبباً للإيجاد ليس بمعروف عن العرب، ولا عن غيرهم، ولا مناسبة لذلك أصلاً حتى يُتوهّم، فإنه إنما حصل توهّم أن الكسوف سببٌ عن موت عظيم من عظماء أهل الأرض؛ لأن موته تغيّرٌ في العالم السفليّ، فيناسبه تغيّر في العالم العلويّ، وأعظم آيات السماء المشاهدة الشمس والقمر، فتغيّر نورهما يناسب توهّم أنه لتغثر الأرض بموت عظيم من العظماء، فإن موته يُحدث في الأرض ظلمة معنويّة، كما قال أنس رضي الله عنه:"لما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم من المدينة كلُّ شيء"، وهو كثير في المراثي والأشعار، وحينئذ يظهر ما تخيّلوه، وتوهّموه من مناسبة الكسوف لموت عظيم من عظماء الأرض، وأما توهّم أنه يكون كسوفهما مسبّباً عن إيجاد عظيم من عظماء الأرض مثلاً، أو خلوصه من عفة يُخاف عليه منها، أو نحو ذلك، فلا مناسبة لتوهّمه أصلاً، ولا وقع هذا التوهّم لأحد، بل وجوده وعافيته مثلًا تناسب زيادة أنوارهما، وظهور إشراقهما؛ لأن إيجاد العظيم يحدث للأرض وأهلها أنواراً وسُرُوراً، ولذا أضاءت الأنوار بمولده صلى الله عليه وسلم على ما قيل في أحاديث المولد، فيناسبه زيادة أنوارهما، وإضاءة العالم، كما قيل [من البسيط]:
ثَلَاثَةٌ تُشْرِقُ الدُّنْيَا بِبَهْجَتِهَا
…
شَمْسُ الضُّحَى وَأَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَمَرُ
فجَعَل مَن تُشرق الدنيا بوجوده ودولته ثالث النيّرين، ولا يُعرف عن ذي عقل جعل إيجاد عظيم من عظماء الأرض سبباً لكسوف أحد النيّرين.
(1)
"الفتح" 3/ 403.
إذا عرفت هذا عرفت ضعف ما ذكره في "الفتح" أو بطلانه.
ثم أبدى الصنعانيّ رحمه الله ما ظهر له في نكتة زيادة "ولا لحياته" إلى "لموت أحد"، فقال: أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم الاستدلال عليهم في ردّ ما زعموه من أن الكسوف سبب عن موت إبراهيم؛ أي: كما أنها لا تكسف لحياة أحد، ولا يقولونه، ولا يتوهّمونه كذلك لا تنكسف لموته، فكما أنه لا مناسبة عقليّة ولا عاديّة، ولا تخييليّة بين الكسوف والحياة كذلك لا يكسفان لموت أحد كما يتخيّلونه من المناسبة في ذلك، فكما أن هذا باطلٌ بإقراركم فكذلك هنا.
وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم ساق ما لم يدّعوه في نفيه مساق ما ادّعوه لكونه سبباً في الحكم في النفي، ونظيره ما ذكره أئمة التفسير في قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، فإنه تعالى نفى الاستقدام؛ أي: طلب التقدّم مع أنه معلوم عقلاً إحالته، وأنه لا يُتصوّر طلبه، وضمّه إلى نفي التأخّر الممكن عقلاً؛ إعلاماً بأنه قد صار الممكن كالمحال لبيان حاله.
وحاصله أنه قد يُضمّ الممكن إلى المحال لبيان إحالة الممكن، ويُضمّ الواقع إلى غير الواقع؛ لبيان عدم وقوعه، كذلك هنا ضمّ ما لم يقولوه، ولا تخيّلوه في النفي إلى ما قالوه وتخيّلوه؛ لبيان أنهما سواء في الحكم المنفيّ، أحدهما لعدم ادّعائهم له وتخيّلهم، والثاني لنفي الشارع؛ أي: كما أنكم لا تدّعون هذا، فلا تدّعوا هذا. انتهى كلام الصنعانيّ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
، وهو تحقيقٌ مفيدٌ.
(فَإذَا رَأَيْتُمُوهُمَا) أي: رأيتم الشمس والقمر مكسوفين؛ أي: إذا رأيتم كسوف أَيِّ منهما، قيل: لا يقع كسوفهما معاً.
وقال في "الفتح": والمعنى: إذا رأيتم كسوف كلّ منهما؛ لاستحالة وقوع ذلك فيهما معاً في حالة واحدة عادةً، وان كان ذلك جائزاً في القدرة الإلهيّة. انتهى
(2)
.
(1)
"العدة حاشية العمدة" 3/ 201 - 203.
(2)
"الفتح" 3/ 402.
(فَكَبَّرُوا، وَادْعُوا اللهَ، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا) فيه الحثّ على هذه الطاعات، وهوأمر استحباب، قاله النوويّ رحمه الله.
واستدلّ به على مشروعيّة الصلاة في خسوف القمر، وسيأتي الكلام عليه قريباً.
(يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ) فيه معنى الإشفاق، كما يخاطب الوالد ولده إذا أشفق عليه بقوله: يا بُنيّ، كذا قيل، وكان قضيّة ذلك أن يقول: يا أمتي، لكن لعدوله عن المضمر إلى المظهر حكمة، وكأنها بسبب كون المقام مقام تحذير وتخويف، لما في الإضافة إلى الضمير من الإشعار بالتكريم، ومثله: "يا فاطمة بنت محمد، لا أُغني عنك من الله شيئاً
…
" الحديث.
وفي رواية البخاريّ: "والله يا أمة محمد"، بتقديم اليمين تأكيداً وتعظيماً لشأن الخبر.
(إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ)"إن" نافية تعمل عمل "ليس"، "أحدٌ" اسمها، و "من" زائدة، و"أغيرَ" بالنصب على أنه خبرُها، أو هو مجرور صفة لـ "أحد"، وجرّه بالفتحة؛ لكونه غير منصرف، والخبر محذوف؛ أي: موجود، وفي رواية البخاريّ:"ما من أحد"، فـ "ما" حجازيّة إعرابها كإعراب "إن" المذكور، ويجوز كون "ما" تميميّة، كقوله:
وَمُهَفْهَفِ الأَعْطَافِ قُلْتُ لَهُ انْتَسِبْ
…
فَأَجَابَ مَا قَتْلُ الْمُحِبِّ حَرَامُ
و"أحد" مبتدأ، و"أغير" خبره.
و"أغير" أفعل تفضيل، من الغَيْرَة - بفتح الغين المعجمة - وهي في اللغة: تغيّر يحصل من الْحَمِيّة والأَنَفَة، وأصلها في الزوجين، والأَهْلِين، وكلّ ذلك محالٌ على الله تعالى؛ لأنه منزّه عن كلّ تغيّر ونقص، فتعيّن حمله على المجاز، فقيل: لما كانت ثمرة المغيرة صونَ الحريم، ومنعهم، وزجر من يقصد إليهم، أطلق عليه ذلك، لكونه مَنَع من فعل ذلك، وزجر فاعله وتوعّده، فهو من باب تسمية الشيء بما يترتّب عليه. وقال ابن فُورك: المعنى: ما أحد أكثر زجراً عن الفواحش من الله، وقال: غيرة الله ما يُغيّر من حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة، أو في أحدهما، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين: إما ساكت، وإما مؤوّل على أن المراد بالغيرة شدّة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ادَّعَوُا المجاز هنا، والصواب أنه لا مجاز هنا، ولا محال
(1)
، فإن الله سبحانه وتعالى له المغيرة على المعنى اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يلزم المحال إذا قلنا: له غيرة كغيرة خلقه، وأما إذا قلنا: غيرة تليق بجلاله، وعظمته، لا تشبه غيرة خلقه، ولا نعلم كنهها، وكيفيتها، فهذا حقّ، وهو مذهب السلف الصالح، كسائر صفاته، من النزول، والاستواء، والرضا، والغضب، والمحبة، والتعجّب، ونحوها، مما ورد في النصوص الصحيحة، فكلها ثابتة له على ظاهرها، وإنما المجهول لنا كيفيتها، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: "فاذكروا الله
…
إلخ " من جهة أنهم لما امروا باستدفاع البلاء بالذكر، والدعاء، والصلاة، والصدقة، ناسبَ رَدْعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخصّ منها الزنا؛ لأنه أعظم في ذلك، وقيل: لَمّا كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي، وأشدّها تأثيراً في إثارة النفوس، وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب المغيرة، وخالقها سبحانه وتعالى. انتهى.
(أنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ)"أن" مصدريّة، والجملة في تأويل المصدر، مجرور بحرف جرّ مقدّر؛ أي: لزنا عبده، أو زنا أمته، قال
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في ردّ الشبهة التي أثاروها في مسألة المغيرة، قال: وقول القائل: إن هذه -يعني: المغيرة - انفعالات نفسانيّة، فيقال: كلّ ما سوى الله مخلوق منفعل، ونحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها لا يوجب أن يكون الله منفعلاً لها عاجزاً عن دفعها، وكان كل ما يجري في الوجود، فإنه بمشيئته وقدرته، لا يكون إلا ما يشاء، ولا يشاء إلا ما يكون، له الملك، وله الحمد. انتهى. "مجموع الفتاوى" 6/ 120.
الحافظ رحمه الله: ولعلّ تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى؛ لتنزهه عن الزوجة، والأهل ممن يتعلّق بهم المغيرة غالباً. انتهى.
(يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ) صدّر صلى الله عليه وسلم كلامه باليمين؛ لإرادة التأكيد للخبر، وإن كان لا يُرتاب في صدقه (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ) أي: من عظيم قدرة الله، وانتقامه من أهل الإجرام، وقيل: معناه لو دام علمكم كما دام علمي؛ لأنه متواصل بخلاف غيره، وقيل: معناه لو علمتم من سعة رحمة الله، وحلمه، وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك.
وقال القرطبي رحمه الله: يعني: ما يعلم هو من أمور الآخرة، وشدّة أهوالها، ومما أُعدّ في النار من عذابها وأنكالها، ومما أُعدّ في الجنّة، من نعيمها وثوابها، فإنه صلى الله عليه وسلم قد كان رأى كلّ ذلك مشاهدةً وتحقيقاً، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، قليل الضحك، جلُّهُ التبسّم. انتهى
(1)
.
(لَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً) قال الباجيّ رحمه الله: يريد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد خضه بعلم لا يعلمه غيره، ولعله ما رآه في مقامه من النار، وشناعة منظرها.
وقال النوويّ رحمه الله: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم، وشدّة عقابه، وأهوال القيامة، وما بعدها كما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره، لبكيتم كثيراً، ولقلّ ضحككم لفكركم فيما علمتموه.
ولا يخفى أنهم علموا بواسطة خبره إجمالاً، فالمراد التفصيل، كعلمه صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: لو تعلمون ما أعلم كما أعلم، والله تعالى أعلم، قاله السنديّ رحمه الله.
وقال في "الإعلام": وقيل: معناه: لو دام علمكم كما يدوم علمي به لبكيتم؛ لأن علوم الأنبياء متواصلة لا يلحقها سهو، وعلومنا يدخل عليها الغفلات والجهالات بالانهماك في الشهوات، فتركن النفوس إلى البطالة حتى تصدأ، فلا يصقلها إلا الذكر.
(1)
"المفهم" 2/ 557.
وقال ابن بزيزة: يَحْتَمِل أن يكون المعنى: إنكم لو علمتم من رحمة الله تعالى وحلمه وعفوه عن ذنوب خلقه، ومعاني كرمه ما أعلم لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً، فبكاؤكم إذ لم تفهموا من ذلك ما فهمت، ولم تعلموا منه ما علمت، وينشأ هذا عن مطالعة جمال الله تعالى، ونعوت أفضاله، ومشاهدة النعم الواسعة التي لا تقصر عن شيء. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله: قيل: معنى القلّة هنا العدم، والتقدير: لتركتم الضحك، ولم يقع منكم إلا نادراً؛ لغلبة الخوف، واستيلاء الحزن.
وحَكَى ابن بطال عن المهلَّب أن سبب ذلك ما كان عليه الأنصار من محبة اللهو والغناء، وأطال في تقرير ذلك بما لا طائل فيه، ولا دليل عليه، ومن أين له أن المخاطَب بذلك الأنصار دون غيرهم؟ والقصة كانت في أواخر زمنه صلى الله عليه وسلم حيث امتلأت المدينة بأهل مكة، ووفود العرب، وقد بالغ الزين ابن الْمُنير في الردّ عليه، والتشنيع بما يُستَغنَى عن حكايته. انتهى
(2)
.
[فائدة]: قال الحافظ ابن منده رحمه الله في "مستخرجه": قوله: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً" رواه مع عائشة عشرة من الصحابة رضي الله عنهم. انتهى
(3)
.
(ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ ") قال النوويّ رحمه الله: معناه ما أمرت به من التحذير والإنذار، وغير ذلك، مما أرسل به، والمراد تحريضهم على تحفّظه، واعتنائهم به؛ لأنه مأمور بإنذارهم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: "ألا" أداة استفتاح وتنبيه، و"هل" يَحْتَمل أن تكون "هل" هنا بمعنى "قد"، كما قيل في قوله تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1].
وَيحْتَمِل أن تكون للاستفهام التقريريّ، أو هي للاستفهام الحقيقيّ، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم سألهم هل بلّغهم ما أُمر به، أم لا؟.
والاحتمال الأول هو الأولى؛ لأنه يقوّيه قوله في رواية أبي معاوية
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 307 - 308.
(2)
"الفتح" 3/ 408.
(3)
"الإعلام" 4/ 308.
التالية: "اللهم هل بلّغت؟ "، فإن الاستفهام فيه بعيد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفي رِوَايَةِ مَالِكٍ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ") يعني: أن في روايته زيادة لفظة "آيتان"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2089 و 2090 و 2091 و 2092 و 2093 و 2096 و 2097](901)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1044 و 1046 و 1047 و 1050 و 1056 و 1058 و 1064 و 1065 و 1066) و"العمل في الصلاة"(1212) و"بدء الخلق"(3203) و"التفسير"(4624)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1180)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(3/ 132)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1263)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1387)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2842)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2446 و 2447 و 2448 و 2449 و 2450)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2027 و 2028 و 2029 و 2031 و 2030)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 321)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1146)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ثبوت الكسوف للشمس والقمر.
2 -
(ومنها): كون الشمس والقمر آيتين دالتين على عظيم قدرة الله تعالى.
3 -
(ومنها): أن تغيّرهما بالانكساف ليس لموت أحد من العظماء، كما هو زعم الجاهلية، بل بتقدير الله تعالى، وحكمته البالغة.
4 -
(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى إنما يغير بعض مخلوقاته تخويفاً لعباده، حتى يرتدعوا عن معاصيهم، ويتوبوا إليه، كما قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
5 -
(ومنها): المبادرة بالصلاة، وسائر ما ذُكر عند الكسوف.
6 -
(ومنها): أن لصلاة الكسوف هيئة تخصّها، من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره، ومن زيادة ركوع في كلّ ركعة.
7 -
(ومنها): اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بنقل أفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم، ليُقتَدَى به فيها.
8 -
(ومنها): الزجر عن كثرة الضحك، والحثُّ على كثرة البكاء، والتحقق بما سيصير إليه المرء من الموت، والفناء، والاعتبار بآيات الله سبحانه وتعالى.
قال في "الإعلام": ولا شكّ أن كثرة الضحك، وقلّة البكاء مذمومان شرعًا، فإنهما يدلّان على قسوة القلب، وكثرة البطر.
ومن الضحك ما هو محمود، وهو ما إذا اقترن به مقصود شرعيّ، من تعجّب بنعم الله تعالى، أو فرح للمسلمين، أو تجلّد على الكافرين والمنافقين، ونحو ذلك.
ومن البكاء ما هو مذموم؛ كالبكاء لإظهار الجزع، أو للرياء، أو لإضعاف المسلمين، أو تحزّناً على المنافقين، أو ما شاكل ذلك، فأما ما كان منه من خشية الله تعالى والخوف منه، فهو شعار عباده المؤمنين، وهو جلاء للقلوب، وتطهير للذنوب، وتقريب من علام الغيوب، وقد يغلب على الفاجر البكاء، كما ورد في بعض الأحاديث مرفوعاً وموقوفًا:"إذا كمل فجور العبد ملك عينيه، فإذا أراد أن يبكي بكى"
(1)
.
9 -
(ومنها): ترجيح التخويف في الخطبة على التوسّع في الترخيص؛ لما في ذكر الرُّخَص من ملاءمة النفوس لما جُبلت عليه من الشهوة، والطبيبُ الحاذق يقابل العلّة بما يُضادّها، لا بما يزيدها، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال في "الإعلام": قوله: "لو تعلمون
…
إلخ " فيه دليلٌ على علّة مقتضى الخوف، وترجيح الخوف في الموعظة على الإشاعة بالرخص؛ لما في ذلك من التسبّب إلى تسامح النفوس لما جُبِلت عليه، من الإخلاد إلى
(1)
حديث منكر، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 4/ 135.
(2)
"الفتح" 3/ 408.
الشهوات، وذلك مرضها الخطر، والطبيب الحاذق يقابل العلّة بضدّها، لا بما يزيدها، فإن العلل الْمُزْمِنة إن لمْ يبادر إليها بقطع مادّة الداء بالدواء النافع القاطع لها، وإلا استحكمت العلّة. انتهى
(1)
. وقد يقع البكاء على أمر نفسانيّ، فيوهم أنه من خشية الله تعالى، فليُتفَطَّن لذلك؛ ليُقْطَع، ويُجتَنَب
(2)
.
10 -
(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "يا أمة محمد" أن الواعظ ينبغي له حالَ وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم لنفسه، بل يبالغ في التواضع؛ لأنه أقرب إلى انتفاع من يسمعه.
11 -
(ومنها): أن فيه الردَّ على من زعم أن للكواكب تأثيراً في الأرض؛ لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر، فكيف بما دونهما.
12 -
(ومنها): أن من حكمة وقوع الكسوف تبيينَ أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب من لم يُذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء؛ لوقوع الكسوف بالكوكب، ثم كشف ذلك عنه، ليكون المؤمن من ربّه على خوف ورجاء.
13 -
(ومنها): أن فيه إشارة إلى تقبيح رأي من يعبد الشمس، أو القمر.
14 -
(ومنها): أن بعضهم حَمَل الأمر في قوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] على صلاة الكسوف؛ لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتهما؛ لما يظهر فيهما من التغير والنقص المنزّه عنه المعبود سبحانه وتعالى، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمل الأمر في الآية المذكورة على صلاة الكسوف غير واضح، فتامله.
15 -
(ومنها): استحباب الصدقة عند رؤية الكسوف، وكذلك يستححت عند كل المخاوف؛ لاستدفاع البلاء والمحاذر
(3)
.
16 -
(ومنها): استحباب الدعاء والتوجّه إلى الله تعالى، واللجوء إليه عند
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 308.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 309.
(3)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 303.
المخاوف والشدائد، وقد أمر الله تعالى بالدعاء في كتابه في غير موضع، كما أمر بالصلاة وغيرها من العبادات، فقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وغير ذلك من الآيات.
ولا شكّ أن الدعاء في الرجاء مطلوبٌ؛ لكونه سبباً لدفع البلاء والشدائد، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم:"تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة" رواه أحمد، والترمذيّ
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "من سرّه أن يستجيب الله له دعاءه عند الشدائد والكرب، فليُكثر من الدعاء في الرخاء"، رواه الترمذيّ
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صلاة الكسوف:
قال النوويّ رحمه الله: (واعلم) أن صلاة الكسوف رُويت على أوجه كثيرة، ذكر مسلم منها جملة، وأبو داود أخرى، وغيرهما أخرى، وأجمع العلماء على أنها سنة، ومذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وجمهور العلماء أنه يُسنّ فعلها جماعة، وقال العراقيون: فرادى، وحجة الجمهور الأحاديث الصحيحة في مسلم وغيره.
واختلفوا في صفتها، فالمشهور في مذهب الشافعي أنها ركعتان في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، وأما السجود فسجدتان كغيرهما، وسواء تمادى الكسوف، أم لا، وبهذا قال مالك، والليث، وأحمد، وأبو ثور، وجمهور علماء الحجاز، وغيرهم.
وقال الكوفيون: هما ركعتان كسائر النوافل؛ عملاً بظاهر حديث جابر بن سمرة، وأبي بكرة رضي الله عنهم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين.
وحجة الجمهور حديث عائشة، من رواية عروة، وعمرة، وحديث جابر،
(1)
أخرجه أحمد، والترمذيّ، وهو حديث حسن.
(2)
حديث حسنٌ.
وابن عباس، وابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، وسجدتان.
قال ابن عبد البرّ: وهذا أصح ما في هذا الباب، قال: وباقي الروايات المخالفة معللة ضعيفة.
وحملوا حديث ابن سمرة بأنه مطلقٌ، وهذه الأحاديث تُبيّن المراد به.
وذكر مسلم في رواية عن عائشة، وعن ابن عباس، وعن جابر ركعتين، في كل ركعة ثلاث ركعات، ومن رواية ابن عباس، وعليّ ركعتين في كل ركعة أربع ركعات، قال الحفّاظ: الروايات الأُوَل أصحّ، ورواتها أحفظ وأضبط.
وفي رواية لأبي داود من رواية أُبيّ بن كعب ركعتين في كلّ ركعة خمس ركعات، وقد قال بكل نوع بعض الصحابة.
وقال جماعة من أصحابنا الفقهاء المحدثين، وجماعة من غيرهم: هذا الاختلاف في الروايات بحسب اختلاف حال الكسوف، ففي بعض الأوقات تأخر انجلاء الكسوف، فزاد عدد الركوع، وفي بعضها أسرع الانجلاء، فاقتصر، وفي بعضها توسط بين الإسراع والتأخر، فتوسط في عدده.
واعترض الأولون على هذا بأن تأخر الانجلاء لا يُعلَم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدلّ على أنه مقصود في نفسه منويّ من أول الحال.
وقال جماعة من العلماء، منهم إسحاق ابن راهويه، وابن جرير، وابن المنذر: جرت صلاة الكسوف في أوقات، واختلافُ صفاتها محمول على بيان جواز جميع ذلك، فتجوز صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة، وهذا قويّ، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" عند شرح حديث عائشة رضي الله عنها هذا: واستُدِلّ به على أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره، ومن زيادة ركوع في كل ركعة.
وقد وافق عائشةَ على رواية ذلك عبدُ الله بن عباس، وعبدُ الله بن عمرو،
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 198 - 199.
متفق عليهما، ومثله عن أسماء بنت أبي بكر، وعن جابر عند مسلم، وعن عليّ عند أحمد، وعن أبي هريرة عند النسائي، وعن ابن عمر عند البزار، وعن أم سفيان عند الطبراني، وفي رواياتهم زيادة، رواها الحفّاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها، وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا.
وقد وردت الزيادات في ذلك من طرق أخرى، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس أن في كل ركعة أربع ركوعات، ولأبي داود من حديث أُبيّ بن كعب، والبزار من حديث عليّ أن في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها عن علة، وقد أوضح ذلك البيهقيّ، وابن عبد البرّ.
ونقل صاحب "الهدي" عن الشافعيّ، وأحمد، والبخاريّ أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطاً من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن ردّ بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم رضي الله عنه، وإذا اتحدت القصة تعيّن الأخذ بالراجح.
وجمع بعضهم بين الأحاديث بتعدد الواقعة، وأن الكسوف وقع مراراً، فيكون كلّ من هذه الأوجه جائزاً، وإلى ذلك نحا إسحاق، لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات.
وقال ابن خزيمة، وابن المنذر، والخطابيّ، وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك، وهو من الاختلاف المباح، وقوّاه النوويّ في شرح مسلم.
وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع، والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعاً، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثاً، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك.
وتعقبه النووي وغيره بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يُعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدلّ على أنه مقصود في نفسه مَنْويّ من أول الحال.
وأجيب باحتمال أن يكون الاعتماد على الركعة الأولى، وأما الثانية،
فهي تبع لها، فمهما اتفق وقوعه في الأولى بسبب بطء الانجلاء يقع مثله في الثانية ليساوي بينهما، ومن ثَمَّ قال أصبغ: إذا وقع الانجلاء في أثنائها يصلي الثانية كالعادة.
وعلى هذا فيدخل المصلي فيها على نية مطلق الصلاة، ويزيد في الركوع بحسب الكسوف، ولا مانع من ذلك.
وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس، هل انجلت، أم لا؟ فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه، ففعل ذلك مرة، أو مراراً، فظنّ بعض من رآه يفعل ذلك ركوعاً زائداً.
وتُعُقّب بالأحاديث الصحيحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل، ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال، ثم شرع في القراءة، فكلّ ذلك يردّ هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة، لا عَهدَ بها، وهو ما فرّ منه. انتهى
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "منهاج السنة": حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر في مسلم من المواضع المنتقدة بلا ريب. انتهى. وقال في "التوسّل والوسيلة": لا يبلغ تصحيح مسلم تصحيح البخارفي، بل كتاب البخاريّ أجلّ ما صُنّف في هذا الباب، والبخاريّ من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، قال: ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاريّ مما صحّحه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم، فإنه نوزع في عدّة أحاديث، مما خَرَّجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات، وبأربع ركوعات، كما روى أنه صلى بركوعين، والصواب أنه لم يصلّ إلا بركوعين، وأنه لم يصلّ الكسوف إلا مرّةً واحدةً يوم مات إبراهيم رضي الله عنه، وقد بيّن ذلك الشافعيّ، وهو قول البخاريّ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث، والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم،
(1)
"الفتح" 3/ 408 - 409.
ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف، ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر، فقد كذب. انتهى كلام ابن تيميّة رحمه الله
(1)
.
وقال الشوكانيّ رحمه الله في "السيل الجرّار": "إذا تقرّر لك أن القضة واحدة عرفت أنه لا يصحّ ها هنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف: إنه يأخذ بأيّ الصفات شاء، بل الذي ينبغي ها هنا أن يأخذ بأصحّ ما ورد، وهو ركوعان في كلّ ركعة؛ لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلّف البالغ". انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان أقوال أهل العلم، وأدلتهم أن ما ذهب إليه الجمهور من أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، هو الراجح؛ لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بذلك، والأحاديث التي تدلّ على خلاف ذلك كلّها منتقدة، لا تصلح لمعارضة هذه الأحاديث الصحيحة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في صلاة الكسوف في أوقات الكراهة على أقوال:
[الأول]: لا صلاة فيها، بل يذكرون الله، ويدعون، هذا مذهب الحسن البصري، والزهريّ، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة بن خالد، وعمرو بن شعيب، وابن أبي مُليكة، وإسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وقتادة، وأبي بكر بن عمرو بن حزم، وقال مالك: لا يُصَلِّي إلا في حين صلاة، وقال الثوري: لا يُصلى في الكسوف في غير وقت صلاة، وقال يعقوب: إذا انكسفت الشمس بعد العصر، فليس بساعة صلاة التطوع، ولكن الدعاء، والتضرع حتى تنجلي.
[والثاني]: متى انكسفت الشمس، نصفَ النهار، أو بعد العصر، أو قبل ذلك صلى الإمام بالناس صلاة الكسوف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة
(1)
راجع: "المرعاة على المشكاة" 4/ 128.
لكسوف الشمس، فلا وقت يحرم فيه صلاة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الشافعي ومن تبعه، وبه قال أبو ثور.
[والثالث]: إن انكسفت الشمس بعد العصر، فإنهم يُصلون كذلك ما لم تَدْنُ للغروب، وكذلك بعد الفجر ما لم يطلع حاجب الشمس إلى أن يكون قيد رمح، أو رمحين؛ لأنهما وقتان تُصلى فيهما الفوائت، والمكتوبات، وهذا قول إسحاق ابن راهويه.
[والرابع]: يصلى للكسوف إلا في الأوقات الثلاثة التي نهي عن الصلاة فيها، وهي وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ووقت الزوال. وبه قال ابن المنذر.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله، ومن تبعه أنها تصلى وقت ما حصل الانكساف من ليل أو نهار هو الأرجح؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا رأيتموهما فصلوا"، فقد أمر بالصلاة في أيّ وقت رأينا الانكساف، ولم يخص وقتاً دون وقت، وقد سبق في أبواب الأوقات ترجيح القول بأن ذوات الأسباب تجوز في أوقات الكراهة.
ويُرَجَّح هذا أيضًا - كما قال في "الفتح" -: بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء، وقد اتفقوا على أنها لا تُقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله، فيفوت المقصود.
قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من الطرق مع كثرتها على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها إلَّا ضُحًى، لكن ذلك وقع اتفاقاً، ولا يدلّ على منع ما عداه، واتفقت الطرق على أنه بادر إليها. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في صلاة الكسوف للقمر: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في الصلاة عند كسوف القمر، فرأت طائفة أن يُصَلَّى عند كسوف القمر، رَوَينا ذلك عن ابن عباس أنه فعل ذلك، وبه قال عطاء، والحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
قال ابن المنذر: والأخبار دالّة على هذا القول؛ لأنه سُوِّي بينهما، وأُمِر بالصلاة عند كسوفهما، بُيِّنَ ذلك في الأخبار الثابتة عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
ثم استدلّ بحديث أبي مسعود رضي الله عنه الآتي مرفوعاً: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل، فإذا رأيتموهما، فصلّوا"، متّفقٌ عليه، وبحديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجه النسائيّ، وابن خزيمة في "صحيحه"، وفي سنده ضعف، وفيه: "فإذا رأيتم ذلك، فاحمدوا الله، وكبروا، وسبّحوا، وصلوا حتى ينجلي أيهما انكسف
…
".
قال: وفي هذا من البيان ما لا يُشكل على من سمعه أن يصلى لكسوف القمر.
قال: والذي ذكرته قول جلّ أهل العلم، غير مالك، فإن ابن نافع حَكَى عنه أنه قال: ليس لكسوف القمر صلاة معروفة محدودة، ولا أرى بأساً أن يصلي القوم فُرادى، كل رجل منهم لنفسه ركعتين ركعتين، مثل صلاة النافلة.
وحَكَى ابن القاسم عنه أنه قال: وليس في صلاة خسوف القمر سنة، ولا صلاة كصلاة كسوف الشمس.
قال ابن المنذر: وهذه غفلة منه، والسنة دالّة على القول الأول. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله ببعض تصرف
(1)
.
ظ ل الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجحه ابن المنذر رحمه الله من استحباب الصلاة لخسوف القمر هو الراجح عندي؛ لظهور أدلته، فقد أورد مسلم في هذا الباب حديث عائشة، وجابر، وأبي مسعود، وابن عبّاس، وأبي موسى الأشعريّ، وعبد الله بن عمر، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم وكلّها فيها الأمر بالصلاة، والدعاء.
وأخرج ابن حبّان في "صحيحه" من حديث أبي بكرة رضي الله عنه بلفظ: "فإذا رأيتم شيئاً من ذلك
…
"، وعنده من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "فإذا انكسف أحدهما، فافزعوا إلى المساجد".
(1)
"الأوسط" 5/ 310 - 312.
والحاصل أن هذه النصوص صريحة في استحباب الصلاة جماعة في خسوف القمر، كما يستحبّ ذلك في كسوف الشمس، في ذهب إليه الجمهور هو الحق، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في استحباب الخطبة للكسوف:
قال في "الفتح": اختُلف في الخطبة فيه، فاستحبّها الشافعيّ، وإسحاق، وأكثر أصحاب الحديث، قال ابن قدامة: لَمْ يبلغنا عن أحمد ذلك، وقال صاحب "الهداية" من الحنفيّة: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لَمْ يُنقل.
وتُعُقّب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهي ذات كثرة، والمشهور عند المالكيّة أن لا خطبة لها، مع أن مالكًا رَوَى الحديث، وفيه ذكر الخطبة. وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يقصد لها خطبةً بخصوصها، وإنما أراد أن يبيّن لهم الردّ على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس.
وتعقّب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها
(1)
من الحمد، والثناء، والموعظة، وغير ذلك، مما تضمّنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلَّا بدليل.
وقد استضعف ابن دقيق العيد التأويل المذكور، وقال: إن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معيّن، بعد الإتيان بما هو المطلوب منها، من الحمد، والثناء، والموعظة، وجميعُ ما ذكر من سبب الكسوف، وغيره هو مقاصد خطبة الكسوف، فينبغي التأسي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف.
نعم نازع ابن قدامة في كون خطبة الكسوف كخطبتي الجمعة والعيدين؛ إذ ليس في الأحاديث المذكورة ما يقتضي ذلك، وإلى ذلك نحا ابن المنيّر في
(1)
في كون هذه الأشياء شرطًا في صحّة الخطبة نظر لا يخفي، وإن قال به الشافعيِّ، والراجح أنَّها من مستحبّات الخطبة، كما سبق بيان ذلك مستوفى في، كتاب الجمعة"، فتبصّر.
"حاشيته"، وردّ على من أنكر أصل الخطبة؛ لثبوت ذلك صريحًا في الأحاديث، وذكر أن بعض أصحابهم احتجّ على ترك الخطبة بأنه لَمْ يُنقل في الحديث أنه صعد المنبر، ثم زيّفه بأن المنبر ليس شرطًا، ثم لا يلزم من أنه لَمْ يُذكر أنه لَمْ يقع. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن قدامة، ونحا إليه ابن المنيّر -رحمهما الله تعالى - هو الصواب عندي، فيستحبّ للإمام أن يخطب خطبة واحدة، كما خطب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما كونها خطبتين كالجمعة والعيدين فليس عليه دليل، فلا ينبغي أن يفعله، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2090]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَي، أَخْبَرَنَا أبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ آيَاتِ اللهِ"
(3)
، وَزَادَ أَيْضًا: ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ تقدّم قبل بابين.
2 -
(أبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم، تقدّم في الباب الماضي.
و"هشام" ذُكر قبله.
وقوله: (وَزَادَ) الفاعل ضمير أبي معاوية.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن هشام هذه لَمْ أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 3/ 232 - 233.
(2)
وفي نسخة: "وحدثنا".
(3)
"فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2091]
(
…
) - (حَدَّثَنِي
(1)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ع) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ، وَكَبَّرَ
(2)
، وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، ثُمَّ قَامَ، فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كبَّرَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، هُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ"، ثُمَّ سَجَدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الطَّاهِرِ: ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَتَانِ اللهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأَيْتُمُوهَا
(3)
، فَافْزَعُوا لِلصَّلَاةِ"، وَقَالَ أَيْضًا: "فَصَلُّوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللهُ عَنْكُمْ"
(4)
، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ، حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أُقَدِّمُ"، وقَالَ الْمُرَادِيُّ: "أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ
(5)
، وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ"، وَانْتَهَى حَدِيثُ أَبِي الطَّاهِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ: "فَافْزَعُوا لِلصَّلَاةِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).
(1)
وفي نسخة: "وحدَّثني".
(2)
وفي نسخة: "فكبّر".
(3)
وفي نسخة: "فإذا رأيتموهما".
(4)
وفي نسخة: "حتى يُفَرَّجَ عنكم".
(5)
وفي نسخة: "عمرو بن لُحَيّ".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح، تقدّم قبل باب.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) الْجَمليّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 248)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم قبل باب.
5 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 1159) ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
6 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ ثبت حجةٌ حافظٌ إمام، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (خَسَفَتِ الشَّمْسُ) تقدّم أن الصواب جواز إطلاق الخسوف بالخاء، والكسوف بالكاف على الشمس والقمر كليهما.
وقولها: (فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ) فيه أن السنّة في صلاة الكسوف أن تصلى في المسجد، لا في الصحراء كالاستسقاء.
وقولها: (وَصَفَّ النَّاسُ وَرَاءَهُ) ببناء الفعل للفاعل، و"الناسُ" مرفوع على الفاعليّة، ويَحْتَمل أن يكون فاعل "صفّ" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، و"الناسَ" منصوب على المفعوليّة؛ لأن "صفّ" مما يلزم ويتعدّي، يقال: صففتُ القومَ، فصفّوا هم، قاله في "المصباح"
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: فيه إثبات صلاة الكسوف، وفيه استحباب فعلها في المسجد الذي تُصَلَّى فيه الجمعة، قال أصحابنا: وإنما لَمْ يخرج إلى المصلَّى؛ لخوف فواتها بالانجلاء، فالسنة المبادرة بها، وفيه استحبابها جماعةً، وتجوز
(1)
"المصباح المنير" 1/ 343.
فُرادي، وتُشْرَع للمرأة، والعبد، والمسافر، وسائر من تصح صلاته. انتهى
(1)
.
وقولها: (فَاقْتَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مبالغة في قرأ.
وقولها: (قراءةً طَوِيلةً) في رواية النسائيّ: "قالت عائشة: فحسبت قرأ سورة البقرة".
وقولها: (فَقَالَ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ") قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على استحباب الجمع بين هذين اللفظين، وهو مذهب الشافعيّ ومن وافقه، وسبقت المسألة في صفة سائر الصلاة، وهو مستحبّ عندنا للإمام والمأموم والمنفرد، يستحب لكل أحد الجمع بينهما، وفي هذا الحديث دليل على استحباب الجمع بينهما في كلّ رفع من الركوع في الكسوف، سواء الركوع الأول والثاني. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن المذهب الصحيح أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد؛ لهذا الحديث الصريح فيه، ومثله المنفرد، وأما المأموم فإنه يحمد، ولا يُسمّع؛ لعدم دليل صريح في ذلك، وقد تقدّم تحقيق البحث في هذا مستوفًى في محلّه، ولله الحمد.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الطَّاهِرِ: ثُمَّ سَجَدَ) أراد بيان اختلاف شيوخه، فأبو الطاهر لَمْ يذكر في روايته قوله:"ثم سجد"، وإنما قال بعد قوله:"ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد": "ثم فعل في الركعة الأخرى
…
الخ".
وقولها: (حَتَى اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) المراد بالركعات هنا الركوع، لا الركعة المعهودة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما صلى في الكسوف إلَّا ركعتين.
وقوله: (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا) أي: الآية، وفى نسخة:"فإذا رأيتموهما"؛ أي: رأيتم خسوف كلّ منهما.
وقوله: (فَافْزَعُوا لِلصَّلَاةِ) معناه: بادروا بالصلاة، وأسرعوا إليها حتى يزول عنكم هذا العارض الذي يُخاف كونه مقدّمة عذاب.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: في قوله: "فافزعوا" إشارة إلى المبادرة إلى ما
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 202.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 202.
أَمَر به، وتنبيهٌ على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار، وإشارة إلى أن الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة أيضًا، وأن الاستغفار والتوبة سببان للمحو، يُرجَى بهما زوال المخاوف. انتهى
(1)
.
وقوله: (حَتَّى يُفَرِّجَ اللهُ عَنْكُمْ) وفي نسخة: "حتى يُفرج عنكم"، فيكون بالبناء للمفعول، من التفريج، وَيحْتَمِلُ أن يكون من الفَرْجِ ثلاثيًّا، يقال: فَرَّجَ الله الغمّ بالتشديد: كَشَفَه، والاسم الْفَرَج بفتحتين، وفَرَجَهُ فَرْجًا، من باب ضَرَب لغةٌ، وقد جمع الشاعر اللغتين، فقال [من البسيط]:
يَا فَارجَ الْكَرْب مَسْدُولًا عَسَاكِرُهُ
…
كَمَا يُفَرِّجُ غَمَّ الظُّلْمَةِ الْفَلَقُ
(2)
وقوله: (رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا) قال الكرمانيّ رحمه الله: المقام يَحْتَمِل المصدر، والزمان، والمكان.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذه الرؤية رؤية عيان حقيقة، لا رؤية علم، بدليل أنه رأى في الجنّة والنار أقوامًا بأعيانهم، ونعيمًا وقِطْفًا من عِنَبٍ، وتناوله، وغير ذلك، ولا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا سيّمًا على مذهب أهل السنّة في أن الجنّة والنار قد خُلقتا، ووُجدتا، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة، وذلك أنه راجع إلى أن الله تعالى خَلَق لنبيّه صلى الله عليه وسلم إدراكًا خاصًّا به أدرك به الجنّة والنار على حقيقتهما، كما قد خلق له إدراكًا لبيت المقدس، فطَفِقَ يُخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه، ويجوز أن يقال: إن الله تعالى مثّل له الجنّة والنار، وصوّرهما له في عُرْض الحائط، كما تتمثّل صور المرئيّات في المرآة، ويَعْتَضِد هذا بما رواه البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه في غير حديث الكسوف، قال صلى الله عليه وسلم:"لقد رأيت الآن منذ صلّيتُ لكم الصلاة الجنّة والنار متمثّلتين في قبلة هذا الجدار"، وفي لفظ آخر:"عُرِضت عليّ الجنّة والنار آنفًا في عُرض هذا الحائط، وأنا أصليّ"، وقال فيه:"إني صُوّرت لي الجنّة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط"، ولا يُستبعد هذا من حيث إن الانطباع في المرآة إنما هو في الأجسام الصقيلة؛ لأنا نقول: إن ذلك شرط عاديّ لا عقليّ، ويجوز أن تنخرق
(1)
"إحكام الإحكام في 3/ 253 بنسخة الحاشية.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 466.
العادة، وخصوصًا في مدّة النبوّة، ولو سُلّم أن تلك الشروط عقليّة، فيجوز أن تكون تلك الأمور موجودة في جسم الحائط، ولا يُدرك ذلك إلَّا النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن رؤيته رحمه الله التي ذكرت في هذا الحديث محمولة على حقيقتها، وأما كيفيّتها فليس في النصوص ما يدلّ على تعيينها، فلا ينبغي الخوض فيها بالتخمين، بل يوكل علمها إلى العليم الخبير، والله تعالى أعلم.
وقوله: (كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُمْ) بالبناء للمفعول، قال السيوطيّ رحمه الله: هذه الرواية أوضح من رواية: "ما من شيء، لَمْ أكن أُريته، إلَّا رأيته في مقامي هذا"، حتى قال الكرماني: فيه دلالة على أنه رأى ذاته تعالى المقدّسة في ذلك المقام، بناء على عموم الشيء له تعالي، لقوله تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} الآية [الأنعام: 19]، والعقل لا يمنعه، لكن بيّنت هذه الرواية أن كلّ شيء مخصوص بالموعود، كفِتَنِ الدنيا، وفتوحها، والجنّة والنار.
قال السنديّ رحمه الله: لكن قد يقال: هو تعالى داخل في الموعود؛ لأن الناس يرونه تعالى في الجَنَّة، فليتأمل. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السيوطيّ: رحمه الله هو الأولى، يؤيده ما سيأتي عند المصنّف من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: "إنه عُرِضَ عليّ كلّ شيء تولَجُونه
…
"، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الْجَنَّةِ) - بكسر القاف، وسكون الطاء المهملة -: قِطْفُ الثمرة ما يُقطف منها؛ أي: يُقطع، ويُجتني، وهو هنا؛ أي: عُنقُود من العِنَب، كما جاء مفسّرأ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي:"إني رأيت الجَنَّة، فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا".
وقوله: (حِينَ رَأَيتُمُونِي جَعَلْتُ أُقَدَّمُ) أي: أخذت، وشرعت أمشي أمامي، فـ "أُقدّم" مضارع قَدَّم اللازمِ، بمعنى تقدّم.
(1)
"المفهم" 2/ 553 - 554.
(2)
شرح السندي على النسائيّ" 3/ 131 - 132.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أقدم" ضبطناه بضم الهمزة، وفتح القاف، وكسر الدال المشدَّدة، ومعناه: أُقَدِّم نفسي، أو رجلي، وكذا صَرَّح القاضي عياض بضبطه، وضبطه جماعة:"أَقْدُم" بفتح الهمزة، وإسكان القاف، وضم الدال، وهو من الإقدام
(1)
، وكلاهما صحيح. انتهى
(2)
.
وقوله: (وقَالَ الْمُرَادِيُّ: أَتَقَدَّمُ) بيان لاختلاف شيوخه في هذا اللفظ؛ يعني: أن شيخه محمد بن سلمة المراديّ قال في روايته: "أتقدّم" بدل قول حرملة وأبي طاهر: "أُقدِّم".
وقوله: (وَلَقَدْ رَأَيْت جَهَنَّمَ) فيه أنَّها مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السنة.
وقوله: (يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا) من باب ضرب يضرب؛ أي: يكسره، ويزاحمه، كما يفعل البحر من شدّة الأمواج؛ يعني: أنَّها لشدة تلهبها واضطرابها، تشبه أمواج البحر التي يَحطِم بعضها بعضًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يحطم بعضها بعضًا" أي: يكسر بعضها على بعض، كما يفعل البحر، والحطم الكسر، وَيحْتَمِل أن يريد بذلك أن بعضها يأكل بعضًا، وبذلك سُمّيت جهنّم الْحُطَمَة، والرجل الْحُطَمة: الأَكُول. انتهى
(3)
.
وقوله: (حِينَ رأيتموني تأخرت) فيه المتأخر عن مواضع العذاب والهلاك.
وقوله: (وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ) وفي نسخة: "عمرو بن لُحَيّ" - بضم اللام، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء - هو عمرو بنِ لُحيّ بن قَمِعَة بن خِنْدِف، أبو خزاعة، وفيه دليل على أن بعض الناس معذب في نفس جهنم اليوم - عافانا الله، وسائر المسلمين -.
وقوله: (وَهُوَ الَّدِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ) أي: شَرَعَ لقريش أن يتركوا النُّوق، ويُعفُوها من الحمل والركوب، ونحو ذلك للأصنام، كما سيأتي بيانه قريبًا.
وجملة "هو الذي
…
إلخ" تعليل لمحذوف، كما بُيِّنَ في الروايات
(1)
هكذا وقع في شرح النوويّ، والظاهر أن الصواب بضمّ الهمزة، وإسكان القاف، وكسر الدال، فتأمله.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 203.
(3)
"المفهم" 2/ 554.
الأخرى، فسيأتي للمصنّف في "صفة الجَنَّة والنار" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ، يجرّ قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب".
أي: إنما رآه يجرّ قُصْبه - بضم، فسكون - أي: أمعاءه في النار؛ لأنه الذي غيّر دين إبراهيم، وإسماعيل، فسيّب السوائب.
وذكر ابن إسحاق في "السيرة الكبرى" عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: "رأيتُ عمرو بن لُحيّ، يجرّ قُصبه في النار؛ لأنه أوّل من غيّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيّب السائبة، وبَحَرَ البحيرة، ووصَلَ الوصيلة، وحَمَى الحامي".
وروى الطبرانيّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "أول من غيّر دين إبراهيم عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدِف، أبو خُزاعة".
وذكر الفاكهيّ من طريق عكرمة نحوه مرسلًا، وفيه: فقال المقداد: يا رسول الله مَن عمرو بن لُحيّ؟ قال: "أبو هؤلاء الحيّ من خُزاعة".
وذكر ابن إسحاق أيضًا أن سبب عبادة عمرو بن لُحَيّ الأصنام أنه خرج إلى الشام، وبها يومئذ العماليق، وهم يعبدون الأصنام، فاستوهبهم واحدًا منها، وجاء به إلى مكة، فنصبه إلى الكعبة، وهو هُبَل.
وكان قبل ذلك في زمن جُرْهُم قد فَجَرَ رجل، يقال له: إساف بامرأة، يقال لها: نائلة في الكعبة، فمسخهما الله جلّ وعلا حجرين، فأخذهما عمرو بن لحيّ، فنصبهما حول الكعبة، فصار من يطوف يتمسّح بهما، يبدأ بإساف، ويختم بنائلة.
وذكر محمد بن حبيب، عن ابن الكلبيّ أن سبب ذلك أن عمرو بن لحيّ كان له تابع من الجنّ، يقال له: أبو ثمامة، فأتاه ليلة، فقال: أَجِبْ أبا ثمامة، فقال: لبيك من تهامة، فقال: ادخل بلا ملامة، فقال: ايت سِيفَ جُدّة، تجد آلهةً مُعدّة، فخذها، ولا تهب، وادع إلى عبادتها تُجَبْ، قال: فتوجه إلى جدّة، فوجد الأصنام التي كانت تُعبد في زمن نوح وإدريس، وهي وَدّ، وسُواع، وَيغوث، ويعوق، ونسر، فحملها إلى مكة، ودعا إلى عبادتها، فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب.
[تنبيه]: أخرج الشيخان عن سعيد بن المسيب، أنه قال:"البَحيرة" التي يُمنَع دَرّها للطواغيت، فلا يَحلُبُها أحد من الناس، و"السائبة" كانوا يُسيّبونها لآلهتهم، فلا يُحمَل عليها شيء، و"الوصيلة": الناقة تُبكّر في أول نتاج الإبل بأنثي، ثم تثنّي بعدُ بأنثي، وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم أَن وَصَلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر، و"الحام": فَحلُ الإبل، يَضْرِب الضِّرَابَ المعدود، فإذا قضى ضِرَابه، وَدَعُوه للطواغيت، وأَعْفَوه من الحمل، فلم يُحمَل عليه شيء، وسَمَّوه الحامي. انتهى.
وقال القرطيّ رحمه الله: وقد اختُلف في تفسير هذه الأشياء، فالسائبة: الناقة إذا تابعت بين عَشر إناث، ليس بينهنّ ذكر سُيّبت، فلم يُركب ظهرها، ولم يُجزّ وَبَرها، ولم يَشرَب لبنها إلَّا ضيف، في نتجت بعد من أنثى شُقّت أذنها، ثم خُلّي سبيلها مع أمها على حكمها، وهي البَحِيرة بنت السائبة، وسُمّيت بذلك لأنَّها بُحرت أذنها؛ أي: شُقَّت شقًّا واسعًا، وهذا قول ابن إسحاق، وقال غيره: السائبة: هي التي يَنذُرها الرجل؛ أي: يُسيّبها إن برئ من مرضه، أوأصاب أمرًا يطلبه، فإذا كان ذلك أسابها، فسابت، لا يُنتفع بها.
قال ابن إسحاق: والوصيلة: الشاة إذا أَتْأَمَت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطُن ليس بينهن ذَكر، قالوا: وَصَلَتْ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلَّا أن يموت شيء منها، فيشترك فيه ذكورهم وإناثهم.
وقال كثير من أهل اللغة: إن الشاة كانت إذا ولدت أنثى، فهي لهم، وإذا ولدت ذكرًا ذبحوه لآلهتهم، وإذا ولدت ذكرًا وأنثى لَمْ يذبحوا الذكر، وقالوا: وصلت أخاها، فيسيّبون أخاها، ولا ينتفعون به.
والحامي: الفحل إذا رُكب ولد ولده، وقيل: إذا نُتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا: حَمَى ظهره، فلا يُركب، ولا يُنتفع به، ولا يُمنع من ماء، ولا كلأ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (وَانْتَهَى حَدِيثُ أَبِي الطَّاهِرِ
…
إلخ) أراد به بيان اختلاف شيوخه أيضًا، فبيّن أن هذا السياق بطوله لشيخيه حرملة، ومحمد بن سلمة المراديّ،
(1)
"المفهم" 2/ 555.
وأما أبو الطاهر، فوقف عند قوله:"فافزعوا للصلاة"، ولم يذكر ما بعده.
فمال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث مُتَّفقٌ عليه، وقد تقدم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2092]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ، يُخْبِرُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ مُنَادِيًا:"الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ"
(1)
، فَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمَ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) أبو جعفر الجمّال، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو في التي قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 12/ 226.
2 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(الْأَوْزَاعِيُّ أَبُو عَمْرٍو) عبد الرَّحمن بن عمرو الفقيه، ثقةٌ فاضلٌ إمام [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَغَيْرُهُ) قال صاحب التنبيه: لا أعرفه
(2)
.
وقوله: (فَبَعَثَ مُنَادِيًا) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، ولعلّه بلال
(3)
.
(1)
وفي نسخة: بـ "الصلاةُ جامعة".
(2)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 171.
(3)
"تنبيه المعلم" ص 171.
وقوله: (الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ") وفي نسخة: بـ "الصلاة جامعة"؛ أي: ينادي بذلك، أو يقول ذلك.
وفي رواية النسائيّ: "فأمر مناديًا ينادي أن الصلاة جامعة"، و"الصلاةَ" منصوب على الإغراء، ونصب "جامعةً" على الحال.
قال بعضهم: يجوز في "الصلاة جامعة" نصبهما على أن الأول مفعول لمحذوف، والثاني منصوب على الحال؛ أي: احضروا الصلاة حال كونها جامعة، ورفعهما على أنهما مبتدأ وخبر، ورفع الأول على أنه مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: الصلاةُ حاضرةٌ، ونصب الثاني على الحال، ونصب الأول؛ لما تقدّم، ورفع الثاني على أنه خبر لمحذوف؛ أي: هي جامعة.
وإسناد الجمع إليها مجاز عقليّ، من قبيل الإسناد إلى السبب.
وقوله: (فَاجْتَمَعُو ا، وَتَقَدَّمَ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) أي: أربع ركوعات، من تسمية الجزء باسم الكلّ.
وقوله: (فِي رَكعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) يعني: أنه ركع ركوعين، وسجد سجدتين في كلّ واحدة من الركعتين.
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا أصحّ ما في هذا الباب، وباقي الروايات المخالفة معلّلة ضعيفة. انتهى.
[تنبيه]: هذه الرواية أخرجها البخاريّ في "صحيحه" مطوّلة، فقال:(1066) - حدّثنا محمد بن مِهْران، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرنا ابن نَمِر، سمع ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: جهر النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبّر فركع، وإذا رفع من الركعة، قال:"سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات، وقال الأوزاعيّ وغيره: سمعت الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مناديًا بـ "الصلاة جامعة"، فتقدم، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات، وأخبرني عبد الرَّحمن بن نَمِر سمع ابن شهاب مثله، قال الزهريّ: فقلت: ما صنع أخوك ذلك، عبد الله بن الزبير ما صلى إلَّا ركعتين مثل الصبح؛ إذ صلى بالمدينة، قال أجل: إنه أخطأ السنة، تابعه
سفيان بن حسين، وسليمان بن كثير، عن الزهريّ في الجهر. انتهى.
والحديث دليلٌ على مشروعيّة النداء بـ "الصلاة جامعة" عند الكسوف، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل للشافعيّ، ومن وافقه أنه يستحب أن ينادى لصلاة الكسوف:"الصلاة جامعة"، وأجمعوا أنه لا يؤذّن لها، ولا يقام. انتهى.
وفيه أيضًا مشروعيّة الاجتماع لصلاة الكسوف، وصلاتها جماعةً، وبيان كيفيّة صلاتها بأنها ركعتان، في كلّ ركعة ركوعان، وسجدتان، وهذه أرجح الكيفيّات، كما تقدّم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2093]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ نَمِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَاب، يُخْبِرُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ نَمِرٍ) - بفتح النون، وكسر الميم - اليحصبيّ، أبو عمرو الدمشقئ، ثقةٌ، لَمْ يرو عنه غير الوليد بن مسلم [8].
رَوَى عن الزهريّ، ومكحول الشاميّ، وروى عنه الوليد بن مسلم.
قال الدُّوريّ، عن ابن معين: ابن نَمِر الذي يروي عن الزهريّ ضعيفٌ، وقال دُحَيم: صحيح الحديث عن الزهريّ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ليس به باسٌ، كان كاتبًا، حضر مع ابن هشام والزهريُّ يُملي عليهم، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ، وسليمان بن كثير، وسفيان بن حسين أحبَّ إلي منه، لا أعلم روى عنه غير الوليد بن مسلم، وذكره ابن حبان في "الثّقات"، وقال: من ثقات أهل الشام، ومتقنيهم، وقال ابن عديّ: في حديثه عن الزهريّ، عن
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
عروة، عن مروان، عن بسرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء في مسّ الذكر، والمرأة مثل ذلك، قال: وهذه الزيادة التي ذُكرت في متنه: "والمرأة مثل ذلك" لا يرويها عن الزهريّ غير ابن نَمِر هذا، وقال يحيى بن معين: هو ضعيف في الزهريّ، ليس أنه أنكر عليه في أسانيد ما روى عن الزهري، ولا في متونه إلَّا ما ذكرتُ من قوله:"والمرأة مثل ذلك"، وهو في جملة مَن يُكتب حديثه من الضعفاء، وابن نَمِر هذا له عن الزهريّ غير نسخة، وهي أحاديث مستقيمة. انتهى.
وقال أبو زرعة الدمشقيّ: حديثه عن الزهريّ مستوٍ، وقال أبو أحمد الحاكم: مستقيم الحديث، وقال ابن الْبَرْقيّ: ثقةٌ، وقال الذُّهْليّ: عبد الرَّحمن بن نَمِر، وعبد الرَّحمن بن خالد ثقتان، ولا تكاد تجد لابن نَمِر حديثًا عن الزهريّ إلَّا ودَوَّن الحديث مثله، يقول: سألت الزهريّ عن كذا، فحدّثني عن فلان وفلان، فيأتي بالحديث على وجهه، ولا أعلم رَوَى عنه غير الوليد، وكذا قال دُحَيم: لَمْ يرو عنه غير الوليد.
قال الجامع عفا الله عنه: فتبيّن بهذا أن عبد الرَّحمن بن نَمِر هذا ثقةٌ، وإنما ضعّفه ابن معين في حديث واحد، كما بيّنه ابن عديّ في كلامه السابق، وقد وثّقه الأكثرون، ولا سيّما الإمام الذهليّ، فإن له تخصّصًا بأحاديث الزهريّ، ومعرفة الرواة عنه، فقد أثنى عليه، كما سمعته آنفًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، ولم يخرج له الشيخان سوى هذا الحديث الواحد في الكسوف، وهو متابعة.
وقال في "الفتح": عبد الرَّحمن بن نَمِر دِمشقيّ، وثقه دُحيم، والذُّهْليّ، وابن الْبَرْقيّ، وآخرون، وضعفه ابن معين؛ لأنه لَمْ يرو عنه غير الوليد، وليس له في "الصحيحين" غير هذا الحديث، وقد تابعه عليه الأوزاعيّ، وغيره. انتهى
(1)
.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
"الفتح" 2/ 549.
وقوله: (جَهَرَ فِي صَلا الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ) فيه دليلٌ على استحباب الجهر في صلاة الخسوف، وفيه خلاف بين العلماء، وهذا هو المذهب الصحيح.
قال في "الفتح": استُدِلّ به على الجهر في صلاة الخسوف بالنهار، وحمله جماعة ممن لَمْ يَرَ بذلك على كسوف القمر، وليس بجيّد؛ لأن الإسماعيليّ رَوَى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد، بلفظ:"كَسَفَت الشمسُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فذكر الحديث، وكذا رواية الأوزاعي التي بعده صريحة في الشمس. انتهى.
وقال أيضًا: واستَدَلّ بعضهم على ضعف رواية عبد الرَّحمن بن نَمِر في الجهر بأن الأوزاعيّ لَمْ يذكر في روايته الجهر، وهذا ضعيفٌ؛ لأن من ذكر حجةٌ على من لَمْ يذكر، لا سيما والذي لَمْ يذكره لَمْ يتعرض لنفيه، وقد ثبت الجهر في رواية الأوزاعيّ عند أبي داود، والحاكم، من طريق الوليد بن مَزْيَد عنه، ووافقه سليمان بن كثير وغيره، كما ترى. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في الجهر بالقراءة في صلاة خسوف الشمس:
فقال طائفة: يجهر بالقراءة فيها، فممن رَوينا عنه أنه جهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس علي بن أبي طالب، وفعل ذلك عبد الله بن يزيد، وبحضرته البراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه.
وقالت طائفة: لا يجهر في كسوف الشمس بالقراءة، هذا قول مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، واحتجّ مالك، والشافعيّ بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قال:"قرأ نحوأ من سورة البقرة"؛ إذ لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة لأخبر ابن عباس بالذي قرأه، ولا يحتاج أن يقدّر بنحو سورة البقرة.
واحتجّ من رأى الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف بأن الذي احتجَّ به مالك، والشافعيّ حجة لو لَمْ يأت غيره، وعائشة تخبر أنه جهر بالقراءة، فقبول خبرها أولى؛ لأنَّها في معنى شاهد، فقبول شهادتها يجب، والذي لَمْ يحك
(1)
"الفتح" 3/ 437.
الجهر في معنى نافٍ، وليس بشاهد، وقد يجوز أن يكون ابن عباس من الصفوف بحيث لَمْ يسمع قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدّر ذلك بغيره، وتكون عائشة سمعت الجهر، فأدّت ما سمعت.
وقال إسحاق: لو لَمْ يأت في ذلك سنة لكان الجهرُ أشبه الأمر، تشبيهًا بالجمعة والعيدين والاستسقاء، وكل ذلك نهارًا، قال: وأما كسوف القمر فقد أجمعوا على الجهر في صلاته؛ لأن قراءة الليل على الجهر.
قال ابن المنذر رحمه الله: بهذا أقول، يجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس والقمر. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجحه ابن المنذر رحمه الله من مشروعية الجهر بالقراءة هو الأرجح عندي؛ لصحة حديث الباب، وليس للقائلين بعدم الجهر دليل صريح صحيح، فحديث ابن عباس رضي الله عنهما عرفت تأويله آنفًا، وحديث سمرة الذي أخرجه النسائيّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى بهم في كسوف الشمس، لا نسمع له صوتًا"، غير صحيح؛ لأن الراوي عن سمرة رضي الله عنه ثعلبة بن عِبَاد لَمْ يرو عنه غير الأسود بن قيس، فهو مجهول، وعلى تقدير صحته فهو مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك أن يُحمَل على أنه نَفَى عدمَ سماعه لقراة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لبُعده، ولا يلزم من ذلك عدم جهره، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الإمام البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه" بعد إيراد رواية عبد الرَّحمن بن نَمِر، عن الزهريّ ما نصّه: تابعه سفيان حسين، وسليمان بن كثير، عن الزهريّ في الجهر. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "تابعه سليمان بن كثير، وسفيان بن حسين، عن الزهري في الجهر"؛ يعني: بإسناده المذكور، ورواية سليمان وصلها أحمد، عن عبد الصمد بن عبد الوارث عنه، بلفظ: "خَسَفَت الشمسُ على عهد النبي رحمه الله، فأتى النبيّ رحمه الله، فكبّر، ثم كبر الناس، ثم قرأ، فجهر بالقراءة
…
" الحديث، ورويناه في مسند أبي داود الطيالسيّ، عن سليمان بن كثير، بهذا الإسناد مختصرًا: أن "النبيّ صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف".
(1)
"الأوسط 5/ 296 - 298.
وأما رواية سفيان بن حسين، فوصلها الترمذيّ، والطحاويّ، بلفظ:"صَلّى صلاة الكسوف، وجهر بالقراءة فيها".
وقد تابعهم على ذكر الجهر عن الزهريّ عُقَيل، عند الطحاويُّ، وإسحاقُ بن راشد، عند الدارقطنيّ، وهذه طرقٌ يَعْضِد بعضها بعضًا يفيد مجموعها الجزم بذلك، فلا معنى لتعليل مَن أعلّه بتضعيف سفيان بن حسين وغيره، فلو لَمْ يَرِد في ذلك إلَّا رواية الأوزاعيّ لكانت كافيةً.
وقد ورد الجهر فيها عن عليّ مرفوعًا وموقوفًا، أخرجه ابن خزيمة، وغيره، وقال به صاحبا أبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن خزيمة، وابن المنذر رحمه الله، وغيرهما من محدثي الشافعية، وابن العربيّ من المالكية، وقال الطبريّ: يُخَيَّر بين الجهر والإسرار.
وقال الأئمة الثلاثة: يُسِرّ في الشمس، ويجهر في القمر، واحتجّ الشافعي بقول ابن عباس:"قرأ نحوأ من سورة البقرة"؛ لأنه لو جهر لَمْ يحتج إلى تقدير.
وتُعُقِّب باحتمال أن يكون بعيدًا منه، لكن ذكر الشافعيّ تعليقًا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكسوف، فلم يسمع منه حرفًا، ووصله البيهقيّ من ثلاثة طُرُق أسانيدها واهية، وعلى تقدير صحتها، فمثبت الجهر معه قدر زائد، فالأخذ به أولى، وإن ثبت التعدد، فيكون فعل ذلك لبيان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند ابن خزيمة، والترمذيّ:"لَمْ يسمع له صوتًا"، وأنه إن ثبت لا يدلُّ على نفي الجهر.
قال ابن العربيّ: الجهر عندي أولى؛ لأنَّها صلاة جامعة يُنادَى لها، ويُخطَب، فاشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيَّن بما ساقه الحافظ رحمه الله من الأدلّة كون المذهب الأرجح مذهبَ من قال باستحباب الجهر في قراء صلاة الخسوف؛ لقوّة أدلته، وكون الأحاديث المرويّة بخلافه ضعيفة، أو محتملة للتأويل، كما أسلفت وجهه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 3/ 437 - 438.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2094]
(902) - (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: اثنان:
1 -
(كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشمي، أبو تَمَّام، المدنيّ، ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم أمه أم ولد.
رَوَى عن أبيه، وأخيه عبد الله، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، والحجاج بن عمرو بن غزيّة.
ورَوى عنه الأعرج، والزهريّ، وأبو الأَصبغ السُّلَمي مولى بني سُليم، قال يعقوب بن شيبة: يُعدّ في الطبقة الأولى من أهل المدينة، ممن وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال مصعب الزبيريّ: كان فقيهًا فاضلًا، لا عَقِب له، وقال ابن حبّان في "الثقات": كان رجلًا صالحًا فاضلًا فقيهًا، مات بالمدينة أيام عبد الملك بن مروان.
وُيروى أن معاوية سأل رجلًا عن أعبد الناس بالمدينة؟ فقال: كثير بن العبّاس، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وقال: لَمْ يبلغنا أنه روى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، وكان رجلًا صالحًا فقيهًا، ثقةٌ، قليل الحديث.
وروى ابن منده، وابن قانع في "معجم الصحابة" حديثًا يدلّ على صحبته، لكن في إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد اختُلف عليه فيه، وقال البغويّ: حدثنا داود بن عمرو، حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَصُفّ عبد الله، وعُبيد الله، وكثيرًا بَني العباس، ويقول: "مَن سبق فله كذا
…
" الحديث، قال الحافظ: وهو مرسل جيّد الإسناد، وقد رواه أحمد بن حنبل في "مسنده" عن جرير مثله، وقال الدارقطنيّ في كتاب"الاخوة": روى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مراسيل.
روى له البخاري، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله عندهم حديث الباب، وعند المصنّف، والنسائي حديث العباس في غزوة حنين.
2 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدَّم في الباب الماضي.
وقوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ
…
إلخ) عطف على ما قبله بعاطف مقدَّر، فهو موصول بالإسناد الأول، وليس معلّقًا.
[فائدة]: حذف حرف العطف جائز، ولكن بابه الشعر؛ كقوله:
إِنَّ امْرَأً رَهْطُهُ بِالشَّامِ مَنْزِلُهُ
…
بِرَمْلِ يَبْرِينَ جَارًا شَدَّ مَا اغْتَرَبَا
وحكى أبو زيد: "أكلتُ خبزًا، لحمًا، تمرًا"، قيل: بحذف الواو، وحكى أبو الحسن الأخفش:"أعطه درهمًا، درهمين، ثلاثة"، بحذف "أو"، وخرّج على ذلك آيات، منها قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)} [الغاشية: 8] عطفٌ على {يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)} [الغاشية: 2]، وقوله:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] فيمن فتح الهمزة، فهو عطف على {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، وقوله:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ} الآية [التوبة: 92]؛ أي: و {قُلْتَ} ، وإلى هذا أشار شيخنا المناسيّ رحمه الله:
وَبَابُهُ الشِّعْرُ وَقِيلَ نَادِرُ
…
وَقَالَ فِي "التَّسْهِيلِ" نَثْرًا يَظْهَرُ
حَكَى أَبُو الْحَسَنِ فِي الآيَاتِ
…
أَتَتْكَ فِي "الْمُغْنِي" مُرَتَّبًا
(1)
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2094 و 2095](902)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1046)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1181)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(3/ 129)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2457)، و"أبو نعيم" في "مستخرجه"(2032)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "فتح القريب المجيب" 2/ 509 - 510.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2095]
…
(-) وَحَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ كسَفَتِ الشَّمْسُ، بِمِثْلِ مَا حَدَّثَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَاجِبُ بْنُ الْوَليدِ) بن ميمون الأعور، أبو محمد المؤدِّب الشاميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م كد) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَولانِيِّ الْحِمْصيّ الأبرش، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ الزُّبَيْدِيُّ) أبو الْهُذيل الْحِمْصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من [7](ت 6 أو 7 أو 149)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 10/ 1174.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن الوليد، عن الزهريّ هذه، لَمْ أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2096]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي مَنْ أُصَدِّقُ، حَسِبْتُهُ يُرِيدُ عَائِشَةَ
(1)
، أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ قِيَامًا شَدِيدًا، يَقُومُ قَائِمًا، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ، رَكْعَتَيْنِ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، فَانْصَرَفَ، وَقَدْ
(1)
وفي نسخة: "من أصدّق حديثه، يريد عائشة".
تَجَلَّتِ الشَّمْسَ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ قَالَ:"اللهُ أَكْبَرُ"، ثُمَّ يَرْكَعُ، وَاِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ:"سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، فَقَامَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكْسِفَانِ
(1)
لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيُتُمْ كُسُوفًا، فَاذْكُرُوا اللهَ، حَتَّى يَنْجَلِيَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ حافظ إمام حجة [10](ت 238)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل باب.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح، تقدّم قبل باب أيضًا.
5 -
(عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، قاصّ أهل مكة، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، من كبار التابعين، مجمع على ثقته [2](ت 68)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 473.
و"عائشة" في ذُكرت قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، في أخرج له ابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، من ابن جريجٍ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وعائشة رضي الله عنها سبق الكلام فيها قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "لا ينكسفان".
شرح الحديث:
عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله أنه قال: (سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ) بتصغير الاسمين (يَقُولُ: حَدَّثَنِي مَنْ أُصَدِّقُ)"من" في محلّ رفع على الفاعليّة، والعائد محذوفٌ؛ أي: قال عبيد بن عُمير: حدّثني الشخص الذي أصدّقه؛ لكونه ثقةً.
[فإن قلت]: هذا يكون من قبيل التعديل على الإبهام، والراجح أنه لا يُقبل، فكيف احتجَّ به المصنّف رحمه الله؟.
[قلت]: لا يضرّ هذا الإبهام هنا؛ لأن الرواية التالية أزالت الإبهام، حيث صرَّح فيها عُبيد بن عُمير بأنها عائشة رضي الله عنها، فتفطّن، والله تعالى أعلم.
(حَسِبْتُهُ يُرِيدُ عَائِشَةَ) وفي نسخة: "حدّثني من أصدّق حديثه، يريد عائشة"؛ يعني أن عطا" قال: فظننت أن عبيد بن عُمير يريد بالمبهم في قوله: "من أُصدِّق" عائشةَ.
(أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ) وفي رواية النسائيّ: "كَسَفَت الشمس"(عَلَى عَهْدِ رَسُولي اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في وقته، فـ "على" بمعنى "في"، وقد تقدّم أن ذلك في السنة العاشرة من الهجرة (فَقَامَ قِيَامًا شَدِيدًا) وفي رواية النسائيّ:"فقام بالناس قيامًا شديدًا"، وقوله:(يَقُومُ قَائِمًا) بيان للقيام الشديد، وهذا من قبيل إحضار هيئة القيام في الحال، فلذلك أتى بصيغة المضارع، وكذا ما بعده، قاله السنديّ رحمه الله.
(ثُمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثمَّ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْكَعُ، رَكعَتَيْنِ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) أراد بالركعات هنا الركوع، وهذه إحدى الكيفيّات لصلاة الكسوف، يركع في كلّ ركعة ثلاث ركوعات، وتقدّم ترجيح رواية ركوعين في كلّ ركعة؛ لأنَّها رواية جمهور الحفّاظ، فلا تغفل.
زاد في رواية النسائيّ: "حتى إن رجالًا يومئذ يُغشى عليهم، حتى إن سِجال الماء لتُصث عليهم بما قام بهم".
(فَانْصَرَفَ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) وفي رواية النسائيّ: "فلم ينصرف حتى تجلّت الشمس".
(وَكَانَ اِذَا رَكَعَ قَالَ: "اللهُ كبَرُ"، ثُمَّ يَرْكَعُ، وَإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ قَالَ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ") أي: مع "ربنا ولك الحمد"؛ لما سبق أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما، فتنبّه.
(فَقَامَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأدنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكْسِفَانِ) من باب ضرب، وفي نسخة:"لا ينكسفان"(لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ) تقدّم أن هذا قاله صلى الله عليه وسلم ردًّا لما زعمه بعض الناس من أن الشمس انكسفت لموت ابنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم (وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللهِ) أي: علامتان عظيمتان دالّتان على عظيم قدرة الله (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفًا) وفي رواية النسائيّ: "فإذا كُسِفَا"(فَاذْكُرُوا اللهَ) وفي رواية النسائيّ: "فافزعوا إلى ذكر الله - عَزَّوَجَلَّ - "، وفي رواية أبي داود:"فافزعوا إلى الصلاة"، وهي أخصّ (حَتَّى يَنْجَلِيَا") أي: ينكشفا، ويزول ما بهما من الكسوف.
والحديث تقدّم تخريجه، وبيان مسائله في حديث عائشة المذكور أول الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2097]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِي) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدّستوائيّ البصريّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدّستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
5 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، من كبار [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ) أي: صلَّى ركعتين في كلّ ركعة ثلاث ركوعات، وسجدتان، وقد تقدّم أن الجمهور على ترجيح رواية: صلّى ركعتين في كلّ ركعة ركوعان؛ لكثرة رواتها الحفاظ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2098]
(903) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْني ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَمْرَةَ، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ عَائِشَةَ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، يُعَذَّبُ النَّاسُ فِي الْقُبُورِ؟، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَائِذًا بِاللهِ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا، فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجْتُ فِي نِسْوَةٍ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحُجَرِ
(2)
فِي الْمَسْجِدِ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَرْكَبِهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُصَلَّاهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، فَقَامَ، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ ذَلِكَ الرُّكُوعِ
(3)
، ثمَّ رَفَعَ، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْس، فَقَالَ: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ، كَفِتنَةِ
(1)
وفي نسخة: "حدَّثنا".
(2)
وفي نسخة: "بين ظهراني الحجر".
(3)
وفي نسخة: "دون الركوع الأول".
الدَّجَّالِ"، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَسَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: فَكُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) البصريّ، مدنيّ الأصل، تقدَّم قبل بابين.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنَ بِلَالٍ) التيميّ المدنيّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.
3 -
(يَحْيَى) بن سعيد بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبت [51](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
4 -
(عَمْرَةُ) بنت عبد الرَّحمن بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّ، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" ج 2 ص 417.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، في أخرج له ابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من أوله إلى آخره، وشيخه، وإن كان بصريًّا، إلَّا أنه مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرَةَ) بنت عبد الرَّحمن الأنصاريّ (أَن يَهُودِيَّةً) أي: امرأة يهوديّة (أَتَتْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تَسْأَلُهَا) أي: شيئًا من الصدقة (فَقَالَتْ) لَمَّا أعطتها ما سألتها؛ مكافأة على إحسانها (أَعَاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) وفي هذا دليل على أن اليهودية كانت تعلم عذاب القبر، إما سمعت ذلك من التوراة، أو في كتاب من كتبهم، قاله في "العمدة"
(1)
.
(1)
"عمدة القاري" 7/ 78.
ولا يعارض هذا ما سبق في باب الدعاء بعد التشهد من طريق منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها: "قالت: دخل عليّ عجوزتان من عجائز اليهود، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم
…
"؛ لأنه يُحمل على أن إحداهما تكلمت، وأقرّتها الأخرى على ذلك، فنَسَبت القول إليهما مجازًا، والإفراد يُحْمَل على المتكلمة.
قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم واحدة منهما.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، يُعَذَّبُ النَّاسُ فِي الْقُبُورِ؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أيُعذّب الناس
…
إلخ؟ (قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَائِذًا بِاللهِ) قال ابن السيد: هو منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل، كقولهم: عُوفي عافيةً، أو على الحال المؤكّدة النائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوف، كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا، ولم يُذكر الفعل؛ لأن الحال نائبة عنه، ورُوي:"عائذٌ بالله" بالرفع؛ أي: أنا عائذ بالله.
[فإن قلت]: هذا الحديث، ومثله ما تقدّم أيضًا من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما تُفتن يهودُ" يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على اليهوديّة.
وحديث عائشة رضي الله عنها من رواية مسروق، عنها، أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال:"نعم عذاب القبر حقٌّ"، رواه البخاريّ، يدلّ على تصديقه لها، فكيف يوفَّق بينهما؟.
[قلت]: أجاب النوويّ تبعًا للطحاويّ وغيره بأنهما قصّتان، فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم قول اليهودية في القصة الأولى، ثم أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يُعلم عائشة بذلك، فجاءت اليهودية مرّة أخرى، فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها مستندةً إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته. انتهى.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أنه عيهم كان يتعوذ سرًّا، فلما رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به. انتهى.
وكأنه لَمْ يقف على رواية الزهريّ، عن عروة التي ذكرناها، ففيها بعد إنكاره صلى الله عليه وسلم على اليهودية، وقولِهِ:"إنما تُفتن يهود، أنه لبِث ليالي، ثم قال لعائشة: "هل شَعَرت أنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور"، وفي حديث الباب أيضًا بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "عائذًا بالله من ذلك"، فقال في آخره: "إني رأيتكم تفتنون في القبور"، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.
وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاريّ، عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأمويّ، عن عائشة رضي الله عنها أن يهوديةً كانت تخدُمها، فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلَّا قالت لها اليهودية: وقال الله عذاب القبر، قالت: فقلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة، ثم مَكَث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادي باعلى صوته:"أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حقّ".
وفي هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم إنما عَلِم بعذاب القبر بالمدينة في آخر الأمر، كما تقدَّم تاريخ صلاة الكسوف قريبًا.
قال في "الفتح" ما حاصله: قد استُشكِل هذا -يعني كونه صلى الله عليه وسلم إنما عَلِم به في آخر حياته - مع قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية [إبراهيم: 27]، فإنها مكيّة، وهي نزلت في عذاب القبر، كما أخرجه الشيخان من حديث البراء رضي الله عنه، وكذلك قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الآية [غافر: 46].
والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حقّ من لَمْ يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الثانية في حقّ آل فرعون، وإن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار، فالذي أنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم أُعْلِم صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم، فجزم به، وحَذَّر منه، وبالغ في الاستعاذة منه؛ تعليمًا لأمته، وإرشادًا، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى. انتهى
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 162 "كتاب الجنائز" رقم (1369).
(ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ كَدَاةٍ مَرْكَبًا) يَحْتَمِل أن يكون مصدرًا ميميّا؛ أي: رُكوبًا، وَيحْتَمِل كونه بمعنى اسم المفعول؛ أي: مركوبًا، وَيحْتَمِل أن يكون منصوبأ على الظرفيّة، بل هذا هو الذي يدلّ عليه السياق؛ أي: مكان رُكوب؛ يعني؛ أنه ركب إلى محلّ أراد فيه قضاء حاجة (فَخَسَفَتِ) من باب ضرب (الشَّمْسُ، قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَخَرَجْتُ فِي نِسْوةٍ) أي: معهنّ (بَيْنَ ظَهْرَيِ الْحُجَرِ) وفي نسخة: "بين ظهراني الحجر"، وهو بفتح الظاء المعجمة، والنون على التثنية، و"الْحُجَر" بضمّ الحاء المهملة، وفتح الجيم: جمع حُجْرة بسكون الجيم، قيل: المراد بين ظهر الحجر، والنون والياء زائدتان، وقيل: بل الكلمة كلّها زائدة، والمراد بالْحُجَر بيوت أزواج النبيّ"
(1)
.
وقولها: (فِي الْمَسْجِدِ) الظاهر أن "في" بمعنى "وإلى"، في قوله تعالى:{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9]، ومتعلّقة بـ "خرجنا" (فَأتى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَرْكَبِهِ) أي: محلّ ركوبه (حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُصَلَّاهُ) أي: محلّ وقوفه في حال الصلاة (الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ) فيه أن السنّة في صلاة الكسوف أن تصلّى في المسجد بخلاف الاستسقاء، فإنها في الصحراء، كما سبق في بابه (فَقَامَ، وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ قِيَامًا طَويلًا، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ ذَلِكَ الرُّكُوعِ) وفي نسخة: "دون الركوع الأول"(ثُمَّ رَفَعَ) أي: رأسه، زاد في رواية النسائيّ:"ثم سجد، ثم قام الثانية، فصنع مثل ذلك، إلَّا أن ركوعه، وقيامه دون الركعة الأولى، ثم سجد، وتجلّت الشمس"(وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ) وفي رواية النسائيّ: "فلما انصرف قعد على المنبر، فقال فيما يقول: إن الناس يُفتنون في قبورهم"(كفِتْنَةِ الدَّجَّالِ") أي: فتنة شديدة جدًّا، وامتحانًا هائلًا، مثل فتنته، ولكن {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27].
(1)
"الفتح" 3/ 419 "كتاب الكسوف" رقم (1050).
وقد فُسّرت الفتنة في القبور بما سيأتي في حديث أسماء رضي الله عنها قالت: "فيؤتى أحدكم، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن، فيقول: هو محمد، هو رسول الله، جاءنا بالبينات والهدي، فأجبنا وأطعنا، ثلاث مرار، فيقال له: نَمْ، قد كنا نعلم إنك لَتُؤمِن به، فَنَمْ صالحًا، وأما المنافق فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته".
(قَالَتْ عَمْرَةُ: فَسَمِعْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تَقُولُ: فَكُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ) الوقت الذي وقعت فيه حادثة الكسوف (يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) أي: لأنه أُوحي إليه بأن الناس يفتنون في قبورهم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تخريجه، وبيان سائر مسائله في الباب الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2099]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ (ع) وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلت الثقفيّ، أبو محمد البصرفي، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
4 -
(سُفْيَانُ) بن عُيينة الإمام الحجة الشهير الكوفيّ، ثم المكيّ، من كبار [9](ت 198) عن (91) سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) أي: إن كلًّا من عبد الوهّاب،
وسفيان بن عيينة رويا هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ بإسناده السابق، وبمثل معنى حديث سليمان بن بلال عنه.
[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب، وسفيان عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (2/ 489) فقال:
(2035)
حدّثنا حبيب، ثنا يوسف، ثنا ابن أبي بكر، ثنا عبد الوهاب الثقفيّ (ح) وثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسي، ثنا الحميديّ، ثنا سفيان بن عيينة، قالا: سمعت يحيى بن سعيد يقول (ح) وثنا عبد الله بن محمد بن أحمد، ثنا جعفر الفريابيّ، ثنا محمد بن عبيد بن حساب، ثنا حماد بن زيد، ثنا يحيى بن سعيد، أخبرتني عمرة، أن يهودية أتت عائشة تستطعم، قالت: أعاذك الله من عذاب القبر، فقلت: يا رسول الله؛ أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال: "عائذًا بالله"، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبًا، فخَسَفَت الشمس، قالت: فخرجت في نسوة بين ظهراني الْحُجَر في المسجد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مركبه، فقعد في مصلاه الذي كان يصلي فيه، فقام الناس وراءه، فقام قيامًا طويلًا، ثم ركع فركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع رأسه، فقام قيامًا طويلًا، قالت: ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع رأسه، وسجد سجودًا طويلًا، ثم رفع رأسه، فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع، فركع ركوعًا طويلًا، وهو دون ذلك الركوع، ثم رفع، وسجد، فانحلت الشمس، ثم قام، فقال:"إني رأيتكم تفتنون في القبور، كفتنة الدجال"، قال
(1)
: فكنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ في صلاته من عذاب النار، ومن عذاب القبر.
قال: لفظ عبد الوهاب، وحديث حماد بن زيد مختصر. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أنه "قالت"، كما هو عند المصنّف، فتأمل.
(3) - (بَابُ بَيَانِ مَا عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2100]
(904) - (وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، قَالَ: حَدَّثنا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَاكَ
(1)
، فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ عُرِضَ عَلَيَّ
(2)
كُلُّ شَيْءٍ تُولَجُونَهُ، فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ، حَتَى لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا أَخَذْتُهُ، أَوْ قَالَ: تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا، فَقَصُرَتْ يَدِي عَنْهُ، وَعُرِضَتْ عَلَيَ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ: فِي النَّارِ، وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، يُرِيكُمُوهُمَا، فَإِذَا خَسَفَا فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) العبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظ [8](ت 193) عن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ) تقدّم قبل باب.
(1)
وفي نسخة: "نحوًا من ذلك".
(2)
وفي نسخة: "قد عُرِض عليّ".
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابىّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى الجماعة عنهم بلا واسطة.
4 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ) من باب ضرب؛ أي: اسودّت بالنهار، وذهب ضوؤها (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ) من باب نصر، وضَرَب؛ أي: يسقطون على الأرض؛ لطول القيام، وهو في معنى ما تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها:"حتى إن رجالًا يومئذ يُغشى عليهم، حتى إن سِجَال الماء لَتُصبّ عليهم مما قام بهم"(ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ، ثمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ) قال النوويّ رحمه الله: ظاهره أنه طوّل الاعتدال الذي يليه السجود، ولا ذكر له في باقي الروايات، ولا في رواية جابر من جهة غير أبي الزبير، وقد نقل القاضي إجماع العلماء
(1)
أنه لا يطوّل الاعتدال الذي يليه السجود، وحينئذ يُجاب عن هذه الرواية بجوابين:
(1)
دعوى الإجماع في هذا غير صحيحة؛ كما سيأتي في كلام الحافظ ردًّا على الغزاليّ، فتنبّه.
[أحدهما]: أنَّها شاذّة، مخالفة لرواية الأكثرين، فلا يُعمل بها.
[والثاني]: أن المراد بالإطالة تنفيس الاعتدال، ومَدّه قليلًا، وليس المراد إطالته نحوَ الركوع. انتهى
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله بعد نقل كلام النوويّ هذا ما نصّه: وتُعقّب بما رواه النسائيّ، وابن خزيمة، وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أيضًا، ففيه:"ثم ركع، فأطال، حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع، فأطال، حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد، فأطال، حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع، فجلس، فأطال الجلوس، حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد"، لفظ ابن خزيمة من طريق الثوريّ، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عنه، والثوريّ سمع من عطاء قبل الاختلاط، فالحديث صحيح.
قال: ولم أقف في شيء من الطرُق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلَّا في هذا
(2)
، وقد نقل الغزاليّ الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبيّ، فلا كلام، وإلا فهو محجوج بهذه الزواية. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذه الرواية مشروعيّة إطالة الجلوس بين السجدتين؛ لأنَّها زيادة ثقةٌ يجب قبولها، كما يشير إليه كلام الحافظ رحمه الله، فتنبّه.
(ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) لَمْ يذكر في الرواية تطويل السجدتين، لكن ثبت في حديث أسماء رضي الله عنها عند البخاريّ، وأحمد بلفظ:"فسجد، فأطال السجود، ثم رفع، ثم سجد، فأطال السجود"، وفي رواية سمرة بن جندب رضي الله عنهما عند أبي داود، ولفظه:"ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قطإ، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الآتي للمصنّف، بلفظ: "ثم جُلي عن الشمس، قالت عائشة: ما ركعت ركوعًا قط، ولا سجدت سجودًا قط كان أطول منه". (ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَاكَ) وفي نسخة:"من ذلك"(فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) أي:
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 206 - 207.
(2)
قد ثبت صحّة الحديث، فيتعيّن العمل به، فتبصّر.
(3)
"الفتح" 3/ 240.
ركوعات (وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: إن الأمر والشأن (عُرِضَ عَلَيَّ) بالبناء للمفعول، وفي نسخة:"قد عُرِضَ عليّ" وقوله: (كُلُّ شَيْءٍ) مرفوع على أنه النائب عن الفاعل (تُولَجُونَهُ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: تُخلونه من جنّة، ونار، وقبر، ومحشرٍ، وغيرها، ثم فصّل بعض ما أجمله في قوله:"كلُّ شيء تُولجونه" بقوله: (فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ) قال القاضي عياض: قال العلماء: يَحْتَمِلُ أنه رآهما رؤية عين كشف الله تعالى عنهما، وأزال الحجب بينه وبينهما، كما فُرِج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم:"في عُرْض هذا الحائط"؛ أي: في جهته وناحيته، أو في التمثيل لقرب المشاهدة، قالوا: وَيحْتَمِل أن يكون رؤيةَ علم وعرض وحي باظلاعه وتعريفه من أمورها تفصيلًا ما لَمْ يعرفه قبل ذلك، ومن عظيم شأنهما ما زاده علمًا بأمرهما، وخشية وتحذيرًا ودوام ذكر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا، ولضحكتم قليلًا"، قال القاضي: والتأويل الأول أولي، وأشبه بألفاظ الحديث؛ لما فيه من الأمور الدالّة على رؤية العين، كتناوله صلى الله عليه وسلم العنقود، وتأخُّره مخافةَ أن يصيبه لَفْحُ النار. انتهى كلام القاضي رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب.
(حَتَّى لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا أَخَذْتُهُ) معنى تناولت: مددت يدي لأخذه، والْقِطْف - بكسر القاف - العنقود، وهو فِعْل بمعنى مفعول، كالذِّبْح بمعنى المذبوح، وفيه أن الجَنَّة والنار مخلوقتان موجودتان اليوم، وأن في الجَنَّة ثمارًا، قال النوويّ رحمه الله: وهذا كله مذهب أصحابنا، وسائر أهل السنة، خلافًا للمعتزلة. انتهى.
(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا، فَقَصُرَتْ يَدِي عَنْهُ) أي: لَمْ تصل إليه (وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ، تُعَذبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا) أي: بسبب هرّة (رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإطعام؛ أي: لَمْ تعطها طعامًا يدفع عنها جوعها (وَلَمْ تَدَعْهَا) أي: تتركها (تَأْكُلُ) جملة في محلّ نصب على الحال (مِنْ خُشَاشِ الْأَرْضِ) بفتح الخاء المعجمة، وهي هوامُّها، وحشراتها، وقيل: صِغَار الطير، وحَكَى القاضي فتح الخاء وكسرها وضمها، والفتح هو المشهور، قال القاضي: في هذا الحديث
المؤاخذة بالصغائر، قال: وليس فيه أنَّها عُذِّبت عليها بالنار، قال: ويَحْتَمِل أنَّها كانت كافرةً، فزيد في عذابها بذلك. انتهى.
وتعقّبه النوويّ، فقال: وهذا ليس بصواب، جل الصواب المصرَّح به في الحديث، أنَّها عُذِّبت بسبب الهرّة، وهو كبيرةٌ؛ لأنَّها ربطتها، وأصرّت على ذلك حتى ماتت، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرةً، كما هو مقرَّر في كتب الفقه وغيرها، وليس في الحديث ما يقتضي كفر هذه المرأة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تعقّبٌ وجيهٌ.
وقوله أيضًا: "وليس فيه - أي: الحديث - أنَّها عُذّبت عليها بالنار" فيه نظر لا يخفي، كيف، والحديث صريح في ذلك، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"وعُرِضت على النار، فرأيت فيها امرأةُ من بني إسرائيل تُعذّب في هرّة"؛ أي: تعذّب في النار، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ) هكذا هو في هذه الرواية، وتقدّم في حديث عائشة رمنها أنه عمرو بن لُحَيّ (يَجُرُّ قُصْبَهُ) بضمّ القاف، وإسكان الصاد؛ أي: أمعاءه (فِي النَّارِ) تقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها سبب تعذيبه بذلك؛ لأنه أول من سيّب السوائب، وجاء في رواية عند ابن إسحاق في "السيرة": لأنه أول من غَيَّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيّب السائبة، وبَحَرَ البحيرة، ووصل الوصيلة، وحَمَى الحامي"
(1)
.
(وَإِنَّهُمْ) أي: الناس (كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُمَا) أي: الشمس والقمر (آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، يُرِيكُمُوهُمَا، فَإِذَا خَسَفَا) بالبناء للفاعل، من باب ضرب، وَيحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول (فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ") أفرد الضمير باعتبار الآية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 77 "كتاب المناقب" رقم (3521).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2100 و 2101 و 2102](954)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1179)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(3/ 136)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1754)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 374 و 382)، و (ابن خُزيمة) في "صحيحه"(1380 و 1381)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2843 و 2844)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 372 و 373)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2039 و 2040)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 324)، وأما فوائده، فقد تقدّمت قريبًا، وإدثه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2101]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ أبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَبَّاحِ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "وَرَأَيْتُ فِي النَّارِ امْرَأَةً حِمْيَرِيَّةً سَوْدَاءَ طَوِيلَةً"، وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ) الْمِسْمعيّ، أبو محمد الصنعانيّ، ثم البصريّ، صدوقٌ [9] (ت 200) ويقال: قبلها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
وقوله: (عَنْ هِشَام) هو الدستوائيّ.
وقوله: (حِمْيَرِيَّةً) - بكسر الحاء المهملة، وسكون الميم، وفتح الياء التحتانيّة -: نسبة إلى حِمْيَر، وهو من أصول القبائل باليمن، قاله في "اللباب"
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ) الفاعل ضمير عبد الملك بن الصبّاح.
[تنبيه]: رواية عبد الملك بن الصبّاح، عن هشام الدستوائيّ هذه لَمْ أجد
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 266.
من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2102]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، بَدَأَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَرَأَ، فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَرَأَ قِرَاءةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَرَكَعَ أَيْضًا ثَلَاثَ رَكعَاتٍ، لَيْسَ فِيهَا
(1)
رَكْعًة، إِلَّا الَّتِى قَبْلَهَا أَطْوَلُ مِنَ الَّتِى بَعْدَهَا، وَرُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ
(2)
، ثُمَّ تَأَخَّرَ، وَتَأَخَّرَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَتَّى انْتَهَى إِلَى النِّسَاءِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى قَامَ فِي مَقَامِهِ، فَانْصَرَفَ حِينَ انْصَرَفَ، وَقَدْ آضَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ"، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "لِمَوْتِ بَشَرٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلُّوا، حَتَّى تَنْجَلِيَ
(3)
، مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ في صَلَاتي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِى تَأَخرْتُ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ،
(1)
وفي نسخة: "ليس منها".
(2)
وفي نسخة: "وركوعه نحوٌ من سجوده".
(3)
وفي نسخة: "حتى تتجلّى".
كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتي رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ، حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا؛ لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانِيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ح) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، صدوقٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
5 -
(عَطَاءُ) بن أبي رباح، تقدّم قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما أنه (قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: كان يوم كسوف الشمس هو اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه مارية القبطيّة، وُلد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتُوفّي سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهرًا على الأشهر
(1)
.
(فَقَالَ النَّاسُ) أي: بعض الناس، وهم الذين كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد في الجاهلية، فبقي معهم حتى بيّن لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم كونه باطلًا (إِنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ) يعني: ابنه صلى الله عليه وسلم، قال في "الفتح": وقد ذكر جمهور أهل السير
(1)
"المنهل العذب المورود" 7/ 23.
أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل في ذي الحجة، والأكثر على أنَّها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحجِّ، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت يصحّ، وجزم النوويّ بأنها كانت سنة الحديبية، ويجاب بأنه كان يومئذ بالحديبية، ورجع منها في آخر الشهر.
وفيه ردّ على أهل الهيئة؛ لأنهم يزعمون أنه لا يقع في الأوقات المذكورة، وقد فَرَضَ الشافعيّ وقوع العيد والكسوف معًا، واعترضه بعض من اعتمد على قول أهل الهيئة، وانتدَبَ أصحاب الشافعيّ لدفع قول المعترض فأصابوا. انتهى
(1)
.
(فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في كلّ ركعة ثلاث ركوعات، وسجدتان، وهذا كما سبق يُرجح عليه رواية من قال: صلى بركوعين؛ لما سبق، وقوله:(بَدَأَ فَكَبَّرَ) بيان لكيفيّة صلاته تلك (ثُمَّ قَرَأَ، فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ) أي: ركوعًا طويلًا قريبًا من قيامه، ولم يثبت في الروايات بيان ما قاله من الأذكار في حال الركوع في تلك الصلاة، ولكنهم اتّفقوا على أنه لا قراءة فيها؛ لورود النهي عن ذلك، وإنما المشروع التسبيح والذكر (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً دُونَ الْقِرَاءةِ الْأُولَى) أي: قرأ في القيام الثاني قراءة أقلّ من القراءة في القيام الأول، واتّفقوا على أنه يقرأ في القيام الأول الفاتحة وغيرها، واختلفوا في قراءة الفاتحة في القيام الثاني، فذهب مالك، والشافعيِّ، وأحمد إلى أنَّها لا تصحّ الصلاة إلَّا بقراءتها أيضًا؛ لأنَّها تُطلب قبل كلّ ركوع، وقال محمد بن مسلمة: لا يُعيد الفاتحة في القيام الثاني؛ لأنَّها ركعة واحدة، ولا تُقرأ الفاتحة فيها مرَّتين.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله محمد بن مسلمة هو الظاهر؛
(1)
"الفتح" 3/ 403 - 404.
لأن صلاة الكسوف، وإن تعدّدت ركوعاتها، هي ركعتان، ومعلوم أن الفاتحة تقرأ في كلّ وكعة مرّة واحدة، لا مرّتين، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ رَكَعَ نَحْوًا مِمَّا قَامَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ) لَمْ يذكر في هذه الرواية تطويل الرفع من الركوع الذي يعقبه السجود، لكن تقدّم في رواية جابر الماضية بلفظ:"ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم سجد"، وادّعى النوويّ أنَّها شاذّة، وقد سبق أن الحقّ أنَّها زيادة صحيحة يجب قبولها (فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) تقدّم أنه قد ثبت إطالة السجود في حديث أسماء، وجابر بن سمرة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، فتنبّه. (ثُمَّ قَامَ، فَرَكَعَ أَيْضًا ثَلَاثَ رَكعَاتٍ) أي: ركوعات (لَيْسَ فِيهَا رَكْعَةٌ) أي: ركوع (إِلَّا الَّتِى قَبْلَهَا أَطْوَلُ مِنَ الَّتِى بَعْدَهَا، وَرُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ) هذا في النسخ بنصب "نحوًا"، ووجهه أن يكون خبرًا لـ "كان" محذوفةً؛ أي: وكان ركوعه نحوًا من سجوده، وأشار في هامش بنسخة محمد ذهني إلى أنه وقع في بعض النسخ:"نحوٌ" بالرفع، وهو واضح.
(ثُمَّ تَأَخَّرَ) صلى الله عليه وسلم عن مكانه الذي يصلي فيه (وَتَأَخَّرَتِ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ): هو ابن أبي شيبة شيخه الأول (حَتَّى انْتَهَى إِلَى النِّسَاءِ) أي: صفّ النساء (ثُمَّ تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى قَامَ فِي مَقَامِهِ) أي: في مكانه الذي كان يصلّي فيه قبل التأخّر.
قال النوويّ رحمه الله: فيه أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، وضبط أصحابنا القليل بما دون ثلاث خطوات متتابعات، وقالوا: الثلاث متتابعات تبطلها، ويتاولون هذا الحديث على أن الخطوات كانت متفرقة، لا متوالية، ولا يصح تأويله على أنه كان خطوتين؛ لأن قوله:"انتهينا إلى النساء" يخالفه، وفيه استحباب صلاة الكسوف للنساء، وفيه حضورهنّ وراء الرجال. انتهى
(1)
.
(فَانْصَرَفَ) أي: فرغ من الصلاة، وسلّم منها (حِينَ انْصَرَفَ، وَقَدْ آضَتِ
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 209.
الشَّمْسُ) بهمزة ممدودة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطه جميع الرواة ببلادنا، وكذا أشار إليه القاضي عياض، قالوا: ومعناه: رجعت إلى حالها الأول قبل الكسوف، وهو من آض يئيض إذا رجع، ومنه قولهم:"أيضًا"، وهو مصدر منه. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: آض يَئيض أيضًا، مثلُ باع يبيع بيعًا: إذا رجع، فقولهم: افعل ذلك أيضًا معناه افعله عَوْدًا إلى ما تقدّم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: واختلف النحويّون في "آض" هل هي من أخوات "كان"، فتحتاج إلى اسم وخبر، أو إنما تتعدّى إلى مفعول واحد بحرف جرّ؟ على قولين، وهذا الحديث يدلّ على أنَّها مما تعدّى إلى مفعول واحد بحرف جرّ، غير أنه حُذف هنا، وقد يُحذف جرف الجرّ، فينتصب ما يُحذف منه حرف الجرّ، كما قال:
وَآضَ رَوْضُ اللَّهْوِ يَبْسًا ذَاوِيَا
وقد رُوي هذا الحرف هنا: "أضاءت الشمس"؛ أي: ظهر ضوؤها، يقال: ضاءت الشمس، وأضاءت بمعنى واحد. انتهى
(2)
.
وقد ذكر الخضريّ رحمه الله في "حاشيته"
(3)
أفعالًا مثل "صار" في العمل والمعني، ومنها "آض"، فقال:
وقد جاء مثل "صار" في العمل والمعنى ما جمعته بقولي [من الوافر]:
بِمَعْنَى "صَارَ" فِي الأَفْعَالِ عَشْرٌ
…
تَحَوَّلَ آضَ عَادَ ارْجِعْ لِتَغْنَمْ
وَرَاحَ غَدَا اسْتَحَالَ ارْتَدَّ فَاقْعُدْ
…
وَحَارَ فَهَاكَهَا وَاللهُ أَعَلَمْ
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ"، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) يعني: ابن أبي شيبة شيخه الأول ("لِمَوْتِ بَشَرٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) أي: من انكساف الشمس والقمر (فَصَلُّوا، حَتَّى تَنْجَلِيَ، مَا مِنْ شَيْءٍ)"ما" نافية، و"من" زائدة، و"شيء" اسم "ما" الحجازيةّ، أو مبتدأ إن كانت تميميّةً، وقوله:(تُوعَدُونَهُ) صفة
(1)
"المصباح المنير" 1/ 33.
(2)
"المفهم" 2/ 559 - 560.
(3)
"حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 158 - 159.
لـ "شيء"، وقوله:(إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ) خبر "ما"، أو خبر المبتدأ على الوجهين (في صَلَاتي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخرْتُ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي) بنصب "مخافة" على أنه مفعول من أجله، وهو مصدر ميميّ لـ "خاف"؛ أي لأجل خوف (مِنْ لَفْحِهَا) بفتح اللام، وسكون الفاء، آخره حاء مهملة؛ أي: من ضرب لهبها، ومن قوله تعالى:{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [المؤمنون: 104]؛ أي: يضرب وجوههم لهبها، قالوا: النفح دون اللفح، قال الله تعالى:{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء: 46]؛ أي: أدنى شيء منه، قاله الهرويّ وغيره
(1)
.
(وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ) بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة، وفتح الجيم: هي خشبة في طرفها اعوجاجٌ، مثل الصَّوْلَجان، قال ابن دُريد: كلّ عُود معطوف الرأس فهو مِحْجَنٌ، والجمع الْمَحَاجن
(2)
. (يَجُرُّ قُصْبَهُ) بضمّ، فسكون؛ أي: أمعاءه (فِي النَّارِ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ) أي: أمتعة الحاجّ، فهو على حذف مضاف، و"أل" للجنس، وفي رواية للنسائيّ:"سارق الحجيج"(بِمِحْجَنِهِ) وفي لفظ للنسائيّ: "وحتى رأيت فيها صاحب المحجن الذي كان يسرق الحاجّ بمحجنه متّكئًا على محجنه في النار يقول: أنا سارق الْمِحْجَن".
(فَإِنْ فُطِنَ) بالبناء للمفعول، قال في "القاموس": الْفِطْنة بالكسر: الْحِذْق، فَطِنَ به، وإليه، وله؛ كفَرِح، ونَصَرَ، وكَرُمَ فَطْنًا مثلَّثةً، وبالتحريك، وبضمّتين، وفُطُونةً، وفَطَانَةً، وفطانيةً مفتوحتين، فهو فاطنٌ، وفَطِينٌ، وفَطُونٌ، وفَطِنٌ، وفَطُنٌ؛ كنَدُسٍ، وفَطْنٌ؛ كعَدْل، جمعه فُطْنٌ بالضمّ، وهي فَطِنةٌ، وفاطنةٌ. انتهى
(3)
. والمعنى: فإن انتُبهَ (لَهُ) لما فعله من السرقة بمحجنه (قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنى) أي: لست قاصدًا أخذه خُفيةً، وإنما مررت به فتعلّق بالمحجن.
وفي رواية للنسائيّ: "فان فُطِن له قال: هذا من عَمَل الْمِحْجَن".
وقال في "اللسان": وصاحب الْمِحْجَن في الجاهليّة رجلٌ كان معه مِحْجَنٌ، وكان يقعُد في جادّة الطريق، فيأخذ بمِحجنه الشيء بعد الشيء من
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 209.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 123.
(3)
"القاموس المحيط" 4/ 256.
أثاث الْمَارَّة، فإن عُثِر عليه اعتلّ بأنه تعلّق بمِحجنه. انتهى
(1)
.
(وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ) بالبناء للمفعول أيضًا (ذَهَبَ بِهِ) بالبناء للفاعل؛ أي: أخذ ذلك المتاع، وذهب به إلى رحله.
(وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ) تقدّم أنَّها امرأة من بني إسرائيل، وفي رواية من حِمْير (الَّتِي رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا) أي: تتركها (تَأَكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ)، مثلّث الخاء؛ أي: من هوامّها، وحشراتها (حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا) وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند النسائيّ:"فلا هي أطعمتها، ولا هي سقتها، حتى ماتت، فلقد رأيتها تنهشها إذا أقبلت، وإذا ولّت تنهش أَلْيتها".
وفي الحديث دليلٌ على المعاقبة بتعذيب الحيوان، وإهلاكه بغير حقّ؛ لأن هذه المرأة عُذّبت بسبب ربط هذه الهرّة حتى ماتت، وقد أخرج النسائيّ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه، قال:"من قتل عصفورًا في فوقها بغير حقّها، سأل الله عز وجل عنها يوم القيامة"، قيل: يا رسول الله في حقها؟ قال: "حقُّها أن تذبحها، فتأكلها، ولا تقطع رأسها، فيرمى بها"
(2)
.
(ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ، حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا؛ لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا) أي: ظَهَر (لِي أَنْ لَا أفعَلَ) وقوله: (فَمَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاِتي هَذِهِ") تأكيد لما قبله.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، دماليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2103]
(905) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ
(1)
راجع: "لسان العرب" في مادّة حجن.
(2)
حسَّنه الشيخ الألبانيّ، وفيه نظر؛ لأن في سنده صهيبًا الحذَّاء، لَمْ يرو عنه إلَّا عمرو بن دينار، فهو مجهول حال.
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِيَ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ يُصَلُّونَ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا اِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؛ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِيَامَ جدًّا، حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُّ، فَأَخَذْتُ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ إِلَى جَنْبِي، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، أَوْ عَلَى وَجْهِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَتْ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُهُ، إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا، أَوْ مِثْلَ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ - لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْمُوقِنُ - لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ، هُوَ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَأَطَعْنَا، ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ، قَدْ كنَّا نَعْلَمُ إِنَّكَ لَتُؤْمِنُ بِهِ
(1)
، فَنَمْ صَالِحًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ، أَوِ الْمُرْتَابُ - لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير المذكور في السند الماضي.
3 -
(هِشَامُ) بن عروة، تقدّم قبل باب.
4 -
(فَاطِمَةُ) بنت المنذر بن الزبير بن الْعَوّام، زوج هشام بن عروة الراوي عنها، ثقةٌ [3](ح) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.
5 -
(أَسْمَاءُ) بنت أبي الصدّيق رضي الله عنهما، زوج الزبير بن الْعَوّام رضي الله عنه، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة (3 أو 74)(ح) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
(1)
وفي نسخة: "إنك لمؤمنٌ".
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقيان كوفيّان.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة، عن صحابيّة، هي جدّتهما.
شرح الحديث:
(عَنْ فَاطِمَةَ) بنت المنذر بن الزبير، وهي زوج هشام الراوي عنها، وبنت عمة (عَنْ أَسْمَاءَ) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما (قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ) تقدّم أنه من باب ضرب، وأنه يقال للشمس والقمر على الصحيح (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في وقته (فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (وَهِيَ تُصَلِّي) جملة حاليّة من "عائشة"(فَقُلْتُ) أي: لمّا رأت من اضطرابهم (مَا شَأْنُ النَّاسِ)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء حال الناس؟ (يُصَلُّونَ) جملة حاليّة من "الناس"؛ أي: حال كونهم مصلين صلاة الخسوف (فَأَشَارَتْ) أي: عائشة رضي الله عنها (بِرَأسِهَا إِلَى السَّمَاءِ) تعني بذلك إلى أن الشمس خسفت، وأن ذلك هو سبب اضطرابهم (فَقُلْتُ: آيَةٌ؟) بالرفع على أنه خبر لمحذوف، وهو بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أهذه آيةٌ؛ أي: علامة لعذاب الناس، كأنها مقدّمة له، قال الله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، أو علامة لقرب زمان القيامة، وأمارة من أماراتها، أو علامة لكون الشمس مخلوقة داخلة تحت النقص، مسخَّرة لقدرة الله تعالى، ليس لها سلطة على غيرها، بل لا قدرة لها على الدفع عن نفسها.
[فإن قلت]: ما تقول فيما قال أهل الهيئة: إن الكسوف سببه حيلولة القمر بينها وبين الأرض، فلا يُرَى حينئدٍ إلَّا لون القمر، وهو كَمِدٌ لا نور له، وذاك لا يكون إلَّا في آخر الشهر، عند كون النَيِّرَين في إحدى عقدتي الرأس والذنب، وله آثار في الأرض، هل جاز القول به أم لا؟.
[قلت]: المقدمات كلُّها ممنوعة، ولئن سلمنا فإن كان غرضهم أن الله
تعالى أجرى سنته بذلك، كما أجرى باحتراق الحطب اليابس عند مساس النار له، فلا بأس به، وإن كان غرضهم أنه واجب عقلًا، وله تأثير بحسب ذاته فهو باطل؛ لما تقرر أن جميع الحوادث مستندة إلى إرادة الله تعالى ابتداءً، ولا مؤثر في الوجود إلَّا الله تعالى، قاله في "العمدة"
(1)
.
(قَالَتْ: نَعَمْ) المراد أنَّها أشارت بـ "نعم"، ففي رواية البخاريّ: "قلت: آية؟
فأشارت برأسها؛ أي: نعم"، فدلّ على أنَّها ما تكلّمت بلسانها، وإنما أشارت برأسها، فلا يقال: كيف تكلّمت، وهي في الصلاة؟ (فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِيَامَ جِدًّا، حَتَّى تَجَلَّانِي) - بفتح التاء المثناة، والجيم، وتشديد اللام - وأصله تجلَّلني؛ أي: علاني، وغطّاني، قال في "العباب": تجلّله أي: علاه، وهو مثل: تقضّى البازي، أصله تقضض، فاستثقلوا ثلاث ضادات، فأبدلوا من إحداهن ياء، وكذلك استثقلوا ثلاث لامات، فأبدلوا من إحداهن ياء
(2)
.
(الْغَشْيُ) بفتح الغين، وإسكان الشين المعجمتين، ورُوي أيضًا بكسر الشين، وتشديد الياء، وهما بمعنى الغِشَاوة، وهو مرض يحصل بطول القيام في الحرّ، وفي غير ذلك من الأحوال، ولهذا جعلت تصبّ عليها الماء، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال ابن بطّال: الْغَشي: مرضٌ يَعرِض من طول التعب والوقوف، وهو ضربٌ من الإغماء، إلَّا أنه دونه، وإنما صبّت أسماء الماء على رأسها مدافعةً له، ولو كان شديدًا لكان كالإغماء، وهو ينقض الوضوء بالإجماع. انتهى. وكونها كانت تتولّى صبّ الماء عليها يدلُّ على أن حواسّها كانت مُدركة، وذلك لا ينقض الوضوء، قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال في "العمدة": "الغشي" بفتح الغين المعجمة، وسكون الشين المعجمة، وفي آخره ياء آخرُ الحروف مخففة، مِن غَشِيَ عليه غَشْيَةً وغَشْيًا
(1)
"عمدة القاري" 2/ 145، "كتاب العلم" رقم (86).
(2)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 140 - 141.
(3)
"شرح النووي" 6/ 210.
(4)
"الفتح" 1/ 495.
وغَشَيَانًا، فهو مَغْشِيّ عليه، واستغشى بثوبه، وتغشى؛ أي: تغطى به، وقال القاضي: رَوَيناه في مسلم وغيره بكسر الشين، وتشديد الياء، وبإسكان الشين والياء، وهما بمعنى الغِشَاوة، وذلك لطول القيام، وكثرة الحرّ ولذلك قالت: (فجَعَلتُ أَصُبُّ على رأسي، أو على وجهي من الماء".
قال الكرمانيّ: "الغَشِيّ" بكسر الشين، وتشديد الياء: مرض معروف، يحصل بطول القيام في الحز وغير ذلك، وعرَّفه أهل الطب بأنه تَعَطُّل القُوَى المحركة والحساسة؛ لضعف القلب، واجتماع الروح كله إليه.
[فإن قلت]: إذا تعطلت القُوَى فكيف صبت الماء؟.
[قلت]: أرادت بالغشي الحالة القريبة منه، فأطلقت الغشي عليها مجازًا، أو كان الصبّ بعد الإفاقة منه.
قال بعض الشارحين: ويروى بعين مهملة، قال القاضي: ليس بشيء، وفي "المطالع": الغَشِيّ بكسر الشين وتشديد الياء، كذا قيّده الأصيليّ، ورواه بعضهم الغَشْي، وهما بمعنى واحد، يريد الغِشَاوة، وهو الغطاء، ورويناه عن الفقيه ابن محمد، عن الطبريّ "العَشي" بعين مهملة، وليس بشيء. انتهى
(1)
.
(فَأَخَذْتُ قِرْبَة) بكسر القاف، وإسكان الراء، جمعها قِرَبٌ، مثلُ سدرة وسِدَر، وهي إناء من جلد، يكون للبن، وللماء (مِنْ مَاءٍ إِلَى جَنْبِي، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، أَوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قالت: (عَلَى وَجْهِي مِنَ الْمَاءِ،) قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنه لَمْ تكثر أفعالها متوالية؛ لأن الأفعال إذا كثرت متوالية أبطلت الصلاة. انتهى
(2)
.
(قَالَتْ) أسماء رضي الله عنها (فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: سلّم من صلاته (وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) جملة حاليّة من الفاعل (فَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ) أي: بعد ما تقدّم من الحمد والثناء (مَا) نافية، وتقدَّم أنَّها إما حجازيّة، أو تميميّة (مِنْ) زائدة (شَيْءٍ) وقوله:(لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُهُ) في محل الرفع؛ لأنه صفة لـ "شيء"، وهو مرفوع في الأصل، وإن كان جر بـ "من" الزائدة، واسم "يكن" ضمير مستتر فيه، وقوله:(إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ)
(1)
"عمدة القاري" 2/ 143.
(2)
"شرح النووي" 6/ 210.
جملة في محل النصب على أنَّها خبر "لَمْ أكن"، والاستثناء هنا مفرَّغ، وقالت النحاة: كلّ استثناء مفرغ متصل، ومعناه أن ما قبل "إلَّا" مفرع للعمل فيما بعدها؛ إذ الاستثناء من كلام غير تامّ، فيُلْغَى فيه إلَّا من حيث العمل، لا من حيث المعني، نحو ما جاءني إلَّا زيدٌ، وما رأيت إلَّا زيدًا، وما مررت إلَّا بزيد، فالفعل الواقع هاهنا قبل "إِلَّا" مفرغّ لما بعدها، و"إلَّا" هنا بمنزلة سائر الحروف التي تغير المعنى دون الألفاظ، نحو "هل"، وغيره، ولا يجوز هذا إلَّا في المنفيّ، فافهم
(1)
.
وقوله: (فِي مَقَامِي) بفتح الميم، والجارّ يتعلّق بحال محذوف؛ أي: حال كوني كائنًا في مكاني، وقوله:(هَذَا) بدل، أو عطف بيان لـ "مقامي"(حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ) يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، أما الرفع فعلى أن تكون "حتى" ابتدائيّةً، و"الجَنَّة" مرفوعًا على الابتداء، وحذف خبره؛ أي: حتى الجنّة مرئيّة، و"النار" عطف عليه، كما في قوله:"أكلت السمكة حتى رأسُها" برفع الرأس؛ أي: رأسُها مأكولٌ، وهو أحد الأوجه الثلاثة فيه، وأما النصب فعلى أن تكون "حتى" عاطفةً عَطَفت "الجَنَّة" على الضمير المنصوب في "رأيته"، وأما الجر فعلى أن تكون "حتى" جارةً، أو عاطفة على المجرور السابق، وهو "شيء"، وإن لزم عليه زيادة "مِنْ" مع المعرفة، والصحيح منعه؛ لأنه يُغْتَفر في التابع ما لا يُغتَفر في المتبوع، ولأن المقدَّر ليس كالملفوظ به.
[فإن قلت]: مفادُ الإغياء أنه صلى الله عليه وسلم لم ير الجَنَّة والنار قبل هذا الوقت، مع أنه رآهما ليلة المعراج، وهو قبل الكسوف بزمان بلا شكّ.
[قلت]: أجيب بأن المراد هنا رؤيتهما في الأرض، بدليل قوله:"في مقامي هذا"، أو باختلاف الرؤية، أفاده الزرقانيّ رحمه الله
(2)
.
(وَإِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: إن الحال والشان (قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ) بالبناء للمفعول (أَنَّكُمْ) بفتح الهمزة؛ لوقوعه مفعولًا به، وهو النائب عن الفاعل (تُفْتَنُونَ) أي: تُمْتَحَنُون وتُخْتَبرون (فِي الْقُبُورِ) قال الباجيّ رحمه الله: يقال: إنه أُعلم بذلك في ذلك الوقت، قال: وليس الاختبار في القبر بمنزلة التكليف والعبادة،
(1)
"عمدة القاري" 2/ 142.
(2)
"شرح الزرقانيّ" 1/ 538.
وإنما معناه إظهار العمل، وإعلامٌ بالمآل والعاقبة، كاختبار الحساب؛ لأن العمل والتكليف قد انقطع بالموت. انتهى.
(قَرِيبًا، أَوْ) للشكّ من الراوية، وهي فاطمة، شكّت هل قالت أسماء:"قريبًا من فتنة المسيح الدجّال"، أو قالت:(مِثْلَ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّال) ولذلك قالت: (لَا أَدْرِي) أي: لا أعلم (أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ) بحذف الضمير المنصوب؛ أي: قالته؛ تعني: أنَّها لا تعلم أيَّ الجملتين المذكورتين قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
قال في "العمدة": "أيّ" يجوز أن تكون استفهاميةً، وموصولةً، فإن كانت استفهامية يكون فعل الدراية معلقًا بالاستفهام؛ لأنه من أفعال القلوب، ويجوز أن تكون أيّ مبنيةً على الضم، مبتدأ على تقدير حذف صدر صلته، والتقدير: لا أدري أيُّ ذلك هو قالته أسماء، وإن كانت موصولة تكون أيّ منصوبةً بأنها مفعول "لا أدري"، ويجوز أن يكون انتصابها بـ "قالت"، سواء كانت "أيّ" موصولةً، أو استفهاميةً، ويجوز أن تكون مِن شَرِيطة التفسير، بأن يشتغل "قالت" بضميره المحذوف. انتهى
(1)
.
وعند النسائيّ والإسماعيليّ، عن أسماء:"قام خطيبًا، فذكر فتنة القبر التي يُفتن فيها المرء"، فلما ذَكَر ذلك ضجّ المسلمون ضجَّةً، حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكت ضجيجهم، قلت لرجل قريب مني: بارك الله فيك ماذا قال في آخر كلامه، قال: قال: "قد أوحيّ إلي أنكم تفتنون في القبور قريبًا من فتنة الدجال".
وللبخاريّ من طريق فاطمة، عن أسماء أيضًا:"أنه لَغَط نسوة من الأنصار، وإنها ذهبت لِتُسَكِّتهنّ"، فاستفهمت عائشة عما قال.
قال الحافظ رحمه الله: يجمع بين هذه الروايات بأنها احتاجت إلى الاستفهام مرتين، وأنها لَمَّا حدثت فاطمة لَمْ تبيّن لها الاستفهام الثاني، قال: ولم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه على ذلك إلى الآن. انتهى
(2)
.
(فَيُؤْتَى أَحَدُكُمْ) هذا بيان لقوله: "تفتنون"؛ أي: يؤتى في قبره ملكان:
(1)
عمدة القاري" 2/ 144.
(2)
راجع: "شرح الزرقانيّ" 1/ 539.
منكر ونكير (فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ)"ما" استفهاميّة مبتدأ، و"علمك" خبره، والجملة مقول القول، والخطاب فيه للمقبور، بدليل قوله:"تفتنون في قبركم"، ولكنه عدل عن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد؛ لأن السؤال عن العلم يكون لكل واحد بانفراده واستقلاله.
قال في "العمدة": قيل: قد يُتَوَهَّم أن فيه التفاتًا؛ لأنه انتقال من جمع الخطاب إلى مفرد الخطاب، كما قال المرزوقي في شرح الحماسة في قوله:
أَحْمِى أَبَاكُنّ يَا لَيْلَى الأَمَادِيَح
إنه التفات، وكما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1].
ثم أجاب بأن الجمهور من أهل المعاني على خلاف ذلك، ولا يسمى هذا التفاتًا، إلَّا على قول من يقول: إن الالتفات هو انتقال من صيغة إلى صيغة أخرى، سواء كان من الضمائر بعضِها إلى بعض، أو من غيرها، والتفسير المشهور أن الالتفات هو التعبير عن معنَى بطريق من الطرق الثلاثة، بعد التعبير عنه بطريق آخر من الطرق الثلاثة، وهي التكلم، والخطاب، والغيبة، أما الشِّعر فإن فيه تخصيص الخطاب بعد التعميم؛ لكون المقصود الأعظم هو خطابَ ليلي، وأما الآية فقد قال الزمخشريّ: خَصّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعمّ بالخطاب؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إمام أمته، وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت؛ إظهارًا لتقدمه، واعتبارًا لترؤسه، وأنه مِدْرَهُ قومه
(1)
ولسانهم، والذي يصدر عنهم رأيه، ولا يستبدّون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وسادًّا مسدَّ جميعهم. انتهى
(2)
.
(بِهَذَا الرَّجُلِ؟) أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنما لَمْ يقل: بي؛ لأنه حكاية عن قول الملائكة للمقبور، والقائل هما الملكان السائلان المسمّيان بمنكر ونكير.
وإنما يقول له الملكان السائلان: "ما علمك بهذا الرجل"؟، ولا يقولان:
(1)
قال في "القاموس" 4/ 283: الْمِدْرَهُ كمِنْبَر: السيّد الشريف، والْمُقْدِمُ في اللسان واليد عند الخصومة والقتال. انتهى.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 146.
"رسول الله"؛ امتحانًا له، وإغرابًا عليه؛ لئلا يتلقن منهما إكرام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورفع مرتبته، فيعظمه هو تقليداً لهما، لا اعتقادًا، ولهذا يقول المؤمن: هو رسول الله، ويقول المنافق: لا أدري، فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]. انتهى
(1)
.
(فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ) كلمة "أما" للتفصيل تتضمن معنى الشرط، فلذلك دخلت في جوابها الفاء، وهو قوله:"فيقول هو محمد"(أَوِ) للشكّ من فاطمة أيضاً (الْمُوقِنُ) أي: المصدّق بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الباجيّ: والأظهر أنه "المؤمن"؛ لقوله: "فآمنا"، دون "أيقنّا"، ولقوله:"لمؤمن". انتهى.
وقوله: (لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ) جملة معترضة بين "أمَّا" وجوابها، وهو قوله:(فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ، هُوَ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أي: المعجزات الدالة على نبوته (وَالْهُدَى) أي: الدلالة الموصلة إلى البغية، أو الإرشاد إلى الطريق الحق الواضح (فَأَجَبْنَا، وَأَطَعْنَا) أي: قبلنا نبوّته معتقدين حقيقتها، معترفين بها، وأطعناه فيما جاء به إلينا. وقوله:(ثَلَاثَ مِرَارٍ) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: يقول المؤمن هذا الجواب قولاً ثلاث مرّات، وإنما كرّره تأكيداً له (فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ) بفتح النون فعل أمر من نام ينام، كخاف يخاف، وأصله انوَم، نُقلت فتحة الواو إلى النون الساكنة، وحُذفت همزة الوصل؛ للاستغناء عنها، ثم قُلبت الواوألفاً؛ لتحرّكها بحسب الأصل، وانفتاح ما قبلها الآن، (قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنَّكَ لَتُؤْمِنُ بِهِ) وفي بعض النسخ:"إنك لمؤمنٌ"(فَنَمْ صَالِحاً) منصوب على الحال، ومعنى "صالحاً" أي: منتفعاً بأعمالك، وأحوالك؛ إذ الصلاح كون الشيء في حدّ الانتفاع، ويقال: لا رَوْعَ عليك مما يُرَوَّع به الكفار، من عرضهم على النار، أو غيره من عذاب القبر، ويجوز أن يكون معناه: صالحاً لأن تُكْرَم بنعيم الجنة
(2)
.
قال الباجيّ رحمه الله: أراد بالنوم العود لِمَا كان عليه من الموت، سمّاه نوماً لِمَا صَحِبه من الراحة، وصلاح الحال. انتهى.
(1)
"شرح النووي" 6/ 210.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 146.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند سعيد بن منصور: "فيقال له: نَمْ نومة عَرُوس، فيكون في أحلى نومة نامها أحدٌ، حتى يُبعَث".
وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ويقال له: نَمْ، فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك".
وفي حديث أنس رضي الله عنه في "الصحيحين": "فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا".
ولابن حبَّان، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها:"ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مِتَّ، وعليه تبعث إن شاء الله".
وفي البخاريّ ومسلم، عن قتادة:"ذُكِر لنا أنَّه يُفْسَح له في قبره سبعون ذراعًا، ويُملأ خُضْرًا إلى يوم يبعثون".
وفي الترمذيّ، وابن حبَّان، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فيُفْسَح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا، ويُنَوَّر له كالقمر ليلة البدر".
وفي حديث البراء رضي الله عنه: "فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، أفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا في الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويُفْسَح له مَدّ بصره"، زاد ابن حبَّان من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فيزداد غِبْطَةً وسرورًا، ويعاد الجلد إلى ما بدأ منه، وتجعل روحه في نسمة طائر، يعلق في شجر الجنة"
(1)
.
(وَأَمَّا الْمُنَافِقُ) أي: غير المصدّق بقلبه لنبوّته صلى الله عليه وسلم، وهو في مقابلة "المؤمن" (أَوِ الْمُرْتَابُ) أي: الشاكّ، وهو في مقابلة "الموقن".
[فائدة]: "المرتاب" من الألفاظ التي يشترك فيها الفاعل والمفعول، كالمختار، والمنقاد، ونحو ذلك، ويُفرّق بينهما بالقرينة، فأصله في الفاعل مُرْتَيِبٌ بكسر الياء، وفي المفعول مُرْتَيَبٌ بفتحها، فقلبت الياء فيهما؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، وهو من الرَّيب، وهو الشكّ، فافهم.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 168 "كتاب الجنائز" رقم (1374).
وقولها: (لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ) جملة معترضة بين "أما" وجوابها أيضًا، وهو من قول فاطمة أيضًا (فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي) أي: لا أعلم من هو هذا الرجل؟ (سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ") وفي رواية البخاريّ: "فقلته"؛ أي: قلت ما كان الناس يقولونه.
وزاد الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه: "فيقولان: لا دريتَ، ولا تليتَ"، ولعبد الرزاق:"لا دريت، ولا أفلحت، ويضربانه بِمطرقة من حديد ضربةً"، وفي حديث البراء رضي الله عنه:"لو ضُرِب بها جبل لصار ترابًا"، وفي حديث أسماء رضي الله عنها:"ويُسَلَّط عليه دابة في قبره، معها سوط، تمرته جمرة، مثل عرف البعير تضربه ما شاء الله لا تسمع صوته فترحمه"، وزاد في أحاديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة رضي الله عنهم:"ثمَّ يُفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، وأما إذ كفرت، فإن الله أبدلك هذا، ويُفتح له باب إلى النار"، زاد في حديث أبي هريرة:"فيزداد حسرةً وثبورًا، ويُضَيَّق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه"، وفي حديث البراء:"فينادي منادٍ من السماء: أفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حَرِّها وسَمُومها"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2103 و 2104 و 2105](905) و [2106 و 2107 و 2108](906)، و (البخاريّ) في "العلم"(86) و"الوضوء"(184) و"الجمعة"(922) و"الكسوف"(1053 و 1061) و"السهو"(1235) و"الجنائز"(1373) و"الاعتصام"(7287)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 188 - 189)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 345)، و (أبو عوانة) في "مسنده"
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 166 - 168 "كتاب الجنائز" رقم (1374).
(2/ 368 و 369 و 370)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2036 و 2037 و 2038)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(3114)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن كسوف الشمس يُصَلَّى له، وقد تقدم بيان ذلك والحمد لله.
2 -
(ومنها): أن الشمس إذا كَسَفت بأقل شيء منها شُرعت الصلاة لذلك على سنتها، ألا ترى إلى قول أسماء رضي الله عنها: ما للناس؟ وأشارت لها عائشة رضي الله عنها بيدها نحو السماء، فلو كان كسوفًا بيّنًا ما خَفِي عن أسماء ولا غيرها، حتى تحتاج أن يشار إلى السماء، وقد استدل بهذا بعضهم على سرّية القراءة في صلاة الكسوف، وقد عرفت الردّ عليه.
3 -
(ومنها): أن المصلي إذا كُلِّم أشار، وسبَّح، ولم يتكلم؛ لأنَّ الكلام ممنوع منه في الصلاة.
4 -
(ومنها): أن النساء يسبّحن إذا نابهن شيء في الصلاة، وقد مضى قوله صلى الله عليه وسلم:"من نابه شيء في صلاته، فليسبّح، فإنما التصفيق للنساء"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء".
5 -
(ومنها): أن إشارة المصلي برأسه وبيده لا بأس بها.
6 -
(ومنها): أن قولها: "فقمت حتى تجلاني الغشي" دليل على طول القيام في صلاة الكسوف.
7 -
(ومنها): أن الغشي الخفيف لا ينقض الوضوء، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله على هذا في "صحيحه"، فقال:"باب من لم يتوضّأ إلا من الغشي المثقل"، ثمَّ أورد حديث أسماء رضي الله عنها هذا، ومحلّ الاستدلال منه أنها صلّت وأنّ الغشي تجلاها، وهي كانت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة يرى ما يفعله الذي خلفه، ولم يُنكر عليها ذلك، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تفتنون في قبوركم"، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: أراد به فتنة الملكين: منكر ونكير، حين يسألان العبد مَن ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟، والآثار بذلك متواترة، وأهل السنة والجماعة، وهم أهل الحديث والرأي في أحكام شرائع الإِسلام، كلهم مُجمعون على الإيمان
والتصديق بذلك، إلا أنهم لا يتكلفون فيه شيئًا، ولا ينكره إلا أهل البدع.
رَوَى شعبة، عن علقمة بن مَرْثد، عن سعد بن عُبيدة، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} الآية [إبراهيم: 27]، قال: في القبر إذا سئل مَن ربك، وما دينك؟ ومن نبيك؟، ورواه الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن البراء رضي الله عنه موقوفًا
(1)
.
9 -
(ومنها): بيان كون الجنة والنار مخلوقتين اليوم، وهو مذهب أهل السنة، ويدل عليه الآيات والأخبار المتواترة، مثل قوله تعالى:{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} الآية [الأعراف: 22]، وقوله:{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 14 - 15]، وقوله:{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} الآية [آل عمران: 133] إلى غير ذلك من الآيات، وتواتر الأخبار في قصة آدم عليه الصلاة والسلام عن الجنة، ودخوله إياها، وخروجه منها، ووعده الرد إليها، كل ذلك ثابت بالقطع.
قال إمام الحرمين رحمه الله: أنكر طائفة من المعتزلة خلقهما قبل يوم الحساب والعقاب، وقالوا: لا فائدة في خلقهما قبل ذلك، وحملوا قصة آدم على بستان من بساتين الدنيا، قال: وهذا باطل، وتلاعب بالدين، وانسلال عن إجماع المسلمين.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ رحمه الله: الجنة مخلوقة مهيأة بما فيها، سقفُها عرش الرحمن، وهي خارجة من أقطار السماوات والأرض، وكل مخلوق يفنى ويجدد أو لا يجدد إلَّا الجنة والنار، وليس للجنة سماء إلَّا ما جاء في "الصحيح" يعني قوله صلى الله عليه وسلم:"وسقفها عرش الرحمن"، ولها ثمانية أبواب، وروي أنها كلها مُغلقة إلَّا باب التوبة، مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها.
10 -
(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: في الحديث ذمّ التقليد، وأنه لا يستحق اسم العلم التامّ على الحقيقة.
وتعقّبه ابن الْمُنَيِّر بأن ما حُكِي عن حال المجيب لا يدلّ على أنَّه كان
(1)
"الاستذكار" 2/ 422 - 424.
عنده تقليد معتبر، وهو الذي لا وهنَ عند صاحبه، ولا شك، وشرطه أن يعتقد كونه عالِمًا، ولو شعر بأن مستنده كون الناس قالوا شيئًا فقاله لم يحلّ اعتقاده، ورجع شكًّا، فعلى هذا لا يقول المعتقد المصمِّم يومئذ: سمعت الناس يقولون؛ لأنه يموت على ما عاش عليه، وهو في حال الحياة قد قرّرنا أنَّه لا يشعر بذلك، بل عبارته هناك إن شاء الله مثلها هنا من التصميم، وبالحقيقة فلا بدّ أن يكون للمصمّم أسبابٌ حملته على التصميم، غير مجرد القول، وربما لا يمكن التعبير عن تلك الأسباب، كما نقول في العلوم العادية: أسبابها لا تنضبط. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2104]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، وَإِذَا هِيَ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ ربّما دلّس، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
والباقون ذُكرو قبله.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير أبي أسامة.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة، عن هشام هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال: وقال محمود: حدّثنا أبوأسامة، قال: حدّثنا هشام بن عروة، قال: أخبرتني فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، قالت: دخلت
(1)
راجع: "شرح الزرقانيّ" 1/ 541.
على عائشة رضي الله عنها، والناس يصلّون، قلت: ما شأن الناس؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقلت: آية؟، فأشارت برأسها؛ أي: نعم، قالت: فأطال رسول الله صلى الله عليه وسلم جدًّا حتى تجلاني الغشي، وإلى جنبي قِربة فيها ماء، ففتحتها، فجعلت أصبّ منها على رأسي، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تجلت الشمس، فخطب الناس، وحمد الله بما هو أهله، ثمَّ قال:"أما بعدُ"، قالت: ولَغَطَ نسوة من الأنصار، فانكفأت إليهن لأسكّتهنّ، فقلت لعائشة: ما قال؟ قالت: قال: "ما من شيء لم أكن أُريته إلا قد رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار، وإنه قد أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريب من فتنة المسيح الدجال، يؤتى أحدكم، فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن، أو قال: الموقن - شكّ هشام - فيقول: هو رسول الله، هو محمَّد صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا وأجبنا، واتبعنا، وصدقنا، فيقال له: نَمْ صالحًا، قد كنا نعلم إن كنت لتؤمن به، وأما المنافق، أو قال: المرتاب - شك هشام - فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلت" - قال هشام -: فلقد قالت لي فاطمة: فأوعيته، غير أنها ذكرت ما يُغَلَّظ عليه. انتهى.
هكذا ساقه البخاريّ بلفظ: "وقال محمود"، وهو شيخه محمود بن غيلان، وقد وصله أبو نعيم في "مستخرجه"، فقال: حدّثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عُبيد بن غنّام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة، فساقه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم ابن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2105]
(
…
) - (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: لَا تَقُلْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ قُلْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدَّم قبل باب.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدَّم في الباب الماضي.
3 -
(الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم، تقدَّم قبل باب.
و"عروة" ذُكر قبله.
وقوله: (لَا تَقُلْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ قُلْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ) هذا قول انفرد به عروة، والحقّ أنَّه يقال: كَسَفَت الشمسُ، وخَسَفَت، وكذا كَسَفَ القمرُ، وخَسَفَ؛ لورود الأدلّة الصحيحة الكثيرة بذلك، كما أسلفنا تحقيقه في أول "كتاب الكسوف"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2106]
(906) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: فَزِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، قَالَتْ: تَعْنِي يَوْمَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَأَخَذَ دِرْعًا، حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ، فَقَامَ لِلنَّاسِ قِيَامًا طَوِيلًا، لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَتَى لَمْ يَشْعُرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكَعَ، مَا حَدَّثَ أَنَّهُ رَكَعَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ).
رجال الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدَّم قبل باب.
4 -
(مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن طلحة بن الحارث الْعَبْدريّ الْحَجَبيّ المكيّ، وهو ابن صفيّة بنت شيبة، ثقةٌ [5](ت 7 أو 138)(خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 3/ 699.
5 -
(صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ) بن عثمان بن طلحة الْعَبدريّة، لها رؤية، وحدّثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي "صحيح البخاريّ" التصريح بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنيّ إدراكها (ع) تقدّمت في "الحيض" 3/ 699.
و"أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ" ذُكرت قبله.
وقولها: (فَزِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ"فَزِعَ"، وهو بفتح، فكسر، يقال: فَزِعَ منه، فهو فَزِعٌ، من باب تَعِبَ: خاف، قال القاضي عياضٌ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون معناه الفزع الذي هو الخوف، كما في الرواية الأخرى:"يخشى أن تكون الساعة"، ويَحْتَمِل أن يكون معناه الفزع الذي هو المبادرة إلى الشيء؛ أي: فبادر إلى الصلاة. انتهى ببعض تصرّف
(1)
.
وقولها: (فَأَخَذَ دِرْعًا، حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ) وفي الرواية الآتية: "فأخطأ بدرع حتى أُدرك بردائه بعد ذلك"، والمراد من الدرع هنا ثوب المرأة، وليس درع حديد الحرب، والمعنى أنَّه صلى الله عليه وسلم لانزعاجه، وشدّة سرعته، واهتمامه أراد أن يأخذ رداءه، فأخطأ، وأخذ درع بعض أهل البيت سهوًا، ولم يعلم ما فَعَلَ؛ لاشتغال قلبه بأمر الكسوف، فلما علم بعض أهل البيت بذلك لَحِقه بردائه، والله تعالى أعلم.
وقولها: (لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَتَى لَمْ يَشْعُرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكَعَ، مَا حَدَّثَ أَنَّهُ رَكَعَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ) معناه: أنَّه لو أتى إنسانٌ لم يعرف أنه صلى الله عليه وسلم ركع قبل هذا لم يحدّث بركوعه صلى الله عليه وسلم لطول القيام الذي بعد الركوع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2107]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: قِيَامًا طَوِيلًا، يَقُومُ ثُمَّ يَرْكَعُ، وَزَادَ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَرْأَةِ أَسَنَّ مِنِّي، وَإِلَى الْأُخْرَى هِيَ أَسْقَمُ مِنِّي).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ ربّما أخطأ [10](ت 249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
2 -
(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو
(1)
"إكمال المعلم" 3/ 346.
أيّوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الْجَمَل، صدوقٌ يُغرب، من كبار [9](ت 194) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
و"ابن جُريج" ذُكر قبله.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي: بإسناد ابن جُريج السابق، وهو: عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفيّة بنت شيبة، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
وقوله: (وَزَادَ) فاعله ضمير يحيى بن سعيد الأمويّ.
وقولها: (فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَرْأَةِ أَسَنَّ مِنِّي، وَإِلَى الْأُخْرَى هِيَ أَسْقَمُ مِنِّي) أرادت بذلك أنها كلما استشعرت من نفسها التعب من طول القيام، وأرادت أن تصلي جالسة، تنظر إلى بعض النساء اللاتي هنّ أضعف منها بكثير، ومع ذلك يصلّين قائمات، فتشجّع نفسها بذلك على القيام، وهو بمعنى قولها الآتي:"حتى إني أريد أن أجلس، ثمَّ ألتفت إلى المرأة الضعيفة، فأقول: هذه أضعف مني، فأقوم".
[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن منصور بن عبد الرحمن هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (6/ 349) فقال: حدّثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: حُدِّثت عن أسماء بنت أبي بكر، أنها قالت: فَزِع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس، فأخذ درعًا، حتى أُدرك بردائه، فقام بالناس قيامًا طويلًا يقوم، ثمَّ يركع، قالت: فجعلت أنظر إلى المرأة التي هي أكبر مني قائمةً، وإلى المرأة التي هي أسقم مني قائمةً، فقلت:"إني أحق أن أصبر على طول القيام منك".
وقال ابن جريج: حدّثني منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن أسماء بنت أبي بكر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فزع. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2108]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: كَسَفَتِ
الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَفَزِعَ، فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ، حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، ثُمَّ جِئْتُ، وَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، حَتَّى رَأَيْتُنِي أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ، ثُمَّ أَلْتَفِتُ إِلَى الْمَرْأَةِ الضَّعِيفَةِ، فَأَقُولُ: هَذِهِ أَضْعَفُ مِنِّي، فَأَقُومُ، فَرَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْكَعْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانُ) بن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (فَفَزِعَ، فَأَخْطَأَ بِدِرْعٍ، حَتَّى أُدْرِكَ بِرِدَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ) قال النوويّ رحمه الله: معناه أنَّه لشدة سرعته واهتمامه بذلك، أراد أن يأخذ رداءه، فأخذ درع بعض أهل البيت سهوًا، ولم يعلم ذلك؛ لاشتغال قلبه بأمر الكسوف، فلما عَلِمَ أهل البيت أنَّه ترك رداءه لحقه به إنسان. انتهى.
وقولها: (فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، ثُمَّ جِئْتُ
…
إلخ) معناه أن أسماء رضي الله عنها بعد أن شاهدت ما كان الناس عليه، وسألت عائشة رضي الله عنها عن ذلك، وأجابتها بالإشارة، وفهمت منها رجعت إلى بيتها فقضت حاجتها، وتوضّأت، ثمَّ جاءت إلى المسجد، فدخلت في صفوف النساء تصلي
…
إلى آخر كلامها.
وقولها: (حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ) أي: ممن لم ير ركوعه صلى الله عليه وسلم، ورفعه منه.
وقولها: (خُيِّلَ إِلَيْهِ
…
إلخ) بالبناء للمفعول؛ أي: ظنّ أنَّه صلى الله عليه وسلم لا زال في قيام القراءة الذي قبل الركوع.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2109]
(907) - (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، قَدْرَ نَحْوِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَاذْكُرُوا اللهَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ، فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ"، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "بِكُفْرِهِنَّ"، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: "بِكُفْرِ الْعَشِيرِ، وَبِكُفْرِ الْإِحْسَانِ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدثانيّ، هَرَويّ الأصل، صدوقٌ عَمِي فتلقّن، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
3 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ مولاهم، أبو عبد الله، أوأبوأسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ يُرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمَّد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ واعظٌ عابدٌ، من صغار [3](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدَّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنَّه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وحفص، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنَّه مسلسلٌ بالمدنيين ومن زيد بن أسلم.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وابن عبّاس رضي الله عنهما سبق الكلام فيه.
شرح الحديث: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) هكذا في "الموطأ"، وفي جميع من أخرجه من طريق مالك، ووقع في رواية اللؤلؤيّ في "سنن أبي داود""عن أبي هريرة" بدل "ابن عباس"، وهو غلط، قاله في "الفتح". أنَّه (قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ) وفي رواية النسائيّ: "خَسَفَت الشمس"، وهو بمعناه (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، قَدْرَ نَحْوِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في النسخ: "قدرَ نحوِ"، وهو صحيح، ولو اقتصر على أحد اللفظين لكان صحيحًا. انتهى
(1)
.
وهذا يدلّ على استحباب تطويل القراءة في صلاة الكسوف، وقد ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"فحَسِبْتُ قَرأَ سورةَ البقرة"(ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ) أي: سجدتين (ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ) فيه أن الركعة الثانية أقصر من الأولى (ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 212 - 213.
رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ) أي: سلّم من الصلاة (وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (فَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَاذْكُرُوا اللهِ") عز وجل (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ) قال في "الفتح": في حديث جابر رضي الله عنه عند أحمد بإسناد حسن: "فلما قضى الصلاة، قال له أُبيّ بن كعب: شيئًا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه"، فذكر نحو حديث ابن عباس، إلا أن في حديث جابر أن ذلك كان في الظهر، أو العصر، فإن كان محفوظًا فهي قصة أخرى، ولعلها التي حكاها أنس، وذكر أنها وقعت في صلاة الظهر، لكن فيه:"عُرضت عليّ الجنة والنار في عُرْض هذا الحائط"، حسبُ، وأما حديث جابر فهو شبيه بسياق ابن عباس في ذكر العنقود، وذكر النساء، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ) بصيغة الماضي، ووقع عند البخاريّ في رواية الكشميهني "تناولُ" بصيغة المضارع بضم اللام، وبحذف إحدى التاءين، وأصله تتناول (شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ كَفَفْتَ) بفاءين خفيفتين، يقال: كفّ عن الشيء كفًّا، من باب قتل: إذا تركه، وكففته كفًّا: إذا منعتَهُ، فكفّ يتعدّى ويلزم
(2)
، وهنا الموافق هو اللزوم، وفي رواية مالك الآتية:"ثمَّ رأيناك تكعكعت" أي: توقّفت، وأحجمت.
(فَقَالَ: (إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ) قد سبق أنهم اختلفوا في هذه الرؤيا، هل هي رؤية حقيقيّة، أم رؤية مجازيّة؟ وقدّمنا أن الصواب أنها رؤية حقيقية، فتنبّه (فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا) قال في "المصباح":"العُنقُود" من الَعِنَب ونحوه فُنْعُول بضمّ الفاء، والْعِنْقَاد مثله. انتهى. (وَلَوْ أَخَذْتُهُ) وفي رواية البخاريّ:"ولو أصبته" قال في "الفتح": واستُشكل مع قوله: "تناولت"، وأُجيب بحمل التناول على تكلّف الأخذ، لا حقيقة الأخذ. وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم، حكاه الكرمانيّ، وليس بجيّد، وقيل: المراد بقوله: "تناولت" أي:
(1)
"الفتح" 3/ 423.
(2)
"المصباح" 2/ 536.
وضعت يدي عليه، بحيث كنت قادرًا على تحويله، لكن لم يقدّر لي قطفه، ولوأصبته؛ أي: لو تمكنت من قطفه، ويدلّ عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة:"أهوى بيده ليتناول شيئًا"، وللبخاري في حديث أسماء رضي الله عنها:"حتى لو اجترأت عليها"، وكأنه لم يُؤْذَن له في ذلك، فلم يجترئ عليه، وقيل: الإرادة مقدّرة؛ أي: أردت أن أتناول، ثمَّ لم أفعل، ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه المتقدّم عند المصنّف:"ولقد مددت يدي، وأنا أريد أن أتناول من ثمرها، لتنظروا إليه، ثمَّ بدا لي أن لا أفعل"، ومثله للبخاريّ في حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه:"حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفًا من الجنّة، حين رأيتموني جعلت أتقدّم"، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة:"أردت أن آخذ منها قطفًا لأريكموه، فلم يقدّر"، ولأحمد من حديث جابر:"فحيل بيني وبينه".
قال ابن بطال رحمه الله: لم يأخذ العُنقود؛ لأنه من طعام الجنة، وهو لا يَفنى، والدنيا فانية، لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى، وقيل: لأنه لو رآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة، لا بالغيب، فيخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفسًا إيمانها، وقيل: لأنَّ الجنّة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة.
وحكى ابن العربيّ رحمه الله في "قانون التأويل" عن بعض شيوخه، أنَّه قال: معنى قوله: "لأكلتم منه
…
إلخ" أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائمًا، بحيث لا يغيب عن ذوقه.
وتعقّب بأنّه رأيٌ فلسفيّ مبنيّ على أن دار الآخرة لا حقائق لها، وإنما هي أمثال.
والحقّ أن ثمار الجنة لا مقطوعة، ولا ممنوعة، وإذا قُطعت خلقت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، والفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه.
[فائدة]: بيّن سعيد بن منصور في روايته من وجه آخر، عن زيد بن أسلم أن التناول المذكور كان حين قيامه الثاني من الركعة الثانية. انتهى.
(لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: الخطاب عامّ في كلّ جماعة يتأتّى منهم
السماع والأكل إلى يوم القيامة بدليل قوله: "ما بقيت الدنيا". انتهى
(1)
.
(مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا)"ما" مصدرية ظرفية؛ أي: مُدّةَ بقاء الدنيا؛ أي: لعدم فناء فواكه الجنة، وقول البيضاويّ: وجه ذلك إما بأن يخلق الله تعالى مكان كلّ حبّة تُقتطف حبّة أخرى، كما هو المرويّ في خواصّ ثمر الجنّة، أو بأن يتولّد منه مثله في الزرع، فيبقى نوعه ما بقيت الدنيا، فيؤكل منه. انتهى
(2)
.
(وَرَأَيْتُ النَّارَ) وقع في رواية عبد الرزّاق المذكورة أن رؤيته النار كانت قبل رؤيته الجنة، وذلك أنَّه قال فيه:"عُرضت على النبيّ صلى الله عليه وسلم النارُ، فتأخر عن مصلاه، حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضًا، وإذا رجع عُرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مصلّاه"، ولمسلم من حديث جابر المتقدّم:"لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخّرت، مخافة أن يصيبني من لَفْحها"، وفيه:"ثمَّ جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدّمت، حتى قمت في مقامي"، وزاد فيه:"ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه"، وفي حديث سمرة عند ابن خزيمة:"لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم".
(فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ)"منظرًا" تمييز محوَّل عن المضاف؛ أي: كمنظر اليوم، والمراد باليوم الوقت، فالمعنى: كالمنظر الذي رأيته الآن، وقال في "الفتح": المراد باليوم الوقت الذي هو فيه؛ أي: لم أر منظرًا مثل منظرٍ رأيته اليوم، فحَذَف المرئيّ، وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه، وبُعْده عن المنظر المألوف، وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا، ووقع في رواية المستملي، والحموي:"فلم انظر كاليوم قط أفظع". انتهى. والفظيع: الشديد الشنيع.
(وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ") قال الحافظ رحمه الله: هذا يفسّر وقتَ الرؤية في قوله لهنّ في خطبة العيد: "تصدّقن، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار". انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: فيما قاله نظر؛ إذ لا يتعيّن هذا تفسيرًا لما ذكره؛ إذ يحتمل أن يراهن في وقت آخر أيضًا، والله تعالى أعلم.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1312.
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1312.
(قَالُوا: بِمَ) وللنسائيّ: "لِمَ" باللام (يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بِكُفْرِهِنَّ"، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟) القائل هي: أسماء بنت يزيد بن السكن التي كانت تعرف بخطيبة النساء (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("بِكُفْرِ الْعَشِيرِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه "بكفر" بالباء الموحّدة الجارّة، وضمّ الكاف، وإسكان الفاء، وفيه جواز إطلاق الكفر على كفران الحقوق، وإن لم يكن ذلك الشخص كافرًا بالله تعالى، وقد سبق شرح هذا اللفظ مرّات، و"العشير": المعاشر، كالزوج وغيره، وفيه ذمّ كفران الحقوق لأصحابها. انتهى
(1)
.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: وإنما لم يُعَدّه بالباء، كما عَدّى الكفر بالله؛ لأنَّ كفر العشير لا يتضمّن معنى الاعتراف. انتهى.
وقوله: (وَبِكُفْرِ الْإِحْسَانِ) كأنه بيان لقوله: "يكفرن العشير"؛ لأنَّ المقصود كفر إحسان العشير، لا كفران ذاته، والمراد بكفر الإحسان تغطيته، أو جحده، ويدلّ عليه قوله:(لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ)"لو" هنا شرطيةٌ، لا امتناعيةٌ، وقال الكرمانيّ: ويَحْتَمِل أن تكون امتناعيةً بأن يكون الحكم ثابتًا على النقيضين، والطرف المسكوت عنه أولى من المذكور، و"الدهرَ" منصوب على الظرفية، والمراد منه عمر الرجل، أو الزمان كله، مبالغةً في كفرانهنّ، وليس المراد بقوله:"أحسنت" مخطابة رجل بعينه، بل كلّ من يتأتّى منه أن يكون مخاطبًا، فهو خاصّ لفظًا، عامّ معنى (ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا) التنوين فيه للتقليل؛ أي: شيئًا قليلًا لا يوافق غرضها، من أي نوع كان.
ووقع في حديث جابر رضي الله عنه ما يدلّ على أن المرئيّ في النار من النساء من اتصف بصفات ذميمة ذُكرتْ، ولفظه: "وأكثر من رأيت فيها من النساء اللاتي إن ائتُمنّ أفشين، وإن سُئلن بَخِلنَ، وإن سألن ألْحَفْنَ، وإن أُعْطين لم يشكرن
…
" الحديث.
(قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ") الظاهر أن التنوين في "خيرًا" أيضًا للتقليل؛ أي: لم أر منك قليلًا من الخير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 213.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2109 و 2110](907)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(29) و"الصلاة"(431) و"الأذان"(748) و"الكسوف"(1052) و"العمل في الصلاة"(3202) و"النكاح"(5197)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1189)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(1493) و"الكبرى"(1878)، و (مالك) في "الموطأ"(132)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 298 و 358)، و (الدارميّ) في "سننه"(1536)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1377)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(2832)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2458)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2041 و 2042 و 2043)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 448 - 449)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1140)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يُحذر منه، واستدفاعُ البلاء بذكر الله تعالى، وأنواع طاعته.
2 -
(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من نصح أمته، وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرّهم.
4 -
(ومنها): مراجعة المتعلّم للعالم فيما لا يدركه فهمُهُ، وجواز الاستفهام عن علّة الحكم، وبيان العالم ما يحتاج إليه تلميذه.
5 -
(ومنها): تحريم كفران الحقوق، ووجوب شكر المنعم.
6 -
(ومنها): أن الجنة والنار مخلوقتان، موجودتان اليوم.
7 -
(ومنها): جواز إطلاق اسم الكفر على ما لا يُخرِج من الملّة.
8 -
(ومنها): إثبات تعذيب أهل التوحيد على المعاصي.
9 -
(ومنها): جواز العمل في الصلاة؛ إذا لم يكثر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2110]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ - يَعْنِي ابْنَ عِيسَى - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القُشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنَ عِيسَى) بن نَجِيح البغداديّ، أبو يعقوب ابن الطبّاع، نزيل أَذَنَةَ، صدوقٌ [9].
رَوَى عن مالك، والحمادين، وشريك، وابن لَهِيعة، وهُشيم، وجرير بن حازم، وغيرهم.
ورَوى عنه أحمد، وأبو خيثمة، والدارميّ، والذُّهْليّ، ويعقوب بن شيبة، ومحمد بن رافع، والحسن بن مكرم، والحارث بن أبي أسامة، وجماعة.
قال البخاريّ: مشهور الحديث، وقال صالح بن محمَّد: لا بأس به، صدوقٌ، وقال أبو حاتم: أخوه محمَّد أحبّ إليّ منه، وهو صدوق، وقال الخليليّ: إسحاق ومحمد ولدا عيسى ثقتان، مُتَّفَقٌ عليهما.
قال ابن قانع: مات سنة (214) وقال ابن سعد: مات سنة (215) في ربيع الأوّل، وقال ابن حبَّان في الثقات: إن مولده سنة (114) وقال مطين في "تاريخه": تُوُفّي سنة (216).
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدَّم قبل باب.
و"زيد بن أسلم" ذُكر قبله.
وقوله: (فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ)"في" بمعنى "مع"؛ أي: بهذا الإسناد الماضي، وبمثل متنه.
وقوله: (تَكَعْكَعْتَ) أي: تأخّرت، يقال: كعّ الرجل: إذا نَكَصَ على عقبيه، قال الخطّابيّ: أصله تكَعَّعْت، فاستثقلوا اجتماع ثلاث عينات، فأبدلوا من إحداها حرفًا مكررًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يقال: تكعكع الرجل، وتكاعى، وكَعَّ كُعُوعًا: إذا أحجم، وجَبُنَ، قاله الهرويّ وغيره، وهو في هذا الحديث بمعنى كَفَفت، كما قاله في الرواية السابقة. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية مالك، عن زيد بن أسلم هذه ساقها البخاريّ رحمه الله فقال:(5197) - حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس، أنَّه قال: خَسَفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس معه، فقام قيامًا طويلًا نحواً من سورة البقرة، ثمَّ ركع ركوعًا طويلًا، ثمَّ رفع، فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأوّل، ثمَّ ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأوّل، ثمَّ سجد، ثمَّ قام فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأوّل، ثمَّ ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأوّل، ثمَّ رفع، فقام قيامًا طويلًا، وهو دون القيام الأوّل، ثمَّ ركع ركوعًا طويلًا، وهو دون الركوع الأوّل، ثمَّ رفع، ثمَّ سجد، ثمَّ انصرف، وقد تجلت الشمس، فقال:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله"، قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثمَّ رأيناك تكعكعت، فقال:"إني رأيت الجنة، أوأُريت الجنة، فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظرًا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء"، قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهنّ"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهرَ، ثمَّ رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المفهم" 2/ 561.
(4) - (بَابُ مَا جَاءَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَكَعَ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2111]
(908) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدَّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ إمام، ربّما دلّس، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(حَبِيبُ) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، قيل: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقةٌ فقيه فاضلٌ [3](ت 106)(ع) أو بعد ذلك تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدَّم في الباب الماضي أيضًا.
وقوله: (ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) هذه الكيفيّة قد فُسّرت في الرواية التالية، ولفظها:"أنَّه صلى في كسوف، قرأ ثمَّ ركع، ثمَّ قرأ ثمَّ ركع، ثمَّ قرأ ثمَّ ركع، ثمَّ قرأ ثمَّ ركع، ثمَّ سجد، قال: والأخرى مثلها".
وفي رواية أبي عوانة: "صلّى في الكسوف، فقرأ ثمَّ ركع، ثمَّ قرأ ثمَّ ركع، ثمَّ قرأ ثمَّ ركع، ثمَّ قرأ ثمَّ ركع، ثمَّ سجد سجدتين، والأخرى مثلها".
وقوله: (وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ) هكذا في رواية المصنّف رحمه الله، وليست هذه
الزيادة في "مسند أبي عوانة"، ولا في "مستخرج أبي نعيم"، ويخالفها ما وقع عند النسائيّ، فإنَّه قال بعد أن أخرج الحديث عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن عليّة بسند المصنّف ما نصّه:"وعن عطاء مثل ذلك"
(1)
.
ومعنى قوله: "وعن عليّ
…
إلخ" أنَّه رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مثل ما رُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
[تنبيه]: إن أراد المصنّف رحمه الله بحديث عليّ رضي الله عنه هذا من رواية حبيب بن أبي ثابت عنه، فلم أجد من أخرجه، وإلا فقد أخرجه البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(3/ 330) من رواية حنش، عنه، فقال:
(6121)
- أخبرناه أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، ثنا محمَّد بن عبيد الله بن المنادي، ثنا يونس بن محمَّد، ثنا عبد الواحد، ثنا سليمان الشيبانيّ، ثنا الحكم بن عتيبة، عن حنش بن ربيعة، قال: انكسفت الشمس على عهد عليّ رضي الله عنه قال: فخرج، فصلى بمن عنده، فقرأ "سورة الحجّ"، و"يس" لا أدري بأيهما بدأ، وجهر بالقراءة، ثمَّ ركع نحوًا من قيامه، ثمَّ رفع رأسه، فقام نحوًا من قيامه، ثمَّ ركع نحوًا من قيامه، ثمَّ رفع رأسه، فقام نحوًا من قيامه، ثمَّ ركع نحوًا من قيامه، أربع ركعات، ثمَّ سجد في الرابعة، ثمَّ قام، فقرأ بـ "سورة الحج"، و"يس"، ثمَّ قام، فصنع كما صنع في الركعة الأولى، ثمان ركعات، وأربع سجدات، ثمَّ قعد، فدعا، ثمَّ انصرف، فوافق انصرافه، وقد انجلى عن الشمس.
قال: لم يرفعه سليمان الشيبانيّ، ورواه الحسن بن الحرّ عن الحكم، فرفعه.
(6122)
- أخبرناه أبو عليّ الروذباريّ، ثنا عبد الله بن عمر بن أحمد بن شوذب بواسط، ثنا شعيب بن أيوب، ثنا يحيى بن آدم، وأبو نعيم، وحفص بن
(1)
وقوله: "وعن عطاء مثل ذلك" يعني: أن حبيب بن أبي ثابت روى عن عطاء بن أبي رباح مثل ما رواه عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وظاهر صنيع الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" أن رواية عطاء مرسلة، حيث أوردها في قسم "المراسيل" 13 ص 299، والله تعالى أعلم بالصواب.
عمر الطنافسيّ، قالوا: ثنا زهير، عن الحسن بن الحرّ، عن الحكم، عن رجل يقال له: حنش، عن عليّ رضي الله عنه قال: كسفت الشمس، فصلى عليّ رضي الله عنه للناس، فقرأ بياسين ونحوها، ثمَّ ركع نحوًا من قراءته السورة، ثمَّ رفع رأسه، وقال: سمع الله لمن حمده، ثمَّ قام قدر السورة، يدعو ويكبر، ثمَّ ركع قدر قراءته، ثمَّ قال: سمع الله لمن حمده، ثمَّ قام أيضًا قدر السورة، ثمَّ ركع قدر ذلك أيضًا، حتى ركع أربع ركعات، ثمَّ قال: سمع الله لمن حمده، ثمَّ سجد، ثمَّ قام في الركعة الثانية، ففعل كفعله في الركعة الأولى، ثمَّ جلس يدعو ويرغب، حتى انكشفت الشمس، ثمَّ حدّثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل.
(6123)
- أخبرنا أبو سعد المالينيّ، أنبأ أبو أحمد بن عديّ الحافظ، قال: حنش بن المعتمر أبو المعتمر الكنانيّ، وقال بعضهم: حنش بن ربيعة، سمع عليًّا رضي الله عنه روى عنه سماك بن حرب، والحكم بن عتيبة، يتكلمون في حديثه، وهو كوفيّ، سمعت ابن حماد يذكره عن البخاريّ.
قال أبو أحمد
(1)
: وقال أبو عبد الرحمن النسائيّ فيما أخبرني محمَّد بن العباس عنه: حنش بن المعتمر ليس بالقويّ.
قال الشيخ
(2)
: ومن أصحابنا من ذهب إلى تصحيح الأخبار الواردة في هذه الأعداد، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلها مرات: مرة ركوعين في كل ركعة، ومرة ثلاث ركوعات في كل ركعة، ومرة أربع ركوعات في كل ركعة، فأدى كل منهم ما حَفِظَ، وأن الجميع جائزٌ، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد تجلت، ذهب إلى هذا إسحاق ابن راهويه، ومن بعده محمَّد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الصِّبْعيّ، وأبو سليمان الخطابيّ، واستحسنه أبو بكر محمَّد بن إبراهيم بن المنذر، صاحب الخلافيات - وبالله التوفيق - والذي أشار إليه الشافعيّ من الترجيح أصح. انتهى كلام البيهقيّ
(3)
.
(1)
كنية البيهقيّ رحمه الله.
(2)
المراد به البيهقيّ رحمه الله.
(3)
"السنن الكبرى" 3/ 330 - 331.
قال الجامع عفا الله عنه: رواية حنش عن علي رضي الله عنه هذه ضعّفها أيضًا ابن حبَّان في "صحيحه"(7/ 99).
والحاصل أن روايته لا تصحّ، كرواية حبيب بن أبي ثابت المذكورة في الباب، كما سيأتي بيان ذلك في المسألة التالية، فتنبّه.
ثمَّ إن هذا الذي قاله البيهقيّ رحمه الله من ترجيح رواية من روى أنَّه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين كلّ ركعة بركوعين وسجدتين هو الأرجح؛ لقوّة حجته، فإن جلّ الحفاظ هكذا رووه، ومما يوهن الجمع بتعدّد الواقعة كما ذهب إليه من ذكرهم البيهقيّ آنفًا - والظاهر أن مسلمًا منهم حيث أخرج رواية ابن عبّاس رضي الله عنهما هذه هنا - كونُ الكسوف في عهده صلى الله عليه وسلم لم يقع إلا مرّة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه، ولا يصحّ وقوعه مرّة أخرى، فبان بذلك أن الجمع المذكور غير مقبول، وأن الصحيح هو الترجيح، كما قاله الشافعيّ رحمه الله وغيره من المحقّقين، وقد سبق تحقيق هذا في أوائل "كتاب الكسوف"، فارجع إليه تزدد علمًا، والله تعالى وليّ التوفيق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا اختُلف في تصحيحه، فمنهم من صححه، كالمصنّف وابن خزيمة، فقد أخرجاه في "صحيحيهما"، والظاهر أنهما إنما صححاه لإمكان حمله على واقعة أخرى، فلا تنافي بينه وبين رواية ابن عبّاس بالماضية أنَّه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بأربع ركوعات، وأربع سجدات، ولكن في هذا الحمل نظر؛ لما سيأتي قريبًا.
ومنهم من ضعفه؛ لأنَّ له علّتين:
(إحداهما): أن فيه حبيب بن أبي ثابت، فإنَّه مدلّس، وقد عنعنه.
(والثانية): مخالفته لغيره ممن رَوَى عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
قال الإمام ابن حبَّان رحمه الله في "صحيحه"(7/ 98): خبر حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس ثماني ركعات، وأربع سجدات"، ليس بصحيح؛ لأنَّ حبيبًا لم يسمع من طاوس هذا الخبر. انتهى.
وقال الحافظ البيهقيّ رحمه الله في "سننه"(3/ 327): وحبيب، وإن كان من الثقات، فقد كان يدلّس، ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس، ويَحْتَمِل أن يكون حمله عن غير موثوق به، عن طاوس، وقد رَوَى سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عبّاس من فعله أنَّه صلاها ست ركعات، في أربع سجدات، فخالفه في الرفع، والعدد جميعًا. انتهى.
وفيه علة أخرى، وهي الشذوذ، فقد روى غير واحد، عن ابن عباس أنها أربع ركعات، وأربع سجدات، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي، أن الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو ما سبق من طريق الزهريّ، عن كثير بن عبّاس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه صلّى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات، وفي رواية النسائيّ: أنَّه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بأربع ركوعات، وأربع سجدات، وهذا هو الصواب؛ لاتفاق كثير بن عباس، وعطاء بن يسار كما في الحديث الماضي
(1)
عليه، ولموافقته للأحاديث الصحيحة في هذا الباب.
والحاصل أن حديث حبيب بن أبي ثابت هذا غير صحيح؛ لما ذكر من العلتين.
وأما دعوى إمكان الجمع بحمله على تعدد القصّة، كما قال ابن خزيمة، فيبعده أن الصحيح أنَّه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف مرّة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2111](908) و [4/ 2112](909)، (وأبو داود) في "الصلاة"(1183)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(560)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(1467 و 1468) و"الكبرى"(1851 و 1852)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 225 و 346)، و (الدارميّ) في "سننه"(1534)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1385)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2459 و 2460 و 2461)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
أي: رواية زيد بن أسلم، عن عطاء المذكور في الباب الماضي.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2112]
(909) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفٍ، قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، قَالَ: وَالْأُخْرَى مِثْلُهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدَّم قبل باب.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ) هو: محمَّد بن خلّاد بن كثير الباهليّ البصريّ، ثقة [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
3 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) هو ابن سعيد، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظ حجة إمام، كبار [9](ت 198)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
والباقون ذُكرُوا قبله، وكذا الكلام على الحديث قد استوفيته هناك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(5) - (بَابُ النِّدَاءِ فِي الْكُسُوفِ بِـ "الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ")
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2113]
(910) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ شَيْبَانُ النَّحْوِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ خَبَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نُودِيَ بِـ "الصَّلَاةَ جَامِعَةً"، فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ
فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدَّم قبل باب.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم، مشهورٌ بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله (73) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ شَيْبَانُ النَّحْوِيُّ)
(1)
هو: شيبان بن عبد الرحمن التميميّ البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمَّد السَّمَرْقَنْدي الحافظ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل متقنٌ [11](ت 255) وله (74)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
5 -
(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) التِّنِّيسيّ البصريّ، نزيل تنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.
6 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ) - بتشديد اللام - بن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، نزيل حِمْصَ، ثقةٌ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.
7 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، نزيل اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ يدلّس ويُرسل [5](ت 132) أو قبل ذلك (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
8 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ ثبتٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
9 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعيد السَّهميّ، أبو محمَّد، أوأبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرَّة على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
منسوبٌ إلى نحو بطن من الأزد، لا إلى علم النحو.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنَّه من سداسيات المصنف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، ويحيى بن حسّان، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن أبا سلمة من الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في زمانه (نُودِيَ) بالبناء للمجهول؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالنداء، وهو الإعلام بهذه الجملة، وقد تقدَّم التصريح في حديث عائشة رضي الله عنها بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي بعث مناديًا، فنادى بذلك، وفي رواية النسائيّ:"فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي أن الصلاة جامعة". (بِـ "الصَّلَاةَ جَامِعَةً") وفي رواية البخاريّ: "أن الصلاة جامعة" بفتح الهمزة، وتخفيف النون، وهي "أن" المفسّرة، وروي بتشديد النون، والخبر محذوف، تقديره: أنّ الصلاة ذاتَ جماعة حاضرةٌ
(1)
.
وقوله: "الصلاةَ جامعةً" برفع الجزأين على أنهما مبتدأ وخبر، ونصبهما، الأوّل على الإغراء، والثاني على الحال، ورفع الأوّل، ونصب الثاني، وبالعكس، وتقدم الكلام على ذلك مُستوفًى في شرح حديث عائشة رضي الله عنها[2092]. (فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ) المراد بالسجدة هنا الركعة بتمامها، وبالركعتين الركوعان، وهو موافق لروايتي عائشة، وابن عبّاس رضي الله عنهما المتقدّمتين في أن في كلّ ركعة ركوعين، وسجودين، ولو ترك على ظاهره لاستلزم تثنية الركوع، وإفراد السجود، ولم يصر إليه أحد، فتعيّن تأويله، قاله في "الفتح".
(1)
"الفتح" 3/ 411.
(ثُمَّ قَامَ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ جُلِّيَ) بضم الجيم، وتشديد اللام، على صيغة المجهول، من التجلية، وهو الانكشاف (عَنِ الشَّمْسِ) وفي رواية البخاريّ:"ثمَّ جَلَس، ثمَّ جُلّي عن الشمس" أي: كُشف عنها بين جلوسه في التشهّد والسلام، كما بيّنه قوله في حديث عائشة رضي الله عنها:"ثمَّ انصرف، وقد تجلّت الشمس"، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (فَقَالَتْ عَائِشَةُ) هذا يَحْتَمل أن يكون من قول أبي سلمة، ويَحْتَمِل أن يكون من قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فيكون من رواية صحابيّ، عن صحابيّة، ووَهِمَ من زَعَم أنَّه معلّق
(2)
. (مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ) أي: من السجود الذي سجده النبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة، وفي رواية أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه التالية:"فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود، وما رأيته يفعله في صلاة قط".
قال النوويّ رحمه الله: في هذين الحديثين دليل للمختار، وهو استحباب تطويل السجود في صلاة الكسوف، ولا يضرّ كون أكثر الروايات ليس فيهما تطويل السجود؛ لأنَّ الزيادة من الثقة مقبولة، مع أن تطويل السجود ثابت من رواية جماعة كثيرة من الصحابة، وذكره مسلم من روايتي عائشة وأبي موسى رضي الله عنهما، ورواه البخاريّ من رواية جماعة آخرين، وأبو داود من طريق غيرهم، فتكاثرت طرقه، وتعاضدت، فتعيّن العمل به. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ولا سجدت سجودًا قط كان أطول منه"، وتقدّم في رواية عروة، عن عائشة بلفظ:"ثمَّ سجد، فأطال السجود"، وفي أوائل "صفة الصلاة" من حديث أسماء بنت أبي بكر مثله، وللنسائيّ من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بلفظ:"ثمَّ رفع رأسه، فسجد، وأطال السجود"، ونحوه عنده عن أبي هريرة، وللشيخين من حديث أبي موسى رضي الله عنه:"بأطول قيام، وركوع، وسجود رأيته قط"، ولأبي داود والنسائيّ من حديث سمرة رضي الله عنه:"كأطول ما سجد بنا في صلاة قط".
(1)
راجع: "الفتح" 3/ 420.
(2)
راجع: "الفتح" 3/ 420.
(3)
"شرح النوويّ" 6/ 214 - 215.
وكلّ هذه الأحاديث ظاهرة في أن السجود في الكسوف يطوّل كما يطوّل القيام والركوع، وأبدى بعض المالكية فيه بحثًا، فقال: لا يلزم من كونه أطال أن يكون بلغ به حدّ الإطالة في الركوع، قال الحافظ: وكأنه غفل عما رواه مسلم في حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: "وسجوده نحو من ركوعه".
وهذا مذهب أحمد، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي، وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه، واختاره ابن سُريج، ثمّ النوويّ، وتعقّبه صاحب "المهذّب" بأنّه لم يُنقل في خبر، ولم يقل به الشافعيّ. انتهى.
ورُدّ عليه في الأمرين معًا، فإن الشافعيّ نصّ عليه في "البويطيّ"، ولفظه: ثمَّ يسجد سجدتين طويلتين، يقيم في كلّ سجدة نحوًا مما قام في ركوعه. انتهى
(1)
.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب طول السجود في الكسوف"، قال في "الفتح": أشار بهذه الترجمة إلى الردّ على من أنكره، واستدلّ بعض المالكية على ترك إطالته بأن الذي شُرِع فيه التطويل شُرِع تكراره، كالقيام، والركوع، ولم تشرع الزيادة في السجود، فلا يشرع تطويلة، وهو قياس في مقابلة النصّ، فهو فاسد الاعتبار.
وأبدى بعضهم في مناسبة التطويل في القيام والركوع، دون السجود، أن القائم والراكع يمكنه رؤية الانجلاء، بخلاف الساجد، فإن الآية عُلْوية، فناسب طول القيام لها، بخلاف السجود، ولأن في تطويل السجود استرخاءَ الأعضاء، فقد يفضي إلى النوم، وكلُّ هذا مردود بثبوت الأحاديث الصحيحة في تطويلة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الصواب مذهب من قال بتطويل السجود في الكسوف؛ كالقيام والركوع؛ لوضوح أدلّته، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 3/ 420.
(2)
"الفتح" 3/ 419 - 420.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2113](910)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1045 و 1051)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(1479) و"الكبرى"(1864)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 175 و 220)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1375 و 1376)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2433 و 2434 و 2435)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2044 و 2045)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 447 - 448)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2114]
(911) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللهَ، حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
4 -
(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات بعد (90) أو قبلها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.
5 -
(أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة البدريّ الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنَّه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنَّه مسلسلٌ بالكوفيين من إسماعيل، وهُشيم واسطيّ، ويحيى نيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.
5 -
(ومنها): أن قيسًا هو التابعي الوحيد الذي اجتمعت له الرواية عن العشرة المبشّرين بالجنّة على الصحيح، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو رضي الله عنه (الْأَنْصَارِيِّ) ويقال له: البدريّ أيضًا؛ لسكناه بدرًا، أو لشهوده غزوة بدر، وهو الصحيح أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ) أي: علامتان من العلامات الدالة على وحدانيّة الله تعالى، وعظيم قدرته (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ) بتشديد الواو، من التخويف (وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا) أي: من الآيات (شَيْئًا) يعني: إذا رأيتم انكساف شيء من الشمس، أو القمر (فَصَلُّوا) استُدلّ به على أنَّه لا وقت لصلاة الكسوف معيّنٌ؛ لأنَّ الصلاة عُلّقت برؤيته، وهي ممكنة في كلّ وقت، من ليل أو نهار، وتقدّم بيان الخلاف في ذلك، مع ترجيح القول بمشروعيّتها في أوقات الكراهة؛ لظاهر النصّ، فتنبّه.
[تنبيه]: قوله: "فصلّوا" المراد به الصلاة المعهودة التي صلاها النبيّ صلى الله عليه وسلم للكسوف، ويَحْتَمِل أن يكون المراد مطلق الصلاة، فيُستدلّ به على جواز أدائها مطلقًا كسائر النوافل.
وقد أورد الإمام البخاريّ رحمه الله في أول أبواب الكسوف الأحاديث
المطلقة في الصلاة، مثل حديث أبي مسعود هذا، وحديث أبي بكرة، وحديث ابن عمر، وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنهم وكلها بلفظ:"فصلّوا"، فقال في "الفتح": ابتدأ البخاريّ أبواب الكسوف بالأحاديث المطلقة في الصلاة بغير تقييد بصفة؛ إشارةً منه إلى أن ذلك يُعطي أصل الامتثال، وإن كان إيقاعها على الصفة المخصوصة عنده أفضل، وبهذا قال أكثر العلماء، ووقع لبعض الشافعيّة، كالبندنيجي أن صلاتها ركعتين كالنافلة لا يُجزئ. انتهى
(1)
.
(وَادْعُوا اللهَ، حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ") ببناء الفعل للمفعول؛ أي: ينجلي ما حل بكم من الكرب بسبب الانكساف، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى؛ أي: حتى يكشف الله تعالى عنكم ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2114 و 2115 و 2116](911)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1041 و 1057 و 3204)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(1462) و"الكبرى"(1854)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1261)، و (الحميديّ) في "مسنده"(455)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 122)، و (الدارميّ) في "سننه"(1533)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1370)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2429)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2046)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2115]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
"الفتح" 3/ 404.
قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيْسَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ، فَقُومُوا فَصَلُّوا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ الحارثيّ، تقدَّم قبل باب.
3 -
(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمَّد البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (لَيْسَ يَنْكَسِفَانِ
…
إلخ) هكذا النسخ، فـ "ليس" هنا عملت في ضمير الشأن، وجملة "ينكسفان" خبرها، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2116]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَمَرْوَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ وَوَكِيعٍ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم في الباب الماضي.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله (70) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدَّم قبل باب.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير، تقدَّم قبل باب أيضًا.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
7 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمَّد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدَّم قبل باب.
8 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدَّم قبل باب أيضًا.
9 -
(مَرْوَانُ) بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثمَّ دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
و"إسماعيل" هو: ابن أبي خالد ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير" (17/ 211) فقال:
(574)
- حدّثنا عُبَيْدُ بن غَنَّامٍ، ثنا أبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ، ثنا وَكِيعٌ، عن إِسْمَاعِيلَ بن أبي خَالِدٍ، عن قَيْسِ بن أبي حَازِمٍ، عن عُقْبَةَ بن عَمْروٍ أبي مَسْعُودٍ، قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال أُنَاسٌ: إنما انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبراهيم عليه السلام، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ من آيَاتِ اللهِ، فإذا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا".
وأما رواية أبي أسامة، عن إسماعيل، فساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 92) فقال:
(2429)
- حدّثنا محمَّد بن إسحاق البكائيّ، وعليّ بن حرب، قالا: ثنا يعلي بن عبيد (ح) وحدّثنا الدقيقيّ، قال: ثنا يزيد بن هارون (ح) وحدّثنا أبو البختريّ، قال: ثنا أبوأسامة، قالوا: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس والقمر لا
تنكسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما، فقوموا فصلوا".
وأما رواية ابن نمير، عن إسماعيل، فساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" (1/ 400) فقال:
(1261)
- حدّثنا محمَّد بن عبد اللهِ بن نُمَيْرٍ، ثنا أبي، ثنا إسماعيل بن أبي خَالِدٍ، عن قَيْسِ بن أبي حَازِمٍ، عن أبي مَسْعُودٍ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ من الناس، فإذا رَأَيْتُمُوهُ، فَقُومُوا فَصَلُّوا".
وأما رواية سفيان بن عيينة، عن إسماعيل، فساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (3/ 320) فقال:
(6092)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ في آخرين، قالوا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعيّ، أنبأ سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس:"انكسفت الشمس لموت إبراهيم"، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله، وإلى الصلاة".
وأما رواية جرير بن عبد الحميد، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"(17/ 211) مقرونًا بوكيع، فقال:
(575)
- حدّثنا الْحُسَيْنُ بن إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، ثنا عُثْمَانُ بن أبي شَيْبَةَ، ثنا جَرِيرٌ وَوَكِيعٌ، عن إِسْمَاعِيلَ بن أبي خَالِدٍ، عن قَيْسٍ، عن أبي مَسْعُودٍ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إن الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، ليس يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ الناس، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ من آيَاتِ اللهِ، فإذا رَأَيْتُمُوهَا، فَقُومُوا إلى الصَّلاةِ".
وأما رواية مروان بن معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2117]
(912) - (حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ فَزِعًا، يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَقَامَ يُصَلِّي بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاةٍ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ، وَدُعَائِهِ، وَاسْتِغْفَارِهِ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْعَلَاءِ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَقَالَ: "يُخَوِّفُ عِبَادَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادِ) بن يوسف بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) أبو كُريب، تقدَّم قبل باب.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة المذكور في السند الماضي.
4 -
(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(أَبُو مُوسَى) الأشعريّ، عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنَّه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّفاقهما في كيفيّة التحمل والأداء، كما أسلفته غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي عامر، فما أخرج له البخاريّ إلا تعليقًا، وأما شيخه الثاني، فقد اتّفق الجماعة بالرواية عنه دون واسطة.
3 -
(ومنها): أنَّه مسلسل بثقات الكوفيين من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه أنَّه (قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ فَزِعًا) بكسر الزاي، صفة مشبهة، ويجوز الفتح على أنَّه مصدر بمعنى الصفة، قاله في "الفتح"، ويَحْتَمِل أن يكون منصوبًا على أنَّه مفعول من أجله؛ أي: من أجل فَزَعه (يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ) بالرفع على أن "تكون" تامة؛ أي: يخشى أن تحضُر الساعة، أو ناقصة، و"الساعة" اسمها، والخبر محذوف، أو العكس.
قال الكرمانيّ رحمه الله: وهذا تمثيل من الراوي كأنه قال: فَزِعًا كالخاشي أن تكون القيامة، وإلَّا فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عالِمًا بأن الساعة لا تقوم، وهو بين أظهرهم، وقد وعده الله إعلاء دينه على الأديان كلها، ولم يبلغ الكتاب أجله.
ويَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم جعل ما سيقع كالواقع إظهارًا لتعظيم شأن الكسوف، وتنبيهًا لأمته أنَّه إذا وقع بعده يخشون أمر ذلك، ويفزعون إلى ذكر الله، والصلاة، والصدقة؛ لأنَّ ذلك مما يدفع الله به البلاء، أفاده في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": قيل: وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظنّ من شاهد الحال؛ لأنَّ سبب الفزع يخفى عن الْمُشاهِد لصورة الفزع، فيَحْتَمِل أن يكون الفزع لغير ما ذُكر، فعلى هذا، فيشكل الحديث من حيث إن للساعة مقدمات كثيرة، لم تكن وقعت، كفتح البلاد، واستخلاف الخلفاء، وخروج الخوارج،
(1)
"عمدة القاري" 7/ 88.
ثمَّ الأشراط، كطلوع الشمس من مغربها، والدابّة، والدجّال، والدخان، وغير ذلك.
ويجاب عن هذا باحتمال أن تكون قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه العلامات، أو لعلّه خشي أن يكون ذلك بعض المقدّمات، أو أن الراوي ظنّ أن الخشية لذلك، وكانت لغيره، كعقوبة تحدث، كما كان يخشى عند هبوب الريح.
هذا حاصل ما ذكره النوويّ تبعًا لغيره، وزاد بعضهم أن المراد بالساعة غير القيامة؛ أي: الساعة التي جعلت علامة على أمر من الأمور، كموته صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك.
وفي الأوّل نظر؛ لأنَّ قصة الكسوف متأخرة جدًّا، فقد تقدَّم أن موت إبراهيم رضي الله عنه كان في العاشر، كما اتَّفَقَ عليه أهل الأخبار، وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بكثير من الأشراط، والحوادث قبل ذلك.
وأما الثالث، فتحسين الظنّ بالصحابي يقتضي أنَّه لا يجزم بذلك إلا بتوقيف.
وأما الرابع، فلا يخفى بُعْدُه، وأقربها الثاني، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدّمة لبعض الأشراط؛ كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلّل بين الكسوف والطلوع المذكور أشياء، مما ذُكر، وتقع متتالية، بعضها إثر بعض، مع استحضار قوله تعالى:{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} الآية [النحل: 77].
قال الحافظ: ثمَّ ظهر لي أنَّه يَحْتَمِل أن يُخرّج على مسألة دخول النسخ في الأخبار، فإذا قيل بجواز ذلك زال الإشكال.
وقيل: لعله قدّر وقوع الممكن لولا ما أعلمه الله تعالى بأنّه لا يقع قبل الأشراط، تعظيمًا منه لأمر الكسوف، ليتبيّن لمن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى، ويفزع، لا سيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط، أو أكثرها.
وقيل: لعلّ حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط؛ لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط، لم يتقدّم
ذكره، فيقع المخوف بغير أشراط؛ لفقد الشرط، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الاحتمال الأخير هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، فَقَامَ يُصَلِّي بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاةٍ قَطُّ) أي: في الزمان الماضي (ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ) إشارةٌ إلى الآيات التي تقع مثل الكسوف، والزلزلة، وهبوب الريح الشديدة، ونحوها، ففي كل واحدة منها تخويف الله تعالى لعباده، ويفهم من هذا أن المبادرة بالذكر والدعاء لا يختص بالكسوفين فقط.
(الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ) هذا موافق لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59](فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا) أي: الجئوا (إِلَى ذِكْرِهِ) الضمير يعود على الله تعالى في قوله: "يخوف بها عباده"(وَدُعَائِهِ، وَاسْتِغْفَاره") فيه أن الدعاء، والاستغفار عند الكسوف وغيره؛ لأنه مما يُدفَع به البلاء.
واستدلّ بذلك على أن الأمر بالمبادرة إلى الذكر، والدعاء، والاستغفار، وغير ذلك لا يختصّ بالكسوفين؛ لأنَّ الآيات أعمّ من ذلك.
قال الحافظ رحمه الله: ولم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبّها عند كلّ آية. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله حسن جدًّا.
وحاصله أنَّه ينبغي المبادرة عند رؤية الآيات إلى الذكر، والدعاء، والاستغفار، وأما أن يُصلَّى لها على صفة صلاة الكسوف فلا؛ لعدم الدليل على ذلك، والله تعالى أعلم.
(وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْعَلَاءِ) هو محمَّد بن العلاء، شيخه الثاني (كَسَفَتِ الشَّمْسُ) بالكاف بدل قول أبي عامر:"خَسَفَت الشمس" بالخاء المعجمة، وهما بمعنى واحد (وَقَالَ) ابن العلاء أيضًا:("يُخَوِّفُ عِبَادَهُ") بدل قول أبي عامر:
(1)
"الفتح" 3/ 248 - 249.
"يخوّف بها عباده"، فحذف العائد مع جارّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2117](912)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1059)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(1503)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1371)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2432)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2047)، وفوائده تقدّمت غير مرّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2118]
(913) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَرْمِي بِأَسْهُمِي فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهُنَّ، وَقُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا يَحْدُثُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي انْكِسَافِ الشَّمْسِ الْيَوْمَ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو، وَيُكَبِّرُ، وَيَحْمَدُ، وَيُهَلِّلُ، حَتَّى جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ، فَقَرَأَ سُورَتَيْنِ، وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
4 -
(أَبُو الْعَلَاءِ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ) الْقَيسيّ الْجُريريّ البصريّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب، وقَطَن بن قَبِيصة بن الْمُخارق على خلاف فيه، وغيرهم.
وروى عنه سليمان التيميّ، وسعيد الْجُريريّ، وقتادة، وعوف الأعرابيّ على خلاف فيه.
قال النسائيّ في "الكنى": أبو العلاء حيّان بن عمير بصريّ ثقةٌ، وذكره ابن سعد، وقال: كان ثقةً قليل الحديث، وذكره ابن حبَّان في "الثقات"، وذكره البخاري في "فصل من مات بين التسعين والمائة".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ سَمُرَةَ) بن حبيب بن عبد شمس الْعَبْشميّ، أبو سعيد، أسلم يوم الفتح، يقال: اسمه عبد كُلال، وقيل: غير ذلك، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، سكن البصرة، وهو الذي افتتح سِجِسْتان، وكابُل، وغيرهما، وشهد غزوة مُؤتة.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن معاذ بن جبل، وعنه حيّان بن عُمير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهِصّان بن كاهن، والحسن البصريّ، وأبو لَبِيد لِمَازَة بن زَبّار، وآخرون.
قال ابن سعد: استعمله عبد الله بن عامر على سِجِسْتان، وغزا خُراسان، ففتح بها فتوحًا، ثمَّ رجع إلى البصرة، فمات بها سنة خمسين، وكذا أرخه أبو موسى وغيره، وقال ابن عُفير: مات سنة خمسين، ويقال: سنة إحدى وخمسين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا برقم (913) وأعاده بعده، وحديث (1648):"لا تحلفوا بالطواغي، ولا بآبائكم"، و (1652): "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها
…
"، وأعاده بعده.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنَّه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنَّه مسلسل بالبصريين.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنه أنَّه (قَالَ: بَيْنَمَا) هي "بين" الظرفيّة زيدت عليها "ما"، وقد تقدَّم البحث فيها مستوفًى غير مرّة (أَنَا أَرْمِي) وفي الرواية التالية:"كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة"، وفي الرواية الثالثة:"بينما أنا أترمّى بأسهم لي"، وفي رواية النسائيّ:"أترامى"، قال في "اللسان": وخَرَجْتُ أَتَرَمَّى، وَخَرَج يَتَرَمَّى: إذا خَرَج يَرْمِي في الأغراض، وأصول الشجر، وفي حديث الكسوف:"خرجت أَرْتَمِي بأسهمي"، وفي رواية:"أترامَى"، يقال: رميتُ بالسهم رَمْيًا، وارتميتُ، وتَرَاميتُ تَرَامِيًا، ورَامَيتُ مُرَاماةً: إذا رميت بالسهام الْقِسِيَّ، وقيل: خرجتُ أرتَمِي: إذا رميت الْقَنَصَ، وأترمَّى: إذا خرجت تَرمي في الأهداف، ونحوها. انتهى
(1)
.
وكان يتعلم الرمي، امتثالًا للأمر في قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية [الأنفال: 60]؛ إذ القوّة معناها الرمي، كما فسرها النبيّ صلى الله عليه وسلم به، فقد أخرج مسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوّة الرمي، ألا إن القوة الرمي".
وأخرج أحمد، وأصحاب السنن عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارموا، واركبوا، وأن ترموا خير من أن تركبوا".
(بِأَسْهُمِي) جمع سَهْم: واحدُ النَّبْل، وقيل: نفسُ النَّصْل، ويُجْمَع على سهام (فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله:(إِذِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ) جواب "بينما"،
(1)
"لسان العرب" 14/ 335.
وفي الرواية الثالثة: "إذ خَسَفت الشمس"(فَنَبَذْتُهُنَّ) وفي الرواية التالية: "فنبذتها"؛ أي: رميت الأسهُم، وطرحتها، وتركت الاشتغال بها، وفي رواية النسائيّ:"فجمعتهنّ" أي: جمعت الأسهُم؛ لئلا تضيع عليّ لو تركتها مفرَّقةً (وَقُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا يَحْدُثُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: حدث الشيءُ حُدُوثًا، من باب قعد: إذا تجدّد وجوده، فهو حادث، وحديث
(1)
؛ أي: يتجدّد (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي انْكِسَافِ الشَّمْسِ)"في" سببيّة؛ أي: بسبب انكسافها، أو بمعنى:"عند".
والمعنى: أن عبد الرحمن ظنّ أنَّه لا بُدّ أن يتجدّد للنبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الكسوف شيء من السنن، فأراد أن ينظر إليه، وقد تحقّق ظنه في ذلك، كما أخبر بالآتي.
وقوله: (الْيَوْمَ) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ"انكساف"، أو بـ"يحدُثُ"، وفي الرواية التالية:"فقلت: والله لأنظرنّ إلى ما حَدَثَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس".
(فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ) أي: وصلت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ:"فَأَتَيْتُهُ مِمَّا يَلِي ظَهْرَهُ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ"(وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ) جملة في محلّ نصب على الحال (يَدْعُو، وَيُكَبِّرُ، وَيَحْمَدُ، وَيُهَلِّلُ، حَتَّى جُلِّيَ عَنِ الشَّمْسِ) أي: كُشف عنها، وفي الرواية التالية:"فأتيته، وهو قائم في الصلاة، رافع يديه، فجعل يسبّح، ويَحمَد، ويُهلّل، ويكبّر، ويدعو حتى حُسِر عنها"، فتبيّن بهذه الرواية أن التسبيح، والتكبير، والدعاء المذكور كان في الصلاة، وفيه استحباب التسبيح، والتكبير، والدعاء في صلاة الكسوف.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لأصحابنا في رفع اليدين في القنوت، وردٌّ على من يقول لا تُرفع الأيدي في دعوات الصلاة. انتهى.
(فَقَرَأَ سُورَتَيْنِ، وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ) وفي رواية النسائيّ: "قَالَ: ثُمَّ قَامَ، فَصَلَّى
(1)
"المصباح" 1/ 124.
رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ"، وظاهره أنَّه صلى بعد انجلاء الشمس، وهو مخالف لسائر الأحاديث.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا مما يُستشكل، ويُظَنّ أن ظاهره أنَّه ابتدأ صلاة الكسوف بعد انجلاء الشمس، وليس كذلك، فإنَّه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد الانجلاء، وهذا الحديث محمول على أنَّه وَجَده في الصلاة، كما صرح به في الرواية الثانية، ثمَّ جَمَع الراوي جميع ما جرى في الصلاة من دعاء، وتكبير، وتهليل، وتسبيح، وتحميد، وقراءة سورتين في القيامين الآخرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء تتميمًا للصلاة، فتمّت جملة الصلاة ركعتين، أولها في حال الكسوف، وآخرها بعد الانجلاء، وهذا الذي ذكرته من تقديره لا بد منه؛ لأنه مطابقٌ للرواية الثانية، ولقواعد الفقه، ولروايات باقي الصحابة، والرواية الأولى محمولة عليه أيضًا؛ ليتفق الروايتان.
ونَقَل القاضي عن المازريّ أنَّه تأوله على صلاة ركعتين تطوعًا مستقلًّا بعد انجلاء الكسوف؛ لأنها صلاة كسوف، وهذا ضعيف، مخالف لظاهر الرواية الثانية، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما أوَّلَ به المازريّ رحمه الله أقرب، وأما تأويل النوويّ فلا يخفى تكلّفه، بل تردّه رواية النسائيّ المذكورة بلفظ:"ثم قام، فصلى ركعتين، وأربع سجدات"، فقوله:"وأربع سجدات" صريح في ردّ تأويله بأن معناه تمم الركعة الثانية؛ إذ ليس فيها إلا سجدتان، فظهر بهذا أنَّه إنما صلى بعد الانجلاء ركعتين كاملتين، فيهما ركوعان، وأربع سجدات، شكرًا لله تعالى في إزالته كسوف الشمس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 217.
[فإن قلت]: كيف أخرجه المصنّف هنا، وفيه الْجُريريّ، وهو مختلطٌ، كما أسلفته آنفًا؟.
[قلت]: إنما أخرجه؛ لأنه من رواية بشر بن المفضّل، وهو ممن روى عنه قبل اختلاطه، وتابعه عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهو أيضًا ممن روى عنه قبل الاختلاط، وقد ذكرت في "عمدة المحتاط" أسماء الذين رووا عنه قبل اختلاطه، فقلت:
كَذَا الْجُرَيْرِيُّ سَعِيدٌ اخْتَلَطْ
…
ثَلَاثَةً سِنِينَ حفْظُهُ هَبَطْ
وَعَنْهُ شُعْبَةُ وُهَيْبٌ نَقَلَا
…
قَبْلُ وَإِسْمَاعِيلُ سُفْيَانُ تَلَا
وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ وَارِثٍ كَذَا
…
حَمَّادُ حَمَّادٌ وَبِشْرٌ قَدْ حَذَا
وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الأَعْلَى
…
وَالثَّقَفِيْ وَابْنُ زُرَيْعٍ أَعْلَى
(1)
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2118 و 2119 و 2120](913)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(1460) و"الكبرى"(1841)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1195)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 61)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1373)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2462 و 2463 و 2464)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2048)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2119]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ،
(1)
"وهيب": هو ابن خالد، و"إسماعيل": هو ابن عليّة، و"سفيان": هو الثوري، و"معمر" هو: ابن راشد، و"عبد الوارث": هو ابن سعيد، و"حماد" الأوّل: هو ابن سلمة، والثاني: هو ابن زيد، و"بشر": هو ابن مفضّل، و"عبد الأعلى": هو ابن عبد الأعلى، و"الثقفيّ": هو عبد الوهاب بن عبد المجيد، و"ابن زُريع": هو يزيد.
وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ أَرْتَمِي بِأَسْهُمٍ لِي بِالْمَدِينَةِ، فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهَا، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا حَدَثَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ، رَافِعٌ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يُسَبِّحُ، وَيَحْمَدُ، وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيَدْعُو، حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا، قَالَ: فَلَمَّا حُسِرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الساميّ، أبو محمَّد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كُنْتُ أَرْتَمِي بِأَسْهُمٍ لِي) أي: أرمي الغرض، يقال: رمى، وارتمى بمعنى واحد.
وقوله: (حَتَّى حُسِرَ عَنْهَا) بالبناء للمفعول، وهو بمعنى قوله في الرواية الماضية:"حتى جُلّي عن الشمس". وقوله: (قَرَأَ سُورَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) ظاهر هذا الحديث أن صلاته هاتين الركعتين لم يكن لأجل أنها صلاة الكسوف؛ لأنه إنما صلى بعد الانجلاء، وهو الزمان الذي يفرغ فيه من العمل فيها؛ لأنه الغاية التي مدّ فِعْلَ صلاة الكسوف إليها بقوله:"فصلُّوا حتى ينجليا"، فلا حجة للكوفيين، غير أنَّه قد روى أبو داود من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال:"كَسَفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يصلي ركعتين ركعتين، ويسأل عنها حتى انجلت"، وهذا معتمد قويّ للكوفيين، غير أن الأحاديث المتقدّمة أصحّ وأشهر، ويصحّ حمل هذا الحديث على أنَّه بَيَّن فيه جواز مثل هذه الصلاة في الكسوف، وإن كان المتقرّر في الأحاديث المتقدّمة هو السنّة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأولى سلوك مسلك الترجيح، لا
(1)
"المفهم" 2/ 564.
مسلك الجمع بما ذُكر؛ لأنَّ الأحاديث الكثيرة في "الصحيحين" وغيرهما على خلاف حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، فتُقدّم عليه، ومما يؤيّد ذلك كون الكسوف لم يقع في عهده صلى الله عليه وسلم إلا مرّة واحدةً يوم مات إبراهيم ابنه صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن أصحّ الكيفيّات لصلاة الكسوف أن تصلى ركعتين بأربع ركوعات، على ما في أكثر الروايات، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2120]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، أَخْبَرَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَتَرَمَّى بِأَسْهُمٍ لِي، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدَّم في الباب الماضي.
2 -
(سَالِمُ بْنُ نُوحِ) بن أبي عطاء، أبو سعيد العطّار البصريّ، صدوقٌ له أوهامٌ [9] مات بعد المائتين (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 55/ 1532.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمَا) فاعل ذَكَر ضمير سالم بن نوح؛ يعني أن سالم بن نوح ذكر عن الْجُرَيريّ نحو رواية بشر بن المفضّل، وعبد الأعلى كلاهما عنه.
[تنبيه]: رواية سالم بن نوح، عن الْجُريريّ هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2121]
(914) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الحافظ المصريّ، تقدَّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ الْقَاسِمِ) التيميّ، أبو محمَّد المدنيّ، ثقة جليلٌ [6](ت 126)(ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) التيميّ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما الصحابي الشهير، مات رضي الله عنه سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
وشرح الحديث، وفوائده واضحة تعلم مما سبق، وفيه:
مسألتان: (المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2121](914)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1042) و"بدء الخلق"(3201)، و (النسائيّ) في "الكسوف"(1461)
و"الكبرى"(1844)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 109 و 118)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2431)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2049)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2122]
(915) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُصْعَبٌ، وَهُوَ ابْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: قَالَ: قَالَ زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللهَ، وَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور في الباب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدَّم قبل باب.
3 -
(مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ) الْخَثعميّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [9](ت 203)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
4 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبت فاضلٌ [7](160)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
5 -
(زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ) - بكسر العين المهملة - الثَّعْلبيّ، أبو مالك الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [3](ت 135) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 208.
6 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن معتّب الثقفيّ الصحابيّ الشهير، أسلم قبل الْحُديبية، وولِيَ إمرة البصرة، ثمّ الكوفة، مات سنة (50) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
وشرح الحديث، وفوائده تقدّمت، وفيه:
مسألتان:
(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2122](915)، و (البخاريّ) في "الكسوف"(1043 و 1060 و 6199)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(1843)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 249 و 253)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2469)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2050)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
* * *
11 - (كِتَابُ الْجَنَائِزِ)
" الجنائز": - بفتح الجيم لا غير -: جمع جنازة بالفتح، والكسر، لغتان، قال ابن قتيبة، وجماعة: الكسر أفصح.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: جَنَزْتُ الشيءَ، أَجْنُزُهُ، من باب ضَرَب: سَتَرْتُه، ومنه اشتقاق الجنازة، وهي بالفتح، والكسر، والكسر أفصح، وقال الأصمعيّ، وابن الأعرابيّ: بالكسر الميت نفسه، وبالفتح السرير، وروى أبو عمر الزاهد، عن ثعلب عكسَ هذا، فقال: بالكسر السرير، وبالفتح الميت نفسه. انتهى
(1)
.
وقال في "اللسان": جَنَزَ الشيءَ يَجْنُزهُ جَنْزًا: ستره، وقال ابن سِيدَهْ: الجَنَازة بالفتح: الميت، والجنازة بالكسر السرير الذي يُحمل عليه الميت. قال الفارسيّ: لا يُسمى جنازة حتى يكون عليه ميت، وإلا فهو سرير، أو نعش، وأنشد الشَّفَاخ [من الطويل":
إِذَا أَنْبَضَ الرَّامُونَ فِيهَا تَرَنَّمَتْ
…
تَرَنُّمَ ثَكْلَى أَوْجَعَتْهَا الْجَنَائِزُ
وقال الليث: الجنازة الإنسان الميت، والشيء الذي قد ثَقُلَ على قوم، فاغتمّوا به. انتهى
(2)
.
وقال في "تحفة الحبيب": يقول لسان حال النعش في كلّ يوم لابن آدم:
انْظُرْ إِلَيَّ بِعَقْلِكْ
…
أَنَا الْمُهَيَّا لِنَقْلِكْ
أَنَا سَرِيرُ الْمَنَايَا
…
كَمْ سَارَ مِثْلِي بِمِثْلِكْ
وقال الشاعر في المعنى [من الكامل]:
وَإِذَا حَمَلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جَنَازَةً
…
فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 111.
(2)
"لسان العرب" 5/ 324.
وَاِذَا وَليتَ لأَمْرِ قَوْمٍ مَرَّةً
…
فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ عَنْهُمُ مَسْؤُولُ
(1)
وإنما أورد "كتاب الجنائز" بعد "كتاب الصلاة" كأكثر المصنفين من المحدّثين والفقهاء؛ لأن الذي يُفعَل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك لمهمة الصلاة عليه؛ لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب، ولا سيِّما عذاب القبر الذي سيُدفن فيه.
وقيل: لأن للإنسان حالتين: حالة الحياة، وحالة الممات، ويتعلّق بكلّ منهما أحكام العبادات، وأحكام المعاملات، وأهمّ العبادات الصلاة، فلما فرغ من أحكامها المتعلّقة بالأحياء ذكروا ما يتعلّق بالموتى من الصلاة وغيرها.
قيل: شُرِعت صلاة الجنازة بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، فمن مات بمكة قبل الهجرة لَمْ يُصلَّ عليه
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1) - (بَابُ الأَمْرِ بِتَلْقِينِ الْمَوْتَى"لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ")
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2123]
(916) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ بِشْرٍ، قَالَ أَبُو كَامِلٍ: حَدَّثنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من (80) سنةً (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
(1)
"تحفة الحبيب على شرح الخطيب" 2/ 264.
(2)
"المرعاة شرح المشكاة" 5/ 210.
3 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ) بن الحارث الأنصاريّ المازنيّ المدنىّ، ثقةٌ [6](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 585.
5 -
(يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ) بن أبي حسن الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 65)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمل والأداء.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عمارة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا سعيد الخدري رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عَن" (يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ)، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا) أمر من التلقين، وهو التذكير؛ أي: ذكّروا (مَوْتَاكُمْ) أي: الذين هم في سياق الموت، سمّاهم موتى؛ لأن الموت قد حضرهم. قال الطيبيّ رحمه الله: أي من قَرُب منكم من الموت، سماه باعتبار ما يؤول إليه مجازًا، وعليه يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"اقرؤوا على موتاكم {يس} "
(1)
. انتهى.
(1)
قال في "التلخيص الحبير" 2/ 212 - 213: أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة من حديث أبي عثمان، وليس بالنهديّ، عن أبيه، عن معقِل بن يسار، قال الدارقطنيّ: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصحّ في الباب حديث. انتهى. وأعلّه ابن القطّان بالاضطراب، وبالوقف، وبجهالة أبي عثمان، وأبيه. انتهى.
ويدلّ عليه أن ابن حبّان رَوَى هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظ المذكور، وزاد:"فإنه من كان آخر كلامه: لا إله إلَّا الله، دخل الجنّة يومًا من الدهر، وإن أصابه ما أصاب قبل ذلك"
(1)
.
قيل: معنى"التلقين" أن يُذكَرَ له "لا إله إلَّا الله"، ويُتلفّظ به بحضرته، حتى يسمع، فيتفطّن، فيقوله، ولا يؤمر به، إلَّا أن يكون كافرًا، فيقال له: قل: لا إله إلَّا الله، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك لعمه أبي طالب، وللغلام اليهوديّ الذي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم.
والمقصود من التلقين أن يكون آخر كلامه: لا إله إلَّا الله، ولذا قالوا: إذا قال مرّة لا تُعاد عليه، إلَّا أن يتكلّم بكلام آخر.
ذكر الإمام الترمذيّ رحمه الله في "الجامع" أنه رُوي عن ابن المبارك أنه لما حضره الوفاة جَعَل رجل يلقنه لا إله إلَّا الله، ويكثر عليه، فقال له عبد الله: إذا قلتُ ذلك مرّة، فأنا على ذلك ما لَمْ أتكلّم بكلام. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: وأجمع العلماء على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار عليه، والموالاة؛ لئلا يَضجَرَ بضيق حاله، وشدّة كربه، فيكره ذلك بقلبه، ويتكلّم بما لا يليق. انتهى.
وقال في "الفتح": قال الزين ابن الْمُنَيِّر: هذا الخبر -يعني: "من كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله دخل الجَنَّة" - يتناول بلفظه من قالها، فبغته الموت، أو طالت حياته لكن لَمْ يتكلم بشيء غيرها، ويُخرِج بمفهومه من تكلم لكن استصحب حكمها من غير تجديد نطق بها، فإن عَمِل أعمالًا سيئة كان في المشيئة، وإن عمل أعمالا صالحةً فقضية سعة رحمة الله أن لا فرق بين الإسلام النطقيّ والحكميّ المستصحب، والله أعلم. انتهى.
ثم ذكر قصّة ابن المبارك المذكورة، ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه كان يرى التفرقة في هذا المقام، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لقنوا موتاكم
…
إلخ" أي: قولوا لهم ذلك،
(1)
حديث صحيح، انظر:"الإحسان" 7/ 272.
(2)
"الفتح" 3/ 676.
وذكّروهم به عند الموت، وسماهم صلى الله عليه وسلم موتى؛ لأن الموت قد حضرهم، وتلقين الموتى هذه الكلمةَ سنّة مأثورة، عَمِلَ بها المسلمون، وذلك ليكون آخر كلامه "لا إله إلَّا الله"، فيُختم له بالسعادة، وليدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله دخل الجنّة"
(1)
، وليُنبّه المحتضر على ما يدفع به الشيطان، فإنه يتعرّض للمحتضر ليُفسد عليه عقيدته، فإذا تلقّنها المحتضر، وقالها مرّة واحدة، فلا تُعاد عليه، لئلّا يَضجَرَ، وقد كره أهل العلم الإكثار عليه من التلقين، والإلحاح عليه إذا هو تلقّنها، أو فُهِم عنه ذلك، وفي أمره صلى الله عليه وسلم بتلقين الموتى ما يدلّ على تعيّن الحضور عند المحتضر؛ لتذكيره، وإغماضه، والقيام عليه، وذلك من حقوق المسلم على المسلمين، ولا خلاف في ذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال القاري رحمه الله: الجمهور على أنه يُندب هذا التلقين، وظاهر الحديث يقتضي وجوبه، وذهب إليه جمع، بل نقل بعض المالكية الاتفاق عليه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر قول من قال بالوجوب؛ لصريح الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: "لقّنوا"، والذين قالوا بالندبية لَمْ يذكروا له صارفًا عن الوجوب، فتأمل، والله تعالى أعلم.
[فائدة]: قد رَوَى ابن أبي حاتم في ترجمة أبي زرعة أنه لَمّا احتُضِر أرادوا تلقينه، فتذكروا حديث معاذ رضي الله عنه، فحدثهم به أبو زرعة بإسناده، وخرجت روحه في آخر قول:"لا إله إلَّا الله"، هكذا ذكر في "الفتح"
(3)
.
ونصّه في "تقدمة الجرح والتعديل": حدّثنا عبد الرَّحمن، قال: سمعت أبي يقول: مات أبو زرعة مطعونًا مبطونًا، يعرق جبينه في النزع، فقلت لمحمد بن مسلم: ما تحفظ في تلقين الموتى "لا إله إلَّا الله"؟ فقال محمد بن مسلم: يُرْوَى عن معاذ بن جبل، فَمِنْ قبل أن يستتم رَفَع أبو زرعة رأسه، وهو في النزع، فقال: رَوَى عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عَرِيب، عن كَثِير بن مرّة، عن معاذ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله،
(1)
حديث صحيح رواه أحمد، وأبو داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(2)
"المفهم" 2/ 570.
(3)
"الفتح" 3/ 675.
دخل الجَنَّة"، فصار البيت ضَجَّةً ببكاء من حضر. انتهى
(1)
.
(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ") أي: فقط، وقيل: مع "محمد رسول الله"، فالمراد كلمتا الشهادة، قال في "الفتح": المراد بقوله: "لا إله إلَّا الله" في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يَرِد إشكال ترك ذكر الرسالة، قال الزين ابن المنيّر رحمه الله: قول: "لا إله إلَّا الله" لَقَبٌ جرى على النطق بالشهادتين شرعًا. انتهى
(2)
.
وقال الدَّمِيريّ: نقل في "الروضة" عن الجمهور الاقتصار على "لا إله إلَّا الله"، ونقل جماعة من الأصحاب -يعني الشافعيّة- أنه يضيف إليها "محمد رسول الله"؛ لأن المراد ذكر التوحيد، والمراد موته مسلمًا، ولا يسمّى مسلمًا إلَّا بهما، والأول أصحّ، أما إذا كان المحتضر كافرًا، فينبغي الجزم بتلقين الشهادتين؛ لأنه لا يصير مسلمًا إلَّا بهما. كذا في "السراج الوهّاج"، ونقله في "المرعاة".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاقتصار على "لا إله إلَّا الله" هو الراجح عندي؛ عملًا بظاهر النصّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا [1/ 2123 و 2124](916)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3117)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(972)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1826) و"الكبرى"(1902)، و (ابن ماجة) في "الجنائز"(1445)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 238)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 3)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(973)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2053) و"الحلية"(9/ 224)،
(1)
"الجرح والتعديل" 1/ 345.
(2)
"الفتح" 3/ 676.
و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3003)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 383)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1465)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر بتلقين من حضره الموت "لا إله إلَّا الله" حتى يكون آخر كلامه "لا إله إلَّا الله"، فيدخل الجنّة.
2 -
(ومنها): بيان فضل كلمة الإخلاص، وعظيم بركتها، حيث تُدخِل من كانت آخر كلامه الجنّة.
3 -
(ومنها): استحباب حضور المحتضر، والعناية به بتلقين كلمة التوحيد، وتأنيسه، وإحضار ما يحتاج إليه من ماء أو غيره إن احتاج، وتغميض عينيه إذا مات، والقيام بحقوقه، من تجهيزه للصلاة عليه ودفنه، وقضاء ديونه، ونحو ذلك، وهذه مما لا خلاف فيه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وفي أمره صلى الله عليه وسلم بتلقين الموتى ما يدلّ على تعيّن الحضور عند المحتضر؛ لتذكيره، وإغماضه، والقيام عليه، وذلك من حقوق المسلم على المسلمين، ولا خلاف في ذلك. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: مما يلزم التنبّه له ما جرى في بعض البلدان من تلقين الميت بعد دفنه، فإنه مما لا أصل له في الأحاديث الصحيحة، وقد ذكروا حديثًا ضعيفًا لا يصلح للاحتجاج به، ومن الغريب أن بعض العلماء المتأخرين، ومنهم ابن الصلاح، والنووي
(2)
مع اعترافهما بأنه ليس إسناده بالقائم، يستندون إليه، ويجعلونه من العمل بالحديث الضعيف، في فضائل الأعمال، ويستشهدون له بحديث:"واسألوا له التثبيت"، وهو حديث "صحيح، لكنه لا يشهد له؛ لأنه أمر بالدعاء بالتثبيت له، كصلاة الجنازة، وليس من باب التلقين، وقد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "إرواء الغليل" الكلام على الحديث المذكور، وتضعيفه، وأفاد، فراجعه تستفد
(3)
.
(1)
"المفهم" 2/ 570.
(2)
انظر: "المجموع" 5/ 274 - 275.
(3)
راجع: "إرواء الغليل" 3/ 203 - 305.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله في "الهدي": وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه، وسأل له التثبيت، وأمرهم أن يسألوا له التثبيت، ولم يكن يجلس يقرأ عند القبر، ولا يُلَقِّن الميت، كما يفعله الناس اليوم، وأما الحديث الذي رواه الطبراني في "معجمه" من حديث أبي أمامة، ثم أورده بطوله، ثم قال: فهذا حديث لا يصحّ رفعه. انتهى
(1)
.
والحاصل أن التلقين بعد الموت لَمْ يثبت له دليل صحيح، فلا ينبغي فعله، فتبضر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2124]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ - (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، جَمِيعًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدَّم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: ابن محمد بن عُبيد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الْهَيثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوق يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
5 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
(1)
"زاد المعاد" 1/ 522.
وقوله: (جَمِيعًا بِهَذَا الْإِسْنَادِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح، قال أبو عليّ الغَسّانيّ
(1)
وغيره: معناه: عن عمارة بن غزية الذي سبق فيه الإسناد الأول، ومعناه: رَوَى عنه الدراورديّ، وسليمان بن بلال، وهو كما قاله أبو عليّ، ولو قال مسلم: جميعًا عن عمارة بن غزية، بهذا الإسناد لكان أحسن وأوضح، وهو المعروف من عادته في الكتاب، لكنه حذفه هنا؛ لوضوحه عند أهل هذه الصنعة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ مفيد.
[تنبيه]: رواية عبد العزيز الدراورديّ، عن عمارة بن غزيّة، هذه، قد ساقها أبو نعيم: رحمه الله في "مستخرجه"(3/ 5) فقال:
(2051)
حدّثنا أبو عليّ محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسي، ثنا عبد الله بن الزبير الحميديّ، ثنا الدراورديّ (ع) وثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا محمد بن إسحاق السّرّاج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز الدراورديّ (ح) وثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا محمد بن إسحاق السّرّاج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز الدراورديّ، عن عُمارة بن غَزِيّة، عن يحيى بن عُمارة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلَّا الله".
وأما رواية سليمان بلال، عن عمارة بن غزيّة، فقد ساقها ابن ماجة رحمه الله فقال:
(1445)
حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن سليمان بن بلال، عن عُمارة بن غَزِيّة، عن يحيى بن عُمارة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنوا موتاكم لا إله إلَّا الله"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2125]
(917) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ ابْنَا أَبِي شَيْبَةَ (ع) وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ
(1)
لَمْ أر كلام أبي علي الغسانئ في "التقييد"، والله أعلم.
(2)
"شرح النووي" 6/ 219 - 220.
أَبِيِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أوأبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقيان ذُكرا في السندين السابقين. وشرح الحديث سبق فيما قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: تكلّم أبو الفضل الشهيد رحمه الله في هذا الحديث، فقال: هذا غَلِطَ فيه أبو خالد الأحمر، إنما هو مستخرج من قصّة أبي طالب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"قل: لا إله إلَّا الله، أشهد لك بها يوم القيامة". انتهى كلامه
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله أبو الفضل فيه نظر؛ لأن الحديث صحيح لا مطعن فيه؛ لأمرين:
(أحدهما): تصحيح المصنّف رحمه الله له، وقد ذكر الحافظ رحمه الله في "الفتح" أن مسلمًا أخرجه، ولم يعلّه بشيء.
(الثاني): أن هذا الحديث ثابت عن أبي هريرة رحمه الله من غير هذا الطريق، فقد أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" من طريق سفيان الثَّوْرِيّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
(1)
راجع: "شرح المقدّمة" 1/ 148.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلِمَتِهِ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عِنْدَ الْمَوْتِ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وِإنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ. انتهى
(1)
، وهو حديث صحيح.
وأخرجه أيضًا البزّار في "مسنده" بسند صحيح بنحوه.
والحاصل أن الحديث صحيح، كما هو صنيع المصنّف رحمه الله، فتبصر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2125](917)، و (ابن ماجة) في "الجنائز"(1444)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 237)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(513)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3004)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2054)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 383)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(2) - (بَابُ بَيَانِ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2126]
(918) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أفلَحَ، عَنِ ابْنِ سَفِينَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي
(2)
فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؛ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا،
(1)
"صحيح ابن حبان" 7/ 272.
(2)
وفي نسخة: "اللهم آجرني".
فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُني لَهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ لِي بِنْتًا، وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ:"أَمَّا ابْنَتُهَا، فَنَدْعُو اللهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد تقدَّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: علي بن حُجر السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(ز م، س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 110.
5 -
(سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أخو يحيي، صدوقٌ سيئ الحفظ [4](ت 141)(خت م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 26/ 1775.
6 -
(عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ) المدنيّ مولى أبي أيوب الأنصاريّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن كعب بن مالك، وابن عمر، وسفينة، ونافع مولى أبي قتادة، وابن سفينة، ومحمد وعمارة ابني عَمْرو بن حَزْم، وعُبَيد سَنُوطا.
وروى عنه يحيى وسعد ابنا سعيد الأنصاريّ، وابن عون.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، له أحاديث، وقال ابن المدينيّ، والعجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ في "مسند مالك"، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (918) وأعاده بعده، و (1751): "من قتل قتيلًا له عليه بيّنة
…
" الحديث.
7 -
(ابْنُ سَفِينَةَ) هو: عُمر بن سفينة مولى أم سلمة، صدوق [3].
رَوَى عن أبيه، وعنه ابنه بُرَية، واسمه إبراهيم بن عمر، وعمر بن كثير بن أفلح.
قال البخاريّ: إسناده مجهول، وقال أبو زرعة: عمر صدوقٌ، وقال أبو
حاتم: شيخٌ، وقال ابن عديّ: له أحاديث أفراد لا تُروى إلَّا من طريق بُرَيه عن أبيه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُخطئ، وذكره العقيليّ في "الضعفاء".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده، وله عند الترمذيّ حديثٌ في أكل الْحُبَارَى.
[تنبيه]: قال صاحب "التنبيه": قوله: "عن ابن سفينة" هو عمر، كما في "الأربعين البلدانيّات" لعبد القادر الرُّهاويّ، و"مختصر اللالكائيّ لرجال مسلم"، قاله ابن الْبُلقينيّ في كلامه على خصائص"الروضة". انتهى
(1)
.
8 -
(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّة، أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، أو ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، وماتت رضي الله عنها (62) على الأصح (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" ج 2 ص 473.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأولين من رواية الأقران.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) نافية (مِنْ) زائدة (مُسْلِمٍ) اسم "ما" الحجازيّة، أو هي تميميّة، فيكون مبتدأ (تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ) أي: أيّ مصيبة كانت، فالتنوين للتنكير، وروى ابن السنيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كلّ شيء ساء المؤمن، فهو مصيبة"
(2)
. (فَيَقُولُ مَا
(1)
"تنبيه المعلم" ص 172.
(2)
حديث ضعيف، رواه ابن السنّي في "عمل اليوم والليلة".
أَمَرَهُ اللهُ) أي: به، ففيه حذف العائد، وقوله:({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]) بدل من "ما أمره الله".
والمراد بالأمر هنا الندب بالترغيب فيه، وترتيب الأجر عليه، فإنه بمنزلة الأمر، وإلا فلا أمر في الآية.
وقال الأبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل الأمرُ أنه بوحي في غير القرآن، وَيحْتَمل أن الأمر مفهوم من الثناء على قائل ذلك؛ لأن المدح على الفعل يستلزم الأمر به.
وقال الباجيّ: رحمه الله: لَمْ يُرِد لفظ الأمر بهذا القول؛ لأنه إنما ورد القرآن بتبشير من قاله، والثناء عليه، وَيحْتَمِل أن يشير إلى غير القرآن، فيُخبر صلى الله عليه وسلم عن أمر الباري لنا بذلك، ولذا وصله بقوله: "اللهم أُجُرْنِي
…
إلخ".
وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: أين الأمر في الآية؛، قلت: لَمّا أمره بالبشارة، وأطلقها ليعمّ كلَّ مبشَّر به، وأخرجه مخرج الخطاب؛ ليعمّ كلّ أحد نبّه على تفخيم الأمر، وتعظيم شأن هذا القول، فنبّه بذلك على كون القول مطلوبًا، وليس الأمر إلَّا طلب الفعل، وأما التلفّظ بذلك مع الجَزَع فقبيح، وسخط للقضاء.
وقال القاري رحمه الله: والأقرب أن كلّ ما مدح الله تعالى في كتابه من خصلة يتضمّن الأمر بها، كما أن المذمومة فيه تقتضي النهي عنها. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: رحمه الله: قوله: "فيقول ما أمر الله" هذا تنبيه على قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الآية [البقرة: 155] مع أنه ليس فيها أمر بذلك، وإنما تضمّنت مدح من قاله، فيكون ذلك القول مندوبًا، والمندوب مأمور به؛ أي: مطلوب ومُقتضىً، وإن سُوِّغ تركه، وقال أبو المعالي: لَمْ يَختلف الأصوليون أن المندوب مقتضًى ومطلوبٌ، وإنما اختلفوا هل يُسمّى مأمورًا به؛، قال القرطبيّ: وهذا الحديث يدلّ على أنه يسمى بذلك. انتهى
(2)
.
({إنَّا}) أي: إن ذواتنا، وجميع ما يُنسب إلينا ({لِلَّهِ}) ملكًا وخلقًا ({وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}) أي: في الآخرة، قال القرطبيّ رحمه الله: "إنا لله
…
إلخ" كلمة اعتراف بالملك لمستحقّه، وتسليم له فيما يُجريه في ملكه، وتهوينٌ
(1)
"المرعاة" 5/ 309 - 310.
(2)
"المفهم" 2/ 570.
للمصيبات بتوقّع ما هو أعظم منها، وهو الثواب المرتّب عليها، وتذكير المرجع والمال الذي حكم به ذو العزّة والجلال. انتهى
(1)
.
وقوله: (اللَّهُمَّ) من جُملة ما أمر الله تعالى به (اجُرْنِي) بوصل الهمزة، وضم الجيم، وفي نسخة:"آجرني" بالمدّ، وكسر الجيم، وقال القاضي عياض رحمه الله:"اجُرني" بالقصر والمدّ، حكاهما صاحب "الأفعال"
(2)
، وقال الأصمعيّ، وأكثر أهل اللغة: هو مقصور لا يُمَدّ، ومعنى أَجَرَهُ اللهُ: أعطاه أجره وجزاء صبره، وهَمِّه في مصيبته. انتهى
(3)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: آجَرهُ يُؤجِره: إذا أثابه، وأعطاه الأجر والثواب، وكذلك أَجَرَه يَأْجِرُه، والأمر منهما آجِرْني، وَأْجُرني. انتهى
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَجَرَهُ اللهُ أَجْرًا، من باب قتل، ومن باب ضرب لغة بني كعب، وآجره بالمدّ لغة ثالثة: إذا أثابه. انتهى
(5)
.
وقوله: (فِي مُصِيبَتِي) متعلّق بـ "أجرني"، قال القاري رحمه الله: والظاهر أن "في" بمعنى الباء سببيّة.
(وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) أي: اجعل لي خَلَفًا مما فات عني في هذه المصيبة خيرًا من الفائت فيها، ففي الكلام تجوّز وتقدير
(6)
.
قال النووي رحمه الله: هو بقطع الهمزة، وكسر اللام، قال أهل اللغة: يقال لمن ذهب له مالٌ، أو ولدٌ، أو قريبٌ، أو شيءٌ يُتَوَقَّع حصولُ مثله: أخلف الله عليك؛ أي: رَدّ عليك مثله، فإن ذهب ما لا يُتَوقَّع مثله بأن ذهب والدٌ، أو عمّ، أوأخٌ لمن لا جَدَّ له، ولا والد له، قيل: خَلَفَ الله عليك، بغير ألف؛ أي: كان الله خليفةً منه عليك. انتهى
(7)
.
(1)
"المفهم" 2/ 570.
(2)
هو: عليّ بن جعفر السعديّ المعروف بابن القطاع، توفي سنة (515 هـ).
(3)
"شرح النوويّ" 6/ 220.
(4)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 25.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 5.
(6)
"المرعاة" 5/ 310.
(7)
"شرح مسلم" 6/ 220.
وقال ابن الأثير رحمه الله: يقال: خَلَفَ اللهُ لك خَلَفًا بخير، وأخلف عليك خيرًا؛ أي: أبدلك بما ذَهَب منك، وعَوَّضك عنه، وقيل: إذا ذهب للرجل ما يَخْلُفُه، من مثل المال والولد، قيل: أخلف الله لك وعليك، وإذا ذهب له ما لا يخلُفُه غالبًا كالأب والأم، قيل: خَلَف الله عليك، وقد يقال: خلف الله عليك إذا مات لك ميت؛ أي: كان الله خليفة عليك، وأخلف الله عليك أي: أبدلك. انتهى
(1)
.
(إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا") أي: عوّضه الله تعالى خيرًا من تلك المصيبة (قَالَتْ) أم سلمة رضي الله عنها: (فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ) تعني زوجها عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم المخزوميّ المكيّ، أمه بَرّة بنت عبد المطلب، وكان أخا النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهاجر الهجرتين، وشَهِد بدرًا، وتُوُفِّي بالمدينة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرْجِعه من بدر، فتزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم بزوجته أم سلمة، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاسترجاع عند المصيبة، وعنه أم سلمة.
وذكر ابن سعد أنه شهد بدرًا وأُحُدًا، وجرح باحد، ثم بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بني أسد على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة، ثم قدم المدينة، فانتقض الجرح، فمات لثلاث مَضَين من جمادى الآخرة، وبنحوه ذكره يعقوب بن سفيان، وابن أبي خيثمة، والْبَرْقيّ، وأبو جعفر الطبريّ، والحاكم، وأبو نعيم، وجماعة.
وقال العسكريّ: مات على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة، ونقله البغويّ عن أبي بكر بن زنجويه، وهو مقتضى قول ابن سعد، وقال عبد البر: تُوُفّي في جمادى الآخرة سنة ثلاث، وهو يوافق الأول.
أخرج له الترمذيّ، والنسائيّ في "اليوم والليلة"، وابن ماجة، وليس له عند مسلم إلَّا ذكرٌ فقط.
(قُلْتُ) أي: في نفسي، أو باللسان استغرابًا لوجود مثل ذلك (أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟) وفي الرواية الآتية: "قلت: من خير من أبي
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 66.
سلمة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "، والاستفهام للإنكار؛ أي: لا أحد من المسلمين خيرٌ منه، وهذا في تقديرها.
وقال الطيبيّ رحمه الله: هذا تعجّب من تنزيل قوله صلى الله عليه وسلم: "إلَّا أخلف الله له خيرًا منها" على مصيبتها؛ استعظامًا لأبي سلمة. انتهى؛ يعني في زعمها.
وقولها: (أَوَّلُ بَيْتٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) استئناف بيانيّ، فكأن سائلًا سالها، وما سبب استغرابك أن يوجد خير من أبي سلمة؟، فأجابت بأنه أول أهل بيت (هَاجَرَ) إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو نعيم: كان أول من هاجر إلى المدينة، زاد ابن منده: وإلى الحبشة، وذكره موسى بن عُقبة وغيره من أصحاب المغازي فيمن هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وفيمن شَهِدَ بدرًا، وأخرج البغويّ بسند صحيح إلى قبيصة بن ذؤيب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى أبا سلمة يعوده، وهو ابن عمّته، وأول من هاجر بظعينته إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة
(1)
.
وقال الأبيّ: تعجّبت أم سلمة؛ لاعتقادها أنه لا خير من أبي سلمة، ولم تطمع أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خارج من هذا العموم، وتعني بقولها:"من خيرٌ من أبي سلمة" بالنسبة إليها، فلا يكون خيرًا من أبي بكر؛ لأن الخير في ذاته قد لا يكون خيرًا لها، وَيحْتَمِل أن تَعْني أنه خير مطلقًا، والإجماع على أفضليّة أبي بكر إنما على من تأخّرت وفاته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل هو أفضل ممن تقدّمت وفاته؛ فيه خلاف، فلعلّها أخذت بأحد القولين، وقولها: أولُ بيت هاجر يدلّ على أنَّها أرادت أنه أفضل مطلقًا بالنسبة إليها. انتهى.
قال صاحب "المرعاة": والظاهر أن الخيريّة بالنسبة إليها، وباعتبار نفسها، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.
(ثُمَّ إِني قُلْتُهَا) أي: كلمة الاسترجاع والدعاء المذكور بعدها (فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: بأن جعلني زوجته، وكان عِوَضَ خير لي من زوجي أبي سلمة رضي الله عنه.
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 131 - 132.
(2)
"المرعاة" 5/ 310 - 311.
(قَالَتْ: أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ) - بفتح الموحَّدة، وسكون اللام، بعدها مثناة، ثم مهملة مفتوحات - ابن عمرو بن عُمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللَّخْميّ، حليف بني أسد بن عبد العزي، يقال: إنه حالف الزبير، وقيل: كان مولى عبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد، فكاتبه فأدَّى مكاتبته، اتفقوا على شهوده بدرًا، وثبت ذلك في "الصحيحين" من حديث عليّ في قصة كتابة حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فنزلت فيه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} الآية [الممتحنة: 1]، فقال عمر: دَعْني أضرب عنقه، فقال: إنه شهد بدرًا، واعتذر حاطب بأنه لَمْ يكن له في مكة عشيرة تدفع عن أهله، فقَبِل عذره.
ورَوَى مسلم وغيره من طريق أبي الزبير، عن جابر، أن عبدًا لحاطب بن أبي بَلْتعة جاء يشكو حاطبًا، فقال: يا رسول الله ليدخلنّ حاطب النارَ، فقال:"لا، فإنه شَهِدَ بدرًا، والحديبية".
قال المدائنيّ: مات حاطب في سنة ثلاثين في خلافة عثمان، وله خمس وستون سنةً، وكذا رواه الطبرانيّ، عن يحيى بن بُكَير
(1)
، وليس له في الكتب الستة إلَّا ذكرٌ فقط.
(يَخْطُبُنِي) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: خَطَب المرأةَ إلى القوم، من باب نصر: إذا طلب أن يتزوّج منها، واختطبها، والاسم الْخِطْبةُ بالكسر
(2)
. (لَهُ) أي: لنفسه صلى الله عليه وسلم.
ووقع في رواية لأحمد، والنسائيّ أن الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم لخطبتها هو عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فيَحتمل أن يكون أرسله أولًا، ثم أرسل بعده حاطبًا، أو بالعكس، والله تعالى أعلم.
[فإن قلت]: يعارض هذا ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة، قالت: أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 4 - 5.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 173.
قولًا، فسُرِرت به، قال:"لا تصيب أحدًا من المسلمين مصيبةٌ، فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلَّا فعل ذلك به"، قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما تُوفي أبو سلمة استرجعت، وقلت:"اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلفني خيرًا منه"، ثم رجعت إلى نفسي قلت: من أين لي خير من أبي سلمة؛ فلما انقضت عدّتي، استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أدبغ إهابًا لي، فغسلت يدي من القَرَظ، وأَذِنت له، فوضعت له وِسَادةَ أَدَمٍ حَشْوها لِيفٌ، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته، قلت: يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة فيّ، ولكني امرأة فيّ غَيْرةٌ شديدةٌ، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة دخلت في السنّ، وأنا ذات عيال، فقال:"أما ما ذكرت من الْغَيْرة، فسوف يذهبها الله عز وجل منك، وأما ما ذكرت من السنّ، فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال، فانما عيالك عيالي"، قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فهذا الحديث يخالف حديث مسلم من وجهين:
[أحدهما]: أن الحديث سمعته أم سلمة من زوجها أبي سلمة.
[والثاني]: أن الذي خطبها هو النبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولم يُرسل غيره.
[قلت]: يجاب عن الأول بحمله على أنَّها سمعته أولًا من زوجها، ثم سمعته بعد ذلك منه صلى الله عليه وسلم مباشرةً، ومثل هذا في الأحاديث كثير.
ويُجاب عن الثاني بأن يقال: إنه أرسل أولًا غيره، ثم تقدّم إليها بنفسه للتأكيد، فأعادت عليه ما قالت للرسول من الأعذار الثلاثة، فأجابها عن كلّها بما يزيل عذرها، والله تعالى أعلم.
(فَقُلْتُ) أي: معتذرة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خوفًا من عدم قيامها بحقوقه (إِنَّ لِي بِنْتًا) هي زينب بنت أبي سلمة؛ أي: وهي تضرّ بحسن المعاشرة الزوجيّة.
[تنبيه]: قال ابن الأثير رحمه الله: أم سلمة رضي الله عنها لها ابنتان من أبي سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ رضي الله عنه: إحداهما: دُرّة، والأخرى: زينب. انتهى.
(وَأَنَا غَيُورٌ) أي: كثيرة المغيرة، وهي تؤدّي إلى عدم الوفاء بحقوق
الزوجيّة، و "الغيرة": كراهة الشخص اشتراك غيره فيما هو حقّه، أفاده الكفويّ
(1)
؛ تعني: أنَّها ذات غَيْرة شديدة لا تتمكن معها من الاجتماع مع سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وقال النوويّ رحمه الله: يقال: امرأة غَيْرَي، وغَيُورٌ، ورجلٌ غَيُورٌ وغَيْران، وقد جاء فَعُول في حفات المؤنّث كثيرًا، وإن كان أصلها للمذكّر؛ كقولهم: امرأةٌ عَرُوسٌ، وعَرُوبٌ، وضَحُوكٌ لكثيرة الضحك، وعَقَبةٌ كَؤُودٌ، وأرضٌ صَعُودٌ، وهَبُوطٌ، وحَدُورٌ، وأشباهها. انتهى
(2)
.
وقال الفيوميّ رحمه الله: غار الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغَارُ، من باب تَعِبَ غَيْرًا، وغَيْرةً بالفتح، وغَارًا، قال ابن السِّكِّيت: ولا يقال: غِيرًا وغِيرةً بالكسر، فالرجل غَيُورٌ وغَيْرَانُ، والمرأة غَيُورٌ أيضًا، وغَيْرَي، وجمع غَيُور غَيُرٌ، مثلُ رَسُول ورُسُل، وجمع غَيْران وغَيْرَى غَيَارَى بالضمّ والفتح. انتهى
(3)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَمَّا ابْنَتُهَا، فَنَدْعُو اللهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا) أي: بأن تجد من يكفلها من قراباتها، وزاد في رواية عند الإمام أحمد من وجه آخر: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حييًا كريمًا يستحيي، فرجع، ففعل ذلك مرارًا، ففَطِنَ عمار بن ياسر لما تصنع، فأقبل ذات يوم وجاء عمار، وكان أخاها لأمها، فدخل عليها، فانتشطها
(4)
من حَجْرها، وقال: دَعِي هذه المقبوحة المشقوحة
(5)
التي آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فجعل يُقَلِّب بصره في البيت، ويقول:"أين زناب؟ ما فعلت زناب؟ "، قالت: جاء عمار، فذهب بها، قال: فبنى بأهله.
وأخرجه من وجه آخر أيضًا، من رواية عبد العزيز ابن بنت أم سلمة، عن أم سلمة، أن أبا سلمة لَمّا توفي عنها، وانقضت عدتها، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
"الكلّيات" لأبي البقاء الكفويّ ص 671.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 221.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 458.
(4)
أي: أخذها.
(5)
بمعنى المقبوحة.
فقالت: يا رسول الله: إن فِيّ ثلاث خصال: أنا امرأة كبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا أكبر منك"، قالت: وأنا امرأة غيور، قال:"أدعو الله عز وجل، فيذهب عنك غيرتك"، قالت: يا رسول الله، وأنا امرأة مُصْبِية، قال:"هم إلى الله، وإلى رسوله"، قال: فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتاها، فوجدها ترضع، فانصرف، ثم أتاها فوجدها ترضع، فانصرف، قال: فبلغ ذلك عمار بن ياسر، فأتاها، فقال: حُلْتِ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حاجته، هَلُمّ الصبيةَ، قال: فأخذها، فاسترضع لها، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أين زناب؟ "؛ يعني: زينب، قالت: يا رسول الله أخذها عمار، فدخل بها، وقال:"إن بك على أهلك كرامةً"، قال: فاقام عندها إلى العشيّ، ثم قال:"إن شئت سبَّعت لك، صوان سبعت لك سبعت لسائر نسائي، وإن شئت قسمت لك"، قالت: لا، بل اقسم لي. انتهى.
(وَأَدْعُو اللهَ أَنْ يَذْهَبَ) بفتح أوله وثالثه (بِالْغَيْرَةِ") بتفتح الغين؛ أي: يزيلها عنك، يقال: أذهب الله الشيءَ، وذَهب به، كقوله تعالى:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2126 و 2127 و 2128](918)، و (أحمد) في "مسنده"(309 و 321)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2056 و 2057 و 2058)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب قول هذا الذكر عند المصيبة، فيقول:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلِف لي خيرًا منها.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة هذا الذكر، حيث يُخلف الله تعالى لمن قاله خيرًا مما أصيب منه.
3 -
(ومنها): بيان فضل أم سلمة، وزوجها رضي الله عنهما، حيث إنهما أول أهل بيت هاجر إلى الله ورسوله، قال في "الإصابة": وكانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع، والعقل البالغ، والرأي الصائب، وإشارتها على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية
(1)
تدلّ على وفور عقلها، وصواب رأيها. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ للمذهب المختار في الأصول، أن المندوب مأمور به؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور به، مع أن الآية الكريمة تقتضي ندبه، وإجماعُ المسلمين منعقد عليه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2127]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أفلَحَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ سَفِينَةَ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ) هو بقصر الهمزة، ومدّها، والقصر
(1)
يعني به: قولها للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما شقّ على الصحابة أمره بالتحلّل، قالت له: ادع حالقك، فليحلقك، فإنهم يتابعونك، ففعل، فكادوا يقتتلون.
(2)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 224.
أفصح وأشهر كما سبق
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحاديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2128]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ - يَعْنى ابْنَ كَثِيرٍ - عَنِ ابْنِ سَفِينَةَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، وَزَادَ: قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لِي، فَقُلْتُهَا، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أبوه) عبد الله بن نمير، تقدّم قبل باب أيضًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَزَادَ: قَالَتْ
…
إلخ) فاعل "زاد" ضمير عبد الله بن نمير.
وقولها: (ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لِي) أي: قضى الله، وقدّر لي أن أقولها، فقلتها، وقد تقدّم في أوائل"شرح المقدّمة" عند قول مسلم رحمه الله:"أن لو عُزم لي عليه" البحث هل يجوز إطلاق العزم على الله أم لا؟، ورجحت أنه لَمْ يرد في جوازه ولا في منعه شيء، بل ظاهر ما ثبت عن أم سلمة رضي الله عنهما هنا يدلّ للجواز؛ لأنَّها من أهل اللسان، وأهل الفضل والعلم، وقد شاهدت التنزيل، وعاشت معه صلى الله عليه وسلم، فهي فقيهة لا يخفى عليها المحذور من هذا الباب، فتأمل، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن سعد بن سعيد هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" فقال:
(1)
"شرح النوويّ " 6/ 221.
(26095)
حدّثنا ابن نمير، قال: حدّثنا سعد بن سعيد، قال: أخبرني عُمَر بن كثير، عن ابن سفينة مولى أم سلمة، عن أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، اللهم آجُرْني في مصيبتي، وأخلفني خيرًا منها، إلَّا أجره الله في مصيبته، وخلف له خيرًا منها"، قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: من خير من - أبي سلمة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ثم عَزَمَ الله عز وجل لي، فقلتها:"اللهم اجُرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها"، قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب.
(3) - (بَابُ بَيَانِ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْمَرِيضِ أَوْ الْمَيْتِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2129]
(919) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ، أَوِ الْمَيِّتَ، فَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ"، قَالَتْ: فَلَمَا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ، قَالَ: قُولي: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ، وَأَعْقِبْني مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: فَأَعْقَبَنِي اللهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِى مِنْهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا أيضًا.
4 -
(شَقِيقُ) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين سوى الصحابيّة، فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أن شيخه أبا كريب أحد من اتّفق الجماعة بالرواية عنه بلا واسطة.
5 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنهما أنَّها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ، أَوِ الْمَيتَ) هكذا رواية المصنّف رحمه الله ب "أو"، والظاهر أنَّها للشكّ من الراوي، ويَحْتَمِل أن تكون للتنويع، ووقع في رواية أبي داود، والنسائيّ، والبيهقيّ، بلفظ:"إِذَا حَضَرْتُمُ الميت"(فَقُولُوا خَيْرًا) قال السنديّ رحمه الله: أي ادعوا له بالخير، لا بالشرّ، أو ادعوا بالخير مطلقًا، لا بالويل، ونحوه، والأمر فيه للندب، ويَحْتَمِل أن المراد: فلا تقولوا شرًّا، فالمقصود النهي عن الشرّ بطريق الكناية، لا الأمر بالخير. انتهى.
وقال المظهر: أي ادعوا للمريض بالشفاء، وقولوا: اللَّهم اشفه، وللميت بالرحمة والمغفرة، وقولوا: اللهم اغفر له، وارحمه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في قول السنديّ: والأمر فيه للندب محلّ توقّف؛ إذ يَحتاج إلى صارف له عن الوجوب؛ لأن الأمر للوجوب إلَّا لصارف، فليُتأمّل.
وأما الاحتمال الذي ذكره أخيرًا فبُعده أظهر من أن يخفى.
ثم هذا الدعاء أعمّ من أن يكون لنفسه، وللميت، ففي الرواية الآتية من طريق قَبِيصة بن ذُؤيب، عن أم سلمة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أبي
سلمة، وقد شَقَّ بصرُهُ، فأغمضه، ثم قال:"إن الروح إذا قبض، تبعه البصر"، فضَجَّ ناس من أهله، فقال:"لا تدعوا على أنفسكم إلَّا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون"، ثم قال:"اللَّهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله، يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه"، فتبتين أن الدعاء عند الميت يشمل الدعاء له، وللشخص نفسه، فلا يدعو إلَّا بخير، والله تعالى أعلم.
(فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن الملائكة
…
إلخ، والمراد بالملائكة، ملك الموت، وأعوانه، أو عموم الملائكة الذين يحضرون الميت، وهذا أولي، لما أخرجه النسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا حُضِر المؤمنُ أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء
…
. وإذا احتضر الكافر أتته ملائكة العذاب بِمِسْحٍ
…
" الحديث
(1)
.
(يُؤَمِّنُونَ) بالتشديد، من التأمين؛ أي: يقولون: آمين (عَلَى مَا تَقُولُونَ") أي: من الدعاء بخير، أو شرّ، ودعاء الملائكة مستجاب، فلا يجوز للشخص أن يدعو بما فيه مضرّة له، أو لغيره.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذا حَضَرتم الميت، فقولوا خيرًا" أمر تأديب، وتعليم بما يقال عند الميت، وإخباز بتأمين الملائكة على دعاءِ مَن هناك، ومن هذا استحبّ علماؤنا أن يحضر الميت الصالحون، وأهل الخير حالة موته
(1)
هو ما أخرجه النسائيّ (1833) بسند صحيح، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضيًّا عنك إلى رَوْح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا، حتى يأتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يَقْدَم عليه، فيسألونه ماذا فَعَل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دَعُوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا احتُضِر أتته ملائكة العذاب بِمِسْح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب الله عز وجل، فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار". انتهى.
ليذكروه، ويدعوا له، ولمن يخلفه، ويقولوا خيرًا، فيجتمع دعاؤهم، وتأمين الملائكة، فينتفع الميت، ومن يُصاب به، ومن يَخلُفه. انتهى.
(قَالَتْ) أم سلمة رضي الله عنها (فَلَمَّا ماتَ أَبُو سَلَمَةَ) أي: زوجها قبل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تقدّمت ترجمته في الحديث الماضي (أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ، قَالَ: قُولِي: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ) وفي رواية النسائيّ: "فَلمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَقُولُ: قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنَا وَلَهُ" (وَأَعْقِبْنِي) بقطع الهمزة، من الإعقاب؛ أي: عَوِّضني، وأَعطِنِي بدله، قال الشاعر [البسيط]:
وَمَنْ أَطَاعَ فَأَعْقِبْهُ بِطَاعَتِهِ
…
كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرَّشَدِ
(مِنْه) أي: بدله، فـ "من" بمعنى "بدل"، كما قال في "الخلاصة":
لِلِانْتهَا "حَتَّى" وَلَامٌ وَ"إِلَى"
…
وَ"مِنَ" وَبَاءٌ يُفْهِمَانِ بَدَلَا
(عُقْبَى حَسَنَةً") - بضم العين المهملة، وسكون القاف - بوزن بُشْرى: أي بدلًا صالحًا (قَالَتْ) أم سلمة رضي الله عنها: (فَقُلْتُ) أي: ما أمرني النبيّ صلى الله عليه وسلم من الدعاء المذكور (فَأَعْقَبَنِي اللهُ) أي: أعطاني الله عز وجل عوضًا منه (مَنْ) بفتح الميم موصولة مفعول "أعقبني"، وصلتها جملة قوله:(هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْهُ) وقولها: (مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم) منصوب على البدليّة من "مَنْ".
والمعنى: أن الله تعالى عوّضها خيرًا من أبي سلمة رضي الله عنه وذلك هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث تزوَّجها بعد موته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2129](919)، و (أبو داود) في "الصلاة"(3115)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(977)، و"ابن ماجه"(1447)، و (النسائيّ)(1825) و"الكبرى"(11951) وفي "عمل اليوم والليلة"(1069)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 291 و 306 و 322)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"
(1537)
، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2055)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر لمن حضر المريض أن لا يدعو إلَّا بخير؛ لأن الملائكة يؤمّنون على دعائه، فإذا دعا بغير خير كان وَبَالًا عليه.
2 -
(ومنها): بيان حضور الملائكة عند المريض، وتأمينهم على دعاء الداعين في ذلك المكان.
3 -
(ومنها): بيان استجابة دعاء الملائكة، وأنها لا تردّ.
4 -
(ومنها): أن من مات له زوج، أو زوجة، أو نحوهما ينبغي له أن يسترجع، وبدعو بقوله: الفهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عُقْبَى حسنة، فإن الله تعالى سيعوّضه خيرًا منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(4) - (بَابٌ فِي بَيَانِ إِغْمَاضِ الْمَيْتِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2130]
(920) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ"، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمَنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ"، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ في قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وله (74) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرِو) بن الْمُهَلَّب بن عمرو الأزديّ الْمَعْنيّ، أبو عمرو البغداديّ، وُيعرَف بابن الكرمانيّ، ثقةٌ، من صغار [9](ت 214) على الصحيح، وله (86) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 95/ 511.
3 -
(أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ) إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الكوفيّ، ثمّ الْمِصِّيصيِّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 88.
4 -
(خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) ابن مِهْرَان، أبو الْمَنَازل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ يرسل [51](ت 1 و 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
5 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْمِيّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ كثير الإرسال، يقال: فيه نصب يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
6 -
(قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبِ) بن حَلْحَلة الْخُزاعيّ، أبو سعيد، ويقال: أبو إسحاق المدنيّ، نزيل دمشق، وُلد عام الفتح [2].
رَوَى عن عمر بن الخطاب، ويقال: مرسل، وعن بلال، وعثمان بن عفان، وحذيفة، وعبد الرَّحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وعمرو بن العاص، ومحمد بن مسلمة، وتميم الداريّ، وأبي الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه إسحاق، والزهريّ، ورجاء بن حيوة، وعثمان بن إسحاق بن خَرَشة، وعبد الله بن موهب، وعبد الله بن أبي مريم مولى بني ساعدة، ومكحول، وأبو قلابة الجرميّ، وآخرون.
قال ابن سعد: كان على خاتم عبد الملك، وكان آثر الناس عنده، وكان البريد إليه، وكان ثقةٌ مأمونًا، كثير الحديث، وقال ابن لَهِيعة، عن ابن شهاب: كان من علماء هذه الأمة، وذكره أبو الزناد في الفقهاء، وقال محمد بن راشد، عن مكحول: ما رأيت أحدًا أعلم منه، وقال مغيرة، عن الشعبيّ: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت، وقال الغلابيّ، عن ابن معين: أُتيَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو له بالبركة، وقال الهيثم، عن عبد الله بن عياش: ذهبت عينه يوم الحرّة.
وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": وُلد
في أول سنة من الهجرة، وكان له فقه وعلم، وقال ابن قانع: يقال: له رؤية، وقال أبو موسى المدينيّ في "الذيل": أورده العسكريّ في الصحابة، وقال جعفر: لا يصح سماعه؛ لأنه وُلد يوم الفتح، ورَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديث مراسيل.
وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: كان من فقهاء أهل المدينة وصالحيهم، مات بالشام سنة (86)، وقيل: سنة (96)، وقال خليفة وغير واحد: مات سنة ست وثمانين، وقال ابن سعد: مات سنة ست، أو سبع، وقال ابن معين: مات سنة (7) وقيل: مات سنة (8)، وقيل: مات سنة (89) في خلافة عبد الملك بن مروان.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (925) وحديث (1408): "لا تُنْكَح العمة على بنت الأخ
…
"الحديث، وأعاده بعده.
و"أمُّ سلمة" رضي الله عنها ذُكرت قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: خالد، عن أبي قلابة، عن قبيصة.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنه أنَّها (قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِيِ سَلَمَةَ) رضي الله عنه زوجها (وَقَدْ شَقَّ) بفتح الشين، مبنيًّا للفاعل، ورفع (بَصَرُهُ) على الفاعليّة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، وهو المشهور، وضبطه بعضهم "بَصَرَهُ" بالنصب، وهو صحيح أيضًا، والشين مفتوحة بلا خلاف، قال القاضي: قال صاحب "الأفعال": يقال: شَقَّ بَصَرُ الْميتِ، وشَقَّ الميتُ بَصَرَهُ، ومعناه شَخَصَ، كما في الرواية الأخرى، وقال ابن السِّكِّيت في "الإصلاح"، والجوهريّ حكايةً عن ابن السَّكِّيت: يقال: شَقَّ بَصَرُ الميت، ولا تقل: شُقَّ الميتُ بصرَهُ، وهو الذي
حضره الموت، وصار ينظر إلى الشيء، لا يرتدّ إليه طرفه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: صوابه، وصحيحه شَقَّ بفتح الشين مبنيًّا للفاعل، وبرفع البصر؛ أي: انفتح، يقال: شَقّ بصر الميت، وشَقَّ الميتُ بصرَهُ: إذا شَخَصَ بصرَهُ، بفتح الخاء أيضًا، قاله صاحب "الأفعال"، ولم يَعرف أبو زيد الضمّ. انتهى
(2)
.
(فَأَغْمَضَهُ) أي: سدّ صلى الله عليه وسلم أجفان أبى سلمة رضي الله عنه بعد موته، وغطّاها؛ لئلا يقبح منظره.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ) بالبناء للمفعول (تَبِعَهُ الْبَصَرُ") معناه إذا خرج الروح من الجسد يتبعه البصر ناظرًا أين يَذْهَب، وفي الروح لغتان التذكير، والتأنيث، وهذا الحديث دليل للتذكير.
قال التوربشتيّ رحمه الله: يَحْتَمِل هذا وجهين:
أحدهما: أن الروح إذا قُبض تبعه البصر؛ أي: في الذهاب، فلهذا أغمضته؛ لأن فائدة الانفتاح ذهبت بذهاب البصر عند ذهاب الروح.
والوجه الثاني: أن روح الإنسان إذا قبضتها الملائكة نظر إليها الذي حضره الموت نظرًا شزرًا لا يرتدّ إليه طرفه حتى تضمحلّ بقيّة القوّة الباصرة الباقية بعد مفارقة الروح الإنسانيّ التي يقع لها الإدراك والتمييز دون الحيوانيّ الذي به الحسّ والحركة، وغير مستنكر من قدرة الله تعالى أن يكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى يصير ما لَمْ يكن يبصره، وهذا الوجه في حديث أبي هريرة الآتي أظهر. انتهى
(3)
.
(فَضَجَّ) بتشديد الجيم: أي رفع الصوت بالبكاء، وصاح (نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ) أي: من أهل أبي سلمة رضي الله عنه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ) أي: لا تدعوا بالويل والثبور على عادة الجاهليّة، وقال القرطبيّ: ويمكن أن يكون المراد أنهم إذا تكلّموا في حقّ الميت بما لا يرضاه الله حتى يرجع تبعته
(1)
"شرح النووي" 6/ 222 - 223.
(2)
"المفهم" 2/ 572.
(3)
"المرعاة" 5/ 311.
إليهم، فكأنهم دعوا على أنفسهم بشرّ، أو يكون المعنى كما في قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [النساء: 29]؛ يعني بعضكم بعضًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره القرطبيّ من الاحتمالين مما لا يخفى بُعده، بل المعنى هو ما ذكرناه أَوّلًا، فتبصّر.
(فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ") أي: في دعائكم من خير أو شرّ (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ) بتشديد الياء الأولى؛ أي: اجعله في زمرة الذين هديتهم إلى الإسلام، ورفعت درجتهم به (وَاخْلُفْهُ) بوصل الهمزة، وضمّ اللام، من خَلَف يَخلُفُ: إذا قام مقام غيره في رعاية أمره، وحفظ مصالحه؛ أي: كن خليفة له (فِي عَقِبِهِ) بكسر القاف؛ أي: أولاده، وقيل: من يعقُبه، ويتأخّر عنه من ولد وغيره، ولذا أبدل عن "عقبه" قوله:(فِي الْغَابِرِينَ) بإعادة الجارّ؛ أي الباقين في الأحياء من الناس؛ يعني كن خليفة له في أولاده الباقين، فاحفظ أمورهم، ومصالحهم، ولا تكلهم إلى غيرك.
وقال الأشرف رحمه الله: قوله: "في الغابرين" بدلٌ من "عَقِبه"؛ أي: كن خليفة له في الباقين من عقبه.
قال الطيبيّ: أقول: ويمكن أن يكون "في عقبه" متعلّقًا بالفعل، و"في الغابرين" حالًا من "عقبه"، والمعنى: أوقع خلافتك في عَقِبه، حال كونهم كائنين في جملة الباقين من الناس، بأن يستميل قلوب الناس إليهم حتى يكونوا مقبولين بينهم، يُراعون أحوالهم، ينفعون ولا يضرّون. انتهى
(1)
.
(وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ) فيه استحباب تقديم النفس في الدعاء (وَافْسَحْ) بوصل الهمزة، فعل طلب من فسح يفسح، من باب فتح؛ أي: أوسع (لَهُ فِي قَبْرِهِ) قال القاري رحمه الله: دعاء له بعد الضغط، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل عند أحمد وغيره:"فينادي مناد في السماء أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجَنَّة، وألبسوه من الجَنَّة، وافتحوا له بابًا إلى الجَنَّة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطيبها، ويُفْسَح له في قبره مَدَّ بصره".
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1374.
(وَنوِّرْ لَهُ فِيهِ") أي: في قبره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2130 و 2131](920)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3118)، و (النسائيّ) في "المناقب" من "الكبرى"(8285)، و (ابن ماجة) في "الجنائز"(1454)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 297)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2059 و 2060)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب إغماض الميت، قالوا: والحكمة فيه أن لا يَقبُحٍ منظره لو تُرِك إغماضه، قال القرطبيّ رحمه الله: وهو سنّة عَمِلَ بها المسلمون كافّة، والمقصود تحسين وجه الميّت، وستر تغيّر بصره. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان استحباب الدعاء للميت عند موته، ولأهله وعقبه بأمور الدنيا والآخرة.
3 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أن الميت يُنعَّم في قبره، أو يُعذَّب.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث بلفظ الروح، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بلفظ:"فذلك حين يتبع بصره نفسه" دليلٌ على أن الروح والنفس عبارتان عن معنى واحد، وهو الذي يُقبض بالموت، وفيهما ما يدلّ على أن الموت ليس عدمًا، ولا إعدامًا، وإنما انقطاع تعلّق الروح بالبدن ومفارقته، والحيلولة بينهما، ثم إن البدن يبلي، ويفنى إلَّا عَجْبَ الذَّنْب الذي منه بُدِئ خلق الإنسان، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفيه دليل لمذهب أصحابنا المتكلمين، ومن وافقهم أن الروح أجسام لطيفة، مُتَخَلِّلة في البدن، وتذهب
(1)
"المفهم" 2/ 572 - 573.
(2)
"المفهم" 2/ 573.
الحياة من الجسد بذهابها، وليس عَرَضًا كما قاله آخرون، ولا دَمًا كما قاله آخرون، وفيها كلام متشعب للمتكلمين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا البحث من فضول الكلام، بل مما لا ينبغي أن يُصرف إليه النظر؛ لأنه مما سدّ الشارع بابه، حيث قال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، فيا ليت العلماء لَمْ يخوضوا في مثله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2131]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ"، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَوْسِعْ لَهُ فِي قَبْرِهِ"، وَلَمْ يَقُل: "افْسَحْ لَهُ"، وَزَادَ: قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: وَدَعْوَةٌ أُخْرَى سَابِعَةُ نَسِيتُهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ الْوَاسِطيُّ) هو: محمد بن موسى بن عمران القطّان، أبو جعفر الواسطي ابن عمة أحمد بن سنان، صدوقٌ [11].
رَوَى عن يزيد بن هارون، وأبي أحمد الزبيريّ، وأبي عامر العقديّ ووهب بن جرير بن حازم، والمثنى بن معاذ بن معاذ العنبريّ، وحماد بن عيسى الجهنيّ، ومعلى بن عبد الرَّحمن الواسطيّ، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وابن ماجة، وأبو إسماعيل السلميّ، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ، وأسلم بن سهل الواسطيّ، ومحمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ، وأبو بكر البزار، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات".
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 223.
روى له البخاريّ، والمصنّف، وابن ماجة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث
(1)
.
2 -
(الْمُثَنَّى بْنُ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ) العنبريّ، أخو عبيد الله، من صغار [9].
رَوَى عن أبيه، ومعتمر بن سليمان، وخالد بن الحارث، وبشر بن المفضل، ويحيى القطان، وأبي قتيبة، وابن مهديّ، وعثمان بن عمر بن فارس، وغندر، ومعاذ بن هشام، ومؤمل بن إسماعيل، وغيرهم.
وروى عنه ابناه: الحسن ومعاذ، وأخوه عبيد الله بن معاذ، وأبو خيثمة، ومحمد بن موسى بن عمران القطان، وأبو زرعة، ويعقوب بن شيبة، وعباس الدوري، وغيرهم.
قال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: لا بأس به، وقال الحسين بن حبان: رجل صدق، ثقةٌ صدوقٌ، من خيار المسلمين، ما زال منذ هو حَدَثٌ خيرًا من أخيه عبيد الله مائة مرّة، وقال ابنه معاذ وغيره: مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، وله إحدى وستون سنة.
تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
3 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسَّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْحَسَنِ) بن الحصين بن أبي الحرّ الْعَنْبَريّ القاضي البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، لكن عابوا عليه مسألة تكافئ الأدلَّة
(2)
[7].
رَوَى عن خالد الحذّاء، وداود بن أبي هند، وسعيد الجريريّ، وهارون بن رياب، وآخرين.
وروى عنه ابن مهديّ، وخالد بن الحارث، ومعاذ بن معاذ العنبريّ، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ، وغيرهم.
قال الآجريّ: قلت لأبي داود: عبيد الله بن الحسن عندك حجةٌ؟ قال:
(1)
هذا ما في برنامج الحديث، وقال في "تهذيب التهذيب": قال في "الزهرة": رَوَى عنه البخاريّ أربعة أحاديث، ومسلم حديثين. انتهى. فليُنظر.
(2)
سيأتي قريبًا أنه رجع عن هذا الرأي.
كان فقيهًا، قال النسائيّ: فقيه بصريّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: ولي قضاء البصرة، وكان ثقةً محمودًا عاقلًا من الرجال، قال العجليّ: لَمّا مات سَوّار بن عبيد الله طلبوا عبيد الله بن الحسن، فهرب، ثم استُقضِي، وقال أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: أتى رجل عبيد الله بن الحسن، فقال: كنا عند الأمير محمد بن سليمان، فذُكِرتَ بكل الجميل إلَّا المزاح، فقال: والله إني لأمزح، وما أقول إلَّا الحقّ، وقال ابن مهديّ: كنا في جنازة، فسألته عن مسألة، فغلط فيها، فقلت له: أصلحك الله، أتقول فيه كذا وكذا؟، فأطرق ساعةً، ثم رفع رأسه، فقال: إذًا أَرْجِع، وأنا صاغرٌ؛ لأن أكون ذَنَبًا في الحقّ أحب إليّ من أن أكون رأسًا في الباطل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: من سادات أهل البصرة فقهًا وعلمًا.
وذكر عُمر بن شَبَّة في "تاريخ البصرة" أن المهديّ عَزَله سنة (66)
(1)
، وقال ابن أبي خيثمة: أخبرني سليمان بن أبي شيخ، قال: كان عبيد الله بن الحسن اتُّهِم بأمر عظيم، ورُوي عنه كلام رديء؛ يعني قوله: كلُّ مجتهد مصيب، ونقل محمد بن إسماعيل الأزديّ في "ثقاته" أنه رجع عن المسألة التي ذُكِرت عنه لَمَّا تَبَيَّن له الصواب، والله أعلم، وقال ابن قتيبة في "اختلاف الحديث": ثم نصير إلى عبيد الله بن الحسن العنبريّ، فنهجُم من قبيح مذهبه، وشدّة تناقض قوله على ما هو أولى مما أنكره، وذلك أنه كان يقول: إن القرآن يدلّ على الاختلاف، فالقول بالقدر صحيح، والقول بالإجبار صحيح، ولهما أصل في الكتاب، فمن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب، هؤلاء قوئم عَظَّموا الله، وهؤلاء قوم نزَّهوا الله، وكان يقول في قتال عليّ لطلحة والزبير وقتالهما إياه: كلُّه لله طاعة.
قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: أنه وُلد سنة (105) ويقال: سنة (106) وولي القضاء سنة (57)
(2)
، وقال أبو حسان الزياديّ: مات في ذي القعدة سنة ثمان وستين ومائة.
(1)
أي: بعد المائة.
(2)
أي: بعد المائة.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
و"خالد الحذّاء" ذُكر قبله.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ) أي: بإسناد خالد الحذّاء الماضي، وهو: عن أبي قلابة، عن قبيصة بن ذُؤيب، عن أم سلمة رضي الله عنها.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ
…
إلخ) فاعل "قال" ضمير عبيد الله بن الحسن.
وقوله: (وَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ) أي: فيمن تركه من أهله، فهو بمعنى قوله الماضي:"واخلفه في عقبه في الغابرين".
وقوله: (وَزَادَ: قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: وَدَعْوةٌ أُخْرَى سَابِعَةٌ نَسِيتُهَا) يعني أنه صلى الله عليه وسلم دعا أيضًا دعوة أخرى سابعةً، غير ما سبق من الستة التي هي أولها قوله:"اللهم اغفر لأبي سلمة"، وثانيها:"وارفع درجته في المهديين"، وثالثها:"واخلُفه في عقبه في الغابرين"، ورابعها:"واغفر لنا وله يا ربّ العالمين"، وخامسها:"وافسح له في قبره"، وسادسها:"ونَوِّر له فيه".
[تنبيه]: رواية عبيد الله بن الحسن، عن خالد الحذّاء هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرحع والمآب.
(5) - (بَابٌ فِي شُخُوصِ بَصَرِ الْمَيْتِ يَتْبَعُ نَفْسَهُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2132]
(921) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
(2)
ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، أنهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَوُا الإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ؟ " قَالُوا: بَلَي، قَالَ:"فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ نَفْسَهُ").
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ، يدلِّس ويرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(الْعَلَاءُ بْنُ يَعْقُوبَ) هو: العلاء بن عبد الرَّحمن بن يعقوب، نُسب في هذا السند لجدّه، الْحُرَقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وَهِمَ [51] مات سنة بضع (130)(زم 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الرَّحمن بن يعقوب الجهنيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ الْعَلَاءِ) بن عبد الرَّحمن (بْنِ يَعْقُوبَ) الحُرَقيّ مولاهم أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، أنهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلمْ تَرَوُا الإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخَصَ بَصَرُهُ؟ ") بفتح الخاء المعجمة، كمَنَعَ يَمْنَعُ شُخُوصًا: أي ارتفع، ولم يرتدّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: وشَخَصَ البصرُ: إذا ارتفع، ويتعدّى بنفسه، فيقال: شَخَص الرجلُ بصره: إذا فتح عينيه، لا يَطْرِفُ، وربّما يُعدَّى بالباء، فقيل: شخص الرجلُ ببصره، فهو شاخصٌ. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 306.
(قَالُوا: بَلَى) هي حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلت في الجواب: بلي، فمعناه إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا، وقلت في الجواب: بلي، فمعناه التقرير والإثبات، ولا تكون إلَّا بعد نفي، إما في أول الكلام، كما تقدّم، وإما في أثنائه، كقوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى} الآية [القيامة: 3، 4]، والتقدير: بلى نجمعها، وقد تقدّم البحث في هذا غير مرّة
(1)
. (قَالَ: "فَذَلِكَ حِينَ يَتْبَعُ بَصَرُهُ) مرفوع على الفاعليّة (نَفْسَهُ") منصوب على المفعوليّة.
قال النوويّ رحمه الله: المراد بالنفس هنا الروح، قال القاضي: وفيه أن الموت ليس بإفناء وإعدام، وإنما هو انتقال، وتغير حال، وإعدام الجسد دون الروح، إلَّا ما استُثْني من عَجْب الذَّنَب، قال: وفيه حجة لمن يقول: الروح والنفس بمعنى. انتهى
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسال الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2132 و 2133](921)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2061 و 2062)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 385)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2133]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنِ الْعَلَاءِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) تقدّم قبل بابين أيضًا.
[تنبيه]: رواية الدراورديّ، عن العلاء هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 9) فقال:
(1)
"المصباح " 1/ 62.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 224.
(2062)
حدَّثنا أبو الهيثم الأحمسيّ جعفر بن محمد، ثنا أبو الحصين الوادعيّ، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا عبد العزيز، ثنا محمد
(1)
، عن العلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مولود يولد على الفطرة"، وقال:"ألم تر إلى الإنسان إذا شخص؟ "، قالوا: بلي، قال:"فذاك حين يتبع بصره نفسه". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(6) - (بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيْتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2134]
(922) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَاِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْر: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: غَرِيبٌ، وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ، لَأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً، يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ أَقَبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ، تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ، بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ؟ " فَكَفَفْتُ عَنِ الْبُكَاءِ، فَلَمْ أَبْكِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدَّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمامٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أنه غلطٌ، والصواب: "حدَّثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء
…
" إلخ، كما هو عند مسلم، فتنبّه.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبث حجة إمام، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.
5 -
(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله بن أبي نَجِيح يسار الثقفيّ مولاهم، أبو يسار المكيّ، مولى الأخنس ابن شَرِيق، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربّما دلّس [6].
رَوَى عن أبيه، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وطاووس، وجماعة.
وروى عنه شعبة، وأبو إسحاق، ومحمد بن مسلم الطائفيّ، والسفيانان، وورقاء، وإبراهيم بن نافع، وعبد الله بن سعيد، وابن علية، وغيرهم.
قال وكيع: كان سفيان يصحح تفسير ابن أبي نَجِيح، وقال أحمد: ابن أبي نجيح ثقةٌ، وكان أبوه من خيار عباد الله، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: ابن أبي نجيح عن مجاهد أحب إليك، أو خُصَيف؟ قال: ابن أبي نجيح، إنما يقال في ابن أبي نجيح القدرُ، وهو صالح الحديث.
وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: كان ثقةً، كثير الحديث، ويذكرون أنه كان يقول بالقدر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قال يحيى بن سعيد: لَمْ يسمع ابن أبي نجيح التفسير من مجاهد، قال ابن حبان: ابن أبي نجيح نظير ابن جريجٍ في كتاب القاسم بن أبي بَزَّة عن مجاهد في التفسير، رويا عن مجاهد من غير سماع، وقال الساجيّ عن ابن معين: كان مشهورًا بالقدر، وعن أحمد بن حنبل قال: أصحاب ابن أبي نجيح قدريّةٌ كلهم، ولم يكونوا أصحاب كلام، وعن أيوب قال: أيَّ رجل أفسدوا؛ يعني ابن أبي نجيح، وقال العجليّ: مكيّ ثقةٌ، يقال: كان يرى القدر، أفسده عمرو بن عبيد، وقال أحمد: قال سفيان: لَمّا مات عمرو بن دينار، كان يفتي بعده ابن أبي نجيح، وذكره النسائيّ فيمن كان يدلِّس.
قال ابن عيينة: مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقال ابن المدينيّ: سنة (2).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
6 -
(أَبُوهُ) أبو نَجِيح يسار الثقفيّ مولى الأخنس بن شَرِيق المكيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3].
رَوَى عن معاوية، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وابن عمر، وعبيد بن عمير، وغيرهم، وأرسل عن عمر، وسعد، وقيس بن سعد بن عبادة، ومخرمة بن نوفل.
وروى عنه ابنه عبد الله، وعمرو بن دينار، وهارون بن رئاب، وعبد الرَّحمن بن خضير.
قال وكيع: ثقةٌ، وقال الميمونيّ عن أحمد: ابن أبي نجيح ثقةٌ، وكان أبوه من خيار عباد الله تعالى، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن أبي نجيح، والد عبد الله، فقال: يسار مكيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث.
قال عمرو بن عليّ وغيره: مات سنة تسع ومائة.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
7 -
(عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ، قاصّ أهل مكة، مجمع على ثقته [2](ت 68)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 473.
8 -
(أُمُّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها تقدّمت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما أسلفناه غير مرّة.
2 -
(ومنها): مسلسلٌ بالمكيين من ابن عيينة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْر) الليثيّ أنه (قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها (لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ) زوجها رضي الله عنه (قُلْتَّ: غَرِيب) خبر لمحذوف؛ أي: هو رجل غريب (وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ) بالإضافة؛ أي: لأنه كان مكيًّا هاجر إلى المدينة، ومات بها؛ أي: فليس معه من يبكيه غيري، فمرادها بهذه الجملة تعليل بكائها الهائل الذي عزمت عليه، وقولها:(لَأَبْكِيَنَّهُ) بتشديد النون جواب لقسم محذوف، والله
لأبكينّه (بُكَاءً) أي: شديدًا، فالتنوين للتعظيم (يُتَحَدَّثُ عَنْهُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يَتَحدّث الناس به، ويتعجّبون منه؛ لشدّته، قال القرطبيّ رحمه الله: أرادت أن تنوح عليه نياحة شديدة، وذلك منها على ما كانوا عليه من النياحة، والاجتماع لها قبل أن يبلغها تحريم النياحة. انتهى.
(فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ) أي: بالقصد والعزيمة، وتهيئة أسباب الحزن من الثياب السود وغيرها، مما تُعدّه النائحة وتهيّؤه.
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فكنت
…
إلخ "الفاء متّصلة بقولها: "قلتُ"؛ أي: قلت عقب ما تهيّأت للبكاء، ولا يجوز أن تتصل بالقول إلَّا مع الواو؛ ليكون حالًا. انتهى
(1)
.
وقال ابن حجر الهيتميّ رحمه الله: قوله: "فكنت
…
إلخ" عطف على "قلت"؛ أي: عقب قولي ذلك وقع مني تمام التهيّء. انتهى
(2)
.
(إِذْ أقَبَلَتِ امْرَأَةٌ)"إذ" ظرف لـ "تهيّأتُ"، أو لـ "قلت"، وفي رواية البيهقيّ:"فلما تهيّأت للبكاء عليه إذا امرأة تريد أن تأتيني"، وفي أخرى له:"فبينا أنا كذلك، قد تهيّأت للبكاء عليه إذ أقبلت امرأة".
[تنبيه]: هذه المرأة لا تُعرف، قاله في "التنبيه"
(3)
.
(مِنَ الصَّعِيدِ) أصل الصعيد أعالي الأرض، والمراد هنا عوالي المدينة، ومنه صعيد مصر؛ أي: أعلى بلادها. انتهى
(4)
. (تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي) بضم أوله، من الإسعاد، وهو الإعانة؛ أي: تساعدني في البكاء والنوح، وتوافقني عليه، وقال ابن الأثير رحمه الله: هو إسعاد النساء في المناحات، تقوم المرأة، فتقوم معها أخرى من جاراتها، فتساعدها على النياحة. انتهى
(5)
.
(فَاسْتَقْبَلَهَا) أي: تلك المرأة التي أرادت أن تُسعدها على البكاء، ولعله صلى الله عليه وسلم كان داخل البيت، فقد سبق في الرواية:"أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة، وقد شقّ بصره، فأغمضه"(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ) لَمّا علم أنَّها تريد
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1427.
(2)
انظر: "المرعاة" 5/ 495.
(3)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 173.
(4)
"المفهم" 2/ 574.
(5)
"النهاية" 2/ 366.
إسعادها: ("أَتُرِيدِينَ) أيَّتُها المرأة بإعانتك على المعصية، والاستفهام إنكاريّ وتوبيخيّ، ولعله صلى الله عليه وسلم علم ما أرادت تلك المرأة من إسعادها بالبكاء بالوحي (أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ) أي: أن تكوني سببًا لدخوله (بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللهُ) أي: الشيطان (مِنْهُ) أي: من ذلك البيت، وأبعده من إغواء أهله (مَرَّتَيْنِ؟ ") قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل ذلك - والله أعلم - أن يكون بسبب صحّة إسلام أبي سلمة، وحسن هجرته. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يراد بالمرّة الأولى يوم دخوله في الإسلام، وبالثانية يوم خروجه من الدنيا مسلمًا، ويحتمل أن يراد به التكرير؛ أي: أخرجه الله تعالى إخراجًا بعد إخراج، كقوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} الآية [الملك: 4].
وقيل: يَحْتَمل أن يراد بالمرة الأولى هجرته من مكة إلى الحبشة، وبالثانية هجرته إلى المدينة، فإنه من ذوي الهجرتين.
واستظهره صاحب "المرعاة" أن يكون "مرّتين" متعلِّقًا ب "قال"؛ أي: قال صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وأعاده لكمال الاهتمام مرّتين.
(فَكَفَفْتُ) يقال: كفّ عن الشيء كفًّا، من باب نصر: إذا تركه، وهو عطف على مقدَّر؛ أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فانزجرت، وكففت؛ أي: منعت نفسي (عَنِ الْبُكَاءِ) وقولها: (فَلَمْ أَبْكِ) أي: البكاء المذموم، وهو الذي يصاحبه صراخ وعويل، ونياحة، وندب، قال البيهقيّ رحمه الله: هذا في بكاء يكون معه ندب، أو نياحة. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أمّ سلمة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 2134](922)، و (الحميديّ) في "مسنده"
(1)
"المفهم" 2/ 574 - 575.
(291)
، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 289)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2063)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 63)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم البكاء المشتمل على النياحة.
2 -
(ومنها): بيان تحريم المساعدة في ذلك؛ لأنه إعانة على المعصية، قال الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
3 -
(ومنها): بيان فضل بيت أبي سلمة، وأم سلمة، حيث أخرج الله تعالى عنه الشيطان، فلا يستطيع أن يتسلط على أهله بالإغواء، والإضلال، وهذا كما قال الله عز وجل:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65].
4 -
(ومنها): بيان أن النهي عن المنكر يكون بالحكمة، وذلك ببيان الضرر المترتّب عليه، فإن هذه المرأة ما نهاها النبيّ صلى الله عليه وسلم فقط، بل بيّن لها أنَّها إذا فعلت ذلك أدخلت الشيطان في بيت أخرجه الله منه، وهذا هو الضرر العظيم، فينبغي للآمر بالمعروف أن يبيّن محاسن المعروف الذي يأمر به، وما يترتّب عليه من المثوبة والأجور، وكذا ينبغي للناهي عن المنكر أن يبيّن مساوي ذلك المنكر، وما يترتّب عليه من المفاسد، والمضارّ، والعقوبات؛ لأن ذلك أدعى للقبول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2135]
(923) - (حَدَّثَنَا
(1)
أبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّاد - يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ - عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًا لَهَا، أَوِ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ:"ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَأَخْبِرْهَا أَنَّ للهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَي، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ"، فَعَادَ الرَّسُولُ،
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَت لَتَأْتِيَنَّهَا، قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيَّ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا في شَنَّةٍ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هَذ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين، تقدَّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم الأزديّ الْجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179) عن (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(عَاصِمُ الْأَحْوَلُ) ابن سليمان، أبو عبد الرَّحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) عبد الرَّحمن بن ملّ الكوفيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ مخضرم، من كبار [2](ت 95) أو بعدها، وعاش (130) أو أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(أُسَامَةُ بْنُ زيدِ) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، أوأبو زيد، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (54) وهو ابن (75) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فقد علّق له البخاريّ، ولم يُخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.
5 -
(ومنها): أن صحابيه ذو مناقبّ جمّة، حبٍّ رسول وابن حِبِّه رضي الله عنهما، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيُقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول:"اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ) وفي رواية للبخاري في أواخرِ "الطبّ" من طريق شعبة، عن عاصم، قال: سمعت أبا عثمان (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زْيدٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ) هي زينب، كما وقع في رواية أبي معاوية، عن عاصم المذكور في "مصنّف ابن أبي شيبة"، وكذا ذكره ابن بشكوال (تَدْعُوهُ) جملة في محلّ نصب على الحال (وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا، أَوْ) للشكّ من الراوي (ابْنًا لَهَا) قيل: هو عليّ بن أبي العاص بن الربيع، وهو من زينب، كذا كتب الدمياطيّ بخطه في "الحاشية".
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه لَمْ يقع مسمّى في شيء من طرق هذا الحديث، وأيضًا فقد ذكر الزبير بن بكّار وغيره، من أهل العلم بالأخبار أن عليًّا المذكور عاش حتى ناهز الحُلُم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم فتح مكة، ومثل هذا لا يقال في حقه صبيّ عرفًا، وإن جاز من حيث اللغة.
قال: ووجدت في "الأنساب" للبلاذريّ أن عبد الله بن عثمان بن عفّان من رقية بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا مات وضعه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجره، وقال:"إنما يرحم الله من عباده الرحماء".
وفي "مسند البزّار" من حديث أبي هريرة، قال: ثقل ابن لفاطمة، فبعثت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث الباب، وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء، فعلى هذا، فالابن المذكور محسن بن عليّ بن أبي طالب، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرًا، في حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهذا أولى أن يفسّر به الابن إن ثبت أن القصّة كانت لصبيّ، ولم يثبت أن المرسلة زينب، لكن الصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب، وأن الولد صبيّة، كما اثبت في "مسند أحمد"، عن أبي معاوية، بالسند المذكور، ولفظه:"أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب"، زاد سعدان بن نصر في الثاني من حديثه، عن أبي معاوبة بهذا الإسناد:"وهي لأبي العاص بن الربيع، ونفسها تقعقع، كأنها في شنّ"، فذكر حديث الباب، وفيه مراجعة سعد بن عبادة، وهكذا أخرجه أبو سعيد ابن الأعرابيّ في "معجمه"، عن سعدان، ووقع في رواية بعضهم "أُميمة" بالتصغير، وهي أمامة المذكورة، فقد اتفق أهل العلم بالنسب أن زينب لَمْ تلد لأبي العاص إلَّا عليًّا، وأمامة فقط.
وقد استُشكِل ذلك، من حيث إن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، عاشت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة، ثم عاشت عند عليّ حتى قُتل عنها.
ويجاب بأن المراد في حديث الباب: "أن ابنا لي قُبض"؛ أي: قارب أن يُقبض، ويدلّ على ذلك أن في رواية حماد:"أرسلت تدعوه إلى ابنها في الموت"، وفي رواية شعبة:"أن ابنتي قد حُضِرَت"، وهو عند أبي داود من طريقه:"أن ابني"، أو "ابنتي"، وقد قدَّمنا أن الصواب قول من قال:"ابنتي"، لا "ابني".
ويؤيّده ما رواه الطبرانيّ في ترجمة عبد الرَّحمن بن عوف، في "المعجم الكبير" من طريق الوليد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، قال: "استُعِزَّ بأمامة بنت أبي العاص، فبَعَثَت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، تقول له
…
"، فذكر نحو حديث أسامة، وفيه مراجعة سعد في البكاء، وغير ذلك. وقوله في هذه الرواية: "استُعِزّ" - بضم المثناة، وكسر المهملة، وتشديد الزاي -: أي اشتدّ بها المرض، وأشرفت على الموت.
قال: والذي يظهر لي أن الله تعالى أكرم نبيّه صلى الله عليه وسلم لَمَا سَلَّمَ لأمر ربه، وصبّر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة، والشفقة، بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت، فخَلَصَت من تلك الشدّة، وعاشت تلك المدَّة، وهذا ينبغي أن يُذكَر في دلائل النبوّة، والله المستعان. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن الجمع بين هذه الروايات بتعدد الواقعة أولي، من تخطئة الرواية الصحيحة، فالصواب في حديث الباب أن المحتضر "ابن"، لا "ابنة"، كما هو نصّ حديث الباب.
ثم رأيت القسطلّانيّ نقل عن البرماويّ بأنه جمع بين ذلك باحتمال تعدد الواقعة في بنت، أو بنتين، أرسلت زينب في عليّ، أو أمامة، أو رقيّةُ في عبد الله بن عثمان، أو فاطمة في ابنها محسن بن عليّ. انتهى. والله تعالى أعلم.
(فِي الْمَوْتِ) أي: في الاحتضار للموت، وفي رواية البخاريّ: "إن ابنًا
لي قُبِضَ فأتنا" وهو بالبناء للمفعول؛ أي: قرُب من أن يُقبَض؛ أي: هو في حالة القبض، ومعالجة الروح، فأطلقت القبض مجازًا، باعتبار أنه في حالة كحالة النزع.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلرَّسُولِ) أي: للرجل الذي أرسلته ابنته ("ارْجِعْ إِلَيْهَا) وفي رواية البخاريّ: "فَأَرْسَلَ، يَقْرَأ السَّلَامَ، ويقول: إن لله ما أخذ
…
" (فَأَخْبِرْهَا أَنَّ للهِ) بفتح همزة "أنّ"، فهو بتقدير جر الجرّ؛ أي: بأن لله (مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى) أي: فلا حيلة إلَّا الصبر، وقدّم ذكر الأخذ على الإعطاء، وإن كان متأخرًا في الواقع؛ لأن المقامَ يقتضيه، والمعنى أن الذي أراد أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع؛ لأن مُستَودَعَ الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالإعطاء إعطاء الحياة لمن بقي بعد الميت، أو ثوابهم على المصيبة، أو ما هوأعمّ من ذلك. أفاده في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إن لله ما أخذ": معناه الحثّ على الصبر، والتسليم لقضاء الله تعالى، وتقديره أن هذا الذي اخذ منكم كان له، لا لكم، فلم يأخذ إلَّا ما هو له، فينبغي أن لا تَجزَعوا، كما لا يجزع من استُرِدّت منه وديعةٌ أو عاريةٌ.
وقوله: "وله ما أعطى": معناه: أن ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه، بل هو عز وجل يفعل فيه ما يشاء. انتهى.
ولفظ "ما" في الموضعين مصدريّة؛ أي: إن لله الأخذ والإعطاء، ويحتمل أن تكون موصولة، والعائد محذوف؛ للدلالة على العموم، فعلى الأول التقدير إن لله الأخذَ والإعطاءَ؛ أي: أخذ الأولاد، وإعطاءهم، أو ما هوأعمّ من الأولاد، وعلى الثاني: إن لله الذي أخذه من الأولاد، وله الذي أعطى منهم، أو ما هو أعمّ من ذلك.
(وَكُلُّ شَيْءٍ) أي: من الأخذ والإعطاء، أو من الأنفس، أو ما هوأعمّ من ذلك (عِنْدَهُ) عز وجل (بِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي: مقدَّر بأجل معلوم، و"الأجل" يطلق على الحدّ الأخير، وعلى مجموع العمر.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "وكل شيء عنده بأجل مسمى":
اصبروا، ولا تجزعوا، فإن كل من مات قد انقضى أجله المسمى، فمحال تقدّمه أو تأخّره عنه، فإذا علمتم هذا كله فاصبروا، واحتسبوا ما نزل بكم، وهذا الحديث من قواعد الإسلام المشتملة على جُمَل من أصول الدين، وفروعه، والآداب. انتهى.
(فَمُرْهَا) أي: بالصبر والاحتساب (فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ") أي: تنوي بصبرها طلب الثواب من ربها، ليُحْسَبَ لها ذلك من عملها الصالح.
(فَعَادَ الرَّسُولُ) أي: رجع من عندها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ أقسَمَتْ) أي: حلفت بالله (لَتَأْتِيَنَّهَا) بفتح اللام، ونون التأكيد المشددة، والجملة جواب القسم (قَالَ) أسامة (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عند الطبرانيّ أنها راجعته مرتين، وأنه إنما قام في ثالث مرة، وكأنها ألَحَّت عليه في ذلك دفعًا لما يظنه بعض أهل الجهل أنها ناقصة المكانة عنده، أوألهمها الله تعالى أن حضور نبيّه صلى الله عليه وسلم عندها يدفع عنها ما هي فيه من الألم ببركة دعائه، وحضوره، فحقّق الله ظنها.
والظاهر أنه امتنع أوّلًا مبالغة في إظهار التسليم لربه، أو ليبيّن الجواز في أن من دُعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة مثلًا.
(وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) ذُكر منهم في غير هذه الرواية عبادةُ بن الصامت، وعبد الرحمن بن عوف، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْب رضي الله عنهم، قال أسامة رضي الله عنه:(وَانْطَلَقْتُ) أي: ذهبت (مَعَهُمْ) أي: مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة المذكورين (فَرُفِعَ) بالبناء للمفعول، قال في "الفتح": كذا هنا بالراء، وفي رواية حماد "فدُفع" بالدال، وبيّن في رواية شعبة أنه وُضع في حجره صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا السياق حذف، والتقدير: فمشينا، إلى أن وصلنا إلى بيتها، فاستأذنّا، فأُذن لنا، فدخلنا، فرُفِع، ووقع بعض هذا المحذوف في رواية عبد الواحد، ولفظه: "فلما دخلنا، ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصبيّ
…
" (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (الصَّبِيُّ) وقوله: (وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ) أصله "تتقعقع" فحُذف منه إحدى التاءين، كما في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)} [عبس: 6]، وقوله: {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
ومعناه: تضطرب، وتتحرّك، ولا تثبت على حالة واحدة، كذا في "النهاية"، وقال في "الفتح": القعقعة صوت الشيء اليابس إذا حُرّك، والجملة في محلّ نصب على الحال من "الصبيّ".
وقال القرطبيّ: قال الهرويّ: يقال: تقعقع الشيء: إذا اضطرب وتحرّك، ويقال: إنه ليتقعقع لَحْياه من الكِبَر، وقال غيره: القعقعة هنا صوت النفَس، وحشرجة الصدر، ومنه قعقعة الجلود والترسة والأسلحة، وهي أصواتها. انتهى
(1)
.
(كَأَنَّهَا) أي: نفسه (في شَنَّةٍ) بفتح المعجمة، وتشديد النون: القِرْبة الخَلَقَة اليابسة، شبّه البدن بالجلد اليابس الخَلَق، وحركةَ الروح فيه بما يُطرح في الجلد من حصاة ونحوها، ووقع في رواية عند البخاريّ:"حسبتُ كأنها شنّ"، وعلى هذا، فكأنه شبّه النفس بنفس الجلد، وهوأبلغ في الإشارة إلى شدة الضعف، وذلك أظهر في التشبيه، أفاده في "الفتح".
(فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أي: سالت بالدموع عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ لَهُ سَعْذ) أي: ابن عبادة المتقدّم، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق عبد الواحد:"فقال عبادة بن الصامت"، والصواب ما في "الصحيح"، قاله في "الفتح" (مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟) أي: أيّ شيء هذا البكاء الذي نشاهده منك؟، وفي رواية للبخاريّ:"فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ "، وزاد أبو نعيم في "المستخرج":"وتنهى عن البكاء".
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا؟
…
إلخ": معناه: أن سعدًا رضي الله عنه ظنّ أن جميع أنواع البكاء حرام، وأن دمع العين حرامٌ، وظنّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نسي، فذكّره، فأعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن مجرّد البكاء، ودمع العين، ليس بحرام، ولا مكروه، بل هو رحمة، وفضيلة، وإنما المحرّم النوح، والندب، والبكاء المقرون بهما، أو بأحدهما. انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("هَذِه رَحْمَةٌ) أي: الدمعة التي تشاهدونها أثر رحمة من الله
(1)
"المفهم" 2/ 575.
(2)
"شرح النووي" 6/ 225 - 226.
تعالى، وفي رواية:"هذا رحمة" بتذكير الإشارة؛ أي: هذا الدمع الذي تراه أثر رحمة من الله تعالى.
وقال القرطبيّ رحم الله: قوله: "هذه رحمة": أي هذه رقّة يجدها الإنسان في قلبه، تبعثه على البكاء من خشية الله، وعلى أفعال البرّ والخير، وعلى الشفقة على المبتلَى والمُصاب، ومن كان كذلك جازاه الله برحمته، وهو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، وضدّ ذلك القسوة في القلوب الباعثةُ على الإعراض عن الله تعالى، وعن أفعال الخير، ومن كان كذلك قيل فيه:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 22]. انتهى
(1)
.
(جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلوبِ عِبَادِهِ) أي: إن الذي يَفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمّد من صاحبه، ولا استدعاء منه، لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهيّ عنه الجزع، وعدم الصبر.
(وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَابٍ الرُّحَمَاءَ") وفي رواية للبخاريّ في "كتاب الطبّ": "ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء".
و"مِنْ" في قوله: "من عباده" بيانية، وهي حال من المفعول، وهو "الرحماء"، وقُدِّم عليه ليكون أوقع، و"الرحماء": جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، ومقتضاه أن رحمة الله تختصّ بمن اتصف بالرحمة، وتحقّق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمرو، عند أبي داود وغيره:"الراحمون يرحمهم الرحمن"، و"الراحمون" جمع راحم، فيدخل كلّ مَن فيه أدنى رحمة.
وقد ذكر الحربيّ مناسبة الإتيان بلفظ "الرحماء" في حديث الباب بما حاصله: أن لفظ الجلالة دالّ على العظمة، وقد عُرف بالاستقراء أنه حيث ورد يكون الكلام مسوقًا للتعظيم، فلما ذُكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته، وعظمته، ليكون الكلام جاريًا على نسق التعظيم، بخلاف الحديث الآخر، فإن لفظ الرحمن دال على العفو، فناسب أن يُذكر معه كلّ ذي رحمة، وإن قلّت، والله تعالى أعلم، ذكره في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المفهم" 2/ 575 - 576.
(2)
"الفتح" 4/ 38.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (6/ 2135 و 2136)(923)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1284) و"المرضى"(5655) و"القدر"(6602) و"الأيمان والنذور"(6655) و"التوحيد"(7377 و 7448)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3125)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1868) و"الكبرى"(1995)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1588)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 204 و 205)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2064)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(461)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 68)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1527)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الحثّ على الاحتساب، والصبر عند نزول المصيبة.
2 -
(ومنها): مشروعيّة استحضار أهل الفضل، والصلاح عند المحتضر؛ ليدعوا له، وجواز القسم عليهم لذلك.
3 -
(ومنها): جواز المشي إلى التعزية، والعيادة بغير إذن، بخلاف الوليمة.
4 -
(ومنها): جواز إطلاق اللفظ الموهم لما وقع على ما سيقع، وذلك حيث قالت:"إن ابنًا لي قُبض"، مبالغةً في ذلك؛ لينبعث خاطر المسؤول في المجيء للإجابة إلى ذلك.
5 -
(ومنها): مشروعيّة إبرار القسم.
6 -
(ومنها): أَمْرُ صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع، وهو مستشعر بالرضا، مقاومًا للحزن بالصبر.
7 -
(ومنها): إخبار من يُسْتَدْعَى بالأمر الذي يُسْتَدْعَى من أجله.
8 -
(ومنها): تقديم السلام على الكلام.
9 -
(ومنها): عيادة المريض، ولو كان مفضولًا، أو صبيًّا صغيرًا.
10 -
(ومنها): أن أهل الفضل لا ينبغي أن يَقطعوا الناس عن فضلهم، ولو رَدُّوا أول مرة.
11 -
(ومنها): استفهام التابع من إمامه عما أشكل عنيه، مما يتعارض ظاهره.
12 -
(ومنها): حسن الأدب في السؤال، لتقديمه قوله:"يا رسول الله" على الاستفهام.
13 -
(ومنها): الترغيب في الشفقة على خلق الله، والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب، وجمود العين.
14 -
(ومنها): جواز البكاء من غير نوح ونحوه، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية- إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم البكاء على الميت:
قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": قال الشافعيّ، والأصحاب: البكاء على الميت جائز قبل الموت وبعده، ولكن قبله أولى؛ لحديث جابر بن عَتِيك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت
…
الحديث، حديث صحيح أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ وغيرهم
(1)
.
(1)
قال الإمام أبو داود رحمه الله (3111): حدّثنا القعنبيّ، عن مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عَتيك، عن عتيك بن الحارث بن عتيك، وهو جدّ عبد الله بن عبد الله أبوأمه، أنه أخبره أن عمة جابر بن عتيك أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت، فوجده قد غُلِب، فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجبه، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"غُلِبنا عليك يا أبا الربيع"، فصاح النسوة، وبَكَين، فجعل ابن عتيك يُسَكِّتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعهنّ، فإذا وجب، فلا تبكين باكية"، قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "الموت"، قالت ابنته: والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيدًا، فإنك كنت قد فضيت جهازك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله عز وجل قد أوقع أجره على قدر نيته، وما تعدون الشهادة؟ " قالوا: القتل في سبيل الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشهادة سبع، سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغرق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بِجُمْع شهيد". انتهى.
ولفظ الشافعيّ في "الأمّ": وأُرخص في البكاء قبل الموت، فإذا مات أمسكن، وقال صاحب "الشامل" وطائفة: يكره البكاء بعد الموت؛ لظاهر الحديث في النهي، ولم يقل الجمهور: يكره، وإنما قالوا: الأولى تركه، قالوا: وهو مراد الحديث، ولفظ الشافعيّ مُحْتَمِلٌ، هذا كلّه في البكاء بلا ندب، ولا نياحة، أما الندب والنياحة، ولَطْم الخدود، وشقّ الجيب، وخَمْش الوجه، ونَشْرُ الشَّعْر، والدعاء بالويل والثبور، فكلها محرّمة باتفاق الأصحاب، وصرّح الجمهور بالتحريم، ووقع في كلام بعضهم لفظ الكراهة، وكذا وقع لفظ الكراهة في نصّ الشافعيّ في "الأمّ"، وحَمَلَها الأصحاب على كراهة التحريم، وقد نقل جماعةٌ الإجماعَ في ذلك. قال إمام الحرمين رضي الله عنه: ورَفعُ الصوت بإفراط في معنى شقّ الجيب، قال غيره: هذا إذا كان مختارًا، فإن كان مغلوبًا لم يُؤاخَذ به؛ لأنه غير مكلّف، وأما قول الشافعيّ رحمه الله في "الأمّ": وأكره المآتم، وهي الجماعة، وإن لم يكن لهم بكاء، فمراده الجلوس للتعزية. انتهى كلام النَّوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله في "التمهيد": وفي نهي جابر بن عتيك للنساء عن البكاء دليل على أنه قد كان سمع النهي عن ذلك، فتأوّله على العموم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعهنّ -يعني يبكين حتى يموت- ثم لا تبكينّ باكية"، يريد- والله أعلم- لا تبكينّ نياحًا، ولا صِيَاحًا بعد وجوب موته، وعلى هذا جمهور الفقهاء أنه لا بأس بالبكاء على الميت، ما لم يُخلَط ذلك بنُدْبهّ، وبنياحة، وشقّ جيب، ونشر شَعْرٍ، وخَمْش وجه. قال ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا من بكاء العين، دون نياحة: اللهُ أضحك، وأبكى.
وقال في "الاستذكار" ما حاصله: الصِّيَاح، والنَّيَاحة لا يجوز شيء منه بعد الموت، وأما دمع العين، وحزن القلب، فالسنّة ثابتة بإباحته، وعليه جماعة العلماء. بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم ابنه، وقال:"إنها رحمة"، أخرجه مسلم.
(1)
راجع: "المجموع" 5/ 280 - 281.
وبَكَى على زينب ابنته، فقيل له: تبكي؟ فقال: "إنما هي رحمة، جعلها الله في قلوب عباده"، أخرجه أبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَعَى جعفرًا، وزيدًا، وابن رواحة، نعاهم قبل أن يجيء خبرهم، وعيناه تَذْرِفَان"، أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وأبكى مَن حوله"، أخرجه مسلم.
وروى أبو إسحاق السبيعيّ، عن عامر بن سعد البجليّ، عن أبي مسعود الأنصاريّ، وثابت بن زيد، وقَرَظَة بن كعب، قالوا: رُخّص لنا في البكاء على الميت من غير نَوْح.
وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نَهَى عن النَّوْح من حديث عمر، وعليّ، والمغيرة، وأم عطيّة، وأم سلمة، وأبي مالك الأشعريّ، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم، وأجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال والنساء، ورخّص الجمهور في بكاء العين في كلّ وقت.
وقد أخرج أحمد، وابن ماجه، واللفظ لأحمد بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رجع من أُحد، سمع نساء الأنصار، يبكين على أزواجهن، فقال:"لكن حمزة لا بواكي له"، فبلغ ذلك نساء الأنصار، فجئن يبكين على حمزة، قال: فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، فسمعهنّ، وهنّ يبكين، فقال:"ويحَهُنّ، لم يزلن يبكين بعدُ، منذ الليلة، مُرُوهن، فليرجعن، ولا يبكين على هالك بعد اليوم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مُرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بجنازة يُبكَى عليها، وأنا معه، وعمر بن الخطاب. . . الحديث
(1)
. انتهى كلام الحافظ
(1)
الحديث أخرجه النسائيّ بسنده، عن سلمة بن الأزرق، قال: سمعت أبا هريرة قال: مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهنّ، ويطردهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعهنّ يا عمر، فإن العين دامعة، والقلب مُصَابٌ، والعهد قريبٌ"، والحديث صحيح، وقد ضعفه بعضهم؛ لجهالة سلمة بن الأزرق، لكن الحقّ أنه معروف، قد عرفه ابن عمر، واعتمد عليه، راجع=
أبي عمر رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ومن الأحاديث الدّالّة على إباحة البكاء دون النوح حديث جابر رضي الله عنه في قصّة استشهاد أبيه في غزوة أُحد، فقد أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لَمّا قُتِل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه أبكي، وينهوني عنه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تبكين، أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه".
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "زار النبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله
…
. " الحديث، أخرجه مسلم، وسيأتي.
ومنها: حديث أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذَرَفَت عيناه لَمّا جعل ابنه إبراهيم في حجره، وهو يجود بنفسه، فقيل في ذلك؟ فقال:"إنها رحمة"، ثم قال:"العين تدمع، والقلب يَحزَن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا". متفق عليه.
وهو عند الترمذيّ، وحسّنه من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوضعه في حجره، فبكى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي، أوَ لم تكن نهيت عن البكاء؟ فقال:"لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة، خَمْش وجوه، وشَقّ جيوب، ورنّة شيطان".
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنهما، قالت:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل عثمان بن مظعون، وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيل"، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح، والترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما أخرجه أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما مات عثمان بن مظعون، قالت امرأة: هنيئًا لك الجنة عثمانَ بنَ مظعون، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، نظر غضبان، فقال:"وما يدريكِ؟ "، قالت: يا رسول الله فارسك،
= الكلام في هذا في "شرح النسائيّ"، وأيضًا للحديث شواهد كثيرة، مذكورة هناك، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"الاستذكار" 8/ 312 - 314.
وصاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والله إني رسول الله، وما أدري ما يُفْعَل بي"، فأشفق الناس على عثمان، فلما ماتت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحقي بسلفنا الصالح الخير، عثمان بن مظعون"، فبكت النساء، فجعل عمر، يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال:"مهلا يا عمر"، ثم قال:"ابكين، وإياكن، ونعيق الشيطان"، ثم قال:"إنه مهما كان من العين والقلب، فمن الله عز وجل، ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان، فمن الشيطان". انتهى.
قال الحافظ أبو بكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 17: وفيه عليّ بن زيد، وفيه كلام، وهو موثّق. انتهى.
ومنها: ما أخرجه أحمد في "مسنده" عن عائشة: أن سعد بن معاذ لما مات حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، قالت: فوالذي نفسى بيده، لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وأنا في حجرتي. انتهى.
قال الجاء عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر من هذه الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وأقوال أهل العلم، أن البكاء على الميت مباح مطلقًا، قبل الموت، وبعده؛ إذا خلا عن النياحة، وشَقِّ الجيب، وخَمْش الوجه، ونحو ذلك، مما ورد النهي عنه.
ومن هنا يُعلم الجمع بين الأحاديث الواردة في النهي عن البكاء، وإباحته.
وحاصله أن أحاديث النهي عن البكاء مطلقًا، ومقيّدًا بما بعد الموت تُحْمَل على البكاء الذي يفضي إلى ما لا يجوز، من النوح، والصُّرَاخ، وغير ذلك، وأحاديث الإباحة تحمل على مجرّد البكاء الذي هو دمع العين، وما لا يمكن دفعه من الصوت، وقد أشار إلى هذا الجمع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدّم: "ولكن نهيت عن صوتين
…
". وقوله في حديث ابن عباس المتقدّم: "إنه مهما كان من العين والقلب، فمن الله عز وجل، ومن الرحمة
…
". وقوله في حديث ابن عمر السابق: "إن الله لا يعذّب بدمع العين، ولا بحزن القلب
…
". فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبكين على هالك بعد اليوم"، وقوله: "فإذا وجب فلا تبكين باكية" النهي عن البكاء الذي يصحبه شيء مما حرّمه الشارع، هذا هو الجمع الصحيح.
وقيل: إنه يُجمَع بأن الإذن بالبكاء قبل الموت، والنهي عنه بعده، ويردّه ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه من قصّة زجر عمر للباكيات، وحديث عائشة رضي الله عنها في قصّة موت سعد بن معاذ، وبكاء أبي بكر وعمر المتقدّم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة بكاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عند زيارة قبر أمه، وحديث جابر رضي الله عنه في قصة استشهاد أبيه، وبكاء عمته عليه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قصة بكاء النساء على زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها وقعت بعد الموت، فليُتنبّه.
وقيل: يجمع بحمل النهي عن البكاء بعد الموت على الكراهة، وقد تقدّم نقله عن الإمام الشافعيّ رحمه الله، لكن حمله أصحابه على كراهة التحريم.
والحاصل أن الجمع الأول هو الحقّ والصواب، كما أفاده العلامة الشوكانيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2136]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، جَمِيعًا عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَن حَدِيثَ حَمَّادٍ أتَمُّ وَأَطْوَلُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن عاصم الأحول، هذه ساقها البيهقيّ في "الكبرى" (4/ 68) فقال:
(1)
راجع: "نيل الأوطار" 4/ 123 - 124.
(6941)
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ببغداد، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا سعدان بن نصر، ثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهديّ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بابنة ابنته، ونفسها تقعقع، كأنها في شَنّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكلٌّ إلى أجل مسمى"، قال: وبكى، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله أتبكي، وقد نهيت عن البكاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
[2137]
(924) - (حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَادٍ الْعَامِرِيُّ، قَالَا: أَخْبَرَنَا
(1)
عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأنصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، مَعَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ
(2)
، فَقَالَ:"أقَدْ قَضَى؟ " قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَبَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فَقَالَ:"ألَا تَسْمَعُونَ، إِن اللهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ) أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) عن (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "في غشيته".
2 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ
(1)
الْعَامِرِيُّ) أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 246)(م دس ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قريبًا.
4 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ الْأنصَارِيُّ) هو: سعيد بن الحارث بن أبي سعيد بن الْمُعَلّى، ويقال: ابن أبي المعلى الأنصاري المدني القاضي، ثقة [3].
رَوَى عن أبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عمر، وجابر، وعبد الله بن حسين.
وروى عنه محمد بن عمرو بن علقمة، وعمارة بن غَزِيّة، وعمرو بن الحارث، وزيد بن أبي أُنيسة، وفُليح بن سليمان، وغيرهم.
قال ابن معين: مشهورٌ، وقال يعقوب بن سفيان: هو ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ذكر ابن سعد أنه سعيد بن أبي سعيد الحارث بن أوس بن المعلَّى، وصوّبه أبو أحمد الدمياطي، والله أعلم، قاله الحافظ رحمه الله
(2)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء منه ومنهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى سعيد، وهو الصحابيّ ومدنيّان، وأما الصحابيّ، فقد سبق الكلام فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ) قاضي المدينة (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن
(1)
بتشديد الواو.
(2)
"تهذيب التهذيب" 4/ 14.
الخطّاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: اشْتَكَى) أي: مَرِضَ (سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) بن دُلَيم بن حارثة الأنصاريّ الخزرجيّ، أحد النقباء ليلة العقبة، وأحد الأجواد، وقع في "صحيح مسلم" أنه شهد بدرًا، والمعروف عند أهل المغازي أنه تهيّأ للخروج، فنُهِس، فأقام، مات رضي الله عنه بأرض الشام سنة خمس عشرة، وقيل غير ذلك، وليس له في "الصحيحين" رواية، وإنما له ذكر فقط. (شَكْوَى) بلا تنوين، ويُنوّن أيضًا، كما قاله في "القاموس"، وقوله:(لَهُ) متعلّق بصفة لـ"شكوى"(فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: حال كونه زائرًا له (مَعَ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنهم، وفي رواية عمارة بن غزيّة التالية:"فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر"(فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ) زاد في رواية عمارة بن غزية التالية: "فاستأخر قومه من حوله، حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين معه"(وَجَدَهُ فِي غَشِيَّةٍ) بفتح الغين، وكسر الشين المعجمتين، وتشديد الياء، قال القاضي عياض: هكذا رواية الأكثرين، قال: وضبطه بعضهم بإسكان الشين، وتخفيف الياء، وفي رواية البخاريّ "في غاشية"، وكله صحيح، وفيه قولان: أحدهما: من يغشاه من أهله، والثاني: ما يغشاه من كرب الموت. انتهى.
وفي نسخة: "في غَشْيَتِهِ".
ووقع في رواية للبخاريّ: "فوجده في غاشية أهله"، قال في "الفتح": قوله: "في غاشية أهله" بمعجمتين: أي الذين يَغْشَونه للخدمة وغيرها، وسقط لفظ "أهله" من أكثر الروايات، وعليه شرح الخطابيّ، فيجوز أن يكون المراد بالغاشية الْغَشْيَةُ من الكرب، ويؤيده ما وقع في رواية مسلم:"في غَشْيَتِهِ"، وقال التوربشتيّ: الغاشية هي الداهية، من شرّ، أو من مرض، أو من مكروه، والمراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي هو فيه، لا الموت؛ لأنه أفاق من تلك المرضة، وعاش بعدها زمانًا. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أقَدْ قَضَى؟ ") بالبناء للفاعل، يقال: قَضَى فلانٌ، كَرَمَى: إذا مات، والقاضية: الموت؛ أي: أقد مات، وخرج من الدنيا؟ ظنّ صلى الله عليه وسلم أنه
(1)
"الفتح" 4/ 68.
مات، فسأل عن ذلك، فـ (قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ) أي: لم يمت (فَبَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: رحمةً عليه، يقال: بكَى يبكي بُكًى، وبُكاءً بالقصر والمدّ، وقيل: القصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت، وقد جمع الشاعر اللغتين، فقال [من الوافر]:
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا
…
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أبكيته، ويقال: بَكَيْتُهُ، وبَكَيتُ عليه، وبَكَيتُ له، وبَكَّيتُهُ بالتشديد، وبَكَت السماءُ: أمطرت
(1)
.
(فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) في نسبة البكاء إلى الرؤية إشارة إلى أنه لم يكن إلا خروج الدمعة، (بَكَوْا) بفتح الكاف، كَرَمَوْا، قال في "الفتح": في هذا إشعارٌ بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه، ولم يعترضه بمثل ما اعتَرَضَ به هناك، فدَلّ على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضرّ. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("ألَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ اللهَ) بكسر الهمزة استئنافًا؛ لأن قوله: "تسمعون" لا يقتضي مفعولًا؛ لأنه جُعل كاللازم، فلا يقتضي مفعولًا؛ أي: ألا توجدون السماعَ، كذا قرّره البرماويّ، والحافظ، كالكرمانيّ، وقد تعقّب ذلك العينيّ، فقال: وما المانع أن يكون بالفتح في محلّ المفعول لـ "تسمعون"، وهو الملائم لمعنى الكلام. انتهى. وقال القسطلّانيّ: لكن الذي في روايتنا بالكسر. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر جواز الأمرين، لكن إن تعينت الرواية بالكسر، كما قال القسطلانيّ، فيتعيّن ما قاله الأولون، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه إشارة إلى أنه فَهِم من بعضهم الإنكار، فبَيَّن لهم الفرق بين الحالتين. انتهى.
(لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ
(1)
"المصباح المنير" 1/ 59.
(2)
"الفتح" 4/ 68.
على أن البكاء الذي لا يصحبه صوتٌ ولا نياحةٌ جائزٌ قبل الموت وبعده، بل قد يقال فيه: إنه مندوبٌ إليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال فيه: "إنها رحمة"، والرحمة مندوبٌ إليها، فأما النياحة التي كانت الجاهليّة تفعلها، من تعديد خصال الميت، والثناء عليه بما كان فيه من الخصال الدنيويّة، والمذمومة، والصُّراخ الذي يُخرجه الجزع المفضي إلى التسخّط، والعبث، من ضرب الخدود، وشقّ الجيوب، فكلُّ ذلك محرَّمٌ، من أعمال الجاهليّة، ولا يُختَلف فيه، فأما بكاءٌ وصُراخٌ لا يكون معه شيء من ذلك، فهو جائزٌ قبل الموت، مكروهٌ بعده، أما جوازه فبدليل حديث جابر بن عتيك الذي أخرجه مالك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبدَ الله بن ثابت، فوجده قد غُلِب عليه فصاح به، فلم يجبه، فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"غُلِبنا عليك يا أبا الربيع"، فصاح النسوة، وبكين، فجعل جابر يُسَكِّتهنّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعهنّ، فإذا وجب فلا تَبْكِيَنّ باكية"، قالوا: يا رسول الله وما الوجوب؟ قال: "إذا مات
…
" الحديث
(1)
.
قال: ووجه الاستدلال أنه صلى الله عليه وسلم أقرّهنّ على البكاء، والصياح قبل الموت، وأمر بتركهنّ على ذلك، وإنما قلنا: إنه مكروه بعد الموت ليس بمحرَّم؛ لما في حديث جعفر من بكائهنّ بعد الموت، وإعلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، ونهيهنّ عنه، فلما لم ينكففن قال للمبلّغ:"احثُ في أفواههنّ التراب"
(2)
، ولم يبالغ في الإنكار عليهنّ، ولا زجرهنّ، ولا ذمّهنّ، ولو كان ذلك محرّمًا لفعل كلّ ذلك، والله أعلم.
قال: وبهذا الذي قرّرناه يرتفع الاختلاف بين ظواهر الأحاديث التي في هذا الباب، ويصحّ جمعها، فتمسّك به، فإنه حسنٌ جدًّا، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ حسنٌ كمال، إلا أن
(1)
حديث صحيح راوه مالك في "الموطأ" 1/ 233، وأبو داود برقم (3111)، والنسائيّ 1846.
(2)
سيأتي للمصنّف برقم (935).
(3)
"المفهم" 2/ 576 - 577.
قوله: "إنه مكروه، وليس بمحرّم" فيه نظر لا يخفى، ومن الغريب احتجاجه عليه بقصّة جعفر رضي الله عنه، وفيه إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومبالغته في ذلك حيث أمر أن يُحثى التراب في أفواههنّ، وهل معنى الإنكار إلا هذا؟، وكيف يقول: ولا زجرهنّ، أليس هذا الزجر؟ إن هذا لهو العجب، والله تعالى أعلم.
(وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) أي: تكلّم بسوء، من الجزع والنياحة (وَأَشَارَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ") أي: بهذا، إن قال خيرًا، كالاسترجاع، واستسلم لقضاء الله تعالى، وَيحْتَمِل أن يكون معنى قوله:"أو يرحم"؛ أي: إن لم يُنفّذ الوعيد.
وزاد في رواية البخاريّ رحمه الله: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يضرب فيه بالعصا، وَيرمي بالحجارة، وَيحثِي بالتراب. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 2137](924) و [7/ 2138](925)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1304)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2065 و 2066)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3159)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 69)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1529)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب عيادة المريض.
2 -
(ومنها): عيادة الفاضل للمفضول، والإمام أتباعه مع أصحابه.
3 -
(ومنها): فيه النهيُ عن المنكر، وبيان الوعيد عليه.
4 -
(ومنها): جواز البكاء عند المريض.
5 -
(ومنها): جواز اتباع القوم للباكي في بكائه.
6 -
(ومنها): يستفاد من زيادة البخاريّ المذكورة أن الميت يُعَذَّب ببكاء
أهله، وسيأتي البحث في ذلك مستوفى قريبًا- إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(7) - (بَابُ عِيَادَةِ الْمَرْضَى)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2138]
(925) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَارَةَ، يَعْنِي ابْنَ غَزِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَلَّى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثمَّ أَدْبَرَ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيَا أَخَا الْأنْصَارِ، كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ " فَقَالَ: صَالِحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟ "، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ، وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ، مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ، وَلَا خِفَاف، وَلَا قَلَانِسُ، وَلَا قُمُصٌ، نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ، حَتَّى جِئْنَاهُ، فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ، حَتَّى دَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) الزَّمِنُ، أبو موسى البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَهْضَمِ) بن عبد الله الثقفيّ، أبو جعفر البصريّ، خُرَاسانيّ الأصل، صدوقٌ [10](خ م دس) تقدم في "الصلاة" 7/ 856.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ) تقدّم قريبًا أيضًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَلَّى) هكذا في هذه الرواية هو: سعيد بن الحارث بن أبي سعيد بن المعلّى، كما سبق في الرواية الماضية، نسب أباه هنا
لجدّه (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولي اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) لا يُعرف اسمه، كما قال صاحب "التنبيه" (فَسَلَّمَ عَلَيْهِ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ أَدْبَرَ الأنصَارِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَخَا الأَنْصَارِ) أي: صاحبهم، ومن هو من نسبهم (كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ ") قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على حسن التعاهد، وتففد الإخوان، والسؤال عن أحوالهم إذا فُقدوا، وعلى الاستلطاف في السؤال عنهم. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) الأنصاريّ: (صَالِحٌ) أي: لا بأس به، فهو في قيد الحياة، يُرجى أن يبرأ من مرضه (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟ ") أي: من الذي يريد أن يزوره في بيته معي؟.
قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه الحضّ على عيادة المرضى، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة تدلّ على ندبيّتها، وكثرة ثواب فاعلها، وهي مندوبةٌ، وقد تجب إذا خيف على المريض ضيعةٌ، فإن التمريض واجب على الكفاية، فمن قام به سقط عن غيره. انتهى
(2)
.
(فَقَامَ) صلى الله عليه وسلم (وَقُمْنَا مَعَهُ، وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ) هكذا النسخ، قال الفيّوميّ:"البِضْعُ" في العدد بالكسر، وبعض العرب يفتحه، واستعماله من الثلاثة إلى التسعة، وعن ثعلب من الأربعة إلى التسعة، يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيقال: بضع رجال، وبضع نسوة، ويُستعمَل أيضًا من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء في "بضع" مع المذكر، وتُحْذَف مع المؤنث، كالنَّيِّفِ، ولا يُستعمَل فيما زاد على العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقول: بضعةٌ وعشرون رجلًا، وبِضْعٌ وعشرون امرأةً، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا: على هذا معنى البضع والبضعة في العدد قطعةٌ مُبْهَمةٌ غير محدودة. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: لم يُذكر من هؤلاء البضعة عشر غيرُ من تقدّم ذكرهم في الحديث الماضي، وهم: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر؛ لأنه قال في هذه الرواية:"وقمنا معه"، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 2/ 578.
(2)
"المفهم" 2/ 578.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 50.
[تنبيه آخر]: نسخ "صحيح مسلم" التي بين أيدينا هكذا بلفظ: "ونحن بضعة عشر"، ووقع في مختصر القرطبيّ لـ "صحيح مسلم" بلفظ:"ونحن سبعة عشر"، ولا أدري من أين أخذه، فليُحرَّر، والله تعالى أعلم.
(مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ) بالكسر جمع نعل، وهي الحذاء، وهي مؤنّثة، وتُجمع أيضًا على أَنْعُل، كسهم، وأسهم، وسِهَام (وَلَا خِفَافٌ) بالكسر أيضًا جمع خُفّ، وهو ما يُلْبَسُ في الرجل من جلد رقيق
(1)
.
(وَلَا قَلَانِسُ) بالفتح: جمع قَلَنْسُوة، بوزن فَعَنْلُوة، بفتح العين، وسكون النون، وضمّ اللام، قاله في "المصباح"، وقال في "القاموس": والْقَلَنْسُوةُ، والْقُلَنْسِيَةُ إذا فتحت ضممت السين، وإذا ضممت كسرتها، تُلْبس في الرأس، جمعها قلانِسُ، وقلانيسُ، وقَلَنْسٍ، وأصله قَلَنْسُوٌ، إلا أنهم رَفَضُوا الواو؛ لأنه ليس اسم آخره حرف علّة قبلها ضمّة، فصار آخِرَهُ ياءٌ مكسورٌ ما قبلها، فكان كقاضٍ، وقَلَاسِيٌّ، وقَلَاسٍ. انتهى
(2)
.
(وَلَا قُمُصٌ) بضمّتين: جمع قميصٍ، قال في "القاموس": القَمِيص، وقد يؤنّث: معروفٌ، أو لا يكون إلا من قطن، وأما من الصوف، فلا. جمعه قُمَصٌ، وأَقمِصةٌ، وقُمْصانٌ. انتهى
(3)
.
(نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ) بالكسر: سَبَخة، قال في "القاموس": السَّبَخَةُ محرّكةً، ومُسكّنةً: أرض ذات نَزّ ومِلْحٍ، جمعها سِبَاخٌ. انتهى
(4)
.
وقال في "المصباح": سَبِخَت الأرض سَبَخًا، من باب تَعِبَ، فهي سَبِخَةٌ بكسر الباء، وإسكانُهَا تخفيف، وأسبخت بالألف لغةٌ، ويُجمَع المكسور على لفظه سَبِخَاتٍ، مثل كَلِمَة وكَلِمَاتٍ، ويُجمَع الساكن على سِبَاخٍ، مثل كَلْبة وكِلابٍ، وموضع سَبَخٌ، وأرضٌ سَبَخَة بفتح الباء أيضًا: أي: مِلْحَة. انتهى
(5)
.
قال النوويّ رحمه الله: فيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا، والتقلل منها، واطّراح فُضُولها، وعدم الاهتمام بفاخر اللباس ونحوه، وفيه
(1)
"المعجم الوسيط" 1/ 247.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 242.
(3)
"القاموس المحيط" 2/ 315.
(4)
"القاموس المحيط" 1/ 261.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 263.
جواز المشي حافيًا، وعيادة الإمام والعالم المريض مع أصحابه. انتهى
(1)
.
(حَتَّى جِئْنَاهُ) أي: سعد بن عُبادة (فَاسْتَأْخَرَ قَوْمُهُ مِنْ حَوْلِهِ) أي: ليكون المكان خاليًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين معه (حَتَّى دَنَا) أي: اقترب من سعد (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ مَعَهُ).
وقال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث من الفوائد: زيارة الأئمة، وأهل الفضل المرضى، وحضّه على ذلك أصحابه بقوله:"من يعوده منكم؟ "، وفيه السؤال للحاضرين عن أحوالهم، وكذلك إذا كانوا في شدّة، ولا يكلّفون هم من ذلك ما عساه يشقّ من الجواب عليهم، وفيه حضور الناس عند من احتُضِر، وهو مما يتعيّن على كافّتهم، وبخاصّة لآله وقرابته، وقد ترك ابن عمر صلاة الجمعة حين دُعي لاحتضار سعيد بن زيد؛ لشدّة حاجة الميت حينئذ إلى من ينظر فيه، ويرفق به، ويقوم عليه، وفيه أن للرجل حقًّا في مثل هذا، وأنه من جاء لعيادة، أو قضاء حاجة عند كبير، ثم جاء غيره، وقد ضاق المجلس عن الداخل أن ينصرف الأول، أو يفسح له عن قرب المزور حتى يقضي أربه منه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، لا كما ظنّه بعضهم من أنه من أفراد المصنّف
(3)
، قال الحافظ رحمه الله في "النكت الظراف": هو طرف من الحديث الأول، ومن ثمّ ذكره الحميديّ في المتّفق عليه، لا في أفراد مسلم. انتهى
(4)
.
ولهذا اكتفيت في تخريجه بما سبق هناك، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح النووي" 6/ 227.
(2)
"إكمال المعلم" 3/ 366.
(3)
هكذا جعله الشيخ عبد الله بن صالح العبيلان في كتابه "إرشاد القاري إلى أفراد مسليم عن البخاري" 1/ 166، وكذا جعل له الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رقمًا خاصًّا به غير رقم الحديث الماضي، وكذا جعله أصحاب البرامج الحديثية من أفراد مسلم، والأولى ما ذكرته في شرحي، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(4)
"النكت الظراف على تحفة الأشراف" 5/ 429 - 430.
(8) - (بَابُ الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2139]
(926) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ) المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنَ جَعْفَرٍ) الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ المعروف بغندر، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، الإمام الحجة الناقد البصير، أمير المؤمنين في الحديث [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(ثَابِتُ الْبُنَانِيُّ) بن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابد [4] مات سنة بضع و (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
5 -
(أنسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3، ولطائف الإسناد، وشرح الحديث يأتي في الحديث التالي، وإنما أخرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2140]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَذَثنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ
تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا:"اتَّقِي اللهَ، وَاصْبِرِي"، فَقَالَتْ: وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي
(1)
، فَلَمَّا ذَهَبَ قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ، فَأَتَتْ بَابَهُ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ:"إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ"، أَوْ قَالَ:"عِنْدَ أَوَّلِ الصَّدْمَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، بخاريّ الأصل، ثقةٌ [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
والباقون تقدّموا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أن شيخه هذا، وكذا الذي قبله كلاهما ممن اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة.
4 -
(ومنها): أنه كسابقه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره.
5 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والإخبار إلا في موضع، وقد مرّ تصريح ثابت بالسماع في السند الماضي.
6 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو الخادم الشهير خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ونال دعوته المباركة، وهو من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، ومن المعمّرين، فقد جاز المائة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم في الرواية الماضية:"عن ثابت، قال: سمعت أنس بن مالك"(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ) لا يعرف اسمها
(1)
وفي نسخة: "وما تبالي مصيبتي".
(تَبْكِي) وفي رواية البخاريّ: "مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر"(عَلَى صَبِيٍّ لَهَا) أي: لأجل موت ولدها الصغير، هذا يُشعر بأنه ولدها، وصَرَّح به في مرسل يحيى بن أبي كثير، عند عبد الرزاق، ولفظه: قد أصيبت بولدها، وأخرج البخاريّ في أوائل "كتاب الأحكام" من "صحيحه" من طريق أخرى عن شعبة، عن ثابت، أن أنسًا قال لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بها، فذكر هذا الحديث
(1)
.
(فَفَالَ لَهَا: "اتَّقِي اللهَ) في رواية أبي نعيم في "المستخرج": فقال: "يا أمة الله اتقي الله"، قال القرطبيّ: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد، من نَوح، أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى، يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور:"فسمع منها ما يَكْرَه، فوقف عليها"، وقال الطيبيّ: قوله: "اتقي الله" توطئة لقوله: (وَاصْبِرِي") كأنه قيل لها: خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعي؛ ليحصل لك الثواب.
(فَفَالَتْ) جاهلةً بمن يُخاطبها، وظانّةً أنه من آحاد الناس (وَمَا) نافية (تُبَالِي بِمُصِيبَتِي) وفي بعض النسخ:"وما تبالي مصيبتي"، بحذف الباء الموحّدة، قال النوويّ رحمه الله: فيه صحّة قول الإنسان: ما أُبالي بكذا، والردّ على من زعم أنه لا يجوز إثبات الباء، وإنما يقال: ما باليتُ كذا، وهذا غلطٌ، بل الصواب جواز إثبات الباء وحذفها، وقد كثُر ذلك في الأحاديث. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: قولهم: لا أباليه، ولا أبالي به؛ أي: لا أهتمّ به، ولا أكترث له، قال: ولا تُستعمل إلا مع الجحد، والأصل فيه قولهم: تبالى القوم: إذا تبادروا إلى الماء القليل، فاستقوا، فمعنى لا أبالي: لا أبادر إهمالًا له، وقال أبو زيد: ما باليتُ به مبالاةً، والاسم البِلاءُ وزانُ كتاب، وهو الهمّ الذي تُحَدِّث به نفسك. انتهى
(3)
.
وفي رواية البخاريّ: "قالت: إليك عنّي، لم تُصَب بمصيبتي، ولم تعرفه"، وفي رواية له:"فإنك خِلْوٌ من مصيبتي"، وهو بكسر المعجمة وسكون
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 24.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 227.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 62.
اللام، ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إنها قالت: يا عبد الله إني أنا الحزى الثَّكْلَى، ولو كنت مصابًا عَذَرتني".
(فَلَمَّا ذَهَبَ) صلى الله عليه وسلم من عند المرأة (قِيلَ لَهَا) وفي رواية للبخاريّ: "فَمَرَّ بها رجل، فقال لها: إنه رسول الله، فقالت: ما عرفته"، وفي رواية أبي يعلى المذكورة:"قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا"، وللطبرانيّ في "الأوسط" من طريق يوسف بن عَطِيَّة
(1)
، عن أنس، أن الذي سألها هو الفضل بن العباس
(2)
.
(إِنَّهُ) أي: الشخص الذي كلّمك الآن هو (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ) أي: من شدة الكرب الذي أصابها لَمّا عَرَفَت أنه صلى الله عليه وسلم خَجَلًا منه ومَهَابةً، وإنما اشتبه عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما كلّمها؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى كعادة الملوك والكبراء، مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء.
(فَأَتَتْ بَابَهُ) للاعتذار إليه فيما قالته (فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ) أي: حارسين للباب يمنعون الناس من الدخول عليه، وفي رواية للبخاريّ:"بوّابًا" بالإفراد.
(1)
وقع في "الفتح" بلفظ: "من طريق عطية"، وهو غلط، فتنبّه.
(2)
نصّ الطبرانيّ في "المعجم الأوسط" 6/ 222: (6244) حدّثنا محمد بن عليّ الصائغ، قال: نا سعيد بن منصور، قال: نا يوسف بن عطية السعديّ عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: ثنا أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الفضل بن عباس أن يُعِدّ له طَهُوره، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وكان إذا كانت له حاجة تباعد، حتى لا يكاد يُرَى، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته أقبل راجعًا، فمَرّ بامرأة عند قبر ميت لها، وهي تُعَدِّد، وتعَوِّل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وهي لا تعرفه، فقال لها:"اتق الله، واصبري"، قالت: يا عبد الله اذهب لحاجتك، فقال لها ثلاثًا، ثم انصرف، فجاء فأخذ الْمِطْهَرة من الفضل، فقام الفضل، فأتى المرأة، فقال لها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقامت: فقالت: يا ويلها هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، ولم أعرفه، فسعت حتى لحقته على باب المسجد، فقالت: يارسول الله، والله ما عرفتك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصبر عند الصدمة الأولى"، قالها ثلاثًا.
قال الطبرانيّ: لم يرو هذا الحديث بهذا التمام عن عطاء بن أبي ميمونة إلا يوسف بن عطية، تفرد به سعيد بن منصور. انتهى.
و"يوسف بن عطيّة الصفّار"، قاله عنه في "التقريب": متروك.
قال الزين ابن الْمُنِّير رحمه الله: فائدة هذه الجملة من هذا الخبر بيان عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوّابًا مع قدرته على ذلك؛ تواضعًا، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى، كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة، فلم تعرفه مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء.
وقال الطيبيّ رحمه الله: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها: إنه النبيّ صلى الله عليه وسلم استَشْعَرت خوفًا وهيبةً في نفسها، فتصورت أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مثل الملوك والعظماء، له حاجب، وبوّاب، يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. انتهى
(1)
.
(فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَعْرِفْكَ) أي: قالت المرأة معتذرة إليه صلى الله عليه وسلم: اعذرني من تلك الرّدّة وخشونتها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ سَلْمَةٍ") أي: الكامل الذي يُوفّى صاحبه الثواب بغير حساب هو الذي حصل عند أول صدمة؛ أي: ضربة يُضربها الشخص، وهو كناية عن أول وقوع المصيبة، وقوله:(أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: "عِنْدَ أوَّلِ الصَّدْمَةِ") أي: بالتعريف.
وحاصل المعنى: إذا وقع الثبات أول شيء يَهْجُم على القلب من مقتضيات الجزع، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصَّدْم ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب.
وقال الخطابيّ رحمه الله: المعنى أن الصبر الذي يُحمَد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه إذا طالت الأيام يَسْلُو، ويصير طبعًا، فلا يؤجر عليه.
وحَكَى الخطابيّ عن غيره أن المرء لا يؤجر على المصيبة؛ لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته، وجميل صبره.
وقال ابن بطال رحمه الله: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك، وفقد الأجر.
وقال الطيبيّ رحمه الله: صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم عن قولها: "لم أعرفك"
(1)
"الفتح" 4/ 25.
على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار إليّ، فإن من شيمتي أن لا أغضب إلا لله، وانظري إلى تفويتك من نفسكِ الثواب الجزيل، والكرامة، والفضل من الله تعالى بالجزع وعدم الصبر عند فجأة الفجيعة. انتهى
(1)
.
وقال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: فائدة جواب المرأة بذلك، أنها لما جاءت طائعةً لما أمرها به من التقوى والصبر، معتذرةً عن قولها الصادر عن الحزن، بَيَّن لها أن حقّ هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب. انتهى.
ويؤيد هذا أن في رواية أبي هريرة المذكورة: "فقالت: أنا أصبر، أنا أصبر"، وفي مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور:"فقال: اذهبي إليك، فإن الصبر عند الصدمة الأولى"، وزاد عبد الرزاق فيه من مرسل الحسن:"والْعَبْرَة لا يملكها ابن آدم"، قاله في "الفتح"
(2)
.
[تنبيه]: أورد البخاريّ رحمه الله هذا الحديث في "باب زيارة القبور"، مع احتمال أن تكون المرأة المذكورة تأخرت بعد الدفن عند القبر، والزيارة إنما تُطلَق على من أنشأ إلى القبر قصدًا من جهة استواء الحكم في حقها، حيث أمرها بالتقوى والصبر لَمّا رأى من جَزَعها، ولم ينكر عليها الخروج من بيتها، فدلّ على أنه جائزٌ، وهو أعم من أن يكون خروجها لتشييع ميتها، فأقامت عند القبر بعد الدفن، أو أنشأت قصد زيارته بالخروج بسبب الميت، قاله في "الفتح"، وسيأتي حكم زيارة القبور في أواخر أبواب الجنائز- إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1419.
(2)
"الفتح" 4/ 25 - 26.
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2139 و 1240 و 2141](926)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1252 و 1283 و 1302) و"الأحكام"(7154)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3124)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(988)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 22)، و"عمل اليوم والليلة"(1068)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 56)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 551)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 130 و 143 و 217)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الأوسط"(6/ 222)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 238)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2067 و 2068)، و (البيهقىُّ) في "الكبرى"(4/ 65)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، والرفق بالجاهل، ومسامحة المصاب، وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
2 -
(ومنها): بيان أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ مَن يحجبه عن حوائج الناس.
3 -
(ومنها): بيان أن من أُمِر بمعروف ينبغي له أن يَقْبَل، ولو لم يعرف الآمر.
4 -
(ومنها): بيان أن الجزَع من المنهيات؛ لأمره صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة بالتقوى، مقرونًا بالصبر.
5 -
(ومنها): أن فيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة، ونشر الموعظة.
6 -
(ومنها): أن المواجهة بالخطاب إذا لم تصادف المنويّ لا أثر لها، وبَنَى عليه بعضهم ما إذا قال: يا هند أنت طالق، فصادف عمرةَ أن عمرة لا تطلق.
7 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز زيارة القبور، سواء كان الزائر رجلًا أو امرأةً، وسواء كان المزور مسلمًا أو كافرًا؛ لعدم الاستفصال في ذلك.
قال النوويّ: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب الحاوي: لا تجوز زيارة قبر الكافر، وهو غلط. انتهى.
وحجة الماورديّ قوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، وفي الاستدلال به نظرٌ لا يخفى، قاله في "الفتح"
(1)
، وسيأتي تمام البحث في مسألة زيارة القبور في آخر أبواب الجنائز- إن شاء الله تعالى-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2141]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه
(2)
يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ- (ح) وَحَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو (ح) وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالُوا جَمِيعًا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، بِقِصَّتِهِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنَ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 286)(ع) تقدم في "لإيمان" 35/ 243.
3 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11](م دت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) القيسيّ، أبو عامر الْعَقَديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
5 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقيُّ) البُّكريّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 246)(م دت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.
(1)
"الفتح" 4/ 26.
(2)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
6 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سهل التّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
و"شعبةُ" ذُكر قبله.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) إشارة إلى إسناد شعبة المتقدّم، وهو: عن ثابت الْبُنانيّ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية خالد بن الحارث، عن شعبة هذه، فقد ساقها، أبو نعيم في "مستخرجه"(3/ 11 - 12) مقرونة برواية عثمان بن عمر عنه، فقال:
(2068)
حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عثمان بن عُمَر
(1)
، ثنا أبو أحمد الغطريفيّ، ثنا القاسم بن زكريا، ثنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا خالد بن الحارث، قالا: ثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبيّ لها، فقال لها:"اتقي الله، واصبري"، قالت: وما تبالي أنت بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه، فلم تَجِد على بابه بوّابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال:"إنما الصبر عند أول صدمة، أوأول الصدمة".
وأما رواية عبد الملك بن عمرو، وهو أبو عامر الْعَقَديّ، فقد ساقها أبو نعيم أيضًا مقرونة برواية أبي داود، فقال:
(2067)
حدّثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود (ح) وثنا عبد الرحمن بن العباس الأطروش، من لفظه، ثنا محمد بن يونس، ثنا أبو عامر العقديّ (ح) وثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر، قالوا: ثنا شعبة، عن ثابت، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصبر عند أول صدمة".
وأما رواية عبد الصمد، عن شعبة فقد ساقها البخاريّ في "الأحكام"، فقال:
(7154)
حدّثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، حدثنا شعبة،
(1)
هنا محل (ح) للتحويل، لكن النسخة خالية عنها، فليُتنبّه.
حدثنا ثابت البنانيّ، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم، قال: فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بها، وهي تبكي عند قبر، فقال:"اتقي الله، واصبري"، فقالت: إليك عني، فإنك خِلْوٌ من مصيبتي، قال: فجاوزها، ومضى، فمَرّ بها رجلٌ، فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما عرفته، قال: إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاءت إلى بابه، فلم تجد عليه بوّابًا، فقالت: يا رسول الله، والله ما عرفتك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الصبر عند أول صدمة". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(9) - (بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ الْمَيْتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2142]
(927) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ بِشْرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثنا نَافِعٌ
(1)
، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ حَفْصَةَ بَكَتْ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَهْلًا يَا بُنَيَّةُ، أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؟ ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ [5] مات سنة بضع (140) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
(1)
وفي نسخة: "عن عبيد الله بن عمر، عن نافع".
5 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدني، مولى ابن عمر، ثقة ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن الخطاب رففي، تقدّم قبل باب.
7 -
(عُمَرُ) بن الخطّاب بن نُفَيل بن عديّ القرشيّ العدويّ، أحد الخلفاء الراشدين، استُشهد رضي الله عنه في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
رجال هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذي.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عبيد الله، والباقيان كوفيّون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ حَفْصَةَ) بنت عمر بن الخطّاب أم المؤمنين رضي الله عنها، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خُنيس بن حُذافة، سنة ثلاث من الهجرة، وماتت سنة (45)، تقدّمت ترجمتها في "صلاة المسافرين وقصرها" (15/ 1676). (بَكَتْ عَلَى عُمَرَ) أي: لَمّا طُعِن رضي الله عنه، وأُغمي عليه (فَقَالَ) أي: لَمَا أفاق من إغمائه (مَهْلًا) بفتح الميم، وسكون الهاء، وتفتح، اسم من التمهّل، يقال: تمهّل في أمرك تمهُّلًا: أي اتّئِدْ فيه، ولا تعجل، ونصبه على المصدريّة، فهو مصدر ناب مناب الفعل، كما قوله تعالى:{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، فعامله يُحذف وجوبًا؛ لنيابته عنه، قال في "الخلاصة":
وَالْحَذْفُ حَتْمٌ مَعَ آتٍ بَدَلَا
…
مِنْ فِعْلِهِ كَنَدْلًا الَّذْ كَانْدُلَا
أي: تمهّلي تمهّلًا (يَا بُنَيَّةُ) تصغير بنت (ألَمْ تَعْلَمِي) استفهام إنكار وتوبيخ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"؟) أي: بسبب بكائهم على موته، واختُلف في معنى هذا الحديث على أقوال، والراجح أنه يعذّب إذا كان ذلك من عادته وسنّته، كما هو مذهب الإمام البخاري رحمه الله،
وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك في المسألة الثالثة- إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2142 و 2143 و 2144 و 2145 و 2146 و 2147 و 2148](927)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1288 و 1289 و 1290 و 1292 و 3979)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1002 و 1004 و 1006)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1848 و 1850 و 1853 و 1855 و 1856 و 1857 و 1858)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1593)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 36 و 41 و 42 و 44 و 45)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2069 و 2070 و 2071 و 2072 و 2073)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 71)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الميت يعذّب ببكاء أهله عليه":
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال:
(الأول): حَمْلُهُ على ظاهره، وهو بيِّن من قصّة عمر مع صُهيب رضي الله عنهما، كما سيأتي في الباب.
وَيحْتَمِل أن يكون عمر رضي الله عنه كان يرى أن المؤاخذة تقع على الميت إذا كان قادرًا على النهي، ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى نهي صُهيب رضي الله عنه، وكذلك نهى حفصة رضي الله عنها.
وممن أخذ بظاهره أيضًا عبد الله بن عمر، فرَوَى عبد الرزّاق أنه شهد رافع بن خَدِيج، فقال لأهله:"إن رافعًا شيخ كبير، لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يُعذّب ببكاء أهله عليه".
(الثاني): قول من ردّ هذا الحديث، وعارضه بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية [فاطر: 18] وممن رُوي عنه الإنكار مطلقًا أبو هريرة رضي الله عنه، كما رواه أبو يعلى من طريق بكر بن عبد الله المزنيّ، قال: قال
أبو هريرة رضي الله عنه: "والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله، فاستُشهد، فعَمَدَت امرأته، سَفَهًا وجهلًا، فبكت عليه، ليُعذّبنّ هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة؟ "، وإلى هذا جَنَح جماعة من الشافعية، منهم أبو حامد وغيره.
(الثالث): تأويل من أَوَّل قوله: "ببكاء أهله عليه" على أن الباء للحال؛ أي: أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدّة بكائهم غالبًا إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يُسأل، ويبتدأ به عذاب القبر، فكأن معنى الحديث: إن الميت يُعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببًا لتعذيبه، حكاه الخطابيّ.
قال الحافظ رحمه الله: ولا يخفى ما فيه من التكلّف، ولعلّ قائله إنما أخذه من قول عائشة رضي الله عنها: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليعذّب بمعصيته، أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن"، وعلى هذا يكون خاصًّا ببعض الموتى.
(الرابع): تأويل من أوّله على أن الراوي سمع بعض الحديث، ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لِمَعهود معيّن، كما جزم به أبو بكر الباقلّانيّ وغيره، وحجتهم ما سيأتي عن عائشة رضي الله عنها أنه ذُكِرَ لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذّب ببكاء الحيّ عليه، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن
…
الحديث.
(الخامس): تأويل من أوّله على أن ذلك مختصّ بالكافر، وأن المؤمن لا يُعذّب بذنب غيره أصلًا، وهو بيّن من رواية ابن عباس، عن عائشة رضي الله عنها كما سيأتي.
قال الحافظ رحمه الله: وهذه التأويلات عن عائشة رضي الله عنها متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترُدّ الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن.
قال الداوديّ: رواية ابن عباس، عن عائشة رضي الله عنها أثبتت ما نفته عمرة، وعروة عنها، إلا أنها خضته بالكافر؛ لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذابًا ببكاء أهله، فأيّ فرق بين أن يزداد بفعل غيره، أو يعذّب ابتداء؟.
وقال القرطبيّ: إنكار عائشة رضي الله عنها ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة، أو النسيان، أو على أنه سمع بعضًا، ولم يسمع بعضًا بعيد؛ لأن الرواة لهذا
المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح.
وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة رضي الله عنهما بضروب من الجمع:
أولها: طريقة البخاريّ، حيث ترجم بقوله: باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يعذّب الميت ببعض بكاء أهله عليه" إذا كان النوح من سنته، لقول الله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] الآية وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، ومسؤول عن رعيته"، فإذا لم يكن من سنته، فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]
…
إلخ.
ثانيها: وهو أخصّ من الذي قبله ما إذا أوصى أهله بذلك، وبه قال المزنيّ، وإبراهيم الحربيّ، وآخرون، من الشافعية وغيرهم، حتى قال أبو الليث السمرقنديّ: إنه قول عامة أهل العلم، وكذا نقله النوويّ عن الجمهور قالوا: وكان معروفًا للقدماء حتى قال طَرَفَة بن العبد [من الطويل]:
إِذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
…
وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ
واعتُرض بأن التعذيب بسبب الوصيّة يُستَحَقّ بمجرّد صدور الوصيّة، والحديث دالّ على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال.
والجواب أنه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلًا.
ثالثها: يقع ذلك أيضًا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك، وهو قول داود، وطائفة، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقّق أنه ليست لهم بذلك عادة، ولا ظنّ أنهم يفعلون ذلك.
قال ابن المرابط: إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النَّوْح، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك، ولم يُعلِمهم بتحريمه، ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عُذّب على ذلك عُذِّب بفعل نفسه، لا بفعل غيره بمجرده.
رابعها: معنى قوله: "يعذّب ببكاء أهله"؛ أي: بنظير ما يَبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يُعَدِّدُون بها عليه غالبًا تكون من الأمور المنهيّة، فهم
يمدحونه بها، وهو يعذّب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يَمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم، وطائفة، واستُدِلَّ له بما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له
…
الحديث، وفيه: "إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم
…
" الحديث.
قال ابن حزم: فصحّ أن البكاء الذي يعذَّب به الإنسان ما كان منه باللسان؛ إذ يَندُبونه برياسته التي جار فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجُوده الذي لم يضعه في الحقّ، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر، وهو يعذّب بذلك.
وقال الإسماعيليّ: كثُر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كلٌّ مجتهدًا على حسب ما قُدِّر له، ومن أحسن ما حضرني وجهٌ لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يُغِيرون، وَيسْبُون، ويَقتُلُون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرّمة، فمعنى الخبر أن الميت يُعذّب بذلك الذي يبكي عليه أهله به؛ لأن الميت يُندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذُكر، وهي زيادة ذنب من ذنوبه يستحق العذاب عليها.
خامسها: معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يُنْدَبه أهله به، كما رَوَى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعًا:"الميت يعذّب ببكاء الحيّ؛ إذا قالت النائحة: وا عضداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جُبِذَ الميتُ، وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها؟ "، ورواه ابن ماجه:"يُتَعْتَعُ به، ويقال: أنت كذلك؟ "، ورواه الترمذيّ بلفظ:"ما من ميت يموت، فتقوم نادبته، فتقول: واجبلاه، واسنداه، أو شبه ذلك من القول، إلا وُكل به ملكان يلهزانه، أهكذا كنت؟ "، وشاهده ما رواه البخاريّ في "المغازي" من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال:"أُغمِي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي، وتقول: واجبلاه، واكذا، واكذا، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي: أنت كذلك؟ ".
سادسها: معنى التعذيب تَألُّم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها،
وهذا اختيار أبي جعفر الطبريّ من المتقدّمين، ورجحه ابن المرابط، وعياض، ومن تبعه، ونصره ابن تيمية، وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة -بفتح القاف، وسكون التحتانية -بنت مخرمة- بفتح الميم، وسكون المعجمة -الثقفية رضي الله عنها قال: قلت: يا رسول الله قد ولدته، فقاتل معك يوم الربَذَة، ثم أصابته الحمّى، فمات، ونزل عليّ البكاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيُغْلَب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفًا، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذّبوا موتاكم".
وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه ابن أبي خيثمة، وابن أبي شيبة، والطبرانيّ، وغيرهم، وأخرج أبو داود، والترمذيّ أطرافًا منه، قال الطبريّ: ويؤيده ما قاله أبو هريرة: إن أعمال العباد تُعرَض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، مرفوعًا، أخرجه البخاريّ في "تاريخه"، وصححه الحاكم، قال ابن المرابط: حديث قَيلة نصّ في المسألة، فلا يُعدَل عنه.
واعترضه ابن رُشد بأنه ليس نصًّا، وإنما هو مُحْتَمِل، فإن قوله:"فيستعبر إليه صويحبه" ليس نصًّا في أن المراد به الميت، بل يَحْتَمِل أن يراد به صاحبه الحيّ، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه.
قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر هذه التوجيهات: وَيحْتَمِل أن يُجمَع بين التوجيهات، فينزّل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلًا: من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ بذلك عذّب بصنعه، ومن كان ظالمًا، فنُدب بأفعاله الجائرة عذّب بما نُدِب به، ومن كان يَعرِف من أهله النياحة، فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذّب بالتوبيخ، كيف أهمل النهي؟، ومن سَلِمَ من ذلك كله، واحتاط، فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه، وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذا الجمع فيه تكلّف، بل الأولى الترجيح بين هذه التوجيهات، كما سيأتي قريبًا.
وحكى الكرمانيّ تفصيلًا آخر، وحسّنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ، وحال يوم القيامة، فيُحْمَل قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] على يوم القيامة، ويُحْمَل هذا الحديث، وما أشبهه على البرزخ، ويؤيّده أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، فإنها دالّة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون حال البرزخ بخلاف حال يوم القيامة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا الذي قاله الكرمانيّ يعارضه ما في بعض الأحاديث من التنصيص بأن ذلك التعذيب إنما يكون في القيامة، فقد أخرج الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من نِيح عليه، فإنه يعذّب بما نيح عليه يوم القيامة".
إذا علمت هذه الأقوال بما لها، وما عليها، فأرجحها عندي ما ذهب إليه الإمام البخاريّ رحمه الله، من أن ذلك إذا كان من سنّته، كما أسلفنا قوله في ذلك.
والحاصل أن هذا التعذيب في حقّ من له تسبب في بكاء أهله عليه، بأن يكون البكاء من سنته وطريقته، أو أوصى به في حياته، أو عَرَف أن أهله سيفعلون ذلك، وأهمل النهي والزجر عنه، وهذا التوجيه أقرب التوجيهات عندي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2143]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَيِّتُ يُعَذبُ في قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَفَدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، رأس [4](117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ حجة، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) بكسر النون فعل ماضي مغيّر الصيغة، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "بما نيح عليه" بإثبات الباء، وحذفها، وهما صحيحان، وفي رواية بإثبات "في قبره"، وفي رواية بحذفها. انتهى.
والنَّوْحُ: رفع الصوت بتعديد شمائل الميت، ومحاسن أفعاله، يقال: ناحت المرأة على الميت: إذا ندبته؛ أي: بكت عليه، وعدّدت محاسنه، وقيل: النوح بُكاءٌ مع صوت
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2144]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ في قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ")
(2)
.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"المراعاة" 5/ 473.
(2)
وفي نسخة: "ما نيح عليه".
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، يدلّس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى الكلام فيه قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2145]
(
…
) - (وَحَدَّثَني عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَصِيحَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أفَاقَ قَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ"؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم قريبًا أيضًا.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ) أي: ابن الخطّاب رضي الله عنه، والفعل مبنيّ للمفعول؛ أي: طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وستأتي قصّته قريبًا.
وقوله: (أُغْمِيَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول أيضًا، يقال: غُمِي على المريض ثلاثيًّا مبنيًّا للمفعول، فهو مغميّ عليه على مفعول، وأُغمي عليه إغماء بالبناء للمفعول أيضًا، ومعناه: غُشي عليه.
(فَصِيح عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: صرخ أهل البيت، ورفعوا أصواتهم.
وقوله: (فَلَمَّا أفَاقَ) أي: رجع من إغمائه، يقال: أفاق المجنون إفاقةً: رجع إليه عقله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق الكلام عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2146]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عَلِي بْنُ حُجْرٍ
(1)
، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْن مُسْهِرٍ، عَنِ الشَّيْبَانيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ، جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: وَا أَخَاهْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ"؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.
2 -
(أَبُو بُرْدَةَ) عامر، أو حارث بن أبي موسى الأشعريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن قيس بن سُليم أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه، تقدّم قريبًا أيضًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (جَعَلَ صُهَيْبٌ) هو ابن سِنان الروميّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، أبو يحيى النَّمَريّ، من النَّمِر بن قاسط، ويُعرَف بالرُّوميّ؛ لأنه أقام في الروم مدةً، وهو من أهل الجزيرة سُبِي من قرية نِينُوَى، من أعمال الْمَوْصِل، وقد كان أبوه أو عمة عاملًا لكسرى، ثم إنه جُلِب إلى مكة، فاشتراه عبد الله بن جُدْعان القرشيّ التيميّ، ويقال: بل هَرَب، فأتى مكة، وحالف ابن جدعان.
(1)
زاد في نسخة: "السعديّ".
وقال أبو عمر بن عبد البرّ: وإن أبو صهيب، أو عمة عاملًا لكسرى على الأُبُلَّة، وكانت منازلهم بأرض الْمَوْصِل، فأغارت الروم عليهم، فسَبَت صهيبًا، وهو غلام، فنشأ بالروم، ثم اشترته كَلْبٌ، وباعوه بمكة لعبد الله بن جُدْعان، فأعتقه، وأما أهله فيزعمون أنه هَرَب من الروم، وقَدِم مكة. انتهى
(1)
.
وهو من السابقين الأولين المعذّبين في الله تعالى، هاجر إلى المدينة، ومات رضي الله عنه بها سنة (38)، وتقدّمت ترجمته في "كتاب الإيمان"[86/ 456].
وقوله: (وَا أَخَاهْ)"وا" حرف نُدبة، والألف في "أخاه" مزيدة لتطويل مدّ الصوت، والهاء هاء السكت يجوز زيادتها في الوقف، وحذفها، كما قال في "الخلاصة":
وَوَاقِفًا زِدْ هَاءَ سَكْتٍ إِنْ تُرِدْ
…
وَإِنْ تَشَا فَالْمَدَّ وَالْهَا لَا تَزِدْ
وقوله: ("إِن الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ") قالَ في "الفتح": الظاهر أن الحيّ مَن يقابل الميت، وَيحْتَمِل أن يكون المراد به القبيلة، وتكون اللام فيه بدل الضمير، والتقدير: يُعَذب ببكاء حَيِّه؛ أي: قبيلته، فيوافق قوله في الرواية الأخرى:"ببكاء أهله"، وفي الرواية التالية:"من يُبكى عليه يعذب"، وهي أعمّ، وفيه دلالة على أن الحكم ليس خاصًّا بالكافر، وعلى أن صهيبًا أحدُ من سمع هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكأنه نسيه، حتى ذَكَّره به عمر رضي الله عنه.
قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: أنكر عمر على صهيب رضي الله عنهما بكاءه؛ لرفع صوته بقوله: "وا أخاه"، فَفَهِم منه أن إظهاره لذلك قبل موت عمر رضي الله عنه يُشعر باستصحابه ذلك بعد وفاته، أو زيادته عليه، فابتدره بالإنكار لذلك، والله أعلم.
وقال ابن بطال رحمه الله: إن قيل: كيف نَهَى عمر صهيبًا عن البكاء، وأقرّ نساء بني المغيرة على البكاء على خالد؟
(2)
.
(1)
راجع: "سير أعلام النبلاء" 2/ 17 - 26.
(2)
قصّة خالد هي ما علّقه البخاريّ رحمه الله في "الصحيح" بقوله: وقال عمر رضي الله عنه: "دعهنّ يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقعٌ، أو لقلقة"، والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت. انتهى. =
فالجواب؛ أنه خَشِي أن يكون رفعه لصوته من باب ما نُهِي عنه، ولهذا قال في قصة خالد: ما لم يكن نَقْعٌ، أو لَقْلَقَةٌ. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
= قوله: وقال عمر: "دعهنّ يبكين على أبي سليمان
…
إلخ" هذا الأثر وصله البخاريّ في "التاريخ الأوسط" من طريق الأعمش، عن شقيق، قال: لما مات خالد بن الوليد، اجتَمَع نسوة بني المغيرة؛ أي: ابن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم، وهنّ بنات عم خالد بن الوليد بن المغيرة، يبكين عليه، فقيل لعمر: أَرْسِل إليهنّ، فانههنّ، فذكره، وأخرجه ابن سعد عن وكيع، وغير واحد، عن الأعمش.
وقوله: "ما لم يكن نقع، أو لقلقة" بقافين الأولى ساكنةٌ، وقد فسره البخاريّ بأن النقع التراب؛ أي: وضعه على الرأس، واللقلقة الصوت؛ أي: المرتفع، وهذا قول الفراء، فأما تفسير اللقلقة فمتفق عليه، كما قال أبو عبيد في "غريب الحديث"، وأما النقع فرَوَى سعيد بن منصور، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: النقع الشّقّ؛ أي: شقُّ الجيوب، وكذا قال وكيع، فيما رواه ابن سعد عنه، وقال الكسائيّ: هو صنعة الطعام للمأتم، كأنه ظنه من النقيعة، وهي طعام المأتم، والمشهور أن النقيعة طعام القادم من السفر، وقد أنكره أبو عبيد عليه، وقال: الذي رأيت عليه أكثر أهل العلم أنه رفع الصوت؛ يعني: بالبكاء، وقال بعضهم: هو وضع التراب على الرأس؛ لأن النقع هو الغبار، وقيل: هو شق الجيوب، وهو قول شَمِر، وقيل: هو صوت لَطْم الخدود، حكاه الأزهريّ، وقال الإسماعيلي معترضًا على البخاريّ: النقع لعمري هو الغبار، ولكن ليس هذا موضعه، وإنما هو هنا الصوت العالي، واللقلقة ترديد صوت النواحة. انتهى.
قال الحافظ: ولا مانع من حمله على المعنيين، بعد أن فسر المراد بكونه وضع التراب على الرأس؛ لأن ذلك من صنيع أهل المصائب، بل قال ابن الأثير: المرجح أنه وضع التراب على الرأس، وأما من فسره بالصوت، فيلزم موافقته للّقلقة، فحمل اللفظين على معنيين أولى من حملهما على معنى واحد.
وأجيب بأن بينهما مغايرة من وجه كما تقدم، فلا مانع من إرادة ذلك.
[تنبيه]: كانت وفاة خالد بن الوليد رضي الله عنه بالشام سنة إحدى وعشرين، قاله في "الفتح" 4/ 42 - 44.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2147]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ أَبُو يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ، أَقْبَلَ صُهَيْبٌ مِنْ مَنْزِلِهِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُمَرَ، فَقَامَ بِحِيَالِهِ يَبْكِي، فَقَالَ عُمَرُ: عَلَامَ تَبْكِي؟ أَعَلَي تَبْكِي؟ قَالَ: إِي وَاللهِ لَعَلَيْكَ أَبْكِي، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذبُ"، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، فَقَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ أَبُو يَحْيَى) هو: شعيب بن صفوان بن الربيع بن الرُّكَين الثقفيّ الكوفيّ كاتب عبد الله بن شُبْرُمة القاضي، كان يكتب في الديوان ببغداد، لا بأس به
(1)
[7].
رَوَى عن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، وعبد الملك بن عُمير، وحمزة الزيّات، ويونس بن خباب، وعطاء بن السائب، وغيرهم.
وروى عنه أبو إبراهيم التُّرْجمانيّ، وأبو داود الطيالسيّ، وعبد الرحمن بن مهديّ، وعلي بن حُجر، وغيرهم.
قال أبو داود، عن أحمد: ما ظننت أن عبد الرحمن بن مهديّ رَوَى عنه، وقال صالح بن محمد: سألت أحمد عنه، فقلت: روى عنه ابن مهديّ، فقال: لا بأس به، وكان ها هنا من الأبناء، وهو صحيح الحديث، وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ليس حديثه بشيء، قال: وأَيْشٍ كان عنده؟ كان عنده سَمَر، وقال يزيد بن الهيثم الْبَادَا: سمعت يحيى بن معين يقول: شعيب بن صفوان ليس بشيء، التُّرجمانيّ يروي عنه، وليس يبالي عمن رَوَى، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وروى له أبو أحمد بن عديّ أحاديث، ثم
(1)
وقال في "التقريب": مقبول، وما قلته أولى، كما وصفه به الإمام أحمد، فتنبّه.
قال: ولشعيب غيرُ ما ذكرتُ، وليس بالكثير، وعامّة ما يرويه لا يتابعه عليه أحدٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: سكن بغداد، ومات بها في أيام هارون، وكان ربما يخطئ.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، في "الشمائل"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (927)، وحديث (2934):"إن الدجال يخرج، وإن معه ماءً. . " الحديث.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ الْقَرَشيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) وله (103)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَقَامَ بِحِيَالِهِ) بكسر الحاء المهملة، يقال: قُمت بحياله: أي قُبالته، وقال النوويّ: أي بحذائه، وعنده.
وقوله: (عَلَامَ تَبْكِي؟) هي "ما" دخلت عليها "على" الجارّة، فحُذفت ألفها، كما قال في "الخلاصة":
وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ أَلِفَا
…
وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
والاستفهام إنكاريّ، وتوبيخيّ.
وقوله: (إِي وَاللهِ)"إي" بكسر الهمزة، وسكون الياء التحتانيّة: بمعنى "نَعَم"، ولا تقع إلا قبل القسم، كما قاله ابن هشام في "مغنيه"
(1)
.
وقوله: ("مَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ يُعَذَّبُ") هكذا هو في الأصول "يُبكَى" بإثبات حرف العلّة، فتكون "من" موصولة بمعنى "الذي"، ويجوز أن تكون شرطيّةً، وثبت حرف العلّة على قلّة، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالأَنْبَاءُ تَنْمِي
…
بِمَا لَاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ
وقوله: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ طَلْحَةَ) القائل: "فذكرت" هو عبد الملك بن عُمير
(2)
.
(1)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 159.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 230.
وقوله: (كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودَ) قد تقدّم الجواب عن قول عائشة رضي الله عنها هذا قريبًا، وحديثها سيأتي قريبًا، وسنعيد الجواب هناك أيضًا- إن شاء الله تعالى-.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2148]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثنا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا طُعِنَ، عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَقَالَ
(1)
: يَا حَفْصَةُ، أَمَا سَمِعْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ"؟، وَعَوَّلَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَمَا عَلِمْتَ أَن الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ يُعَذبُ؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) الصفّار الباهليّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ تغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(ثَابتُ) بن أسلم البُنانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
وقوله: (عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ) بتشديد الواو، من التعويل: يقال: عوّل عليه، وأعول عليه: إذا رفع صوته بالبكاء والصياح، والاسم الْعَوْلُ، والْعَوْلَةُ، والْعَوِيلُ، أفاده في "القاموس"
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال محقّقو أهل اللغة: يقال: عَوَّلَ عليه، وأعول
(1)
وفي نسخة: "قال: يا حفصة".
(2)
راجع: "القاموس المحيط" 4/ 22.
لغتان، وهو البكاء بصوت، وقال بعضهم: لا يقال: إلا أصول، وهذا الحديث يدلّ عليه. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2149]
(928) - (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ جَنَازَةَ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ عُثْمَانَ
(2)
، وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُودُهُ قَائِدٌ
(3)
، فَأُرَاهُ أَخْبَرَهُ بِمَكَانِ ابْنِ عُمَرَ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَكُنْتُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا صَوْتٌ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، كَأَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَى عَمْرٍو أَنْ يَقُومَ فَيَنْهَاهُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ"
(4)
، قَالَ: فَأَرْسَلَهَا عَبْدُ اللهِ مُرْسَلَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنَّا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حَتَى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ نَازِلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ، فَاعْلَمْ لِي مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ فَذَهَبْتُ، فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَعْلَمَ لَكَ مَنْ ذَاكَ؟
(5)
، وَإِنَّهُ صُهَيْبٌ، قَالَ: مُرْهُ، فَلْيَلْحَقْ بِنَا، فَقُلْتُ: إِنَّ مَعَهُ أَهْلَهُ، قَالَ: صإِنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلُهُ، وَرُبَّمَا قَالَ أَيُّوبُ: مُرْهُ، فَلْيَلْحَقْ بِنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا
(6)
، لَمْ يَلْبَثْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أُصِيبَ، فَجَاءَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: وَا أَخَاهْ، وَا صَاحِبَاهْ، فَقَالَ عُمَرُ: ألَمْ تَعْلَمْ؟، أَوْ لَمْ تَسْمَعْ؟، قَالَ أَيُّوبُ: أَوْ قَالَ: أَوَ لَمْ تَعْلَمْ؟، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ؟ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ"
(7)
، قَالَ: فَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَأَرْسَلَهَا مُرْسَلَةً، وَأَمَّا
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 230 - 231.
(2)
وفي نسخة: "ابنة عثمان".
(3)
وفي نسخة: "قائده".
(4)
زاد في نسخة: "عليه".
(5)
وفي نسخة: "من ذاك الرجل".
(6)
وفي نسخة: "فلما قدمنا المدينة".
(7)
زاد في نسخة: "عليه".
عُمَرُ، فَقَالَ:"بِبَعْضِ"، فَقُمْت، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَحَدَّثْتُهَا بِمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَتْ: لَا، وَاللهِ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ: إِن الْمَيَّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَزِيدُهُ اللهُ ببُكَاءِ أَهْلِهِ عَذَابًا، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ:{أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، قَالَ أَيُّوبُ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: حَدَّثَنى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، قَالَتْ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي
(1)
عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ، وَلَا مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) الهاشميّ مولاهم الْخُوَارزميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م دس ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) ابن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(83)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مُليكة التيميّ المكيّ، ثقةٌ فقيةٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما المذكور في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
(1)
وفي نسخة: "لتحدّثونني"، وفي أخرى:"لتحدّثون".
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه بغداديّ، وابن أبي مُليكة مكيّ، وابن عمر مدنيّ، والباقيان بصريّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وابن عمر رضي الله عنهما سبق الكلام عليه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَيِي مُلَيْكَةَ) هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة، نُسب لجدّه، أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: حال كوننا منتظرين (جَنَازَةَ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ عُثْمَانَ) وفي نسخة: "ابنة عثمان"، هي بنت عثمان بن عفان رضي الله عنه ماتت بمكة (وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ) بن عفّان، الأموي، قيل: يكنى أبا عثمان، روى عن أبيه، وأسامة بن زيد، وعنه ابنه عبد الله، وعلى بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وأبو الزناد.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى، وقال: كان ثقة، وله أحاديث، وقال العجلي: مدني ثقة، من كبار التابعين، وقال الزبير بن بكار: كان أكبر أولاد عثمان الذين أعقبوا، قال: وزوّجه معاوية لما ولي الخلافة ابنته رملة، وذكره ابن حبان في الثقات.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديث واحد برقم (1351) كرره أربع مرات.
(فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُودُهُ قَائِدٌ) وفي نسخة: "قائده"؛ أي: الشخص الذي كان يقود ابن عبّاس رضي الله عنهما بعد أن عَمِيَ (فَأُرَاهُ) بضم الهمزة؛ أي: أظنّ القائد (أَخْبَرَهُ) أي: أخبر ابن عبّاس رضي الله عنهما (بِمَكَانِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنه؛ أي: بموضعه الذي جلس فيه (فَجَاءَ) أي: ابن عبّاس رضي الله عنهما (حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِي) قال ابن أبي مليكة: (فَكُنْتُ بَيْنَهُمَا) أي: بين ابن عمر، وابن عبّاس رضي الله عنهم، والظاهر أن
المكان الذي جلس فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما كان أرفق به من الجلوس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، أو اختار أن لا يقيم ابن أبي مليكة من مكانه، ويجلسَ فيه؛ للنهي عن ذلك.
(فَإِذَا) هي الفُجائيّة؛ أي: ففاجأنا (صَوْتٌ مِنَ الدَّارِ) أي: من بكاء النساء، ففي رواية النسائيّ:"فبكين النساءُ"(فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (كَأَنَّهُ يَعْرِضُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، قال في "القاموس": عَرَضَ عليه الشيءَ: أراه إياه. انتهى
(1)
. والمعنى كأنّ ابن عمر رضي الله عنهما يذكر هذا الحديثَ؛ ليَعْرِضَ هذا الصوت (عَلَى عَمْرِو) بن عثمان، ويُريه إياه؛ لأجل (أَنْ يَقُومَ) من مجلسه (فَيَنْهَاهُمْ) أي: ينهى أهل الدار عن رفع صوتهم بالصياح والعويل، وقوله:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مقول "فقال ابن عمر".
وفي رواية البخاريّ: "فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"، وفي رواية النسائيّ:"فقال ابن عمر رضي الله عنهما: ألا تنهى هؤلاء عن البكاء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ففي هذه الرواية التصريح بأن ابن عمر رضي الله عنهما سمعه بنفسه، ويُجمع بينها وبين ما تقدّم من أنه سمعه من أبيه عمر رضي الله عنه باحتمال أنه سمعه من أبيه أوّلًا، ثم يسمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان يحدّث بهما، والله تعالى أعلم.
(يَقُولُ: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ") زاد في بعض النسخ: "عليه"(قَالَ) ابن أبي مليكة: (فَأَرْسَلَهَا عَبْدُ اللهِ مُرْسَلَةً) أي: أطلق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذه الجملة، ولم يقيّدها بشيء مما قيّد به غيره.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن ابن عمر رضي الله عنهما أطلق في روايته تعذيب الميت ببكاء الحيّ، ولم يقيده بيهوديّ، كما قيدته عائشة رضي الله عنها، ولا بوَصِيّة، كما قيّده آخرون، ولا قال:"ببعض بكاء أهله"، كما رواه أبوه عمر رضي الله عنه. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "القاموس" 2/ 334.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 231.
(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (كُنَّا مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية: "فقال ابن عبّاس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدّث، فقال: صدرت مع عمر من مكّة
…
" (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَبْدَاءِ) - بفتح الموحّدة، وسكون التحتانية-: مفازة بين مكة والمدينة، قاله العينيّ رحمه الله، وقال القاري رحمه الله: موضع قريب من ذي الحليفة (إِذَا) فجائيّة (هُوَ بِرَجُلٍ) وفي الرواية التالية: "بركب"، ولا تخالف؛ لأن الرجل هو صُهيب رضي الله عنه، وكان معه أهله، فكانوا ركبًا (نَازِلٍ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ) وفي الرواية التالية: "تحت ظلّ سَمُرة"، وهي- بفتح المهملة، وضم الميم-: شجرة عظيمة، من شجر الْعِضَاهِ (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه (لِي: اذْهَبْ، فَاعْلَمْ لِي) وفي الرواية التالية: "فانظر" (مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ؟) وفي رواية النسائيّ: "انظر من الركب؟ " (فَذَهَبْتُ، فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ) رضي الله عنه (فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَعْلَمَ لَكَ مَنْ ذَاكَ؟) وفي بعض النسخ: "من ذاك الرجل؟ " (وَإِنَّهُ صُهَيْبٌ، قَالَ) عمر رضي الله عنه: (مُرْهُ) فعل أمر من أمر يأمر، من باب نصر، خُفّف بترك الهمزة، وهو تخفيفٌ شاذٌ، ومثله "خُذ"، و"كُل"، كما قال ابن مالك رحمه الله في "لاميّته":
وَشَذَّ بِالْحَذْفِ "مُرْ" وَ"خُذْ" وَ"كُلْ وَفَشَا
…
. وَ"أمُرْ" وَمُسْتَنْدَرٌ تَتْمِيمُ "خُذْ" وَ"كُلَا"
أي: مُرْ صُهيبًا أن يلحق بنا.
وفي رواية النسائيّ: "عليّ بصهيب".
(فَلْيَلْحَقْ بِنَا) أي: فليُدركنا، يقال: لَحِقْتُهُ، ولَحِقْتُ به أَلْحَقُ، من باب تَعِبَ لَحَاقًا بالفتح: إذا أدركتَهُ، وألحقتُهُ بالألف مثله، وألحقت زيدًا بعمرو: أتبعته إياه، فَلَحِقَ هو، وألحق أيضًا، وفي الدعاء:"إن عذابك بالكفّار مُلْحِقٌ" يجوز بالكسر اسمُ فاعل بمعنى لاحِقٌ، ويجوز بالفتح اسم مفعول؛ لأن الله تعالى ألحقه بالكفّار؛ أي: يُنزله بهم، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(فَقُلْتُ: إِنَّ مَعَهُ أَهْلَهُ) أي: فيشقّ عليه أن يلحق بنا (قَالَ) عمر رضي الله عنه:
(1)
"المصباح المنير" 2/ 550.
(وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلُهُ) أي: مره يلحق بنا، وإن كان معه أهله؛ إذ يمكنه أن يحملهم معه (وَرُبَّمَا قَالَ أَيُّوبُ) السختيانيّ الراوي عن ابن أبي مليكة:(مُرْهُ، فَلْيَلْحَقْ بِنَا) يعني: أن أيوب تارةً يُحدّث بلفظ: "وإن كان أهله معه"، وتارةً يُحدّث بدله بلفظ:"مُرْهُ فليلحق بنا"، فأعاد الجملة الأولى.
زاد في رواية البخاري: "فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل، فالحَقْ أمير المؤمنين".
وفي رواية ابن حبّان: "فقال لي: ادع لي صُهيبًا، فصحِبه حتى دخل المدينة".
وهذا من عمر رضي الله عنه إشارة إلى تقوية المصاحبة والخصوصيّة الخالصة للسابقين الأولين، ولذلك لَمّا طُعن رضي الله عنه أوصى أن يصلّي صهيب بالمسلمين إلى أن يتّفق أهل الشورى على إمام.
(فَلَمَّا قَدِمْنَا) وفي بعض النسخ: "فلما قدمنا المدينة"(لَمْ يَلْبَثْ) أي: لَمْ يتأخّر، وهو من باب تَعِبَ، قال في "القاموس": اللَّبْثُ؛ أي: بالفتح، ويُضمّ، واللَّبَثُ محرّكةً، واللِّباثُ، واللُّبَاثُ، واللُّبَاثةُ، واللَّبِثةُ: الْمُكْثُ، لَبِثَ، كسَمِعَ، وهو نادرٌ؛ لأن المصدر من فَعِلَ -بالكسر- قياسه بالتحريك إذا لَمْ يتعدّ. انتهى
(1)
.
(أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أُصِيبَ) بفتح الهمزة مصدريّة، والمصدر المؤوّل بدل من "أميرُ"، والمعنى أنه لَمْ يتاخّر وقت إصابته بالطعنة التي طعنه أبو لؤلؤة، عبدٌ للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[تنبيه]: سبب طعن عمر رضي الله عنه هو ما رواه ابن سعد في "الطبقات" بإسناد صحيح إلى الزهري، قال: "كان عمر رضي الله عنه لا يَأذَن لسبي قد احتَلَم في دخول المدينة، حتى كتب المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، يذكر له غلامًا عنده صانعًا، ويستأذنه أن يُدخله المدينة، ويقول: إن عنده أعمالًا تنفع الناس، إنه حدّاد، نقّاش، نجّار، فأذن له، فضرب عليه المغيرة كلَّ شهر مائة، فشكى إلى
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 173.
عمر شدّة الخراج، فقال له: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل، فانصرف ساخطًا، فلبث عمر ليالي، فمرّ به العبد، فقال: ألم أُحَدَّث بأنك تقول: لو أشاء لصنعت رحًى، تَطحَن بالريح؟، فالتفت إليه عابسًا، فقال: لأصنعنّ لك رَحًى يتحدّث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعّدني العبد، فلبث ليالي، ثم اشتَمَل على خَنْجَر ذي رأسين نصابه وسطه، فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغَلَس حتى خرج عمر يوقظ الناس:"الصلاةَ الصلاةَ"، وكان عمر يفعل ذلك، فلما دنا منه عمر وثب إليه، فطعنه ثلاث طعنات، إحداهنّ تحت السرّة، قد خرقت الصفاق، وهي التي قتلته".
وفي حديث أبي رافع: "كان أبو لؤلؤة عبدًا للمغيرة بن شعبة، وكان يستغلّه أربعة دراهم - أي كلّ يوم - فلقي عمر، فقال: إن المغيرة أثقل عليّ، فقال: اتّق الله، وأحسن إليه، ومن نيّة عمر أن يَلقَى المغيرةَ، فيكلّمه، فيخفّف عنه، فقال العبد: وَسِعَ الناسَ عدلُهُ غيري، وأضمر على قتله، فصنع له خنجرًا، له رأسان، وسَمَّه، فتحرّى صلاة الغداة حتى قام عمر، فقال: أقيموا صفوفكم، فلما كبر طعنه في كتفه، وفي خاصرته، فسقط". وعند مسلم من طريق معدان بن أبي طلحة: "أن عمر خطب، فقال: رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلَّا حضور أجلي"، وزاد في رواية:"فما مرّ إلَّا تلك الجمعة، حتى طُعن".
وقد ساق البخاريّ رحمه الله تعالى قصة قتله رضي الله عنه في "صحيحه" مُطَوَّلة فقال:
(3700)
- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبو عوانة، عن حصين، عن عمرو بن ميمون، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يُصاب بأيام بالمدينة، وَقَف على حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حُنَيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا، قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حَمَّلْناها أمرًا، هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا، أن تكونا حملتما الأرض، ما لا تطيق، قال: قالا: لا، فقال عمر: لئن سلّمني الله، لأَدَعَنّ أرامل أهل العراق، لا يحتجن، إلى رجل بعدي أبدًا، قال: في أتت عليه إلَّا رابعة، حتى أصيب، قال: إني لقائم، ما بيني وبينه، إلَّا عبد الله بن عباس، غداة أصيب، وكان إذا
مرّ بين الصفين، قال: استووا، حتى إذا لَمْ ير، فيهن خللًا، تقدم، فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك، في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، في هو، إلَّا أن كبّر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار العِلْج بسكين، ذات طرفين، لا يمرّ على أحد، يمينًا ولا شمالًا، إلَّا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين، طرح عليه بُرْنُسًا، فلما ظن العِلْج أنه مأخوذ، نَحَرَ نفسه، وتناول عمرُ يد عبد الرَّحمن بن عوف، فقدمه، فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أري، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فصلى بهم عبد الرَّحمن، صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَعُ؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لَمْ يجعل ميتتي بيد رجل، يَدَّعي الإسلام، قد كنتَ أنت وأبوك، تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس، أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئت فعلتُ؛ أي: إن شئت قتلنا، قال: كذبتَ، بعدما تكلموا بلسانكم، وصلَّوا قبلتكم، وحجوا حجكم، فاحتُمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس، لَمْ تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتي بنبيذ، فشربه، فخرج من جوفه، ثم أُتي بلبن، فشربه، فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس، فجعلوا يُثنون عليه، وجاء رجل شابّ، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدَم في الإسلام، ما قد علمتَ، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفاف، لا علي، ولا لي، فلما أدبر؛ إذا إزاره يمس الأرض، قال: رُدُّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الديْن، فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفًا، أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدِّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عديّ بن كعب، فإن لَمْ تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، فأَدِّ عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يَقرَأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست
اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، أن يدفن مع صاحبيه، فسلَّمَ، واستأذَنَ، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّ به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر، قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب، يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء، أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيتُ، فاحملوني، ثم سلِّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني رُدُّوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجتُ داخلًا لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أَوْصِ يا أمير المؤمنين، استَخْلِف، قال: ما أجد أحدًا أحقّ بهذا الأمر، من هؤلاء النفر، أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض، فسمى عليًّا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا، وعبد الرَّحمن، وقال: يَشْهَدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعدًا، فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أُمّر، فإني لَمْ أعزله عن عجز، ولا خيانة، وقال: أَوصي الخليفة من بعدي، بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية [الحشر: 9]، أن يُقبَل من محسنهم، وأن يُعفَى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا، فإنهم رِدْءُ الإسلام، وجُبَاة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم، إلَّا فضلهم، عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويردّ على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يُوَفَّى لهم بعهدهم، وأن يُقاتَل من ورائهم، ولا يُكَلَّفوا إلَّا طاقتهم، فلما قُبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلَّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أَدخلوه، فأُدْخِل، فوضع هنالك، مع صاحبيه، فلما فُرغ من دفنه، اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرَّحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى
عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرَّحمن بن عوف، فقال عبد الرَّحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، والله عليه والإسلام، لينظرنّ أفضلهم في نفسه، فاسكت الشيخان، فقال عبد الرَّحمن: أفتجعلونه إليّ؟ والله علي أن لا آلُوَ عن أفضلكم، قالا: نعم، فأُخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام، ما قد علمت، فاللهُ عليك لئن أمّرتك لتعدلنّ، ولئن أمّرت عثمان لتسمعنّ، ولتطيعنّ، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، فبايع له علي، ووَلَجَ أهل الدار، فبايعوه. انتهى.
(فَجَاءَ صُهَيْبٌ) رضي الله عنه (يَقُولُ: وَا أَخَاهْ، وَا صَاحِبَاهْ، فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه: (أَلَمْ تَعْلَمْ؟، أَوْ) بسكون الواو للشكّ من الراوي، هل قال:"ألم تعلم، أو قال: (لَمْ تَسْمَعْ؟) فالهمزة هنا مقدَّرة (قَالَ أَيُّوبُ) السختيانيّ: (أَوْ قَالَ) أي: ابن أبي مليكة: (أَوَ) بفتح الواو، هي الواو العاطفة دخلت عليها الهمزة (لَمْ تَعْلَمْ، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ) بفتح الواو أيضًا كسابقتها، والظاهر على أن عمر رضي الله عنه قال اللفظين للتأكيد، وَيحْتَمِل أن تكون "أو" هنا بسكون الواو للشك كسابقه، والله تعالى أعلم.
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ لَيُعَذّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ") زاد في بعض النسخ لفظة "عليه"، قيّده ببعض البكاء، فحُمل على ما فيه نَوْحٌ ونُدبة؛ جمعًا بين الأحاديث، وقيل: المراد بالبعض ما يكون من وصيّته.
(قَالَ) عبد الله بن أبي مليكة: (فَأَمَّا عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (فَأَرْسَلَهَا مُرْسَلَةً) أي: أطلق القضة، أو القولة التي هي:"إن الميت يعذّب ببكاء أهله"(وَأَمَّا عُمَرُ) رضي الله عنه (فَـ) قيّدها، حيث (قَالَ:"بِبَعْضِ") بكاء أهله، ولم يقل:"ببكاء أهله"، كما قال ابن عمر (فَقُمْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَحَدَّثْتُهَا بِمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَتْ: لَا) أي: ليس كذلك (وَاللهِ مَا قَالَهُ) أي: قوله: لَا إن الميت يعذَّب
…
إلخ" (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ) إنما حلفت عليه؛ لما كان في ظنّها أنه كما قالت، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد ثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم -كما سيأتي ذلك - أنهم سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوله، فكيف يمكن نفيها؛ فهذا بعيدٌ كلّ البعد.
قال النوويّ رحمه الله: في هذا جواز الحلف بغلبة الظنّ بقرائن، وإن لَمْ يقطع الإنسان، وهذا مذهبنا، ومِنْ هذا قالوا: له الحلف بدين رآه بخط أبيه الميت على فلان؛ إذا ظنه.
[فإن قيل]: فلعلّ عائشة لَمْ تحلف على ظنّ، بل على علم، وتكون سمعته من النبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر أجزاء حياته.
[قلنا]: هذا بعيد من وجهين:
أحدهما: أن عمر، وابن عمر سمعاه صلى الله عليه وسلم يقول:"يعذّب ببكاء أهله".
والثاني: لو كان كذلك لاحتجّت به عائشة، وقالت: سمعته في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، ولم تحتجّ به، إنما احتجّت بالآية، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَحَدٍ) بدل من الضمير في قولها: "ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم "، تعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يقل: إن الميت يُعذّب ببكاء أحد من الناس لا مطلقًا ولا مقيّدًا، قال القاري رحمه الله: وهذا النفي المؤكّد بالقسم منها بناءٌ على ظنّها وزعمها، أو مقيّدٌ بسماعها، وإلا فمن حَفِظَ حجة على من لَمْ يحفظ، والمثبت مقدّمٌ على النافي، وكيف والحديث رُوي من طرق صحيحة بألفاظ صريحة، مع أنه بعمومه لا ينافي ما قالت بخصوصه. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أنكرت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث، وصرّحت بتخطئة الناقل، أو نسيانه، وحَمَلَها على ذلك أنَّها لَمْ تسمعه كذلك، وأنه معارَضٌ بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] وهذا فيه نظر، أما إنكارها، ونسبة الخطأ لراويه فبعيد، وغير بيِّنٍ، ولا واضح، وبيانه من وجهين:
[أحدهما]: أن الرواة لهذا المعنى كثيرون: عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقَيْلَة بنت مَخْرَمَة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، وإذا أُقدِم على ردّ خبر جماعة مثلِ هؤلاء، مع إمكان حمله على محمل صحيح، فلأن يُرد خبر راو واحد أولي، فردّ خبرها أولي، على أن الصحيح أن لا يُردّ واحد من تلك الأخبار، ويُنظر في معانيها، كما نُبيِّنه.
[ثانيهما]: أنه لا معارضة بين ما رَوَت هي، وبين ما رووا هم؛ إذ كلّ
(1)
شرح النوويّ" 6/ 232.
واحد منهم أخبر عما سمع وشاهَدَ، وهما واقعتان مختلفتان، وأما استدلالها على ردّ ذلك بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا حجة فيه، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث، على ما نُبدِيه من معنى الحديث، إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف العلماء فيه، فقيل: محمله على ما إذا كان النَّوْح من وصيّته وسنته، كما كانت الجاهلية تفعل، حتى قال طرفة [من الطويل]:
إِذَا مِتُّ فَانعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ
…
وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ
وقد جمع عبد المطلب بناته عند موته، وأمرهنّ أن ينعينه، ويَندُبنه، ففعلن، وأنشدت كلّ واحدة منهنّ شعرًا تمدحه فيه، فلما فرغن قال آخر ما كلّمهنّ: أحسنتنّ، هكذا فانعينني، وإلى هذا نحا البخاريّ. وقيل: معناه أن تلك الأفعال التي يُبكَى بها الميت مما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من قتل النفس، وأخذ المال، وإخراب البلاد، وغير ذلك، فأهله يمدحونه بها، ويُعدِّدونها عليه، وهو يُعذّب لسببها، وعلى هذا تُحمل رواية من رواه:"ببعض بكاء أهله"؛ إذ ليس كلّ ما يُعدّدونه من خصاله مذمومًا، فقد يكون من خصاله كَرَمٌ، وإعتاق رقاب، وكشف كرب، وقد دلّ على صحّة هذا التأويل حديث عبد الله بن رواحة حيث أُغمي عليه، فجَعَلت أخته عمرة تبكي: وا جبلاه، وا كذا، وا كذا، تُعدّد عليه، فأفاق، وقال لها: ما قلتِ شيئًا إلَّا قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لَمْ تَبْك عليه، رواه البخاريّ. إلى آخر كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وقد تقدّم خلاصته في المسألة الثالثة من المسائل التي تقدّمت في شرح حديث عمر رضي الله عنه، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(وَلَكِنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ يَزِيدُهُ اللهُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَذَابًا) فحملت الميت على الكافر، وأنكرت الإطلاق، وقد جاءت الزيادة في عذاب الكافر في قوله عز وجل:{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} الآية [النحل: 88]، وقوله:{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30]، لكن قد يقال: زيادة العذاب بعمل الغير أيضًا مشكلة معارضة بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، فينبغي أن تُحمل الباء في قوله:
(1)
"المفهم" 2/ 581 - 584.
"ببعض بكاء أهله" على المصاحبة، لا السببيّة، وتخصيص الكافر حينئذ لأنه محلّ الزيادة، قاله السنديّ رحمه الله في "حاشية النسائيّ".
وقال القاري رحمه الله: فيه أن النفي منها رضي الله عنها هنا مناقض لما قالت سابقًا من أن الحديث ورد في يهوديّة كانوا يبكون عليها، وهي تُعذّب في قبرها. انتهى.
وقال الحافظ: هذه التأويلات عن عائشة رضي الله عنها متخالفة، وفيها إشعار بأنها لَمْ تردّ الحديث بحديث آخر، بل بما استحضرته من معارضة القرآن، قال الداوديّ: رواية ابن عبّاس عن عائشة بيّنت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلَّا أنَّها خصّته بالكافر؛ لأنَّها أثبتت أن الميت يزداد عذابًا ببكاء أهله، فأيّ فرق بين أن يزداد بفعل غيره، أو يُعذّب ابتداء. انتهى.
(وَاِنَّ اللهَ لَهُوَ: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] أي: إن العَبْرة لا يملكها ابن آدم، ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها، فضلًا عن الميت، وقال الداوديّ: معناه إن الله تعالى أَذِنَ في الجميل من البكاء، فلا يُعذِّب على ما أَذِنَ فيه. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله قولها: "والله أضحك وأبكى" حاصل تقرير لنفي ما ذهب إليه ابن عمر رضي الله عنهما من أن الميت يُعذّب ببكاء أهله، وذلك أن بكاء الإنسان، وضحكه، وحزنه وسروره من الله تعالى يُظهرها فيه، فلا أثر لها في ذلك. انتهى.
قال في "المرعاة" بعد ذكر قول الطيبيّ هذا ما نصّه: وفيه أن الكلّ من عند الله تعالى خلقًا، ومن العبد كسبًا، كما هو مقرّر، والشرع قد اعتَبَر ما يترتّب عليه من الأثر، كسائر أفعال البشر، إلا ترى أن التبسّم في وجه المؤمن من الحسنات، وعلى المؤمن على وجه السُّخْريّة من السيّئات، وكذا الحزن والسرور تارةً يكونان من الأحوال السنيّة يثاب الشخص بهما، وتارة من الأفعال الدنيئة يعاقب عليهما، كما هو مقرّر في محلّه. انتهى
(1)
.
({أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى})؛ أي: ولا تحمل نفس حاملة ذنبًا ذنب نفس أخرى، وقال الطيبيّ رحمه الله: الْوِزْر، والْوِقْرُ أخوان، وَزَرَ الشيءَ:
(1)
"المرعاة" 5/ 490.
إذا حَمَلَهُ، و"الوازرة" صفة للنفس، والمعنى: أن كلّ نفس يوم القيامة لا تَحمل إلَّا وزرها الذي اقترفته، ولا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى، كما يأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ، والجار بالجار. انتهى
(1)
.
ومحلّ ما ذُكر إنما هو في حقّ من لَمْ يكن له في شيء من ذلك تسبّبٌ، وإلا فهو يشاركه، كما قال تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصّة هرقل:"فإن تولّيت، فإنما عليك إثم الأَرِيسيين"، متّفقٌ عليه
(2)
.
(قَالَ أَيُّوبُ) السختيانيّ (قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق المتوفّى سنة (106) على الصحيح، تقدّمت ترجمته في "الحيض" (3/ 695). (قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ) بالنصب على المفعوليّة (قَوْلُ عُمَرَ)"إن الميت يعذّب ببعض بكاء أهله عليه"(وَ) قول (ابْنِ عُمَرَ)"إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه"(قَالَتْ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِي) بالنون المشدّدة، وهي نون الرفع أُدغمت في نون الوقاية، وفي بعض النسخ:"لتُحدّثون" بحذف المفعول (عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ) أي: عن شخصين لَمْ يكن الكذب صفة لهما، فهما بريئان منه، ولفظ ابن حبّان:"عن كذّابين"(وَلَا مُكَذَّبَيْنِ) اسم مفعول من كذّبه مضعّفًا: إذا نسبه إلى الكذب، تعني: أنهما لا يكذبان قصدًا، ولا يَنسُبُهما أحد إلى الكذب (وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ) تعني: أن هذا مما أخطأ فيه سمعهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2149 و 2150 و 2150 و 2152 و 2153 و 2154 و 2155 و 2156، (928 و 929 و 930 و 931 و 932)، و (البخاريّ) في
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1425.
(2)
راجع: "الفتح" 4/ 30.
"الجنائز"(1286)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1858)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6675)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 558)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1286)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 41 و 42 و 6/ 138)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2076 و 2077 و 2078)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3136)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 73)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1537)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الميت يُعذّب ببكاء أهله عليه، وقد سبق أن المراد إذا كان من سنّته، أوأوصى بذلك؛ جمعًا بين النصوص.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من القيام بالنهي عن المنكر، وإن كان بحضرة وليّ الأمر، فإن عمرو بن عثمان كان واليًا في ذلك الوقت.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من محافظته على السابقين الأولين، وتنزيلهم منزلة الكرامة والتبجيل.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ لجواز الجلوس والاجتماع لانتظار الجنازة، واستحبابه، قال: وأما جلوس ابن أبي مليكة بين ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وهما أفضل بالصحبة والعلم والفضل والصلاح والنسب والسنّ وغير ذلك، مع أن الأدب أن المفضول لا يجلس بين الفاضلين إلَّا لعذر، فمحمول على عذر، إما لأن ذلك الموضع أرفق بابن عباس، وإما لغير ذلك. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2150]
(928) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ،
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 2230.
قَالَ: تُوُفَيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، قَالَ: فَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مُوَاجِهُهُ: أَلَا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ، فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ، حَتَى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ
(1)
بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ
(2)
، فَقَالَ: اذْهَبْ، فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ، قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ، فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ، فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَنْ أصِيبَ عُمَرُ، دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي، يَقُولُ: وَا أَخَاهْ، وَا صَاحِبَاهْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَتَبْكِي عَلَيَّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ، ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ عُمَرَ، لَا وَاللهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَحَدٍ"، وَلَكِنْ قَالَ:"إِنَّ اللْهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللهُ: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَوَاللهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ شَيْءٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ) الكسّيّ، ثقةٌ حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.
(1)
وفي نسخة: "فإذا هو".
(2)
وفي نسخة: "تحت ظلّ سَمُرة".
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ) هي أم أبان المذكورة في الرواية السابقة.
وقوله: (وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا) أي: بين ابن عمر وابن عبَّاس رضي الله عنهما، والجملة حاليِّة، والعامل "حَضَرَ"، قاله الطيبيّ رحمه الله.
وقوله: (وَهُوَ مُوَاجِهُهُ) أي: إن ابن عمر مقابل لعمرو بن عثمان.
وقوله: (قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ) أي: العموم، وهو أن يكون بصوت، أو ندبة، أو يروي بعض ذلك الكلام؛ لأن في روايته:"ببعض بكاء أهله"، كما سيأتي قريبًا.
وقوله: (ثُمٌ حَدَّثَ) أي: روى ابن عبَّاس ما سمعه من عمر رضي الله عنهما.
وقوله: (فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ) أي: رجعت معه لَمَّا رجع من حجته الأخيرة.
وقوله: (إِذَا هُوَ) وفي نسخة: "فإذا هو"، و"إذا" هنا هي الفجائيّة.
وقوله: (بِرَكْبٍ) أي: بجماعة راكبين.
وقوله: (تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ) وفي بعض النسخ: "تحت سَمُرة".
وقوله: (فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) زاد في رواية ابن حبّان: "فصَحِبه حتى دخل المدينة".
وقوله: (أَتَبْكِي عَلَيَّ) استفهام إنكاريّ، وفي رواية النسائيّ:"فقال عمر: يا صهيب لا تبك".
وقوله: (فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ عُمَرَ) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا من الآداب الحسنة على منوال قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 43]، فاستغربت من عمر ذلك القول، فجعلت قولها:"يرحم الله عمر" تمهيدًا ودفعًا لما يوحش من نسبته إلى الخطأ. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ) بسكون السين المهملة؛ أي: كافيكم أيها المؤمنون القرآن؛ أي: في تأييد ما ذهبت إليه من ردّ الخبر حسبما
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1425.
رأته، وظنّته، وإلا فلا تعارض بين الخبر، والآية، كما أسلفنا توجيهه، فتفطّن، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: ({وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الجملة بدل كلّ، أو بعض من "القرآنُ"، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو إلخ.
وقوله: (قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ) قائل: "قال" الأول هو ابن أبي مليكة، والمعنى: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما عند انتهاء حديثه عن عائشة رضي الله عنها مؤيِّدًا ومصدِّقًا لقولها.
وقوله: (وَاللهُ: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} بالرفع مع الواو، وهو حاصل معنى الآية في "سورة النجم": {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} [النجم: 43].
وقوله: (مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ شَيْءٍ) وفي رواية البخاريّ: "ما قال ابن عمر شيئًا"، قال الطيبيّ وغيره: ظهرت لابن عمر رضي الله عنهما الحجة، فسكت مُذعِنًا.
وقال الزين ابن المنيّر: سكوته لا يدلّ على الإذعان، فلعله كَرِهَ المجادلة في ذلك المقام.
وقال القرطبيّ: ليس سكوته لشكّ طرأ له بعدما صرّح برفع الحديث، ولكن احتَمَلَ عنده أن يكون الحديث قابلًا للتأويل، ولم يتعيّن له مَحْمِل يَحْمله عليه إذ ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة، ولم تتعيّن الحاجة إلى ذلك حينئذ.
وَيحْتَمِل أن يكون ابن عمر فَهِمَ من استشهاد ابن عباس بالآية قبول روايته؛ لأنَّها يمكن أن يُتمسَّك بها في أن لله أن يعذّب بلا ذنب، فيكون بكاء الحيّ علامة لذلك، أشار إلى ذلك الكرماني. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 4/ 41.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2151]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: كُنَّا فِي جَنَازَةِ أمِّ أَبَانَ بِنْتِ عُثْمَانَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَنُصَّ رَفْعَ الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا نَصَّهُ أَيُّوبُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَحَدِيثُهُمَا أَتَمُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرٍو).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ) بن الْحَكَم الْعَبديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها (خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ
…
إلخ) فاعل "ساق" ضمير عمرو بن دينار.
وقوله: (وَلَمْ يَنُصَّ رَفْعَ الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ
…
إلخ) أي: بل قال: "مَهْ يا صهيبُ، إن الميت يعذب ببكاء الحيّ عليه"، كما يأتي في التنبيه من رواية الحميديّ، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة هذه ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"(1/ 107) فقال:
(220)
حدّثنا الحميديّ
(1)
قال: ثنا سفيان، قال: ثنا عمرو بن دينار، أنه سمع ابن أبي مليكة يقول: حَضَرت جنازة أمّ أبان بنت عثمان، وفي الجنازة عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، فجلست بينهما، فبكى النساء، فقال ابن عمر: إن بكاء الحي للميت عذاب للميت، قال: فقال ابن عباس: صَدَرْنا مع عمر أمير المؤمنين، حتى إذا كنا بالبيداء؛ إذا هو بركبٍ نُزُول تحت شجرة، فقال: اذهب يا عبد الله فانظر مَنِ الركب؟ فالحقني، قال: فذهبت، ثم جئت،
(1)
القائل: "حدَّثنا الحميديّ" تلميذه.
فقلت: هذا صهيب مولى ابن جُدْعان، فقال: مُرْهُ فليلحقني، فلما قدما المدينة لَمْ يلبث عمر أَنْ طُعِن، فجاء صهيب، وهو يقول: وا أخياه، وا صاحباه، فقال عمر: مَهْ يا صهيبُ، إن الميت يعذب ببكاء الحيّ عليه، قال ابن عباس: فأتيت عائشة، فسألتها، فقالت: يرحم الله عمر، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببعض بكاء أهله عليه"، وقد قَضَى الله {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى القول فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2152]
(935) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب، حَدثَنى عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدَّم قريبًا.
3 -
(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [6] مات قبل (150)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.
4 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب القرشيّ الْعَدويّ، أبو عبد الله، أوأبو عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه فاضل، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم تخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2153]
(931) - (وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ خَلَفٌ: حَدَّثَنَا حَفَادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: "الْمَيتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ
(1)
أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعَ شَيْئًا، فَلَمْ يَحْفَظْهُ
(2)
، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "أَنْتُمْ تَبْكُونَ
(3)
، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ) البزّار المقرئ البغداديّ، ثقةٌ، له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زْيدِ) تقدّم قبل بابين.
4 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلّس [43](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 35.
5 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقيه مشهور [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 407.
وقوله: (فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وفي بعض النسخ: "يرحم الله أبا عبد الرَّحمن"، وهو كنية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وإنما قالت هذا تمهيدًا، أو دفعًا لَمْ يُوحَشُ من نسبته إلى النسيان والخطأ، كما قال الله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 43]، فمن استغرب شيئًا من غيره ينبغي له أن يوطّئ، ويُمهّد له بالدعاء؛ إقامة لعذره فيما وقع منه، وأنه لَمْ يتعمّده، ومن ثمَّ
(1)
وفي نسخة: "يرحم الله".
(2)
وفي نسخة: "فلم يحفظ".
(3)
وفي نسخة: "فقال: إنهم يبكون".
زادت على ذلك بيانًا واعتذارًا بقولها - كما في الرواية الآتية -: "أما إنه لَمْ يكذب، ولكنه نسي، أو أخطأ".
وقوله: (فَلَمْ يَحْفَظْهُ) وفي نسخة: "فلم يحفظ " بحذف المفعول.
وقوله: (أَنْتُمْ تَبْكُونَ) وفي نسخة: "إنهم يبكون عليه".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2154]
(932) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"، فَقَالَتْ: وَهِلَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ لَيُعَذبُ بِخَطِيئَتِهِ، أَوْ بِذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ"، وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْقَلِيب يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ"، وَقَدْ وَهِلَ، إِنَّمَا قَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ
(1)
أَنَّ مَا كُنْتُ أقولُ لَهُمْ حَقٌّ"، ثُمَّ قَرَأَتْ:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، يَقُولُ: حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة تقدّم قريبًا أيضًا.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.
(1)
وفي نسخة: "إنهم ليعلمون الآن".
3 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فكوفيّان.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ) بن عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير، أنه (قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ) بالبناء للمفعول، وعند الاسماعيلي أن عائشة بَلَغَها، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم المبلِّغ، ولكن عنده من رواية أخرى ما يُشْعِر بأن عروة هو الذي بلغها ذلك. انتهى
(1)
. (عِنْدَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وقوله: ("إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ") مفعول "يرفع" محكيّ؛ لقصد لفظه (فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (وَهِلَ) قيل: بفتح الهاء، والمشهور الكسر؛ أي: غَلِطَ وَزْنًا ومعنًى، وبالفتح معناه فَزعَ، ونَسِيَ، وجَبُنَ، وقَلِقَ، وقال الفارابيّ، والأزهريّ، وابن القطاع، وابن فارس، والقابسيّ، وغيرهم: وَهَلْتُ إليه بفتح الهاء أَهِلُ بالكسر وَهْلَا بالسكون: إذا ذهب وَهْمُك إليه، زاد القالي، والجوهريّ: وأنت تريد غيره
(2)
. (إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ) أي: الميت (لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ، أَوْ) للشك من الراوي (بِذَنْبهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ) أي: حين يُعذّب بخطيئته، وهذا من عائشة رضي الله عنها على حسب ما فهمته، وإلا فما حدّث به ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثابت، وليس بخطأ، فقد ثبت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كما أسلفنا بيانه، ويأتي أيضًا، فتنبّه.
ثم أتت رضي الله عنها بخطأ آخر أخطأ به ابن عمر رضي الله عنهما نظير ما أخطأ به هنا، فقالت:(وَذَاكَ) أي: الخطأ المذكور لابن عمر رضي الله عنهما (مِثْلُ قَوْلهِ) أي: خطأ (إِنَّ
(1)
"الفتح" 9/ 43 "كتاب المغازي" رقم (3987).
(2)
راجع: "الفتح" 9/ 43.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ) بفتح القاف، وكسر اللام: البئر، وهو مذكَّرٌ، قال الأزهريّ: القَلِيب عند العرب: البئر العاديّة القديمة مطويّة كانت، أو غير مطويّة، والجمع قلُبٌ، مثلُ بَرِيدٍ وبُرُدٍ
(1)
. (يَوْمَ بَدْرٍ) أي: في غزوة بدر الكبرى، وهو موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، ويقال: هو منها على ثمانية وعشرين فرسخًا، على منتصف الطريق تقريبًا، وعن الشعبيّ أنه اسم بئر هناك، قال: وسُمِّيت بدرًا؛ لأن الماء كان لرجل من جهينة اسمه بدر، وقال الواقديّ: كان شيوخ غفار يقولون: بدرٌ ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه أحدٌ قبلنا، وهو من ديار غفار. انتهى
(2)
.
وكانت غزوة بدر يوم الجمعة في سابع عشر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وقيل: كانت يوم الاثنين، والأول أصحّ.
(وَفِيهِ) أي: في ذلك القَلِيب (قَتْلَى بَدْرٍ) جمع قيل (مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ) أي: الكلام الذي كلّمهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله:"يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان؛ أيسرُّكم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا إلخ".
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله ترك قتلى بدر ثلاثًا، ثم أتاهم، فقام عليهم، فناداهم، فقال:"يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا"، فسمع عمر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كيف يسمعوا؟، وأنى يُجيبوا؟، وقد جَيَّفوا، قال:"والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا"، ثم أمر بهم، فسُحِبوا فألقوا في قليب بدر.
("إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ"، وَقَدْ وَهِلَ) أي: أخطأ ابن عمر في هذا، فإنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يقل:"إنهم ليسمعون ما أقول"، و (إِنَّمَا قَالَ:"إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ) وفي نسخة: "ليعلمون الآن" (أَنَّ مَا كنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ) تعني: أنه صلى الله عليه وسلم إنما أخبر بعلمهم بحقيّة ما كان يدعوهم إليه، لا بسماعهم قوله في ذلك الوقت، وهذا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 512.
(2)
"المصباح" 1/ 38.
أيضًا فيه نظرٌ؛ لأن علمهم لا ينافي سمعهم (ثُمَّ قَرَأَتْ) مؤيّدة لما نفته من إخباره صلى الله عليه وسلم بسماعهم قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، فقد نفى الله عز وجل عنه صلى الله عليه وسلم إسماعه الموتى، فكيف يُخبر بسماعهم؟ وفيه أنه إنما نفى إسماعه بنفسه، لا بإسماع الله تعالى له، فهو كقوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وقرأت أيضًا قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] ففيه أنه لا يستطيع أن يسمع المقبورين، وفيه أيضًا ما ذُكر قبله.
وقال في "الفتح": وهذا مصير من عائشة رضي الله عنها إلى ردّ رواية ابن عمر رضي الله عنهما المذكورة، وقد خالفها الجمهور في ذلك، وقَبِلُوا حديث ابن عمر؛ لموافقة من رواه غيره عليه، وأما استدلالها بالآية، فقالوا: معناها: لا تُسمِعهم سماعًا ينفعهم، أو لا تُسمعهم إلَّا أن يشاء الله.
وقال السهيليّ رحمه الله: عائشة رضي الله عنها لَمْ تحضر قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله أتخاطب قومًا قد جَيَّفُوا؟، فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان رؤوسهم، كما هو قول الجمهور، أو بآذان الروح على رأي من يوجّه السؤال إلى الروح، من غير رجوع إلى الجسد، قال: وأما الآية، فإنها كقوله تعالى:{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40]؛ أي: إن الله هو الذي يسمع، ويهدي. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وقوله: إنها لَمْ تحضر صحيح، لكن لا يقدح ذلك في روايتها؛ لأنه مرسل صحابيّ، وهو محمول على أنَّها سمعت ذلك ممن حضره، أو من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدُ، ولو كان ذلك قادحًا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر، فإنه لَمْ يحضر أيضًا، ولا مانع أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قال اللفظين معًا، فإنه لا تعارض بينهما
(1)
.
وقوله: (يَقُولُ: حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ) قال في "الفتح": القائل "يقول" هو عروة، يريد أن يُبَيِّن مراد عائشة رضي الله عنها، فأشار إلى أن إطلاق النفي في قوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} مُقَيَّد باستقرارهم في النار، وعلى هذا فلا
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 159 - 160 "كتاب الجنائز" رقم (1375).
معارضة بين إنكار عائشة، وإثبات ابن عمر، لكن قولها:"إنهم ليعلمون" يدلّ على أنَّها كانت تنكر ذلك مطلقًا، وأن ابن عمر وَهِمَ في قوله:"ليسمعون".
وقال ابن التين رحمه الله: لا معارضة بين حديث ابن عمر رضي الله عنهما والآية؛ لأن الموتى لا يسمعون بلا شكّ، لكن إذا أرد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لَمْ يمتنع، كقوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية [الأحزاب: 72]، وقوله: فَقَالَ {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} الآية [فصلت: 11].
وقال البيهقيُّ رحمه الله: العلم لا يمنع من السماع، والجواب عن الآية أنه لا يُسْمِعهم وهم موتي، ولكن الله أحياهم حتى سمعوا، كما قال قتادة، ولم ينفرد عمر، ولا ابنه بحكاية ذلك، بل وافقهما أبو طلحة، كما تقدّم، وللطبرانيّ من حديث ابن مسعود مثله، بإسناد صحيح، ومن حديث عبد الله بن سِيدان نحوه، وفيه:"قالوا: يا رسول الله، وهل يسمعون؟ قال: يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون"، وفي حديث ابن مسعود:"ولكنهم اليومَ لا يجيبون".
ومن الغريب أن في "المغازي" لابن إسحاق روايةِ يونس بن بكرٍ بإسناد جيِّد عن عائشة رضي الله عنها مثل حديث أبي طلحة، وفيه:"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، وأخرجه أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظًا، فكأنها رجعت عن الإنكار؛ لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة؛ لكونها لَمْ تشهد القصَّة.
قال الإسماعيليّ رحمه الله: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم، والذكاء، وكثرة الرواية، والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى ردّ رواية الثقة إلَّا بنصّ مثله، يدلّ على نسخه، أو تخصيصه، أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكنٌ؛ لأن قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون"؛ لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمِع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم، بأن أبلغةم صوت نبيّه صلى الله عليه وسلم بذلك.
وأما جوابها بأنه إنما قال: "إنهم ليعلمون"، فإن كانت سمعت ذلك، فلا ينافي رواية "يسمعون"، بل يؤيِّدها.
وقال السهيليّ رحمه الله ما مُحَصَّله: إن في نفس الخبر ما يدلّ على خرق العادة بذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقول الصحابة له: أتخاطب أقوامًا قد جَيَّفوا؟
فأجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين، جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذان رؤوسهم، على قول الأكثر، أو بآذان قلوبهم.
قال: وقد تمسك بهذا الحديث مَن يقول إن السؤال يتوجه على الروح والبدن.
وردّه مَن قال إنما يتوجه على الروح فقط، بأن الإسماع يَحْتَمِل أن يكون لأذن الرأس، ولأذن القلب، فلم يبق فيه حجة.
قال الحافظ رحمه الله: إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ لَمْ يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلًا.
[تنبيه]: اختَلَفَ أهلُ التأويل في المراد بالموتى في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وكذلك المراد بـ {مَنْ فِي الْقبُوُرِ} فحملته عائشة رضي الله عنها على الحقيقة، وجعلته أصلًا احتاجت معه إلى تأويل قوله:"ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، وهذا قول الأكثر، وقيل: هو مجاز، والمراد بالموتي، وبمن في القبور: الكفار، شُبِّهُوا بالموتي، وهم أحياء، والمعنى: مَن هم في حال الموتى، أو في حال من سَكَن القبر، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليلٌ على ما نفته عائشة، والله سبحانه وتعالى أعلم
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبيان فوائده.
(المسألة الثانية): دل هذا الحديث على أن الموتى يسمعون كلام الأحياء، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها، محتجّة بآية:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وقد عرفت جواب أهل العلم عن هذه الآية، فالحقّ أنهم يسمعون كلامهم سماعًا حقيقيًّا.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله هل يسمع الميت كلام زائره؟.
(1)
"الفتح" 9/ 43 - 44 "كتاب المغازي" رقم (3978).
فأجاب قائلًا: نعم يسمع الميت في الجملة، كما ثبت في "الصحيحين" عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه". وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ترك قتلى بدر ثلاثًا، ثم أتاهم، فقال: يا أبا جهل بن هشام
…
. الحديث، وفيه:"والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا".
قال: وقد ثبت في "الصحيحين" من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالسلام على أهل القبور، ويقول: "قولوا: السلام عليكم أهل الديار
…
" الحديث. قال: فهذا خطاب لهم، وإنما يُخاطب من يسمع.
ورَوَى ابن عبد البرّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يمرّ بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلَّا ردّ الله عليه روحه حتى يردَّ عليه السلام".
قال: وفي "السنن" أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ
…
" الحديث.
قال: فهذه النصوص، وأمثالها تبيّن أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يَعرِض للحيّ، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع؛ لعارض يَعرِض له، وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتّب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفيّ بقوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى، فالميت، وإن سمع الكلام، وفقه المعنى، فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أُمِر به، ونهي عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} الآية [الأنفال: 23]. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله باختصار
(1)
، وهو كلام نفيسٌ جدًّا.
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 24/ 362 - 365.
وسُئل أيضًا عن الأحياء إذا زاروا الأموات، هل يعلمون بزيارتهم؟ وهل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم، أو غيره؟.
فاجاب: الحمد لله، نعم قد جاءت الآثار بتلاقيهم، وتساؤلهم، وعرض أعمال الأحياء على الأموات، كما روى ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاريّ، قال: "إذا قُبضت نفس المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله، كما يتلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه، وشفي لونه، فيقول بعضهم لبعض: أَنظِروا أخاكم يستريح، فإنه كان في كرب شديد، قال: فيقبلون عليه، ويسألونه ما فعل فلان، وما فعلت فلانة، هل تزوّجت
…
" الحديث
(1)
.
وأما علم الميت بالحيّ إذا زاره، وسلم عليه، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلَّا عرفه، وردّ عليه السلام"، قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصححه عبد الحقّ صاحب "الإحكام".
(1)
أخرجه ابن المبارك رحمه الله في "الزهد" 1/ 149:
أخبركم أبو عمر بن حيويه، وأبو بكر الوراق، قالا: أخبرنا يحيى، قال: حدّثنا الحسين، قال: أخبرنا ابن المبارك، فقال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن أبي رُهْم السَّمَعيّ، عن أبي أيوب الأنصاريّ قال:"إذا قبضت نفس العبد، تلقاه أهل الرحمة من عباد الله، كما يلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه ليسألوه، فيقول بعضهم لبعض: أَنْظِروا أخاكم حتى يستريح، فإنه كان في كرب، فيقبلون عليه، فيسألونه، ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ هل تزوجت؟ فإذا سألوا عن الرجل قد مات قبله، قال لهم: إنه قد هلك، فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذُهِب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم، وبئست المربية، قال: فيُعْرَضُ عليهم أعمالهم، فإذا رأوا حسنًا فرحوا واستبشروا، وقالوا: هذه نعمتك على عبدك فأتمها، وإن رأوا سوءًا قالوا: اللهم راجع بعبدك".
قال ابن صاعد: رواه سلام الطويل، عن ثور، فرفعه، أخرجه ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا. انتهى.
وهذا الإسناد صحيح، وثور بن زيد من ثقات الشاميّين، وأبو رُهم السَمَعيّ - بفتحتين - اسمه أَحزاب بن أسيد - بالفتح - مختلف في ححبته، والصحيح أنه مخضرم ثقةٌ، قاله في "التقريب"(ص 25).
وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد، ورزقه، وما جاء في الحديث الصحيح، من دخول أرواحهم الجنّة، فذهب طوائف إلى أن ذلك مختصّ بهم دون الصدّيقين، وغيرهم، والصحيح الذي عليه الأئمة، وجماهير أهل السنة أن الحياة، والرزق، ودخول الأرواح الجَنَّة ليس مختصّا بالشهيد، كما دلّت على ذلك النصوص الثابتة، وخُصّ الشهيد بالذكر؛ لكون الظانّ يظنّ أنه يموت، فينكل عن الجهاد، فاخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة، كما نُهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنه هو الواقع، وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق. انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2155]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي أُسَامَةَ أَتَمُّ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية وكيع عن هشام بن عروة هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2156]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، وَذُكِرَ لَهَا أَنَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 24/ 330 - 332.
لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ، أَوْ أَخْطَأَ، إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ:"إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذبُ فِي قَبْرِهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أنسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا أيضًا.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ [51](ت هـ 13) وهو ابن (70) سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
4 -
(عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، أو بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" ج 2 ص 417.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(10) - (بَابُ تَحْرِيمِ النِّياحَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2157]
(933) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَلِيُّ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ قَرَظَةُ بْنُ كعْبٍ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ) أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ [6](خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو علي الغسانيّ الجيّانيّ رحمه الله: وقع في إسناد هذا
الحديث في نسخة ابن الحذّاء "سعد بن عُبيد" بسكون العين، وحذف الياء، والصواب "سعيد" بكسر العين، وزيادة ياء، و"سعيد بن عبيد" هذا هو أخو عقبة بن عبيد، يُكنى أبا الْهُذَيْل، ويُكنى عُقبة أبا الرّحّال براء مهملة، وحاء مهملة مشددّة. انتهى
(1)
.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ) الأسديّ الْوَالبيّ الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7](بخ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 2.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ) بن نَضْلة الأسديّ الوالبيّ، أبو المغيرة الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ابن مسعود الثقفيّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه (50)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (137) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وسعيد بن عبيد، فما أخرج له ابن ماجة، ومحمد بن قيس، فانفرد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، فالصحابيّ رضي الله عنه قد ولي إمرة البصرة، ثم الكوفة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ) الأسديّ الوالبيّ أنه (قَالَ: أَوَّلُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ قَرَظَةُ بْنُ كَعْبٍ) وفي رواية الترمذيّ: مات رجل من الأنصار، يقال له: قَرَظَةُ بن كعب، فَنِيح عَليه، فجاء المغيرة، فصَعِد المنبر، فحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، وقال: ما بال النَّوْح في الإسلام؟. انتهى.
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 827.
وقَرَظة - بفتحتين، وظاء مشالة - بن كعب بن ثعلبة بن عمرو بن كعب بن الإطنابة الأنصاريّ الخزرجيّ، ويقال: قرظة بن عمرو بن كعب بن عمرو بن عائذ بن زيد مناة بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، هكذا نسبه ابن الكلبيّ وغيره، قال البخاريّ: له صحبةٌ، وقال البغويّ: سكن الكوفة، وقال ابن سعد: أمه خُليدة بنت ثابت بن سنان، وهو أخو عبد الله بن أُنيس لأمه، وشَهِدَ قَرَظَة أُحُدًا وما بعدها، وكان ممن وَجَّهه عمر رضي الله عنه إلى الكوفة يفقّه الناس، وقال ابن السكن: يُكنى أبا عمرو، وقال ابن أبي حاتم: يقال: له صحبة، سكن الكوفة، وابتنى بها دارًا، وكنيته أبو عمر، ومات في خلافة عليّ، فصلى عليه
(1)
.
رَوَى عنه عامر بن سعد، والشعبيّ، وسعد بن إبراهيم، وروايته عنه مرسلة.
وقال ابن حبان: له صحبةٌ، سكن الكوفة، وحديثه عند الشعبيّ، وذكر في وفاته ما تقدم.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر؛ لما ثبت في "الصحيحين" من طريق عليّ بن ربيعة قال: أوّلُ مَن نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة"، وهذا يقتضي أن يكون قرظة مات في خلافة معاوية حين كان المغيرة على الكوفة؛ لأن المغيرة كان في مدة الاختلاف بين علي ومعاوية مقيمًا بالطائف، فقَدِمَ بعد موت عليّ، فولاه معاوية الكوفة بعد أن أسلم له الحسنُ الخلافةَ، وبذلك جزم ابن سعد، وقال: مات بالكوفة، والمغيرة والٍ عليها،
(1)
هذا قول ضعيف، كما سيأتي، وقال في "الفتح" 4/ 44 - 45: وقرظةُ أنصاريّ خزرجيّ، كان أحد مَن وجّهه عمر إلى الكوفة ليفقّه الناس، وكان على يده فتح الريّ، واستخلفه عليّ على الكوفة، وجزم ابن سعد وغيره بأنه مات في خلافته، وهو قول مرجوحٌ؛ لما ثبت في "صحيح مسلم" أن وفاته حيث كان المغيرة بن شعبة أميرًا على الكوفة، وكانت إمارة المغيرة على الكوفة من قبل معاوية، من سنة إحدى وأربعين إلى أن مات، وهو عليها سنة خمسين. انتهى.
وكذا قال ابن السكن، وزاد: وهو الذي قتل ابن النوّاحة صاحب مُسيلمة في ولاية ابن مسعود بالكوفة، وفَتَحَ الرّيّ سنة ثلاث وعشرين، وأسند ما تقدم في خلافة عليّ، عن علي ابن المدينيّ، ووقع التصريح بأن المغيرة كان يومئذ أمير الكوفة في رواية لمسلم، وفي رواية الترمذيّ:"فجاء المغيرة، فصعد المنبر، فحَمِدَ الله، وأثنى عليه، وقال: ما بال النَّوْح في الإسلام"، ثم ذكر الحديث، وفي "كتاب العلم" من "صحيح البخاريّ" ما يدلّ على أن المغيرة مات، وهو أمير الكوفة في خلافة معاوية رضي الله عنهما
(1)
.
(فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ) يقال: ناحت المرأة زوجها، وعليه تنوح نَوْحًا، ونُوَاحًا بالضّم، ونياحًا ونياحةً ومَنَاحً: إذا بكت عليه بجزَع وعَوِيل
(2)
. (فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ) أي: بسبب النياحة، فـ "ما" يَحْتَفِل أن تكون مصدريّةً، وأن تكون موصولة (يَوْمَ الْقِيَامَةِ") ظرف لـ "يُعذَّب".
قال ابن العربيّ رحمه الله: النَّوْح ما كانت الجاهليّة تفعله، كان النساء يقفن متقابلات يَصِحْن، وَيحْثين التراب على رؤوسهنّ، وَيضربن وجوههنّ، وفي ذلك جاء الحديث: "ليس منّا من حَلَقَ، أو سَلَقَ
…
" الحديث.
وقال الأبيّ رحمه الله: هذا الحديث نصّ فيما أنكرت عائشة رضي الله عنها من التعذيب على البكاء؛ لأن النياحة من البكاء بصوت، وحملُهُ على أن الميت أوصى بالنياحة عليه بعيد. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "نصّ" محلّ تأمّل، وقوله أيضًا:"وحملُهُ على أن الميت أوصى بالنياحة عليه بعيد" فيه نظرٌ لا يخفي، بل هو من جملة الاحتمالات القريبة التي قيلت في توجيه الحديث، كما أسلفت تمام البحث في ذلك، فتبصّر.
[تنبيه]: وقع في هذا الحديث عند البخاريّ: "من طريق أبي نعيم، عن
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 431 - 432.
(2)
راجع: "القاموس" 1/ 254، و"المعجم الوسيط" 2/ 961.
(3)
"شرح الأبيّ" 3/ 72 - 73.
سعيد بن عبيد زيادة في أوله، ولفظه: سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد، من كذَبَ عليّ متعمّدًا، فليتبوّأ مقعده بالنار"، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن يُنَحْ عليه يُعذّب بما نِيح عليه"، والشطر الأول قد تقدّم للمصنّف في "المقدّمة".
قال في "الفتح": قوله: "إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد"؛ أي: غيري، ومعناه: أن الكذب على الغير قد أُلِفَ، واسْتُسْهِل خطبه، وليس الكذب عليّ بالغًا مبلغ ذاك في السهولة، وإن كان دونه في السهولة، فهو أشدّ منه في الإثم، وبهذا التقرير يندفع اعتراض مَن أَوْرد أن الذي تدخل عليه الكاف أعلى، والله أعلم.
وكذا لا يلزم من إثبات الوعيد المذكور على الكذب عليه أن يكون الكذب على غيره مباحًا، بل يستدَلّ على تحريم الكذب على غيره بدليل آخر، والفرق بينهما أن الكذب عليه تُوُعِّد فاعله بجعل النار له مسكنًا، بخلاف الكذب على غيره.
وقوله: (مَن يُنَحْ عليه يُعَذَّب) ضبطه الأكثر بضم أوله، وفتح النون، وجزم المهملة، على أن "مَنْ" شرطية، تجزم الشرط والجواب، ويجوز رفعه على تقدير: فإنه يعذبُ، ورُوي بكسر النون، وسكون التحتانية، وفتح المهملة، وفي رواية الكشميهنيّ:"مَن يناحُ" على أن "من" موصولة.
وقد أخرجه الطبرانيّ عن عليّ بن عبد العزيز، عن أبي نعيم، بلفظ:"إذا نِيح على الميت، عُذِّب بالنياحة عليه"، وهو يؤيد الرواية الثانية.
وقوله: (بما نِيح عليه)، كذا للجميع بكسر النون، ولبعضهم "ما نِيح" بغير موحَّدة، على أن "ما" ظرفية. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 45.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2157 و 2158 و 2159](933)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1291)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1000)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 60)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 245 و 252 و 255)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2083 و 2084)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 72)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2158]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا محَمَّد بْنُ قَيْسٍ الْأَسَدِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْأَسَدِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَة).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْن حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَلِيُّ بْن مُسْهِرٍ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية عليّ بن مسهر، عن محمد بن قيس هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2159]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه
(1)
ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي الْفَزَارِيَّ - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ)
(2)
.
(1)
وفي نسخة: "وحدَّثنا" بدون ضمير.
(2)
وفي نسخة: "بمثله".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، صدوقُ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) هو: مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية مروان بن معاوية، عن سعيد بن عُبيد هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 18) فقال:
(2084)
- حدّثنا فاروق بن عبد الكبير، ثنا أبو مسلم الكشيّ، ثنا حجاج بن منهال، عن عبد الله بن داود، عن سعيد بن عبيد الطائي (ع) وثنا محمد بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن أحمد بن نافع الخزاعيّ، ثنا ابن أبي عمر، ثنا مروان بن معاوية، ثنا سعيد بن عبيد الطائيّ، عن عليّ بن ربيعة الأسديّ، عن المغيرة بن شعبة، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من نِيح عليه يعذب بما نيح عليه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2160]
(934) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَفَّانُ، حَدَّثنَا؛ أَبَانُ ابْنُ يَزِيدَ (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبانُ
(1)
، حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَنَّ زيدًا حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا سَلَّام حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِن أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ"، وَقَالَ:"النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ").
(1)
وفي نسخة: "أبان بن يزيد".
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قبل حديثين.
2 -
(عَفانُ) بن مسلم الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
3 -
(أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ) العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
4 -
(اِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) الكوسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ) أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
6 -
(يَحْيَى) بن أبي كثير الطائِيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، نزيل اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس [5](ت 132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 424.
7 -
(زَيْدُ) بن سلّام بن أبي سلّام الحبشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
8 -
(أَبُو سَلَّامٍ) ممطور الأسود الحبشيّ، ثقةٌ يرسل [3](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
9 -
(أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ) قيل: اسمه الحارث بن الحارث، وقيل: عُبيد، وقيل: عبيد الله، وقيل: عمرو، وقيل: كعب بن عاصم، وقيل كعب بن كعب، وقيل: عامر بن الحارث بن هانئ بن كلثوم، صحابيّ نزل الشام، مات في طاعون عَمَواس سنة (18)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.
3 -
(ومنها): أن صحابيّه ممن اشتهر بكنيته، وهو قليل الرواية، فليس له
في الكتب الستة سوى بضعة عشر حديثًا، راجع:"تحفة الأشراف"
(1)
.
شرح الحديث:
عن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيّ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيةِ) أي: من أمورهم وخصالهم المعتادة، طُبع عليهنّ كثير من الأمة (لَا يَتْرُكُونَهُنَّ) أي: غالبًا، قال الطيبيّ رحمه الله: المعنى أن هذه الخصال تدوم في الأمة، لا يتركونهنّ بأسرهم تركَهُم لغيرها، من سنن الجاهلية، فإنهنّ إن تتركهنّ طائفة، باشرهنّ آخرون. (الْفَخْرُ) أي: الافتخار، وهو المباهاة والتمدّح بالخصال، والمناقب، والمكارم، إما فيه، وإما في أهله، قال في "الفائق": الفخر تعداد الرجل من مأَثره، ومآثر آبائه (فِي الْأَحْسَابِ) أي: في شأنها وسببها، والْحَسَبُ: ما يَعُدّه الرجل من الخصال التي تكون فيه؛ كالشجاعة، والفصاحة، وغير ذلك، وقيل: الحسب ما يَعُدّه الإنسان من مفاخر آبائه، قال ابن السِّكِّيت: الحسب والكرم يكونان في الرجل، وإن لَمْ يكن لآبائه شَرَفٌ، والشرف والمجد لا يكون إلَّا بالآباء، وقال في "الفائق": الفخر تعداد الرجل من مآثره ومأَثر الآباء، ومنه قولهم: من فات حسبه، لَمْ ينتفع بحسب أبيه.
ومعنى الفخر بالأحساب: هو: التفاخر، والتكبر، والتعظم بِعَدِّ مناقبه، ومآثر آبائه، وهذا يستلزم تفضيل الرجل نفسه على غيره؛ ليَحْقِره لا يجوز.
وفيه تنبيه على أن الحسب الذي يُحمد به الإنسان ما تحلّى به من خصال الخير في نفسه، لا ما يعدّه من مفاخره، ومآثر آبائه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الفخر في الأحساب: أي الافتخار بالآباء الكبراء والرؤساء، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله أذهب عنكم عُبّيّة الجاهليّة، وفخرها بالآباء، إنمّا مؤمن تقيّ، أو فاجر شقيّ، الناس كلّهم من آدم، وآدم خُلق من تراب"
(2)
. انتهى
(3)
.
(1)
"تحفة الأشراف" 8/ 571 - 576.
(2)
حديث حسن، رواه أحمد 2/ 524، وأبو داود (5116)، والترمذيّ (3950 - 3951).
(3)
"المفهم" 2/ 587.
(وَالطَّعْنُ فِي الأنسَابِ) أي إدخال العيب في أنساب الناس، والقدح فيهم، واستحقارهم، وذلك يستلزم تحقير الرجل آباء غيره، وتفضيل آبائه على آباء غيره وهو لا يجوز، قال التوربشتيّ: الظاهر أن المراد منه الطعن فيمن ينتسب إليه حجيجُ الطاعن، فينسب آباءه وذويه عند المساجلة، والمساءات إلى الخمول والخساسة، والغموض، والانحطاط؛ لأنه ذُكر في مقابلة الفخر بالأحساب.
وقال الطيبيّ: ويجوز أن يُكْنَى بالطعن في أنساب الغير عن الفخر بنسب نفسه، فيجتمع له الحسب والنسب، وأن يُحْمَل على الطعن في نسب نفسه. انتهى.
(وَالْاسْتِسْقَاءُ) أي: طلب السُّقيا (بِالنُّجُومِ) أي: بسببها؛ يعني: توقّع الأمطار عند وقوع النجوم في الأنواء، كما كانوا يقولون: مُطِرنا بنوء كذا، وقيل: المعنى: سؤال المطر من الأنواء، فإن كان ذلك على جهة اعتقاد أنَّها المؤثّرة في نزول المطر حقيقةً فهو كفر
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الاستسقاء": استدعاء السُّقْيا وسؤاله، وكأنهم كانوا يسألون من النجوم أن تسقيهم؛ بناءً منهم على اعتقادهم الفاسد في أن النجوم تُوجد المطر وتخلقه. انتهى
(2)
.
وحاصل المعنى: أن اعتقاد الرجل نزول المطر بظهور نجم كذا حرامٌ، وإنما يجب أن يقال: مُطِرنا بفضل الله تعالى.
(وَالنِّيَاحَةُ") بالرفع، وهي الخصلة الرابعة، وهي: البكاء على الميت بصياح وعَوِيل وجَزَع، فيقول: وا ويلاه، وا حسرتاه، والندبةُ عدّ شمائل الميت ومحاسنه، مثل وا شُجاعاه، وا أسداه، وا جبلاه.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم " ("النَّائِحَةُ) أي: المرأة التي صَنْعَتُها النياحة (إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتهَا) أي: قبل حضور موتها، قال التوربشتيّ: وإنما قيّد به؛ ليُعلم أن من شرط التوبة أن يتوب التائب، وهو يأمل البقاء، ويمكن أن يتأتى منه العمل الذي يتوب منه، ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
(1)
"المرعاة" 5/ 465.
(2)
"المفهم" 2/ 587.
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} الآية [النساء: 18].
وبمعناه حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "إن الله يقبل توبة العبد ما لَمْ يُغَرْغِرْ"، رواه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم
(1)
.
(تُقَامُ) بالبناء للمجهول، من الإقامة، وهي الإيقاف (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بين أهل الموقف للفضيحة، قال الطيبيّ رحمه الله:"تقام": أي تُحشر، وَيحْتَمِل أنَّها تقام على تلك الحالة بين أهل النار، وأهل الموقف؛ جزاءً على قيامها في الْمَنَاحة، وهو الأمثلُ
(2)
. (وَعَلَيْهَا سِرْبَال) جملة حاليّة من فاعل "تقام"، والسِّربال: بكسر السين المهملة: القميص، وقوله:(مِنْ قَطِرَانٍ) متعلّق بصفة "سِرْبال"، وهو بفتح القاف، وكسر الطاء: طِلاءٌ يُطْلَى به، وقيل: دُهْنٌ يُدْهَنُ به الجمل الأجرب، وفي "القاموس": الْقِطْرَانُ بالفتح والكسر، وكَظَرِبَان: عُصَارةُ الأَبْهَل، والأَرْز، ونحوهما. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "القطران" ما يتحلّب من شجر يُسمّى الأبهل، فيُطبخ، فتهنأ به الإبل الْجَرْبَي، فيحرق الْجَرَبَ بحرّه وحدّته، والجلدَ، وقد تبلغ حرارته الجوف. انتهى.
(وَدِرْعٌ) بكسر الدال: قميص النساء، والسربال القميص مطلقًا (مِنْ جَرَبٍ) أي من أجل جَرَبٍ كائنٍ بها.
وقال الطيبيّ رحمه الله: الدرعُ: قميص النساء، والسرابيل أيضًا: قميصٌ، لكن لا يختصّ بهنّ؛ يعني أنه يُسَلَّط على أعضائها الْجَرَبُ والْحِكَّة، بحيث يُغَطِّي جلدها تغطيةَ الدرع، فتُطْلَى مواقعه بالقطران؛ لِيُداَوَي، فيكون الدواء أدوى من الداء؛ لاشتماله على لَذْعِ القطران، وحدّته، وحرارته، وإسراع النار في الجلود، واشتعالها، ونتن الرائحة، وسواد اللون الذي تشمئزّ منه النفوس.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: خُصَّت بدِرْع من الجرب؛ لأنَّها كانت تَجْرَح
(1)
حديث حسنٌ.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1418.
(3)
"القاموس المحيط" 2/ 119.
بكلماتها المحرقة قلوب ذوات المصيبات، وتَحُكّ بها بواطنهنّ، فعوقبت في ذلك المعنى بما يماثله في الصورة، وخُصَّت أيضًا بسرابيل من قطران؛ لأنَّها كانت تلبس الثياب السُّود في المأْتَمِ، فألبسها الله تعالى السرابيل؛ لتذوق وبال أمرها. انتهى.
[فإن قلت]: ذكر الخصال الأربع في الحديث، ولم يُرَتِّب عليها الوعيد، سوى النياحة، فما الحكمة فيه؟.
[قلت]: النياحة مختصة بالنساء، وهُنّ لا ينزجرن من هِجِّيرَاهُنّ انزجار الرجال، فاحتجن إلى مزيد الوعيد. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2160](934)، و (ابن ماجة) في "الجنائز"(1581)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(6686)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(3/ 390)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 342 و 343 و 344)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 285)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 383)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3143)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2085)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 63)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1533)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): تحريم النياحة على الميت، قال النوويّ رحمه الله: وهو مجمع عليه، وقال ابن حجر الهيتميّ الفقيه رحمه الله: وأخذ أئمتنا من هذه الأحاديث تحريم النَّوْح وتعديد محاسن الميت بنحو: وا كهفاه، مع رفع الصوت والبكاء، وتحريم ضرب الخدّ، وشق الجيب، ونشر الشعر، وحلقه، ونتفه، وتسويد
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1419.
الوجه، وإلقاء التراب على الرأس، والدعاء بالويل والثبور، قال إمام الحرمين، وآخرون: والضابط أنه يَحْرُم كلُّ فعل يتضمن إظهار جزع، وينافي الانقياد والتسليم لقضاء الله تعالى، قالوا: ومن ذلك تغيير الزِّيِّ، ولبس غير ما جرت العادة بلبسه؛ أي: وإن اعتيد لبسه عند المصيبة. انتهى.
2 -
(ومنها): تحريم الطعن في الأنساب، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} الآية [الحجرات: 11].
3 -
(ومنها): تحريم التفاخر في الأحساب قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الآية [الحجرات: 13].
4 -
(ومنها): تحريم الاستسقاء بالأنواء، وقد تقدّم البحث في هذا في "كتاب الإيمان" مستوفي، فراجعه تستفد.
5 -
(ومنها): صحة التوبة وقبولها ما لَمْ يمت المكلّف، أو يصل إلى حدّ الغرغرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2161]
(935) - (وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ، تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ
(1)
، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، قَالَتْ: وَأنا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ، شَقِّ الْبَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ، فَيَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ، فَأَتَاهُ فَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَذْهَبَ فَيَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا
(1)
وفي نسخة: "قتل زيد بن حارثة".
رَسُولَ اللهِ، قَالَتْ: فَزَعَمَتْ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اذْهَبْ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ، وَاللهِ مَا تَفْعَلُ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر المذكور قبل حديث.
3 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) عن نحو (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
4 -
(يَحْيَى بْنَ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
5 -
(عَمْرَةُ) بنت عبد الرَّحمن الأنصاريّة، تقدّمت في الباب الماضي.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهما، ثم فرّق بينهما بالتفصيل؛ لاختلافهما فيها.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، سوى شيخه ابن أبي عمر، فما أخرج له البخاريّ وأبو داود، وأما ابن المثنّي، فهو أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من يحيى، وابن أبي عمر مكيّ، والباقيان بصريّان.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعية.
6 -
(ومنها): أن فيه عائشةَ رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن عمرة بنت عبد الرَّحمن الأنصاريّة (أنَهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة، والفاعل قوله:(قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ) وفي بعض النسخ: "زيد بن حارثة".
وهو: زيد بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيِّ، أبوأسامة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شَهِدَ المشاهد كلها، وكان من الرماة المذكورين.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه أسامة، والبراء بن عازب، وابن عباس، وأرسل عنه أبو العالية، وعليّ بن عبد الله بن عباس، وهُزيل بن شرحبيل، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، وقال سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلَّا زيد بن محمد، حتى أنزل القرآن:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، وقال عبد الله البهيّ، عن عائشة: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قطّ إلَّا أَمّره عليهم، استُشْهِد يوم مؤتة، سنة ثمان من الهجرة، وهو ابن خمس وخمسين سنةً، ونعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه في اليوم الذي قُتل فيه، وعيناه تذرفان.
قال ابن إسحاق: كان أول ذَكَر آمن بالله، وصلى بعد عليّ بن أبي طالب زيد بن حارثة، وقال أبو علي بن السكن: كان قصيرًا شديد الأُدمة، في أنفه فَطْسٌ
(1)
، وقال أبو نعيم: رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبطحاء يُنَادَى عليه بسبعمائة درهم، فذكره لخديجة، فاشتراه من مالها، فوهبته خديجة رضي الله عنها له، فتبناه، وأعتقه.
أخرج له النسائيّ، وابن ماجة، وليس له في هذا الكتاب، ولا في بقيّة الكتب الستة إلَّا الذكر فقط
(2)
.
(وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بن عبد المطلب بن هاشم، أبو عبد الله الطيّار
(1)
من بابي ضرب، وقعد.
(2)
وأما ما قاله الحافظ في "تهذيب التهذيب" في ترجمته من: أن له حديثًا عند مسلم في قصّة تزويج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنهما، وسيأتي في "كتاب النِّكَاح" برقم (1428) ففيه نظر لا يخفى؛ لأن الحديث حديث أنس رضي الله عنه، وإنما ذكر هناك منه قصّة جرت له مع زينب، فراجعه بتأمل، والله تعالى أعلم.
ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم قديمًا، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة مُؤتة، واستُشهد بها، وهي بارض البَلْقَاء سنة ثمان من الهجرة.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عبد الله، وأم سلمة، وعمرو بن العاص، وابن مسعود.
قال الحسن بن زيد: إنه أسلم بعد زيد بن حارثة، وقال مِسعر، عن عون بن أبي جُحيفة، عن أبيه: لَمّا قَدِمَ جعفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض الحبشة قَبَّل بين عينيه، وقال: ما أدري أنا بقدوم جعفر أَسَرُّ أو بفتح خيبر؟ وكانا في يوم واحد، وقال الشعبيّ: كان ابن عمر إذا حَيّا ابن جعفر، قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين، وقال ابن إسحاق: حدّثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، حدّثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مُرّة بن عوف، قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر يوم مؤتة حين اقتَحَمَ عن فرسٍ له شَقْراء، فعقَرَها، ثم تقدم، فقاتل حتى قتل، قال الزبير بن بكار: كان سنّه يوم قُتِل (41) سنةً.
رَوَى له النسائيّ في "عمل اليوم والليلة" حديثًا واحدًا من رواية ابنه عبد الله عنه، في كلمات الفرح، والمحفوظ عن عبد الله بن جعفر، عن عليّ، قصة غزوة مؤتة في "الصحيحين" من حديث عائشة وغيرها.
(وَعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ) بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وقيل في نسبه غير ذلك، الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو محمد، ويقال: أبو رواحة، ويقال: أبو عمرو المدنيّ، شَهِد بدرًا، والعقبةَ، وهو أحد النقباء، وأحد الأمراء في غزوة مُؤتة، وبها قُتِل.
رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعن بلال المؤذن، وروى عنه ابن أخته النعمان بن بشير، وأبو هريرة، وابن عباس، وأنس، وأرسل عنه عبد الرَّحمن بن أبي ليلي، وقيس بن أبي حازم، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يسار، وزيد بن أسلم، وعكرمة، وأبو الحسن مولى بني نوفل، وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن.
قال الواقديّ: كان موته في جمادى الأولى سنة (8)، وكذا قال غير واحد، وقيل: سنة سبعة، والأول أصحّ.
روى له البخاريّ، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، وابن ماجة، وليس له عند المصنّف إلَّا ذكره فقط.
(جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) زاد أبو داود من طريق سليمان بن كثير، عن يحيى:"في المسجد"(يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يَظْهر في وجهه الحزن، وهو بضم، فسكون، أو بفتحتين، والجملة حال من فاعل "جَلَس"، قال الطيبيّ رحمه الله: كأنه كَظَمَ الحزن كَظْمًا، فظهر منه ما لا بدّ للجِبِلَّة البشريّة منه. انتهى.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ) قال في "الفتح": بالمهملة، والتحتانيّ، وقع تفسيره في نفس الحديث بقوله:(شَقِّ الْبَابِ) بفتح الشين المعجمة؛ أي: الموضع الذي يُنظر منه، ولم يَرِدْ بكسر المعجمة؛ أي: الناحية؛ إذ ليست مرادةً هنا، قاله ابن التين.
وهذا التفسير الظاهر أنه من قول عائشة رضي الله عنها، ويَحْتَمِل أن يكون ممن بعدها، قال المازريّ: كذا وقع في "الصحيحين" هنا "صائر" والصواب "صِير"؛ أي: بكسر أوله، وسكون التحتانيّة، وهو الشَقّ، قال أبو عبيدة في "غريب الحديث" في الكلام على حديث:"مَن نَظَر من صِيرِ الباب، ففُقِئت عينه، فهي هدر": الصِّير الشَّقّ، ولم نسمعه إلَّا في هذا الحديث، وقال ابن الجوزيّ: صائر، وصِير بمعنى واحد، وفي كلام الخطابيّ نحوه.
(فَأَتَاهُ رَجُلٌ) قال الحافظ: لَمْ أقف على اسمه، وكأنه أُبهِمَ عمدًا؛ لما وقع في حقّه من غضّ عائشة منه (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ) أي: امرأته، وهي أسماء بنت عُمَيس الخَثْعَميّةُ، ومن حضر عندها، من أقاربها، وأقارب جعفر، ومن في معناهنّ، ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء، قاله في "الفتح".
(وَذَكَرَ) أي: الرجل الآتي (بُكَاءَهُنَّ) قال الطيبيّ رحمه الله: جملة "وذَكَر" حال عن الضمير المستتر في قوله: "فقال"، وحذف خبر "إنّ" من القول المحكيّ لدلالة الحال عليه، والمعنى: قال الرجل: إن نساء جعفر فَعَلْن كذا مما لا ينبغي من البكاء المشتمل على النَّوْح. انتهى.
ولفظ النسائيّ: "فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ يَبْكِينَ"، ولفظ أبي عوانة من طريق
سليمان بن بلال، عن يحيى:"قد كثُر بكاؤهنّ"، وعند ابن حبّان من طريق عبد الله بن عمرو، عن يحيى بلفظ:"قد أكثرن بكاءهنّ".
(فَأَمَرَهُ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَذْهَبَ، فَيَنْهَاهُنَّ) وفي رواية النسائيّ: "فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ، فَانْهَهُنَّ"(فَذَهَبَ) الرجل (فَأَتَاهُ) المرّة الثانية (فَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ) أي: في ترك البكاء، قال الطيبيّ: قوله: "لَمْ يُطعنه" حكاية لمعنى قول الرجل؛ أي: فذهب، فنهاهنّ، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: نهيتهنّ، فلم يُطعنني، يدلّ عليه قوله في المرّة الثالثة:"والله غلبننا"(فَأَمَرَهُ) صلى الله عليه وسلم (الثَّانِيَةَ) أي: المرة الثانية (أَنْ يَذْهَبَ فَيَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ) أي: فذهب إليهنّ، ونهاهن، فلم يُطعنه أيضًا، فأتاه المرّة الثالثة (فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللهِ) وفي رواية النسائيّ: "ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ"، قال القرطبيّ رحمه الله: كون نساء جعفر لَمْ يُطعن الناهي لهنّ عن البكاء، إما لأنه لَمْ يُصرّح لهنّ بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاهنّ، فظننّ منه أنه كالمحتسب في ذلك، وكالمرشد للمصلحة، أو لأنهنّ غُلبنَ في أنفسهنّ على سماع النهي لحرارة المصيبة، والله تعالى أعلم. انتهى.
(قَالَتْ) عمرة بنت عبد الرَّحمن (فَزَعَمَتْ) أي: قالت عائشة رضي الله عنها؛ لأن الزعم وإن كان الغالب أن يُستعمل فيما يُشكّ فيه، ولا يُتحقَّق، بل قال بعضهم: هو كناية عن الكذب، إلَّا أنه قد يُستعمل في المحقق
(1)
، وهذا منه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) للرجل لما لَمْ ينتهين ("اذْهَبْ فَاحْثُ) بضمّ المثلّثة، وبكسرها، يقال: حثا يَحْثُو، وَيحْثِي، قال في "المصباح": حثا الرجلُ الترابَ يَحثوه حَثْوأ، وَيحْثيه حَثْيًا، من باب رَمَى لغةٌ: إذا هاله - أي: صبّه - بيده، وبعضهم يقول: قبضه بيده، ثمّ رماه، ومنه:"فاحثوا التراب في وجهه"، ولا يكون إلَّا بالقبض والرمي. انتهى. (فِي أفوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ") وفي رواية:"فاحثِ في أفواههنّ التراَبَ" بحذف "من"، قيل: يؤخذ من هذا أن التأديب يكون بمثل هذا، وهذا إرشاد عظيم قلّ من يتفطّن له.
وقال في "الفتح": قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنهنّ رفعن أصواتهنّ
(1)
راجع: "المصباح" 1/ 253.
بالبكاء، فلما لَمْ ينتهين أمره أن يسدّ أفواههنّ بذلك، وخصّ الأفواه بذلك؛ لأنَّها محلّ النَّوْح، بخلاف الأعين مثلًا. انتهى.
وَيحْتَمِل أن يكون كناية عن المبالغة في الزجر، أو المعنى: أعلمْهنّ أنهنّ خائبات من الأجر المترتّب على الصبر؛ لما أظهرن من الجزع، كما يقال للخائب: لَمْ يَحصُل في يده إلَّا التراب، لكن يُبعِد هذا الاحتمال قولُ عائشة رضي الله عنهما الآتي، وقيل: لَمْ يُرِد بالأمر حقيقته، قال عياض: هو بمعنى التعجيز؛ أي: إنهنّ لا يسكتن إلَّا بسدّ أفواههنّ، ولا يسدّها إلَّا أن تملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الاحتمالات كلها ضعيفة، والصواب أن الحديث على ظاهره من حثو الترب في أفواههنّ على حقيقته؛ إذ لا دليل، ولا داعي إلى صرف الظاهر إلى غير ظاهره، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال: ثم الظاهر أنه كان بكاؤهنّ زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم بدليل أنه كرّره، وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهنّ إن لَمْ يسكتن.
ويحتمل أن يكون مجرّدًا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لِمَنعِهنّ؛ لأنه لا يُقرّ على باطل، ويبعد تمادي الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرّم، وفائدة نهيهنّ عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه، فيفضي بهنّ إلى الأمر المحرّم؛ لضعف صبرهنّ، فَيُستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرّم، كذا في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أمره صلى الله عليه وسلم بذلك مبالغة في إنكار البكاء عليهنّ ومنعهنّ منه، ثم تأوله بعضهم على أنه كان بكاء بنوح وصياح، ولهذا تأكد النهيُ، ولو كان مجرد دمع العين لَمْ ينه عنه لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، وأخبر أنه ليس بحرام، وأنه رحمة، وتأوله بعضهم على أنه كان بكاءً من غير نياحة ولا صوت، قال: ويبعد أن الصحابيات يتمادين بعد تكرار نهيهنّ على محرم، وإنما كان بكاءً مجردًا، والنهي عنه تنزيه وأدبٌ، لا للتحريم، فلهذا أصررن عليه متأولاتٍ. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 4/ 54 - 55.
(2)
"شرح النوويّ" 6/ 236.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يبعد تماديهنّ؛ لأنهنّ في تلك الحالة مغلوبات، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنهما (فَقُلْتُ) للرجل (أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ) وفي رواية النسائيّ: "أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَ الْأَبْعَدِ"، وهو بالراء، والغين المعجمة: أي ألصق الله أنفك بالرغام - بفتح الراء - وهو التراب؛ إهانة، وإذلالًا، ووصفته بـ "الأبعد" لبعده عن الصواب، حيث أحرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بكثرة المراجعة.
وقال في "الفتح": دعت عليه من جنس ما أُمر أن يفعله بالنسوة، لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بكثرة تردّده إليه في ذلك.
وقال الطيبيّ رحمه الله: أي أذلّك الله، فإنك آذيت رسول الله رحمه الله، وما كففتهن عن البكاء، وهذا معنى قولها رضي الله عنها:"إِنَّكَ وَاللهِ، مَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم من العَنَاءِ"؛ أي: التَّعَب.
(وَاللهِ مَا تَفْعَلُ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بحذف متعلّقه؛ أي: ما أمرك به، والمراد لَمْ تفعل على وجه الكمال في الزجر، وإلا فقد قام بالأمر حيث نهاهنّ عن الضجر، قاله القاري.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: أي لَمْ تبالغ في النهي، ونفته، وإن كان قد نهاهن؛ لأنه لَمْ يترتب على نهيه الامتثال، فكأنه لَمْ يفعله، وَيحْتَمِل أن تكون أرادت لَمْ تفعل؛ أي: الحثو بالتراب. انتهى.
(وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ) بفتح المهملة، والنون، والمدّ: أي المشقّة والتعب، وفي الرواية التالية:"من العِيّ" بكسر المهملة، وتشديد التحتانية، ووقع في رواية العُذْريّ "الغَيّ" بفتح المعجمة بلفظ ضدّ الرشد.
ومراد عائشة رضي الله عنها أن الرجل لا يقدر على ذلك، فإذا كان لا يقدر، فقد أتعب نفسه، ومن يخاطبه في شيء لا يقدر على إزالته، ولعل الرجل لَمْ يفهم من الأمر الحتم.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أنك قاصر لا تقوم بما أمرت به من الإنكار لنقصك، وتقصيرك، ولا تخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقصورك عن ذلك حتى يرسل غيرك،
ويستريح من العناء. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2161 و 2162](935)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1299 و 1305 و 4263)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3122)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1847) و"الكبرى"(1974)، و (أحمد) في "مسنده"(23792 و 25831)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2086 و 2087)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن البكاء على الميت، وقد تقدّم أن مثل هذا محمول على ما إذا اشتمل البكاء على المحظور من النوح وقبيح القول والفعل.
2 -
(ومنها): جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" على هذا الحديث بقوله:"باب من جلس عند المصيبة، يُعرَف فيه الحزن"، قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله ما ملخّصه: موقع هذه الترجمة من الفقه أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة، لا يُفْرِطُ في الحزن حتى يقع في المحذور، من اللَّطْم، والشَّقّ، والنَّوْح، وغيرها، ولا يُفَرِّطُ في التجلّد، حتى يفضي إلى القسوة، والاستخفاف بقدر المصاب، فيَقتدِي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، بأن يَجلِس المصاب جلسة خفيفةً بوقار، وسكينة، تظهر عليه مخايل الحزن، وُيؤذن بأن المصيبة عظيمة.
ثم ترجم البخاريّ رحمه الله بعد هذا "باب من لَمْ يُظهِر حزنه عند المصيبة"،
(1)
"شرح النووي" 6/ 237.
وأورد فيه قصة أبي طلحة مع زوجته أم سليم رضي الله عنهما، فقال في "الفتح" عند الكلام على الترجمة الأولى ما نصّه: ولم يفصح المصنف بحكم هذه المسألة، ولا التي بعدها؛ لأن كلًّا منهما قابل للترجيح، أما الأول، فلكونه من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، والثاني من تقريره، وما يباشره بالفعل أرجح غالبًا، وأما الثاني، فلأنه فعل أبلغ في الصبر، وأزجر للنفس، فيرجَّح، ويُحمَل فعلُهُ صلى الله عليه وسلم المذكور على بيان الجواز، ويكون فعله في حقّه في تلك الحالة أَوْلَى. انتهى. وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): جواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب.
4 -
(ومنها): أن المنهيّ عن المنكر إن لَمْ ينتَهِ عُوقب، وأُدّب بذلك، وإلا فالملاطفة فيه أولى إن نفعت.
5 -
(ومنها): جواز اليمين لتأكيد الخبر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2162]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ع) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِى ابْنَ مُسْلِمٍ - كلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعِيِّ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمر بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الحضرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرَّحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، صدوقٌ له أوهام [7](158)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
5 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) النُّكريّ البغداديّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 246)(م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.
6 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سهل التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
7 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ) الْقَسْمليّ، أبو زيد المروزيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، ربّما وَهِمَ [7](ت 167)(خ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 2/ 1183.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (مِنَ الْعِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو معظم نسخ بلادنا هنا "الْعِيّ " بكسر العين المهملة؛ أي: التعب، وهو بمعنى العناء السابق في الرواية الأولى، قال القاضي عياض: ووقع عند بعضهم: "الغَيّ" بالمعجمة، وهو تصحيف، قال: ووقع عند أكثرهم "العناء" بالمد، وهو الذي نسبه إلى الأكثرين خلاف سياق مسلم؛ لأن مسلمًا روى الأول "العناء"، ثم روى الرواية الثانية، وقال إنها بنحو الأولى، إلَّا في هذا اللفظ، فيتعين أن يكون خلافه. انتهى.
[تنبيه]: أما رواية عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد هذه، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(23792)
- حدّثنا ابن نمير، حدّثنا يحيى، عن عمرة، عن عائشة، قالت: لَمّا جاء نعي جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَف في وجهه الحزن، قالت عائشة: وأنا أَطَّلِع من شقّ الباب، فأتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن نساء جعفر، فذكر من بكائهن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهاهنّ، فذهب الرجل، ثم جاء، فقال: قد نهيتهنّ، حمانهن لَمْ يطعنه، حتى كان في الثالثة، فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"احثوا في وجوههنّ التراب"، فقالت عائشة: قلت: أرغم الله بأنفك، والله ما أنت بفاعل ما قال لك، ولا تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما رواية معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، فساقها النسائيّ رحمه الله، فقال:
(1847)
أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا عبد الله بن وهب،
قال: قال معاوية بن صالح: وحدّثني يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: لَمّا أتى نعي زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرَف فيه الحزن، وأنا انظر من صِير الباب، فجاءه رجل، فقال: إن نساء جعفر يبكين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انطلق، فانههنّ"، فانطلق، ثم جاء، فقال: قد نهيتهن، فأبين أن ينتهين، فقال:"انطلق فانههنّ"، فانطلق، ثم جاء، فقال: قد نهيتهن فأبين أن ينتهين، قال:"فانطلق فاحث في أفواههن التراب"، فقالت عائشة: فقلت: أرغم الله أنف الأبعد، إنك والله ما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنت بفاعل. انتهى.
وأما رواية عبد العزيز بن مسلم، عن يحيى، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2163]
(936) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْبَيْعَةِ أَلَّا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ إِلَّا خَمْسٌ: أُمُّ سُلَيْمٍ، وَأُمُّ الْعَلَاءِ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، أَوِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ، وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السختياني، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
4 -
(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 308.
5 -
(أُمُّ عَطِيَّةَ) نُسيبة بالتصغير، ويقال: بالفتح بنت كعب، ويقال: بنت الحارث الأنصاريّ الصحابيّة المشهورة، سكنت البصرة (ع) تقدمت في "صلاة العيدين في 2/ 2054.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدٍ) وقع من طريق عارم، عن حماد، عن أيوب، عن حفصة، بدل محمد، أخرجه الطبرانيّ، قال الحافظ: وله أصل عن حفصة من طريق عبد الوارث، عن أيوب، عنها، رواه البخاريّ في "الإحكام" من "صحيحه"، فكان حمادًا سمعه من أيوب، عن كلّ منهما. انتهى
(1)
.
ويأتي للمصنّف في الرواية التالية من طريق هشام بن حسَّان، عن حفصة، عن أم عطيّة رضي الله عنهما.
(عَنْ أُمُّ عَطِيةَ) نُسيبة بالتصغير، وقيل: بالتكبير بنت كعب، أو بنت الحارث رضي الله عنها (قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْبَيْعَةِ) أي: مع مبايعته لنا على الإسلام وغيره (أَلَّا نَنُوحَ) أي: بأن لا ننوح، فـ "أن" المصدرية الناصبة للمضارع، أُدغمت في لام "لا" النافية، والمعنى: أي لا نرفع أصواتنا بتعداد شمائل الميت، ومحاسن أفعاله، يقال: ناحت المرأة زوجها، وعليه: إذا بكت عليه، وعدّدت محاسنه (فَمَا وَفَتْ) أي: بترك النوح، وهو بتخفيف الفاء، من الوفاء ثلاثيًّا، ويَحْتَمل أن يكون بتشديدها، من التوفية، ويقال أيضًا: أوفى بالهمز، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَفَيتُ بالعهد والوعد أَفِي به وَفَاءً، والفاعل وَفِيٌّ، والجمع أوفياءُ، مثلُ صديق وأصدقاء، وأوفيتُ به إيفاءً، وقد جمعهما الشاعر، فقال:
أمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ
…
كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
وقال أبو زبد: أوفى نذره: أحسن الإيفاء، فجعل الرباعيّ يتعدّى بنفسه، وقال الفارابيّ أيضًا: أوفيته حقّه، ووَفِّيته إياه بالتثقيل، وأوفى بما قال، ووَفَّى بمعنى. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 4/ 68.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 667.
(مِنَّا) أي: من النسوة اللاتي أخذ عليهنّ العهد بعد النوح (امْرَأَةٌ إِلَّا خَمْسٌ: أُمُّ سُلَيْمٍ) بنت ملحان والدة أنس بن مالك رضي الله عنهما، تقدّمت ترجمتها في "الحيض"(7/ 716). (وَأُمُّ الْعَلَاءِ) الأنصارية، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هي من المبايعات، حديثها عند أهل المدينة، ونسبها غيره، فقال: بنت الحارث بن ثابت بن حارثة بن ثعلبة بن الْجُلاس بن أمية بن خُدْرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، يقال إنها والدة خارجة بن زيد بن ثابت الراوي حديثها الشيخان، من رواية الزهريّ، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء الأنصارية، قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى لما افترقت الأنصار، فذكر الحديث
(1)
في قتل عثمان بن مظعون، وفيه أنها رأت لعثمان عينًا جاريةً، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ذلك عمله"، وفي الحديث قولها: شهادتي عليك أبا السائب لقد أكرمك الله. (وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ) بفتح المهملة، وسكون الموحدة (امْرَأَةُ مُعَاذٍ، أَوِ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ، وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ) شكٌّ من أحد رواته، هل ابنة أبي سبرة هي امرأة معاذ، أو غيرها؛ وكذلك وقع الشكّ أيضًا عند البخاريّ من رواية حفصة، عن أم عطية. قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر لي أن الرواية بواو العطف أصحّ؛ لأن امرأة معاذ، وهو ابن جبل هي أم عمرو بنت خلاد بن عمرو السَّلَميّة، ذكرها ابن سعد، فعلى هذا فابنة أبي سبرة غيرها، ووقع في "الدلائل" لأبي موسى، من طريق حفصة، عن أم عطية:"وأمُّ معاذ" بدل قوله: "وامرأة معاذ" وكذا في رواية عارم، لكن لفظه:"أو أم معاذ بنت أبي سبرة"
(1)
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": عن الزهريّ، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء، وهي امرأة من نسائهم، بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، فاشتكى، فمرَّضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، قال:"وما يدريك؟ " قلت: لا أدري والله، قال:"أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي ولا بكم"، قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحدًا بعده، قالت: ورأيت لعثمان في النوم عينًا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"ذاك عمله يجري له".
وفي الطبرانيّ من رواية ابن عون، عن ابن سيرين، عن أم عطية:"فما وَفَت غير أم سليم، وأم كلثوم، وامرأة معاذ بن أبي سبرة"، كذا فيه، والصواب ما في "الصحيح":"امرأة معاذ، وبنت أبي سبرة"، ولعل بنت أبي سبرة يقال لها: أم كلثوم، وإن كانت الرواية التي فيها "أم معاذ" محفوظةً، فلعلها أم معاذ بن جبل، وهي هند بنت سهل الجهنية، ذكرها ابن سعد أيضًا.
قال: وعُرِف بمجموع هذه الروايات النسوة الخمس، وهي أم سليم، وأم العلاء، وأم كلثوم، وأم عمرو، وهند إن كانت الرواية محفوظةً، وإلا فيختلج في خاطري أن الخامسة
(1)
هي أم عطية، راوية الحديث، ثم وجدت ما يؤيِّده من طريق عاصم، عن حفصة، عن أم عطية، بلفظ:"فما وفت غيري، وغير أم سليم"، أخرجه الطبراني أيضًا، ثم وجدت ما يَرُدّه، وهو ما أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده"، من طريق هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية، قالت: "كان فيما أُخذ علينا أن لا ننوح
…
" الحديث، فزاد في آخره: "وكانت لا تعدُّ نفسها"؛ لأنها لما كان يوم الحرّة لم تزل النساء بها، حتى قامت معهنّ، فكانت لا تَعُدّ نفسها لذلك.
قال: ويُجمَع بأنها تركت عدّ نفسها من يوم الحرَّة.
ويوم الحرّة قُتِل فيه من الأنصار مَن لا يحصى عدده، ونُهِبت المدينة الشريفة، وبُذِل فيها السيف ثلاثة أيام، وكان ذلك في أيام يزيد بن معاوية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم عطيّة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(1)
وتعقّب العينيّ كلام الحافظ هذا، في "عمدة القاري" 8/ 106 وقال: هذا قول بالتخمين، والمعتمد ما وقع في "الصحيح"، والذي وقع فيه أن الخمس:"هنّ أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى"، هذا حاصل ما اعترض به.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2163 و 2164](936)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1306) و"التفسير"(4892) و"الأحكام"(7215)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3127)، و (النسائيّ) في "البيعة"(4182)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 85 و 408)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2088 و 2089)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم النَّوْح، وعظم قبحه، والاهتمام بإنكاره، والزجر عنه؛ لأنه مُهَيِّجٌ للحزن، ودافع للصبر، وفيه مخالفة للتسليم للقضاء، والإذعان لأمر الله تعالى.
2 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة العناية والاهتمام بأمور الشريعة، ولا سيّما المناهي، فكان يبايع عليه الرجال والنساء، تأكيدًا، وتثبيتًا في قلوبهم.
3 -
(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم إنما خصّ في بيعة النساء عدم النوح دون الرجال، وإن كان النهي عامًّا؛ لخفّة عقلهنّ، وشدّة جزعنّ، وقلّة صبرهن على المصائب، فيكثر منهنّ النوح، فشدّد عليهن لذلك، ولذلك قالت أم عطيّة رضي الله عنها:"فما وفت منهنّ امرأة إلا خمس"، وما ذلك إلا لصعوبته عليهن، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن فيه بيان مِصداق ما وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنهن ناقصات عقل ودين.
5 -
(ومنها): بيان فضيلةٍ ظاهرةٍ للنسوة الخمس المذكورات، حيث وفين بما بايعن عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الموت.
قال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث: لم يف ممن بايع النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه النسوة إلا المذكورات، لا أنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2164]
(
…
) - (حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَسْبَاطٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْعَةِ أَلَّا تَنُحْنَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا غَيْرُ خَمْسٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [10](238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(أَسْبَاطُ) بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة القرشيّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [9](ت 200)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1354.
3 -
(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ الْقُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(حَفْصَةُ) بنت سيرين، أم الْهُذيل الأنصاريّ البصريّة، أخت محمد بن سيرين، ثقةٌ [3] ماتت بعد المائة (ع) تقدمت في "صلاة العيدين" 2/ 2055.
و"أمّ عطيّة" ذُكرت قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2165]
(937) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} إلى قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] قَالَتْ: كَانَ مِنْهُ النِّيَاحَةُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا آلَ فُلَانٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيةِ، فَلَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِلَّا آلَ فُلَانٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا أيضًا.
3 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصل؛ لما أسلفته غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثاني ما أخرج لهما الترمذيّ، والثالث ما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين من عاصم، وأبو بكر، وأبو معاوية كوفيّان، وزهير نسائيّ، ثم بغداديّ، وإسحاق مروزيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) إشارة لقوله تعالى: ({يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} إلى قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قَالَتْ) أم عطيّة رضي الله عنها (كَانَ مِنْهُ) أي: مما بايعنا عليه النبيّ من عدم العصيان في معروف (النِّيَاحَةُ) تعني: أنه صلى الله عليه وسلم بايعهنّ على أن لا يعصينه بالنياحة (قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا آلَ فُلَانٍ) قال الحافظ رحمه الله: لم أعرف آل فلان المشار إليهم، وفي رواية النسائيّ:"قلت: إن امرأة أسعدتني في الجاهليّة"، قال: ولم أقف على اسم المرأة (فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي) الإسعاد هو قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تُراسلها، وهو خاصّ بهذا المعنى، ولا يُستَعمل إلا في البكاء، والمساعدة عليه، ويقال: إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه عند التعاون على ذلك، قاله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 10/ 690 - 691.
ومعنى ذلك: أنه كان نساء الجاهليّة يُسعدُ بعضهنّ بعضًا على النياحة، فحينما بايعهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على ترك النياحة، قالت أمّ عطيّة: إنها ساعدتها امرأة في النياحة، فلا بدّ لها من مساعدتها على ذلك، قضاءً لحقّها، ثم لا تعود، فرخّص لها النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك قبل المبايعة، ففعلت، ثم بايعت، وهذا الترخيص خاصّ بها رضي الله عنها على الراجح، كما يأتي في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أي: في الأيام التي كانت قبل الإسلام (فَلَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُسْعِدَهُمْ) أي: أكافئهم على إسعادهم (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِلَّا آلَ فُلَانٍ") هذا فيه تصريح بإذنه صلى الله عليه وسلم لها بالإسعاد، فيُحْمَل على أنه من خصوصيّات أم عطيّة رضي الله عنها، كما أنه صلى الله عليه وسلم استثنى بعض النساء كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق رضي الله عنهما هذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم عطيّة لهذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2165](937)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4892)، و (النسائيّ) في "البيعة"(4181 و 4182) و"الكبرى"(7802 و 7803)، و (أحمد) في "مسنده"(20267)، و (أبو نعيم) في "مسنده"(2090)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة مبايعة النساء.
2 -
(ومنها): بيان تحريم النوح، وبيان عظيم قبحه، والاهتمام بإنكاره، والزجر عنه.
3 -
(ومنها): تخصيص النبيّ صلى الله عليه وسلم لأم عطية رضي الله عنها بالمساعدة بالنياحة، وكذا ثبت الترخيص لغيرها أيضًا، كما سياْتي في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): أن للشارع أن يخصّ بعض المكلّفين بترخيص بعض الأحكام في حقّه، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رخّص لأبي بُردة بن نيار رضي الله عنه أن يُضحّي بِجَذَعَة، وقال:"لن تجزي عن أحد بعدك"، وكذا ثبت الترخيص لعقبة بن عامر رضي الله عنه، كما سيأتي تحقيق ذلك في "كتاب الأضاحي" -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في تأويل هذا الحديث: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث محمولٌ على أن الترخيص لأمّ عطيّة في آل فلان خاصّة، ولا تحلّ النياحة لها، ولا لغيرها في غير آل فلان، كما هو ظاهر الحديث، وللشارع أن يخُصّ من العموم من شاء بما شاء، فهذا صواب الحكم في هذا الحديث. قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظرٌ إلا أن ادّعى إن الذين ساعدتهم لم يكونوا أسلموا، وفيه بُعدٌ، وإلا فليدّعِ مشاركتهم لها في الخصوصيّة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كونهم مشاركين لها في الخصوصيّة ظاهر، لا شكّ فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أذن لها أن تساعدهم، لا يمكن ذلك إلا بجواز ذلك لهم معها، والله تعالى أعلم.
ثم قال النوويّ: واستشكل القاضي عياض، وغيره هذا الحديث، وقالوا فيه أقوالًا عجيبة، وَمَقْصُودِي التَّحْذِير مِنْ الاغْتِرَار بِهَا، فَإِنَّ بَعْض الْمَالِكِيَّة قَالَ: النِّيَاحَة لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، لِهَذَا الْحَدِيث، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّم مَا كَانَ مَعَهُ شَيْء مِنْ أَفْعَال الْجَاهِلِيَّة، مِنْ شَقّ جَيْب، وَخَمْش خَدّ، وَنَحْو ذَلِكَ، قَالَ: وَالصَّوَاب مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَأَنَّ النَّيَاحَة حَرَام مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: وَقَدْ نُقل عَنْ غَيْر هَذَا الْمَالِكِيّ أَيْضًا أَنَّ النِّيَاحَة لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَهُوَ شَاذّ مَرْدُود، وَقَدْ أَبْدَاهُ الْقُرْطُبِيّ احْتِمَالًا، وَرَدَّهُ بِالأَحَادِيثِ الْوَارِدَة فِي الْوَعِيد عَلَى النِّيَاحَة، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى شِدَّة التَّحْرِيم، لَكِنْ لا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون النَّهْي أَوَّلًا وَرَدَ بِكَرَاهَةِ التَّنْزِيه، ثُمَّ لَمَّا تَمَّتْ مُبَايَعَة النِّسَاء، وَقَعَ التَّحْرِيم،
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 238.
فَيَكُون الإِذْن لِمَنْ ذُكِرَ وَقَعَ فِي الْحَالَة الْأُولَى؛ لِبَيَانِ الْجَوَاز، ثُمَّ وَقَعَ التَّحْرِيم، فَوَرَدَ حِينَئِذٍ الْوَعِيد الشَّدِيد.
وَقَدْ لَخَصَّ الْقُرْطُبِيّ رحمه الله بَقِيَّة الأَقَاوِيل الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّوَوِيّ رحمه الله:
[مِنْهَا]: دَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ قَبْل تَحْرِيم النِّيَاحَة، قَالَ: وَهُوَ فَاسِد لِمَسَاقِ حَدِيث أُمّ عَطِيَّة هَذَا، وَلَوْلا أَنَّ أُمّ عَطِيَّة فَهِمَتْ التَّحْرِيم لَمَا اسْتَثْنَتْ.
قال الحافظ: ويُؤَيِّدهُ أَيْضًا أَنَّ أُمّ عَطِيَّة صَرَّحَتْ بِأَنَّهَا مِنَ الْعِصْيَان فِي الْمَعْرُوف، وَهَذَا وَصْف الْمُحَرَّم.
[وَمِنْهَا]: أَن قَوْله: "إِلَّا آلَ فُلَان" لَيْسَ فِيهِ نَصّ عَلَى أَنَّهَا تُسَاعِدهُمْ بِالنِّيَاحَةِ، فَيُمْكِن أَنَّهَا تُسَاعِدهُمْ بِاللِّقَاءِ، وَالْبُكَاء الَّذِي لَا نِيَاحَة مَعَهُ، قَالَ: وَهَذَا أَشْبَه مِمَّا قَبْله.
قال الحافظ رحمه الله: بَلْ يَرُدّ عَلَيْهِ وُرُود التَّصْرِيح بِالنِّيَاحَةِ، كَمَا سَأَذْكُرُهُ، وَيَرُدّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اللِّقَاء، وَالْبُكَاء الْمُجَرَّد لَمْ يَدْخُل فِي النَّهْي، فَلَوْ وَقَعَ الاقْتِصَار عَلَيْهِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْخِير الْمُبَايَعَة حَتَّى تَفْعَلهُ.
[وَمِنْهَا]: أنه يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَعَادَ "إِلَّا آلَ فُلَان" عَلَى سَبِيل الإِنْكَار، كَمَا قَالَ لِمَنْ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ:"مَنْ ذَا؟ "، فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ:"أَنَا أَنَا". فَأَعَادَ عَلَيْهِ كَلَامه مُنْكِرًا عَلَيْهِ.
وتُعقّب بأنه يَرِدُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّل.
[وَمِنْهَا]: أَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِأُمِّ عَطِيَّة، قَالَ: وَهُوَ فَاسِد، فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصّ بِتَحْلِيلِ شَيْء مِنْ الْمُحَرَّمَات. انتهى.
قال الحافظ: وَيَقْدَح فِي دَعْوَى تَخْصِيصهَا أَيْضًا ثُبُوت ذَلِكَ لِغَيْرِهَا، ويُعْرَف مِنْهُ أَيْضًا الْخَدْش فِي الأَجْوِبَة الْمَاضِيَة. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْن مَرْدَوَيْهِ، مِنْ حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: "لَمَّا أَخَذَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم علَى النِّسَاء، فَبَايَعَهُنَّ {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، الآيَة [الممتحنة: 12]، قَالَتْ خَوْلَة بِنْت حَكِيم: يَا رَسُول الله
كَانَ أَبِي وَأَخِي، مَاتَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَإِنَّ فُلَانَة أَسْعَدَتْنِي، وَقَدْ مَاتَ أَخُوهَا" الْحَدِيث.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق شَهْر بْن حَوْشَبٍ، عَنْ أُمّ سَلَمَة الأَنْصَارِيَّة، وَهِيَ أَسْمَاء بِنْت يَزِيد، قَالَتْ:"قُلْت: يَا رَسُول الله، إِنَّ بَنِي فُلَان أَسْعَدُونِي عَلَى عَمِّي، وَلَا بُدّ مِنْ قَضَائِهِنَّ، فَأَبَى، قَالَتْ: فَرَاجَعْته مِرَارًا، فَأَذِنَ لِي، ثمَّ لَمْ أَنُحْ بَعْد".
وَأَخْرَجَ أَحْمَد، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق مُصْعَب بْن نُوح، قَالَ: أَدْرَكْت عَجُوزًا لَنَا، كَانَتْ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: فَأَخَذَ عَلَيْنَا: "وَلَا يَنُحْنَ"، فَقَالَت عَجُوز: يَا نَبِيّ الله، إِنَّ نَاسًا كَانُوا أَسْعَدُونَا عَلَى مَصَائِب أَصَابَتْنَا، وَإِنَّهُمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة، فَأَنَا أُرِيد أَنْ أُسْعِدهُمْ، قَالَ:"فَاذْهَبِي، فَكَافِئِيهِمْ"، قَالَتْ: فَانْطَلَقْت فَكَافَأْتهمْ، ثُمَّ إِنَّهَا أَتَتْ فَبَايَعَتْهُ.
قال الحافظ: وَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلّه أَنَّ أَقْرَب الأَجْوِبَة، أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَة، ثُمَّ كُرِهَتْ كَرَاهَة تَنْزِيه، ثُمَّ تَحْرِيم. وَالله أَعْلَم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجحه الحافظ أخيرًا حسن، ولكنّ ما تقدّم عن النوويّ رحمه الله أحسن منه، وخلاصته أنه صلى الله عليه وسلم رخّص لهؤلاء النساء: أم عطيّة، وغيرها، من اللاتي طلبن منه استثناء المساعدات مكافأةً لما مضى، فخصّهنّ بذلك، فهذا جواب لا غبار عليه، وقد مرّ آنفًا أنه صلى الله عليه وسلم رخّص لأبي بردة في التضحّية بجَذَعة، وكذا لعقبة بن عامر، إن كان محفوظًا، كما سيأتي تحقيقه في "كتاب الأضاحي" -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 10/ 691 - 692.
(11) - (بَابُ نَهْيِ النِّسَاءِ عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2166]
(938) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم قبل باب.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وأيوب هو: السختيانيّ، وكذلك مضى لطائف الإسناد.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) أنه (قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ) رضي الله عنها: (كُنَّا نُنْهَى) بالبناء للمفعول (عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ) أي: ما زلنا على النهي بدليل قولها في رواية حفصة التالية: "نُهِينا عن اتّباع الجنائز"، قال في "الفتح": ورواه يزيد بن أبي حكيم، عن الثوريّ، بلفظ:"نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أخرجه الإسماعيليّ، وفيه ردّ على من قال: لا حجة في هذا الحديث؛ لأنه لم يُسَمَّ الناهي فيه؛ لما رآه الشيخان وغيرهما أن كل ما ورد بهذه الصيغة كان مرفوعًا، وهو الأصح عند غيرهما من المحدثين، ويؤيِّد رواية الإسماعيليّ ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، عن جدّته أم عطية، قالت: لَمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جَمَع النساء في بيت، ثم بَعَث إلينا عمر، فقال: "إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكنّ، بعثني إليكنّ لأبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئًا
…
" الحديث، وفي آخره: "وأمرنا أن نُخرج في العيد العواتق، ونهانا أن
نخرج في جنازة"، وهذا يدلّ على أن رواية أم عطية الأولى من مرسل الصحابة.
وقولها: (وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا) بالبناء للمفعول؛ أي: ولم يُؤَكَّد علينا في المنع، كما أكَّد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كُرِه لنا اتّباعُ الجنائز من غير تحريم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "ولم يُعزَم علينا"؛ أي: لم يُحَرَّم علينا، ولم يُشدَّد علينا، وظاهر كلامها أنهنّ نُهين عن ذلك نهي تنزيه وكراهة، وإلى منع ذلك صار جمهور العلماء؛ لهذا المعنى، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"ارجعن مأزورات، غير مأجورات"
(1)
، وإليه ذهب ابن حبيب، وكرهه مالك للشابّة، وفي الأمر المستنكر، وأجازه إذا لم يكن ذلك، وأجازه علماء المدينة؛ لقولها:"ولم يُعزم علينا". انتهى
(2)
.
قال في "الفتح" بعد نقل كلام القرطبيّ المذكور: ويدلُّ على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، فرأى عُمرُ امرأةً، فصاح بها، فقال: "دَعْها يا عمر
…
" الحديث، وأخرجه ابن ماجه، والنسائيّ من هذا الوجه، ومن طريق أخرى، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سلمة بن الأزرق، عن أبي هريرة، ورجاله ثقات.
وقال المهلَّب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع على درجات، وقال الداوديّ: قولها: "نهينا عن اتّباع الجنائز" أي: إلى أن نصل إلى القبور، وقولها:"ولم يُعْزم علينا" أي أن لا نأتي أهل الميت، فنُعَزِّيهم، ونترحم على ميتهم، من غير أن نتبع جنازته. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وفي أخذ هذا التفصيل من هذا السياق نظرٌ، نعم هو في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة مقبلةً،
(1)
أخرجه ابن ماجه، وهو ضعيف؛ لأن في سنده إسماعيل بن سلمان، قال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال النسائيّ: متروك الحديث، وضعّفه غيرهما.
(2)
"المفهم" 2/ 591 - 592.
فقال: "من أين جئت؟ " فقالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم، فقال:"لعلك بلغت معهم الْكُدَى؟ "، قالت: لا
…
الحديث
(1)
، أخرجه أحمد، والحاكم، وغيرهما، فأَنكَر عليها بلوغ الْكُدَى، وهو بالضم، وتخفيف الدال المقصورة، وهي المقابر، ولم يُنكِر عليها التعزية.
وقال المحب الطبريّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون المراد بقولها: "ولم يعزم علينا"؛ أي: كما عُزِم على الرجال بترغيبهم في اتّباعها بحصول القيراط، ونحو ذلك، والأول أظهر، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"
(2)
، وهو بحث نفيسٌ.
والحاصل أن الراجح في معنى قولها: "ولم يُعزم علينا" هو المعنى الأول، وهو أن نهيه صلى الله عليه وسلم لنا عن اتّباع الجنائز ليس مؤكّدًا كتأكّد سائر المنهيّات التي ذُكرت في تلك البيعة وهي التي اشتملت عليها آية:{إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} الآية [الممتحنة: 12]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده": (6538) من طريق سعيد بن أبي أيوب، حدثنا ربيعة بن سيف المعافريّ، عن أبي عبد الرحمن الحبليّ، عن عبد الله بن عمرو، قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله إذ بصر بامرأة، لا نظنّ أنه عرفها، فلما توجهنا الطريق، وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم-رضي الله عنها، فقال:"ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟ " قالت: أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم، وعزَّيتهم، فقال:"لعلك بلغت معهم الْكُدَى؟ " قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، قال:"لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جدّ أبيك". انتهى. وأخرجه أبو داود، والنسائيّ، وقال النسائيّ: ربيعة بن سيف ضعيف، وقال البخاريّ: عنده مناكير، ووثقه العجليّ، وابن حبّان، وقال: يُخطئ كثيرًا، وقال النسائي في رواية: ليس به بأس، وقال الدارقطنيّ: صالح.
والحاصل أن ربيعة هذا مختلف فيه، وضعّف الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
(2)
"الفتح" 4/ 18 - 19.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم عطيّة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف هنا [11/ 2166 و 2167] (938)، و (البخاريّ) في "الحيض"(313) و"الجنائز"(1278)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3167)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1577)، و (عبد الرزاق) في "مصنفه"(3/ 454)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 482)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 408)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2090)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 216 - 217)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 53)، و"الأوسط"(2/ 63)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 77)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم اتّباع النساء الجنائز: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في ذلك، فممن روينا عنه أنه كره اتّباعهنّ الجنائز ابن مسعود، وابن عمر، وعائشة، وأبوأمامة، وكَرِه ذلك مسروقٌ، والحسن، والنخعيّ، وأحمد، وإسحاق، وكان الأوزاعيّ يرى منع النساء الخروج مع الجنائز، وقد ذُكِر عن عبد الجبّار بن عمر أنه كان في جنازة مع أبي الزناد، وربيعة، ومعهم فيها نساء، قال: فلم أرهما ينكران شهود النساء الجنائز يومئذ، وحُكي عن الزهريّ أنه لم ينكر ذلك، ورُوي عن الحسن البصريّ أنه كان لا يرى بأسًا أن تصلي النساء على الجنازة، وهنّ على الدوابّ من غير علّة، وكان مالك لا يرى بذلك بأسًا، وكره ذلك لنسائه.
قال ابن المنذر رحمه الله: أما الذين كرهوا حضور النساء الجنائز، فلعلّ من حجتهم حديث أم عطيّة رضي الله عنها، بل قد احتجّ به بعضهم.
ثم ساق ابن المنذر رحمه الله لمن رخّص في ذلك، فقال: حدّثنا إسماعيل بن قتيبة، قال: حدّثنا أبو بكر
(1)
، قال: حدثنا وَكِيعٌ، عن هِشَام بن عُرْوَةَ، عن وَهْبِ بن كَيْسَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بن عَمْرٍو بن عَطَاءٍ، عن أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان في جِنَازَةٍ، فَرَأَى عُمَرُ امرأةً، فَصَاحَ بها، فقال له
(1)
هو: ابن أبي شيبة، هكذا ساقه في "مصنّفه" 2/ 282.
رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهَا يا عُمَرُ، فإن الْعَيْنَ دامعةٌ، وَالنَّفْسَ مُصَابَةٌ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ"
(1)
.
قال ابن المنذر رحمه الله: وقد روينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة: "صلاتك في بيتك يخر من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك"، فإذا كان هذا سبيلها في الصلاة، وقد أُمرن بالتستّر، فالقعود من الجنائز أولى بهنّ وأستر، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن ما ذهب إليه الجمهور من كراهة اتّباع النساء الجنائز هو الأرجح؛ لحديث أم عطيّة رضي الله عنها المذكور في الباب، وأما القول بتحريمه، ففيه نظر؛ لهذا الحديث، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصّة عمر رضي الله عنه، فإنه صريح في الدلالة على الجواز.
والحاصل أنه يكره اتّباعهنّ الجنائز؛ لما ذكرناه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2167]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، تقدّم قبل باب.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
(1)
هذا الحديث رجاله ثقات، بل هم من رجال الصحيح، وقد ضعّفه بعضهم، ولا أدري سببه، وقوّاه الحافظ في "الفتح".
(2)
"الأوسط" 5/ 387 - 389.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"هشام" هو: ابن حسّان القردوسيّ.
والحديث متّفقٌ عليه، ومضى البحث فيه مستوفى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(12) - (بَابٌ فِي غَسْلِ الْمَيْتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2168]
(939) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي"، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل البصرة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) وفي رواية للبخاريّ، من طريق ابن جُريج، عن أيوب، سمعت ابن سيرين، وقد رواه أيوب أيضًا عن حفصة بنت سيرين، كما سيأتي بعد حديثين، ومدار حديث أم عطيّة على محمد، وحفصة، ابني سيرين، وحفظت منه حفصة ما لم يحفظه محمد، كما سيأتي مبيّنًا.
قال ابن المنذر رحمه الله: ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطيّة، وعليه عَوَّلَ الأئمّة. انتهى.
(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) رضي الله عنها، وفي رواية ابن جريج:"جاءت أم عطية"، امرأة من الأنصار اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت البصرة، تُبَادر ابنًا لها، فلم تُدركه.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا الابن ما عَرفتُ اسمه، وكأنه كان غازيًا، فقَدِمَ البصرة، فبلغ أم عطيّة، وهي بالمدينة قُدومه، وهو مريض، فرَحَلت إليه، فمات قبل أن تلقاه، ودلّت بعض الروايات أن قدومها كان بعد موته بيوم، أو يومين انتهى.
(قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ) وفي الرواية الآتية: "قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفّيت ابنته
…
" قال في "الفتح": ويُجْمَع بينهما بأن المراد أنه دخل حين شرع النسوة في الغسل. وفي رواية خالد الحذّاء، عن حفصة الآتية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمرها أن تغسل ابنته
…
"، وفي رواية النسائيّ من طريق هشام بن حسّان، عن حفصة أن مجيئهنّ إليها كان بأمره صلى الله عليه وسلم، ولفظه: ماتت إحدى بنات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا، فقال: "اغسلنها
…
".
ويُجمع بأنه صلى الله عليه وسلم أمرها ونسوة سواها أن يغسلن ابنته، فدخلن للغسل، فأتاهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودخل عليهنّ في مكان الغسل، وقال لهنّ ما قال، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله: "ابنته" سيأتي من رواية عاصم الأحول، عن حفصة أنها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في "الفتح": لم تقع في شيء من رواية البخاريّ
مسماة، والمشهور أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع، والدة أُمَامة التي تقدّم ذكرها في "الصلاة"، وهي أكبر بنات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت وفاتها فيما حكاه الطبريّ في "الذيل" في أول سنة ثمان، وقد وردت مسماة في هذا عند مسلم، من طريق عاصم الأحول، عن حفصة، عن أم عطيّة، قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها
…
"، فذكر الحديث.
قال الحافظ: ولم أرها في شيء من الطرق، عن حفصة، ولا عن محمد مسماة إلا في رواية عاصم هذه، وقد خولف في ذلك، فحَكَى ابن التين، عن الداوديّ الشارح، أنه جزم بان البنت المذكورة أم كلثوم، زوج عثمان، ولم يذكر مستنده، وتعقّبه المنذريّ بأن أم كلثوم توفيت، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ببدر، فلم يشهدها، وهو غلط منه، فإن التي توفيت حينئذ رُقَيَّة.
وعزاه النوويّ، تبعًا لعياض لبعض أهل السير، وهو قصور شديد، فقد أخرجه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الوهّاب الثقفيّ، عن أيوب، ولفظه:"دخل علينا، ونحن نغسل ابنته، أم كلثوم"، وهذا الإسناد على شرط الشيخين، وفيه نظر.
وكذا وقع في "المبهمات" لابن بشكوال، من طريق الأوزاعيّ، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية، قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم
…
الحديث، وقرأت بخطّ مغلطاي: زعم الترمذيّ أنها أم كلثوم، وفيه نظر، كذا قال، ولم أر في الترمذيّ شيئًا من ذلك.
وقد رَوَى الدُّولابي في "الذرية الطاهرة" من طريق أبي الرجال، عن عمرة، أن أم عطية كانت ممن غسل أم كلثوم، ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
فيمكن ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعددة، ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما جميعًا، فقد جزم ابن عبد البرّ رحمه الله في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: طريق الجمع أولى من الترجيح؛ إذ فيه العمل بالحديثين، بخلاف الثاني، فإن فيه إلغاءَ أحدهما، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال الحافظ رحمه الله: ووقع لي من تسمية النسوة اللاتي حضرن معها -يعني أم عطيّة- ثلاث غيرها، ففي "الذرّيّة الطاهرة" أيضًا من طريق
أسماء بنت عُمَيس أنها كانت ممن غسلها، قالت: ومعنا صفيّة بنت عبد المطّلب، ولأبي داود من حديث ليلى بنت قَانِف -بقاف، ونون، وفاء- الثقفيّة، قالت: كنت فيمن غسلها، وروى الطبرانيّ من حديث أم سلمة شيئًا يومئ إلى أنها حضرت ذلك أيضًا. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("اغْسِلْنَهَا) قال ابن بزيزة رحمه الله: استُدِلّ به على وجوب غسل الميت، وهو مبنيّ على أن قوله فيما بعدُ:"إن رأيتنّ ذلك" هل يرجع إلى الغسل، أو العدد؟ والثاني أرجح، فثبت الْمُدَّعَى.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: لكن قوله: "ثلاثًا" ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقّف الاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد؛ لأن قوله:"ثلاثًا" غير مستقلّ بنفسه، فلا بدّ أن يكون داخلًا تحت صيغة الأمر، فيراد بلفظ الأمر الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، والندب بالنسبة إلى الإيتار. انتهى. وقواعد الشافعية لا تأبى ذلك، ومن ثمّ ذهب الكوفيون، وأهل الظاهر، والمزنيّ إلى إيجاب الثلاث، وقالوا: إن خرج منه شيء بعد ذلك يغسل موضعه، ولا يعاد غسل الميت، وهو مخالف لظاهر الحديث، وجاء عن الحسن مثله، أخرجه عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، قال: يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء بعدُ فخمسًا، فإن خرج منه شيء غسل سبعًا، قال هشام: وقال الحسن: يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء غسل ما خرج، ولم يُزد على ثلاث. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الكوفيون، والظاهرية، والمزني من وجوب غسل الثلاث، وإن خرج منه شيء يُغسل، ولا يعاد الغسل هو الذي يظهر لي؛ لظاهر حديث الباب، وأما القول بإعادة الغسل فيما إذا خرج منه شيء، فمما لا دليل عليه، بل الظاهر أن يغسل الخارج فقط، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا) وفي رواية عاصم، عن حفصة الآتية:"اغسلنها وترًا، ثلاثًا، أو خمسًا"، و"أو" هنا للتنويع، والنصّ على الثلاث، أو الإشارة
(1)
"الفتح" 3/ 705 - 706.
إلى المستحبّ الإيتار، ألا يُرى أنه نقلهنّ من الثلاث إلى الخمس دون الأربع، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد اغسلنها وترًا، وليكن ثلاثًا، فإن احتجتن إلى زيادة، فخمسًا، وحاصله أن الإيتار مطلوب، والثلاث مستحبّة، فإن حصل الإنقاء بها لم يُشْرَع ما فوقها، وإلا زيد وترًا، حتى يحصل الإنقاء، والواجب من ذلك مرة واحدة عامّة للبدن. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت أن الراجح وجوب الثلاث؛ للأمر به في هذا الحديث، فتنبّه.
(أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ) بكسر الكاف؛ لأنه خطاب للمؤنّث؛ إذ القاعدة العربية أن يُجعل أول الكلام لمن يُسأل عنه، وآخره لمن يخاطبه، فيقول: كيف ذلك الرجل يا امرأة، وكيف تلك المرأة يا رجل، قاله ابن الملقّن رحمه الله
(2)
.
وفي رواية أيوب، عن حفصة الآتية:"اغسلنها وترًا ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا".
قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في شيء من الروايات بعد قوله: "سبعًا" التعبير بأكثر من ذلك إلا في رواية لأبي داود، وأما ما سواها، فإما "أو سبعًا"، وإما "أو أكثر من ذلك"، فيَحْتَمِل تفسير قوله:"أو أكثر من ذلك" بالسبع، وبه قال أحمد، فكره الزيادة على السبع، وقال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا قال بمجاوزة السبع، وساق من طريق قتادة، أن ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطيّة، ثلاثًا، وإلا فخمسًا، وإلا فأكثر، قال: فرأينا أن أكثر من ذلك سبعٌ، وقال الماورديّ: الزيادة على السبع سَرَف. وقال ابن المنذر: بلغني أن جسد الميت يسترخي بالماء، فلا أحبّ الزيادة على ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأقوال كلها مخالفة للنصّ الصحيح الصريح في الزيادة على السبع، إن دعت الحاجة إليها، فإن رواية:"ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا، أو أكثر من ذلك" صحيحة، أخرجها المصنّف بعد حديثين،
(1)
"عمدة القاري" 8/ 58.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 429.
والبخاريّ برقم [1258]، وغيرهما، فلا التفات إلى خلاف من خالفها، فإن السنّة إذا صحّت فهي الحجة برأسها، وإن خالفها الجلّ، إلا لدليل ينسخها، أو يُقَدّم عليها، وليس هنا شيء من ذلك، فوجب المصير إليها.
وقد ترجم النسائيّ رحمه الله ترجمة خاصّة بمشروعية الزيادة في الغسل على السبعة، فقال:[34]"غسل الميت أكثر من سبعة"، واستدلّ بالزيادة المذكورة في هذه الرواية، فللَّه درّه، ما أحسن استنباطه رحمه الله تعالى!!!.
وأما قول الحافظ وتبعه العينيّ: لم أر التعبير بقوله: "أكثر من ذلك" بعد قوله: "أو سبعًا" إلخ، فهو سهو منهما، فقد عرفت أن التعبير به ثابت في "الصحيحين"، فتنبّه والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ) قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: وأتى صلى الله عليه وسلم بالنون الثقيلة لجماعة النساء من حيث إن الغسل لا يتعاطاه إلا جماعة منهنّ، لكن نظرًا للمصلحة الشرعية قد يكون لواحدة منهنّ، فحسن جمعهنّ في الرواية، وإفراد أم عطيّة في الخطاب.
قال: ومعنى "إن رأيتنّ" أي: إن رأيتنّ الزيادة في العدد، وعند الاحتياج، وليس معناه التخيير والتفويض إلى شهوتهنّ، وقيل: معناه إن رأيتنّ الغسل، وما أبعده، وبنى المالكية على ذلك منهم المازريّ الخلاف عندهم في وجوب الغسل، فمن قال بالثاني قال: إن غسله سنة، ومن قال بالأول قال: إنه واجب، وهذا مبنيّ على الخلاف في أن التقييد، والاستثناء، والشرط إذا تعقب جُمَلًا، هل يعود إلى جميعها، إلا ما أخرجه الدليل، أو إلى أقربها؟
وتعجّب بعضهم من النوويّ في نقله الإجماع على أن غسل الميت فرض كفاية، فإن الخلاف فيه عندهم، حكاه المازريّ وغيره، وقال القرطبيّ: الأولى أنه سنّة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كونه فرضًا هو الحقّ، كما هو قول الجمهور؛ لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو للوجوب عند عدم الصارف، كما هنا، والله تعالى أعلم.
قال: وليس عند مالك، وبعض أصحابه في غسل الميت تحديد بعدد
معيّن، ولكن يُنقّى الميت، ولا يُقْتَصر مع ذلك على ما دون الثلاث، فإن احتيج إلى الزيادة استحبّ الوتر، وليس لذلك عنده حدّ.
قال القاضي عياض: وإلى هذا يرجع قول الشافعيّ وغيره من العلماء، وكذا إذا احتاج الغاسل إلى أكثر من ذلك؛ لقوله:"إن رأيتنّ ذلك"، ونحا أحمد، وإسحاق إلى أن لا يزاد على سبع، والرواية التي أسلفناها تردّ ذلك. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن القول بالزيادة على السبع إذا احتيج إليه هو الصواب؛ لما تقدم من رواية الشيخين وغيرهما: "أو سبعًا، أو أكثر من ذلك"، والله تعالى أعلم.
وقال ابن المنذر: إنما فوّض الرأي إليهنّ بالشرط المذكور، وهو الإيتار، وحَكَى ابن التين عن بعضهم، قال: يحتمل قوله: "إن رأيتنّ" أن يرجع إلى الأعداد المذكورة، ويحتمل أن يكون معناه: إن رأيتنّ أن تفعلن ذلك، وإلا فالإنقاء يكفي. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت الردّ على هذا القول فيما تقدّم، فلا تغفل، وبالله تعالى التوفيق.
(بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) قال في "القاموس": "السِّدْر" -بكسر فسكون-: شجر النَّبِقِ، الواحدة بِهاء، جمعه سِدْرَات -بكسر فسكون- وسِدِرَات -بكسرتين- وسِدَرَات -بكسر ففتح- وسِدَر -كذلك- وسُدُرٌ -بضمتين-. انتهى بإيضاح
(2)
.
وقال في "المصباح": "السِّدْرّة": شجرة النَّبِقِ، والجمع سِدَرٌ -بكسر ففتح- ثم يُجمعُ على سِدَرَات، فهو جمع الجمع، وتُجمَع السدرة أيضًا على سِدْرَات -بالسكون- حملًا على لفظ الواحد، قال ابن السَّرَّاج: وقد يقولون: سِدْرٌ -بكسر فسكون- ويريدون الأقلّ؛ لقلّة استعمالهم التاء في هذا الباب، وإذا أطلق السِّدْر في الغَسْل فالمراد به الوَرَقُ المطحون، قال الحجّة في التفسير: والسدر نوعان: أحدهما ينبت في الأَرْياف، فيُنتَفَع بوَرَقه في الغَسْل،
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 429 - 430.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 46.
وثمرته طيّبة، والآخر ينبت في البّرّ، ولا يُنتفع بوَرَقه في الغَسْل، وثمرته عَفِصَةٌ. انتهى.
[تنبيه]: قال: الزين ابن المنيّر رحمه الله: قوله: "بماء وسدر" يتعلّق بقوله: "اغسلنها"، وظاهره أن السدر يُخلَط في كلّ مرّة من مرّات الغسل، وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف، لا للتطهير؛ لأن الماء المضاف لا يُتطهّر به. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لأن الماء المضاف لا يتطهّر به" غير صحيح؛ لأن حديث الباب ظاهر في كونه مطهّرًا، ولا يُعْدَل عن هذا الظاهر إلا لدليل صحيح صريح، فالماء المضاف إليه السدر ونحوه من الأشياء الطاهرة مطهّر ما دام اسم الماء ثابتًا له، كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيّم -رحمهما الله تعالى-.
وقال في "الفتح" بعد نقل كلام ابن المنيّر المذكور: وقد يُمْنَع لزوم كون الماء يصير مضافًا بذلك؛ لاحتمال أن لا يُغَيِّر السدرُ وصف الماء بأن يُمعَك بالسدر، ثم يغسل بالماء في كلّ مرّة، فإن لفظ الخبر لا يأبى ذلك. انتهى.
قال الجامع: لكن الأول هو الظاهر، فلا داعي إلى أن يعدل عنه، كما علمت، والله أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يُجعل السدر في ماء، ويُخَضخَض إلى أن تخرج رغوته، ويدلك به جسده، ثم يصبّ عليه الماء القَرَاح، فهذه غسلة.
وحَكَى ابن المنذر أن قومًا قالوا: تُطرح ورقات السدر في الماء؛ أي: لئلا يمازج الماء، فيتغيّر وصفه المطلق. وحُكي عن أحمد أنه أنكر ذلك، وقال: يُغسل في كلّ مرّة بالماء والسدر.
قال الجامع: هذا الذي حُكِي عن الإمام أحمد رحمه الله هو الحقّ، الذي يجب المصير إليه، وما عداه من التأويلات التى ذكروها، فآراء ساقطة، لا أثارة عليها من الأدلّة، والله تعالى أعلم.
قال الحافظ: وأعلى ما ورد في ذلك ما رواه أبو داود من طريق قتادة، عن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغُسْل، عن أمّ عطيّة، فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور.
قال ابن عبد البرّ: كان يقال: كان ابن سيرين من أعلم التابعين بذلك.
قال الجامع: هذا الذي نُقل عن ابن سيرين هو الذي ينبغي اتباعه؛ لكونه أعلم التابعين بذلك، لكن الثالثة تكون بالماء والسدر، والكافور؛ لظاهر النصّ، والله تعالى أعلم.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: من قال: الأولى بالماء القَرَاح، والثانية بالماء والسدر، أو العكس، والثالثة بالماء والكافور، فليس هو في لفظ الحديث. انتهى، وكأن قائله أراد أن تقع إحدى الغسلات بالماء الصرف المطلق؛ لأنه المطهّر في الحقيقة، وأما المضاف فلا.
قال الجامع: قوله: وأما المضاف فلا غير صحيح؛ لأن الشارع جعل الماء والسدر مطهّرًا حقيقةً، فكيف يقال: إن المضاف لا يطهّر؟ إن هذا لشيء عجيب!!!.
قال: وتمسّك بظاهر الحديث ابن شعبان، وابن الفرضي، وغيرهما من المالكيّة، فقالوا: غسل الميت إنما هو للتنظيف، فيجزئ بالماء المضاف، كماء الورد، ونحوه، قالوا: وإنما يكره من جهة السرف، والمشهور عند الجمهور أنه غسل تعبّديّ يُشترط فيه ما يشترط في بقية الأغسال الواجبة والمندوبة.
وقيل: شُرع احتياطًا؛ لاحتمال أن يكون عليه جنابة، وفيه نظر؛ لأن لازمه أن لا يُشرَع غسل من هو دون البلوغ، وهو خلاف الإجماع. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
(وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا) قال في "القاموس" -عند تعداد معاني الكافور- ما نصّه: وطيب معروف، يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين، يُظِلُّ خلقًا كثيرًا، وتَألَفُهُ النُّمُورة، وخشبه أبيض هَشٌّ، ويوجد في أجوافه الكا فور، وهو أنواع. نتهى
(2)
.
وقوله: (أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ)"أو" هنا للشكّ من الراوي؛ أيَّ اللفظين قال، والأول محمول على الثاني؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكلّ شيء منه.
(1)
راجع: "الفتح" 3/ 702 - 703.
(2)
"القاموس المحيط" 2/ 128.
وظاهره جعل الكافور في الماء، وبه قال الجمهور، وقال النخعيّ، والكوفيّون: إنما يجعل في الحنوط؛ أي: بعد إنهاء الغسل والتجفيف، قاله في "الفتح".
وعبارة ابن الملقّن: انفرد أبو حنيفة، فقال: لا يستحبّ استعمال الكافور، وخالفه الثلاثة والجمهور، وهذا الحديث حجة عليه، وروي عن النخعيّ: إنما ذلك في الحنوط، لا في الغسل، وعزاه القرطبيّ إلى الأوزاعيّ، ويمكن أن يتأول من قال هذا "في الأخيرة"؛ أي: بعد تمامها، والظاهر بخلافه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الأقوال كلها يردُّها ظاهر الحديث، كما أشار إليه ابن الملقّن، فالصواب مشروعية استعمال الكافور في المرة الأخيرة من الغسلات، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قيل: الحكمة في الكافور مع كونه يُطيّب رائحة الموضع لأجل من يحضر من الملائكة وغيرهم، أن فيه تجفيفًا، وتبريدًا، وقوّة نفوذ، وخاصيّةً في تصليب بدن الميت، وطرد الهوامّ عنه، وردع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الأراييح الطيّبة في ذلك، وهذا هو السرّ في جعله في الأخيرة؛ إذ لو كان في الأولى مثلًا لأذهبه الماء.
وهل يقوم المسك مثلًا مقام الكافور؟ إن نُظِر إلى مجرّد التطييب، فنعم، وإلا فلا، وقد يقال: إذا عُدم الكافور قام غيره مقامه، ولو بخاصيّة واحدة مثلًا، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن غير الكافور لا يقوم مقامه، عند وجوده، بل يجب استعماله، لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال:"واجعلن في الآخرة كافورًا"، والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا فَرَغْتُنَّ) أي: من غسلها على الكيفية المذكورة، والخطاب لجماعة الإناث (فَآذِنَّنِي") أي: أعلمنني، وهو بمد الهمزة، وتشديد النون الأولى فعل أمر من الإيذان، وهو الإعلام، قال السنديّ: ويَحْتَمِل أن يُجعل من التأذين، والمشهور الأول. انتهى. (فَلَمَّا فَرَغْنَا، آذَنَّاهُ) أي: أعلمناه بفراغنا من الغسل المذكور (فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ) بفتح الحاء المهملة -ويجوز كسرها، وهي لغةُ هُذيل-
بعدها قاف ساكنة، والمراد به هنا الإزار، كما وقع مفسّرًا في آخر هذه الرواية عند البخاريّ، والحقو في الأصل مَعْقِد الإزار، وأطلق على الإزار مجازًا.
وقال ابن الملقّن رحمه الله: الحقو بالكسر، وفتحها لغتان، والمعروف من كلام العرب الثاني، وقالته هذيل بالأول، كما أفاده القرطبيّ، وهو الإزار، والأصل فيه الخصر معقد الإزار، وسُمّي الإزار مجازًا؛ لملازمته إياه، وهو من باب تسمية الشيء بما يلازمه، كما قالوا للمَزَادة راوية، والراوية اسم للجمل الحامل لها. انتهى
(1)
.
وقال في "المصباح": الْحَقْوُ موضع شَدّ الإزار، وهو الخاصرة، ثم توسّعوا حتى سَمَّوُا الإزار الذي يُشدّ على العورة حَقْوًا، والجمع أَحْقٍ، وحُقِيٍّ، مثل فلس وفُلُوس، وقد يُجمع على حِقَاءٍ، مثل سَهْم وسِهَام. انتهى
(2)
.
ووقع عند البخاريّ من رواية ابن عون، عن محمد بن سيرين بلفظ:"فنزع من حقوه إزاره"، والحقو في هذا على حقيقته، قاله في "الفتح"
(3)
.
(فَقَال: (أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ") أي: اجعلنه شِعارَها؛ أي: الثوب الذي يلي جسدها، وقد وقع عند البخاريّ تفسير أيوب السختيانيّ له، فقال: الففنها فيه، فالمراد من إشعارها الإزارَ لَفّها فيه، وليس مجرّد وضعه عليها، فتنبّه.
قيل: الحكمة في تأخير الإزار معه إلى أن يفرغن من الغسل، ولم يناولهنّ إياه أوّلًا، ليكون قريب العهد من جسده الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم عطيّة رضي الله عنها هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الإعلام" 4/ 435 - 436.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 145.
(3)
"الفتح" 3/ 709.
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2168 و 2169 و 2170 و 2171 و 2172 و 2173 و 2174 و 2175 و 2176](939)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(167 و 1253 و 1254 و 1257 و 1259 و 1261)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3142)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(990)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1881 و 1883 و 1884 و 1885 و 1887 و 1888 و 1889 و 1890 و 1891 و 1892 و 1893 و 1894) و"الكبرى"(2008 و 2010 و 2011 و 2012 و 2013 و 2014 و 2015 و 2016 و 2017 و 2018 و 2020 و 2021)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1455)، و (مالك) في "الموطأ"(518)، و (أحمد) في "مسنده"(20266 و 26752)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2091 و 2092 و 2093 و 2094 و 2095 و 2096 و 2097 و 2098 و 2099)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعية غسل الميت، وكون الغسل بالماء والسدر.
2 -
(ومنها): استعمال الكافور في الغسلة الأخيرة.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من تعليم أمور الدين لأمته رجالا ونساءً.
4 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم إذا عَلّم أمرًا يتعلّق بالمأمورية، لا يمكن الائتمار به إلا بالفعل على صورة أن يقيّد الأمر، والتعليم بغاية، لتوضع موضعه.
5 -
(ومنها): أنه ينبغي للمأمور التقيّد بالأمر فورًا وغايةً.
6 -
(ومنها): أن على العالم أن يبتدئ بتعليم العلم إذا علم أن العامل يجهل ذلك العلم، أو يقصّر في العمل به.
7 -
(ومنها): مشروعية الإيتار في غسل الميت على حسب الحاجة، كما سبق.
8 -
(ومنها): تفويض الحاجة في ذلك إلى العامل على حسب المصلحة الشرعية، من غير إسراف، ولا تقتير.
9 -
(ومنها): التبرّك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10 -
(ومنها): جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل.
11 -
(ومنها): ما قاله ابن العربيّ رحمه الله: هذا الحديث أصل في جواز التطفر بالماء المضاف إذا لم يُسلَب الماء الإطلاق. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وهو مبنيّ على أن الصحيح أن غسل الميت للتطهير، كما تقدّم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله العلامة ابن العربي رحمه الله هو الحقّ الذي يدلّ عليه حديث الباب وغيره، وقد تقدّم الردّ على الأقوال المخالفة له قريبًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
12 -
(ومنها): أن بعضهم استدّل به على عدم وجوب غسل من غسل ميتًا؛ حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمرهنّ بذلك، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب غَسْل من غسل ميتًا:
(اعلم): أنه استَدَلّ بعض أهل العلم بهذا الحديث على أنه لا يجب الغُسل على من غَسَلَ الميت، من حيث إنه موضع تعليم، فلو وجب لذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن الملَقِّن رحمه الله: وعدم الوجوب هو الصحيح، من مذهب الشافعي، ورواية المدنيين عن مالك، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد، والجمهور، لكن قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوبه، وأوجب أحمد، وإسحاق الوضوء منه، والجمهور على استحبابه، والحديث المرويّ فيه من طريق أبي هريرة رضي الله عنه:"مَن غَسَلَ ميتًا فليغتسل، ومن مسّه فليتوضأ"، ضعيف بالاتفاق، كذا قال النوويّ في "شرح مسلم"، وتبعه بعض شراح هذا الكتاب يعني "عمدة الأحكام" وليس بجيّد، فقد حسّنه الترمذيّ، وصححه ابن حبّان، وابن السكن، وقال البخاريّ: الأشبه وقفه على أبي هريرة رضي الله عنه.
ويُحْمَل على الاستحباب بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل؛ إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس". رواه الحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيح على شرط
البخاريّ، ثم قال: وفيه ردّ لحديث أبي هريرة الذي أسلفناه، وليس كما قال، بل يُعمل بهما، فيستحبّ الغسل، فإذا قلنا بالوجوب، فقيل: تعبّد، وقيل: محمول على نجاسة بدن الآدمي بالموت
(1)
، وهو قول بعضهم. وقيل: المعنى فيه حرمة الميت، حكاه الماورديّ. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله تعالى.
وقال البغويّ رحمه الله في "شرح السنة": واختَلَف أهل العلم في الغسل من غسل الميت، فذهب بعضهم إلى وجوبه، وذهب أكثرهم إلى أنه غير واجب، قال ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم: ليس على غاسل الميت غسل، وروي عن عبد الله بن أبي بكر، عن أسماء بنت عُميس امرأة أبي بكر أنها غسلت أبا بكر حين توفي، فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إني صائمة، وهذا يوم شديد البرد، فهل عليّ من غسل؟ فقالوا: لا.
وقال مالك، والشافعيّ: يستحبّ له الغسل، ولا يجب، وقال النخعي، وأحمد، وإسحاق: يتوضأ غاسل الميت، وقال أحمد: لا يثبت في الاغتسال من غسل الميت حديث، وقال ابن المبارك: لا يغتسل، ولا يتوضأ. انتهى كلام البغويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث: "من غسل ميتًا فليغتسل
…
" قال الحافظ في "الفتح": رواه أبو داود، من طريق عمرو بن عمير، ورواته ثقات، إلا عمرو بن عمير، فليس بمعروف، وروى الترمذيّ، وابن حبان، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه، وهو معلول؛ لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: الصواب عن أبي هريرة موقوف، وقال أبو داود بعد تخريجه: هذا منسوخ، ولم يبين ناسخه، وقال الذهليّ فيما حكاه الحاكم في "تاريخه": ليس فيمن غسل ميتًا حديث ثابت. انتهى.
وقد استوفى الكلام عليه الحافظ رحمه الله في "التلخيص الحبير"، ودونك عبارته، قال رحمه الله: حديث: "من غسل ميتًا فليغتسل" رواه أحمد، والبيهقيّ، من رواية ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة بهذا، وزاد:
(1)
هذا ضعيف، فإن الميت لا ينجس بالموت، فتنبّه.
"ومن حمله فليتوضأ". وصالح ضعيف، ورواه البزار، من رواية العلاء، عن أبيه، ومن رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، ومن رواية أبي بحر البكراويّ، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، كلهم عن أبي هريرة، ورواه الترمذيّ، وابن ماجه، من حديث عبد العزيز بن المختار، وابن حبان من رواية حماد بن سلمة، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أبو داود، من رواية عمرو بن عُمير، وأحمد من رواية شيخ، يقال له: أبو إسحاق، كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر البيهقيّ له طرقًا، وضعّفها، ثم قال: والصحيح أنه موقوف، وقال البخاري: الأشبه موقوف، وقال عليّ، وأحمد: لا يصحّ في الباب شيء، نقله الترمذيّ عن البخاريّ، عنهما، وعلّق الشافعيّ القول به على صحّة الخبر، وهذا في "البويطيّ". وقال الذهليّ: لا أعلم فيه حديثًا ثابتًا، ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت، وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف، وذكر الدارقطني الخلاف في حديث ابن أبي ذئب، هل هو عن صالح، أو عن المقبريّ، أو عن سهيل، عن أبيه، أو عن القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير؟ ثم قال: وقوله: عن المقبريّ أصحّ. وقال الرافعي: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئًا مرفوعًا، قلت: قد حسنه الترمذيّ، وصححه ابن حبان.
وله طريق أخرى، قال عبد الله بن صالح: ثنا يحيى بن أيوب، عن عُقيل، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رفعه:"من غسل ميتًا، فليغتسل"، ذكره الدارقطنيّ، وقال: فيه نظر. قلت: رواته موثقون، وقال ابن دقيق العيد في "الإمام": حاصل ما يُعلُّ به وجهان: أحدهما من جهة الرجال، ولا يخلو إسناد منها من متكلّم فيه، ثم ذكر ما معناه أن أحسنها رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهي معلولة، وإن صححها ابن حبان، وابن حزم، فقد رواها سفيان، عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة، قلت: إسحاق مولى زائدة أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحح الحديث. قال: وأما رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فإسناد حسن، إلا أن الحفّاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفًا.
وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنًا، فإنكار النووي على الترمذيّ تحسينه معترض، وقد قال الذهبيّ في "مختصر البيهقي": طرق هذا الحديث أقوى من عدّة أحاديث، احتجّ بها الفقهاء، ولم يُعلّوها بالوقف، بل قدّموا رواية الرفع، والله أعلم.
وفي الباب عن عائشة، رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقيّ، وفي إسناده مصعب بن شيبة، وفيه مقال، وضعفه أبو زرعة، وأحمد، والبخاريّ، وصححه ابن خزيمة.
وفيه عن عليّ، وسيأتي في "الجنائز"، وعن حذيفة ذكره ابن أبي حاتم، والدارقطنيّ في "العلل"، وقالا: لا يثبت، قلت: ونفيهما الثبوت على طريقة المحدثين، وإلا فهو على طريقة الفقهاء قويّ؛ لأن رواته ثقات، أخرجه البيهقيّ، من طريق معمر، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، وأعلّه بأن أبا بكر بن إسحاق الصبغيّ، قال: هو ساقط، قال: وقال علي ابن المدينيّ: لا يثبت فيه حديث. انتهى، وهذا التعليل ليس بقادح؛ لما قدمناه.
وعن أبي سعيد، رواه ابن وهب في "جامعه"، وعن المغيرة، رواه أحمد في "مسنده".
وذكر الماورديّ أن بعض أصحاب الحديث خرّج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقًا، قال الحافظ: وليس ذلك ببعيد.
وقد أجاب أحمد عنه بأنه منسوخ، وكذا جزم بذلك أبو داود، ويدلّ له ما رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن أبي عليّ الحافظ، عن أبي العباس الهمدانيّ الحافظ، ثنا أبو شيبة، ثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غَسل ميتكم غُسْل؛ إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهرًا، وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم"، قال البيهقيّ: هذا ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة.
قال الحافظ: أبو شيبة هو إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، احتجّ به النسائيّ، ووثقه الناس، ومَن فوقه احتجّ بهم البخاريّ، وأبو العباس، هو ابن عُقْدة حافظ كبير، إنما تكلّموا فيه بسبب المذهب، ولأمور أخرى، ولم يضعفه
بسبب المتون أصلًا، فالإسناد حسن، فيجمع بينه وبين الأمر في حديث أبي هريرة بان الأمر على الندب، أو المراد بالغسل غسل الأيدي، كما صرّح به في هذا.
قلت: ويؤيِّد أن الأمر فيه للندب ما رواه الخطيب في ترجمة محمد بن عبد الله المخرّميّ من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قال لي أبي: كتبتَ حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل"؟. قال: قلت: لا، قال: في ذلك الجانب شابّ، يقال له: محمد بن عبد الله، يحدّث به، عن أبي هشام المخزوميّ، عن وهيب، فاكتبه عنه.
قلت: وهذا إسناد صحيح، وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله في "التلخيص".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله في تحقيق الكلام على هذا الحديث، وأفاد، وخلاصته أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من غسل ميتًا، فليغتسل .... " حسنه الترمذيّ، وصححه ابن حبان، وابن القطان، واحتجّ به ابن حزم، فالراجح أنه صحيح، لكنه محمول على الاستحباب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل
…
" الحديث، وأثر ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل
…
" الحديث، وكلاهما ثابتان، فالعمل بكلها متعيّن.
والحاصل أن المذهب الصحيح هو القول باستحباب الاغتسال لمن غسل الميت، والوضوء لمن حمله عملًا بكلّ الأحاديث.
ثم إن الراجح أن الأمر فيه تعبّديّ، والقول بكون الميت نجسًا باطل؛ لما تقدّم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في غسل أحد الزوجين للآخر إذا مات:
(اعلم): أنه استدلَّ بعض أهل العلم بحديث الباب على أن النساء أحقّ بغسل الميتة من زوجها، وأنه لا يغسلها، إلا عند عدمهنّ، وهو مذهب الحسن، قال ابن الملقّن رحمه الله: وقد يمنع من ذلك حتى يتحقق أن زوج زينب
كان حاضرًا إذ ذاك، لا مانع له من غسلها، وأنه لم يفوّض الأمر إلى النسوة، وجمهور العلماء على خلافه، وأنه أحقّ، وذهب الشعبيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة إلى أنه لا يغسلها جملة، وقال سحنون: الأولياء أحقّ، واختلف الشافعيّة في أن النساء أحقّ بغسل الميتة من زوجها على وجهين، أصحهما نعم؛ لأنهنّ أليق، وأجمعَ العلماء على أن لها غسل زوجها، وإن كان فيه رواية عن أحمد، والأصحّ أنها تغسله أبدًا. انتهى.
وقال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات، وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى أن تغسله أسماء بنت عُميس زوجته، قال: وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار، لم ينكر ذلك منهم منكر، وأن أبا موسى غسلته امرأته.
قال: واختلفوا في الرجل يغسل زوجته، فقالت طائفة: يغسلها، هكذا قال علقمة، وجابر بن زيد، وعبد الرحمن بن الأسود، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. وكرهت طائفة ذلك، كرهه الشعبيّ، وقال الثوريّ، وأصحاب الرأي: لا يغسلها.
قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول، ولا فرق بين غسل الرجل زوجته، وبين غسلها إياه، وليس فيما يحلّ لكلّ واحد بينهما، ويحرم من صاحبه في حياته، وبعد مماته فرق، فإن قال قائل: إن أبا بكر غسلته أسماء؟ قيل له: وغسل عليّ فاطمة، وليست العلة التي اعتلّ بها ناس، من باب غسل الموتى بسبيل؛ لأنه يطلقها ثلاثًا، فتكون في عدة منه، وتموت، فلا تغسله عند من خالفنا، فبطل لما كان هذا مذهب من خالفنا أن يكون لقوله: هي في عدة منه، وليس هو في عدة منها معنى، والله أعلم. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الإمام ابن المنذر رحمه الله، من ترجيح القول بأن لكل واحد من الزوجين غسلَ الآخر هو الحق؛ لما ذكره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الأوسط" 5/ 334 - 336.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2169]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: "مَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وهم المذكورون في السند السابق.
[تنبيه]: في هذه الرواية وقع رواية أيوب عن محمد بن سيرين، عن أخته حفصة بنت سيرين، عن أم عطيّة، فأدخل محمد بينه وبين أم عطيّة واسطة، وقد صرَّح في رواية النسائيّ بالإخبار عن حفصة، ونصّه:"عن محمد قال: أخبرتني حفصة، عن أم عطيّة"، وأما بقيّة الروايات، فإنه رواها عن أم عطيّة مباشرة من غير واسطة، والحديث أيضًا مما رواه أيوب عن حفصة، عن أم عطيّة، فثبت بهذا أن أيوب تارة يرويه عن محمد، عن أم عطيّة، وتارة عن حفصة، عن أم عطيّة، وتارة عن محمد، عن حفصة، عن أم عطيّة، وكلها في "الصحيح"، فأما رواية محمد، عن حفصة، عن، أم عطيّة، ففي "صحيح مسلم" هنا، وأما روايته عن أم عطيّة، ففي "الصحيحين" كليهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (مَشَطْنَاهَا) بتخفيف الشين المعجمة: أي: سرّحنا شعرها بالْمُشْط، يقال: مَشَطَت الشعرَ مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سرّحته، والتثقيل مبالغة، وامتشطت المرأة مَشَطَت شعرها، والْمُشْطُ الذي يُمْتشط به بضمّ الميم، وتميم تكسر، وهو القياس؛ لأنه آلة، والجمع أَمْشاطٌ، والْمُشَاطة بالضمّ: ما يسقُطُ من الشعر عن مَشْطِهِ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (ثَلَاَثةَ قُرُونٍ) جمع قَرن، والمراد به الْخُصْلة من الشعر، و"ثلاثةَ" منصوب على الحال؛ أي: حال كونه ثلاثة قرون، والمعنى: جعلنا شعرها
(1)
"المصباح المنير" 2/ 574.
ثلاث ضفائر بعد أن حللناه، وغسلناه، وسرّحناه، وهو بمعنى قولها في الرواية الآتية:"فضَفَرْنا شعرَها ثلاثة أثلاث: قرنيها، وناصيتها".
وفيه حجة للشافعيّ رحمه الله ومن وافقه على استحباب تسريح الشعر، ومثل المرأة في ذلك الرجل إذا كان له شعر يُنقَض؛ لأجل التنظيف، وليبلغ الماء البشرة، وذهب من منعه إلى أنه قد يفضي إلى انتشاف شعره، وأجاب من أثبته بأنه يُضمّ إلى ما انتثر منه، أفاده في "الفتح"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، وبقي الكلام على مذاهب العلماء في حكم مشط الشعر، فأقول:
(مسألة): في اختلاف أهل العلم في حكم تضفير شعر الميت:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في تضفير شعر الميتة، فكان الشافعيّ يقول: يُضفّر شعر رأسها كلّه، ناصيتها، وقرنها ثلاث قرون، ثم ألقيت خلفها، وكذلك قال أحمد، وأومأ إليه إسحاق، وبه نقول؛ لحديث أم عطيّة رضي الله عنها.
وكان الأوزاعيّ يقول: ليس مشط رأس الميتة ثلاثة قرون بواجب، ولكن يفرّق شعرها، ويرسله مع خدّيها، وقال أصحاب الرأي: يرسل من بين ثدييها من الجانبين جميعًا، ثم يُسدل الخمار عليه. انتهى
(2)
.
وقال العلامة ابن الملقّن رحمه الله عند الكلام على قوله: "وجَعَلْنا رأسها ثلاثة قرون" ما حاصله: أي ثلاث ضفائر، ضفيرتين، وناصيتها، كما جاء مبيّنًا في رواية أخرى، وتضمّن ذلك التسريحَ، والضَّفْرَ، بناء على أن الغالب في أن الضَّفْر بعد التسريح، وإن كان هذا اللفظ لا يُشعر به صريحًا، وقد جاء في رواية في "الصحيح":"فمَشَطْناها ثلاثة قرون"، وبه قال الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن حبيب المالكي.
وقال الأوزاعيّ، والكوفيون: لا يستحبّ المشط، ولا الضَّفْر، بل يُرسَل شعرها على جانبيها مفرّقًا. ونقل القرطبيّ عن الأوزاعيّ أنه لا يجب الْمَشْطُ، وما نقلناه عن الأوزاعي تبعنا فيه النوويّ رحمه الله، ولم يَعرِف ابنُ القاسم الضَّفْر،
(1)
"الفتح" 3/ 713 - 714.
(2)
"الأوسط" 5/ 333.
وقال: يُلَفّ، وقال بعض الشافعية -فيما حكاه الشيخ تقي الدين-: تُجعَل الثلاث خلف ظهرها، قال: ورَوَى في ذلك حديثًا أثبت استحبابه به، وهو ثابت من فعل من غَسَل بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: كما أخرجه البخاريّ من حديث أم عطيّة رضي الله عنها.
وقال ابن الجوزيّ: إنه السنّة، قال القاضي: ومن حجة مَن مَنَعٍ الاستحباب أنه ليس في الحديث معرفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بفعل أم عطية، فيُجعلَ سنةً وحجةً، قال النوويّ: الظاهر اطّلاعه عليه، واستبيانه فيه كما في غيرها، واعترض عليه الفاكهيّ، فقال: هذا الظاهر عنده، غير ظاهر.
قال ابن الملقّن: قلت: عجيب منه، ومن القاضي عياض، ففي "صحيح ابن حبّان" أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ولفظ روايته:"واجْعَلْنَ لها ثلاثة قرون"، وترجم عليه:"باب ذكر البيان بأنّ أم عطيّة إنما مَشَطَت قرونها بأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا من تلقاء نفسها"، فاستفيد ذلك، ولم يطّلع القرطبيّ أيضًا على هذه الرواية، فادَّعَى أن ذلك لم يَرِد مرفوعًا. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": وقد رواه سعيد بن منصور بلفظ الأمر من رواية هشام، عن حفصة، عن أم عطيّة، قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وترًا، واجْعَلْنَ شعرها ضفائر". انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المذهب الراجح مشروعية نقض شعر رأس الميتة، وتسريحه، وجعله ثلاث ضفائر، وإلقاؤه خلف ظهرها؛ لصحة الأحاديث بذلك، على ما قدّمناه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2170]
(
…
) -
(وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ
(2)
(ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 443 - 445.
(2)
وفي نسخة: "حماد بن زيد".
ابْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، كُلُّهُمْ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ: قَالَتْ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ: قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُريعٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمِّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين أيضًا.
3 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم قبل باب.
4 -
(حَمَّادُ) بن زيد تقدّم قبل باب أيضًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ أَيُّوبَ) أي: كلّ من مالك، وحمّاد بن زيد، وابن عليّة رووا عن محمد بن سيرين
…
إلخ.
وقولها: (تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أنها زينب رضي الله عنها.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُريعٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) إنما نصّ على هذا؛ لأن يزيد بن زُريع رواه بسند آخر، وهو السند الماضي بعد السند المذكور، وهو: عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطيّة، ففيه إدخال الواسطة بين محمد وبين أم عطيّة، فأراد أن رواية هؤلاء إنما هي بلا واسطة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية مالك بن أنس، عن أيوب، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" فقال:
(1253)
- حدّثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدّثني مالك، عن أيوب السختيانيّ، عن محمد بن سيرين، عن أم عطيّة الأنصارية رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال:"اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلكِ، إن رأيتنّ ذلك، بماء وسدر، واجْعَلْنَ في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتنّ، فآذنّني"، فلما فرغنا آذنّاه، فأعطانا حِقوه، فقال:"أشعرنها إياه"، تعني إزاره. انتهى.
وأما رواية حماد بن زيد، عن أيوب، فساقها أبو داود في "سننه"، فقال:
(3142)
- حدّثنا القعنبيّ، عن مالك (ح) وحدّثنا مسدّد، حدّثنا حماد بن زيد، المعنى عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال:"اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتنّ ذلك، بماء وسدر، واجْعَلْنَ في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتنّ، فآذنّني"، فلما فرغنا آذنّاه، فأعطانا حقوه، فقال:"أشعرنها إياه"، قال عن مالك: يعني إزاره، ولم يقل مسدد:"دخل علينا". انتهى.
وأما رواية ابن علية، فساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه" فقال:
(1890)
- أخبرنا عمرو بن زُرارة، قال: حدّثنا إسماعيل، عن أيوب، عن محمد، عن أم عطية، قالت: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نغسل ابنته، فقال:"اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتنّ ذلك، بماء وسدر، واجعَلْنَ في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتنّ فآذنّني"، فلما فرغنا آذنّاه، فألقى إلينا حقوه، وقال:"أشعرنها إياه"، قال: أو قالت حفصة: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا"، قال: وقالت أم عطية: "مشطناها ثلاثة قرون". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2171]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، بِنَحْوِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكِ"، فَقَالَتْ حَفْصَةُ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاَثةَ قُرُونٍ).
(1)
وفي نسخة: "حدثنا".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذكروا قبله.
وقوله: (أَوْ سَبْعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ) هذه الرواية صريحة في مشروعيّة الزيادة على السبع، بخلاف الروايات السابقة، فإنها كلها إلى السبع فقط، ولذا أنكر الزيادة على السبع من غفل عن هذه الرواية، وهي في "الصحيحين"، وقد سبق الردّ عليه، فلا تغفل، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: هذه الرواية من رواية حفصة، عن أم عطيّة، وقد سبق أن مدار حديث أم عطيّة على محمد، وحفصة ابني سيرين، وأن حفصة حفظت منها ما لم يحفظه محمد، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: رواية حماد، عن أيوب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(1259)
- حدّثنا حامد بن عمر، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أم عطية، قالت: توُفيت إحدى بنات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتنّ، بماء وسدر، واجْعَلْن في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فماذا فرغتنّ فآذنّني"، قالت: فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فقال:"أشعرنها إياه".
وعن أيوب، عن حفصة، عن أم عطية رضي الله عنها بنحوه، وقالت: إنه قال: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتنّ"، قالت حفصة: قالت أم عطية رضي الله عنها: وجعلنا رأسها ثلاثة قرون. انتهى.
فقوله: "وعن أيوب
…
إلخ" موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2172]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثنَا ابْنُ عُلَيةَ، وَأَخْبَرَنَا
(3)
أَيُّوبُ، قَالَ: وَقَالَتْ حَفْصَةُ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: قَالَتْ: "اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا"، قَالَ: وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: مَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ).
(1)
راجع: "الفتح" 3/ 705.
(2)
وفي نسخة: "حدثنا".
(3)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا قبل حديث.
وقوله: (قَالَتْ: اغْسِلْنَهَا
…
إلخ) أي: قالت أم عطيّة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لنا: "اغسلنها خمسًا
…
إلخ"، فجملة "اغسلنها
…
إلخ" مقول لـ"قال" المقدّر، فتنبّه.
وقوله: (وِتْرًا، ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا) "ثلاثًا
…
إلخ" بدل من "وترًا"، أو عطف بيان له، وهو بيان للمراد من الوتر هنا؛ إذ الوتر أقله الواحد، وليس مرادًا هنا، فبيّنه بأنه ثلاث
…
إلخ.
والحديث متّفق عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2173]
(
…
) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، "قالَتْ: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، وَاجْعَلْنَ فِي الْخَامِسَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا غَسَلْتُنَّهَا فَأَعْلِمْنَنِي"، قَالَتْ: فَأَعْلَمْنَاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، وَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمر بن محمد بن بكر، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ) الضرير تقدّم قبل باب.
4 -
(عَاصِم الْأَحْوَلُ) هو: ابن سليمان، تقدّم قبل باب أيضًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2174]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا
(1)
هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ نَغْسِلُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، فَقَالَ:"اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ"، بِنَحْوِ حَدِيثِ أَيُّوبَ، وَعَاصِمٍ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَتْ: فَضَفَرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاَثةَ أَثْلَاثٍ: قَرْنَيْهَا، وَنَاصِيَتَهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
2 -
(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الْقُردوسيّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (إِحْدَى بَنَاتِهِ) تقدّم في الرواية التي قبلها أنها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ أَيُّوبَ، وَعَاصِمٍ) يعني: أن هشام بن حسّان حدّث عن حفصة بنت سيرين بنحو ما حدّث به أيوب السختياني، وعاصم الأحول كلاهما عنها.
وقوله: (وَقَالَ في الْحَدِيثِ) فاعل "قال" ضمير هشام.
وقولها: (فَضَفَرْنَا شَعْرَهَا) أي: جعلنا شعرها ضفائر، يقال: ضَفَرتُ الشَّعْرَ ضَفْرًا من باب ضرب: إذا جعلته ضَفَائر، كلُّ ضَفِيرة على حِدَةٍ بثلاث طاقات، فما فوقها، والضَّفِيرة من الشعر: الْخُصْلة، والجمع ضفائر، وضُفُرٌ بضمّتين، والضّفِيرة أيضًا: الذُّؤَابة، أفاده في "المصباح"
(2)
.
وقولها: (ثَلَاَثةَ أَثْلَاثٍ) أي: ثلاث أجزاء.
وقولها: (قَرْنَيْهَا، وَنَاصِيَتَهَا) بالنصب على البدليّة من "ثلاثة أثلاث".
(1)
وفي نسخة: "حدثنا".
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 363.
وقولها: (قَرْنَيْهَا) أي: الشعر النابت في قرني رأسها، وهما جانباه الأعلى، قال في "القاموس": الْقَرنُ: الرَّوْقُ من الحيوان، وموضعه من رأسنا، أو الجانب الأعلى من الرأس، جمعه قُرونٌ، والذُّؤَابةُ، أو ذُؤابة المرأة، والْخُصْلة من الشَّعَرِ. انتهى المقصود منه
(1)
.
وقولها: (وَنَاصِيَتَهَا) قال في "القاموس": الناصيةُ، والناصاة: قُصَاصُ الشعر. انتهى
(2)
، وقال أيضًا: وقُصاص الشعر مثلّثة، والضمّ أعلى: حيث تنتهي نِبْتَتُهُ من مقدّمه، أو مؤخّره. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: رواية هشام بن حسّان، عن حفصة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(26761)
- حدّثنا يحيى بن سعيد، ويزيد بن هارون، قالا: أنا هشام، عن حفصة، قالت: حدّثتني أم عطية، قالت: تُوُفّيت إحدى بنات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اغسلنها بسدر، واغسلنها وترًا: ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتنّ ذلك، واجعلن في الآخرة كافورًا، أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتنّ فآذنّني"، قالت: فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فقال:"أشعرنها إياه"، قالت أم عطية: وضَفَرْنا رأس ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون، وألقينا خلفها: قرنيها، وناصيتها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2175]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَمَرَهَا أَنْ تَغْسِلَ ابْنَتَهُ، قَالَ لَهَا: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا").
(1)
راجع: "القاموس المحيط" 4/ 257.
(2)
"القاموس" 4/ 395.
(3)
"القاموس" 2/ 313.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السّلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(خَالِدُ) بن مِهْران الحذّاء، أبو المنازل البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، يرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا) أمرٌ لجماعة النسوة اللاتي حضرن غسل ابنة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (بِمَيَامِنِهَا) جمع مَيْمَنة؛ أي: بالأيمن من بدنها، من اليد، والْجَنْب، والرجل؛ يعني ابدأن بالأعضاء اليمنى منها قبل اليسرى في الغسل والوضوء.
وقوله: (وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا) أي: ابدأن بغسل مواضع الوضوء منها قبل باقي الأعضاء.
قال الحافظ رحمه الله: ليس بين الأمرين تنافٍ، لإمكان البداءة بمواضع الوضوء، وبالميامن معًا.
قال الزين ابن المنيّر رحمه الله: قوله: "ابدأن بميامنها" أي: في الغسلات التي لا وضوء فيها، "ومواضع الوضوء منها" أي: في الغسلة المتصلة بالوضوء، وكأن المصنّف أشار بذلك إلى مخالفة أبي قلابة في قوله: يبدأ بالرأس، ثم باللحية، قال: والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد أثر سمة المؤمنين في ظهور أثر الغرّة والتحجيل. انتهى.
واستدلّ به على استحباب المضمضة، والاستنشاق في غسل الميت، خلافًا للحنفية، بل قالوا: لا يستحبّ وضوءه أصلًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: نسبة عدم استحباب الوضوء إلى الحنفية غَلَطٌ، فقد قالوا باستحباب الوضوء، لكن بلا مضمضة ولا استنشاق، كما بيّنه العينيّ رحمه الله.
قال الحافظ رحمه الله: وإذا قلنا باستحبابه، فهل يكون وضوءًا حقيقيًّا، بحيث
يعاد غسل تلك الأعضاء في الغسل، أو جزءًا من الغسل، بُدئت به هذه الأعضاء تشريفًا؟ الثاني أظهر من سياق الحديث، والبداءة بالميامن، وبمواضع الوضوء مما زادته حفصة في روايتها عن أم عطية على أخيها محمد، وكذا الْمَشْط، والضَّفْرُ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح من أقوال أهل العلم مشروعية الوضوء للميت مع المضمضة والاستنشاق، على ظاهر حديث الباب، فإن الوضوء الشرعيّ إذا أطلق ينصرف إلى ما يشملهما.
وقيل: لا يشرعان، قال العينيّ رحمه الله: وضوء الميت سنة، كما في الاغتسال في حالة الحياة، غير أنه لا يُمَضْمَض، ولا يستنشق؛ لأنهما متعسران؛ لتعذر إخراج الماء من الأنف والفم.
وقال ابن قُدامة رحمه الله في "المغني": يُوَضِّؤه وضوءه للصلاة، فيغسل كفيه، ثم يأخذ خرقة خشنة، فيبلّها، ويجعلها على إصبعه، فيمسح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما، ويكون ذلك في رفق، ثم يغسل وجهه، وُيتِمّ وضوءه، قال: ولا يدخل الماء فاه، ولا منخريه في قول أكثر أهل العلم، كذلك قال سعيد بن جبير، والنخعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة، وقال الشافعيّ: يمضمض، ويستنشق، كما يفعل بالحيّ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الشافعيّ رحمه الله: هو الأظهر؛ لموافقته لظاهر النصّ، فتبصّر.
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2176]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ،
(1)
"الفتح" 3/ 711.
عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُنَّ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ:"ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
كلّهم ذُكروا في الباب، وخالد هو "الحذّاء".
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(13) - (بَابٌ فِي كَفَنِ الْمَيْتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2177]
(940) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ، نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ"، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهْوَ يَهْدِبُهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِي) النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبسيّ الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
5 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
6 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
7 -
(شَقِيقُ) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
8 -
(خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ) التميميّ، أبو عبد الله الصحابيّ الجليل مات رضي الله عنه سنة (37)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 33/ 1407.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة تحمّله منهم، ثم فرّق بينهم؛ لاختلافهم فيها، فتنبّه.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه: يحيى، وأبي بكر، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن شيخه أبا كريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، غير يحيى، فنيسابوريّ.
5 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان يُعذّب في الله عز وجل، وشَهِد بدرًا، وما بعدها، ثم نزل الكوفة، ومات بها رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: بأمره وإذنه، أو المراد بالمعيّة الاشتراك في حكم الهجرة؛ إذ لم يكن معه صلى الله عليه وسلم حِسًّا إلا الصّدّيق، وعامرُ بن فُهَيرة رضي الله عنهما (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي: لإعلاء كلمة الله تعالى (نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ) أي: نطلب بهجرتنا مرضاة الله تعالى، لا عَرَضًا من الدنيا وقال في "الفتح"؛ أي: جِهَة ما عنده، من الثواب، لا جهة الدنيا. انتهى. (فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه وجوب إنجاز وعد بالشرع، لا وجوبٍ بالعقل
(1)
كما تزعمه المعتزلة، وهو نحو ما في الحديث: حقّ الله على العباد، وقد سبق شرحه في "كتاب الإيمان". انتهى
(2)
.
وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن عيينة، عن الأعمش:"فوقع أجرنا على الله"، وهو موافق لقوله تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100].
وأما قوله: "فوجب أجرنا"، فالمراد بالوجوب على الله إيجابه على نفسه بمقتضى وعده الصادق، حيث قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية [التوبة: 72]، وقال تعالى:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} [الزمر: 20].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فوجب أجرنا على الله" أي: بما وعد به من هاجر بقوله الصدق، ووعده الحقّ، لا بالعقل؛ إذ لا يجب على الله تعالى شيء عقلًا، ولا وضعًا. انتهى
(3)
.
(فَمِنَّا مَنْ مَضَى) أي: مات (لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا) أي: من عَرَض الدنيا؛ يعني: أنه لم يوسّع عليه الدنيا، ولم يُعجّل له شيء من جزاء عمله،
(1)
أي: بمجرد العقل دون الاستناد إلى الشرع، وإلا فما أوجبه الشرع فقد أوجبه العقل، فتنبّه.
(2)
"شرح النوويّ" 7/ 6.
(3)
"المفهم" 2/ 597.
قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": هو كناية عن الغنائم التي تناولها من أدرك زمن الفتوح، وكأن المراد بالأجر ثمرته، فليس مقصورًا على أجر الآخرة.
قال: وهذا مشكل على ما تقدّم من تفسير ابتغاء وجه الله، ويُجْمَع بأن إطلاق الأجر على المال في الدنيا بطريق المجاز بالنسبة لثواب الآخرة، وذلك أن القصد الأول هو ما تقدّم لكن منهم من مات قبل الفتوح، كمصعب بن عُمير، ومنهم من عاش إلى أن فُتح عليهم، ثمّ انقسموا، فمنهم من أعرض عنه، وواسى به المحاويج، أوّلًا، فأوّلًا، بحيث بقي على تلك الحالة الأولى، وهم قليل، منهم أبو ذرّ، وهؤلاء ملتحقون بالقسم الأول، ومنهم من تبسّط في بعض المباح فيما يتعلّق بكثرة النساء، والسراري، أو الخدَم، والملابس، ونحو ذلك، ولم يستكثروا، وهم كثير، ومنهم ابن عمر، ومنهم من زاد، فاستكثر بالتجارة، وغيرها، مع القيام بالحقوق الواجبة والمندوبة، وهم كثير أيضًا، منهم عبد الرحمن بن عوف، وإلى هذين القسمين أشار خبّاب، فالقسم الأول، وما التحق به توفّر له أجره في الآخرة، والقسم الثاني مقتضى الخبر أنه يُحسب عليهم ما وصل إليهم، من مال الدنيا، من ثوابهم في الآخرة، ويؤيّده ما أخرجه مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، رفعه: "ما من غازية، تغزو، فتغنَمُ، وتَسْلَمُ، إلا تعجّلوا ثلثي أجرهم
…
" الحديث، ومن ثَمَّ آثر كثير من السلف قلّة المال، وقَنِعُوا به، إما ليتوفّر لهم ثوابهم في الآخرة، وإما ليكون أقلَّ لحسابهم عليه. انتهى
(2)
.
(مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ) أي: من هؤلاء الذين لم يأكلوا من أجرهم شيئًا مصعب بن عُمير -بصيغة التصغير- ابن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ، يجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في قُصيّ، وكان يُكنى أبا عبد الله، من السابقين إلى الإسلام، وإلى هجرة المدينة.
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: أسلم قديمًا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم،
(1)
"شرح النووي" 7/ 6.
(2)
"الفتح" 11/ 282 - 282، طبعة دار الريان.
وكَتَمَ إسلامه خوفًا من أمه، فعَلِمَه عثمان بن طلحة، فأعلم أهله، فأوثقوه، فلم يزل محبوسًا، إلى أن هَرَب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع مع من رجع إلى مكة، فهاجر إلى المدينة، وشَهِد بدرًا، ثم أُحدًا، ومعه اللواء، فاستُشهد.
وقال البراء رضي الله عنه: أول من قدم علينا مُصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان القرآن، أخرجه البخاريّ في "صحيحه".
وذكر ابن إسحاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسله مع أهل العقبة الأولى، يُقرئهم، ويُعلّمهم، وكان مصعب، وهو بمكة في ثروة، ونعمة، فلما هاجر صار في قلّة، فأخرج الترمذيّ من طريق محمد بن كعب: حدّثني من سَمِع عليًّا، يقول:"بينما نحن في المسجد؛ إذ دخل علينا مصعب بن عُمير، وما عليه إلا بُردة، له مرقوعة بفَرْوَة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآه للذي كان فيه من النعم، والذي هو فيه اليوم"
(1)
.
(قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ) بالبناء للمفعول، والجملة مستأنفةٌ، أو في محل نصب على الحال من "مصعب"؛ أي: استُشهد في غزوة أُحد، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، ثبت ذلك في مرسل عُبيد بن عُمير بسند صحيح، عند ابن المبارك في "كتاب الجهاد"، قاله في "الفتح". (فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ) وفي رواية البخاريّ:"فلم نَجِد شيئًا نكفِّنه فيه"(إِلَّا نَمِرَةٌ) بفتح النون، وكسر الميم، ثم راء: هي إزار، من صوف، مخطّط، أو بُردة، وفي "المصباح": والنّمِرَة" بفتح النون، وكسر الميم: كِسَاء فيه خطوط، بِيضٌ، وسُودٌ، تلبسه الأعراب، قال ابن الأثير: وجمعها نِمَار، كأنها أُخذت من لون النَّمِر؛ لما فيها من السواد والبياض. انتهى
(2)
.
(فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ) وفي رواية البخاريّ رحمه الله: "كنّا إذا غطّينا بها رأسه"؛ أي: سترنا بتلك النمرة رأس مصعب رضي الله عنه (خَرَجَتْ رجْلَاهُ) لكونها قصيرة، لا تُوَاري جسده كلّه (وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأَسُهُ) وكذا هو عند البخاريّ، وفي رواية النسائيّ:"خرجت رأسه" بإلحاق الفعل التاء، وما في
(1)
راجع: "الإصابة" 9/ 208 - 209، و"الفتح" 11/ 283.
(2)
"المصباح" 2/ 626، و"النهاية" 5/ 118.
"الصحيحين" هو الموافق للقاعدة؛ لأن الرأس مذكّر، قال الفيّوميّ: الرأس عضوٌ معروف، وهو مذكّر، وجمعه أرؤسٌ، ورُؤُوسٌ. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ) وفي رواية البخاريّ: "فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ بها"، وفيه أنه إذا لم يواري الثوبُ جميع بدن الميت، فرأسه أولى بالستر (وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ") بكسر الهمزة، وسكون الذال المعجمة، وكسر الخاء المعجمة، بعدها راء: نبات معروف، ذَكيّ الريح، وإذا جَفّ ابيضّ، قاله في "المصباح"
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: حَشيشة طيّبة الرائحة، تُسَقّف بها البيوت فوق الخشب، وهمزتها زائدة، وإنما ذكرناها هاهنا -يعني: باب الهمزة- حملًا على ظاهر لفظها. انتهى
(3)
.
(وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ) بفتح الهمزة، وسكون التحتانية، وفتح النون والمهملة؛ أي: أدركت، ونضِجَتْ، واستحقَّت القَطْفَ، وفي بعض الروايات:"يَنَعَت" بغير ألف، وهي لغة، قال القزّاز: وأينعت أكثرُ، قاله في "الفتح"
(4)
، وفي "المصباح": يَنَعَتِ الثمارُ، يَنْعًا، من بابي نَفَعَ، وضَرَبَ: أدركت، والاسم اليُنْعُ بضمّ الياء، وفتحها، وبالفتح قرأ السبعة:{وَيَنْعِهِ} فهي يانِعَةٌ، وأينعَتْ بالألف مثله، وهو أكثر استعمالًا من الثلاثيّ. انتهى
(5)
.
(فَهْوَ يَهْدِبُهَا) بفتح أوله، وسكون ثانية، وكسر الدال المهملة؛ أي: يَجتنيها، وَيقتطفها، وضبطه النوويّ بضم الدال، وكسرها، وحَكى ابن التين تثليثها
(6)
.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا استعارة لما فَتح الله عليهم من الدنيا. انتهى.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 245.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 207.
(3)
"النهاية" 1/ 33.
(4)
"الفتح" 11/ 283.
(5)
"المصباح" 2/ 682.
(6)
هكذا نقل في "الفتح" التثليث عن ابن التين، والذي يقتضيه ظاهر ما في "القاموس"، و"اللسان" أنه بكسر الدال فقط، فما نُقل عن ابن التين، وكذا ضبط النووي له بالضمّ محلّ نظر، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث خباب رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) رحمه الله هنا [13/ 2177 و 2178](940)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1276) و"المناقب"(3897 و 3914) و"المغازي"(4047) و"الرقاق"(6432 و 6448)، و (أبو داود) في "الوصايا"(2876)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(3853)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1903) و"الكبرى"(2030)، و (أحمد) في "مسنده"(10554 و 20550 و 20567)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2102 و 2103)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب تكفين الميت.
2 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الكفن من رأس المال، وأنه مقدَّم على الديون؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بتكفينه في نَمِرته، ولم يسأل هل عليه دين مستغرق أم لا؟، ولا يبعد من حال مَن لا يكون عنده إلا نمرة أن يكون عليه دين، قال النوويّ رحمه الله: واستثنى أصحابنا من الديون الدينَ المتعلق بعين المال، فيقدَّم على الكفن، وذلك كالعبد الجاني، والمرهون، والمال الذي تعلَّقت به زكاةٌ، أو حقّ بائعه بالرجوع بإفلاس ونحو ذلك. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان أن الكفن يكون ساترًا لجميع البدن، إن تيسّر، وإلا فستر رأسه أولى.
قال النوويّ رحمه الله: وفيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن، ولم يوجد غيره جُعِل مما يلي الرأس، وجُعِل النقص مما يلي الرجلين، ويُستر الرأس، فإن ضاق عن ذلك سُترت العورة، فإن فضل شيء جُعل فوقها،
(1)
"شرح النووي" 7/ 6.
فإن ضاق عن العورة سُترت السوأتان؛ لأنهما أهمّ، وهما الأصل في العورة.
وقد يُسْتَدَلُّ بهذا الحديث على أن الواجب في الكفن ستر العورة فقط، ولا يجب استيعاب البدن عند التمكن.
[فإن قيل]: لم يكونوا متمكنين من جميع البدن؛ لقوله: "لم يوجد له غيرها".
فجوابه أن معناه: لم يوجد مما يَملِك الميت إلا نمرة، ولو كان ستر جميع البدن واجبًا لوجب على المسلمين الحاضرين تتميمه، إن لم يكن له قريب تلزمه نفقته، فإن كان وجب عليه.
[فإن قيل]: كانوا عاجزين عن ذلك؛ لأن القضية جرت يوم احد، وقد كثرت القتلى من المسلمين، واشتغلوا بهم، وبالخوف من العدوّ، وغير ذلك.
فجوابه أنه يبعد من حال الحاضرين المتولِّين دفنه أن لا يكون مع واحد منهم قطعة من ثوب، ونحوها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو حسنٌ، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): ما كان عليه السلف، من الصدق في وصف أحوالهم.
5 -
(ومنها): أن الصبر على مكابدة الفقر، وصعوبته من منازل الأبرار.
6 -
(ومنها): أن هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لدنيا، يصيبونها، ولا نعمة يتعجّلونها، وإنما كانت خالصة لله تعالى؛ ليثيبهم عليها في الآخرة أجرًا عظيمًا، كما وعدهم بذلك، فمن مات منهم قبل فتح البلاد توفّر له ثوابه، ومن بقي حتى نال من طيبات الدنيا خَشِيَ أن يكون عُجّل له أجر طاعته، كما ثبت في قصة عبد الرحمن بن عوف، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(1275)
- حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم، أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أُتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قُتل مصعب بن عُمير، وهو خير مني، كُفّن في بُردة، إن غُطِّي رأسه، بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه، بدا رأسه، وأُراه قال: وقُتل حمزةُ، وهو خير مني، ثم بُسط لنا، من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خَشِينا أن تكون حسناتنا، عُجِّلت لنا، ثم جَعَل يبكي، حتى ترك الطعام.
وبالجملة فكانوا أحرص الناس على نعيم الآخرة، رضي الله تعالى عنهم، وعنّا معهم برحمته، إنه أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الكفن من أين يُخرَج؟:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: "ذِكْرُ إخراج الكفن قبل قضاء الديون، والوصايا، والمواريث": اختلفوا في الكفن من أين يُخرَج؟ فقال أكثر أهل العلم: يُخرَج من جميع المال، هكذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء، ومجاهد، والحسن البصريّ، وعمرو بن دينار، والزهريّ، وعُمر بن عبد العزيز، وقتادة، ومالك، وسفيان الثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وابن الحسن، وروينا ذلك عن الشعبيّ، والنخعيّ، قال: وبهذا نقول؛ لأن خبر مصعب بن عُمير رضي الله عنه دليل على ذلك، وهو قوله:"لم يترك إلا نمرة، كُفّن فيها".
قال: وفي المسألة قولان شاذّان: أحدهما قول خِلَاس بن عمرو: إن الكفن من الثلث.
والقول الثاني قول طاوس: إن الكفن من جميع المال، وإن كان المال قليلًا، فمن الثلث، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة المحرم الذي مات دليل على أن الكفن من رأس المال، وهو قوله:"وكفّنوه في ثوبيه". انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله حسنٌ جدًا.
وحاصله أن الكفن من جميع المال، وأنه مقدّم على الدين والوصية؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نصّ على تكفين مصعب بتلك النَّمِرَة، ولم يستفصل، هل عليه دين، أو وصية، أم لا؟ وكذلك في قصّة المحرم، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- وقد ثبت عن الإمام الشافعيّ رحمه الله مقالته المشهورة وهي، قاعدةٌ مسلّمة لَدَى المحقّقين في باب الاستدلال، وهي: "تركُ الاستفصال، في حكاية الحال، مع
(1)
"الأوسط" 5/ 362 - 363.
قيام الاحتمال، ينزّل منزلة العموم في المقال"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رخًصللهُ المذكور أولَ الكتاب قال:
[2178]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا اِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا
(1)
عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدثنا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
(2)
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](ت 239) عن (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(اِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
4 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) تقدّم أيضًا قبل باب.
5 -
(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.
6 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
7 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، تقدّم قريبًا.
8 -
(ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيان الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
و"الْأَعْمَشُ" ذُكر قبله.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الأعمش، ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(3897)
- حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا الأعمش، قال: سمعت أبا وائل يقول: عُدْنا خبّابًا، فقال: هاجرنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنّا مَنِ مَضَى لم يأخذ من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عُمير، قُتِل يوم أُحد، وتَرَك نمِرَة، فكنا إذا غَطَّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُغَطِّي رأسه، ونجعل على رجليه شيئًا من إذخر، ومِنّا من أينعت له ثمرته، فهو يهدبها". انتهى.
وأما روايات جرير، وعيسى بن يونس، وعليّ بن مسهر، كلهم عن الأعمش، فلم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2179]
(941) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كفنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أثوَابٍ، بِيضٍ، سَحُوبيَّةٍ، مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَة، أَمَّا الْحُلَّةُ فَإِنَّمَا
(1)
شُبِّهَ عَلَى النَّاسِ فِيهَا أَنَّهَا اشْتُرِيَتْ لَهُ؛ لِيُكَفَّنَ فِيهَا، فَتُرِكَتِ الْحُلَّةُ، وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، بِيضٍ، سَحُولِيَّةٍ، فَأَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: لَأَحْبِسَنَّهَا حَتَى أُكَفِّنَ فِيهَا نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَهَا اللهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ لَكَفنَهُ فِيهَا، فَبَاعَهَا، وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
(1)
وفي نسخة: "فإنها".
3 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وأبي بكر، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وأما أبو كريب، فهو أحد التسعة الذين اتّفق بالرواية عنهم الجماعة، بلا واسطة، كما مرّ غير مرّة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقون كوفيّون، سوى يحمص، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته.
5 -
(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، وهو عروة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت من الأحاديث (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: كُفِّنَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ) زاد في "طبقات ابن سعد": "إزار، ورداء، ولفافة"(بِيضٍ) بالجرّ صفة لـ "أثواب"، وهو بكسر الموحّدة جمع أبيض، ووزنه في الأصل فُعْلٌ، بضمّ الفاء، مثل حُمْر، كما قال في "الخلاصة":
فُعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرٍ وَحَمْرَا
…
وَفِعْلَةٌ جَمْعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى
ولكن أُبدل من ضمة الياء كسرة، كراهة انقلاب الياء واوًا.
[فائدة]: قيل: إن أصول الألوان أربعة: الابيضاض، والاحمرار، والاصفرار، والاسوداد، وما عدا ذلك من الألوان يتشعّب منها، ذكره ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 416.
(سَحُوليَّةٍ) - بفتح السين، وضمها- قال النوويّ: رحمه الله: والفتح أشهر، وهي رواية الأكثرين، وقال في "النهاية" تبعًا للْهرويّ: يُروى بفتح السين، وضمها، فالفتح منسوب إلى السَّحُول، وهو القَصَّار؛ لأنه يَسْحَلُها؛ أي: يَغْسلها، أو إلى سَحُول، وهي قرية باليمن، وأما الضمّ، فهو جمع سَحْل، وهو الثوب الأبيض النَّقِيّ، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شُذوذ؛ لأنه نُسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضمّ أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال في "الصحاح": السَّحْل الثوب الأبيض، من الكُرْسُف، من ثياب اليمن، قال المسَيّب بن عَلَس يذكر ظُعُنًا [من الكامل]:
وَلَقَدْ أرَى ظُعُنًا أُبَيِّنُهَا
…
تُحْدَى كَأَنَّ زُهَاءَهَا الأَثْلُ
فِي الآلِ يَخْفِضُهَا وَيَرْفَعُهَا
…
رِيعٌ يَلُوحُ كَأَنَّهُ سَحْلُ
و"الرَيع" بالكسر، والفتح: الطريق، شَبَّهَ الطريق بثوب أبيض.
والجمع سُحُول، وسُحُلٌ، مثلُ سُقُف، ثم ذكر الحديث، ثم قال: ويُقال: سُحُول موضع باليمن، وهي تنسب إليه، وقال في "المحكم": السَّحْلُ ثوب أبيض، وخصّ بعضهم به الثوب من القطن، وقيل: السَّحْلُ ثوب أبيض رقيق، وجمع كل ذلك أَسْحَالٌ، وسُحُولٌ، وسُحُل.
قال الْمُتَنَخِّلُ الْهُذَليّ:
كَالسُّحُلِ الْبِيضِ جَلَا لَوْنَهَا
…
سَحُّ نِجَاءِالْحَمَلِ الأَسْوَلِ
(2)
وقال الفيّوميّ رحمه الله: و"سَحُول" مثلُ رَسول، بلدة باليمن، يُجلب منها الثياب، وُينْسَب إليها على لفظها، فيقال: أثواب سَحُولية، وبعضهم يقول: سُحُولية بالضمّ، نسبة إلى الجمع، وهو غلط؛ لأن النسبة إلى الجمع إذا لم يكن عَلَمًا، وكان له واحد من لفظه، تَرُدّ إلى الواحد بالاتفاق. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
(1)
"النهاية" 2/ 347.
(2)
راجع: "لسان العرب" 11/ 327 - 328.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 268.
وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ
…
إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحَدًا بِالْوَضْعِ
(مِنْ كُرْسُفٍ) بضمّ الكاف والسين المهملة، بينهما راء ساكنة: هو القطن، وقال في "القاموس": الْكُرْسُفُ كعُصْفُرٍ، وزُنْبُورٍ: القطنُ. انتهى
(1)
. وقال في "المصباح" الْكُرْسفُ: القطن، والكرسُفَةُ: أخصّ منه، مثالُ بُنْدُق، وبُنْدُقة. انتهى.
ووقع في رواية للنسائيّ بلفظ: "كُفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بِيضٍ يمانية، كرسفٍ"، قال ابن الأثير رحمه الله: جعل الكرسف وصفًا للثياب، وإن لم يكن مشتقًّا، كقولهم: مررتُ بحيّةٍ ذِرَاعٍ، وإبلٍ مائةٍ، ونحو ذلك. انتهى
(2)
.
وقولها: (لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ) قال النوويّ: رحمه الله: معناه: لم يُكَفَّن في قميص، ولا عمامة، وإنما كُفِّن في ثلاثة أثواب غيرهما، ولم يكن مع الثلاثة شيء آخر، هكذا فسره الشافعيّ، وجمهور العلماء، وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث، قالوا: ويستحب أن لا يكون في الكفن قميصٌ، ولا عمامةٌ، وقال مالك، وأبو حنيفة: يستحبّ قميص وعمامة، وتأولوا الحديث على أن معناه: ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة، وإنما هما زائدان عليهما، وهذا ضعيف، فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كُفِّن في قميص وعمامة.
وهذا الحديث يتضمن أن القميص الذي غُسِل فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم نُزِع عنه عند تكفينه، وهذا هو الصواب الذي لا يَتَّجِهُ غيره؛ لأنه لو بقي مع رطوبته لأفسد الأكفان.
وأما الحديث الذي في "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كُفن في ثلاثة أثواب: الْحُلَّةُ ثوبان، وقميصه الذي تُوُفِّي فيه، فحديثٌ ضعيفٌ، لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته مُجْمَعٌ على ضعفه، لا سيّما وقد خالف بروايته الثقات. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.
(أَمَّا الْحُلَّةُ) بضم الحاء المهملة، وتشديد اللام: جمعها حُلَلٌ، كغُرْفة
(1)
"القاموس المحيط" 3/ 188.
(2)
"النهاية في غريب الحديث" 4/ 163.
(3)
"شرح النووي" 7/ 8.
وغُرَف، وهي بُرُود اليمن، ولا تسمّى حُلّةً إلا أن تكون ثوبين، من جنس واحد
(1)
. (فَإِنَّمَا) وفي بعض النسخ: "فإنها"(شُبِّهَ) بتشديد الموحّدة، مبنيًّا للمفعول، يقال: شَبَّهتُ عليه تشبيهًا، مثلُ لَبَّسته عليه تلبيسًا وزنًا ومعنًى، فالمشابهة: المشاركة في معنًى من المعاني، والاشتباه: الالتباس، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
، والمعنى هنا أنه اشتَبَه (عَلَى النَّاسِ فِيهَا) أي: في شأن الْحُلّة، وفي رواية النسائيّ:"فذُكر لعائشة قولهم: في ثوبين، وبُرْد من حِبَرَة، فقالت: قد أُتي بالبرد، ولكنهم ردّوه، ولم يُكفّنوه فيه"، وقولها:(أَنَّهَا) بفتح الهمزة بتقدير حرف التعليل؛ أي: لأنها، وَيحْتَمِل أن يكون بكسر الهمزة على أن الجملة تعليليّة، وهو تعليل للتشبيه عليهم؛ أي: إنما شُبّه عليهم؛ لأنها (اشْتُرِيَتْ) بالبناء للمفعول (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (لِيُكَفَّنَ فِيهَا) بالبناء للمفعول أيضًا (فَتُرِكَتِ الْحُلَّةُ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: لم تُجعل في جملة الكفن (وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، بِيضٍ، سَحُولِيَّةٍ، فَأَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق، وهو عبد الله بن عبد الله بن عثمان، وهو شقيق أسماء بنت أبي بكر، ذكره ابن حبان في "الصحابة"، وقال: مات قبل أبيه، وثبت ذكره في "صحيح البخاري" في قصة الهجرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار قريش، وهو غلام شابٌّ فَطِنٌ، فكان يبيت عندهما، ويخرج من السَّحَر، فيصبح مع قريش.
وذكر الطبري في "تاريخه" أن عبد الله بن أُرَيقط الدُّئليّ الذي كان دليل النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا رجع بعد أن وصل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أخبر عبد الله بن أبي بكر الصديق بوصول أبيه إلى المدينة، فخرج عبد الله بعيال أبي بكر، وصحبهم طلحة بن عبيد الله، حتى قدموا المدينة.
وقال ابن عبد البرّ: لم أسمع له بمشهد إلا في الفتح، وحنين، والطائف، فإن أصحاب المغازي ذكروا أنه رُمِي بسهم، فجُرِح، ثم اندمل، ثم انتقض، فمات في خلافة أبيه، في شوال سنة إحدى عشرة.
(1)
"النهاية" 1/ 432، و"المصباح المنير" 1/ 148.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 304.
قال المرزباني في "معجم الشعراء": أصابه حجر في حصار الطائف، فمات شهيدًا، وكان قد تزوج عاتكة، وكان بها مُعْجَبًا، فشغلته عن أموره، فقال له أبوه: طَلِّقها، فطلقها، ثم نَدِم، فقال [من الطويل]:
أَعَاتِكُ لَا أَنْسَاكِ مَا ذَزَ شَارِقٌ
…
وَمَا لَاحَ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ مُحَلِّقُ
لَهَا خُلُق جَزْلٌ وَرَأيٌ وَمَنْصِبٌ
…
وَخَلْقٌ سَوِيٌّ فِي الْحَيَاةِ وَمَصْدَقُ
وَلَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ الْيَوْمَ مِثْلَهَا
…
وَلَا مِثْلُهَا فِي غَيْرِ شَيْءٍ تُطَلَّقُ
وله فيها غير هذا، فَرَقّ له أبو بكر، فأمره بمراجعتها، فراجعها، ومات وهي عنده، ولها مرثية.
روى البخاريّ في "تاريخه" من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ أن عبد الله بن أبي بكر كان تزوّج عاتكة بنت زيد بن عمرو أخت سعيد بن زيد، وأنه قال لها عند موته: لك حائطي، ولا تزوّجي بعدي، قال: فأجابته إلى ذلك، فلما انقضت عدّتها خطبها عمر، فذكر القصة في تزويجه، ورواه غيره فذكر معاتبة عليّ لها على ذلك
(1)
.
(فقالَ) عبد الله (لَأَحْبِسَنَّهَا حَتَّى أُكَفِّنَ فِيهَا نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَضِيَهَا اللهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ) صلى الله عليه وسلم (لَكَفَّنَهُ فِيهَا، فَبَاعَهَا، وَتَصَدَّقَ بثَمَنِهَا) وفي رواية ابن إسحاق في "المغازي" عن هشام، عن أبيه، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بُرْدَي حِبَرَة، حتى مَسَّا جلده، ثم نزعهما، فأمسكهما عبد الله؛ ليُكَفَّن فيهما، ثم قال: وما كنت لأمسك شيئًا منع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منه، فتصدق بهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا (13/ 2179 و 2180 و 2181 و 2182] (941)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1264 و 1271 و 1272 و 1273 و 1387) و"اللباس"
(1)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 24، 25.
(5814)
، و (أبو داود) في "الجنائز"(3120 و 3151)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(996) و"الشمائل"(393)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1897 و 1898 و 1899) و"الكبرى"(2024 و 2025 و 2026)، و (ابن ماجه) في "الجنائز" 14691)، و (مالك) في "الموطّأ"(521 و 522)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(574)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6171)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1453)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 40 و 45 و 118 و 132 و 165 و 192 و 203 و 214)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3037)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4495)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2104 و 2105 و 2106 و 2107 و 2108 و 2109 و 2110)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 399 و 400)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في ذكر اختلاف الروايات في كفن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: اتفَقَ عليه -يعني حديث الباب- الأئمةُ الستةُ، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بزيادة "من كُرسف، ليس فيها قميص، ولا عمامة"، وليس قوله:"من كُرْسُف" عند الترمذيّ، ولا عند ابن ماجه، زاد مسلم:"أما الحلّة، فإنما شُبِّهَ على الناس فيها أنها اشتُريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلّة، وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر، فقال: لأحبسنها حتى أُكَفِّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم، لكفنه فيها، فباعها، وتصدّق بثمنها".
وفي رواية له: "ادرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُلّة يمانية، كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نُزعت منه، وكفّن في ثلاثة أثواب سحولية يمانية، ليس فيها عمامة، ولا قميص
…
" الحديث.
وفي رواية أصحاب "السنن" الأربعة: "كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض يمانية، كُرْسُف، ليس فيها قميص، ولا عمامة"، فذُكِر لعائشة قولهم: في ثوبين، وبرد حبرة؟ فقالت: قد أُتي بالبرد، ولكنهم رَدُّوه، ولم يكفنوه فيه، وقال الترمذيّ: حسن صحيح، وفي رواية للبيهقيّ:"في ثلاثة أثواب سحولية جُدُد".
وأخرج أبو داود في "سننه" عنها: لا أُدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد، حِبَرة، ثم أُخِّر عنه"، وهو حديث صحيح.
وفيه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنه: "في ثلاثة أثواب نجرانيّة، الحلّة ثوبان، وقميصه الذي مات فيه"، قال عثمان -يعني ابن أبي شيبة-:"في ثلاثة أثواب، حُلّة حمراء، وقميصه الذي مات فيه"، قال الحافظ رحمه الله: تفرد به يزيد بن أبي زياد، وقد تغير، وهذا من ضعيف حديثه.
وفي رواية لابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"كُفِّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثةِ رِيَاطٍ، بِيضٍ، سحولية"، وهو حديث حسن.
وفي رواية عن ابن عباس، قال:"كُفِّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحُلّة نجرانية"، وهو حديث ضعيف، فيه يزيد بن أبي زياد، وقد تقدم الكلام عليه قريبًا.
وفي "مسند أحمد" عن عائشة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاث رياط بيض يمانية"، وفيه أيضًا، عن ابن عباس:"كُفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيضين، وبرد أحمر"، وانفرد أحمد بالحديثين.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما الأول، فرجاله ثقات، وأما الثاني ففيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، سيئ الحفظ، وأيضًا لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث، كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب"، وليس هذا منها، فهو ضعيف.
وعند أبي سعيد بن الأعرابي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كُفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ريطتين، وبرد نجرانيّ".
وعند ابن عساكر: "كفّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، ليس فيها قميص، ولا قباء، ولا عمامة".
وروى ابن أبي شيبة، وأحمد، والبزّار عن علي رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كفّن في سبعة أثواب".
قال الحافظ رحمه الله: وهو من رواية عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن ابن الحنفية، عن عليّ، وابنُ عَقِيل سيّئ الحفظ، يصلح حديثه للمتابعات، فأما إذا
انفرد، فيحسّن، وأما إذا خالف، فلا يقبل، وقد خالف هو رواية نفسه، فرَوَى عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كفّن في ثوب نَمِرة.
وعند ابن سعد، عن الشعبيّ:"كفّن في ثلاثة أثواب، برد، يمانية غِلاظ إزار، ورداء، ولفافة".
وعن مرّة بن شُرَحبيل، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثَقُلَ، قلنا: فيم نكفّنك؟ قال: "في ثيابي هذه إن شئتم، أو في يمانية، أو ثياب مصر".
وعن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زُرّ عليه قميصه الذي كفن فيه، قال ابن سيرين: أنا زررت على أبي هريرة.
وعند أبي بشر الدّولابيّ، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثواب: ثوبين صُحَارين
(1)
، وثوب حبرة".
وعند ابن عديّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كفّن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيضين سحولتين".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد وردت روايات مختلفة، كما ذكرنا بعضها في كفن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحها -كما قال الترمذيّ، والحاكم، وغيرهما- حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب، فهو المعتمد، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب تكفين الميت، وهو إجماع المسلمين، ويجب في ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته، فإن لم يكن ففي بيت المال، فان لم يكن وجب على المسلمين، يُوَزِّعه الإمام على أهل اليسار، وعلى ما يراه، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
2 -
(ومنها): بيان عدد كفن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
قال في "النهاية" 3/ 12: صُحار؛ أي: بالضمّ: قرية باليمن، نُسب إليها الثوب، وقيل: هي حمرة خفية كالْغُبْرة. انتهى.
(2)
"شرح النوويّ" 7/ 8.
3 -
(ومنها): استحباب كون الكفن ثلاثةً اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: وهو مذهبنا، ومذهب الجماهير، والواجب ثوب واحد، والمستحب في المرأة خمسة أثواب، ويجوز أن يكفن الرجل في خمسة، لكن المستحب أن لا يُتجاوَز الثلاثة، وأما الزيادة على خمسة فإسراف في حق الرجل والمرأة. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): استحباب كونها بِيضًا؛ لأن الأبيض أنظف، وأطيب، وهو إجماع، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد أخرج أصحاب "السنن" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَسُوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم".
5 -
(ومنها): عدم مشروعية القميص، والعمامة في الأكفان؛ لقول عائشة رضي الله عنها:"ليس فيها قميص، ولا عمامة".
6 -
(ومنها): استحباب كون الأكفان من القطن؛ لقولها أيضًا: "من كُرسف"، وهو القطن، كما تقدّم.
قال النوويّ رحمه الله: ويكره المصبغات، ونحوها من ثياب الزينة، وأما الحرير فقال أصحابنا: يحرم تكفين الرجل فيه، ويجوز تكفين المرأة فيه مع الكراهة، وكره مالك، وعامّة العلماء التكفين في الحرير مطلقًا، قال ابن المنذر: ولا أحفظ خلافه. انتهى.
وفي "مصنّف ابن أبي شيبة": عن الحسن البصرفي، ومحمد بن سيرين أنه كان يُعجبهما أن يكون الكفن كَتّانًا.
وقال أصحاب الشافعيّ: جنسه في كلّ ميت ما يجوز له لبسه في الحياة، فيجوز تكفين المرأة في الحرير، لكن يكره، ويحرم تكفين الرجل به، فاما المزعفر، والمعصفر، فلا يحرم تكفينها فيه، ولكن يكره على المذهب، وكذا قال الحنفيّة: ما جاز للإنسان لبسه في حياته جاز تكفينه به، وقال أحمد بن حنبل: لا يعجبني أن يكفّن في شيء من الحرير، وكره ذلك الحسن، وابن المبارك، وإسحاق، قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن غيرهم خلافه.
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 8.
وذكر ابن قُدامة في جواز تكفين المرأة بالحرير احتمالين، وقال: أَقْيَسُهُما الجواز، لكن يكره، وكذلك يكره تكفينها بالمعصفر، ونحوه.
وقال الأوزاعيّ: لا يكفّن الميت في الثياب المصبغة، إلا ما كان من الْعَصْب؛ يعني: ما صُبغ بالعَصْب، وهو نبت ينبت باليمن.
وعند المالكية في التكفين بالحرير أقوال: (الجواز مطلقًا) لسقوط المنع بالموت، لكن يكره. (والمنع مطلقًا) إلا لضرورة، وهما محكيان عن مالك. (والثالث) قاله ابن حبيب: يجوز للنساء دون الرجال. وقال القاضي عياض، والنوويّ في "شرح مسلم": كره مالك، وعامة العلماء التكفين في الحرير مطلقًا انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، دماليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في معنى قول عائشة رضي الله عنها: "ليس فيها قميص، ولا عمامة":
(اعلم): أنهم اختلفوا فيه، فحمله الشافعيّ، والجمهور على أنه ليس في الكفن موجودًا، فلا يستحبّ ذلك. وحمله مالك، وأبو حنيفة على أنه ليس معدودًا، بل يَحْتَمِل أن يكون ثلاثة أثواب، زيادة على القميص والعمامة، ومثله قوله تعالى:{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] فإنه يدلّ على أنّ ثَمَّ عَمَدًا، إلا أنها غير مرئيّة، والتقدير: بغير عمد مرئية لكم، وَيحْتَمِل أن يتناول الصفة والموصوف جميعًا
(1)
.
قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: وهو حمل ضعيف؛ لعدم ثبوته في الحديث، بل يتضمّن أن القميص الذي غُسل فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه، ولا يتجه غير ذلك؛ لأنه لو كُفّن فيه مع رطوبته لأفسد الأكفان. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله: الصحيح أن معناه ليس في الكفن قميص، ولا عمامة أصلًا، وقيل: معناه أنه كفّن في ثلاثة أثواب خارجة عن القميص والعمامة، قال الشيخ تقيّ الدين رحمه الله: والأول أظهر في المراد.
وذكر النوويّ في "شرح مسلم" أن الأول تفسير الشافعيّ، وجمهور
(1)
"شرح النووي" 7/ 8.
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 416 - 417.
العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كُفّن في قميص وعمامة. انتهى.
وترتّب على هذا اختلافُهم في أنه هل يستحبّ أن يكون في الكفن قميص وعمامة، أم لا؟ فقال مالك، والشافعيّ، وأحمد: يستحبّ أن يكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص، ولا عمامة، واختلفوا في زيادة القميص والعمامة، أو غيرهما على اللفائف الثلاثة؛ لتصير خمسة.
فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقالت الشافعية: إنه جائز غير مستحبّ، وقالت المالكية: إنه مستحبّ للرجال والنساء، وهو في حقّ النساء آكد، قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقالت الحنفية: إن الأثواب الثلاثة إزار، وقميص، ولفافة.
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنَّفه" عن عبد الله بن عمرو، وإبراهيم النخعيّ، وذكر الحنابلة أنه لو كفّن في إزار، وقميص، ولفافة لم يكره، ولكن الأفضل الأول، وهذا جائز بلا كراهة.
وقال بعض متأخري المالكيّة: يجزئ على قول مالك قميص وعمامة ولفافة، والمشهور عندهم أن الثلاثة لفائف، كما تقدّم، وهو رواية ابن القاسم. وقال سفيان الثوريّ: إن شئت في قميص ولفافتين، وإن شئت في ثلاث لفائف.
وقد ظهر بذلك أن من قال: إن من الثلاثة قميصًا، فهو مخالف لهذا الحديث على الاحتمالين المتقدمين معًا، وكأنه تمسّك في استحباب القميص بإلباسه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبَيّ قميصًا، وسيأتي ذكره.
وذكر الحنفية في توجيهه أنه الذي يعتاد لبسه في الحياة، فكذا بعد الموت، ويقتضي اختلافه باختلاف عادة ذلك الميت فيما كان يلبسه في حياته، لكن قد يقال: حمل الأمر على الأكثر الأغلب.
وقال النوويّ في "شرح مسلم": قال مالك، وأبو حنيفة: يستحبّ قميص وعمامة، وتاولوا الحديث على أن معناه: ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة، وإنما هما زائدان عليها، ثم ضعّفه كما تقدّم، وقد عرفت أن الحنفية يجعلون القميص من جملة الثلاثة.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنّفه" كون الميت لا يُعمّم عن الشعبيّ، وأبي
الشعثاء جابر بن زيد، وحكاه ابن بطّال وغيره عن جابر بن عبد الله، وعطاء، ورَوَى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه يُعَمّم، كما يُعَمَّمُ الحيُّ، وعن الحسن: توضع العمامة وسط رأسه، ثم يُخَالَف بين طرفيها، هكذا على جسده، وقال مالك في "المدوّنة": من شأن الميت أن يعمّم عندنا.
ورَوَى البيهقيّ في "الخلافيات" عن مالك أنه قال: ليس على هذا العمل عندنا؛ يعني: تقميص الميت. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال: إن السنة أن تكون الأثواب الثلاثةُ خالية عن القميص، والعمامة؛ لأنّ ظاهر هذا الحديث يدلّ على ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في عدد الكفن:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: رَوَينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كفّن عمر في ثلاث أثواب، ثوبين سحوليين، وثوباً كان يلبسه.
وقالت عائشة رضي الله عنهما: لا يكفّن الميت في أقلّ من ثلاثة أثواب لمن قدر.
وكان طاوس يكفّن الرجل من أهله في ثلاثة أثواب، ليس فيهنّ عمامة.
وممن رأى أن الميت يكفّن في ثلاثة أثواب: مالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقد رَوَينا عن سُويد بن غفلة، قال: كفّن أبو بكر في معقدين، قال: والذي رَوَيناه عن عائشة أنه قال: "اغسلوا ثوبي هذا، واجعلوا معه ثوبين" أصحّ.
وقال الأوزاعيّ: يجزئ ثوبان، وقال مالك: يكفي في ثوبين؛ إذا لم يوجد غيرهما، وكان ابن عمر يكفّن أهله في خمسة أثواب، عمامة، وقميص، وثلاث لفائف، وقال النعمان: يكفّن الرجل في ثوبين.
قال ابن المنذر رحمه الله: أحبّ الأكفان إليّ ما قدر الله جَلَّ ذكرُهُ لنبيه صلى الله عليه وسلم أن كفّن فيه، ثلاثة أثواب بيض، يُدْرج فيها الميت إدراجًا، لا يكون فيما يكفّن فيه الميت قميص، ولا عمامة، فإن كفّن الميتُ في ثوب، أو في ثوبين لم أكره ذلك. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار
(1)
.
(1)
"الأوسط" 5/ 354 - 356.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: السنّة للرجل في الكفن ثلاثة أثواب، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبو حنيفة، والجمهور.
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله: رُوي في كفن النبيّ صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصحّ الروايات التي رويت في كفن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والعمل على حديث عائشة رضي الله عنها عند أكثر أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيرهم. انتهى
(1)
.
وقال البيهقيّ رحمه الله في "الخلافيات": قال أبو عبد الله -يعني الحاكم-: تواترت الأخبار عن عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وعائشة، وابن عمر، وعبد الله بن مغفّل رضي الله عنهم في تكفين النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب، بيض، ليس فيها قميص، ولا عمامة.
ورَوَى ابن أبي شيبة في "مصنّفه" التكفين في ثلاثة أثواب، عن أبي بكر، وعمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وإبراهيم النخعيّ، وعن ابن عباس، أنه قال: ثوب، أو ثلاثة، أو خمسة، وعن حذيفة أنه قال: كفنوني في ثوبيّ هذين، وعن ابن عمر أنه كفّن ابنه واقدًا في خمسة أثواب: قميص، وعمامة، وثلاث لفائف، وعن سُوَيد بن غَفَلَةَ: قال: الرجل والمرأة يكفنان في ثوبين، وكُفن أبو بكر في ثوبين، وعن غنيم بن قيس: كنا نكفّن في الثوبين، والثلاثة، والأربعة، وعن هشام بن عوف: أن غير واحد من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم كُفّن في ثوب واحد، وعن الحسن البصريّ: أن عثمان بن أبي العاص كُفّن في خمسة أثواب
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد قدّمت أن الأرجح ما قاله ابن المنذر رحمه الله، وحاصله أن الأفضل ما اختار الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وهو التكفين في ثلاثة أثواب، بِيضٍ، هذا إذا تيسّر، وإلا فما وُجد فهو الكفن، كما تقدّم
(1)
"جامع الترمذي" 4/ 76 بشرح المباركفوريّ.
(2)
"طرح التثريب" 3/ 272.
في قصة مُصعب بن عُمير رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في عدد كفن المرأة:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في عدد كفن المرأة، فقال كثيرون: تكفّن المرأة في خمسة أثواب، كذلك قال النخعيّ، والشعبيّ، ومحمد بن سيرين، وبه قال الأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، قال: وكذلك نقول، يكون درع، وخمار، ولفافتان، وثوب لطيف، يُشَدّ على وسطها، يَجمع ثيابها.
وكان عطاء يقول: تكفّن في ثلاثة أثواب: درع، وثوب تحت الدرع تُلَفّ به، وثوب تلفّ فيه، وقال سليمان بن موسى: درع، وخمار، ولفافة تُدرَج فيها. انتهى.
وقال الحافظ ولي الدين رحمه الله: قال الفقهاء من الشافعية، والحنفية، والحنابلة، وغيرهم: يُستحبّ تكفين المرأة في خمسة أثواب، ففرّقوا بينها وبين الرجال؛ لأنها تزيد في حياتها على الرجال في الستر؛ لزيادة عورتها، فكذلك بعد الموت.
وفي "سنن أبي داود" ما يدلّ على ذلك في تكفين أم كلثوم بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن قال الشافعيّة: ليست الخمسة في حقّ المرأة كالثلاثة في حقّ الرجل حتى نقول يخيّر الورثة، كما يخيّرون على الثلاثة، وقال المالكية: الزيادة على الثلاثة إلى الخمسة مستحبّة للرجال والنساء، وهي في حقّهنّ آكد.
وقال أحمد بن حنبل في الجارية إذا لم تبلغ: تكفّن في لفافتين، وقميص، لا خمار فيه، وظاهر هذا أنها لا تصير كالمرأة في الكفن إلا بعد البلوغ، ورَوَى عنه أكثر أصحابه أنها إذا كانت بنت تسع سنين يُصنع بها ما يصنع بالمرأة.
واختلف العلماء في الأثواب الخمسة التي تكفّن بها المرأة، فحُكي عن الشافعي في الجديد أنها إزار، وخمار، وثلاث لفائف، وعن القديم: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتان، وذكر الرافعيّ أن هذه المسألة مما يُفتى فيه على القديم، وأنه الأظهر عند الأكثرين، وحكى النوويّ عن الشيخ أبي حامد،
والمحامليّ أن المعروف للشافعي في عامة كتبه أن يكون قميص، وأن القول الآخر لا يُعرف إلا عن المزنيّ، قال: فعلى هذا لا يكون إثبات القميص مختصًّا بالقديم، وهذا مذهب مالك، وحكاه ابن قُدامة الحنبليّ عن أكثر أصحابه، وغيرهم، وصححه، ورواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصريّ، وقال الخِرَقيّ منهم: قميص، وإزار، ومقنعة، ولفافة، وخامسة يُشدّ بها فخذاها، فجعل بدل اللفافة الأخرى خرقة تشد بها فخذاها، وأشار إليه أحمد، وكذا قال الحنفية: إن الأثواب الخمسة قميص، وإزار، وخمار، ولفافة، لكنهم قالوا في الخامسة خرقة تُربط فوق ثدييها، وهو غير هذه الرواية التي عند الحنابلة أن الخامسة خرقة تشدّ بها فخذاها، إلا أنه قريب منه.
ورَوَى ابن أبي شيبة عن الشعبيّ: تكفّن المرأة في درع، وخمار، ولفافة، ومِنطقة، وخرقة، تكون على بطنها.
وعن إبراهيم النخعيّ مثله، إلا أنه قال: والخرقة التي تشد عليها، وفي رواية عنه بدل المنطقة الإزار، وهو بمعناه. وعن ابن سيرين قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب، في الدرع، والخمار، والرداء، والأزار، والخرقة.
وعن ابن سيرين أيضًا: توضع الخرقة على بطنها، ويُعصب بها فخذاها، وعنه أيضًا: يُلفّ بها الفخذان تحت الدرع، وعن إبراهيم النخعيّ: تشد الخرقة فوق الثياب.
وذكر ابن المنذر في تفسير الأثواب الخمسة أنها درع، وخمار، ولفافتان، وثوب لطيف يُشدّ على وسطها، يجمع ثيابها. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور، من استحباب كون كفن المرأة خمسة أثواب، هو الراجح عندي، تؤيّده الزيادة التي في حديث أم عطية رضي الله عنها، فيما رواه الجوزقيّ من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، عن هشام بن حسان، عن حفصة، عن أم عطيّة، أنها قالت: (وكفنّاها في خمسة أثواب، وخمرناها كما نخمّر الحيّ".
قال الحافظ في "الفتح": وهذه الزيادة صحيحة الإسناد. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، دماليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في كفن الصبيّ:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: واختلفوا في عدد كفن الصبيّ، فكان سعيد بن المسيب يقول: يكفن في ثوب، وقال أحمد: في خرقة، وإن كفنوه في ثلاثة، فلا بأس، وكذلك قال إسحاق، وقال أصحاب الرأي: يكفن في خرقتين، ويجزي إزار واحد، وقال الثوريّ: يجزيه ثوب وأحد، وروي عن الحسن أنه قال: يكفّن في ثوبين، قال ابن المنذر رحمه الله: يكفّن في ثلاثة أثواب، أو خرق على قدر الكفاية، ويجزي ثوب. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما قاله ابن المنذر رحمه الله، فالصبيّ في الكفن كالكبير؛ إذ ليس لنا دليل يخص الصبيّ بعدد من الكفن، مخالي للكبير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2180]
(
…
) - (وَحَدَّثَني عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ الشَعْدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ، حَدَّثنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أدْرجَ رَسُولُ اللهِ فِي حُلّةٍ يَمَنِيَّةٍ
(1)
، كَانَتْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، ثُمَّ نُزِعَتْ عَنْهُ، وَكُفِّنَ فِي ثَلَاَثةِ أَثْوَابٍ، سُحُولٍ، يَمَانِيَةٍ، لَيْسَ فِيهَا عِمَامَة وَلَا قَمِيصٌ، فَرَفَعَ عَبْدُ اللهِ الْحُلَّةَ، فَقَالَ: كُفَّنُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُكَفَّنْ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُفَّنُ فِيهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (أدْرجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حُلّة
…
إلخ) بالبناء للمفعول؛ أي: لُفّ فيها، وسبب إدراجه فيها لتجفيف أثر الماء بعد الغسل، كما بُيّن ذلك عند عبد الرزاق في "مصنّفه"(3/ 422) عن معمر، عن هشام بن عروة، قال: لُفّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثوبِ حِبَرَةٍ، جُفِّفَ فيه، ثم نُزِع، وجُعِلَ مكانه السُّحُول، وكان
(1)
وفي نسخة: "يمانية".
الثوب الْحِبَرَةُ لعبد الله بن أبي بكر، فقال: لا ألبس ثوبًا نزعه الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا. انتهى.
وقولها: (يَمَنِيَّةٍ) قال النوويّ رحمه الله: ضُبِطت هذه اللفظة في مسلم على ثلاثة أوجه، حكاها القاضي، وهى موجودة في النسخ:
[أحدهما]: يَمَنِيَّة -بفتح أوله- منسوبة إلى اليمن.
[والثاني]: يمانية منسوبة إلى اليمن أيضًا.
[والثالث]: يُمْنة -بضم الياء، وإسكان الميم- وهو أشهر، قال القاضي: وهو صحيحٌ، ويُتكلّم به على الإضافة
(1)
، فيقال: حُلّةُ يُمْنَةٍ، قال الخليل: هي ضرب من بُرُود اليمن، وكذا قال أبو عبيد، والحلّة إزارٌ ورداءٌ، ولا تُسمّى حُلّة حتى يكونا ثوبين
(2)
، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في الحديث الماضي.
وقولها: (سُحُولٍ) قال القاضي عياض رحمه الله: هكذا مهمل اللفظ، فيَحْتَمل أن يكون بضمّ السين، ويكون بدلًا من أثواب إذا قلنا إنها ثياب قطن بيض تُسمّى بذلك، و"سُحُول" على هذا جمع سَحْل، ويُجمع أيضًا على لسُحُل -بضمتين- ويكون أيضًا وصفًا إذا قلنا: إن معناها بِيض، لكن قد اعترض على تفسيرها ببيض؛ لقوله قبلُ "بيض"، فلا وجه لتكرار وصفها بالبياض، كما أنه يُعترض على تفسيرها بأنها ثياب قطن؛ لعملها من"كُرْسُف"، وهو القطن، ولكن الاعتراض على هذين قد يُجاب عنه بأنه لا يُنكر تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في كلام العرب للتأكيد، كما قال الله تعالى:{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27]، وقد قال ابن وهب: السحول: قطن ليس بالجيّد. انتهى
(3)
.
وقولها: (يَمَانِيَةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هو: بتخفيف الياء، على اللغة الفصيحة المشهورة، وحَكَى سيبويه، والجوهريّ، وغيرهما لغةً في تشديدها،
(1)
وقال القرطبيّ: حُلّة يُمْنة بتنوين "حلّةٌ"، ورفع "يُمْنة" وإسكان الميم، وفتح النون، ويقال: بحذف التنوين من"حلّة" واضافتها. انتهى.
(2)
راجع: "إكمال المعلم" 3/ 395، و"شرح النوويّ" 7/ 9.
(3)
"إكمال المعلم" 3/ 393.
ووجه الأول أن الألف بدل ياء النسب، فلا يجتمعان، بل يقال: يَمَنِيَّةٌ، أو يَمَانِيَةٌ بالتخفيف. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "يمانية" في يائه مذهبان:
[أحدهما]: وهو الأشهر تخفيفها، واقتَصَر عليه كثيرون، وبعضهم ئنكر التثقيل، ووجهه أن الألف دخلت قبل الياء؛ لتكون عِوَضًا عن التثقيل، فلا يثقّل لئلا يُجمع بين العِوَض والمعوَّض عنه.
[والثاني]: التثقيل؛ لأن الألف زيدت بعد النسبة، فيبقى التثقيل الدالّ على النسبة؛ تنبيهًا على جواز حذفها. انتهى
(2)
.
وقولها: (فَتَصَدَّقَ بِهَا) أي: بثمنها، ففي الرواية السابقة:"فباعها، وتصدّق بثمنها"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2181]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه
(3)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ إِدْرِيسَ، وَعَبْدَةُ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَام، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ قِصَّةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيه، تغيّر في الآخر قليلًا [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
2 -
(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 9 - 10.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 682.
(3)
وفي نسخة:، وحدّثنا".
3 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
4 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدراورديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ
…
إلخ) يعني: أن هؤلاء الستّة: حفص، وابن عيينة، وابن إدريس، وعبدة، ووكيع، وعبد العزيز، رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: رواية حفص بن غياث، عن هشام، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" (1/ 472) فقال:
(1469)
حدّثنا أبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ، ثنا حَفْصُ بن غِيَاثٍ، عن هِشَامِ بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عَائِشَةَ، أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ في ثَلَاثَةِ أَثْوَاب، بِيضٍ، يَمَانِيَةٍ ليس فيها قَمِيصٌ، ولا عِمَامَةٌ، فَقِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قد كان كُفِّنَ في حِبَرَةٍ، فقالت عَائِشَةُ: قد جاؤوا بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فلم يُكَفِّنُوهُ. انتهى.
وأما رواية ابن إدريس، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(24795)
حدّثنا عبد الله بن إدريس، قال: حدّثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سُحُولية، ليس فيها قميص، ولا عمامة. انتهى.
وأما رواية وكيع، عن هشام، فساقها الإمام أحمد أيضًا فقال:
(25267)
حدّثنا وكيع، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمّا قُبِض كُفِّن في ثلاثة أثواب، يمانية، بيض، كُرْسُف، ليس فيها قميصٌ، ولا عمامةٌ. انتهى.
وأما رواية عبد العزيز الدراورديّ، عن هشام، فقد ساقها البيهقيّ، في "السنن الكبرى" (3/ 399) فقال:
(6464)
حدّثنا أبو جعفر كامل بن أحمد المستملي، أنبأ أبو سهل بشر بن أحمد الإسفرايينيّ، ثنا داود بن الحسين البيهقيّ، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب، سُحُوليّة، بيض، ليس فيها قميص، ولا عمامة. انتهى.
وأما رواية ابن عيينة، وعبدة، فلم أر من ساقهما بتمامهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2182]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لَهَا: فِي كَمْ كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، سَحُولِيَّةٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَزِيدُ) بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدني، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ، له أفراد [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
3 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، و"عبد العزيز" هو: ابن محمد الدّرَاورديّ.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(14) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ تَسْجِيَةِ الْمَيْتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2183]
(942) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ أمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: سُجِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ مَاتَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قريبًا.
4 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
6 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغِفاريّ مولاهم، أبو محمد، أوأبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130 أو 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
7 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الثقة الحافظ الإمام المجمع على جلالته، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
8 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) تقدّم في الباب الماضي.
9 -
(عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي أيضًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة تحمّله عنهم، ثم فصّل؛ لاختلافهم فيها.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له النسائيّ، والثالث تفرّد به هو والترمذيّ، وعلّق عنه البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَاب) الزهريّ (أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَخْبَرَهُ، أَن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: سُجِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بضمّ أوله، وكسر الجيم المشدّدة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: غُطّي وزنًا ومعنى، يقال: سجّيت الميت: إذا مددت عليه الثوب
(1)
، والمعنى أن جميع بدنه صلى الله عليه وسلم غُطّي (حِينَ مَاتَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ) -بكسر الحاء المهملة، وفتح الباء الموحّدة- هي ضرب من برود اليمن، وقال الهرويّ: هي بُرُدٌ موشية مخطّطة، وقال الداوديّ: لونها أخضر؛ لأنها لباس أهل الجنّة، كذا قال، وقال ابن بطّال: هي من بُرُود اليمن تُصنع من قطن، وكانت أشرف الثياب عندهم، وقال القرطبيّ: سُمّيت حِبَرَةً؛ لأنها تُحَبَّر؛ أي: تُزَيّن، والتحبير: التزيين والتحسين. انتهى.
وقال في "المصباح": "الْحِبَرَة" وِزَانُ عِنَبَة: ثوب يمانيّ، من قُطن، أو كتّان، مخَطّطٌ، يقال: بُرْدٌ حِبَرَةٌ، على الوصف، وبُرْدُ حَبَرَة، على الإضافة، والجمعُ حِبَرٌ، وحِبَرَاتٌ، مثلُ عِنَبٍ، وعِنَبَات. قال الأزهريّ: ليس حِبَرَةٌ موضعًا، أو شيئًا معلومًا، إنما هو وَشْيءٌ معلوم، أُضيف الثوبُ إليه، كما قيل: ثوبُ قِرْمِزٍ، بالإضافة، والْقِرْمِزُ صِبْغُهُ، فأُضيف الثوبُ إلى الوَشْيِ، والصِّبْغِ للتوضيح. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 288 "كتاب اللباس" رقم (5814).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 118.
والحِبَرة كانت أحب الثياب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان عن قتادة، قال: قلنا لأنس بن مالك: أَيُّ اللباس كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الْحِبَرة، وفي رواية للبخاريّ: قال: كان أحب الثياب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يلبسها الْحِبَرة.
وقال النوويّ رحمه الله: وفيه استحباب تسجية الميت، وهو مجمع عليه، وحِكمته صيانته من الانكشاف، وستر عورته المتغيرة عن الأعين، قال أصحابنا: ويُلَفّ طَرَف الثوب المسجَّى به تحت رأسه، وطرفه الآخر تحت رجليه؛ لئلا ينكشف عنه، قالوا: تكون التسجية بعد نزع ثيابه التي تُوُفّي فيها؛ لئلا يتغير بدنه بسببها. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسالتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2183 و 12184](942)، و (البخاريّ) في "اللباس"(5814)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3120)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(6174)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 89 و 153 و 269)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7113 و 7117)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2108 و 2109 و 2110)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 385) و"المعرفة"(3/ 124)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2184]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) السَّمَرْقنديّ، أبو محمد الحافظ الثقة الثبت الحجة الإمام، صاحب "المسند"[11](ت 255) عن (74) سنة (م دت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
5 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ الْحِمْصيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
6 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار الأمويّ مولاهم، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: أما رواية شعيب، عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:(5477) حدّثنا أبو الْيَمَانِ، أخبرنا شُعَيْبٌ، عن الزُّهْرِيِّ، قال: أخبرني أبو سَلَمَةَ بن عبد الرحمن بن عَوْفٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. انتهى.
وأما رواية معمر عن الزهريّ، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (6/ 153) فقال:
(25240)
حدّثنا عبد الله
(1)
، حدّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، وعبد الأعلى، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سُجِّي في ثوب حبرة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هو: عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل.
(15) - (بَابُ الأَمْرِ بِتَحْسِينِ الْكَفَنِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الدَّفْنِ لَيْلًا إِلَّا للاضْطِرَارِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2185]
(943) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ، فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَقُبِرَ لَيْلًا، فَزَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الْحَمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن يعقوب يوسف بن الحجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمِصِّيصيّ الأعور، ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المصّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206] (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه يدلِّس وُيرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
5 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
6 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
لطائف هذا الاسناد:
1 -
(ومنها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل، والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما مرّ آنفًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، ومن المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
عن أبي الزُّبَيْرِ (أنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يُحَدِّثُ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ) بالبناء للمفعول؛ أي: مات (فَكُفِّنَ) بالبناء للمفعول أيضًا (فِي كَفَنٍ كَيْرِ طَائِلٍ) أي: غير حسن، أو غير كامل الستر (وَقُبِرَ لَيْلًا) بالبناء للمفعول؛ أي: دُفن في الليل، يقال: قَبَرتُ الميتَ، من بابي قتلَ، وضربَ: دفنته، وأقبرتُهُ: أمرتُ أن يُقبَر، أو جعلتُ له قُبْرًا، قاله في "المصباح"
(1)
. (فَزَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بزاي، فجيم، آخره راء، من باب نصر؛ أي: منع.
وقد جاء بصريح النهي في رواية ابن ماجه، من طريق وكيع، عن إبراهيم بن يزيد المكيّ، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَدْفِنُوا موتاكم بالليل، إلا أن تضطرّوا".
وقوله: (أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ) فعل ونائب فاعله في تأويل المصدر مجرور بحرف جرّ مقدّر؛ أي: عن قَبْر الرجل؛ أي: دفنه (بِاللَّيْلِ) أي: في الليل، فالباء بمعنى "في"، وفي رواية النسائيّ:"أن يُقبَرَ إنسانٌ ليلًا"(حَتَّى يُصَفَى عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول أيضًا (إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية النسائيّ:"إلا أن يُضطرّ إلى ذلك"، وعليها فالنائب عن الفاعل هو الجارّ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 487.
والمجرور، قال في "المصباح": وضَرَّه إلى كذا، واضطَرَّه: ألجأه إليه، وليس له منه بُدٌّ. انتهى
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: وأما النهي عن القبر ليلًا حتى يُصَلَّى عليه، فقيل: سببه أن الدفن نهارًا يحضره كثيرون من الناس، ويصلّون عليه، ولا يحضره في الليل إلا أفراد، وقيل: لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن، فلا يَبِين في الليل، ويؤيّده أول الحديث وآخره، قال القاضي: العلتان صحيحتان، قال: والظاهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصدهما معًا، قال: وقد قيل هذا. انتهى
(2)
.
(وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَفَّنَ) بتشديد الفاء، وفي رواية النسائيّ:"إذا ولي أحدكم أخاه"؛ أي: تولّى تجهيز أخيه الميت (أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ) بضم الياء، من التحسين، وَيحْتَمِل أن يكون من الإحسان (كَفَنَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: ضبطه أبو بحر: كَفْنه بسكون الفاء، وغيره بفتحها؛ يعني: الكفن نفسه، وهو الأولى. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين: فتح الفاء، وإسكانها، وكلاهما صحيح، قال القاضي: والفتح أصوب، وأظهر، وأقرب إلى لفظ الحديث. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فعلى تسكين الفاء يكون مصدر كَفَنَ، قال في "المصباح": كَفّنتُه في بُرْد، ونحوه، تكفينًا، وكَفَنتُهُ، كَفْنًا، من باب ضرب، لغةٌ. انتهى؛ أي: يحسن فعلَ التكفين، فيشمل الثوب، وهيئته، وعمله، وعلى فتح الفاء يكون اسمًا للثوب الذي يكفّن فيه الميت، ويُجمَع على أكفان، مثل سَبَب، وأسباب؛ أي: يَجْعَل كفنه حسنًا.
قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: وليس المراد بإحسان الكفن السَّرَف فيه، والمغالاة، ونَفَاسته، وإنما المراد نظافته، ونقاؤه، وكثافته، وستره، وتوسّطه، وكونه من جنس لباسه في الحياة غالبًا، لا أفخر منه، ولا أحقر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المصباح" 2/ 360.
(2)
"شرح النوويّ" 7/ 11.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 2185](943)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3148)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1895 و 2014) و"الكبرى"(2022 و 2141)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1521)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 295 و 329 و 349 و 371 و 381)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2111)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 523 و 524)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 142)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6/ 306)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 32 و 403)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1478)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): بيان الأمر بتحسين الكفن، فلا يكفّن الميت بكفن حقير، إلا إذا لم يوجد الكفن الحسن.
2 -
(ومنها): بيان النهي عن الدفن ليلًا، تكثيرًا للصلاة عليه.
3 -
(ومنها): أن في قوله: "إلا أن يُضطرّ إليه" دليلًا على أنه لا بأس به في وقت الضرورة.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مراعاة أحوال أصحابه رضي الله عنهم، أحياءً وأمواتًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الدفن ليلًا:
قال النوويّ رحمه الله: قد اختَلَف العلماءُ في الدفن في الليل، فكرهه الحسن البصريّ، إلا لضرورة، وهذا الحديث مما يُستدلّ له به.
وقال جماهير العلماء، من السلف والخلف: لا يكره، واستدلّوا بأن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه، وجماعة من السلف دُفنوا ليلًا، من غير إنكار، وبحديث المرأة السوداء، والرجل الذي كان يقمّ المسجد، فتوفّي بالليل، فدفنوه ليلًا، وسألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقالوا: توفي ليلًا، فدفنّاه في الليل، فقال:"ألا آذنتموني؟ "، قالوا: كانت ظلمة، ولم يُنْكَر عليهم، وأجابوا عن هذا الحديث
أن النهي كان لترك الصلاة، ولم يَنْهَ عن مجرّد الدفن بالليل، وإنما نَهَى لترك الصلاة، أو لقلة المصلين، أو عن إساءة الكفن، أو عن المجموع، كما سبق. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أخذ به الحسن، فكره أن يُقبر الرجل بالليل، إلا لضرورة، وذهب الجمهور إلى جواز ذلك، وكانهم رأوا أن ذلك النهي خاصّ بذلك الرجل؛ لئلا تفوته صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: يمكن أن يقصدوا بدفنه بالليل ستر إساءة ذلك الكفن الغير الطائل.
قال: وهذه التأويلات فيها بُعْدٌ، ولا تصلح لدفع ذلك الظاهر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما صدر عنه النهي المطلق بعد دفن الرجل بالليل، فقد تناول النهي غيره قطعًا، فتامله.
ويمكن أن يُعضد مذهب الحسن بانه إن قبر ليلًا قلّ المصلون عليه؛ لأن عادة الناس في الليل ملازمة بيوتهم، ولا يتصرفون فيه، ولأنه إذا قبر ليلًا تسومح في الكفن؛ لأن الليل يستره، ودل على صحته قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا كفّن أحدكم أخاه، فليُحسن كفنه". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الحسن البصريّ رحمه الله، هو الأرجح عندي، كما مال إليه القرطبيّ؛ لظاهر حديث الباب.
وقد جاء النهي أيضًا عن الدفن في الأوقات الثلاثة: طلوع الشمس، والاستواء، وغروب الشمس، فقد تقدّم للمصنّف حديث عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهنّ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، حتى تميل الشمس، وحين تَضَيَّف الشمس للغروب حتى تغرب.
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ولا يجوز أن يُدفَن أحدٌ ليلًا إلا عن ضرورة، ولا عند طلوع الشمس حتى ترتفع، ولا حين استواء الشمس حتى تأخذ في الزوال، ولا حين ابتداء أخذها في الغروب، ويتصل ذلك بالليل إلى طلوع الفجر الثاني، قال: وكل من دُفِن ليلًا منه صلى الله عليه وسلم، ومن أزواجه، ومن
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 11.
(2)
"المفهم" 2/ 601 - 602.
أصحابه رضي الله عنهم فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك، من خوف زحام، أو خوف الحرّ، على من حضر، وحرُّ المدينة شديد، أو خوف تغير، أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلًا، لا يحلّ لأحد أن يَظُنّ بهم رضي الله عنهم خلاف ذلك، قال: رَوَينا من طريق يحيى بن سعيد القطان، ثنا هشام الدستوائيّ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب أنه كَرِه الدفن ليلًا. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ.
والحاصل أن الأرجح المنع عن الدفن في هذه الأوقات؛ لقوّة دليله، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم في تحسين الكفن:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: وبحديث جابر قال الحسن البصريّ، وابن سيرين.
قال: وقد رَوَينا عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: لا تغالوا بكفني، فإن يك لصاحبكم عند الله خير بُذلَ كسوةً خيرًا من كسوتكم، وإلا سُلبه سريعًا.
قال: وكان إسحاق يقول: لا تغالوا بالكفن؛ إذا كان في حياته صاحب إعواز، فإن ذلك مما يُجحف بالورثة، وإن كان صاحب يسار، فَغَالَى فهو جائز.
وقد أوصى ابن مسعود أن يكفّن في حلّة بمئتي درهم.
وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة.
وروينا عن معاذ بن جبل أنه قال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإن الموتى يحشرون في أكفانهم.
وقال محمد ابن الحنفية: ليس للميت في الكفن شيء، ولكنه تكرمة للحيّ. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بتحسين الكفن هو الحقّ، كما دلّ عليه حديث جابر رضي الله عنه المذكور في الباب، ولكن ليس معناه أن يُغالَى فيه، بل أن يكون نظيفًا، نَقيًّا، كثيفًا، ساترًا إلى آخر ما تقدم في كلام النوويّ رحمه الله، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: حديث: "لا تغالوا في الكفن، فإنه يُسلَب سريعًا"، رواه أبو
داود، وهو ضعيف، وإن سكت عنه أبو داود، وحسنه النوويّ، والمنذريّ؛ لأن في سنده عمرو بن هاشم، ضعّفه مسلم، وغيره، وفيه انقطاع بين الشعبيّ، وبين عليّ رضي الله عنه، فإن الشعبيّ لم يسمع منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(16) - (بَابُ الأَمْرِ بِالإِسْرَاعِ بِالْجَنَازَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكناب قال:
[2186]
(944) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ -لَعَلَّهُ قَالَ-: تُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهِ
(1)
، وَإِنْ تَكُنْ
(2)
غَيْرَ ذَلِكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِيِ شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل بابين.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل باب.
5 -
(سَعِيدُ) بن المسيّب، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن
(1)
وفي نسخة: "إليه".
(2)
وفي نسخة: "وإن تك".
بينهما؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهما، ثم فرّق؛ لاختلافهما في صيغة الأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني نساليّ، ثم بغداديّ، وابن عيينة كوفيّ، ثم مكيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن هذا الإسناد مما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
6 -
(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة، وأبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "؛ أي: يرفع هذا الحديث، فيوصله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والجملة في محل نصب على الحال، وهذه العبارة من صِيَغ الرفع حكمًا.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله ما حاصله: أخرج هذا الحديث الأئمة الستة من هذا الوجه، من رواية سفيان بن عُيينة، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، وفي روايتهم التصريح برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أن في رواية أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ:"يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم "، كما هو اللفظ الأخير هنا
(1)
، وقوله في اللفظ الأول هنا:"روايةً" كناية عن الرفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا خلاف أعلمه. انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَسْرِعُوا) بهمزة القطع، أمر من الإسراع، والمرد به الإسراع المتوسط بين شدة السعي، وبين المشي المعتاد، بدليل حديث أبي بكرة رضي الله عنه:
(1)
يعني: اللفظ الواقع في متن "تقريب الأسانيد" لوالده الحافظ العراقيّ الذي شرح هو بعضه، وبعضه لوالده في شرح مفيد جدًّا، أعتمد عليه كثيرًا في هذا الشرح، وفي "شرح النسائيّ"، وقد سمّاه "طرح التثريب في شرح التقريب".
(2)
"طرح التثريب" 3/ 288.
"لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لنكاد نَرْمُلُ بالجنازة رملًا"
(1)
؛ إذ مقاربة الرمل ليس بالسعي الشديد، كما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله، وسيأتي أقوال أهل العلم في الإسراع بالمشي في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(بِالْجَنَازَةِ) أي: بحملها، متعلق بـ "أسرعوا"، قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: من قال: الجنازة بالفتح للميت، وبالكسر للنعش، كما قدّمنا أول الباب يتعيّن عنده هنا قراءة قوله:"أسرعوا بالجنازة" بالفتح؛ لأن المقصود الإسراع بالميت، لا النعش، ويدلّ على ذلك آخر الحديث. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن المناسب هنا الكسر؛ لأن الجِنَازة بالكسر اسم للنعش، وعليه الميت، كما هو القول الراجح من أقوال أهل اللغة، والمقصود هنا الإسراع بالنعش، وعليه الميت؛ إذ لا معنى للإسراع بحمل الميت إلا مع النعش، فليتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: المراد بالإسراع هنا الإسراع بالميت، كما قلناه، فيتضمّن الأمر بحمله إلى قبره، وهو فرض كفاية. وقيل: المراد به الإسراع بتجهيزه بعد موته، لئلا يتغيّر، والأول أظهر، وعليه الجمهور.
قال النوويّ رحمه الله: والثاني باطل، مردود بقوله صلى الله عليه وسلم:"فشرّ تضعونه عن رقابكم".
وقال القرطبيّ رحمه الله: لا يبعد أن يكون كلّ واحد منهما مطلوبًا؛ إذ مقتضاه مطلق الإسراع، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقيّده بقيد.
وقال الفاكهيّ: ما ردّه النوويّ جمود على ظاهر لفظ الحديث، وإلا فيَحْتَمِل حمله على المعنى، فإنه قد يُعبّر بالحمل على الظهر، أو العنق عن المعاني، دون الذوات، فيقال: حمل فلان على ظهره، أو على عنقه ذنبًا، أو نحو ذلك، ليكون المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم:"فشرّ تضعونه عن رقابكم": إنكم تستريحون من نظر من لا خير فيه، أو من مجالسته، ونحو ذلك، فلا يكون في الحديث دليل على ردّ قول هذا القائل، ويقوّي هذا الاحتمال أن كلّ حاضري
(1)
هذا قاله لما رأى قومًا حاملين الجنازة يمشون متباطئين، فأنكر عليهم ذلك، وهو حديث صحيح، أخرجه النسائيّ، (1912)، راجع: شرحي على النسائيّ 19/ 83 - 86.
الميت لا يحملونه، إنما يحمله القليل منهم، لا سيّما اليوم، فإنما يحمله في الغالب مَن لا تعلّق له به. انتهى
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: ويؤيّده -يعني كلام الفاكهيّ- حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مات أحدكم، فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره"، أخرجه الطبرانيّ بإسناد حسن، ولأبي داود من حديث حصين بن وَحْوَح، مرفوعًا: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تبقى بين ظهراني أهله
…
" الحديث. انتهى
(2)
.
وقال ابن قدامة رحمه الله: هذا الأمر بالإسراع للاستحباب، بلا خلاف بين العلماء، وشذّ ابن حزم، فقال بوجوبه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا وجه للردّ على ابن حزم رحمه الله؛ لأن ظاهر النصّ معه؛ إذ هوأمر، والأمر للوجوب، إلا لدليل يصرفه إلى غيره، ولا دليل ذكروه هنا، إلا دعوى الإجماع الذي أشار إليه، فإن صحّ فذاك، وإلا فما قاله ابن حزم هو الحقّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(فَإِنْ تَكُ) بحذف النون، والأصل "تكون"، فدخل الجازم، فأسكن النون، فاجتمع ساكنان، الواو والنون، فحذفت الواو؛ لالتقاء الساكنين، ثم حُذفت النون تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَمِنْ مُضَارعٍ لِكَانَ مُنْجَزِمْ
…
تُحْذَفُ نُونٌ وَهْوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ
واسم "تك" المستتر يعود إلى الجنازة بمعنى الجثّة المحمولة، قال الطيبيّ: جُعلت الجنازة عين الميت، وجُعلت الجنازة التي هي مكان الميت مقدّمة إلى الخير الذي كُني به عن عمله الصالح، مبالغةً، كما قوله:
مَا دَرَى نَعْشُهُ وَلَا حَامِلُوهُ
…
مَا عَلَى النَّعْشِ مِنْ عَفَافٍ وَجُودِ
قال: ولما لاحظ في جانب العمل الصالح هذا قابل قرينها بوضع الشرّ عن الرقاب، وكان أثر عمل الرجل الصالح راحةً له، فأمر بإسراعه إلى ما
(1)
"الإعلام بفوائدة عمدة الأحكام" 4/ 469 - 470.
(2)
"الفتح" 3/ 539.
يستريح إليه، وأثر عمل الرجل الطالح مشقّة عليهم، فأمر بوضع جيفته عن رقابهم، فالضمير في "إليه" راجع إلى الخير باعتبار الثواب، أو الإكرام. انتهى
(1)
.
(صَالِحَةً) بالنصب على أنه خبر "تك"(فَخَيْرٌ) الظاهر أن التنوين فيه، وفي "شرّ" للتعظيم؛ أي: خيرٌ عظيمٌ، وشرٌّ عظيمٌ.
قال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: "خير"، و"شرّ" فيه إعرابان:
الأول: أن يكونا مبتدأين، والخبر محذوف؛ أي: فلها خير، ولها شرّ، وساغ الابتداء بالنكرة؛ لكون فاء الجزاء وليتهما، فهما من باب قولهم: إن مضى عَيْرٌ، فعَيْرٌ في الرباط.
الثاني: أن يكونا خبرين محذوفي المبتدأ، والتقدير: فهي، وهي؛ أي: ذات خير، وذات شرّ.
وأما الجملتان اللتان بعدهما، وهما "تقدّمونها"، و"تضعونها"، فصفة لهما. انتهى.
وقال في "الفتح": قوله: "فخير" خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو خير، أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فلها خير، أو فهناك خير، ويؤيده رواية مسلم بلفظ:"قرّبتموها إلى الخير"، ويأتي في قوله بعدُ "فشرّ" نظير ذلك. انتهى.
وقال السنديّ: الظاهر أن التقدير: فهي خير؛ أي: الجنازة بمعنى الميت؛ لمقابلته بقوله: "فشرّ"، فحينئذ لا بدّ من اعتبار الاستخدام في ضمير "إليه" الراجع إلى الخير، ويمكن أن يقدّر: فلها خير، أو فهناك خير، لكن لا يُساعده المقابلة، والله تعالى أعلم. انتهى.
وقوله: (لَعَلَّهُ قَالَ) هكذا رواية المصنّف هنا، بلفظ "لعله قال"، ورواية البخاريّ وغيره خالية عنه، ولفظ رواية يونس الآتية:"فإن كانت صالحة، قرّبتموها إلى الخير"(تُقَدِّمُونَهَا) بضمّ أوله، وتشديد الدال، من التقديم (عَلَيْهِ) وفي بعض النسخ:"إليه"؛ أي: إلى الخير الذي أعدّه الله لها من النعيم المقيم، وقال في "الفتح": الضمير راجع إلى الخير، باعتبار الثواب، قال ابن
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1390 - 1391.
مالك: رُوي: "تقدّمونه إليها" فانث الضمير على تأويل الخير بالرحمة، أو الحسنى. انتهى.
وقال القاري رحمه الله؛ أي: فإن كان حال ذلك الميت حسنًا طيّبًا، فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيّبة عن قريب. انتهى.
(وَإِنْ تَكُنْ) وفي بعض النسخ: "وإن تك" بحذف النون كالأول، وكلاهما جائز، كما أسلفته آنفًا في قول ابن مالك رحمه الله:
وَهْوَ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ
(غَيْرَ ذَلِكَ) أي: غير صالحة؛ يعني: أنه إن كانت الجنازة غير صالحة (فَشَرٌّ) إعرابه كإعراب نظيره، وهو قوله:"فخير" الما ضي (تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ") أي: فلا مصلحة لكم في مصاحبتها، وملابستها؛ لأنها بعيدة عن رحمة الله تعالى.
[تنبيه]: في هذا الحديث تعليل الأمر بالإسراع بتقديم الصالحة إلى الخير، والتعجيل بوضع غير الصالحة عن الرقاب، وقد أشير في حديث آخر إلى تعليل بعلة أخرى، وهي مخالفة أهل الكتاب، أو اليهود خاصّة.
فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبع جنازة، قال:"ابسطوا بها، ولا تَدِبُّوا دَبيب اليهود بجنائزها".
وفي "مصنّف ابن أبي شيبة"، عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما، أنه أوصى:"إذا أنا متّ، فأسرعوا، ولا تُهوّدوا، كما تُهوّد اليهود والنصارى".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رجلًا يقول: ارفقوا بها رحمكم الله، فقال: هوّدوا، لتسرعوا بها، أو لأرجعنّ.
وعن إبراهيم النخعيّ: كان يقال: ابسطوا بجنائزكم، ولا تدبّوا بها دبّ اليهود، وعن علقمة: لا تدبّوا بالجنازة دبيب النصارى.
فهذه الآثار تبيّن سبب الأمر بالإسراع، ولا مانع من التعليل بالأمرين.
والحاصل أن السنّة الإسراع في المشي بالجنازة؛ لأجل ما دلّت عليه الأحاديث المذكورة، وسيأتي تمام البحث في أقوال العلماء في ذلك في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2186 و 2187 و 2188) (944)، و (البخارفي) في "الجنائز"(1315)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3181)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1015)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1910 و 1911) و "الكبرى"(2037 و 2038)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1477)، و (مالك) في "الموطأ"(574)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 240 و 280)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2112 و 2113 و 2114)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر الإسراع بالجنازة، والمراد به الإسراع المتوسط الذي لا يُخشى معه سقوط الميت، ونحوه، لكن إن خُشي على الميت من التأخير تغيّر، أو انفجار، أو انتفاخ زيد في الإسراع، وعكسه، إن خُشِي من الإسراع أن يحدث انفجار مثلًا فلا يُسرع، قال الشافعيّ رحمه الله: فإن كان بالميت علّة، يُخاف أن يتنجّس منه شيء، أحببت أن يُرفق بالمشي. انتهى.
قال ابن الملقّن رحمه الله: وكَرِه بعضهم الإسراع، وهو محمول على الإسراع المحذور، قال: ولا تُؤخّر لزيادة مصلّين، ولا لانتظار أحد غير الوليّ، فيُنتظر لأجله، إن لم يُخَف تغيّرها. انتهى.
2 -
(ومنها): أنه يستدلّ به على أن حمل الجنازة يختصّ بالرجال؛ للإتيان فيه بضمير المذكّر، ولا يخفى ما فيه، قاله في "الفتح"، وقال ابن الملقّن رحمه الله: الخطاب بالإسراع للرجال، فإن النساء يضعفن عن الحمل، ورئما انكشف بعض أبدانهنّ. انتهى.
3 -
(ومنها): استحباب المبادرة إلى دفن الميت، لكن بعد أن يُتَحَقّق أنه مات، أما مثل المطعون، والمفلوج، والمسبوت، فينبغي أن لا يُسرع بدفنهم حتى يمضي يوم وليلة؛ ليُتَحقّق موتهم، نبّه على ذلك ابن بزيزة.
4 -
(ومنها): أن فيه إكرام أهل الخير والصلاح؛ إذا ماتوا بالمبادرة إلى
الوصول إلى جزاء ما قدّموه، من الأعمال الصالحة، وجزاؤها من فضل الله تعالى ورحمته.
5 -
(ومنها): أن فيه تقليل مصاحبة أهل الشرّ، إلا فيما شُرع عند موتهم، كتجهيزهم، ودفنهم، وذلك لبعدهم عن رحمة الله تعالى، فلا مصلحة في مصاحبتهم، وكذا ينبغي اجتناب مصاحبة أهل البَطَالة، وغير الصالحين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في مشروعية الإسراع بالجنازة، وفي حدّه:
قال الحافظ وفي الدين رحمه الله: حَكَى البيهقيّ في "المعرفة" عن الشافعيّ: أن الإسراع بالجنازة هو فوق سجيّة المشي، وحَكَى عنه ابن المنذر، وابن بطّال أنه سجيّة المشي، والأول أثبت، ويوافقه قول أصحابنا، وهذه عبارة الرافعيّ والنوويّ: المراد بالإسراع فوق المشي المعتاد، دون الخَبَب، وكذا قال الحنفيّة، وهذه عبارة صاحب "الهداية": ويمشون به مسرعين، دون الخبب، وحكى ابن قُدامة، عن القاضي، من الحنابلة أن المستحبّ إسراع، لا يخرج عن المشي المعتاد، قال: وهو قول الشافعيّ، قال: وقال أصحاب الرأي: يَخُبّ، ويرمُلُ.
وقال ابن المنذر بعد ذكره هذا الحديث: ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعمران بن حُصين، وأبي هريرة، قال: وقال الشافعيّ: يسرع بالجنازة إسراع السجيّة، مشي الماشي، قال: وقال أصحاب الرأي: العجلة أحبّ إلينا من الإبطاء بها.
وروى ابن أبي شيبة الوصيّةَ به عن عمر، وعمران بن حُصين، وأبي هريرة، وعلقمة، وأبي وائل، وعلي بن الحسين.
وعن أبي الصدّيق الناجيّ: إن كان الرجل ليتقطّع شِسْعُهُ في الجنازة، فما يدركها، وما يكاد أن يدركها. وعن ابن عمر: لَتُسرعنّ بها، أو لأرجعنّ. وعن الحسن، ومحمد أنهما كانا يعجبهما أن يسرع بالجنازة. وكان الحسن إذا رأى منهم إبطاء قال: امْضُوا، لا تحبسوا ميتكم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أباه أوصاه، فقال: إذا أنت حملتني على السرير، فامش بي مشيًا بين الماشيين.
وحَكَى الطحاوي في المسألة خلافًا، فحكى عن قوم أن السرعة بالجنازة أفضل، قال: وهو قول أبي حنيفة، وصاحبيه، وجمهور العلماء، قال: وخالفهم آخرون، وقالوا: المشي بها مشيًا ليّنًا أفضل.
وقال القاضي عياض: معنى هذا الإسراع عند بعضهم ترك التراخي في المشي بها، والتباطؤ، والزَّهْوِ في المشي، ويكره الإسراع الذي يشقّ على من تبعها، ويحرك الميت، وربما كان سبب خروج شيء منه، وعلى هذا حملوا نهي مَن نهى من السلف عن الدَّبيب بها دبيب اليهود، وأمر بالإسراع، وجمعوا بينه وبين من رُوي عنه النهي عن الإسراع، واستدلّوا بما جاء في الحديث مفسّرًا عنه صلى الله عليه وسلم:"هو ما دون الْخَبَب"
(1)
، وفي حديث آخر:"عليكم بالقصد في جنائزكم".
وهو قول جمهور العلماء، وأبي حنيفة، وأصحابه، والشافعيّ، وابن حبيب من أصحابنا، وحمل بعضهم ما جاء في ذلك من الآثار عن السلف على الخلاف في المسألة، والجمع بينهما على ما تقدّم. انتهى.
ورجّح القاضي عياض نفي الخلاف في المسألة، وأن من أمر بالإسراع أراد به المتوسّط، ومن نهى عنه أراد المفرط، ويوافق هذا كلام النوويّ، فإنه بعد أن نقل عن الشافعية وغيرهم استحباب الإسراع، قال: وجاء عن بعض السلف كراهة الإسراع، وهو محمول على الإسراع المفرط الذي يُخاف معه انفجارها، أو خروج شيء منها. انتهى.
قال الحافظ ولي الدين رحمه الله: ولنذكر الأحاديث في ذلك، فنقول:
رَوَى أبو داود بسند صحيح من رواية عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أنه كان في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيًا خفيفًا، فلَحِقَنا أبو بكرة، فرفع سوطه، وقال:"لقد رأيتنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نرمُلُ رَمَلًا"، وفي رواية له:"في جنازة عبد الرحمن بن سمُرة"، بدل "عثمان بن أبي العاص"، ورواه النسائيّ، وقال في روايته:"عبد الرحمن بن سمُرة"، وقال:"وإنا لنكاد نَرْمُلُ بها رَمَلًا"، ورواه الحاكم في "مستدركه" مختصرًا بدون القصّة التي في أوله، بلفظ:"وإنا لنكاد"، وصحّح إسناده.
(1)
سيأتي قريبًا أنه ضعيف.
وروى أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، من رواية أبي ماجدة، عن ابن مسعود، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة؟، فقال:"ما دون الخبب" الحديث، قال الترمذيّ: حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود، إلا من هذا الوجه، وسمعت محمد بن إسماعيل يضعّفه، وقال: قال الحميديّ: قال ابن عُيينة: قيل ليحيى: مَن أبو ماجدة هذا؟ قال: طائر طار، فحدّثنا.
وقال النوويّ: اتفقوا على ضعفه، وأن أبا ماجدة مجهول، منكر الحديث.
وفي "الصحيحين" عن عطاء، قال: حضرنا مع ابن عبّاس جنازة ميمونة رضي الله عنه بسَرِفَ، فقال ابن عبّاس:"هذه ميمونة؛ إذا رفعتم نعشها، فلا تزعزعوه، ولا تزلزلوه، وارفُقُوا".
وفي "مصنّف ابن أبي شيبة" عن أبي موسى، قال: مُرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بجنازة، وهي تَمْخَضُ كما يمخض الزِّقُّ، فقال:"عليكم بالقصد في جنائزكم"، ورواه البيهقيّ في "سننه" بلفظ:"عليكم بالقصد في المشي بجنائزكم".
قال الجامع عفا الله عنه: وفي سنده ليث بن أبي سُليم، وهو متروك، والله تعالى أعلم.
قال ولي الدين: واستدلّ والدي رحمه الله في "شرح الترمذيّ" على أن المراد التوسط بين شدّة السعي، وبين المشي المعتاد بقوله في حديث أبي بكرة:"وإنا لنكاد أن نرمل"، قال: ومقاربة الرمَل ليس بالسعي الشديد، قال ولي الدين: وقد عرفتَ أن لفظ أبي داود "نرمُلُ".
وأجاب والدي عن قول ابن عباس أنه -والله أعلم- أراد الرفق في كيفية الحمل، لا في كيفية المشي بها، فإنه خَشِي أن تسقط، أو تنكشف، أو نحو ذلك، قال: وإن أراد الرفق في السير، فيَحْتَمِل أنه كان حصل لها ما يُخشى معه انفجارها، إن أزعجوها في السير، أو أن هذا رأي لابن عباس، والحديث المرفوع أولى بالاتباع. انتهى.
وجزم النووي في "الخلاصة" بذلك الاحتمال، فبوّب على هذه القضية
"كراهة شدة الإسراع، مخافة انفجارها"، وكذا بؤب عليه قبله البيهقيّ. انتهى كلام ولي الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تلخّص من هذه الأقوال، وأدلتِها أن الصواب مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لصحة النصوص الواردة في ذلك، كما في حديث الباب، لكن يكون إسراعًا لا يؤدي إلى أمر محظور، من سقوط الميت، أو انفجاره، أو حصول الضرر لمن يتبع الجنازة، وبهذا ئجْمَع بين مذهب القائلين بالإسراع، وبين من حُكِي عنهم النهي عنه، فلا اختلاف بينهم في الحقيقة، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2187]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْن حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْن حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيْرَ أَن فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَ الْحَدِيثَ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل باب أيضًا.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قبل باب أيضًا.
5 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م) تقدم في لا الإيمان" 14/ 165.
6 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت هـ أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ) ميسرة أبو سلمة البصريّ، صدوقٌ يُخطئ [7].
رَوَى عن قتادة، وأبي جمرة الضُّبَعيّ، وعمرو بن دينار، والزهريّ، ومحمد بن زياد الْجُمَحيّ، وعليّ بن زيد بن جُدْعان.
ورَوَى عنه الثوريّ، وابن المبارك، وإبراهيم بن طهمان، وحماد بن زيد، ورَوْح بن عُبادة، وأبو إسحاق الفزاريّ، وأبو معاوية الضرير، وغيرهم.
قال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالحٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقةٌ غير أن يحيى بن سعيد لم يكن له فيه رأي، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال عليّ ابن المدينيّ: ليس به بأس، قال: وقلت ليحيى بن سعيد: هل كتبتَ عنه؟ فقال: كتبت حديثه كله، ثم رميت به بَعْدُ، وهو نحو صالح بن أبي الأخضر، قال: وسمعت معاذ بن معاذ يقول: كتبت عنه، ثم رَغِبت عنه؛ لأني رأيته يأتي أشعث بن عبد الملك، فإذا قام أتى إلى صبيان، فأملوها عليه، وقال ابن عديّ: هو من الضعفاء الذين يُكْتَب حديثهم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (944)، وحديث (1306): "ارم ولا حرج
…
"، و (1351): "وهل ترك لنا عَقِيل من منزل؟ ".
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) الضمير لمعمر، ومحمد بن أبي حفصة.
[تنبيه]: رواية معمر، ومحمد بن أبي حفصة عن الزهريّ لم أجد من ساقهما بالتمام، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2188]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِي، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَة، فَإِنْ كَانَتْ
صَالِحَةً قرَّبْتُمُوهَا إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَانَ شَرًّا تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
3 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ الأمويّ مولاهم، أبو يزيد، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
6 -
(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ) اسمه أسعد الأنصاريّ، له رؤية، ولم يسمع، ثقةٌ [2](ت 100) وله (92) سنة (ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(17) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكناب قال:
[2189]
(945) - (وَحَدَّثَني
(1)
أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِي، وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ وَحَرْمَلَةَ، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَني
(2)
عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ
(1)
وفي نسخة: "حدّثني".
(2)
وفي نسخة: "أخبرني".
هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ الْجَنَان حَتَى يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاط، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَانِ"، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ". انْتَهَى حَدِيثُ أَبِي الطَّاهِرِ، وَزَادَ الْآخَرَانِ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَيْهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ
(1)
كَثِيرَةً).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عمران التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِي) أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ حافظ عابدٌ [9](ت 197) وله (72) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
5 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
6 -
(ابْنُ شِهَاب) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدً نيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجة إمام، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"ج 1 ص 348.
7 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ) أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية [3](ت 117) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
(1)
وفي نسخة: "في قراريط".
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهم، حيث روى عن كلّ منهم سماعًا وحده، ثم فصّل بينهم؛ للاختلاف فيها، فهارون أخذ عن ابن وهب سماعًا، والآخران أخذا عنه قراءةً، فتفطّن، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، كما مرّ آنفًا.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ويونس ممن نزل مصر، والنصف الثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والإخبار والقول، سوى موضع واحد.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَاب) الزهريّ أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي) وفي نسخة: "أخبرني"(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ هُزمُزَ الْأَعْرَجُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه.
[تنبيه]: حديث الباب ورد من رواية اثني عشر من الصحابة رضي الله عنه، وهم: أبو هريرة، وعائشة عند الشيخين، وثوبان، عند مسلم، والبراء، وعبد الله بن مغفّل عند النسائيّ، وأبو سعيد الخدريّ، عند أحمد، وابن مسعود عند أبي عوانة، وأسانيد هؤلاء صحاح، ومن حديث أُبيّ بن كعب، عند ابن ماجه، وابن عباس عند البيهقيّ في "الشُّعَب"، وأنس عند الطبرانيّ في "الأوسط"، وواثلة بن الأسقع عند ابن عديّ، وحفصة، عند حميد بن زنجويه في "فضائل الأعمال"، وفي كلّ من أسانيد هؤلاء الخمسة ضعف، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 99.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) موصولة، أو شرطيّة (شَهِدَ الْجَنَان)؛ أي: حضرها وفي الرواية الآتية من طريق جرير بن حازم، عن نافع:"من تَبعَ جنازة"(حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا) بفتح اللام مبنيًّا للمفعول؛ أي: إلى أن يفرغ من الصلاة عليها، وَيحْتَمِل أن يكون بكسر اللام، بالبناء للفاعل.
قال في "الفتح": واللام للأكثر مفتوحة، وفي بعض الروايات بكسرها، ورواية الفتح محمولة عليها؛ فإنّ حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له. انتهى.
وقال في موضع آخر: قوله: "حتى يصلي" بكسر اللام، ويروى بفتحها، فعلى الأول لا يحصل الموعود به، إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال: يحصل له ذلك، ولو لم يُصَلِّ، أما إذا قصد الصلاة، وحال في ونه مانع، فالظاهر حصول الثواب له مطلقًا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَلَهُ قِيرَاطٌ) -بكسر القاف- قال الجوهريّ: أصله قِرّاط بالتشديد؛ لأن جمعه قراريط، فأُبدل من أحد حرفي تضعيفه ياء، قال: والقيراط نصف دانِق، وقال قبل ذلك: الدانِق سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءًا من اثني عشر جزءًا من الدراهم، وأما صاحب "النهاية"، فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشرة في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربعة وعشرين جزءًا.
ونقل ابن الجوزيّ عن ابن عَقِيل أنه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم، أو نصف عشر دينار، والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلّق بالميت في تجهيزه، وغسله، وجميع ما يتعلّق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط، وذكر القيراط تقريبًا للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط، ويعمل العمل في مقابلته، وعدّ من جنس ما يعرف، وضرب له المثل بما يعلم. انتهى.
قال الحافظ: وليس الذي قاله ببعيد، وقد روى البزّار من طريق عجلان، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "من أتى جنازة في أهلها، فله قيراط، فإن تبعها، فله
(1)
"الفتح" 1/ 199 "كتاب الإيمان" رقم (47).
قيراط، فإن صلى عليها، فله قيراط، فإن انتظرها حتى تدفن، فله قيراط"، فهذا يدلّ على أن لكلّ عمل من أعمال الجنازة قيراطاً، وإن اختلفت مقادير القراريط، ولا سيّما بالنسبة إلى مشقّة ذلك العمل، وسهولته، وعلى هذا فيقال: إنما خصّ قيراطي الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين، بخلاف باقي أحوال الميت، فإنها وسائل.
ولكن هذا يخالف ظاهر سياق الحديث الذي عند البخاريّ في "كتاب الإيمان"، فإن فيه إن لمن تَبِعَها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها قيراطين فقط.
ويجاب عن هذا بأن القيراطين المذكورين لمن شَهِد، والذي ذكره ابن عقيل لمن باشر الأعمال التي يَحتَاج إليها الميتُ، فافترقا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث الذي ذكره الحافظ عن البزّار ضعيف، كما اعترف به هو في "الفتح"(3/ 559) فكيف يؤيِّد به ما نقله عن ابن عَقيل؟، وكيف يستشكله مع حديث البخاريّ؟ فهذا شيء عجيب غريب، فتأمل.
قال: وقد ورد لفظ القيراط في عدّة أحاديث، فمنها ما يُحْمَل على القيراط المتعارَف، ومنها ما يُحْمَل على الجزء في الجملة، وإن لم تُعرف النسبة: فمن الأول حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، مرفوعاً:"إنكم ستفتحون بلداً يُذكر فيها القيراط".
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً:"كنتُ أرعى غنماً لأهل مكة بالقراريط"، قال ابن ماجه عن بعض شيوخه: يعني كل شاة بقيراط، وقال غيره: قراريط جبل بمكة.
ومن المحتمل حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الذين أُوتوا التوراة: "أعطوا قيراطاً قيراطاً"، وحديث الباب، وحديث أبي هريرة:"من اقتنى كلباً نقص من عمله كلّ يوم قيراط".
وقد جاء تعيين مقدار القيراط في حديث الباب بأنه مثل أُحُد، وفي رواية عند أحمد، والطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عمر: قالوا: يا رسول الله، مثل قراريطنا هذه؟ قال:"بل مثلُ أحد".
وقال ابن العربي القاضي: الذّرّة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءاً من حبّة، والحبّة ثُلُث القيراط، فإذا كانت الذرّة تُخرِج من النار، فكيف بالقيراط؟ قال: وهذا قدر قيراط الحسنات، فأما قيراط السيئات فلا. وقال غيره: القيراط في اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتني له في ذلك اليوم.
وذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط في حديث الباب جزء من أجزاء معلومة عند الله، وقد قرّبها النبيّ صلى الله عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأُحُد.
وقال الزين ابن المنيّر: أراد تعظيم الثواب، فمَثَّلَه للعيان بأعظم الجبال خَلْقاً، وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبًّا؛ لأنه الذي قال في حقّه: إنه جبل يحبنا، ونحبّه. انتهى. ولأنه أيضاً قريب من المخاطبين، يشترك أكثرهم في معرفته.
وخصّ القيراط بالذكر لأنه كان أقلّ ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل.
وقال الطيبيّ: قوله: "مثل أُحُد" تفسير للمقصود من الكلام، لا للفظ القيراط، والمراد منه أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبيّن الموزون بقوله:"من الأجر"، وبيّن المقدار منه بقوله:"مثل أحد".
وقال النوويّ وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في الحديثين تساويهما؛ لأن عادة الشارع تعظيم الحسنات، وتخفيف مقابلها، والله أعلم.
(وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفنَ)؛ أي: يُفرغ من دفنها؛ أي: بعد صلاته عليها، كما بيّنه في القسم الأول بقوله:"حتى يُصَلَّى عليها". وقد جاء التصريح بالصلاة في القسمين في رواية البخاريّ، ولفظه:"من اتبع جنازة مسلم إيماناً، واحتساباً، وكان معها حتى يصلَّى عليها، ويُفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كلّ قيراط مثلُ أحد، ومن صلّى عليها، ثم رجع قبل أن تُدفن، فإنه يرجع بقيراط".
قال في "الفتح": قوله: "ويُفرغ" بضم أوله، وفتح الراء، ويروى بالعكس، وقد أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمد،
خلافاً لمن تمسّك بظاهر بعض الروايات، فزعم أنه يحصل بالمجموع ثلاثة قراريط. انتهى.
وقال في موضع آخر: قوله: "حتى تُدفَن": ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن، وهو أصحّ الأوجه عند الشافعية وغيرهم، وقيل: يحصل بمجرد الوضع في اللحد، وقيل: عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب، وقد وردت الأخبار بكلّ ذلك، ويترجّح الأول للزيادة، ففي هذه الرواية:"حتى يُفرَغ منها"، وفي رواية عند مسلم:"حتى توضع في اللحد"، وفي رواية له:"حتى توضع في القبر"، وفي رواية لأحمد:"حتى يُقضَى قضاؤها"، وللترمذي:"حتى يُقضَى دفنُها"، ولأبي عوانة:"حتى يُسوّى عليها"؛ أي: التراب، وهي أصرح الروايات في ذلك.
وَيحْتَمِل حصول القيراط بكلّ من ذلك، لكن يتفاوت القيراط، كما تقدّم. انتهى ما قاله في "الفتح" بتصرّف
(1)
.
(فَلَهُ قِيرَاطَانِ") قال النووي رحمه الله: معناه بالأول، فيَحْصُل بالصلاة قيراط، وبالاتّباع مع حضور الدفن قيراط آخر، فيكون الجميع قيراطين، تُبَيَّنه رواية البخاريّ في أول "صحيحه" في "كتاب الإيمان":"من شَهِد جنازة، وكان معها حتى يُصَلَّى عليها، ويُفْرَغ من دفنها، رَجَعَ من الأجر بقيراطين"، فهذا صريح في أن المجموع بالصلاة والاتباع، وحضور الدفن قيراطان، قال: وفي رواية البخاريّ هذه مع رواية مسلم التي ذكرها بعد هذا، من حديث عبد الأعلى:"حتى يُفْرَغ منها" دليلٌ على أن القيراط الثاني لا يحصل إلا لمن دام معها من حين صُلَّي إلى أن فَرَغ دفنها، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: يَحْصُل القيراط الثاني إذا سُتِر الميت في القبر باللَّبِن، وإن لم يُلْقَ عليه التراب، والصواب الأول.
وقد يَسْتَدِلُّ بلفظ الاتّباع في هذا الحديث وغيره مَن يقول: المشيُ وراء الجنازة أفضل من أمامها، وهو قول عليّ بن أبي طالب، ومذهب الأوزاعيّ، وأبي حنيفة، وقال جمهور الصحابة، والتابعين، ومالكٌ، والشافعيّ، وجماهير
(1)
راجع: "الفتح" 3/ 556.
العلماء: المشي قُدّامها أفضل، وقال الثوريّ وطائفة: هما سواء، قال القاضي عياض: وفي إطلاق هذا الحديث وغيره إشارة إلى أنه لا يَحتاج المنصرف عن اتباع الجنازة بعد دفنها إلى الاستئذان، وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وهو المشهور عن مالك، وحَكَى ابن عبد الحكم عنه أنه لا ينصرف إلا بإذن، وهو قول جماعة من الصحابة. انتهى
(1)
.
(قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟) لم يُبَيَّن القائل، ولا المقول له في هذه الرواية، ولا في الرواية الآتية بعد حديثين، وقد بُيِّن المقول له في حديث ثوبان الآتي، ولفظه:"سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن القيراط، فقال: مثل أحد"، وبُيِّن القائل في رواية أبي عوانة من طريق أبي مزاحم، عن أبي هريرة، ولفظه:"قلت: وما القيراط يا رسول الله؟ "، وسيأتي في الحديث الخامس أن أبا حازم أيضًا سأل أبا هريرة رضي الله عنه عن ذلك.
فتبيّن بهذا أن القائل في قوله هنا: "قيل: وما القيراطان؟ " هو أبو هريرة، والمجيب هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وقع أيضاً سؤال أبي حازم لأبي هريرة رضي الله عنه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: وقع في "الفتح" بأنه وقع عند مسلم في رواية الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: "قيل: وما القيراطان يا رسول الله؟ " ببيان المقول له، لكني لم أجد هذا في النسخ التي بين يديّ، ولعل الحافظ رحمه الله وجد نسخة صرّحت بذلك، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ") خبر لمحذوف؛ أي: هما مثل الجبلين العظيمين، والجبل العظيم فُسّر في الرواية الآتية، ولفظه:"كلّ قيراط مثلُ أُحد"، وفي لفظ:"وما القيراطان"؟ قال: "أصغرهما مثل أُحد"، وللنسائيّ:"فله قيراطان من الأجر، كل واحد منهما أعظم من أُحد"، ولابن ماجه من حديث أبيّ بن كعب:"القيراط أعظم من أُحد هذا"، ولابن عديّ من
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 13 - 14.
حديث واثلة: "كُتب له قيراطان من أجر، أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أُحد"، فأفادت هذه الروايات بيان وجه التمثيل بجبل أحد، وأن المراد به زنة الثواب المرتّب على ذلك العمل، أفاده الحافظ رحمه الله.
وقال السنديّ في "شرح النسائيّ" عند قوله: "كان له من الأجر قيراط": وهو عبارة عن ثواب معلوم عند الله تعالى، عُبّر عنه ببعض أسماء المقادير، وفُسّر بجبل عظيم، تعظيماً له، وهو أحد - بضمتين - وَيحْتَمِل أن ذلك العمل يتجسّم على قدر جِرْم الجبل المذكور، تثقيلاً للميزان. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني يردّه قوله: "من الأجر"، فإنه صريح في أن الذي يكون مثل أحد هو الأجر نفسه، فالأولى أن الأجر يُجسّد، فيوضع في الميزان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: القيراط مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى، وهذا الحديث يدلّ على عِظَم مقداره في هذا الموضع، ولا يلزم من هذا أن يكون هذا هو القيراط المذكور في حديث:"من اقتَنَى كلباً إلا كلب صيد، أو زرع، أو ماشية، نَقَصَ من أجره كل يوم قيراط"، وفي روايات:"قيراطان"، بل ذلك قدر معلوم، ويجوز أن يكون مثل هذا، وأقلّ، وأكثر. انتهى
(1)
.
وقوله: (انْتَهَى حَدِيثُ أَبِي الطَّاهِرِ) يعني أن حديث شيخه أبي الطاهر هذا تمامه ونهايته.
وقوله: (وَزَادَ الْآخَرَانِ) يعني شيخه حرملة بن يحيى، وهارون بن سعيد، فـ "الآخران" مرفوع على الفاعليّة، وقوله:(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) مفعول به لـ"زاد" محكيّ؛ لقصد لفظه (قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهم (يُصَلِّي عَلَيْهَا)؛ أي: على الجنازة (ثُمَّ يَنْصَرِفُ)؛ أي: يرجع إلى أهله، ولا يتبعها، ويكون معها حتى تدفن؛ لعدم علمه بالسنّة (فَلَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه هذا، وهو قوله:"ومن شَهِدها حتى تُدفن، فله قيراطان"(قَالَ) متأسّفاً على ما فوّته من الأجر الكثير، وذلك بعد إرساله إلى عائشة رضي الله عنهما،
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 14 - 15.
وسؤالها عما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وتصديقها إياه، كما يأتي في الرواية الآتية (لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كَثِيرَةً) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، وفي كثير من الأصول، أو أكثرها:"ضَيَّعنا في قراريط" بزيادة "في"، والأول هو الظاهر، والثاني صحيح على أن "ضَيَّعنا" بمعنى فَرَّطنا، كما في الرواية الأخرى، وفيه ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم، والتأسف على ما يفوتهم منها، وإن كانوا لا يعلمون عِظَم موقعه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2189 و 2190 و 2191 و 2192 و 2193 و 2194 و 2195](945)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1323 و 1325) و"العلم"(47)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3/ 202)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(3/ 359 و 360)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 76) و"الكبرى"(1/ 645)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1539)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(3/ 447)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 12)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 277 و 413)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 233 و 280 و 401)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 28)، و (الحا كم) في "مستدركه"(3/ 584)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 412)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 185) و"الكبير"(9/ 319)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل شهود جنازة المسلم.
2 -
(ومنها): الترغيب في شهود الميت، والقيام بأمره، والحضّ على الاجتماع له.
3 -
(ومنها): التنبيه على عظيم فضل الله تعالى، وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يَتَوَلّى أمره بعد موته.
4 -
(ومنها): تقدير الأعمال بنسبة الأوزان، إما تقريباً للأفهام، وإما على حقيقته.
5 -
(ومنها): أن في قصة أبي هريرة رضي الله عنه المذكورة في هذا الحديث دلالةً على تَمَيُّزه رضي الله عنه في الحفظ، وقد حصل له ذلك بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان من حديث رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال:"ابسط رداءك"، فبسطته، قال فغرف بيديه، ثم قال:"ضُمَّهُ" فضممته، فما نسيت شيئاً بعده.
وأخرجا أيضاً عنه قال: يقولون: إن أبا هريرة يُكثر الحديث، واللهُ الْمَوْعِدُ، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدّثون مثل أحاديثه؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يَشْغَلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مِلْء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً:"لن يبسط أحد منكم ثوبه، حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره، فينسى من مقالتي شيئاً أبداً"، فبسطت نَمِرَةً ليس علي ثوب غيرها، حتى قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا، والله لولا آيتان في كتاب الله، ما حدثتكم شيئاً أبداً:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قوله: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160].
6 -
(ومنها): أن فيها دلالة على فضيلة ابن عمر رضي الله عنهما من حرصه على العلم، والعمل الصالح.
7 -
(ومنها): أن إنكار العلماء بعضهم على بعض قديم.
8 -
(ومنها): أن فيها استغراب العالم ما لم يصل إلى علمه.
9 -
(ومنها): عدم مبالاة الحافظ بإنكار من لم يحفظ.
10 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من التثبّت في الحديث النبويّ، والتحرّز فيه، والتنقيب عليه.
11 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم، والتأسّف على ما فاتهم منها، وإن كانوا لا يعلمون عِظَم موقعه.
12 -
(ومنها): واستُدِلَّ بقوله: "من تَبعَ" على أن المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها؛ لأن ذلك هو حقيقة الاتباع حسًّا.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: الذين رجحوا المشي أمامها حملوا الاتّباع هنا على الاتباع المعنويّ؛ أي: المصاحبة، وهو أعمّ من أن يكون أمامها، أو خلفها، أو غير ذلك، وهذا مجاز يَحتاج إلى أن يكون الدليل الدالّ على استحباب التقدّم راجحاً. انتهى. وسيأتي تحقيق القول في ذلك، وبيان اختلاف العلماء فيه، وترجيح الراجح بدليله في المسألة التألية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المشي أمام الجنازة وخلفها:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: قد اختلفوا في ذلك، فممن كان يرى المشي أمام الجنازة: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وأبو هريرة، والحسن بن عليّ، وابن الزبير، وأبوأُسَيد الساعديّ، وأبو قتادة، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لقد كنّا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نمشي بين يدي الجنازة، ولا يرون بذلك بأساً، وهو قول عُبيد بن عُمير، وشُريح، والقاسم بن محمد، وسالم، والزهريّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، واحتَجَّ بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش
(1)
.
وقال أصحاب الرأي: لا بأس بالمشي قدّامها، والمشيُ خلفها أحبّ إلينا، وقال إسحاق ابن راهويه: يتأخر أحبّ إلينا، وقد رَوَينا عن عليّ أنه مشى خلفها، وسئل الأوزاعيّ عن المشي أمام الجنازة؟ فقال: هو سعة، والأفضل عندنا خلفها.
وقالت طائفة: إنما أنتم مُتَّبِعُون، تكونون بين يديها، وخلفها، وعن
(1)
قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن محمد بن المنكدر، قال: أخبرني شيخ لنا يقال له: ربيعة بن عبد الله بن الحدير، قال: رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس يقدّمهم أمام جنازة زينب بنت جحش. انتهى. وإسناده صحيح، وربيعة بن عبد الله من رجال البخاريّ.
يمينها، وعن شمالها، هذا قول مالك بن أنس، وبه قال معاوية بن قرّة، وسعيد بن جبير. وقال إسحاق في موضع آخر: لا بأس أن يمشي الرجل أمام الجنازة، وخلفها قريباً.
قال ابن المنذر رحمه الله: المشي أمام الجنازة، وخلفها، وعن شمالها
(1)
جائز، والمشي أمامها أحبّ إليّ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما -يعني حديثه الآتي عند المصنّف بعد هذا - ولأن عليه الأكثرَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم.
فليُكثِر مَن تبع الجنازة، حيث مشى منها ذكرَ الموت، والفكر في صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعدّوا للموت، ولِمَا بعده، سَهَّل الله لنا حسن الاستعداد، واللقاء به. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(2)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله بعد أن ذكر الاختلاف بين العلماء في هذه المسألة ما نصّه: قال أبو عمر: المشي أمام الجنازة أكثر عن العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين، وهو مذهب الحجازيين، وهو الأفضل - إن شاء الله - ولا بأس عندي بالمشي خلفها، وحيث شاء الماشي منها؛ لأن الله عز وجل لم يَحظُر ذلك، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلمُ أحداً من العلماء كره ذلك، ولا ذكر أن مشي الماشي خلف الجنازة يُحبِط أجره فيها، ويكون كمن لم يشهدها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شهد الجنازة، حتى يصلي، فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن كان له قيراطان"، ولم يخصّ الماشي خلفها من الماشي أمامها. انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الإمامان الحافظان: أبو بكر بن المنذر، وأبو عمر بن عبد البرّ -رحمهما الله تعالى - هو الحقّ عندي.
(1)
الظاهر أنه سقط من النسخة لفظة: "وعن يمينها". والله تعالى أعلم.
(2)
"الأوسط" باختصار 5/ 380 - 384.
(3)
"الاستذكار" 8/ 222 - 223، بتغيير نصّ الحديث بنصّ حديث البخاريّ رحمه الله.
وحاصله أن المشي أمام الجنازة، أفضل؛ لما أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة، وهو حديث اختُلف في وصله وإرساله، والصحيح أنه موصول، كما حققته في "شرح النسائيّ"، ولأنه عَمَلُ أكثر الصحابة، والتابعين، ومَن بعدهم، هذا من حيث الأفضليةُ، وإلا فالمشي حيث تيسر: أمامها، وخلفها، ويمينها، وشمالها جائز؛ لما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها"، وهو حديث صحيح، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2190]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْلِهِ:"الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ"، وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى:"حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا"، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَاقِ:"حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ) يعني أن كلًّا من عبد الأعلى، وعبد الرزّاق روى عن معمر بن راشد
…
إلخ.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا"، وفي أخرى:"وحدّثنا".
وقوله: (حَتَّى يُفْرَغَ مِنْهَا) بضمّ أوله، وفتح الراء، ويُروى بالعكس، قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بضمّ الياء، وفتح الراء، وعكسه، والأول أحسن وأعمّ، وفيه دليلٌ لمن يقول: القيراط الثاني لا يحصل إلا بفراغ الدفن. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": وقد أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يَحصُلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يَحصُل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمد خلافاً لمن تمسّك بظاهر بعض الروايات، فزعم أنه يحصُل بالمجموع ثلاثة قراريط. انتهى
(2)
.
وقوله: (حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ) وفي الرواية الآتية: "حتى توضع في القبر"، وفيه دليل لمن يقول: يحصل القيراط الثاني بمجرد الوضع في اللحد، وإن لم يُلْقَ عليه التراب، وقد سبق أن الصحيح أنه لا يحصل إلا بالفراغ من إهالة التراب؛ لظاهر قوله في الروايات الأخرى:"حتى تُدفن"، وأصرح منها قوله:"حتى يُفْرَغ منها"، ويتعيّن تأويل هذه الرواية على أن المراد حتى يوضع في اللحد، ويُفْرغَ من دفنه، ويكون المراد الإشارة إلى أنه لا يَرْجِع قبل وصولها القبر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية عبد الأعلى، عن معمر هذه ساقها الأمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(7148)
- حدّثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن انتظر حتى يُفْرَغ منها فله قيراطان"، قالوا: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين". انتهى.
وأما رواية عبد الرزّاق، عن معمر، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1)
"شرح النووي" 7/ 15.
(2)
"الفتح" 1/ 199 رقم (47).
(1994)
- أخبرنا نوح بن حبيب، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن انتظرها حتى توضع في اللحد، فله قيراطان، والقيراطان مثل الجبلين العظيمين". انتهى.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى تخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2191]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، وَقَالَ: "وَمَنِ اتَّبَعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقة [11](ت 248)(م دس) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
" (أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفهميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ نبيلٌ، من كبار [10] (199) وله (64) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام حجة مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأمويّ مولاهم، أبو خالد الأيليّ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: قوله: (حَدَّثَنِي رِجَالٌ) فيه أن شيوخ الزهريّ لم يُسَمَّوا، لكنه لا يضرّ؛ لأنه تقدّم في الإسنادين السابقين، تسمية اثنين منهم، فقد سمى في الأول عبد الرحمن الأعرج، وفي الثاني سعيد بن المسيِّب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: رواية عُقيل، عن ابن شهاب هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2192]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنِي سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، وَلَمْ يَتْبَعْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ تَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ"، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: (أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون المعروف بالسمين المروزيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، تغيّر قليلاً في الآخر [7](ت 165) أو بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر في الآخر [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
5 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟) تقدّم ما يدلّ أن القائل هو أبو هريرة رضي الله عنه، والمقول له هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، راجع ما سبق في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم.
والحديث بهذا الإسناد من أفراد المصنّف رحمه الله، وأخرجه أبو داود في "سننه"(3168)، والحميديّ في "مسنده"(1021)، وأحمد في "مسنده"(2/ 246) وابن الجارود في "المنتقى"(526)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2193]
(
…
) - (حَدَّثَنِي
(1)
مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كيْسَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنِ اتَّبَعَهَا حَتَّى تُوضَعَ فِي الْقَبْرِ فَقِيرَاطَانِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَا الْقِيرَاطُ؟ قَالَ: مِثْلُ أُحُدٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فَرُّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
3 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعي مولى عزّة الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس (100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثني".
وقوله: (حتَّى تُوضَعَ فِي الْقَبْرِ)؛ أي: وتُدفن بدليل ما سبق من قوله: "ومن شهدها حتى تُدفن"، وقوله:"حتى يُفرغ من دفنها".
وقوله: (قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبا هُرَيْرَةَ) هذا صريح في كون السائل أبا حازم، وأن التفسير من أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدّم ما يدلّ أن السؤال من أبي هريرة رضي الله عنه، والتفسير من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا تغفل.
والحديث بهذا الإسناد من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام البحث فيه، فلا تغفل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكناب قال:
[2194]
(
…
) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ- يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ - حَدَّثَنَا نَافِعٌ، قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِن أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ تَبعَ جَنَازَة فَلَهُ قِيرَاط مِنَ الْأَجْرِ"، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَبَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلهَا، فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ فَرَّطْنُا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) بن أبي شيبة الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أو 235) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(جَرِيرُ بْنَ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، اْبو النضر البصريّ، ثقةٌ، وفي حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
3 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (138) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ) وفي رواية البخاريّ: "حُدّث ابن عمر"، قال في "الفتح": كذا في جميع الطرق "حُدِّثَ" بضم المهملة على البناء للمجهول، ولم أقف في شيء من الطرق عن نافع على تسمية مَن حَدَّث ابن عمر، عن أبي هريرة بذلك، وقد أورده أصحاب "الأطراف"، والحميدي في "جمعه " في ترجمة نافع، عن أبي هريرة، وليس في شيء من طرقه ما يدُلّ على أنه سمع منه، وإن كان ذلك محتملاً، ووقفت على تسمية مَن حَدَّث ابن عمر بذلك صريحاً في موضعين:
أحدهما: في "صحيح مسلم"، وهو خباب - بمعجمة، وموحدتين، الأولى مشددة - وهو أبو السائب المدنيّ، صاحب المقصورة، قيل: إن له صحبةً، ولفظه من طريق داود بن عامر بن سعد، عن أبيه، أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طَلَع خباب، صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ فذكر الحديث.
والثاني: في "جامع الترمذيّ" من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فذكر الحديث، قال أبو سلمة: فذكرت ذلك لابن عمر، فأرسل إلى عائشة. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ) رواية المصنّف رحمه الله صريحة في كون أبي هريرة رضي الله عنه رفع الحديث، فهي مفسرة لما وقع في رواية البخاريّ بلفظ:"حُدِّث ابنُ عمر أن أبا هريرة رضي الله عنهما يقول: من تَبع جنازة فله قيراط" فإن ظاهره الوقف، لكن تبيّن برواية المصنّف كونه مرفوعاً، فتنبّه.
وقوله: (مَنْ تَبعَ) يقال: تَبعَ زيدٌ عمراً، من باب تَعِبَ: مَشَى خلفه، أو مرّ به، فمضى معه، قاله في "المصباح"، وفي لفظ عند البخاريّ:"مَن اتّبع" بالتشديد، من الاتّباع.
قال في "الفتح": وقد تمسّك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها
(1)
"الفتح" 4/ 95 - 96.
أفضل، ولا حجّة فيه؛ لأنه يقال: تبعه؛ إذا مشى خلفه، أو إذا مَرَّ به، فمشى معه، وكذلك اتبعه بالتشديد، وهو افتعل منه، فإذاً هو مقول بالاشتراك، وقد بيّن المرادَ الحديثُ الآخر المصحّح عند ابن حبّان وغيره، من حديث ابن عمر في المشي أمامها، وأما أتبعه بالإسكان، فهو بمعنى لَحِقه؛ إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2195]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي
(3)
حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي
(4)
أَبُو صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسَيْطٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ دَاوُدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ قَاعِداً عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ"، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّاباً إِلَى عَائِشَةَ، يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ
(5)
، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ
(6)
يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ، فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ).
(1)
"الفتح" 1/ 199.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
(3)
وفي نسخة: "أخبرني".
(4)
وفي نسخة: "أخبرني".
(5)
وفي نسخة: "بما قالت".
(6)
وفي نسخة: "من حصى المسجد".
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) المقرئ، أبو عبد الرحمن المكيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ فاضلٌ مقرئ [9](ت 213) وقد قارب المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
3 -
(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صَفْوان التُّجِيبيّ، أبو زُرْعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
4 -
(أَبُو صَخْرٍ) ابن أبي الْمُخارق، حُميد بن زياد الخرّاط، صاحب الْعَبَاء، المدنيّ، نزيل مصر، صدوقٌ يَهِمُ [6](ت 189)(بخ م د عس ق) تقدم في "الطهارة" 5/ 558.
5 -
(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسَيْطِ) بن أُسامة الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ الأعرج، ثقةٌ [4](ت 122) وله (90) سنةً (ع) تقدم في "المساجد" 20/ 1301.
6 -
(دَاوُدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) القرشيّ الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أبيه، وعنه يزيد بن أبي حبيب، ويزيد بن قُسيط، وابن إسحاق، وعبد الحميد بن جعفر.
قال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ، وقال مسلم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله عند المصنّف، وأبي داود هذا الحديث فقط، وعند الترمذيّ آخر في صفة الجنة.
7 -
(أَبُوهُ) عامر بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
8 -
(خَبَّابٌ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ) المدنيّ، جدُّ مسلم بن السائب بن خَبّاب، قيل: له صحبة، وقيل: مخضرمٌ [2].
رَوَى عن أبي هريرة، وعائشة، في اتّباع الجنازة، وعنه عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال ابن ماكولا: أدرك الجاهلية، وكذا قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": خباب مولى فاطمة بنت عُتبة بن ربيعة، أدرك الجاهلية، واختُلِف
في صحبته، وذكره ابن منده، وأبو نعيم في "الصحابة"، وساق ابن منده من طريق عبد الله بن السائب بن خَبّاب، عن أبيه، عن جدّه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على سرير
…
الحديث.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، وليس عندهما إلا هذا الحديث فقط.
و"أبو هريرة" ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُسَيْطٍ) بضمّ القاف، وفتح السين المهملة، وإسكان الياء، بصيغة التصغير (أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ دَاوُدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ) عامر بن سعد (أَنَّهُ كَانَ قَاعِداً عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ)"إذ" ظرف لـ "قاعداً"(صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ) لم أجد سبب تلقيب خبّاب هذا بصاحب المقصورة، وفي "القاموس" و"شرحه": "المقصورةُ: الدار الواسعة المحصّنة بالحيطان، أو هي أصغر من الدار، كالقُصَارة بالضمّ، وهي المقصورة من الدار، لا يدخلها إلا صاحبها. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ)؛ أي: خبّاب (يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ؟) هو استغراب من خبّاب لما سمعه من أبي هريرة رضي الله عنه، واستغرابه، واستفسار ابن عمر من عائشة للتثبّت، لا لأنهما اتّهما أبا هريرة بالكذب؛ لأن مقام ابن عمر وخبّاب يجلّ عن أن يتّهما أبا هريرة بذلك، وإنما كان ذلك منهما مخافة أن يكون قد اشتَبَهَ الأمر على أبي هريرة في ذلك، واختَلَطَ عليه حديث بحديث، أو نحو ذلك؛ لكثرة مرويّاته، والله تعالى أعلم.
وقوله: (مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ؟)"ما" مصدريّة؛ أي إلى قول أبى هريرة، وَيحْتَمِل أن تكون موصولاً اسميًّا، والعائد محذوف؛ أي إلى الذي يقوله، وقوله:(أَنَّهُ) بكسر الهمزة؛ لوقوعه مقول "يقول" على الأول، وعلى الاستئناف البيانيّ على الثاني، فكانه قال له: ماذا يقول؟، فقال: إنه سمع
…
إلخ.
وَيحْتَمِل أن يكون "أنه" بالفتح؛ عطفاً على "ما يقول".
(1)
راجع: "القاموس"، وشرحه "تاج العروس: " 3/ 495.
(سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا) هذا بيان صريح يفسّر مبدأ اتّباع الجنازة، وهو أن يصاحبها من بيتها (وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا)؛ أي: بعد الصلاة (حَتَّى تُدْفَنَ)؛ أي: ولزمها حتى نهاية دفنها؛ لقوله في الرواية السابقة: "ويُفْرَغ من دفنها"، وفي رواية لأبي عوانة:"حتى يُسوّى عليها التراب"، وهي من أصرح الروايات في ذلك أيضاً (كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ) بضمّتين: هو الجبل المعروف بقرب المدينة النبويّة من جهة الشام، وهو مذكّر، فينصرف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهّم البقعة، فيُمنع من الصرف، وليس بقويّ
(1)
، وكانت فيه الوقعة المشهورة في أوائل شوّال سنة ثلاث من الهجرة (وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ)؛ أي: قبل أن تُدفن (كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ"، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (خَبَّاباً) صاحب المقصورة (إِلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنهما (يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ مَا قَالَتْ) وفي نسخة: "بما قالت".
[تنبيه]: قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده": (4439) - حدّثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن الْجُرَشيّ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مَرّ بأبي هريرة رضي الله عنه، وهو يُحَدِّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من تَبِع جنازة، فصلى عليها، فله قيراط، فإن شَهِد دفنها، فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد"، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: أبا هريرة انظر ما تُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبو هريرة، حتى انطَلَق به إلى عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين، أَنْشُدُك بالله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَن تَبعَ جنازةً، فصلى عليها فله قيراط، فإن شَهِد دفنها، فله قيراطان"، فقالت: اللهم نعم، فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يَشْغَلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَرْسُ الْوَدِيّ، ولا صَفْقٌ بالأسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، وأُكْلة يُطعمنيها، فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة، كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمنا بحديثه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: رجال إسناده رجال الصحيح، ولا تنافي بينه وبين رواية المصنّف أن ابن عمر رضي الله عنهما أرسل خبّاباً إلى عائشة رضي الله عنهما؛ لاحتمال أن
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 6.
يكون بلغه أوّلاً أن أبا هريرة يُحدّث به، فأرسل إلى عائشة، فصدّقته، ثم سمع بنفسه أبا هريرة يُحدّث به، فسأله تأكيداً، فذهب به إلى عائشة، فسمع منها أيضاً بنفسه، والله تعالى أعلم.
(وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (قَبْضَةً) بفتح القاف، وتُضمّ، يقال: قَبَضتُ قَبْضةً من تمر بفتح القاف، والضمّ لغة؛ أي: أخذت، وبابه ضرب (مِنْ حَصْبَاءِ الْمَسْجِدِ) "الحصباء بالمدّ: صغار الحصى"، وفي بعض النسخ: "من حَصَى المسجد" (يُقَلَّبُهَا) من التقلي، أو من القلب (فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ)؛ أي: خبّاب المذكور (فَقَالَ)؛ أي: الرسول (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنهما (صَدَقَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الْأَرْضَ)؛ أي: رمى الحصى في الأرض (ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا) بتشديد الراء، من التفريط، يقال: فَرّط في الأمر تفريطاً: إذا قَصَّر فيه، وضيّعه، وأفرط فيه إفراطاً: إذا أسرف، وجاوز الحدّ
(1)
. (فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ)؛ أي: حيث تركنا اتّباع الجنائز حتى تُدفن.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم بيان مسائله في شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2196]
(946) - (وَحَدَّثَنَا محَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى- يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ - حَدَّثنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيَّ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، الْقِيرَاطُ مِثْلُ أُحُدٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
(1)
"المصباح" 2/ 469.
2 -
(يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان المذكور قبل حديث.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسطام الواسطيّ، ثمّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام عابدٌ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 381.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، من رؤوس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
5 -
(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الغَطَفَانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ يُرسل كثيراً [3](ت 7 أو 98)(ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.
6 -
(مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ) ويقال: ابن طلحة الشاميّ، ثقةٌ [2](م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.
7 -
(ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) صحبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحِمْصَ سنة (54)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.
وشرح الحديث واضحٌ، يُعلم مما مضى، وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2196 و 2197](946)، وأخرجه (ابن ماجه)(1540)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11616)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 276 و 282 و 283 و 284)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2121 و 2122)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2197]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ، حَدَّثَنِي أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِيرَاطِ، فَقَالَ: "مِثْلُ أُحُدٍ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ المعروف بالزَّمِنِ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
5 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الأيمان" 6/ 127.
6 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
7 -
(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
8 -
(أَبَانُ) بن يزيد العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ، له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة: هشام الدستوائيّ، وسعيد بن أبي عروبة، وأبان العطّار رووا هذه الحديث عن قتادة، بسنده الماضي، مثل المتن الماضي.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ) ظاهر هذا أن رواية أبان ليس فيها "سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم .... إلخ"، وإنما مذكور في رواية سعيد، وهشام، ولعلّ المصنّف رحمه الله، وقع له هكذا، وإلا فرواية هشام الآتية عن "مسند الإمام أحمد" ليس فيها "سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وإنما فيها: "قيل: وما القيراطان؟
…
إلخ"، وأما رواية أبان، وسعيد ففيهما سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية هشام الدستوانيّ، عن قتادة ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(21871)
- حدّثنا أبو قَطَن، حدّثنا هشامٌ، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال:"من تَبع جنازة فله قيراط، ومن شَهِد دفنها فله قيراطان"، قيل: وما القيراطان؟ قال: "أصغرهما مثل أحد". انتهى.
وأما رواية سعيد بن أبي عروبة، فساقها ابن ماجه رحمه الله، فقال:(1540) - حدّثنا حُميد بن مَسْعَدة، حدّثنا خالد بن الحارث، حدّثنا سعيد، عن قتادة، حدّثني سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صلى على جنازة فله قيراط، ومن شَهِد دفنها فله قيراطان"، قال: فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن القيراط، فقال:"مثل أحد". انتهى.
وأما رواية أبان بن يزيد العطّار، عن قتادة، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(21948)
- حدّثنا عفّان، حدّثنا أبانُ، حدّثنا قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان"، قيل: يا رسول الله، وما القيراطان؟ قال: "أصغرهما مثل أحد،. انتهى. والله تعالى آعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(18) - (بَابُ مَا جَاءَ أَنّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مِائَةٌ، وفِي رِوَايَةٍ: أَرْبَعُونَ شُفِّعُوا فِيهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2198]
(947) - (حَدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ أَبُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيعِ
عَائِشَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُونَ مِائَةً، كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ"، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ شُعَيْبَ بْنَ الْحَبْحَابِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(الحَسَنُ بْنُ عِيسَى) بن ماسَرْجِس، أبو عليّ النيسابوريّ، ثقةٌ [10](ت 240)(م دس) تقدم في "المقدمة" 6/ 101.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله الحنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ الإمام الحجة الثبت المشهور الجامع لخصال الخير [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
3 -
(سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ) الخزاعيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة، صاحب سنّة [7](ت 164) أو بعدها (خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 63.
4 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةُ ثبتٌ حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
5 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ كثير الإرسال، فيه نصبٌ يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ رَضِيعُ عَائِشَةَ) البصريّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن عائشة، وعنه أبو قلابة الجرميّ، وأهل البصرة، قال العجليّ: تابعيّ، ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله عند المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ هذا الحديث فقط، وعند الأربعة حديث: "اللهم هذا قسمي فيما أملك
…
".
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنهما، ماتت سنة (57) على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 315.
8 -
(شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ) الأزديّ الْمِعْوليّ مولاهم، أبو صالح البصريّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أنس، وأبي العالية، وإبراهيم النخعيّ، وأبي قلابة، وغيرهم.
ورَوَى عنه: ابناه: أبو بكر وعبد السلام، وسليمان التيميّ، ويونس بن عبيد، وعبد الوارث بن سعيد، والحمادان، وهارون بن موسى النحويّ، وغيرهم.
قال أحمد، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، مات سنة (3) ويقال: سنة (131)، وغسله أيوب.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا برقم (947)، و (1365):"أعتق صفيّة، وجعل عتقها صداقها"، و (2706): "اللهم إني أعوذ بك من البخل
…
"، و (2933): "الدجال ممسوح العين
…
".
9 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدّم في "المقدمة" 2/ 3.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير سلام، وعبد الله بن يزيد، كما أسلفته آنفاً.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وابن المبارك فمروزيّ، وعائشة، فمدنيّة.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم عن بعض، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَا مِنْ مَيِّتٍ) تقدّم أنه يجوز تخفيف يائه، وتشديدها (تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ)؛ أي: جماعة (مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَبْلُغُونَ مِائَةً) وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما التالي: "ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته، أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شَفّعهم الله فيه".
قال القرطبيّ رحمه الله: قيل: سبب هذا الاختلاف اختلافُ السؤال، وذلك أنه سُئل مرّة عمن صلّى عليه مائة، واستشفعوا له؟ فقال:"شُفِّعوا"، وسئل مرّة أخرى عمن صلى عليه أربعون، فأجاب بذلك، ولو سئل عن أقلّ من ذلك لقال ذلك، والله أعلم؛ إذ قد يستجاب دعاء الواحد، ويُقبل استشفاعه، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من صلّى عليه ثلاثة من الصفوف شفعوا له"
(1)
، ولعلّهم يكونون أقلّ من أربعين. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله بعدما نقل عن القاضي عياض نحو ما ذكره القرطبيّ ما نصّه: ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أُخبِر بقبول شفاعة مائة، فأَخبَر به، ثم بقبول شفاعة أربعين، ثم بثلاثة صفوف، وإن قلّ عددهم، فأخبر به.
وَيحْتَمِل أيضاً أن يُقال: هذا مفهوم عدد، ولا يَحتجّ به جماهيُر الأصوليين، فلا يلزم من الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع ما دون ذلك، وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذ كلّ الأحاديث معمول بها، وتحصل الشفاعة بأقلّ الأمرين، من ثلاثة صفوف، وأربعين. انتهى
(3)
.
(كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ) من باب نَفَعَ يَنفَعُ، والشفاعةُ معناها الطلب؛ أي: يسألون له من الله تعالى التجاوز عن ذنوبه، وجرائمه، والجملة في محلّ نصب على الحال (إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ") بتشديد الفاء، مبنيًّا للمفعول؛ أي: إلا قُبلت شفاعتهم في ذلك الميت (قَالَ) القائل هو سلّام بن أبي مطيع، كما صرّح به في رواية النسائيّ (فَحَدَّثْتُ بِهِ)؛ أي: بهذا الحديث الذي حدّثني به أيوب السختيانيّ (شُعَيْبَ بْنَ الْحَبْحَاب، فَقَالَ) شعيب (حَدَّثَنِى بِهِ)؛ أي: بهذا الحديث (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فاتّفق على روايته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة، وأنس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وحسّنه، وابن ماجه، ولفظ أبي داود:"ما من مسلم، يموت، فيصلي عليه ثلاثة صفوف، إلا أوجب"، وهو وإان حسّنه الترمذيّ، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلّس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
"المفهم" 2/ 605 - 606.
(3)
"شرح مسلم" 7/ 20 - 21.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث، قال القاضي عياض: رواه سعيد بن منصور موقوفاً على عائشة رضي الله عنهما، فأشار إلى تعليله بذلك، وليس معلّلاً؛ لأن من رفعه ثقة، وزيادة الثقة مقبولة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ولو سلّمنا أنه موقوف، فلا يضرّه؛ لأنه في حكم المرفوع؛ إذ لا يقال من قبل الرأي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2198](947)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1029)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1991 و 1992) وفي "الكبرى"(2118 و 2119)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 321)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1526)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 32 و 40 و 97 و 231)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3081)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 31)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(264 و 265)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 30)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1504)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل من صلّى عليه مائة.
2 -
(ومنها): بيان رفعة قدر المسلمين عند الله تعالى، حيث تُقبل شفاعتهم.
3 -
(ومنها): مشروعيّة الصلاة على الميت.
4 -
(ومنها): استحباب تكثير عدد المصلين على الميت.
5 -
(ومنها): استحباب شفاعة المصلين للميت عند الله تعالى، وذلك بأن يتوخهوا بقلوب خالصة، طالبين منه عز وجل أن يتجاوز عن سيئات الميت، ويغفر زلّاته، فإن أصل مشروعية الصلاة على الميت، هو الدعاء له، ولذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا صلّيتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء"، رواه أبو داود، وابن
(1)
"شرح مسلم" 7/ 21.
ماجه، وصححه ابن حبّان، وفي إسناده ابن إسحاق، وهو مدلّس، لكنه صرّح بالتحديث عند ابن حبّان، فزالت تهمة التدليس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2199]
(948) - (حَدَّثَنَا
(1)
هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيَلِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ، قَالَ الْوَلِيدُ: حَدَّثَنِي، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ، أَوْ بِعُسْفَانَ، فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَإذَا نَاسٌ
(2)
قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ: هُمْ أَرْبَعُونَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْرِجُوهُ، فَإِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله (74) سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ) أبو همّام بن أبي بدر الكوفيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ
(3)
[10](ت 243) عَلى الصحيح (م دت ق) تقدم في "الإيمان" 77/ 402.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(أَبُو صَخْرٍ) حميد بن زياد الخرّاط، تقدّم في الباب الماضي أيضاً.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أُناسٌ".
(3)
وقال في "التقريب": ثقةٌ، والذي يظهر لي أنه صدوق؛ راجع: ترجمته في "تهذيب التهذيب".
6 -
(شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [5] مات في حدود (140)(خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.
7 -
(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) هو: ابن أبي مسلم المدنيّ، أبو رِشْدين، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحَيض" 2/ 688.
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سثة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فرّق في التفصيل؛ لما تقدّم غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف اسمه. انتهى
(1)
. (بِقُدَيْدٍ) بضمّ القاف، مصغّراً: اسم موضع بين مكة والمدينة، قاله ابن الأثير، وقال ابن سِيدهْ: هو موضع، وبعضهم لا يصرفه يجعله اسماً للبقعة. انتهى
(2)
. (أَوْ) للشكّ من الراوي (بِعُسْفَانَ) بضمّ العين المهملة، بوزن عُثمان: موضع على مرحتلين من مكة
(3)
. (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (يَا كُرَيْبُ انْظْرْ مَا اجْتَمَعَ) عبّر بـ "ما"، ولم يقل:"من"؛ لأن المراد العدد؛ أي: العدد الذي اجتمع (لَهُ)؛ أي: لابنه الميت؛ أي: للصلاة عليه، وقوله:(مِنَ النَّاسِ) بيان لـ"ما"(قالَ) كريب (فَخَرَجْتُ، فَإِذَا نَاسٌ) اسم وُضع للجمع، كالقوم والرهط، واحدة إنسان من غير لفظه، مشتقّ من ناس ينوس: إذا تحرّك،
(1)
"تنبيه المعلم" ص 179.
(2)
راجع: "تاج العروس شرح القاموس" 2/ 461.
(3)
"القاموس المحيط" 3/ 175.
فيشمل الإنس والجنّ، ولذا قال الله تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5] ثم فسّر {النَّاسِ} فقال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 6]
(1)
.
ووقع في بعض النسخ: "أُناس"، وهما لغتان بمعنى واحد، وليس أحدهما مشتقًّا من الآخر على الراجح؛ لاختلاف مادّتهما، أفاده الفيّومي رحمه الله
(2)
.
(قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ)؛ أي: لأجل الصلاة عليه (فَأَخْبَرْتُهُ)؛ أي: باجتماعهم، وكثرة عددهم (فَقَالَ) ابن عبّاس (تَقُولُ: هُمْ أَرْبَعُونَ)؛ أي: تقدّر عددهم بأنهم أربعون رجلاً؟ (قَالَ) كريب (نَعَمْ، قَالَ (ابن عبّاس (أَخْرِجُوهُ)؛ أي: جنازته (فَإِنَّي) الفاء تعليليّة؛ أي: لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) نافية (مِنْ) زائدة لاستغراق الجنس، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ أَوْ شِبْهِهِ فَجَرْ
…
نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"
(رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً) جملة في محل نصب صفة "رجلاً"(إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ) بتشديد الفاء: أي: قَبِل شفاعتهم.
قال التوربشتيّ رحمه الله: لا تضادّ بين حديث ابن عبّاس وحديث عائشة؛ لأن السبيل في أمثال هذا المقام أن يكون الأقلّ من العددين متأخّراً؛ لأن الله تعالى إذا وعد المغفرة في المعنى الواحد مرّتين، وإحداهما أيسر من الأخرى لم يكن من سنّته أن ينقص من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد عليه فضلاً منه وتكرُّماً على عباده. انتهى.
قال الطيبيّ رحمه الله: هذا كلام حسنٌ؛ حديث عائشة رضي الله عنهما فيه مبالغة وتشديد ليس في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل قوله:"يصلّي عليه أمة من المسلمين" توطئةً لقوله: "يبلغون مائةً"، ثمّ أكده بقوله:"كلّهم يشفعون له". انتهى
(3)
.
(1)
راجع: "المصباح" 2/ 630.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 26.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1396.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبِّاسٍ) بيّن فيه رحمه الله الاختلاف بين مشايخه الثلاثة، فهارون بن سعيد، والوليد بن شُجاع قالا في روايتهما:"عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب مولى ابن عبّاس، عن عبد الله بن عبّاس"، وأما هارون بن معروف، فقال في روايته:"عن شريك بن أبي نمر"، فنسبه إلى جدّه، وقال أيضاً:"عن كريب" فقط، فلم يذكر:"مولى ابن عبّاس"، وقال:"عن ابن عبّاس"، ولم يقل:"عن عبد الله بن عبّاس"، وهذا كلّه من بيان ما وقع من اختلاف الشيوخ، وإن لم يكن فيه اختلاف معنًى، إلا أن المصنّف رحمه الله شديد العناية ببيان اختلاف ألفاظ الشيوخ، وهذا هو ما امتاز به على غيره حتى فضّلوه به على شيخه البخاريّ، فهو وإن كان له عناية بذلك أيضاً، إلا أن مسلماً أشدّ، وأكثر، فلله درّه، ما أغزر فوائد كتابه الحديثيّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2199](948)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3170)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1489)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 277)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 31)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(271)، و"الطبرانيّ" في "المعجم الأوسط"(8/ 369)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 30)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1505)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(19) - (بَابٌ فِيمَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِخَيْرٍ، أَوْ شَرًّ، مِنَ الْمَوْتَى)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2200]
(949) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُلَيةَ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأْثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْراً، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، قَالَ
(2)
عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَقُلْتَ:"وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ، فَقُلْتَ:"وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْراً، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ").
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ (10) ت 234) (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم أيضاً قبل باب.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
5 -
(ابْنُ عُلَيَةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
6 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنَانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "فقال".
7 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله كلاحقه، وهو (139)، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول تفرّد به هو وأبو داود، والثاني والثالث ما أخرج لهما الترمذيّ، والرابع ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين، غير شيوخه، فالأول والثالث بغداديّان، والثاني كوفيّ، والرابع مروزيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أنساً رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثاً، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: مُرَّ) بضمّ الميم، وتشديد الراء مبنيًّا للمفعول (بِجِنَازَةٍ) تقدّم ضبطه بالكسر والفتح، واختلاف العلماء في معناه (فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا) قال الفيّوميّ رحمه الله
(1)
: الثناء بالفتح والمدّ، يقال: أثنيت عليه خيراً، وبخير، وأثنيت عليه شرًّا، وبشرّ؛ لأنه بمعنى وَصَفْتُهُ، هكذا نصّ عليه جماعة، منهم صاحب "المحكم"، وكذلك صاحب "البارع"، وعزاه إلى الخليل، ومنهم محمد بن القُوطِيّة، وهو الحبر الذي ليس في منقوله غَمْزٌ، والبحر الذي ليس في منقوده لَمْز، وكأن الشاعر عَنَاه بقوله:
إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا
…
فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
وقد قيل فيه: هو العالم النِّحْرير، ذو الإتقان والتحرير، والحجّةُ لمن بعده، والبُرْهان الذي يوقَف عنده.
وتبعه على ذلك مَن عُرف بالعدالة، واشتَهَرَ بالضبط، وصحّة المقالة،
(1)
كلام الفيّومي هذا تقدّم نقله بطوله في هذا الشرح عند شرح حديث "أهل الثناء والمجد"، وإنما أعدته لطوله، ولأهميته، فتنبّه.
وهو السَّرَقُسْطِيُّ، وابن القَطّاع، واقتصر جماعة على قولهم: أثنيت عليه بخير، ولم يَنفُوا غيرَه، ومن هذا اجترأ بعضهم، فقال: لا يُستعمَل إلا في الحسن، وفيه نظر؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفيه عما عداه، والزيادة من الثقة مقبولة، ولو كان الثناء لا يُستعمل إلا في الخير كان قول القائل: أثنيت على زيد كافياً في المدح، وكان قوله:"له الثناء الحسن"، لا يُفيد إلا التأكيد، والتأسيسُ أولى، فكان في قوله:"الحسن" احتراز عن غير الحسن، فإنه يُستعمل في النوعين، كما قال:"والخير في يديك، والشرّ ليس إليك". وفي "الصحيحين": "مَرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً
…
"، فقال صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَت"، ثم مرّوا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وَجبت"، وسُئل عن قوله: "وجبت؟ "، فقال: "هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنّة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار
…
" الحديث. وقد نُقِل النوعان في واقعتين، تراخت إحداهما عن الأخرى، من العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن العرب الفصحاء، عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة، فإنهم قد يَكتفون بالنقل عن واحد، ولا يُعرَف حاله، فإنه قد يَعْرِض له ما يُخرجه عن حيِّزِ الاعتدال، من دَهَشٍ، وسُكْرٍ، وغير ذلك، فإذا عُرِف حاله لم يُحتجّ بقوله.
وَيرجِع قول من قال: لا يُستعمل إلا في الشرّ إلى النفي، وكأنه قال: لم يُسمع، فلا يقال، والإثبات أولى، ولله درّ من قال:
وإِنَّ الْحَقَّ سُلْطَانٌ مُطَاعُ
…
وَمَا لِخِلَافِهِ أَبَداً سَبِيلُ
وقال بعض المتأخرين: إنما استُعمل في الشرّ في الحديث للازدواج. وهذا كلام من لا يَعرف اصطلاح أهل العلم بهذه اللفظة. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.
وقوله: (خَيْراً) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض الأصول "خيراً" و"شرًّا " بالنصب، وهو منصوب بنزع الجارّ؛ أي: فأُثني عليها بخير وبشرّ، وفي بعضها مرفوعٌ. انتهى
(2)
.
وفي رواية النضر بن أنس، عن أبيه، عند الحاكم: "كنتُ قاعداً عند
(1)
"المصباخ المنير" 1/ 85 - 86.
(2)
"شرح النوويّ" 7/ 19.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمُرّ بجنازة، فقال:"ما هذه الجنازة؟ "، قالوا: جنازة فلان ابن فلان الفلانيّ، كان يحبّ الله ورسوله، وَيعمل بطاعة الله، ويَسعَى فيها، وقال ضدّ ذلك في التي أثنوا عليها شرًّا "، ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشرّ في رواية عبد العزيز هذه، وللحاكم أيضاً من حديث جابر رضي الله عنه: "فقال بعضهم: لَنِعْم المرءُ، لقد كان عفيفاً مسلماً"، وفيه أيضاً: "فقال بعضهم: "بئس المرءُ كان، إن كان لَفَظًّا غَليظاً".
(فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ")؛ أي: ثبتت له الجنّة، هكذا في رواية المصنّف رحمه الله مكرّراً ثلاث مرّات، قال النوويّ رحمه الله: والتكرار فيه لتأكيد الكلام المهتمّ بتكراره، ليُحفَظَ، ويكون أبلغ. انتهى.
(وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا) قال الطيبيّ: استعمال الثناء في الشرّ مشاكلة، أو تهكّم. انتهى. وقال القاري: ويمكن أن يكون أثنوا في الموضعين بمعنى وَصَفُوا، فيحتاج إلى القيد، ففي "القاموس": الثناء وصف بمدح، أو ذمّ، أو خاصّ بالمدح. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدم في كلام الفيّوميّ رحمه الله أن الصواب عند أهل اللغة أنّ الثناء هو الوصف مطلقاً، وأما كونه خاصًّا بالمدح فغير ثابت عنهم، وقد اعترض الشارح على صاحب "القاموس" قولَه:"أو خاصّ بالمدح" بأنه لم يَقُل به أحد ممن يوثق به.
فما ادعاه الطيبيّ من المشاكلة، وكذا ما أجاب به القاري غير صحيح، وكذا ما قاله النوويّ في "شرحه" من أن استعمال الثناء في الشرّ شاذّ كلّ ذلك غير مقبول، وقد أشبع الكلام في الردّ على هذا الفيّوميّ رحمه الله في بحثه السابق، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ") مكرّراً أيضاً ثلاثاً؛ لما مرّ (قَالَ) وفي نسخة: "فقال"(عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمَّي) جملة اسميّة، من مبتدأ وخبره، وفي رواية النسائيّ:"فداك أبي وأمي" على الجملة الفعليّة، و"فدى" مقصورٌ، بفتح الفاء، وكسرها.
(مُرَّ بِجَنَازَةٍ) ببناء الفعل للمفعول، وكذا قوله: (فَأَثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَقُلْتَ:"وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌ، فَقُلْتَ: "وَجَبَتْ،
وَجَبَتْ، وَجَبَتْ")؛ أي: ماذا تعني بقولك: "وجبت" في هاتين الجنازتين؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْراً، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ) يعني أن المراد بقوله: "وجبت"؛ أي: الجنّة لذي الخير، والنار لذي الشرّ، والمراد بالوجوب الثبوت؛ إذ هي في صحّة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل.
ورواية المصنّف بلفظ: "من أثنيتم إلخ" أبين في العموم من رواية البخاريّ، بلفظ:"هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار".
وفيها ردٌّ على من زعم أن ذلك خاصّ بالميتين المذكورين، لغيب أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليه، فالصواب أنه خبر عن حكم أعلمه الله تعالى به، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أثنيتم شرًّا
…
إلخ دا يُشكل عليه النهي عن سبّ الأموات، فقد أخرج النسائيّ بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنهما قالت: ذُكِر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم هالكٌ بسوء، فقال:"لا تذكروا هلكاكم إلا بخير"، وأجيب عن هذا الإشكال بأوجه:
(أحدهما): أن الذي تُحُدّث عنه بالشرّ كان مستظهراً له، ومشهوراً به.
(الثاني): أنّ محمل النهي إنما هو فيما بعد الدفن، وأما قبله، فيجوز؛ ليتعظ به الفسّاق، وهذا كما يُكره لأهل الفضل الصلاة على الْمُعْلِن بالبدَع والكبائر.
(الثالث): أن الذي أثنى عليه الصحابة بالشرّ يَحْتَمِل أن يكون من المنافقين، ظهرت عليه دلائل النفاق، فشهدت الصحابة بما ظهر لهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"وجبت له النار"، والمسلم لا تجب له النار، وهذا هو مختار القاضي عياض رحمه الله.
(الرابع): أن النهي عن سبّ الأموات متأخر عن هذا الحديث، فيكون ناسخاً، أفاده القرطبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أقرب الأوجه هو الأول، وأبعدها
آخرها؛ إذ النسخ يحتاج إلى معرفة التاريخ، ولم يُعرف هنا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ") هكذا في رواية المصنّف مكرّراً ثلاث مرّات، والخطاب للصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، بخلاف من بعدهم، قال: والصواب أن ذلك يختصّ بالثقات والمتقين. انتهى.
قال الجامع عفا الثه تعالى عنه: الحقّ كونه عامًّا للصحابة، وغيرهم من المؤمنين؛ للنصوص الكثيرة الواضحة في ذلك:
(فمنها): ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي الأسود الديليّ، قال: قَدِمت المدينة، وقد وقع بها مرضٌ، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمرَّت بهم جنازة، فأُثني على صاحبها خيراً، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرّ بأخرى، فأُثني على صاحبها خيراً، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرّ بالثالثة، فأُثني على صاحبها شرًّا، فقال: وجبت، فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت: كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم شَهِدَ له أربعة بخير، أدخله الله الجنة"، فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان"، ثم لم نسأله عن الواحد.
فهذا أصرح في كون الحكم عامًّا للمسلمين كلّهم.
(ومنها): ما في "صحيح البخاري" في "كتاب الشهادات" في حديث الباب بلفظ: "المؤمنون شهداء الله في الأرض".
(ومنها): ما أخرجه النسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الباب بنحو هذه القصّة بلفظ: "الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض".
(ومنها): ما أخرجه أبو داود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الباب أيضاً في نحو هذه القصّة:"إن بعضكم على بعض لشهيد".
فهذه النصوص كلها واضحة في كون الحكم للمسلمين جميعاً، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: والظاهر أن الذي أثنوا عليه شرًّا كان من المنافقين. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة رضي الله عنه بإسناد صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ على الذي أثنوا عليه شرًّا، وصلى على الآخر. انتهى.
وقال الداوديّ رحمه الله: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفَسَقَة؛ لأنهم يُثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة؛ لأن شهادة العدوّ لا تقبل. انتهى.
ونقل الطيبيّ عن بعض شرّاح "المصابيح" قال: ليس معنى قوله: "أنتم شهداء الله في الأرض" أن الذي يقولونه في حقّ شخص يكون كذلك حتى يصير من يستحقّ الجنة من أهل النار بقولهم، ولا بالعكس، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيراً رأوه منه كان ذلك علامةَ كونه من أهل الجنّة، وبالعكس.
وتعقّبه الطيبيّ بأن قوله: "وجبت" بعد الثناء حُكْمٌ عَقَبَ وصفاً مناسباً، فأشعر بالعلّيّة، وكذا قوله:"أنتم شُهداء الله في الأرض"؛ لأن الإضافة فيه للتشريف؛ لأنهم بمنزلة عالية عند الله، فهو كالتزكية للأمّة بعد أداء شهادتهم، فينبغي أن يكون لها أثرٌ، قال: وإلى هذا يومئ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية [البقرة: 143].
قال الحافظ: وقد استشهد محمد بن كعب القُرَظيّ لمّا روى عن جابر نحو حديث أنس رضي الله عنه بهذه الآية، أخرجه الحاكم، وقد وقع ذلك في حديث مرفوع غيرِه عند ابن أبي حاتم في "التفسير"، وفيه أن الذي قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما قولك: وجبت" هو أُبَيّ بن كعب.
وقال النوويّ: قال بعضهم: معنى الحديث أن الثناء بالخير لمن أَثْنَى عليه أهل الفضل، وكان ذلك مطابقاً للواقع، فهو من أهل الجنّة، فإن كان غير مطابق فلا، وكذا عكسه، قال: والصحيح المختار أنه على عمومه وإطلاقه، وأن من مات منهم، فالهم الله تعالى الناس، أو معظمهم الثناء عليه بخير، كان دليلاً على أنه من أهل الجنّة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك، أو لا، فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا إلهام، يُستدلّ به على تعيينها، وبهذا تظهر
فائدة الثناء، ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه، لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت النبيّ صلى الله عليه وسلم له فائدة. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد، وابن حبّان، والحاكم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعاً:"ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى: قد قبلتُ قولكم، وغفرت له ما لا تعلمون"، ولأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وقال:"ثلاثة" بدل "أربعة"، وفي إسناده من لم يُسمّ، وله شاهد من مراسيل بُشير بن كعب، أخرجه أبو مسلم الكجيّ.
وأما جانب الشرّ فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حقّ من غلب شرّه على خيره. وقد وقع في رواية النضر المشار إليها أوّلاً في آخر حديث أنس:"إن لله ملائكة، تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشرّ". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 2200 و 2201](949)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1368 و 2642)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1058)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1930) و"الكبرى"(2059)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1491)، و (أحمد) في "مسنده"(1491 و 12426 و 12522 و 12627 و 12791)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 457)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الأوسط"(3/ 71)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 32)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 20.
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الثثاء على الميت بما فيه من خير وشرّ، للحاجة، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرّمةّ.
2 -
(ومنها): جواز ثناء الناس على الميت، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله بذلك، حيث قال:"باب ثناء الناس على الميت"؛ أي: مشروعية الثناء على الميت، وجوازه مطلقاً، بخلاف الحيّ، فإنه منهيّ عنه؛ إذا أفضى إلى الإطراء، خشيةً عليه من الزَّهْوِ، أشار إلى ذلك الزين ابن الْمُنَيَّر رحمه الله.
3 -
(ومنها): فضيلة هذه الأمة، حيث كانت شهداء الله تعالى في أرضه، كما قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية [البقرة: 143].
4 -
(ومنها): إعمال الحكم بالظاهر.
5 -
(ومنها): استحباب توكيد الكلام المهتمّ به بتكراره؛ ليُحفظ، وليكون أبلغ.
6 -
(ومنها): جواز التفدية بالأبوين، وقد استوفيت البحث فيه في غير هذا الموضع، فلا تغفل.
7 -
(ومنها): أنه أصل في قبول الشهادة بالاستفاضة، وأن أقلها اثنان؛ لقوله في حديث عمر رضي الله عنه المذكور: فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان".
8 -
(ومنها): ما قاله ابن العربيّ رحمه الله: فيه جواز الشهادة قبل الاستشهاد، وقبولها قبل الاستفصال.
9 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: [فإن قيل]: كيف مُكِّنُوا بالثناء بالشرّ مع الحديث الصحيح في البخاريّ وغيره في النهي عن سبّ الأموات؟.
[فالجواب]: أن النهي عن سبّ الأموات هو في غير المنافق، وسائر الكفار، وفي غير المتظاهر بفسق، أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشرّ؛ للتحذير من طريقتهم، ومن الاقتداء بآثارهم، والتخلّق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرًّا كان مشهوراً بنفاق، أو نحوه، مما ذكرنا، هذا هو الصواب في الجواب عنه، وفي الجمع بينه وبين النهي عن السبّ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): قيل: فيه استعمال الثناء في الشرّ للمؤاخاة والمشاكلة، وحقيقته إنما هو في الخير.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قيل، لكن تقدّم أن الصواب استعمال الثناء في الخير والشرّ، ولم يثبت عمن يُعْتَبَر قوله من أهل اللغة عدم استعماله في الشرّ، فقوله: للمؤاخاة والمشاكلة إلخ غير صحيح، كما تقدّم، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2201]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثنا حَمَّادٌ - يَعْنِي ابْنَ زيْدٍ - (ح) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَنَازَةٍ، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَمُّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ، من كبار [8](ت 189) وله (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بَكْر بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه يتشيّع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
5 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع (120) وله (86)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
و"أنس" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله كسابقه، وهو (140) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ثابت.
[تنبيه]: رواية ثابت عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:
(2642)
- حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: مُرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال:"وجبت"، ثم مُرّ بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، أو قال: غير ذلك، فقال:"وجبت"، فقيل: يا رسول الله، قلت لهذا:"وجبت"، ولهذا:"وجبت"، قال:"شهادة القوم، المؤمنون شهداءُ الله في الأرض". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(20) - (بَابُ مَا جَاءَ فِي مُسْتَرِيحٍ وَمُسْتَرَاحٍ مِنْهُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2202]
(950) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدَّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ، وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة الحجة الثبت الفقيه المشهور [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 378.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ) - بمهملتين مفتوحتين، ولامين، الأولى ساكنة، والثانية مفتوحة - الدِّيليّ المدنيّ، ثقة [6](خ م د س) تقدم في "الحيض" 23/ 806.
4 -
(مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ السَّلَميّ - بفتحتين - المدنيّ، مقبول [3](خ م خد س ق) تقدم في "الإيمان" 64/ 360.
5 -
(أَبُو قَتَادَةَ بْنُ رِبْعِيٍّ) هو: الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة السَّلَميّ الأنصاريّ المدنيّ الصحابيّ المشهور، مات سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى محمد بن عمرو، ومعبد، كما أسلفته آنفاً.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بغلانيًّا إلا أنه دخل المدينة للأخذ عن مالك.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي قَرَد:"خير فرساننا اليوم أبو قتادة"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) تقدّم الخلاف في اسمه آنفاً (ابْنِ رِبْعِيٍّ) - بكسر الراء، وسكون الموحّدة، وعين مهملة -.
قال الحافظ ابن عبد البرِّ رحمه الله: هكذا الحديث في "الموطّآت" بهذا الإسناد، وأخطأ فيه سُويد بن سعيد، عن مالك، فقال:"عن معبد بن كعب، عن أبيه"، وليس بشيء. انتهى.
(أَنَّهُ كَانَ يُحَدَّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ) - بضم الميم - مبنيًّا للمفعول، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم المارّ، ولا الممرور بجنازته. انتهى. (عَلَيْهِ)؛ أي: على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووقع في "الموطآت" للدارقطنيّ، من طريق إسحاق بن عيسى، عن مالك بلفظ:"مَرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة"، والباء على هذا بمعنى
"على"، وذكّر الجنازة باعتبار الميت، قاله في "الفتح"(بِجَنَازَةٍ) متعلّق بـ "مُرّ"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ") قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: أراح الرجلُ، واستراح: إذا رجعت إليه نفسه بعد الإعياء. انتهى.
والواو فيه بمعنى "أو"، والتقدير: هذا الميت، أو كلّ ميت إمّا مستريح، أو مستراح منه، أو بمعناها، على أن هذا الكلام بيان لمقدّر، يقتضيه الكلام، كأنه قال: هذا الميت، أو كلّ ميت أحد رجلين، فقال: مستريح، ومستراح منه.
وقال السيوطيّ: الواو فيه بمعنى "أو"، وهي للتقسيم، وقال أبو البقاء في إعرابه: التقدير: الناس، أو الموتى مستريح، أو مستراح منه.
قال السندي: ولا يخفى ما فيه من عدم المطابقة بين المبتدأ والخبر، فليُتأمّل. انتهى.
(قَالُوا)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم السائل منهم، إلا أن في رواية إبراهيم الحربيّ، عند أبي نُعيم:"قلنا"، فيدخل فيهم أبو قتادة، فيَحْتَمِل أن يكون هو السائل. انتهى.
(مَا الْمُسْتَرِيحُ؟، وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ) قال ابن التين رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد بـ "المؤمن" التقيّ خاصّة، وَيحْتَمِل كلّ مؤمن. انتهى. (يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا) بفتح النون، والصاد المهملة: التعَب وزناً ومعنى، زاد في رواية يحيى الآتية:"يستريح من أذى الدنيا، ونصبها إلى رحمة الله".
(وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ) قال ابن التين رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد بـ "الفاجر" الكافر، ويَحْتَمِل أن يدخل فيه العاصي. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: وقع في رواية ابن حبّان بلفظ "الكافر" بدل الفاجر، ولفظه:"والكافر يموت، فيستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدوابّ".
(يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ") قال الداوديّ رحمه الله: أما استراحة العباد، فلما يأتي به من المنكرات، فإن أنكروا عليه آذاهم، وإن تركوه
أَثِمُوا، واستراحة البلاد مما يأتي به من المعاصي، فإن ذلك مما يحصل به الْجَدْب، فيقتضي هلاك الحرث والنسل.
وتعقّب الباجي أوّلَ كلامه بأن من ناله أذاه لا يأثم بتركه؛ لأنه بعد أن ينكر بقلبه، أو ينكر بوجه، لا يناله به أذى.
وَيحْتَمِل أن يكون المراد براحة العباد منه، لما يقع لهم من ظلمه، وراحةُ الأرض منه لما يقع عليها من غصبها، ومنعها من حقّها، وصرفه في غير وجهه، وراحة الدوابّ منه مما لا يجوز من إتعابها، ذكره في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: معنى استراحة العباد من الفاجر، اندفاع أذاه عنهم، وأذاه يكون من وجوه: منها ظلمه لهم، ومنها ارتكابه للمنكرات، فإن أنكروها قاسَوْا مشقّة من ذلك، وربما نالهم ضرره، وإن سكتوا عنه أثموا.
واستراحة الدوابّ منه كذلك؛ لأنه يؤذيها بضربها، وتحميلها ما لا تطيقه، وُيجيعها في بعض الأوقات، وغير ذلك.
واستراحة البلاد والشجر، فقيل: لأنها تُمنَع القطرَ بمعصيته، قاله الداوديّ، وقال الباجيّ: لأنه يَغصِبها، ويمنعها حقّها، من الشرب، وغيره. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن جميع ما ذكروه من أنواع الأذى صالح للدخول في معنى الحديث، فالأولى حمل الحديث على جميع أنواع الأذى من غير تعيين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 2202 و 2203، (950)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6512 و 6513)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1930 و 1931) و"الكبرى"(2057 و 2058)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 241)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 296 و 302 و 304)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 32 و 33)،
و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(7/ 107)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(3/ 443)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 96)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3007 و 3012)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 379)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1453)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استراحة المؤمن من تعب الدنيا، وهمومها بموته.
2 -
(ومنها): تقسيم الناس إلى قسمين: مؤمن، وفاجر.
3 -
(ومنها): بيان فضل الإيمان.
4 -
(ومنها): بيان قبح الفجور، وأنه سبب البلايا والمصائب.
5 -
(ومنها): أن فجور الفاجر يتسبّب منه ضرر العباد، والبلاد، كما قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآية [الروم: 41]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2203]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَاقِ، جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ:"يَسْتَرِيحُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا، وَنَصَبِهَا اِلَى رَحْمَةِ اللهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم أيضاً قبل بابين.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، أبو محمد المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ) الفزاريّ مولاهم، أبو بكر المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [6] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 31/ 1825.
والباقون ذُكروا قبله، وابن كعب بن مالك، هو معبد المذكور قبله.
وقوله: (إِلَى رَحْمَةِ اللهِ)؛ أي: إلى جنته؛ لأنها رحمته، كما سمّاها الله تعالى بذلك، فيما أخرجه الشيخان من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تحاجّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطُهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها
…
" الحديث.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" فقال:
(22030)
- حدّثنا يحيى بن سعيد، حدّثنا عبد الله بن سعيد؛ يعني ابن أبي هند، حدّثني محمد بن عمرو بن حَلْحَلة، عن ابن لكعب بن مالك، عن أبي قتادة بن رِبْعِيّ، قال: مُرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بجنازة، قال:"مستريح، ومستراح منه"، قالوا: يا رسول الله، ما المستريح، والمستراح منه؟ قال:"المؤمن استراح من نَصَب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والفاجر استراح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".
وأما رواية عبد الرزّاق، عن عبد الله بن سعيد، فساقها أيضاً الإمام أحمد رحمه الله فقال:
(22086)
- حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، حدّثني محمد بن عمرو بن حَلْحَلة الدِّيليّ، عن ابن كعب بن مالك، عن أبي قتادة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فمُرّ عليه بجنازة، فقال:"مستريح، ومستراح منه"، قال: قلنا: أي رسول الله، ما مستريحٌ، ومستراح منه؟ قال:"العبد الصالح يستريح من نَصَب الدنيا وهَمِّها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(21) - (بَابُ الأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيْتِ، وَبَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2204]
(951) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، وَكَبَّرَ
(1)
أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أيضاً قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم أيضاً قبل ثلاثة أبواب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها)؟ أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
4 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
(1)
وفي نسخة: "وكبّر عليه".
6 -
(ومنها): أن سعيداً أحد الفقهاء السبعة، وأبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى لِلنَّاسِ)؛ أي: أخبرهم بموته.
[تنبيه]: "النَّعْيُ": بفتح النون، وإسكان العين المهملة، وكغنيّ: الإخبار بالموت، يقال: نَعَاه نَعْياً، ونَعِيًّا، ونُعْيَاناً بالضمّ: أخبر بموته، والنَّعِيّ، كغنيّ: الناعي، والْمَنْعِيّ، قاله في "القاموس"
(1)
.
وقال في "المصباح": نَعَيتُ الميتَ نَعْياً، من باب نفع: أخبرتُ بموته، فهو مَنْعِيّ، واسم الفعل الْمَنْعَى، والْمَنْعَاةُ بفتح الميم فيهما، مع القصر، والفاعل: نَعِيّ، على فعيل، يقال: جاء نَعِيّه؛ أي: ناعيه، وهو الذي يُخبر بموته، ويكون النَّعِيّ خَبَراً أيضاً. انتهى
(2)
.
وقال في "اللسان": قال ابن سِيدَهْ: والنَّعْيُ، والنَّعِيُّ، بوزن فَعِيلٍ: نداءُ الداعي، وقيل: هو الدعاء بموت الميت، والإشعارُ به، وجاء نَعِيُّ فلان: وهو خبر موته. وقال أبو زيد: النَّعِيُّ - أي كغنيّ - الرجل الميتُ، والنَّعْيُ - أي بفتح، فسكون - الفِعلُ. انتهى
(3)
.
وفيه دليلٌ على جواز نعي الميت، وقد ورد النهي عنه، فيُحمل ذلك على النعي لغير غرض دينيّ، مثل نعي الجاهليّة المشتمل على ذكر مفاخر الميت، ومآثره، وإظهار التفجّع عليه، وإعظام حال موته، ويُحمل النعي الجائز على ما فيه غرض صحيحٌ، كتكثير المصلّين عليها؛ تحصيلاً لدعائهم، وتتميماً للعدد الذي وُعِد بقبول شفاعتهم في الميت، كالمائة، أو الأربعين
(4)
، أو لتشييعه، وقضاء حقّه في ذلك، وقد ثبت في معنى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"هلا آذنتموني به"،
(1)
"القاموس المحيط" 4/ 396.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 614 - 615.
(3)
راجع: "لسان العرب" 15/ 334 - 335.
(4)
راجع: "إحكام الأحكام" 3/ 229 - 230 بنسخة "الحاشية".
ونعيه صلى الله عليه وسلم أهل مؤتة، جعفرًا، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وكنعيه النجاشيّ في هذا الحديث
(1)
، وسيأتي البحث بأتمّ من هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى-.
(النَّجَاشِيَ) بفتح النون، وتخفيف الجيم، وبعد الألف شين معجمة، ثم ياء ثقيلة، كياء النسب، وقيل: بالتخفيف، ورجّحه الصغانيّ، وهو لقبُ مَن ملك الحبشة، وحَكَى المطرّزيّ تشديد الجيم عن بعضهم، وخطّأه
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: والنجاشيّ لقب لكلّ من ملك الحبشة، وأما أصحمة، فهو اسمٌ عَلَئم لهذا الملك الصالح الذي كان في زمن النبيّ-صلى الله عليه وسلم. قال المطرّزيّ، وابن خالويه، وآخرون، من الأئمة كلامًا متداخلًا، حاصله: أن كلّ مَن مَلَك المسلمين يقال له: أمير المؤمنين، ومَن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الروم قيصر، ومن ملك الفُرْس كسرى، ومن ملك التُّرْك خاقان، ومن ملك القبط فرعون، ومن ملك مصر العزيز، ومن ملك اليمن تُبَّع، ومن ملك حِمْيَر القَيل بفتح القاف، وقيل: القيل أقلّ درجة من الملك. انتهى
(3)
.
[فائدة]: قال في "الفتح": أرض الحبشة بالجانب الغربيّ من بلاد اليمن، ومسافتها طويلة جدًّا، وهم أجناس، وجميع فِرَق السودان يُعطُون الطاعةَ لملك الحبشة، وكان في القديم يلقّب بالنجاشيّ، وأما اليوم، فيقال له: الحَطِي -بفتح المهملة، وكسر الطاء المهملة الخفيفة، بعدها تحتانيّة خفيفة- ويقال: إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دُريد: جمع الحَبَش أُحبوش بضم أوله، وأما قولهم: الحَبَشَة فعلى غير القياس، وقد قالوا أيضًا: حُبْشان، وقالوا: أَحْبُش، وأصل التحبيش التجميع، والله أعلم. انتهى
(4)
.
[فائدة]: النجاشيّ أول ملك أسلم، وصحّ إسلامه عند النبيّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 386 - 387.
(2)
"الفتح" 543/ 3، كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنائز.
(3)
"شرح مسلم " في الموضع المتقدم.
(4)
"الفتح" 7/ 587، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة رقم الحديث 3872 - 3876.
فاستغفر له ثلاثًا، وصلّى عليه، وهو تابعيّ؛ لأنه آمن، ورأى الصحابة، ولم يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن ذكره ابن منده في "الصحابة" توسّعًا، وهذه المسألة تُلقى في المعاياة، فيقال: شخص صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عقيم وأصحابه، وهو تابعيّ، فيقال: هو النجاشيّ.
ومن الغرائب التي نظيرها نادرٌ أيضًا إسلام صحابيّ طويل الصحبة كثير الرواية على يد تابعيّ، وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإنه أسلم على يد النجاشيّ رحمه الله، ذكره ابن الملقّن رحمه الله
(1)
.
(فِي الْيَوْمِ) متعلّق بـ "نَعَى"(الَّذِي مَاتَ فِيهِ) قال ابن دحية في "التنوير": قال أهل السير: وتوفّي في رجب سنة تسع من الهجرة، وقال ابن الأثير: أسلم قبل الفتح، ومات قبله أيضًا، وصلى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة
(2)
.
(فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى) بضتم الميم، وفتح اللام المشدّدة، بصيغة اسم المفعول؛ أي: إلى المكان الذي كان يُصلَّى فيه على الجنازة، وفي رواية ابن ماجه:"فخرج وأصحابه إلى البقيع، فصفّنا خلفه"، قال في "الفتح": والمراد بالبقيع بقيع بُطحان، أو يكون المرادب "المصفى" موضعاً مُعدًّا للجنائز ببقيع الغَرْقَد، غير مُصَلَّى العيدين، والأول أظهر، وقد تقدّم في العيدين أن المصلّى كان ببطحان. انتهى
(3)
.
(وَكَبَّرَ) وفي نسخة: "وكبّر عليه"(أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) فيه دليلٌ على أن سنة الصلاة على الجنازة التكبير أربعًا، وقد خالف في ذلك الشيعة، ووردت أحاديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كبّر خمسًا، وقيل: إن التكبير أربعًا متأخّر عن التكبير خمسًا، ورُوي فيه حديث عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، ورُوي عن بعض المتقدّمين أنه يُكبّر على الجنازة ثلاثًا، وهذا الحديث يردّه، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله
(4)
، وسيأتي تمام البحث في هذا المسألة الثامنة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 385.
(2)
"الأعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 384.
(3)
" الفتح" 3/ 543.
(4)
"إحكام الأحكام" 3/ 232 - 233 بنسخة "الحاشية".
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2204 و 2205 و 2206](951)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1245 و 1318 و 1327 و 1333) و"مناقب الأنصار"(3880)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3204)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1022)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 26 و 69 و 70 و 94)، و (مالك) في "الموطأ) (1/ 226)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه " (6393)، و (أحمد) في "مسنده " (2/ 241 و 280 و 529)، و (ابن حبّان) في "صحيحه " (3068 و 3098 و 3100 و 3101)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه" (2129 و 2130 و 2131)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (4/ 49)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (1490)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز نعي الميت، وسيأتي تمام البحث في المسألة التالية- إن شاء الله تعالى-.
2 -
(منها): بيان مشروعيّة الصفوف للصلاة على الجنازة، قال في "الفتح": وفي الحديث دلالة على أن للصفوف على الجنازة تأثيرًا، ولو كان الجمع كثيرًا؛ لأن الظاهر أن الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم كانوا عددًا كثيرًا، وكان المصلى فضاءً واسعًا، ولا يضيق بهم لو صفّوا فيه صفًّا واحدًا، ومع ذلك فقد صفّهم، وهذا هو الذي فهمه مالك بن هبيرة الصحابي رضي الله عنه، فكان يصُفّ من يحضر الصلاة على الجنازة ثلاثة صفوف، سواء قلّوا، أو كثروا، ويبقى النظر فيما إذا تعددت الصفوف، والعدد قليل، أو كان الصفّ واحدًا، والعدد كثير؛ أيهما أفضل؟. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكره ولم يبتّ الحكم، والذي يظهر لي أن تعدد الصفوف، وإن قلّ العدد هو الأولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صفّهم خلفه، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن الصلاة على الميت صلاة لا تجزئ إلا بطهارة، خلاف
قول من قال: يجزئ أن يصلي على الجنازة بغير طهارة، ويؤيد ذلك قول الله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية [التوبة: 84]، فسماها الله تعالى صلاةً، وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"فصلّوا عليه" وقال: "صلوا على صاحبكم"، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم قوله:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُول".
4 -
(ومنها): أن في قصة النجاشيّ علَماً من أعلام النبوّة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلمهم بموته في اليوم الذي مات فيه، مع بعد ما بين أرض الحبشة والمدينة.
5 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به مَن منع الصلاة على الجنازة في المسجد، وهو قول الحنفية، والمالكيّة، لكن قال أبو يوسف: إن أُعدّ مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس.
قال النوويّ: ولا حجة فيه؛ لأن الممتنع عند الحنفيّة إدخال الميت المسجد، لا مجرّد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله.
وقال ابن بزيزة وغيره: استَدلّ به بعض المالكيّة، وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، ولاحتمال أن يكون خرج بهم إلى المصلى لأمر غير المعنى المذكور، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل ابن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل؟ بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في "التفسير" من طريق ثابت، والدارقطنيُّ في الأفراد، والبزّار من طريق حميد، كلاهما عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلّى على النجاشيّ قال بعض أصحابه: صلى على عِلْج من الحبشة، فنزلت:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} الآية [آل عمران: 199]، وله شاهد في "معجم الطبرانيّ الكبير" من حديث وحشيّ بن حرب، وآخر عنده في "الأوسط " من حديث أبي سعيد، وزاد فيه أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقًا.
6 -
(ومنها): أنه استُدلّ به على مشروعيّة الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعيّ، وأحمد، وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم
يأت عن أحد من الصحابة منعه، وسيأتي تمام البحث فيه، وأن الراجح جوازه في المسألة السابعة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في حكم نعي الميت:
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب الرجل يَنْعَى إلى أهل الميت بنفسه". انتهى.
فقال في "الفتح " بعد ذكر ما يتعلّق بالترجمة ما نصه: وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نُهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يُعلنُ بخبر موت الميت على أبواب الدُّور والأسواق.
وقال ابن المرابط: مراده أن النعي الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباح، وإن كان فيه إدخال الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمّة؛ لما يترتّب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته، وتهيئة أمره، والصلاة عليه، والدعاء له، والاستغفار، وتنفيذ وصاياه، وما يترتّب على ذلك من الأحكام.
وأما نعي الجاهلية، فقال سعيد بن منصور: أخبرنا ابن عُليّة، عن ابن عون، قال: قلت لإبراهيم: أكانوا يكرهون النعي؟ قال: نعم، قال ابن عون: كانوا إذا تُوُفي الرجل ركب رجل دابّة، ثم صاح في الناس: أنعى فلانًا. وبه إلى ابن عون قال: قال ابن سيرين: لا أعلم بأسًا أن يُؤذِن الرجل صديقه وحميمه. وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا.
وقد كان بعض السلف يشدّد في ذلك حتى كان حذيفة رضي الله عنه إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا به أحدًا، إني أخاف أن يكون نعيًا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذنيّ هاتين ينهى عن النعي، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه بإسناد حسن.
قال ابن العربي رحمه الله: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات:
[الأولى]: إعلام الأهل والأصحاب، وأهل الصلاح، فهذا سنة.
[الثانية]: دعوة الْحَفْل للمفاخرة، فهذه تكره.
[الثالثة]: الإعلام بنوع آخر، كالنياحة، ونحو ذلك، فهذا يحرم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن نعي الميت، على نوعين:
[أحدهما]: محرّم، وهو ما كان لغير غرض دينيّ، مثل نعي الجاهليّة المشتمل على ذكر مفاخر الميت، ومآثره، وإظهار التفجّع عليه، وعظام حال موته، فهذا النوع هو محمل ما ورد من النعي.
[الثاني]: ما كان لغرض صحيح دينيّ، كتكثير المصلّين عليه؛ تحصيلًا لدعائهم، وتتميمًا للعدد الذي وُعِد بقبول شفاعتهم في الميت، كالمائة، أو الأربعين، أو لتشييعه، وقضاء حقّه في ذلك، وقد ثبت في معنى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"هلا آذنتموني به"، ونعيه صلى الله عليه وسلم أهل مؤتة، جعفرًا، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وكنعيه النجاشيّ في هذا الحديث، فهذا النوع جائز، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
(المسألةالخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على الميت:
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله ما حاصله: اختلف العلماء في حكم الصلاة على الجنائز، فقال أكثرهم: هي فرض على الكفاية، يسقط وجوبها بمن حضرها عمن لم يحضرها، وقال بعضهم: هي سنة واجبة على الكفاية.
وقال أيضًا: وفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ إذ لم يصلّ عليه أحد من قومه، وأمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة عليه معه دليل على تأكيد الصلاة على الجنائز، وعلى أنه لا يجوز أن تترك الصلاة على مسلم مات، ولا يجوز دفنه دون أن يصلّى عليه لمن قدر على ذلك.
وعلى هذا جمهور علماء المسلمين، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، من فقهاء الأمصار، إلا أنهم اختلفوا في الصلاة على الشهداء، وعلى البغاة، وعلى أهل الأهواء، لمعان مختلفة متباينة، على ما نذكره في مواضعه، إن شاء الله تعالى.
(1)
"الفتح" 3/ 453.
وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على المسلمين المذنبين من أجل ذنوبهم، وإن كانوا أصحاب كبائر. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
وقال العلامة القرطبيّ رحمه الله: فيه- أي في قوله: "فقوموا، فصلوا عليه"- في ليل على وجوب الصلاة على الميت المسلم، وهو المشهور من مذاهب العلماء أنه واجب على الكفاية، ومن مذهب مالك، وقيل عنه: إنه سنة مؤكدة. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: الصلاة على ميت فرض كفاية بلا خلاف عندنا، وهو إجماع، والمرويّ عن بعض المالكية مردود. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الصلاة على الميت المسلم، وكذا المسلمة فرض على الكفاية، لصحة الأدلة الواردة في ذلك، كحديث الباب، والأحاديث الأخرى الصحيحة في صلاته صلى الله عليه وسلم على الأموات، وأجمع على ذلك أهل العلم، فلا اختلاف بينهم في ذلك، إلا ما نُقل عن مالك، وهو مردود، كما بيّنه النوويّ رحمه الله آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في المراد بالصلاة على الميت:
[اعلم]: أن المراد بالصلاة هنا هي الصلاة المعهودة الشرعيّة، لا الصلاة اللغويّة التي هي الدعاء، كما زعم بعضهم، وقد أشار الإمام البخاريّ رحمه الله إلى الردّ على هذا الزعم، فبوّب له في "صحيحه"، فقال:"باب سنّة الصلاة على الجنائز"، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من صلّى على الجنازة"، وقال:"صَلّوا على صاحبكم"، وقال:"صلّوا على النجاشيّ"، سمّاها صلاةً، ليس فيها ركع، ولا سجود، ولا يُتكَلَّم فيها، وفيها تكبير وتسليم، وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرًا، ولا يصلي عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ويرفع يديه، وقال الحسن: أدركت الناس، وأحقّهم على جنائزهم مَن رَضُوه لفرائضهم، وإذا
(1)
"الاستذكار" 7/ 236 - 238.
(2)
"المفهم " 2/ 609.
(3)
"المجموع شرح المهذّب" 5/ 169.
أحدث يوم العيد، أو عند الجنازة يطلب الماء، ولا يتيمّم، وإذا انتهى إلى الجنازة، وهم يصلّون يدخل معهم بتكبيرة، وقال ابن المسيِّب: يكبّر بالليل والنهار، والسفر والحضر أربعًا، وقال أنسٌ رضي الله عنه: تكبيرة الواحد استفتاح الصلاة، {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، وفيه صفوفٌ، وإمامٌ، ثم أخرج بسنده عن الشعبيّ قال: أخبرني مَن مرّ مع نبيّكم صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ، فأمّنا، فصففنا خلفه، فقلنا: يا أبا عمرو من حدّثك؟ قال: ابن عبّاس رضي الله عنهما. انتهى كلام البخاريّ رحمه الله.
قال في "الفتح": قال الزين ابن المنيِّر: المراد بالسنّة ما شرعه النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها؛ يعني فهو أعمّ من الواجب والمندوب، ومراده بما ذكره هنا من الآثار والأحاديث أن لها حكم غيرها من الصلوات، من الشرائط، والأركان، وليست مجرّد دعاء، فلا تجزي بغير طهارة مثلًا.
وقال في "الفتح " أيضًا: قال ابن رُشيد نقلًا عن ابن المرابط وغيره ما مُحَصَّله: مراد هذا الباب الردّ على من يقول: إن الصلاة على الجنازة إنما هي دعاء لها، واستغفارٌ، فتجوز على غير طهارة، فحاول المصنّف الردّ عليه من جهة التسمية التي سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الغرض الدعاء وحده لَمَا أخرجهم إلى البقيع، ولدعا في المسجد، وأمرهم بالدعاء معه، أو التأمين على دعائه، ولَمَا صفهم خلفه كما يصنع في الصلاة المفروضة والمسنونة، وكذا وقوفه في الصلاة، وتكبيره في افتتاحه، وتسليمه في التحلّل منها، كلُّ ذلك دالّ على أنها على الأبدان، لا على اللسان وحده، وكذا امتناع الكلام فيها، وإنما لم يكن فيها ركوع ولا سجود؟ لئلا يتوهّم بعض الجهلة أنها عبادة للميت، فيضلّ بذلك. انتهى ما في الفتح
(1)
. وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في الصلاة على الغائب:
ذهب جمهور السلف، إلى مشروعية الصلاة عليه، وإليه ذهب الشافعيّ، وأحمد.
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ويصلّى على الميت الغائب بإمام
(1)
راجع: "الفتح" 4/ 89 - 93.
وجماعة، قد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي-رضي الله عنه، ومات بأرض الحبشة، وصلى معه أصحابه عليه صفوفاً، وهذا إجماع منهم، لا يجوز تعدّيه. انتهى
(1)
.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: الصلاة على الميت دعاء له، فكيف لا يُدعَى له، وهو غائب، أو في القبر؟.
وذهبت الحنفيّة، والمالكية إلى أنه لا تشرع الصلاة عليه مطلقًا.
وذهب بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه، أو ما قرب منه، لا إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البرّ.
وذهب ابن حِبّان إلى أنه إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة، قال المحبّ الطبريّ: لم أر ذلك لغيره.
واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشيّ باعذار، منها أنه كان بأرض لم يصلّ عليه بها أحد، ومن ثمّ قال الخطابيّ: لا يُصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بارض، ليس فيها من يصلي عليه، واستحسنه الرويانيّ، وترجم بذلك أبو داود في "السنن"، فقال:"باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر"، قال الحافظ: وهذا مُحْتَمِل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصلّ عليه في بلده أحد. انتهى.
وممن اختار هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيميّة، والمقبليّ، واستدلّ له بما أخرجه الطيالسيّ، وأحمد، وابن ماجه، وابن قانع، والطبرانيّ، والضياء المقدسيّ، عن أبي الطفيل، عن حُذيفة بن أَسِيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن أخاكم مات بغير أرضكم، فقوموا، فصلّوا عليه".
ومن الأعذار قولهم: كُشف له صلى الله عليه وسلم حتى رآى، فيكون حكمه حكم الحاضرين بين يدي الإمام الذي لا يراه المؤتمون، ولا خلاف في جواز الصلاة على من كان بمذلك.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يحتاج إلى نقل، ولا يثبت بالاحتمال.
وتعقّبه بعض الحنفية بان الاحتمال كافٍ في مثل هذا من جهة المانع.
(1)
"المحلى" 5/ 169.
قال الحافظ: وكان مستند القائل بذلك ما ذكره الواحديّ في أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"كُشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشيّ، حتى رآه، وصلى عليه"، ولابن حبّان من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما:"فقاموا، وصفّوا خلفه، وهم لا يظنّون إلا أن جنازته بين يديه"، ولأبي عوانة من طريق أبان وغيره، عن يحيى:"فصلينا خلفه، ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قُدّامنا".
ومن الأعذار أن ذلك خاصّ بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت غائب غيره.
وتعقّب بأنه صلى الله عليه وسلم صلى على معاوية بن معاوية الليثيّ، وهو مات بالمدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بتبوك، ذكر ذلك في "الاستيعاب".
وروي أيضًا عن أبي أمامة الباهليّ مثل هذه القصّة في حقّ معاوية بن مقرّن.
وأخرج مثلها أيضًا عن أنس في ترجمة معاوية بن معاوية المزنيّ، ثم قال بعد ذلك: أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقويّة، ولو أنها في الأحكام لم يكن شيء منها حجة.
وقال الحافظ في "الفتح"، متعقّبا لمن قال: إنه لم يصلّ على غير النجاشيّ، قال: وكأنه لم يثبت عنده قصّة معاوية بن معاوية الليثيّ، وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قويّ بالنظر إلى مجموع طرقه. انتهى.
وقال الذهبيّ: لا نعلم في الصحابة معاوية بن معاوية، وكذلك تكلّم فيه البخاريّ.
وقال ابن القيّم: لا يصحّ حديث صلاته صلى الله عليه وسلم على معاوية بن معاوية؛ لأن في إسناده العلاء بن يزيد، قال ابن المدينيّ: كان يضع الحديث.
وقال النوويّ رحمه الله مجيبًا عمن قال بأن ذلك خاصّ بالنجاشي: إنه لو فُتح باب هذا الخصوص لانسدّ كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفّرت الدواعي إلى نقله. انتهى.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: قال المالكيّة: ليس ذلك إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قلنا: وما عمل به محمد صلى الله عليه وسلم تعمل به أمته -يعني لأنه الأصل عدم الخصوص-.
قالوا: طُوِيت له الأرضُ، وأُحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربّنا عليه لقادر، وإن نبيّنا صلى الله عليه وسلم لأهلٌ لذلك، ولكن لا تقولوا: إلا ما رَوَيتم، ولا تخترعوا حديثًا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابت، ودعوا الضعاف، فإنه سبيل إتلاف، إلى ما ليس له تلاف. انتهى.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: قولهم: رُفع الحجاب عنه. ممنوع، ولئن سلّمنا، فكان غائبًا عن الصحابة الذين صلّوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله تعالى بعد ذكر ما تقدّم:
والحاصل أنه لم يأت المانعون من الصلاة على الغائب بشيء يعتدّ به، سوى الاعتذار بأن ذلك مختصّ بمن كان في أرض لا يصلّي عليه فيها أحد، وهو أيضًا جمود على قصّة النجاشيّ، يدفعه الأثر، والنظر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي في هذه المسألة قول من قال بجواز الصلاة على الغائب، وأقوى دليل على ذلك قصّة النجاشيّ رضي الله عنه فإن أقل ما يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، وأما ما عداها مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى على غائب غيره، فلا يثبت شيء منها.
فقد ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ثلاثة غير النجاشيّ، معاوية بن معاوية المزنيّ، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، لكنها كلها لم تثبت.
أما حديث صلاته على معاوية بن معاوية المزنيّ، فقد وردت قصته من حديث أنس، وأبي أمامة، مسندة، ومن طريق ابن المسيّب، والحسن البصريّ مرسلة.
فأما حديث أنس، ففي سندها محبوب بن هلال المزني، قال في الميزان: لا يعرف، وحديثه منكر، وقال البخاريّ: لا يتابع على حديثه، وله طريق آخر فيه يحيى بن أبي محمد قد ضُعّف، وبقية بن الوليد مدلّس تدليس التسوية، وله طريق ثالث، وفيها العلاء بن يزيد الثقفيّ، متفق على ضعفه، بل قال ابن المدينيّ: يضع الحديث، وقال ابن حبان: روى عن أنس نسخة موضوعة، منها الصلاة بتبوك صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثيّ.
(1)
"نيل الأوطار" 4/ 60 - 63.
وأما حديث أبي أمامة، ففيه نوح بن عُمرو السكسكيّ، قال ابن حبان: إنه سرق هذا الحديث، وفيه بقية المذكور أيضًا.
فقد تبيّن لك مما سقناه من كلام أهل العلم على أسانيدها، وبيانهم شدة ضعفها أنها غير صالحة للاحتجاج بها.
وقد تعب صاحب "عون المعبود" في الكلام عليها، وحاول أن يقويها، فلم يأت بشيء له طائل، فتأمله بإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[فائدة]: قال في "الفتح": أجمع كلّ من أجاز الصلاة على الغائب أن ذلك يُسقط فرضَ الكفاية، إلا ما حُكي عن ابن القطّان، أحد أصحاب الوجوه من الشافعيّة أنه قال: يجوز، ولا يُسقط الفرض. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في عدد التكبيرات على الجنازة:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في عدد التكبيرات على الجنائز على أقوال:
(الأول): يكبّر ثلاثًا، وهو قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وجابر بن زيد، وقال محمد بن سيرين: إنما كان التكبير ثلاثًا، فزادوا واحدًا.
(الثاني): يكبّر أربعًا، هذا قول أكثر أهل العلم، وممن قال به عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وابن أبي أوفى، وابن عمر، والحسن بن عليّ، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعقبة بن عامر، ومحمد ابن الحنفية، وعطاء بن أبي رباح، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
(الثالث): يكبّر خمسًا، هذا قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، وروي ذلك عن الضحّاك بن مزاحم.
(1)
"الفتح" 3/ 545، كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنائز.
(الرابع): لا يزاد على سبع، ولا يُنقص عن ثلاث، هذا قول بكر بن عبد الله المزنيّ.
(الخامس): قول أحمد: لا ينقص من أربع، ولا يزاد على سبع.
(السادس): يكبّرون ما كبّر إمامهم، روي ذلك عن ابن مسعود، وكان إسحاق يقول: إذا كبّر الإمام على الجنازة خمسًا، أو أربعًا، أو ما زاد إلى أن يبلغ سبعًا لزم المقتدي به أن ينتهي إلى تكبير الإمام.
(السابع): يكبّر ستًا، روينا ذلك عن علي بن أبي طالب أنه صلى على سهل بن حُنيف، فكبّر ستًّا، وروي ذلك عن ابن مسعود، وروي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى على أبي قتادة، فكبّر عليه سبعًا، وروي عنه أنه كان يكبّر على أهل بدر ستًا، وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا.
قال: وقد اختلف بعض من رأى أن التكبير على الجنائز أربع في الإمام يكبر خمسًا، فقالت طائفة: إذا زاد الإمام على أربع انصرف، هذا قول الثوريّ، وكذلك فعل، انصرف لمّا ذهب الإمام يكبّر الخامسة، وكان النعمان يقطعه حيث يكبّر الرابعة، ويسلّم، ثم ينصرف، وقال مالك في هذا: قف حيث وَقَفتِ السنّةُ أن لا تكئر الخامسة.
وقالت طائفة: يكبر خمسًا إذا كبّر الإمام خمسًا، هذا قول أحمد بن حنبل، وقال إسحاق: لو كبر ستًا، أو سبعًا -يعني يتبعه-. وذكر لأحمد إذا كبّر ستًا، أو سبعًا، أو ثمانيًا، قال: أما هذا فلا، وأما خمس فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نختار أربعًا.
قال ابن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه شتّى أنه كبّر على الجنائز أربعًا، وقد تكلّم في حديث زيد بن أرقم، فقالت طائفة من أصحاب الحديث به، وممن كان لا يمتنع منه، ولا ينهى عنه، ويرى الاقتداء بالإمام إذا كبّر خمسًا أحمد بن حنبل، وكان يرى أن يكبّر أربعًا، ودفعت طائفة من أصحابنا حديث زيد بن أرقم، وقالت: لم يكن زيد يكبّر أربعًا إلا لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبّر خمسًا، ثم صار آخر الأمر إلى أن كبّر أربعًا، ولولا ذلك ما كان زيد يكبّر أربعًا، فدلّ فعله على أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم-
ما كان زيد يختاره، والدليل على ذلك حديث عمر رضي الله عنه:
حدّثنا موسى بن هارون، قال: ثنا أبي، قال: ثنا يزيد بن هارون، ووهب بن جرير، قالا: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن المسيّب، قال: قال عمر: كل ذلك قد كان، خمس، وأربع، فجمع الناس على أربع. وقال وهب في حديثه: فأمر الناس بأربع
(1)
.
والأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبّر أربعًا أسانيدها جياد صحاح، لا عفة لشيء منها. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار وتصرّف
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن الأولى أن يكبّر أربعًا، لورود الأدلّة بذلك، وثبوتها ثبوتًا متواترًا، من طرق جماعة من الصحابة: أبي هريرة، وابن عباس، وجابر، وعقبة بن عامر، والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وغيرهم رضي الله عنهم، وإن كبّر خمسًا، جاز؛ لثبوته من حديث ابن أرقم رضي الله عنه، أخرجه مسلم في "صحيحه " في الباب التالي.
وأما قول ابن عبد البرّ: وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع، وأجمع الفقهاء، وأهل الفتوى بالأمصار على أربع، على ما جاء في الأحاديث الصحاح، وما سوى ذلك عندهم فشذوذ، لا يلتفت إليه. انتهى.
فدعوى باطلة، فإن الخلاف في ذلك معروف بين الصحابة ومن بعدهم، وقد استوعب اختلاف الصحابة، فمن بعدهم، أبو بكر بن المنذر رحمه الله، في كتابه "الأوسط"[5/ 429 - 435]، كما أسلفنا عنه بعض كلامه، وأبو محمد بن حزم رحمه الله في "المحلّى"[5/ 124 - 128] وقد فنّد رحمه الله تعالى دعوى الإجماع على أربع تكبيرات، فأجاد، وأفاد.
قال: ولم نجد عن أحد من الأئمة تكبيرًا أكثر من سبع، ولا أقلّ من ثلاث، فمن زاد على خمس، وبلغ ستًا، أو سبعًا، فقد عمل عملًا، لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قط، فكرهناه لذلك، ولم ينه عليه السلام عنه، فلم نقل: بتحريمه؛ لذلك، وكذلك القول فيمن كبّر ثلاثًا، وأما ما دون الثلاث، وفوق السبع، فلم
(1)
قلت: حديث ابن المسيب فيه انقطاع؛ لأنه لم يسمعه من عمر رضي الله عنه.
(2)
"الأوسط" 5/ 429 - 434.
يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا أحدًا قال به، فهو تكلّف، وقد نهينا أن نكون من المتكلّفين. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله باختصار
(1)
.
والحاصل أن الأولى أن يكبّر أربعًا، فلو بلغ خمسًا، فلا بأس؛ لصحة الحديث بذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في رفع اليدين في تكبيرات الصلاة على الجنازة:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع عوامّ أهل العلم على أن المصلي على الجنازة يرفع يديه في أول تكبيرة يكبّرها، واختلفوا في رفع اليدين في سائر التكبيرات:
فقالت طائفة: تُرفع الأيدي في كلّ تكبيرة على الجنازة، كذلك كان عمر يفعل، وبه قال عطاء، وعمر بن عبد العزيز، وقيس بن أبي حازم، والزهريّ، وسالم بن عبد الله بن عمر، وروينا ذلك عن مكحول، والنخعيّ، وموسى بن نعيم، وبه قال الأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
واختُلِفَ فيه عن مالك، فحكى ابن وهب عنه أنه قال: يعجبني أن يرفع اليدين في التكبيرات الأربع، وحكى ابن نافع عنه أنه قال: أستحبّ أن يرفع يديه في التكبيرة الأولى، وحكى ابن القاسم أنه حضره يصلي على الجنازة، فما رفع يديه في أول تكبيرة، ولا غيرها.
وقالت طائفة: ترفع اليد في أول تكبيرة من الصلاة على الميت، ثم لا ترفع بعدُ، كذلك قال الثوريّ، وأصحاب الرأي، ورُوي ذلك عن النخعيّ، خلافَ القول الأول عنه.
قال ابن المنذر رحمه الله: بقول ابن عمر أقول؛ اتباعاً له، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما بيّن رفع اليدين في كلّ تكبيرة يكبّرها المرء وهو قائم، وكانت تكبيرات العيدين، والجنائز في موضع القيام، ثبت رفع اليدين فيها قياسًا على رفع اليدين في التكبير في موضع القيام، ولما أجمعوا على الرفع في أول تكبيرة
(2)
،
(1)
"المحلّى" 5/ 128.
(2)
عبارة الأوسط فيها ركاكة، وهي هكذا:"ولما أجمعوا أن لا يدرى فرفع في أول تكبيرة إلخ". فلتحرّر.
واختلفوا فيما سواها، كان حكم ما اختلفوا فيه حكمَ ما أجمعوا عليه. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله ابن المنذر رحمه الله، من استحباب رفع اليدين في جميع التكبيرات هو الأرجح عندي؟ لأنه لم يثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خلافه، وصحّ عن ابن عمر، موقوفًا عليه، أخرجه البخاريّ في "جزء رفع اليدين " بسند صحيح، ولم يثبت لدينا مخالفة الصحابة له في ذلك، فدلّ مع شدة اتباع ابن عمر لآثار النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله اتباعًا، لا سيّما، وقد رُوي عنه مرفوعًا أيضًا، وإن رجّح الدارقطنيّ وقفه.
والحاصل أن الأرجح مشروعيّة رفع اليدين في جميع تكبيرات الصلاة على الجنازة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في وجوب القراءة في صلاة الجنازة: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلف أهل العلم في قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة على الجنازة، فكان ابن عباس يقول: ذلك من السنّة، وروينا عن ابن مسعود أنه قرأها، وروي ذلك عن ابن الزبير، وعُبيد بن عُمير. وبه قال الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
قال: وروينا عن المسور بن مخرمة أنه صلى جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى، وسورة قصيرة، ورفع بها صوته، فلما فرغ قال: لا أجهل أن تكون هذه صلاة عجماء، ولكنّي أردت أن أعلّمكم أن فيها قراءة. وروينا عن الحسن بن عليّ أنه قرأ في الصلاة على الجنازة بفاتحة الكتاب ثلاث مرّات. وعن الحسن البصريّ مثله.
وقالت طائفة: ليس في الصلاة على الجنائز قراءةٌ، هذا قول ابن سيرين، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جُبير، وسعيد بن المسيّب، والشعبيّ، ومجاهد، والحكم، وحماد، ومالك بن أنس، وسفيان، وأصحاب الرأي، وكان ابن عمر لا يقرأ في الصلاة على الجنائز، وروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنهم.
(1)
"الأوسط" 5/ 426 - 428.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، وإن قرأ بفاتحة الكتاب، وسورة قصيرة فحسن؛ لأن الإسنادين اللذين رويناهما عن ابن عبّاس حديث الشافعيّ، عن إبراهيم بن سعد، وحديث الوَرَكانيّ
(1)
عن إبراهيم بن سعد، جيّدان
(2)
. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرّف، واختصار
(3)
.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: فإن كبّر في الأولى قرأ أم القرآن، ولا بدّ، وصلّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن دعا للمسلمين فحسن، ثم يدعو للميت في باقي الصلاة.
أما قراءة أم القرآن، فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها صلاة بقوله:"صلّوا على صاحبكم"، وقال عليه السلام:"لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن"، ثم أخرج بسنده حديث ابن عباس المذكور في الباب، وحديث أبي أمامة بن سهل، والضحّاك بن قيس الآتي. قال: وعن ابن مسعود: أنه كان يقرأ على الجنازة بأم الكتاب. وأورد أيضا أثر المسور بن مخرمة المتقدّم، قال: فرأى ابن عباس، والمسور بن مخرمة المخافتة ليست فرضًا.
وعن أبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، وأنس بن مالك: أنهم كانوا يقرؤون بأم القرآن، ويدعون، ويستغفرون بعد كلّ تكبيرة، من الثلاث في الجنازة، ثم يكبّرون، وينصرفون، ولا يقرؤون. وعن معمر، عن الزهريّ، سمعت أبا أمامة بن سهل بن حُنيف، يحدّث سعيد بن المسيّب، قال: السنّة في الصلاة على الجنائز أن تكبّر، ثم تقرأ بأم القرآن، ثم تصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت، ولا تقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلّم في نفسه عن يمينه.
(1)
الوركاني بفتح الواو، والراء، ووقع في الأوسط "الودكانيّ" بالدال بدل الراء، وهو تصحيف، وهو محمد بن جعفر.
(2)
أراد ابن المنذر رحمه الله حديث الباب، فإنه أخرجه من طريق الشافعيّ، عن إبراهيم بن سعد بسند المصنّف، ومن طريق محمد بن جعفر الوركانيّ، عن إبراهيم بن سعد المذكور بسنده.
(3)
"الأوسط" 5/ 437 - 440.
وعن ابن جريج: قال: قال ابن شهاب: القراءة على الميت في الصلاة في التكبيرة الأولى. وعن ابن جريج، عن مجاهد في الصلاة على الجنازة: يكبّر، ثم يقرأ بأمّ القرآن، ثم يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ذكر دعاء. وعن سفيان الثوريّ، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أنه كان يقرأ بفاتحة الكتاب في كلّ تكبيرة في صلاة الجنازة. وهو قول الشافعيّ، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وأصحابهما.
قال أبو محمد: واحتجّ من منع من قراءة القرآن فيها بأن قالوا: روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أخلصوا له الدعاء". قال: هذا حديث ساقط، ما روي قط من طريق يُشتغل بها، ثم لو صحّ لما منع من القراءة؛ لأنه ليس في إخلاص الدعاء للميت نهي عن القراءة، ونحن نخلص له الدعاء، ونقرأ كما أمرنا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "حديث ساقط" فيه نظر، بل حديث صحيح، رواه أبو داود، وابن ماجه، من طريق محمد ين إسحاق، وهو حجة، لكنه يدلّس، وقد صرّح في بعض طرقه عند ابن حبّان بالتحديث
(1)
، فزالت تهمة التدليس، فالجواب الصحيح عن اعتراضهم هو ما ذكره بعد هذا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال: وقالوا: قد روي عن أبي هريرة أنه سئل عن الصلاة على الجنازة؟ فذكر دعاء، ولم يذكر قراءة. وعن فَضَالة بن عُبيد أنه سئل: أيقرأ في الجنازة بشيء من القرآن؟ قال: لا. وعن ابن عمر أنه كان لا يقرأ في صلاة الجنازة.
قال أبو محمد: فقلنا: ليس عن واحد من هؤلاء أنه لا يقرأ فيها بأم القرآن، ونعم نحن نقول: لا يقرأ فيها بشيء من القرآن إلا أم القرآن
(2)
، فلا
(1)
قال ابن حبان رحمه الله تعالى في "صحيحها: "ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن ابن إسحاق لم يسمع هذا الخبر من محمد بن إبراهيم"، ثم أخرجه بسنده، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن إبراهيم
…
. إلخ.
(2)
قلت: هذا غير صحيح، بل صحّ قراة سورة مع الفاتحة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، فتبصّر.
يصحّ خلاف بين هؤلاء، وبين من صرّح بقراءة القرآن من الصحابة رضي الله عنهم، كابن عبّاس، والمسور، والضحّاك بن قيس، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، وأنس، لا سيما وأبو هريرة لم يذكر تكبيرًا، ولا تسليمًا، فبطل أن يكون لهم به متعلّق، وقد روي عنه قراءة القرآن في الجنازة، فكيف، ولو صحّ عنهم في ذلك خلاف، لوجب الردّ عند تنازعهم إلى ما أمر الله تعالى بالردّ إليه، من القرآن والسنّة، وقد قال عليه السلام:"لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن". وقالوا: لعلّ هؤلاء قرؤوها على أنها دعاء.
فقلنا: هذا باطل؛ لأنهم ثبت عنهم الأمر بقراءتها، وأنها سنتها، فقول من قال: لعلهم قرؤوها على أنها دعاء كذب بحت، ثم لا ندري ما الذي حملهم على المنع من قراءتها حتى يتقحّموا في الكذب بمثل هذه الوجوه الضعيفة، والعجب أنهم أصحاب قياس، وهم يرون أنها صلاة، ويوجبون فيها التكبير، واستقبال القبلة، والإمامة للرجال، والطهارة، والسلام، ثم يسقطون القراءة.
فإن قالوا: لما سقط الركوع، والسجود، والجلوس، سقطت القراءة.
قلنا: ومن أين يوجب هذا القياس دون قياس القراءة على التكبير والتسليم؟ بل لو صحّ القياس لكان قياس القراءة على التكبير، والتسليم- لأن كل ذلك ذكر باللسان- أولى من قياس القراءة على عمل الجسد، ولكن هذا علمهم بالقياس والسنن، وهم يعظّمون خلاف العمل بالمدينة، وهاهنا أريناهم عمل الصحابة، وسعيد بن المسيّب، وأبي أمامة، والزهريّ، علماءِ المدينة، وخالفوهم، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما نقلت كلام ابن حزم رحمه الله، وإن كان فيه طول؛ لكونه اشتمل على تفنيد آراء القائلين بعدم مشروعيّة قراءة الفاتحة في الصلاة على الجنازة، مع صحة السنة بذلك.
والحاصل أن وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، هو المذهب الحقّ، هان زاد سورة، فحسن؛ لصحة حديث ابن عباس، فقد أخرج البخاريّ
(1)
"المحلى" 5/ 129 - 131.
في "صحيحه"، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: ليعلموا أنها سنة.
وأخرجه أيضاًا لنساليّ، ولفظه: قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجَهَرَ حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده، فسألته، فقال: سنّةٌ وحقٌ.
وأما قول ابن حزم في خلال كلامه السابق: "لا يقرأ فيها بشيء من القرآن إلا بأم القرآن"، ففيه نظر لا يخفى؟ لما عرفت من صحة السنة بقراءة سورة مع الفاتحة، فتبصّر.
والحاصل أن السنة أن يقرأ الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، وإن زاد سورة، فحسن، ثم يكبّر، ثم يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم يكبّر، ثم يدعو للميت، ثم يكبّر، ثم يسلّم.
قال النسائيّ رحمه الله: أخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا الليث، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، أنه قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مُخافتةً، ثم يكبر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة.
أخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا الليث، عن ابن شهاب، عن محمد بن سُويد الدمشقي الْفِهْريّ، عن الضحاك بن قيس الدمشقي بنحو ذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث صحيحٌ.
[فإن قلت]: إن أبا أمامة، وإن كانت له رؤية، إلا أنه تابعيّ، من حيث الرواية، فقوله:"السنة في الصلاة على الجنازة إلخ " ليس له حكم الرفع، عل ما تقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما، فكيف يكون صحيحًا؟.
أقلت،: قد ثبت أنه رواه عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد رواه الحاكم في "مستدركه" من طريق حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وكان من كبراء الأنصار، وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبره رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة، أن يكبّر الإمام، ثمّ يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويُخلص الصلاة في التكبيرات الثلاث، ثم يسلّم تسليمًا خفيًّا حين ينصرف، والسنّة أن يفعل من وراءه مثل ما فعل إمامه.
قال الزهريّ: حدّثني بذلك أبو أمامة، وابن المسيّب يسمع، فلم يُنكر ذلك عليه، قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من السنة في الصلاة على الميت لمحمد بن سويد، قال: وأنا سمعت الضحَّاك بن قيس، يحدّث عن حبيب بن مسلمة في صلاة صلّاها على الميت، مثل الذي حدثنا أبو أمامة.
قال الحاكم رحمه الله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وليس في التسليمة الواحدة على الجنازة أصحّ منه. انتهى. وأقره الذهبي.
قال الجامع عفا الله تعالى: في قوله: "على شرط الشيخين" نظر؛ لأن حرملة بن يحيى ليس من رجال البخاري، بل هو من رجال مسلم، لكن أخرج الحديث الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"[1/ 500] عن ابن أبي داود، عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ به، بلفظ:"أن رجلًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره أن السنّة في الصلاة على الجنازة أن يكبّر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب سرّأ في نفسه، ثم يختم الصلاة في التكبيرات الثلاث".
قال الزهريّ: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سُويد الفهريّ، فقال: وأنا سمعت الضحّاك بن قيس يحدّث عن حبيب بن مسلمة، في الصلاة على الجنازة، مثل الذي حدّثك أبو أمامة. انتهى
(1)
. وهذا من شرطهما، بلا شكّ.
والحاصل أن حديث أبي أمامة كحديث ابن عباس رضي الله عنهما صحيح، له حكم الرفع؛ لأنه رواه عن رجال من الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هذا يأتي في حديث الضحّاك بن قيس، فإنه رواه عن مسلمة بن حبيب، كما مرّ آنفًا.
[تنبيه]: لا يشرع دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة، خلافًا لمن زعم ذلك:
قال ابن المنذر رحمه الله: لم نجد في الأخبار التي جاءت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد أن افتتح الصلاة على الجنازة، كما قال بعد أن افتتح الصلاة المكتوبة
(1)
"شرح معاني الآثار" 1/ 500.
قولًا، ولا وجدنا ذلك عن أصحابه، ولا عن التابعين. وقد كان الثوريّ، وإسحاق ابن راهويه يستحبّان أن يقول المرء بعد التكبيرة الأولى من الصلاة على الجنازة:"سبحانك اللهم، وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك"، وذُكر ذلك لأحمد، فقال: ما سمعت.
قال ابن المنذر: ولم أجد ذكر ذلك في كتب سائر علماء الأمصار، فإن قاله قائل، فلا شيء عليه، وإن تركه، فلا شيء عليه. انتهى كلامه
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله هنا يخالف مذهبه الذي التزمه في مؤلفاته النافعة، وهو اتباع الآثار الصحيحة، وقد اعترف هو نفسه بانه لم يثبت ذلك عنده، فلِمَاذا خيّر بين الأمرين؟ إن هذا منه عجيب. فالصواب عندي أن لا يقرأ الاستفتاح المذكور؛ لعدم ثبوت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل الثابت عنه إخلاص الدعاء للميت، فقد أمر به، فما زاد على الدعاء لا بدّ من أن يثبت بنقل صحيح حتى يُعمَل به، مثل قراءة الفاتحة، وسورة، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في عدد تسليم الصلاة على الجنازة:
قال الإمام ابن المنذر: رحمه الله: اختلفوا في ذلك، فقال كثير منهم: يسلم تسليمة واحدةً، روينا هذا القول عن عليّ، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع، وابن أبي أوفى، وأبي هريرة، وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف، وأنس، وابن عبّاس، وابن عمر رضي الله عنهما.
وبه قال ابن سيرين، والحسن، وسعيد بن جبير، وسفيان الثوريّ، وابن عيينة، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، ووكيع، وابن مهديّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق.
واختَلَفَ قول الشافعيّ، فقال في "كتاب الجنائز": إن شاء سلّم تسليمة، وإن شاء تسليمتين، وحَكَى البويطيّ عنه أنه قال: يسلّم تسليمتين.
(1)
"الأوسط" 5/ 436.
وقالت طائفة: يسلّم تسليمتين، هكذا قال أصحاب الرأي، وحُكي عن الشعبيّ، وأبي إسحاق مثل قولهم، واختُلِفَ فيه عن النخعيّ.
قال ابن المثذر: تسليمة أحبّ إليّ؛ لحديث أبي أمامة بن سهل، قال: حدثنا ابن عبد الحكم، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يسلم تسليمًا خفيفًا حتى ينصرف، والسنة أن يفعل من وراءه ما يفعل إمامه.
قال: ولأنه الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالسنّة من غيرهم، ولأنهم الذين حضروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظوا عنه، ولم يَختَلِف ممن روينا ذلك عنهم منهم أن التسليم تسليمة واحدة، وقد أجمع أهل العلم أنه يكون بتسليمة واحدة خارجًا من الصلاة. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله بتصرف. واختصار
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله تحقيق حسن جدًّا.
وحاصله ترجيح مذهب القائلين بالتسليمة الواحدة في صلاة الجنازة؛ لقوة دليله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: ذكر ابن المنذر رحمه الله تعالى استحباب وقوف الإمام بعد التكبيرة الرابعة وقفةً يدعو فيها قبل التسليم، واستدلّ على ذلك بما أخرجه هو، وأحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" بأسانيدهم عن شعبة، عن إبراهيم الْهَجَريّ، عن عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة، فماتت ابنة له، وكان يتبع جنازتها على بغلة خلفها، فجعل النساء يبكين، فقال: لا ترثين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المراثي، فتفيض إحداكنّ من عبرتها ما شاءت، ثم كبّر عليها أربعًا، ثم قام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين، يدعو، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في الجنازة هكذا. انتهى. واللفظ لأحمد رحمه الله
(2)
.
قال: وكان أحمد بن حنبل يرى أن يقف بعد الرابعة قبل التسليم، فاحتجّ
(1)
" الأوسط " 5/ 444 - 448.
(2)
أخرجه أحمد 4/ 356، والحاكم في "المستدرك" 1/ 360.
بهذا الحديث، وقال: لا أعرف شيئًا يخالفه، واستحبّ ذلك إسحاق ابن راهويه. انتهى.
قمال الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده إبراهيم الْهَجَريّ، وقد ضعّفوه، وقال في "التقريب": ليّن الحديث، رفع موقوفات. انتهى.
فالاستدلال بمثله على استحباب الوقوف المذكور محلّ نظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2205]
(
…
) - (وَحَدَّثَنى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَني أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي
(1)
مُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ يسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ أنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: نَعَى لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّجَاشِيَ، صَاحِبَ الْحَبَشَةِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ:"اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَحَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَفَّ بِهِمْ بِالْمُصَلَّى، فَصَلَّى، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ يكْبِيرَاتٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 3 ص 423.
والباقون تقدّموا، فمن قبل ابن شهاب تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، وهو ومن بعده في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَاب: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيبِ) قائل "قال " هو عُقيل، فهو داخل تحت الإسناً د السابق، ولفظ البخاريّ: "وعن ابن شهاب
…
إلخ " وهو معطوف على "ابن شهاب" السابق.
(1)
وفي نسخة: "أخبرني"، وفي أخرى:"حدّثنا".
[فائدة]: هكذا وقع التفصيل في رواية عُقيل، عن ابن شهاب بأن قصّة نعي النجاشيّ، والأمر بالاستغفار له عنده عن سعيد بن المسيّب، وأبي سلمة جميعاً، وقصّة الصلاة عليه، والتكبير فعنده عن سعيد وحده.
قال في "الفتح " ما حاصله: كذا -يعني كونه عن الزهري، عن سعيد فقط- رواه أصحاب معمر البصريون عنه، وكذا هو في "مصنف عبد الرزاق"، عن معمر، وأخرجه النسائيّ عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، فقال فيه:"عن سعيد وأبي سلمة"، وكذا أخرجه ابن حبّان، من طريق يونس، عن الزهريّ عنهما، وكذا ذكره الدارقطني في "غرائب مالك"، من طريق خالد بن مخلد وغيره، عن مالك، والمحفوظ عن مالك ليس فيه ذكر أبي سلمة، كذا هو في "الموطأ"، وكذا أخرجه البخاريّ في أوائل "الجنائز"، والمحفوظ عن الزهريّ أن نعي النجاشيّ، والأمر بالاستغفار له عنده عن سعيد وأبي سلمة جميعاً، وأما قصة الصلاة عليه، والتكبير فعنده عن سعيد وحده، كذا فصّله عُقيل عنه، وكذا صالح بن كيسان عنه، وذكر الدارقطني في "العلل" الاختلاف فيه، وقال: إن الصواب ما ذكرناه. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2206]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
عَمْرٌ والنَّاقِدُ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِي، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، كَرِوَايَةِ عُقَيْلٍ بِالاسْنَادَيْنِ جَمِيعًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْزو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 23/ 4.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
2 -
(حَسَن الْحُلْوَانِيُّ) ابن علىّ بن محمد الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [8](185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
6 -
(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية [4] مات بعد (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والزهريّ ذُكر قبله.
وقوله: (كَرِوَايَةِ عُقَيْلٍ بِالاسْنَادَيْنِ جَمِيعًا) أراد با لإسناد الأول إسناد الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي هريرة.
وبالثاني: إسناد ابن شهاب الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب وحده، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب بالإسناد الأول هذه ساقها البخاريّ، فقال:
(3880)
- حدّثنا زهير بن حرب، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدّثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن المسيِّبِ أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَى لهم النجاشيّ، صاحب الحبشة، في اليوم الذي مات فيه، وقال:"استغفروا لأخيكم".
وأما رواية صالح بالإسناد الثاني، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2207]
(952) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِي، فكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السّلميّ، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
3 -
(سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ) هو: - سليم بفتح السين المهملة، وكسر اللام- ابن حيّان- بفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء التحتانيّة- ابن بِسطام الْهُذَليّ البصريّ، ثقةٌ [7].
رَوَى عن أبيه، وسعيد بن ميناء، وعمرو بن دينار، وقتادة، ومروان الأصغر، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن مهديّ، ويحيى القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وأبو داود الطيالسيّ، وأبو خالد الأحمر، والأصمعيّ، وأبو عليّ الحنفيّ، ويزيد بن هارون، وعفّان بن مسلم، ومحمد بن سنان الْعَوَقيّ، ومسلم بن إبراهيم، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ما به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، سوى النسائي، فأخرج له في "عمل اليوم والليلة"، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، برقم (952) و (1159) و (1250) و (1333) و (1536) وأعاده بعده، و (2285) و (2287).
[تنبيه]: ليس في الكتب الستة من يُسمّى سَلِيم بفتح السين المهملة، مكبّرًا إلا سَلِيم بن حيّان هذا، ومن عداه كلهم سُلَيم مصغّرًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) الحجازيّ المكيّ، ويقال: المدنيّ، أبو الوليد، مولى الْبَخْتريّ بن أبي ذُبَاب، ثقةٌ [3].
رَوَى عن عبد الله بن الزبير، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، والأصبغ بن نُبَاتة، والقاسم بن محمد.
ورَوَى عنه حنظلة بن أبي سفيان، وسلِيم بن حَيّان، وأيوب السَّخْتيانيّ، وابن جريج، وابن إسحاق، وجماعة.
قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: مكيّ، ورَفَعَهُ، وقال النسائئ في "الجرح والتعديل": ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، سوى النسائي، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط برقم (952) و (1159) و (1333) و (1536) وكرّره أربع مرّات، و (2039) و (2285) و (2287).
5 -
(جَمابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد (70) وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان " 4/ 117.
وقوله: (عَلَى أَصْحَمَةَ) قال النوويّ رحمه الله: بفتح الهمزة، وَإِسكان الصاد، وفتح الحاء المهملتين، وهذا هو الذي وقع في رواية مسلم، وهو الصواب المعروف فيه، وهكذا هو في كتب الحديث والمغازي، وغيرها، ووقع في مسند ابن أبي شيبة في هذا الحديث تسميته "صَحْمَة" بفتح الصاد، هاسكان الحاء، وقال: هكذا قال لنا يزيد -يعني ابن هارون- هانما هو "صَمْحة" يعني بتقديم الميم على الحاء، وهذان شاذّان، والصواب "أصحمة" بالألف.
قال قتيبة وغيره: ومعناه بالعربيّة عطيّة. انتهى
(1)
.
وقوله: (النَّجَاشِي) بدل من "أصحمة"، وهو: بفتح النون، وتخفيف الجيم، وبعد الألف شين معجمة، ثم ياء ثقيلة، كياء النسب، وقيل: بالتخفيف، ورجّحه الصغانيّ، وهو لقب من ملك الحبشة، وحكى المطرّزيّ تشديد الجيم عن بعضهم، وخطّاه
(2)
، وقد تقدّم تمام البحث فيه، وشرح الحديث يُعلم مما سبق، وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2207 و 2208 و 2209](952)،
(1)
"شرح مسلم" 25/ 7، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنائز.
(2)
"الفتح" 3/ 543، كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنائز.
و (البخاريّ) في "الجنائز"(1317 و 1320 و 1334) و"المناقب "(3877 و 3878 و 3879)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 69 و 70)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 295 و 319 و 361 و 363 و 369 و 400)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 34 - 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 35)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 493)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2208]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَاتَ الْيَوْمَ عَبْدٌ للهِ صَالِحٌ، أَصْحَمَةُ"، فَقَامَ، فَأَمَّنَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقية فاضل، يدلّس ويرسل [6](ت 150) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ الفقيه، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
و"جابر بن عبد الله " رضي الله عنهما ذُكر قبله.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2209]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُ، حَدَّثَنَا حَمَّادة عَنْ أَيُوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثنَا أَيُوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخاً لَكُمْ، قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا، فَصَلُّوا عَلَيْهِ"، قَالَ: فَقُمْنَا، فَصَفنَا صَفيْنِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم قبل باب.
3 -
(أَيُوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أَبُو الزبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4](ت 226)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم قبل باب.
6 -
(ابْنُ عُلَيةَ) إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم أيضًا قبل باب.
وقوله: (فَقُومُوا، فَصَلُّوا عَلَيْهِ) فيه وجوب الصلاة على الميت، وهي فرض كفاية بالإجماع، كما سبق بيانه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2210]
(953) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِي بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (ح) وَحَدثنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ، فَقُومُوا، فَصَلُّوا عَلَيْهِ"، يَعْني النَّجَاشِيَّ، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ:"إِن أَخَاكُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(عَليُّ بْنُ حُجْرٍ) تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، فيه نصبٌ يسير [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
4 -
(أَبُو الْمُهَلَّبِ) الْجَرْميّ البصريّ، عمّ أبي قلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية، ثقةٌ [2](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1296.
5 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجيد الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وصحب، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، مات رضي الله عنه سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.
والباقون ذُكروا قبله، و"إسماعيل" هو: ابن عُليّة المذكور في السند الثاني.
وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق، وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2210](953)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1039)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1946 و 1970 و 1773 و 1975) و"الكبرى"(2073 و 2097 و 2100 و 2102)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1535)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 362)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 433 و 439 و 441 و 446)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(448 و 460 و 462 و 482)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 35)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3102)، و (البيهقىّ) في "الكبرى"(4/ 50)، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.
(22) - (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2211]
(954) - (حَدَّثنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْر بَعْدَمَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: فَقُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟
(1)
قَالَ: الثِّقَةُ عَبْدُ الله بْنُ عَبَّاسٍ، هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ حَسَنٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ: قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَبْرٍ رَطْبٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَصَفُّوا خَلْفَهُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، قُلْتُ لِعَامِرٍ: مَنْ حَدَّثَكَ؟
(2)
قَالَ: الثِّقَةُ مَنْ شَهِدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) البجليّ، أبو عليّ الكوفيّ الْبُورانيّ، ثقةٌ [10](ت 20 أو 221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقية عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
4 -
(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.
5 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
(1)
وفي نسخة: "بهذا الحديث".
(2)
وفي نسخة: "من حدّثك هذا".
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الشَّعْبِي) عامر بن شَرَاحيل رحمه الله (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَمَا دُفنَ) بالبناء للمفعول، قال في "الفتح": ووقع في "الأوسط " للطبرانيّ من طريق محمد بن الصباح الدُّولابيّ، عن إسماعيل بن زكريا، عن الشيبانيّ، أنه صلى عليه بعد دفنه بليلتين، وقال: إن إسماعيل تفرّد بذلك، ورواه الدارقطنيّ من طريق هُريم بن سفيان، عن الشيبانيّ، فقال: بعد موته بثلاث، ومن طريق بشر بن آدم، عن أبي عاصم، عن سفيان الثوريّ، عن الشيبانيّ، فقال: بعد شهر، وهذه روايات شاذّة، وسياق الطرُق الصحيحة يدلّ على أنه صلى عليه في صبيحة دفنه. انتهى
(1)
.
أفَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا)؛ أي: أربع تكبيرات، وفي رواية ابن نُمير:"فصلّى عليه، وصفّوا خلفه، وكبّر أربعًا".
(قَالَ الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان (فَقُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل (مَنْ) استفهاميّة حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ وفي نسخة: "بهذا الحديث"(قَالَ) الشعبيّ (الثِّقَةُ) فاعل لفعل محذوف دلّ عليه السؤال، كما قال في "الخلاصة":
وَيرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْل أُضْمِرَا
…
كَمِثْلِ "زيذٌ" فِي جَوَابِ "مَنْ قَرَا؟ "
أي حدّثني الرجل الثقةُ، وقوله:(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) بدل من "الثقةُ"، أو عطف بيان له؟ أي: حدثني به ابن عباس رضي الله عنهما حيث إنه ممن صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك القبر.
(هَذَا)؛ أي: السياق الَفْظُ حَدِيثِ حَسَنِ) بن الربيع (وَفِي رِوَايَةِ) محمد بن عبد الله (بْنِ نُمَيْرٍ: قَالَ) الشعبيّ (انْتَهَى)؛ أي: وصل (رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى قَبْرٍ
(1)
"الفتح" 3/ 565 - 566.
رَطْبٍ)؛ أي: جديد، وترابه رطبٌ بعدُ، لم تَطُل مدّته، فييبس.
وفي رواية للبخاريّ من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الشيبانيّ: مَرّ بقبر قد دُفِن ليلًا، فقال:"متى دُفن هذا؟ " قالوا: البارحةَ، قال:"أفلا آذنتموني"، قالوا: دفناه في ظلمة الليل، فكرهنا أن نوقظك، فقام، فصَفَفْنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه.
(فَصَلَّى عَلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لمذهب الشافعيّ وموافقيه في الصلاة على القبور (وَصَفُّوا خَلْفَهُ)؛ أي: صفّ الصحابة رضي الله عنهم خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَكَبَّرَ أَرْبَعًا) قال ابن حبّان رحمه الله: في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه. انتهى.
وتعفب بان الذي يقع بالتبعيّة لا ينهض دليلًا للأصالة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التعقّب غير صحيح؛ إذ لو كان خاصًّا به صلى الله عليه وسلم، أو تبعًا له لبيّن أن هذه الصلاة لا تجوز إلا تبعًا لي، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي معاوية، عن أبي إسحاق الشيبانيّ، عن الشعبيّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مات إنسان، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعوده، فمات بالليل، فدفنوه ليلًا، فلما أصبح أخبروه، فقال: لزما منعكم أن تعلموني؟ "، قالوا: كان الليلُ، فكرهنا -وكانت ظلمة- أن نَشُقّ عليك، فأتى قبره، فصلى عليه.
قال في "الفتح": وقع في شرح سراج الدين عمر ابن الملقّن، أنه الميت المذكور في حديث أبي هريرة الذي كان يقمّ المسجد، وهو وَهَمٌ منه، لتغاير القضتين، فقد تقدّم أن الصحيح في الأول أنها امرأة، وأنها أم مِحْجَن، وأما هذا فهو رجل، واسمه طلحة بن البراء بن عُمير، الْبَلَويّ، حليف الأنصار، روى حديثه أبو داود مختصرًا، والطبرانيّ من طريق عروة بن سعيد الأنصاريّ، عن أبيه، عن حسين بن وَحْوَح الأنصاريّ، وهو بمهملتين بوزن جعفر: أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال:"إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به، وعجّلوا"، فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي، وكان قال لأهله، لما دخل الليل: إذا متّ، فادفنوني، ولا
تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخاف عليه يهودَ أن يصاب بسببي، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح، فجاء، حتى وقف على قبره، فصفّ الناس معه، ثم رفع يديه، فقال:"اللهم القَ طلحة يضحك إليك، وتضحك إليه". انتهى
(1)
.
قال الشيبانيّ (قُلْتُ لِعَامِرٍ) هو الشعبيّ (مَنْ حَدَّثَكَ؟) وفي نسخة: "من حدّثك هذا؟ "(قَالَ) عامر (الثِّقَةُ)؟ أي: حدَّثني الثقة، وقوله:(مَنْ شَهِدَهُ) بدل، أو عطف بيان و"الثقة"، وقوله:(ابْنُ عَبَّاسٍ) بدل، أو عطف بيان لما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا مُتّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 2211 و 2212 و 2213](954)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(857 و 1247 و 1319 و 1321 و 1322 و 1326 و 1336 و 1340)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3196)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1037)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 85)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1530)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 224 و 283 و 338)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(36 - 37)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3089)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 46)، والله تعالى أعلم.
وبقيّة المسائل تأتي في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد ثلاثة أحاديث- إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2212]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو كامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَّادٍ (ح) وَحَدَّثَنَا
(1)
"الفتح" 3/ 454.
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا مُحَمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثنَا شُعْبَةُ، كُل هَؤُلَاءِ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ
(1)
مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية عشر:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(هُشَيْمُ) بن بشير بن القاسم السَّلَمي، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس، والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن الحسين الْجحدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
4 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
5 -
(إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
6 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبّي، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم في الباب الماضي.
8 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار 191) ت 6 أو 197) (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
9 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجةٌ، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
10 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 7/ 3.
11 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى
(1)
وفي نسخة: "واحد".
البصريّ القاضي، ثقةٌ متقن، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 7/ 3.
[تنبيه]: معاذ بن معاذ هذا يروي هذا الحديث عن شعبة، لا عن الشيبانيّ، فكان الأولى للمصنف أن يذكر بعد ذكر محمد بن جعفر لفظة "قالا" بالتثنية، لا بالأفراد، حتى يعود الضمير إلى معاذ، ومحمد بن جعفر، وإنما نبّهت عليه؛ لأن قوله بعد التحويلات الخمسة: "كل هؤلاء
…
إلخ " يوهم أن معاذ بن معاذ أيضًا ممن روى عن الشيبانىّ، فتنبّه، فإنه من المزالّ، والله تعالى أعلم.
12 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَثَّى) تقدّم قبل باب.
13 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
14 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أسلفت آنفًا أنه كان الأولى أن يقول: "قالا: حدّثنا شعبة" بضمير التثنية الراجع إلى معاذ بن معاذ، ومحمد بن جعفر؟ لأن معاذاً يرويه عن شعبة، لا عن الشيبانيّ، فتنبّه.
وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ
…
إلخ) وفي نسخة: "واحد"، وغرضه بهذا أن ذكر التكبير أربعًا لم يذكره هؤلاء الخمسة، وإنما هو في رواية عبد الله بن إدرشى، عن الشيبانيّ.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام المصنّف رحمه الله هذا أن عبد الله بن إدرشى تفرّد عن الشيبانيّ بذكر التكبير أربعًا، ولم يتابعه أحد من هؤلاء، وهذا فيه نظر؛ لأن شعبة تابعه عند البخاريّ، قال في "صحيحه":
(1319)
- حدّثنا مسلم، حدّثنا شعبة، حدّثنا الشيبانيّ، عن الشعبيّ، قال: أخبرني من شهد النبيّ صلى الله عليه وسلم أَتَى على قبر منبوذ، فصفّهم، وكَبَّر أربعًا، قلت: من حدثك؟ قال: ابن عباس رضي الله عنهما.
فتبيّن بهذا أن شعبة تابعه من رواية مسلم بن إبراهيم الفراهيديّ، عنه، وإنما لم يذكر شعبة في رواية غندر عنه، كما سيأتي في التنبيه.
وقد تابعه غيره أيضًا، فقد أخرج الدارقطنيّ: رحمه الله في "سننه" بعد إخراجه
رواية عبد الله بن إدريس، بسنده عن أبي عوانة، عن الشيبانيّ، عن الشعبيّ، عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى على قبر منبوذ، فكبر عليه أربعًا.
ثم قال: وكذلك رواه مسلم بن إبراهيم، عن شعبة
(1)
، وأبو حذيفة، عن زائدة، وعبد الله بن جعفر، عن أبي معاوية، عن الشيبانيّ، وتابعهم منصور بن أبي الأسود، وعبد الواحد بن زياد، عن الشيبانيّ، كلهم قال:"كبر أربعًا". انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(2)
.
فتبيّن بهذا أن عبد الله بن إدريس لم ينفرد بذكر التكبير من بين هؤلاء الخمسة، فقد تابعه منهم شعبة، وعبد الواحد بن زياد كما قال الدارقطنيّ، وتابعة أيضًا من غيرهم أبو عوانة، وأبو معاوية، ومنصور بن أبي الأسود، كما قاله الدارقطنيّ أيضًا، فتفطّن، والله تعالى أعلم.
وقوله: (كُل هَؤُلَاءِ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ) يعني أن هؤلاء الخمسة، وهم: هشيم، وعبد الواحد بن زياد، وجرير بن عبد الحميد، وسفيان الثوريّ، وشعبة رووا هذا الحديث عن سليمان الشيبانيّ، عن الشعبيّ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل حديث عبد الله بن إدريس، عنه الماضي.
[تنبيه]: رواية هشيم، عن الشيبانيّ، ساقها الترمذي رحمه الله، فقال:
(1037)
- حدّثنا أحمد بن منيع، حدّثنا هشيم، أخبرنا الشّيبانيّ، حدّثنا الشعبيّ، أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى قبرًا مُنْتَبِذًا، فصَفَّ أصحابَهُ خلفه، فصلى عليه، فقيل له: من أخبركه؟ فقال: ابن عباس، قال: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. انتهى.
وأما رواية عبد الواحد، عن الشيبانيّ، فساقها البخاريّ رحمه الله، فقال:(1321) - حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا عبد الواحد، حدّثنا الشيبانيّ، عن عامر، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبر قد دُفِن ليلًا، فقال:"متى دُفِن هذا؟ "، قالوا: البارحةَ، قال:"أفلا آذنتموني؟ " قالوا:
(1)
رواية مسلم بن إبراهيم، عن شعبة التي ذكرتها آنفًا عند البخاريّ رحمه الله.
(2)
"سنن الدارقطني" 2/ 77.
دفناه في ظلمة الليل، فكرهنا أن نوقظك، فقام، فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه.
وأما رواية جرير، عن الشيبانيّ، فساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا، فقال:
(1340)
- حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جرير، عن الشيبانيّ، عن الشعبيّ، عن ابن عباس قال: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على رجل بعدما دُفِن بليلة، قام هو وأصحابه، وكان سال عنه، فقال:"مَن هذا؟ "، فقالوا: فلانٌ، دُفِن البارحة، فصَلَّوا عليه.
وأما رواية شعبة، عن الشيبانيّ، فساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا بسند المصنف رحمه الله، فقال:
(857)
- حدّثنا محمد بن المثنى، قال: حدّثني غندر، قال: حدّثنا شعبة، قال: سمعت سليمان الشيبانيّ قال: سمعت الشعبيّ قال: أخبرني مَن مَرّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ، فأمَّهم، وصَفُّوا عليه، فقلت: يا أبا عمرو مَن حدثك؟ فقال: ابن عباس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المئصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2213]
(
…
) - (وَحَدثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، جَمِيعًا عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍ والرَّازِيُّ، حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ الضَّرَيْسِ، حَدَّثنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الشَّعْبِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاِتهِ عَلَى الْقَبْرِ، نَحْوَ حَدِيثِ الشَّيْبَانِيِّ لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ: وَكَبَّرَ أَرْبَعًا).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله) الحمّال، أبو موسى البغداديّ البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرحِ المقدّمة" جـ 1 ص 299.
4 -
(أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الرَّازِيُّ) زُنَيج، ثقةٌ [10](ت 240) أو بعدها (م دق) تقدم في "المقدمة" 6/ 58.
5 -
(يَحْيَى بْنُ الضُّرَيْسِ) - بمعجمة، ثم مهملة، مصغّرًا- البجليّ مولاهم الرازيّ القاضي، ثقةٌ [9].
رَأَى ابن أبي ليلى، ورَوَى عن إبراهيم بن طَهْمان، وابن إسحاق، وعكرمة بن عمار، وزائدة، وزكرياء بن إسحاق، وزهير بن معاوية، والثوريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه جرير بن عبد الحميد، وهو أكبر منه، ويحيى بن معين، ومحمد بن عَمْرو زُنَيج، وأخوه صالح بن الضُّريس، وإبراهيم بن موسى الرازي، وإسحاق ابن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن حُميد الرازيّ، وغيرهم.
قال عبد الله بن عمران الأصبهانيّ، عن وكيع: يحيى بن الضريس من حُفّاظ الناس، لولا أنه خلط في حديثين، وذكر حديث المنصور، وقال ابن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين: كان كَيِّسًا ثقةٌ، وقال أبو حاتم: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: كان جرير مُعْجَبًا بيحيى بن الضريس، وأثنى عليه عثمان، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما خلط، وقال محمد بن سعيد المقبريّ: سئل عبد الرحمن بن بشير بن سليمان الرازيّ، عن يحيى بن الضريس، فقال: كان صحيح الكتاب، جَيِّد الأخذ، وكان بهز بن أسد يُثني عليه، وعرفه.
وقال البخاريّ، عن يوسف بن موسى بن راشد الرازيّ: مات سنة ثلاث ومائتين في ربيع الأول.
تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وله في الترمذيّ حديث واحد، وهو حديث:"لا يرُدّ القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ".
6 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ) أبو سعيد الخراسانيّ، سكن نيسابور، ثم مكة،
ثقةٌ يُغْرب، وتُكُلّم فيه بالإرجاء، ويقال: رجع عنه [7](ت 168)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1391.
7 -
(أَبُو حَصِينٍ) - بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين- الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، وربّما دلس [4](ت 127) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الشَّعْبِيِّ) ضمير التثنية لإسماعيل بن أبي خالد، وأبي حَصِين.
وقوله: (لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ) كان الأولى أن يقول: "في حديثهما"؛ لأن الضمير لإسماعيل، وأبي حصين، كما أسلفته آنفًا، إلا على القول بأن أقل الجمع اثنان، وهو مذهب صحيح، كما بيّنته في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فتأمل.
وقوله: (لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ: وَكَبَّرَ أَرْبَعًا) هكذا قال المصنّف رحمه الله، لكن الذي في "مستخرج أبي نعيم" أنه ثابت في رواية أبي حَصِين، ودونك نصّه:
(2140)
- حدّثنا حبيب بن الحسن، ثنا أحمد بن الحسين الصوفيّ، ثنا محمد بن حميد، ثنا يحيى بن ضريس (ح) وثنا أحمد بن بُندار، ثنا ابن أبي داود، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا ابن حميد، قالا
(1)
: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي حصين
(2)
عن الشعبيّ، عن ابن عباس، قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبرًا حديث عهد بدفن، فسأل عنه، فقيل: قبر فلان، فنزل، فصلى عليه، وأنا فيمن صلى على ذلك القبر، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبّر عليه أربعًا. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2214]
(955) - (وَحَدَّثَني إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ، حَدَّثنَا
(1)
هكذا النسخة بالتثنية، والظاهر أنه بالإفراد؛ لأن ابن حميد هو محمد المذكور في السند الماضي، على ما يظهر، والله تعالى أعلم.
(2)
وقع في النسخة: "ابن حصين"، وهو غلط بلا شكّ.
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، أَن النبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ السَّامِيُّ) البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ، تُكُلّم فيه في بعض سماعه [10](ت 231)(م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.
2 -
(حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ) الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت هـ 14)(ع) تقدم في "الصلاة" 11/ 887.
3 -
(ثَابتٌ) البنانيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أنسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
وقوله: (صَلَّي عَلَى قَبْرٍ) ولفظ أبي نعيم في "المستخرج"(3/ 37): "صلّى على قبر امرأة بعدما دُفنت"، وأخرج الحديث البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"(4/ 46) مطوّلًا من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بقبر يُدْفَن، فقال:"قبر من هذا؟ " قالوا: قبر فلان، قال:"أفلا كنتم آذنتموني؟ " قال: فصغروا أمره، وحقروه، فصلى عليه بعدما دُفِن، وقال:"هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله عز وجل لينوّرها بصلاتي عليها"، وقد رواه ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، وهو محفوظ من الوجهين جميعًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام البيهقيّ رحمه الله يفيد أن حديث أنس رضي الله عنه هذا هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعده، وإنما اختصره حبيب بن الشهيد، وسيأتي تمام البحث فيه هناك- إن شاء الله تعالى- وفيه مسألتان:(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف: رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 2214](955)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1531)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 130)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3084)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 37)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 77)،
و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 46)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2215]
(956) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَهُوَ ابْنُ زيدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ امْرَأً سَوْدَاءَ، كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَل عَنْهَا، أَوْ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: (أفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ " قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، فَقَالَ: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ"، فَدَلّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: "إِن هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو رَافِعٍ) نُفيع الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 462.
3 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له ابن ماجه، وأخرج له البخاريّ تعليقًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) هو الصائغ التابعي الكبير، ووَهِمَ بعض الشراح، فقال: إنه أبو رافع الصحابيّ، وقال: هو من رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وليس كما قال؛ فإن ثابتًا البنانيّ لم يدرك أبا رافع الصحابي رضي الله عنه، قاله في "الفتح"
(1)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أنَّ امْرَأةً سَوْدَاءَ) وفي رواية البخاريّ: "أن رجلًا أسود، أو امرأة سوداء"، قال في "الفتح": الشك فيه من ثابت؛ لأنه رواه عنه جماعة هكذا، أو من أبي رافع، وجاء من وجه آخر عن حماد بهذا الإسناد، قال:"ولا أراه إلا امرأة"، ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، فقال:"امرأة سوداء"، ولم يشكّ، ورواه البيهقيّ بإسناد حسن من حديث ابن بُرَيدة، عن أبيه، فسماها أمّ مِحْجَن، وأفاد أن الذي أجاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر ابن منده في "الصحابة" خرقاء امرأة سوداء، كانت تَقُمّ المسجد، ووقع ذكرها في حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، وذكرها ابن حبان في "الصحابة" بذلك بدون ذكر السند، فإن كان محفوظًا، فهذا اسمها، وكنيتها أم مِحْجَن. انتهى
(2)
.
(كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ) بقاف مضمومة؛ أي: يجمع الْقُمامة، وهو من قَمّ الشيءَ يَقُمّه قَمًّا من باب نصر: إذا كَنَسَهُ، والقُمامة بضم القاف: الْكُناسة، قاله ابن سِيدَهْ، وقال اللحيانيّ: قُمامة البيت ما كُنِس منه، فألقي بعضه على بعض، وهي لغة حجازيّةٌ، والْمِقَمّة بكسر الميم: الْمِكْنَسة
(3)
.
وقوله: (أَوْ شَابًّا)"أو" للشكّ من الراوي، وتقدّم آنفًا أنه من ثابت، أو من أبي رافع (فَفَقَدَهَا) يقال: فقدته فَقْدًا، من باب ضرب، وفِقْدانًا: إذا عَدِمته، فهو مفقود، وفَقِيدٌ، وافتقدته مثله، وتفقّدته: طَلَبْتُهُ عند غيبته
(4)
. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَل عَنْهَا)؛ أي: عن حال تلك المرأة السوداء، ومفعول "سأل " محذوف؛
(1)
"الفتح" 2/ 206.
(2)
"الفتح" 2/ 206.
(3)
راجع: "عمدة القاري" 4/ 230.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 478.
أي: الناسَ (أَوْ عَنْهُ)؛ أي: عن حال الشابّ، فـ"أو" للشكّ من الراوي، كما مرّ آنفًا (فَقَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون لديه صلى الله عليه وسلم (مَاتَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُورنِي؟ ") بالمدّ: أي: أعلمتموني بموته حتى أصلي عليه.
(قَالَ) الراوي (فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا)؛ أي: المرأة (أَوْ أَمْرَهُ)؛ أي: الشابّ، وفي رواية للبخاريّ:"فحَقَروا شأنه"، وفي رواية ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن:"قالوا: مات من الليل، فكرهنا أن نوقظك"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ") زاد عند البخاريّ: "أو قال: قبرها"(فَدَلُّوهُ)؛ أي: على قبره، أو قبرها (فَصَلَّى عَلَيْهَا) وللبخاريّ:"فأتى قبرها، فصلّى عليها"(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِن هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَة عَلَى أَهْلِهَا، وَإِن اللهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا)؛ أي: يُضيؤها (لَهُمْ بِصَلَاِتِي عَلَيْهِمْ")؛ أي: بسبب صلاتي عليهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 2215](956)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(458 و 460) و"الجنائز"(1337)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3203)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1527)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده "(2446)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 353 و 388 و 406)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1299)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3086)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 37 - 38)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 47)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في الكلام على قوله: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة
…
إلخ".
(اعلم): أن هذه الكلام هكذا ثبتٌ في رواية المصنّف متّصلًا بالحديث، وليس عند البخاريّ، قال في "الفتح": وإنما لم يُخرج البخاريّ هذه الزيادة؛ لأنها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بَين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، وقد أوضحت ذلك بدلائله في "كتاب بيان المدرج".
قال البيهقيّ: يغلب على الظن أن هذه الزيادة من مراسيل ثابت، كما قال أحمد بن عبدة، أو من رواية ثابت، عن أنس؛ يعني كما رواه ابن منده، ووقع في "مسند أبي داود الطيالسيّ" عن حماد بن زيد، وأبي عامر الخزّاز، كلاهما عن ثابت، بهذه الزيادة، وزاد بعدها:"فقال رجل من الأنصار: إن أبي، أو أخي مات، أو دُفِن، فَصَلِّ عليه، قال: فانطلق معه رسول الله صلى الله عليه وسلم"-. انتهى.
وقد أوضح الحافظ أبو بكر الخطيب البغداديّ رحمه الله هذا الإدراج في كتابه "الفصل للوصل المدرج"، فقال ما حاصله: في حديث أبي هريرة هذا كلام مدرج، وليس منه، وهو قوله:"إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمةً، وإن الله ينوّرها بصلاتي عليها، أو عليهم".
كان ثابت يرسل هذا الكلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُسنده، بَيَّن ذلك عارم بن الفضل، وعفّان بن مسلم، ومحمد بن عُبيد بن حِسَاب، جميعًا عن حماد بن زيد.
وقد روى هذا الحديث سليمان بن حرب، ومسدد، من طريق أبي داود السجستانيّ عنه، ويونس بن محمد المؤدّب، عن حماد بن زيد، فاقتصروا على ذكر المسند منه فقط، دون ما أرسله ثابت.
قال: أما حديث سليمان بن حرب ومسدد بذلك، فأخبرناه القاضي أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ، نا محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤيّ، نا أبو داود، نا سليمان بن حرب ومسدد، قالا: نا حماد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن امرأة سوداء، أو رجلًا كان يَقُمّ المسجد، ففقده النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: مات، فقال:"ألا آذنتموني به؟ " قال: "دُلُّوني على قبره"، فدلّوه، فصلى عليه.
قال: وأما حديث يونس بن محمد عن حماد الموافق لهذه الرواية، فأخبرناه الحسن بن علي التميميّ، أنا أحمد بن جعفر بن حمدان، نا عبد الله بن أحمد، حدّثني أبي، نا يونس بن محمد، نا حماد؛ يعني ابن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن امرأة سوداء، أو رجلًا كان يَقُمّ المسجد، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: مات، فقال:"ألا كنتم آذنتموني به؟ "، قالوا: إنه كان، قال: فقال: "دُلُّوني على قبره"، ودَلُّوه، فأتَى قبره فصلى عليه.
قال: وأما حديث عارم بن الفضل الذي أورد فيه الكلمات التي كان ثابت يرسلها، وبَيَّنها، ومَيَّزها عن الألفاظ المسندة، فأخبرناه محمد بن الحسين بن محمد بن محمد بن الفضل القطان، والحسن بن أبي بكر بن شاذان، قالا: أنا حامد بن محمد الهروفي، نا -وفي حديث ابن شاذان: أنا- على بن عبد العزيز البغويّ، نا أبو النعمان عارم بن الفضل، نا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن امرأة سوداء، أو رجلًا كان يكون في المسجد، يَقُمُّ المسجد، فمات، فلم يعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بموته، فذكر ذات يوم، فقال:"ما فعل ذاك الإنسان؟ " قالوا: مات يا رسول الله، قال:"أفلا آذنتموني؟ " قال: فقالوا له: كان كذا وكذا، قال: فحقروا شأنه، قال:"فدُلُّوني على قبره" فأتى قبره، فصلى عليه.
قال حماد: فأتبع ثابت هذا الحديث، قال: فنُبِّئتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قبرًا، وصاحبه يُدْفَن، فسأل عنه، فقالوا: فلانٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله ينوّرها بصلاتي عليها".
قال: وأما حديث عفان، عن حماد الموافق لرواية عارم هذه، فأخبرناه الحسن بن عليّ التميميّ، أنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعيّ، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا عفان، نا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن إنساناً كان يَقُمّ المسجد أسود، فمات، أو ماتت، ففقدها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما فعل الإنسان الذي كان يَقُمّ المسجد؟ " قال: فقيل: مات، فقال:"هلا آذنتموني به؟ "، فقالوا: إنه كان، قال:"فدُلُّوني على قبرها"، قال: فأتى القبر، فصلى عليها، قال ثابت عند ذاك، أو في حديث آخر:"إن هذه القبور مملوءة ظلمةً على أهلها، وإن الله ينوّرها بصلاتي عليهم".
قال: وأما حديث محمد بن عُبيد بن حِسَاب، عن حماد نحو هذه الرواية، فأخبرناه أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب الفقيه، نا أبو بكر الإسماعيليّ، أخبرني الحسن بن سفيان، نا محمد بن عُبيد بن حِسَاب، نا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن امرأة سوداء، أو رجلًا كان يقُمّ المسجد، توفيت، ففقدها النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل عنها بعدُ، فقال:
"ما فعل ذلك الإنسان؟ " قالوا: مات، أو ماتت، قال:"فهلا كنتم آذنتموني؟ " قالوا: إنه كان من أمرها، فأتى قبرها، فصلى عليها، وذكر كلام ثابت. انتهى كلام الخطيب رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة البحث أن هذا الحديث رواه جماعة عن حماد بن زيد، عن ثابت البنانيّ، فاختلفوا على حمّاد، فرواه أبو الرَّبيع الزهرانيّ، وأبو كامل الجحدريّ، عند المصنّف، وأبو داود الطيالسيّ، ومسدّد، كما قال الخطيب عن حماد بن زيد، عن ثابت البنانيّ، وفيه هذه الزيادة، قال الخطيب: وتابعهما يحيى بن الحمانيّ على رواية آخر المتن عن حماد، وقَرَن أبو داود رواية حماد برواية أبي عامر الخزّاز، عن ثابت. انتهى.
وخالفهم في ذلك جماعة، منهم: عارم بن الفضل، وعفّان بن مسلم، ومحمد بن عُبيد بن حِسَاب جميعًا عن حماد بن زيد، فجعلوا قوله: "إن هذه القبور مملوءة
…
إلخ " من مرسل ثابت، وليس متّصلًا بالحديث.
فتبيّن بهذا أن الأرجح كونها مدرجةً؛ لأمور:
(الأول): ما ذكرناه اَنفاً من بيان هؤلاء الحفّاظ كونها مدرجة، حيث فصّلوها.
(الثاني): أن جماعة رووا هذا الحديث عن حمّاد بن زيد، ولم يذكروا هذه الزيادة، وهم: سليمان بن حرب، عنه، وروايته هي التي أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، ومسدد، وروايته عند أبي داود السجستانيّ، عنه، ويونس بن محمد المؤدِّب، ثلاثتهم عن حماد بن زيد، فاقتصروا على ذكر المسند منه فقط، وهو إلى قوله:"دلّوني على قبره"، دون ما أرسله ثابت، وهو قوله: "إن هذه القبور مملوءة
…
إلخ".
فاتّفاق هؤلاء على إسقاط هذه الزيادة يرجّح كونها مدرجةً.
(الثالث): صنيع الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيث أخرج الحديث من طريق من أسقط الزيادة، فلو كانت غير مدرجة لأخرجها من طريق من وصلها.
(1)
"الفصل للوصل المدرج" 2/ 636 - 639.
(الرابع): أن الأئمة الحفّاظ مالوا إلى ذلك، منهم: الحافظ الخطيب البغداديّ، والحافظ أبو بكر البيهقيّ، والحافظ ابن حجر -رحمهم الله تعالى-.
والحاصل أن إدراجها هو الأشبه، ولكن المصنّف رحمه الله لم ير هذه العلّة قادحةً، فرجّح رواية الوصل؛ لكون رواتها ثقات، ولكن الذي يميل إليه القلب ما قاله الأولون، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الصلاة على القبر، وسيأتي تمام البحث في المسألة التالية- إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): بيان فضل تنظيف المسجد، وقال ابن بطال: وفيه الحضّ على كنس المساجد وتنظيفها؟ لأنه إنما خصه بالصلاة عليه بعد دفنه من أجل ذلك. انتهى.
3 -
(ومنها): أن فيه السؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، وافتقاده.
4 -
(ومنها): أن فيه المكافأةَ بالدعاء، والترحم على من وقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم.
5 -
(ومنها): أن فيه الترغيب في شهود جنائز الصالحين.
6 -
(ومنها): مشروعيّة الصلاة على الميت الحاضر عند قبره لمن لم يصلّ عليه.
7 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال الأخلاق، وكمال الرأفة بأمته، حيث كان يعتني بالضعفاء والمساكين أشدَّ عناية، فيسأل عن أحوالهم، ويعود مرضاهم، ويصلي على موتاهم، ويُشَيِّع جنائزهم، فكان صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا من مكام الأخلاق، كما وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك، حيث قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
8 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنه من حسن الأدب معه صلى الله عليه وسلم، فلا يجترؤون على أن يوقظوه إذا نام، حتى يكون هو المستيقظَ.
9 -
(ومنها): مشروعية الإعلام بموت الإنسان حتى يجتمع المسلمون، فيصلّوا عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أفلا كنتم آذنتموني".
10 -
(ومنها): أن فيه الردّ لقول من كَرِهَ الإذن بالجنازة، فاستحبّ أن لا يُؤذَن به أحد، ولا يُشعَر بجنازته جارٌ، ولا غيره.
11 -
(ومنها): مشروعية تكرار الصلاة على الميت، ولو صُلّيَ عليه، فإن هذه المرأة، كانوا قد صَلَّوا عليها قبل الدفن، ثم صلّوا عليها مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الدفن.
12 -
(ومنها): مشروعية الصف في الصلاة على الجنازة.
13 -
(ومنها): بيان أن صلاته صلى الله عليه وسلم على أمته رحمة لهم، ونور يزيل ظلمة القبر عنهم.
14 -
(ومنها): ما قاله ابن حبّان رحمه الله: إن بعض المخالفين احتَجَّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن الله عز وجل ينوّرها لهم بصلاتي عليهم" على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ثم ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيها:"ثم أتى القبر، فصففنا خلفه، وكبر عليه أربعًا"، قال ابن حبان: في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه.
وتُعقِّب بان الذي يقع بالتبعية، لا ينهض دليلًا للأصالة، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامح عفا الله عنه: لا يخفى بُعد هذا التعقّب، والحقّ ما قاله ابن حبّان رحمه الله، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
15 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على ردّ التفصيل بين من صُلِّى عليه فلا يصلى عليه، بأن القصة وردت فيمن صُلِّي عليه.
وأجيب بأن ذلك خصوصية له صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه لا دليل على الخصوصيّة، فتبصّر.
16 -
(ومنها): ما قاله الكرماني رحمه الله: وفيه أن على الراوي التنبيه على شكّه فيما رواه مشكوكًا. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
4/ 113.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على القبر: قال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بعد إخراجه حديث الباب ما نصّه: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: لا يُصَلَّى على القبر، وهو قول مالك بن أنس، وقال عبد الله بن المبارك: إذا دُفِن الميت، ولم يُصَلَّ عليه صُلِّي على القبر، ورأى ابن المبارك الصلاة على القبر، وقال أحمد، وإسحاق: يُصَلَّى على القبر إلى شهر، وقالا: أكثر ما سمعنا عن ابن المسيِّب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله.
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في الصلاة على القبر، فكان عبد الله بن عمر، وأبو موسى الأشعريّ، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم يرون الصلاة على القبر، وروينا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أمر قَرَظَة أن يصلي على جنازة، قد صُلِّي عليها مرّة.
وممن كان يرى الصلاة على القبر محمد بن سيرين، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وقال أحمد: روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه، وكان النعمان يقول: إن دُفن قبل أن يصلّى عليه، صلي عليه، وهو في القبر، وكذلك قال الحسن.
وقالت طائفة: لا تعاد الصلاة على الميت، هذا قول النخعيّ، ومالك، والنعمان.
قال ابن المنذر رحمه الله: ثبتت الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر. انتهى كلامه رحمه الله بتصرّف
(1)
.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: والصلاة جائزة على القبر، وإن كان قد صُلي على المدفون فيه.
وقال أبو حنيفة: إن دُفن بلا صلاة صُلِّي على القبر ما بين دفنه إلى ثلاثة أيام، ولا يُصلّى عليه بعد ذلك، وإن دُفن بعد أن صلي عليه لم يُصَلّ أحد على قبره.
(1)
"الأوسط" 5/ 410 - 411.
وقال مالك: لا يصلى على قبر، وروي ذلك عن إبراهيم النخعيّ.
وقال الشافعيّ، والأوزاعيّ، وأبو سليمان -يعني داود الظاهري-: يصلى على القبر، وإن كان قد صُلِّي على المدفون فيه، وقد روي هذا عن ابن سيرين.
وقال أحمد بن حنبل: يصلى عليه إلى شهر، ولا يُصلَّى عليه بعد ذلك.
وقال إسحاق: يصلي الغائب على القبر إلى شهر، ويصلي عليه الحاضر إلى ثلاث.
ثم أخرج بسنده حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(1)
.
قال: فادَّعَى قوم أن هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم دليل على أنه خصوص له، قال: وليس كما قالوا، وإنما في هذا الكلام بركة صلاته صلى الله عليه وسلم، وفضيلتها على صلاة غيره فقط، وليس فيه نهي غيره عن الصلاة على القبر أصلًا، بل قد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية [الأحزاب: 21].
ثم أورد مما يدلّ على بطلان دعوى الخصوص حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدّم، ثم قال: فهذا أبطل الخصوص؛ لأن أصحابه صلى الله عليه وسلم، وعليهم رضوان الله صلّوا معه على القبر، فبطلت دعوى الخصوص، ثم أخرج عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه المذكور قبل هذا:"أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى على قبر".
قال: فهذه آثار متواترة لا يسع الخروج عنها.
وأورد أيضًا أن عائشة قَدِمت مكة بعد أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت: أين قبر أخي؟ فدُلَّت عليه، فوُضِعَت في هودجها عند قبره، فصلت على قبره.
وعن نافع عن ابن عمر، أنه قَدِم، وقد مات أخوه عاصم، فقال: أين قبر أخي؟ فدُلّ عليه، فصلى عليه، ودعا له.
وعن عليّ رضي الله عنه أنه أمر قَرَظَة بن كعب الأنصاريّ أن يصلي على قبر سهل بن حُنَيف بقوم جاؤوا بعدما دفن، وصلى عليه.
وعن عليّ رضي الله عنه أيضًا أنه صلى على جنازة بعدما صلي عليها.
(1)
وأخرجه أيضًا البخاريّ، مختصرًا.
وعن أنس أنه صلى على جنازة بعدما صلي عليها، وعن ابن مسعود نحو ذلك، وعن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أنه صلى على جنازة بعدما صلي عليها، وعن قتادة أنه كان إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى عليها.
قال: فهذه طوائف من الصحابة لا يُعرف لهم منهم مخالف.
قال: وأما تحديد الصلاة بشهر، أو ثلاثة أيام، فخطأ لا يُشْكِل؛ لأنه تحديد بلا دليل، ولا فرق بين من حدّ بهذا، أو من حدّ بغير ذلك. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله باختصار وتصرّف
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذكر من الأدلة الصحيحة، ومن أقوال أهل العلم أن الصواب جواز الصلاة على القبر، وإن دفن الميت بعد الصلاة عليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكناب قال:
[2216]
(957) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ زيدٌ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَألتُهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ بُكَبِّرُهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [5] ت (118)(ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
(1)
"المحلى" 5/ 139 - 142.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) يسار الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ فقيه [2](ت 86)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(زيدُ) بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور، أول مشاهده الخندق، مات سنة (6 أو 68)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1208.
والباقون ذُكروا في الباب.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لما مرّ غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما شيخاه: ابن المثنى، وابن بشّار، فمن التسعة الذين اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، غير أبي بكر، فكوفيّ، ونصفه الثاني مسلسل بالكوفيين، والصحابيّ رضي الله عنه ممن نزل الكوفة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة، وقد أنزل الله تعالى في تصديقه سورة كاملة في القرآن، وهي سورة "المنافقون"، وقصّته مشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) تقدّم أن اسم أبيه يسار أنه (قَالَ: كَانَ زَيْدٌ)؛ أي: ابن أرقم، كما بُيّن ذلك في رواية أبي داود، والنسائيّ (يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا)؛ أي: أربع تكبيرات فقط (وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا)؛ أي: خمس تكبيرات (فَسَألتُهُ)؛ أي: عن تكبيره خمسًا من أين أخذه؟ (فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يُكَبِّرُهَا)؛ أي: كان يكبّر أحيانًا خمس مرّات، كما كان يكبّر في أحيان أخرى أربع تكبيرات.
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث عند العلماء منسوخ، دلّ الإجماع على نسخه، وقد سبق أن ابن عبد البرّ وغيره نقلوا الإجماع على أنه لا يكبر اليوم
إلا أربعًا، وهذا دليل على أنهم أجمعوا بعد زيد بن أرقم، والأصح أن الإجماع بعد الخلاف يصح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن الصواب أنه لا نسخ لهذا الحديث، وأن دعوى الإجماع على نسخه غير صحيحة، فإن الخلاف في ذلك معروف بين الصحابة، ومن بعدهم، وقد استوعب ذلك ابن المنذر في "الأوسط"، وابن حزم في "المحلَّى"، فلتراجعهما.
والحاصل أن التكبير خمسًا ثابتٌ صحيح، لكن الأولى أن يكبّر أربعًا، لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بذلك، فلو بلغ خمسًا لا يُنكر عليه؛ لصحّة حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا، وإن أردت تحقيق المسألة على وجهها فلتراجع المسألة الثامنة من المسائل المذكورة في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصّة نعي النجاشيّ رضي الله عنه، تستفد علمًا جمّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(23) - (بَابُ بَيَانِ الأَمْرِ بِالْقِيَامِ لِلْجِنَازَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2217]
(958) - (وَحَدَّثَنَا
(2)
أَبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌ والنَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا، حَتى تُخَلِّفَكُمْ، أَوْ تُوضَعَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَمِى شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرٌو النَاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.
(1)
"شرح النووي" 7/ 26.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب أيضًا.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قريبًا.
5 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا أيضًا.
6 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل باب.
7 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر العدويّ، أبو عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
8 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، مات سنة (73) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
9 -
(عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن كعب بن مالك الْعَنْزيّ -بسكون النون- حليف آل الخطّاب صحابيّ مشهور، أسلم قديمًا، وهاجر، وشهِد بدرًا، ومات ليالي قتل عثمان رضي الله عنه (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 5/ 1619.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ، قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة الأولين، فأبو بكر، وزهير ما أخرج لهما الترمذيّ، وعمرو ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه، فأبو بكر، وابن نمير كوفيّان، وعمرو، وزهير بغداديّان، وسفيان كوفيّ مكيّ.
4 -
(ومنها): رواية صحابيّ، عن صحابيّ، وتابعيّ، عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) الْعَنْزيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ) تقدّم ضبطه بالفتح والكسر، وفي رواية نافع الآتية: "إذا رأى أحدكم الجنازة، فإن لم يكن ماشيًا معها، فليَقُم حتى تُخَلِّفه، أو توضع من قبل أن تُخلّفه"، وفي رواية له: "فليقُم حين يراها حتى تُخلّفه إذا كان غير متّبعها".
(فَقُومُوا لَهَا) فيه الأمر بالقيام للجنازة؛ إذا رآها الشخص، وإن لم يقصد تشييعها، والمراد عموم كلّ جنازة، من مؤمن وغيره، كما سيأتي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهوديّ مرّت به، وعلّل ذلك بأنها نفس، وفي رواية بأن الموت فَزَعٌ، وقوله:(حَتى تُخَلِّفَكُمْ) بتشديد اللام المكسورة، من التخليف؛ أي: تترككم وراءها، ونسبة ذلك إلى الجنازة على سبيل المجاز؛ لأن المراد حاملها، وقوله:(أَوْ تُوضَعَ)"أو" هنا ليست للشكّ، وإنما هي للتنويع، فإن من رأى الجنازة، إما أن لا يتبعها، فهذا يقوم حتى تتجاوزه، ويكون وراءها، أو توضع عنده، بأن كان في المصلَّى، وإما أن يتبعها، فهذا لا يجلس حتى توضع.
[تنبيه]: قوله: "أَوْ تُوضَعَ" يَحْتَمِل أن يكون المراد حتى توضع على الأرض، أو توضع في اللحد.
وقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه باللفظين، إلا أن البخاريّ أشار إلى ترجيح رواية:"حتى توضع بالأرض"، حيث قال:"بابٌ مَن تَبعَ جنازة، فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال"، وصرّح أبو داود بترجيحها، حيث قال بعد رواية حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآتي من طريق سهيل بن أبي صالح، بلفظ:"إذا تبعتم الجنازة، فلا تجلسوا حتى توضع" ما نصّه: ورَوَى الثوريّ هذا الحديث، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال فيه:"حتى توضع بالأرض"، ورواه أبو معاوية، عن سهيل، قال:"حتى توضع في اللحد"، وسفيان أحفظ من أبي معاوية. انتهى.
وكذا قال الأثرم، قال الحافظ رحمه الله: ورواه جرير، عن سهيل؛ أي عن أبي صالح، عن أبي سعيد، فقال:"حتى توضع" حسبُ، وزاد سهيل: ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال، أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بهذه الزيادة، والبيهقيّ (4/ 26) وهو في مسلم بدونها.
قال الحافظ: ورَجَحَتْ روايةُ "حتى توضع بالأرض" عند البخاريّ بفعل أبي صالح؛ لأنه رواي الخبر، وهو أعرف بالمراد منه، ورواية أبي معاوية مرجوحة، كما قال أبو داود. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 3/ 532.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 2217 و 2218 و 2219](958)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1307 و 1308 و 1315)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3172)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1042)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 44)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1542)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6305 و 6306 و 6307)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 445 و 446 و 447)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 39 - 40)، (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 139)، و (ابن حبّان) في "صحيحه "(7/ 323 و 324) و (الطحاويّ)(1/ 486)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 25)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر بالقيام للجنازة.
2 -
(ومنها): أن هذا الأمر للاستحباب على الراجح، وسيأتي تحقيق الخلاف، هل هو للوجوب، أم للاستحباب، أم هو منسوخ؟ في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): أن ظاهر هذا الأمر يعمّ كل جنازة، سواء كانت لمسلم، أو لكافر، كما تدلّ عليه أحاديث الباب التالي.
4 -
(ومنها): أن القيام للجنازة قد جاء تعليله في الحديث الآتي بقوله: "إن الموت فَزَعٌ"، فدلّ على أن القيام لتذكر الموت، وإعظامه، وجَعْلِهِ من أهمّ ما يَخْطُر بالإنسان، ولذا استوى فيه جنازة المؤمن والكافر، ويأتي أيضًا تعليله بقوله:"أليست نفسًا"، وثبت في رواية أحمد، وابن حبان تعليله بقوله:"إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس"، وفي رواية الحاكم بقوله:"إنما قمنا للملائكة"، ولا تنافي بين هذه الروايات، كما سيأتي بيان ذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
5 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح" من أن حديث أبي سعيد الآتي أبين سياقًا من حديث عامر بن ربيعة هذا، وهو يوضّح أن المراد بالغاية المذكورة
مَن كان معها، أو مشاهدًا لها، وأما من مرّت به، فليس عليه القيام إلا قدر ما تمرّ عليه، أو توضع عنده بأن يكون بالمصلَّى مثلًا. وروى أحمد من طريق سعيد ابن مَرْجَانة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من صلى على جنازة، فلم يمش معها، فليقم حتى تغيب عنه، وإن مشى معها، فلا يجلس حتى توضع".
وفي هذا السياق بيان لغاية القيام، وأنه لا يختصّ بمن مرّت به، ولفظ القيام يتناول من كان قاعدًا، فأما من كان راكبًا، فيَحْتَمِل أن يقال: ينبغي له أن يَقِفَ، ويكون الوقوف في حقّه كالقيام في حقّ القاعد. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أنه يستفاد من قوله في هذا الحديث: "فإن لم يكن ماشيًا معها
…
إلخ"، وكذا في حديث أبي سعيد رضي الله عنه لآتي: "فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع" على أن شهود الجنازة لا يجب على الأعيان، ووجه ذلك أنه يدلّ على أن من لم يتبعها لا يقوم إلى أن توضع، بل حتى تخلّفه، فدلّ على أنه إن شاء اتبعها، ولا يجلس حتى توضع، وإن شاء لم يتبعها، ولكن يقوم حتى تخلّفه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم القيام للجنازة:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختلفوا في القيام للجنائز إذا مرّت، فقالت طائفة: يقوم لها، فعل ذلك أبو مسعود البدريّ، وأبو سعيد الخدريّ، وقيس بن سعد، وسهل بن حُنيف، وسالم بن عبد الله.
ورأت طائفة أن لا يقوم المرء للجنازة تمرّ به، مُرَّ على سعيد بن المسيّب بجنازة، فلم يقم لها، وكان عروة بن الزبير يَعيب من يفعل ذلك، وقال مالك: ليس على الرجل أن يقوم للجنازة إذا رآها، ولا يقعد حتى تجاوزه، مسلمًا كان، أو كافرًا، وقال الشافعيّ: لا يقوم للجنازة من لا يشهدها، والقيام لها منسوخ، وقال أحمد: إن قام لم يقعد، وإن قعد فلا بأس، وكذلك قال إسحاق، وقال أحمد: قوله: "فليقم" إنما ذا على القاعد يقوم، وقال أحمد: من قام للجنازة فذاك، ومن لم يقم ذهب إلى حديث عليّ رضي الله عنه:"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمنا، وقعد، فقعدنا"، قال أبو عبد الله: أما أنا فلا أقوم.
(1)
"الفتح" بتصرّف 3/ 533.
قال ابن المنذر رحمه الله: مذهب أحمد، وإسحاق حسن في الوجهين. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال القاضي عياض: اختلف الناس في هذه المسألة، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعيّ: القيام منسوخ، وقال أحمد، وإسحاق، وابن حبيب، وابن الماجشون: هو مخيّر، قال: واختلفوا في قيام من يشيّعها عند القبر، فقال جماعة من الصحابة والسلف: لا يقعد حتى توضع، قالوا: والنسخ إنما هو في قيام من مرّت به، وبهذا قال الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، قال: واختلفوا في القيام على القبر حتى تدفن، فكرهه قوم، وعمل به آخرون، روي ذلك عن عثمان، وعليّ، وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم، هذا كلام القاضي.
قال النوويّ: والمشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحبًّا، وقالوا: هو منسوخ بحديث عليّ، واختار المتولي من أصحابنا أنه مستحبّ، وهذا هو المختار، فيكون الأمر به للندب، والقعودُ بيانًا للجواز، ولا يصحّ دعوى النسخ في مثل هذا؛ لأن النسخ إنما يكون إذا تعذّر الجمع بين الأحاديث، ولم يتعذر، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ.
وقال في "الفتح": وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أكثر الصحابة، والتابعين باستحبابه، كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، ورَوَى البيهقيّ من طريق أبي حازم الأشجعيّ، عن أبي هريرة، وابن عمر، وغيرهما أن القائم مثل الحامل -يعني في الأجر- وقال الشعبيّ، والنخعيّ: يكره القعود قبل أن توضع، وقال بعض السلف: يجب القيام، واحتجّ له برواية سعيد، عن أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما
(3)
. انتهى
(4)
.
(1)
"الأوسط" 5/ 394 - 395.
(2)
"شرح مسلم" 7/ 32.
(3)
هو ما أخرجه النسائيّ في "سننه" من طريق ابن جريج، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة وأبى سعيد، قالا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شَهِدَ جنازة قط، فجلس حتى توضع.
وفي سنده عنعنة ابن جريج، وهو مدلّس، ومحمد بن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي متنه نكارة، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"(19/ 95).
(4)
"الفتح" 3/ 532.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث عليّ رضي الله عنه الذي استدلّوا به على النسخ هو الآتي للمصنّف رحمه الله في الباب التالي أن عليّا رضي الله عنه لَمّا ذُكر له القيامُ على الجنازة حتى توضع، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قعد.
ورواه أحمد، وابن حبان، وغيرهما بلفظ:"كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس"، ولفظ البيهقيّ:"ثم قعد بعد ذلك، وأمرهم بالقعود".
ثم إن حديث علي باللفظ الأول لا يدلّ على النسخ، وإنما غايته أن يدلّ على أن الأمر ليس للوجوب، وأما حديثه باللفظ الثاني، فلو صحّ لكان دالًّا على النسخ؛ لقوله فيه:"وأمرنا بالجلوس"، لكنه بهذا اللفظ لا يصحّ؛ لمخالفة محمد بن عمرو بن علقمة لمن هوأحفظ منه، وهو يحيى بن سعيد الأنصاريّ، كما أخرجه مسلم وغيره من طريقه، وتابعه شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، باللفظ الأول، وليس عندهما زيادةُ:"وأمرنا بالجلوس"، وإنما هو حكاية فعله عدم، وهو يدلّ على الندب، كما ذكرنا، لا على النسخ.
وأما ما أخرجه أبو داود والترمذيّ، وابن ماجه، والبزّار عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمرّ حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل، فجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"اجلسوا، خالفوهم".
فإنه ضعيف؛ لأن في سنده بشر بن رافع، وقد ضعّفه غير واحد، وقال عنه في "التقريب": فقيه ضعيف الحديث، من السابعة، وفيه أيضًا عبد الله بن سليمان، قال البخاريّ: فيه نظر، لا يتابع على حديثه، وأبوه سليمان، قال البخاريّ، وأبو حاتم: منكر الحديث.
وأما ما أخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 142)، والحازمي في "الناسخ والمنسوخ"(ص 121) من طريق أبي معمر، قال:"كنا مع عليّ، فمر به جنازة، فقام لها ناس، فقال عليّ: من أفتاكم هذا؟ فقالوا: أبو موسى، قال: إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة، فكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نُهِي انتهى". لفظ أحمد، ولفظ الحازميّ:"فلما نُسِخ ذلك، ونُهِي عنه انتهى". ففي سنده ليث بن أبي سُليم، وهو متروك.
والحاصل أن دعوى النسخ، غير صحيحة؛ فإن أحاديث الأمر بالجلوس، لا تصحّ، وكذا حديث عليّ المذكور الدالّ على النسخ، لا يثبت، فلا ينبغي الالتفات إليها، في نسخ تلك السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة، بل المتحتّم الأخذ بها، واعتقاد أنها مستحبّة، مَن فعلها، فقد أحسن، ومن لا، فلا لوم عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قام، وقعد، وهذا هو الحق، كما تقدّم ترجيح النوويّ رحمه الله له، مخالفًا لمشهور مذهبه، من دعوى النسخ، فجزاه الله تعالى خيرًا على اتباعه الدليلَ، وعدم تعصّبه لمشهور مذهبه، كما هو ديدن المتفقهة، ولا سيما المتأخرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2218]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْث (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ
(1)
، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ
(2)
، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ
(3)
، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ، أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (ح) وَحَدَّثَنَاً قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْث (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا رَأَى أَحَدُكُم الْجَنَازَةَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا فَلْيَقُمْ، حَتَّى تُخَلِّفَهُ، أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلَفَهُ ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد، تقدّم قبل باب.
4 -
(حَرْمَلَةُ) بن يحيى، تقدّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا ابن رمح".
(2)
وفي نسخة: "حرملة بن يحيى".
(3)
وفي نسخة: "حدّثني ابن وهب".
5 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم قريبًا أيضًا.
6 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
7 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، تقدّم قريبًا أيضًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (جَمِيعًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ) يعني أن كلًّا من الليث بن سعد، ويونس بن يزيد رويا هذا الحديث عن ابن شهاب بسنده الماضي، وهو: عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة رضي الله عنهما.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) بيّن به أن في رواية يونس بن يزيد صرّح عامر بن ربيعة بأنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيت الجنازة، فقوموا لها
…
إلخ".
وقوله: (أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ) فيه بيان للمراد من رواية سالم الماضية بلفظ: "أو توضع"، وسيأتي من طريق ابن جريج، عن نافع بلفظ:"إذا رأى أحدكم الجنازة، فليقُم حين يراها حتى تُخلّفه إذا كان غير متّبعها".
[تنبيه]: رواية الليث، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيّ، فقال:
(1916)
- أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة العدويّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا رأيتم الجنازة فقوموا، حتى تُخَلِّفكم، أو توضع".
وأما رواية يونس، عن ابن شهاب، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2219]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّاد (ح) وَحَدثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدثنا إِسْمَاعِيلُ، جَمِيعًا عَنْ أَيُوبَ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدثنَا ابْنُ أَبِي
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيث ابْنِ جُرَيْجٍ، قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "
(1)
: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الْجَنَازَةَ فَلْيَقُمْ حِينَ يَرَاهَا، حَتَى تُخَلِّفَهُ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَّبِعِهَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن كثير الدورقيّ.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ) ابن عليّة، تقدّم قبل باب.
5 -
(أَيُّوبُ) السختيانيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
6 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم في الباب الماضي.
7 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل باب.
8 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
9 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، تقدّم قريبًا.
10 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
11 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
12 -
(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين.
13 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم قبل باب.
14 -
(نَافِعٌ) ذُكر قبله.
(1)
وفي نسخة: "قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ".
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ أَيُّوبَ)؛ أي: أن كلًّا من حماد بن زيد، وإسماعيل بن عليّة رويا هذا الحديث عن أيوب السختياني.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: أيوب السختيانيّ، وعبيد الله العمريّ، وعبد الله بن عون، وابن جُريج رووا هذا الحديث عن نافع مولى ابن عمر بهذا الإسناد الماضي، وهو: عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فَلْيَقُمْ حِينَ يَرَاهَا) ظاهره أنه يقوم بمجرّد رؤيتها قبل أن تصل إليه، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (حَتَّى تُخَلِّفَهُ) بضمّ التاء، وكسر اللام المشدّدة: أي: تصيِّره وراءها، غائبًا عنها.
وقوله: (إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتّبِعِهَا) فيه أن اتّباع الجنائز كفائيّ، وليس من الواجبات العينيّة.
[تنبيه]: رواية أيوب، عن نافع هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(15258)
- حدّثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت جنازةً، فإن لم تك ماشيًا معها، فقم لها حتى تُخَلِّفك، أو توضع"، قال: فكان ابن عمر ربما تقدّم الجنازة، فقعد حتى إذا رآها قد أشرفت قام، حتى توضع، وربما سترته.
وأما رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، فساقها الإمام أحمد رحمه الله أيضًا، فقال:
(15248)
- حدّثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأى أحدكم الجنازة، ولم يكن ماشيًا معها، فليقم حتى تجاوزه، أو توضع".
وأما رواية ابن جريج، عن نافع، فساقها الإمام أحمد رحمه الله أيضًا، فقال:
(15250)
- حدّثنا عبد الرزاق، وابن بكر، قالا: حدّثنا ابن جريج،
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 29.
قال: سمعت نافعًا يقول: كان عبد الله بن عمر يَأْثُرُ عن عامر بن ربيعة، أنه كان يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها، حتى تُخَلِّفه؛ إذا كان غير متبعها".
وأما رواية بن عون، فساقها البزار في "مسنده" (9/ 267) فقال:
(3809)
- وحدّثنا يحيى بن حكيم، قال: نا أبو بحر، وأزهر بن سعد، قالا: نا ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأى أحدكم الجنازة، فإن لم يكن معها ماشيًا، فليقم لها حتى تُخَلِّفه، أو توضع". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2220]
(959) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي قالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اتبعْتُمْ جَنَازَةً، فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) عن (83) سنة (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدني، تقدّم قريبًا أيضًا.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الخدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65 أو 74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 485.
وشرح الحديث يُعلم مما سبق، وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 2220 و 2221](959)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(309 و 310)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3173)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1543)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 43 - 44 و 77)، و (أحمد) في "مسنده" 3/ 25 و 41 و 48 و 51)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 40)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2221]
(
…
) - (وَحَدَّثَني سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي
(1)
، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا رَأَيتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتى تُوضَعَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ عابدٌ [10](ت هـ 23)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 95/ 202.
2 -
(عَلِي بْنُ حُجْرٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(هِشَامٌ الدَّسْتَوَائيُّ) تقدّم قريبًا.
4 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
5 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، نزيل اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويرسل [5](132) أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
وفي نسخة: "أخبرني أبي".
وشرح الحديث يُعلم مما سبق، وهو متّفق عليه، وتقدّم تخريجه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2222]
(960) - (وَحَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا يَهُودِيَّة، فَقَالَ: "إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ، فَإذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ) القرشيّ، مولى ابن أبي نَمِر المدنيّ، ثقةٌ مشهور [4].
رَوَى عن جابر، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي صالح السمّان، والقاسم بن محمد، وعطاء بن يسار.
وروى عنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وأبو حازم بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن عجلان، ويحيى بن أبي كثير، وداود بن قيس الفرّاء، وإسحاق بن حازم المدنيّ، وبكير بن عبد الله بن الأشج.
قال أبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ لا بأس به، ووَثَّقه يعقوب بن سفيان، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (960) و (1198) و (1915) و (1935) و (2578) و (2788).
2 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريّ رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء، كما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو والبخاريّ، والنسائي، والثاني ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وعبيد الله بن مقسم ما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: يحيى، عن عبيد الله.
4 -
(ومنها): أن فيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما صحابيّ ابن صحابيّ، أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: مَرَّتْ جَنَازَةٌ) فيه تجوّز؛ لأن المارّ حاملها بها (فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ)؛ أي: لا تستحقّ التكريم لها (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ) وفي رواية النسائيّ: "إن للموت فَزَعًا"، قال القرطبيّ رحمه الله: معناه: إن الموت يُفزَع إليه، إشارةٌ إلى استعظامه، ومقصودُ الحديث أن لا يستمرّ الإنسان على الغفلة بعد رؤية الميت؛ لما يُشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثَم استوى فيه الميت مسلمًا، أو غير مسلم.
وقال غيره: جَعَل نفس الموت فَزَعًا، مبالغة، كما يقال: رجل عدلٌ.
وقال البيضاويّ: هو مصدرٌ، جَرَى مَجْرَى الوصف؛ للمبالغة، أو فيه تقديرٌ؛ أي: الموت ذو فزَعٍ.
ويؤيّد الثاني- كما قال الحافظ رحمه الله رواية النسائيّ، وابن ماجه بلفظ:"إن للموت فَزَعًا"، وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يَقْلَق من أجلها، ويضطرب، ولا يَظهَر منه عدم الاحتفال
(1)
والمبالاة.
(1)
الاحتفال: حسن القيام بالأمور، ويقال: ما احتفل به: أي ما بالى. أفاده في "ق". فيكون قوله: "والمبالاة" عطف تفسير.
قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": قوله: "إن للموت فزعًا": أي: فلا ينبغي الاستمرار على الغفلة على رؤية الميت، فالقيام لترك الغفلة، والتشمير للجدّ والاجتهاد في الخير، وفي بعض النسخ:"إن الموت فَزَعٌ"؛ أي: ذو فزع، أو هو من باب المبالغة. انتهى.
(فَإذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا")؛ أي: تعظيمًا لهول الموت وفَزَعه، لا تعظيمًا للميت، فلا يختصّ القيام بميت دون ميت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى)؛ حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 2222 و 2223 و 2224](960)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1311)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3174)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1922 و 1928) و"الكبرى"(2049 و 2056)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(543)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 319 و 334 و 354)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 40 - 41)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2223]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَّنَا عَبْدُ الرَّزَاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
(3)
، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أنهُ سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(4)
لِجَنَازَةٍ مَرَّتْ بِهِ، حَتَّى تَوَارَتْ).
(1)
"الفتح" 3/ 534.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
(3)
وفي نسخة: "عن ابن جريح".
(4)
وفي نسخة: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (لِجَنَازَةٍ مَرَّتْ بِهِ) وفي رواية النسائيّ: "لجنازة يهوديّ، مرّت به".
وقوله: (حَتى تَوَارَتْ)؛ أي: تباعدت، واختفت عن أعينهم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2224]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزبَيْرِ أيْضًا، أَنهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ، حَتَّى تَوَارَتْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة، وهم المذكورون في السند الماضي، وكذا الحديث هو الماضي، وإنما أعاده؛ لكون ابن جريج سمعه من أبي الزبير مرّتين، كما يشير إليه قوله:"أيضًا"، وبين الإخبارين فرقٌ، وذلك أن في الأول الاقتصار على قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، بخلاف الثاني، فقد بيّن فيه قيام أصحابه رضي الله عنهم معه، ففيه بيان أن القيام سنّة عامّة له وللأمة، سواء كان الميت مسلمًا، أو غير مسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2225]
(961) - (حَدَّثَنَا
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَسَهْلَ بْنَ
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
حُنَيْفٍ، كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَقَالَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ:"ألَيْسَتْ نَفْسًا؟ ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(قَيْسُ بْنُ سَعْدِ) بن عُبادة بن دُلَيهم بن حارثة الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الملك، ويقال: أبو الفضل المدنيّ، قال أنس بن مالك: كان قيس بن سعد من النبيّ صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعبد الله بن حنظلة بن الراهب، وهو أصغر منه.
ورَوَى عنه أنس، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وثعلبة بن أبي مالك الْقُرَظيّ، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحبيل، وعامر الشعبيّ، وعروة بن الزبير، وميمون بن أبي شبيب، وأبو تميم الجيشانيّ، وآخرون.
قال الحميديّ، عن سفيان، عن عمرو بن دينار: كان قيس بن سعد رجلًا ضَخْمًا جسيمًا، وكان إذا ركب الحمار خَطَّت رجلاه الأرض، وقال بكر بن سَوَادة، عن أبي حمزة الحميريّ، عن جابر، فذكر حديثًا، قال: وكان عليهم قيس بن سعد، ونَحَرَ لهم تسع ركائب، وقال فيه: فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له من أمر قيس بن سعد، فقال:"إن الجود من شِيمَة أهل ذلك البيت"، وقال يونس، عن الزهريّ: كان من دُهَاة العرب، وقال عروة: قال قيس بن سعد: اللهم ارزقني مالًا، فإنه لا يصلح الفِعَال إلا بالمال.
قال خليفة وغيره: تُوُفِّي بالمدينة في آخر خلافة معاوية، وقال ابن حبان: يُكْنَى أبا القاسم، وكان على مقدمة عليّ يوم صِفِّين، ثم هَرَب من معاوية سنة (58) وسكن تَفْلِيس
(1)
، ومات بها في ولاية عبد الملك بن مروان.
أخرج له الجماعة، وله عند المصنف هذا الحديث فقط، وله عند
(1)
في "القاموس": "تَفْلِيس" بفتح التاء، وقد تكسر: بلد افتُتِح في خلافة عثمان رضي الله عنه. انتهى.
البخاريّ هذا، وحديث آخر في "الجهاد والسير"
(1)
، وعند الترمذيّ حديث:"لا حول ولا قوة إلا بالله".
2 -
(سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ) بن واهب بن الْعُكَيم بن ثعلبة بن مَجْدَعة بن الحارث الأوسيّ الأنصاريّ، أبو ثابت، ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو سعد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو الوليد المدنيّ.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن زيد بن ثابت.
وروى عنه ابْنَاهُ: أبو أمامة أسعد، وعبد الله، ويقال: عبد الرحمن، وأبو وائل، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعبيد الله بن السّبّاق، ويُسَير بن عمرو، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم.
قال ابن عبد البرّ: شَهِدَ بدرًا، والمشاهد كلّها، وثبت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان بايعه على الموت، ثم صَحِبَ عليًّا من حين بويع، فاستخلفه على البصرة، ثم شَهِد معه صِفين، وولاه فارس، ومات سنة (38) وصلى عليه على، وكبر ستًّا.
وقال ابن سعد: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عليّ وشَهِد بدرًا، وكان عمر يقول: سهل غيرُ حَزْن، ولما تُوُفِّي كَبَّر عليه على خمسًا، ثم التفت إليهم، فقال: إنه بدريّ.
أخرج الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (961) و (1068) وأعاده بعده، و (1375) و (1785) وكرّره ثلاثة مرّات، و (1909) و (2251).
والباقون ذُكرُوا في هذا الباب، والذي قبله.
(1)
هو ما أخرجه البخاريّ في "الجهاد والسير" برقم (2974) قال: حدّثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدّثني الليث، قال: أخبرني عُقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني ثعلبة بن أبي مالك القُرَظيّ أن قيس بن سعد الأنصاريّ رضي الله عنه، وكان صاحب لواء رسول الله- صلى الله عليه وسلم أراد الحج، فَرَجَّلَ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما ابن المثنّى وابن بشّار، فمن التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن صحابيين.
شرح الحديث:
(عَنِ) عبد الرحمن (بْنِ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ رحمه الله، وفي رواية للبخاريّ، ذكرها تعليقًا عن أبي حمزة السُّكّريّ، عن عمرو، عن ابن أبي ليلى، قال:"كنت مع قيس، وسهل رضي الله عنهما، فقالا: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم "، ففيها بيان سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى لهذا الحديث من سهل، وقيس رضي الله عنهما.
(أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ) رضي الله عنهما (كَانَا بِالْقَادِسِيةِ) موضعٍ بقرب الكوفة، من جهة المغرب، على طرف البادية، نحو خمسة عشر فرسخًا، وهي آخر أرض العرب، وأول حَدّ سواد العراق، وكان هناك وقعة عظيمة في خلافة عمر رضي الله عنه، ويقال: إن إبراهيم الخليل عليه السلام دعا لتلك الأرض بالقُدُس، فسُمِّيت بذلك، ذكره في "المصباح".
وقال في "القاموس": "القادسيّة" قرية قرب الكوفة، مرّ بها إبراهيم عليه السلام، فوجد بها عجوزًا، فغسلت رأسه، فقال: قُدِّستِ من أرض، فسميت بالقادسيّة. انتهى.
واختُلِف في وقعة القادسية فذكر ابن إسحاق أنها كانت سنة (15) وزعم الواقديّ أنها سنة (16) وذكر سيف بن عمر، وابن جرير، وجماعة أنه سنة (14) وكانت وقعة القادسية وقعة عظيمة، لم يكن بالعراق أعجب منها، وكان عدد المسلمين على ما قال ابن إسحاق ما بين سبعة آلاف، إلى ثمانية آلاف، وكان قائدهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأن الفرس كانوا ستين ألفًا، وقيل: كان عددهم أكثر من ذلك، وقائد الفرس رجل اسمه رستم، وانتهت المعركة
بانتصار المسلمين
(1)
.
(فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ) تقدّم ضبطها بالفتح والكسر، وفي رواية البخاريّ:"فمرُّوا عليهما بجنازة"، وفي رواية النسائيّ:"فمُرّ عليهما بجنازة" ببناء الفعل للمفعول" (فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا)؛ أي: الجنازة (مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ)؛ أي: جنازة كافر من أهل الذمّة، وإنما سُمِّي أهل الذمة بأهل الأرض؛ لأن المسلمين لما فتحوا البلاد أقرّوهم على عَمَل الأرض، وحَمْل الخراج إليهم (فَقَالَا)؛ أي: قيس، وسهل رضي الله عنهما (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ، فَقَامَ، فَقِيلَ)؛ أي: له صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ)؛ أي: إن الميت (يَهُودِيٌّ)؛ أي: رجلٌ منسوب إلى يهود، القبيلةِ المعروفة، قال الفيّوميّ رحمه الله: ويقال: هو يَهُودُ، غير منصرف، للعلمية، ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا، فلا يمتنع التنوين؛ لأنه نُقل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، وقيل: اليهوديّ نسبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام، هكذا أورده الصغانيّ "يَهُودا" في باب المهملة. انتهى.
والياء فيه للفرق بين اسم الجنس، وبين واحدة، كما يقال: عرب وعربيّ، وعجم وعجميّ، وروم وروميّ، وترك وتركيّ، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ردّا عليهم، وبيانًا لسبب مشروعيّة القيام للجنازة ("ألَيْستْ نَفْسًا؟ ") المعنى أن القيام إنما شُرع لكونها نفسًا، لا لكونها مؤمنة، ومعنى القيام لكونها نفسًا أنها حلّ بها الموت الذي هوأمر عظيم، وخَطَر جسيم على الإنسان، فينبغي له أن يقابله بالفزع والرهبة، والخضوع والاستكانة، لا بالغفلة، والذهول، والتكبّر والأَنَفَة، وهذا المعنى لا يخص نفس المؤمن، بل يعمّ منفس حلّ بها الموت.
وهذا لا يعارض التعليل السابق في الحديث الماضي بقوله: "إن الموت فَزَغ"، وفي رواية النسائيّ:"إن للموت فَزَعًا"، وكذا ما أخرجه الحاكم من طريق قتادة، عن أنس رضي الله عنه، مرفوعًا، فقال:"إنما قمنا للملائكة"، ونحوه
(1)
راجع: قصة القادسية في "البداية والنهاية" لابن كثير 7/ 38 - 50 وغيره من كتب التواريخ.
لأحمد من حديث أبي موسى رضي الله عنه، ولأحمد، وابن حبان، والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، مرفوعًا:"إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس"، ولفظ ابن حبّان:"إعظاما للذي يقبض الأرواح"
(1)
، فإن ذلك أيضًا لا ينافي التعليل السابق؛ لأن القيام للفَزَع من الموت فيه تعظيم لأمر الله، وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك، وهم الملائكة.
وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، قال:"إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذّيًا بريح اليهوديّ"، زاد الطبرانيّ من حديث عبد الله بن عياش - بالتحتانية، والمعجمة-:"فآذاه ريح بَخُورها"، وللطبرانيّ، والبيهقيّ من وجه آخر عن الحسن:"كراهية أن تعلو رأسه"، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة.
أما أوّلًا، فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحّة، وأما ثانيًا، فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأن الراوي لم يسمع التصريح بالتعليل منه، فعَلَّل باجتهاده.
وقد رَوَى ابن أبي شيبة، من طريق خارجة بن زيد بن ثابت، عن عمة يزيد بن ثابت، قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلعت جنازة، فلما رآها قام، وقام أصحابه حتى بَعُدَت، والله ما أدري: من شأنها، أو من تضايق المكان؟، وما سألناه عن قيامه".
ثم إن مقتضى التعليل بقوله: "أليست نفسًا" أن ذلك يستحبّ لكلّ جنازة، وقد تقدّم في المسألة الرابعة من شرح حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه بيانُ اختلاف أهل العلم في حكم القيام للجنازة، وأن الراجح هو القول بالاستحباب، جمعًا بين الأحاديث، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: استُدلّ بهذا الحديث على جواز إخراج جنائز أهل الذمة نهارًا غير متميّزة عن جنائز المسلمين، أشار إلى ذلك الزين ابن المنيّر رحمه الله، قال: وإلزامهم بمخالفة رسوم المسلمين وقع اجتهادًا من الأئمّة.
ويمكن أن يقال: إذا ثبت النسخ للقيام تبعه ما عداه، فيحمل على أن
(1)
انظر: "صحيح ابن حبان" 7/ 324 - 325 رقم الحديث 3053.
ذلك كان عند مشروعيّة القيام، فلما تُرك القيام منع من الإظهار، قاله في "الفتح "
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الكلام نظرٌ لا يخفى؛ لأنه إذا لم يرد نصّ على أجمر الذميّ بالتميّز، فمن أين أتى المنع من الإظهار؟، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث قيس بن سع، وسهل بن حُنيف رضي الله عنهما هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرَجه (المصنّف) هنا [23/ 2225 و 2226](961)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1312)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 45)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 42)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2226]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَفِيهِ: فَقَالَا: كُنَّا مَعَ رَسُولي اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّتْ عَلَيْنَا جَنَازَةٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِياءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
(1)
"الفتح " 3/ 535.
3 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ مقرئ ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 297.
و"عمرو بن مرّة" ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وتخريجه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(24) - (بَابُ بَيَانِ نَسْخِ الْقِيَامِ لِلْجَنَازَة)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2227]
(962) - (وَحَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا لَيْث
(1)
(ح) وَحَدَّثنا
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أنهُ قَالَ: رَآنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَنَحْنُ فِي جَنَازّةٍ قَائِمًا، وَقَدْ جَلَسَ يَنْتَظِرُ أَنْ تُوضَعَ الْجَنَازَةُ، فَقَالَ لِي: مَا يُقِيمُكَ؟
(3)
فَقُلْتُ: أَنْتَظِرُ أَنْ تُوضَعَ الْجَنَازَةُ؛ لِمَا يُحَدِّثُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَقَالَ نَافِعٌ: فَكانَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ حَدَّثَني عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَعَدَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 244)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
2 -
(وَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) الأنصاريّ الأشهليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4].
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا الليث".
(2)
وفي نسخة: "وأخبرني".
(3)
وفي نسخة: "فقال: ما يُقيمك؟ ".
رَوَى عن أنس، وجابر، وأفلح مولى أبي أيوب، ونافع بن جبير بن مُطْعِم.
وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومحمد بن عَمْرو بن علقمة، وسعيد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، وداود بن الحصين، ومحمد بن زياد، وعتبة بن جبيرة.
قال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو: وكان من أحب الناس وأعظمهم وأطولهم.
قال ابن أبي عاصم: مات سنة عشرين ومائة، وكذا قال ابن المديني.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
3 -
(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ) بن مُطْعِم النوفليّ، أبو محمد، أو أبو عبد الله المدني، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 482.
4 -
(مَسْعُودُ بْنُ الْحَكَمِ) بن الربيع بن عامر بن خالد بن عامر بن زُرَيق الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو هارون المدنيّ، له رؤية، وله رواية عن بعض الصحابة [2].
رَوَى عن أمه، ولها صحبة، وعن عمر، وعثمان، وعليّ، وعبد الله بن حُذَافة السَّهمي.
وروى عنه أولاده: إسماعيل وعيسى وقيس ويوسف، ونافع بن جبير بن مُطْعِم، وسليمان بن يسار، وابن المنكدر، والزهريّ، وعبد الله بن أبي سلمة، وحكيم بن حكيم الأنصاريّ، وأبو الزناد.
قال الواقديّ: كان ثبتًا مأمونًا ثقةَ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البرّ: وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان له قدرٌ، ويُعَدّ في جِلّة التابعين، وكبارهم، وكذا قال الواقديّ، وابن أبي خيثمة، والعسكريّ: إنه ولد في عهده صلى الله عليه وسلم، زاد العسكريّ: ولم يرو عنه شيئًا.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، كرّره ثلاث مرّات.
5 -
(عَليُّ بْن أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فانفرد به هو وابن ماجه، وواقد ابن عمرو، فما أخرج له البخاريّ، وابن ماجه، ومسعود بن الحكم، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن فيه أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يحيى، عن واقد، عن نافع، عن مسعود.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة، وأول من أسلم من الصبيان، وصهر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومات يوم مات وهو أفضل أهل الأرض على الإطلاق رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) الأنصاري (أنَّهُ قَالَ: رَآنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ) بن مُطعِم (وَنَحْنُ فِي جَنَازَةٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، وقوله:(قَائِمًا) حال من ضمير المتكلّم في "رآني"، وقوله:(وَقَدْ جَلَسَ) جملة حاليّة من "نافع"، وقوله:(يَنْتَظِرُ) حال من فاعل "جلس"(أَنْ تُوضَعَ الْجَنَازَةُ)"أن" بالفتح مصدريّة، والمصدر المؤوّل مفعول "ينتظر" (فَقَالَ لِي: مَا يُقِيمُكَ؟) "ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء حملك على القيام؟، والاستفهام للإنكار (فَقُلْتُ: أنتَظِرُ أَنْ تُوضَعَ الْجَنَازَةُ؛ لِمَا يُحَدِّثُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ)؛ أي: لأجل الحديث الذي حدّث به أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وهو الحديث الماضي في الباب السابق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها، فلا يجلس حتى توضع". (فَقَالَ نَافِعٌ)؛ أي: ابن جبير، وقوله:(فَإِنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ) علّة لمحذوف؛ أي: ليس عليك قيام؛ لأن مسعود بن الحكم (حَدَّثَنى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (أَنهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَعَدَ)؛ أي: ترك
القيام، وفي الرواية التالية:"رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا".
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله بعد إخراج الحديث ما نصّه: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، قال الشافعيّ: وهذا أصح شيء في هذا الباب، وهذا الحديث ناسخ للأول:"إذا رأيتم الجنازة فقوموا"، وقال أحمد: إن شاء قام، وإن شاء لم يقم، واحتجّ بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد رُوي عنه أنه قام ثم قعد، وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم.
قال أبو عيسى: معنى قول عليّ رضي الله عنه: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنازة، ثم قعد"، يقول: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم -إذا رأى الجنازة قام، ثم ترك ذلك بعدُ، فكان لا يقوم إذا رأى الجنازة. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أدلّة القائلين بنسخ الأمر بالقيام للجنازة، كما ذكره الترمذيّ عن الشافعيّ آنفًا، وقد تقدّم أن الحقّ أنه لا يدلّ على النسخ؛ لأنه مجرّد فعل، وإنما يدلّ على حمل الأمر بالقيام على الاستحباب، فالأرجح ما ذهب إليه أحمد، وإسحاق من جواز الأمرين، وأن الحديث إن دلّ على النسخ فإنما يدلّ على نسخ الوجوب، لا على نسخ المشروعيّة أصلًا.
وأما رواية من رواه بزيادة: "وأمرهم بالقعود"، فقد تقدّم أنها ضعيفة، فلا تقاوم الأحاديث الصحيحة الصريحة بالأمر بالقيام.
والحاصل أن القيام للجنازة مطلقًا مستحبّ؛ لصحّة الأحاديث به دون معارض، وقد تقدّم تحقيق البحث في هذا الباب الماضي، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف: رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2227 و 2228 و 2229 و 2230 و 2231]
(962)
، و (أبو داود) في "الجنائز"(3175)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1044)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 77 و 78)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1544)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 232)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 82 و 83 و 131 و 138)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 42 - 43)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2228]
(
…
) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ الثَّقَفِي، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي وَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأنصَارِيُّ، أَن نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ الْأنصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِب يَقُولُ فِي شَأْنِ الْجَنَائِزِ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ، ثُمَّ قَعَدَ، وَإِنَّمَا حَدَّثَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ رَأَى وَاقِدَ بْنَ عَمْرٍو قَامَ، حَتَّى وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعدني، ثم المكيّ، صدوقٌ، صنّف "المسند"[5](243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
4 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194) توفي عن نحو (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (يَقُولُ فِي شَأنِ الْجَنَائِزِ)؟ أي: يتكلّم في حكم القيام لها.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وتخريجه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2229]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِبدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو كُرَيْب) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(ابْنُ أَبي زَائِدَةَ) هو يحيى بن زكريّاء بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقَة متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) عن (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان " 5/ 121.
و"يحيى بن سعيد" هو: الأنصاريّ ذُكر قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2230]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ مَسْعُودَ بْنَ الْحَكَمِ، يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا، يَعْنِي فِي الْجَنَازَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجة إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد الله بن الْهُدير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
والباقيان ذُكرا قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2231]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثنَا يَحْيى، وَهُوَ الْقَطَانُ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقدّم، أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم، البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) اليشكريّ، أبو قُدامة السَّرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمون سنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
3 -
(يَحْى الْقَطَّانُ) تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(632)
- حدّثنا يحيى، عن شعبة، حدّثنا محمد بن المنكدر، عن مسعود بن الحكم، عن عليّ أنَّه قال: قد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(25) - (بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمَيْتِ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2232]
(963) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى مُعَاوِيةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ حَبِيب بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: صَلًّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ
دُعَائِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُم اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَكرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مَدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ، وَالثَّلْجِ، وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ
(1)
"، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ كُونَ أنا ذَلِكَ الْمَيِّتَ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ حافظ عابد فقيهٌ [9](ت 197) وله (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الحضرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له إفرادات
(2)
[7](ت 158) وقيل: بعد السبعين (م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
4 -
(حَبِيبُ بْنُ عُبَيْدٍ) الرَّحَبيّ، أبو حفص الْحِمْصيّ، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 2/ 1584.
5 -
(جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرِ) بن مالك بن عامر الْحَضْرميّ الْحِمصيّ، ثقةٌ جليلٌ مخضرمٌ [2](ت 80) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
6 -
(عَوْفُ بْنُ مَالِكِ) بن أبي عوف الأشجعيّ الغطفانيّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو حماد، ويقال: أبو عمر، وشَهِدَ فتح مكة، ويقال: كانت معه راية أشجع، ثم سكن دمشق.
(1)
وفي نسخة: "ومن عذاب النار" بالواو.
(2)
قال في "التقريب": صدوق له أوهام، والأولى أنه ثقةٌ له إفرادات، كما قال ابن عديّ، فقد وثّقه الأئمة الكبار، ولم يطعن فيه إلا القطان على عادته في التشدد. انظر ترجمته في:"تهذيب التهذيب".
رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الله بن سلام، وعنه أبو مسلم الْخَوْلانيّ، وجُبَير بن نُفَير، وعاصم بن حميد السَّكُونيّ، وكثير بن مُرّة، وأبو إدريس الخولانيّ، وأبو الْمَلِيح بن أسامة، وسيف الشاميّ، وشداد بن عمار، وعبد الرحمن بن عامر، وحَبِيب بن عُبيد، وراشد بن سعد، وجماعة.
قال الواقديّ: شَهِد خيبر، ونزل حِمْصَ، وبَقِي إلى خلافة عبد الملك، ومات سنة ثلاث وسبعين، وفيها أَرَّخه غير واحد.
وذكر ابن سعد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين أبي الدرداء.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (963) وأعاده بعده، و (1043) و (1753) و (1855) وأعاده بعده، و (2200).
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالحمصيين، من معاوية بن صالح، والباقيان مصريّان.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وفيه الإخبار، والتحديث، والعنعنة، والسماع.
4 -
(ومنها): أن فيه استعمال القاعدة المشهورة عند المحدثين، وهي أن الراوي إذا سمع من الشيخ وحده قال: حدّثني، وإذا سمع مع غيره قال: حدَّثنا، وإذا قرأ بنفسه على الشيخ قال: أخبرني، وإذا سمع قارئًا يقرأ على الشيح يقول: أخبرنا، فلما سمع المصنّف وحده قال: حدّثني هارون، ولما سمع هارون قراءة غيره على ابن وهب قال: أخبرنا، ولما قرأ ابن وهب على معاوية بنفسه قال: أخبرني، وإلى هذه القاعدة أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ حَدَّثَنِي
…
وَقَارِئٍ بِنَفْسه أخْبَرَنِي
وَإنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً حَدَّثَنَا
…
وَإنْ سَمعْتَ قَارئًا أَخْبَرَنَا
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) بتصغير الاسمين، وقوله:(سَمِعَهُ) الفاعل ضمير حبيب بن عُبيد؛ أي: سمع حبيبُ بنُ عبيد جبيرَ بنَ نُفير (يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ) الأشجعيّ رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ:"قال: شَهِدت عوف بن مالك يقول"(يَقُولُ: صَلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف صاحبها
(1)
. (فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ) صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليةّ من الضمير المجرور "اللَّهُم اغْفِرْ لَهُ)؛ أي: استر ذنوب هذا الميت، واصفَح عنه، يقال: غفر الله له غَفْرًا، من باب ضَرَب، وغُفرانًا بالضمّ: صفح عنه، قاله في "المصباح". (وَارْحَمْهُ)؛ أي: ارفُقْ به، يقال: رَحِمت زيدًا رُحْمًا بضم الراء، ورَحْمة، ومَرحَمةً: إذا رَفَقت له، وحَنَنتَ، قاله في "المصباح" أيضًا. (وَعَافِهِ)؛ أي: ادفع عنه المكروه، قال في "القاموس": والعافية: دِفَاع الله عن العبد، ويقال: عافاه الله تعالى عن المكروه، عِفَاءً بالكسر، ومُعافاة، وعافية: إذا وهب له العافية من العلل، والبلاء، كأعفاه. انتهى. (وَاعْفُ عَنْهُ)؛ أي: امح عنه ذنوبه، يقال: عفا عنه، وعفا له ذنبه، وعن ذنبه: تركه، ولم يُعاقبه.
والعفو: الصفح، وترك عقوبة المستحقّ، قال المرتضى في شرح "القاموس": الصفح ترك التَّأنيب، وهو أبلغ من العفو، فقد يعفو، ولا يَصْفَح، وأما العفو، فهو القصد لتناول الشيء، هذا هو المعنى الأصليّ، قال الراغب: فمعنى عفوتُ عنك، كأنه قصد إزالة ذنبه، صارفًا عنه، فالمعفوّ المتروك، "وعنك" متعلّق بمضمر، فالعفو هو التجافي عن الذنب. انتهى. "القاموس" وشرحه، باختصار، وتغيير.
(وَأَكرِمْ نُزُلَهُ) بضمتين، ويُخفّف بتسكين ثانية، في الأصل طعام الضيف الذي يُهيّأ له، والمراد هنا ما يُعطيه الله لعبده عند لقائه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
(وَوَسِّعْ مَدْخَلَهُ) بفتح الميم، وضمها: محل الدخول، والمراد به هنا القبر (وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ، وَالثَّلْجِ، وَالْبَرَدِ) وفي الرواية التالية بتنكير الثلاث، و"الثلجُ" ماءٌ
(1)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم"(ص 182).
ينزل من السماء، ثم ينعقد على وجه الأرض، ثم يذوب بعد جموده، و"الْبَرَد" - بفتحتين-: هو حَبّ الغمام، وهو ماء ينزل من السماء جامدًا، كالملح، ثم يذوب على الأرض.
قال التوربشتيّ رحمه الله: ذكر أنواع المطهّرات المنزّلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها، بيانًا لأنواع المغفرة التي لا يُتَخَلّص من الذّنوب إلا بها؛ أي: طهّرني بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع في إزالة الأرجاس، ورفع الأحداث. انتهى.
وقال الخطابيّ رحمه الله: هذه أمثال، ولم يُرَد بها أعيان هذه المسمّيات، وإنما أراد بها التوكيد في التطهير من الخطايا، والمبالغة في محوها عنه، والثلج والبرد ماءان لم تمسّهما الأيدي، ولم يمتهنهما الاستعمال، فكان ضرب المثل بهما أوكد في بيان معنى ما أراده من تطهر الثوب. انتهى.
(وَنَقِّهِ) بتشديد القاف، من التنقية، وهو كناية عن إزالة الذنوب، ومحو أثرها (مِنَ الْخَطَايَا) جمع خطيّة، كعطيّة، وعطايا؛ أي: من الذنوب والمآثم (كَمَا نَقيْتَ)؛ أي: طهّرت، ونظّفت، وفي الرواية التالية:"كما يُنَقَّى" بصيغة المضارع (الثَّوْبَ الْأَبْيَض مِنَ الدَّنَسِ) بفتحتين؛ أي: الوَسَخ، ووقع التشبيه بالثوب الأبيض؛ لأن ظهور النَّقَاء فيه أشدّ، وأكمل؛ لصفائه، بخلاف غيره من الألوان.
(وَأَبْدِلْهُ)؛ أي: عوّضه، يقال: أبدلته بكذا، إبدالًا: إذا نَحَّيتَ الأوّل، وجعلتَ الثاني مكانه، وبدّلته، تبديلًا، بمعنى غيّرته تغييرًا، وبدّل الله السيّئات حسنات، يتعدّى إلى مفعولين بنفسه؛ لأنه بمعنى جَعَلَ، وصيّر، وقد استُعمل "أبدَلَ" بالألف مكان بدّل بالتشديد، فعُدّي بنفسه إلى مفعولين، لتقارب معناهما، وقد قرئ في السبعة:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم: 5] من أفعل، وفعّل.
والبَدَل -بفتحتين- والْبِدْلُ -بالكسر- والْبَدِيل -كأمير-: كلها بمعنى الْخَلَف، والجمع أَبدالٌ. انتهى. "المصباح " بتصرّف.
(دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ) هي دار الجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين (وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: الأهل هنا عبارة عن الخَدَم
والْخَوَل، ولا تدخل الزوجة فيهم؛ لأنه قد خصّها بالذكر بعد ذلك، حيث قال:"وزوجًا خيرًا من زوجه"، ويَحْتَمِل أن يكون من باب:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68] ويفهم منه أن نساء الجنّة أفضل من نساء الآدميات، وإن دخلن الجنّة، وقد اختُلِف في هذا المعنى. انتهى
(1)
.
(وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ) قال السنديّ رحمه الله في شرحه على النسائيّ: هذا من عطف الخاصّ على العامّ، على أن المراد بالأهل ما يعمّ الخدم أيضًا، وفيه إطلاق "الزوج" على المرأة، قيل: هو أفصح من "الزوجة". انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرجل زوج المرأة، وهي زوجة أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها جاء القرآن، نحو:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الآية [البقرة: 35] والجمع فيهما أزواج، قاله أبو حاتم، وأهل نجد يقولون في المرأة: زوجة بالهاء، وأهل الحرم يتكلّمون بها، وعَكَس ابن السكِّيت، فقال: وأهل الحجاز يقولون للمرأة: زوج بغير هاء، وسائر العرب: زوجة بالهاء، وجمعها زوجات، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها؛ للإيضاح، وخوف لبس الذكر بالأنثى؛ إذ لو قيل: تركة فيها زوج، وابن، لم يُعلَم، أذكرٌ هو، أم أنثى؟. انتهى.
وذكر السيوطيّ رحمه الله في "شرحه على النسائيّ" أن طائفة من الفقهاء قالوا: هذا خاصّ بالرجل، ولا يقال في الصلاة على المرأة: أبدلها خيرًا من زوجها؛ لجواز أن تكون لزوجها في الجنّة، فإن المرأة لا يمكن الاشتراك فيها، والرجل يقبل ذلك. انتهى
(2)
.
(وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ") هكذا في بعض النسخ بـ "أو"، وفي بعضها "وعذاب النار" بالواو، وفي الرواية التالية:"وقه فتنة القبر، وعذاب النار".
(قَالَ) عوف بن مالك الصحابيِّ الراو لهذا الحديث رضي الله عنه (حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ) بالفتح مصدريّة بخلاف الآتية في الرواية التالية، فإنها مخفّفة من الثقيلة، كما يأتي بيانه هناك (كُونَ أنا) تأكيد للضمير المتّصل (ذَلِكَ الْمَيِّتَ) بتشديد
(1)
"المفهم" 2/ 614 - 615.
(2)
"زهر الربى" 3/ 73 - 75.
الياء وتخفيفها، وفي الرواية التالية:"قال عوفٌ: فتمنّيتُ أن لو كنت أنا الميت؛ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت".
[فإان قلت]: صحّ عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تمنّي الموت، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "لا يتمَنَّيَنَ أحدٌ منكم الموت؛ لضرٍّ نزل به
…
" الحديث، فكيف تمنّاه عوف رضي الله عنه هنا؟.
[قلت]: هذا ليس من باب تمنّي الموت؛ لأنه لا يلزم من تمنّيه دعاءَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتمنّى الموت؛ إذ المراد تمنّي دعائه صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الموت عند انقضاء أجله، لا أنه يتمنّى الموت الآن، فافهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عوف بن مالك هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 2232 و 2233 و 2234](963)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1925)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(62 و 1983 و 1984) و"الكبرى"(2110 و 2111) وفي "عمل اليوم والليلة"(1087)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1500)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 23 و 28)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 43 - 44)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الدعاء في صلاة الجنازة، وهو معظم مقصودها.
2 -
(ومنها): مشروعية الصلاة على الجنازة، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى.
3 -
(ومنها): استحباب هذا الدعاء.
4 -
(ومنها): أن فيه إشارة إلى الجهر بالدعاء في صلاة الجنازة، قال النوويّ رحمه الله: وقد اتفق أصحابنا على أنه إن صلّى عليها بالنهار أسرّ بالقراءة، وإن صلى بالليل ففيه وجهان، الصحيح الذي عليه الجمهور: يسرّه، والثاني:
يجهر، وأما الدعاء، فيسرّ به بلا خلاف، وحينئذ يتأول هذا الحديث على أن قوله: (حفظت من دعائه "؛ أي: علّمنيه بعد الصلاة، فحفظته. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التأويل فيه نظر لا يخفى؛ إذ هو مخالف لظاهر الحديث.
قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكر اختلاف ألفاظ هذا الحديث ما نضه: جميع ذلك يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالدعاء، وهو خلاف ما صرّح به جماعة من استحباب الإسرار بالدعاء، وقد قيل: إن جهره صلى الله عليه وسلم الدعاء لقصد تعليمهم.
وأخرج أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: ما أباح لنا في دعاء الجنازة رسول الله ل صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر
(2)
، وفسّر "ما أباح " بمعنى قَدّر، قال الحافظ: والذي وقفت عليه باح بمعنى جهر
(3)
.
قال الشوكانيّ: والظاهر أن الجهر والإسرار بالدعاء جائزان. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الشوكانيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): مشروعيّة الطهارة بماء الثلج، والبرد، وقد تقدّم البحث عنه مستوفًى في "الطهارة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(قَالَ: وَحَدَّثَني عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ جُبَيْرٍ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثِ أَيضًا).
قمال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد فرع عن الإسناد الماضي، فهو موصول به، وليس معلّقًا، ففاعل "قال" ضمير معاوية بن صالح الراوي عن
(1)
"شرح مسلم" 7/ 34.
(2)
وأخرجه ابن ماجه أيضًا، وفي إسنادهما حجاج بن أرطاة، كثير الخطأ، والتدليس.
(3)
"التلخيص الحبير"2/ 289.
(4)
"نيل الأوطار" 4/ 79.
حبيب بن عُبيد، عن جُبير بن نُفير، عن عوف رضي الله عنه في الأول، فهو يرويه أيضًا عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف رضي الله عنه.
ولذلك يوجد في بعض النسخ كتابة (ح) بدل "قال" إشارة إلى تحويل الإسناد من حبيب إلى عبد الرحمن، ولذا لم أعطه رقمًا خاصًّا به، وإنما هو داخل تحت الرقم الأول، فتنبّه.
والظاهر أنه إنما لم يذكره المصنّف ضمن الإسناد الأول؛ للاختلاف في لفظ الحديث، كما أشار إليه بقوله:"بنحو هذا الحديث"، فإنه لو ذكره هناك، لتوُهّم أن متنهما واحد، والله تعالى أعلم.
ورجاله: ثلاثة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ جُبَيْرِ) بن نُفَير، أبو حُميد ويقال: أبو حِمْيَر الحضرميّ الحمصيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، وأنس بن مالك، وخالد بن معدان، وكثير بن مُرّة، وروى عن ثوبان، والصحيح عن أبيه عن ثوبان.
ورَوَى عنه يحيى بن جابر الطائيّ، ومعاوية بن صالح، ويزيد بن خُمَير، وثور بن يزيد، وزهير بن سالم، وصفوان بن عمرو، ومحمد بن الوليد الزبيديّ، وإسماعيل بن عياش، وجماعة.
قال أبو زرعة، والنسائي: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ، وبعض الناس يستنكر حديثه، ومات سنة ثماني عشرة ومائة في خلافة هشام.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب أحد عشر حديثًا بالمكرّر.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه هذه ساقها البزار رحمه الله في "مسنده " (7/ 172 - 173) فقال:
(2739)
- قال: وأخبرنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه: "اللهم اغفر له، وارحمه،
وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار"، حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2233]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيّ، حَدَّثنَا مُعَاوِيةُ بْنُ صَالِحٍ بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ وَهْب).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
- (إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
- (عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِي) تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
"ومعاوية بن صالح، ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية بن صالح بالإسناد الأول ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(23455)
- حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن معاوية، عن حبيب بن عبيد، قال: حدّثني جُبير بن نُفير، عن عوف، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على ميت، ففهمت من صلاته عليه:"اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسِّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجة خيرًا من زوجة، وأدخله الجنة، ونَجِّه من النار، وقِهِ عذاب القبر". انتهى.
وأما بالإسناد الثاني، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2234]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَاِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْحِمْصِّي (ح) وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي الطَّاهِرِ، قَالَا: حَدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَصَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ، يَقُولُ:"اللَّهُم اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَعَافِهِ، وَكرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ، وَثَلْجٍ، وَبَرَدٍ، وَنَقَهِ مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا يُنَقى الثوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ، وَعَذَابَ النَّارِ"، قَالَ عَوْف: فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لَوْ كُنْتُ أنا الْمَيِّتَ؛ لِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ الْمَيِّتِ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
وهو أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، فلا تغفل.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفي، ثقةٌ مأمون [8](ت 187) أو (191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(أَبُو حَمْزَةَ الْحِمْصِيُّ) هو: عيسى بن سُليم الْحِمْصيّ الرَّسْتَنيّ -بفتح الراء، والمثناة، بينهما سين مهملة ساكنة، وآخره نون- الْعَنْسيّ، صدوقٌ له أوهامٌ [7].
رَوَى عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، وراشد بن سعد، وشعوذ بن عبد الرحمن بن يونس، وشبيب الكَلاعيّ، وأبي عون الأنصاريّ.
(1)
وفي نسخة: "حدثنا".
وروى عنه عمرو بن الحارث المصريّ، وبقية، وعيسى بن يونس، ومعاوية بن صالح الحضرميّ، ويحيى بن حمزة.
قال أبو حاتم: ثقةٌ صدوق، وقال أحمد: لا أعرفه.
قال الحافظ: وأما عيسى بن سُليم الذي ذكره العقيلي في "الضعفاء"، فهو آخر كوفيّ، روى عن أبي وائل، شقيق بن سلمة، وعنه أبوْ بكر بن عياش، ولعله الذي قال فيه أحمد: لا أعرفه، قاله الحافظ رحمه الله
(1)
.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن سرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
5 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه حافظ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
والباقون ذُكروا في الباب، وأبو حمزة بن سُليم هو أبو حمزة الحمصيّ المذكور قبله.
وقوله: (وَقهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ) أمر من وقى يقي؛ أي: احفظه.
وقوله: (أَنْ لَوْ كنْتُ)"أَنْ" بفتح الهمزة، وسكون النون: هي مخففة من "أنّ" المشدّدة، واسمها محذوف؛ أي: أنّي لو كنتُ، قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":
وَإِنْ تُخَفَّفْ أَنَّ " فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ
…
وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَة مِنْ بَعْدِ "أَنْ"
وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا
…
وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا
فَالأحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفْى أَوْ
…
تَنْفِيسٍ أوْ "لَوْ" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَوْ"
وقوله: (الْمَيِّتَ)"أل" فيه للعهد الذكريّ؛ أي: ذلك الميت الذي في قوله: "صلى على جنازة"، وَيحْتَمِل أن تكون للعهد الحضوريّ باعتبار وقت التمني؛ أي: الميت الحاضر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (لِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ الْمَيِّتِ) الجارّ والمجرور الأول
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 8/ 189.
يتعلّق بـ "تمنّيت"، والثاني ب "دعاء"؛ يعني أنه إنما تمنّى أن يكون ذلك الميتَ لأجل أن تناله بركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(26) - (بابُ أَيْنَ يَقُومُ الإِمَامُ مِنَ الْمَيْتِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2235]
(964) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِي، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
، وَصَلَّى عَلَى أمِّ كَعْبٍ، مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاءُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَسَطَهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، أبو زكرياء، ثقةٌ ثبت إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(عَبْدُ الوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ) بن ذكوان العنبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبت [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
3 -
(حُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ) المعلّم المكتب الْعَوْذيّ البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) الأسلميِّ، أبو سهل المروزيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
5 -
(سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبِ) بن هلال الفَزَاريّ، حليف الأنصار الصحابيّ المشهور، مات بالبصرة (58)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
وفي نسخة: "خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وأما عبد الله بن بريدة، فهو وإن كان مروزيًّا، إلا أنه بصريّ الأصل، فإن أباه كان ممن نزل البصرة، ثم انتقل منها إلى مرو، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُب) رضي الله عنه أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم"(وَصَلَّى عَلَى أُمِّ كعْب) جملة في محلّ نصب على الحال من "النبيّ"، وهو بتقدير "قد" عند البصريين، وجوّزه الكوفيون بلا تقديرها.
[تنبيه]: "أُمُّ كَعْب" هذه هي الأنصاريّة رضي الله عنها، ولم أجد لها ترجمة وافية، فلم يذكر في "الإصابة"، ولا في "أسد الغابة" مما يتعلّق بها غير حديث سمرة رضي الله عنه هذا، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاءُ) وفي رواية للبخاريّ: "في بطن"؛ أي: بسبب بطن؛ يعني الحمل (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا)؛ أي: لأجل الصلاة عليها (وَسَطَهَا)؛ أي: محاذيًا لوسطها، قال في "الفتح": بفتح السين في روايتنا، وكذا ضبطه ابن التين، وضبطه غيره بالسكون، وقال في "العمدة": ولا يقال بالسكون إلا في متفرّق الأجزاء، كالناس، والدوابّ، وبالفتح فيما كان متصل الأجزاء. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وحقيقة الوَسَط ما تساوت أطرافه، وقد يراد به ما يُكتَنَف من جوانبه، ولو من غير تساو، كما قيل: إن صلاة الظهر هي الوُسْطَى
(1)
، ويقال: ضربتُ وَسَطَ رأسه بالفتح؛ لأنه اسم لما يَكتنِفُهُ من جهاته
(1)
تقدم في بابه أن الأرجح أن صلاة الوسطى هي العصر.
غيره، ويصحّ دخول العوامل عليه، فيكون فاعلًا، ومفعولًا، ومبتدأً، فيقال: اتسع وَسَطُه، وضربت وَسَطَ رأسه، وجلستُ في وسَط الدّار، ووسَطُهُ خيرٌ من طرفه، قالوا: والسكون فيه لغةٌ، وأما وَسْطٌ بالسكون فهو بمعنى "بَيْنَ"، نحوُ جلست وَسْطَ القوم؛ أي: بينهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذكره الفيّوفي رحمه الله أن الوسط إذا كان بمعنى "بين" يكون ساكن السين، وما عداه يكون مفتوحها، ويجوز على قلّة سكونها، وعلى هذا فيجوز هنا الفتح والسكون، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سمرة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 2235 و 2236 و 2237](964)، و (البخاريّ) في "الحيض"(332) و"الجنازة"(1331 و 1332)، و (أبو داود) في "الجنازة"(3195)، و (الترمذيّ) في "الجنازة"(1035)، و (النسائيّ) في "الحيض"(1/ 195) و"الجنائز"(4/ 70 - 72)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1493)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 14 و 19)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 45)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة القيام عند أداء الصلاة على الجنازة.
2 -
(ومنها): إثبات مشروعية الصلاة على النفساء، وإن كانت من جملة الشهداء؛ لأنها ليست من شهداء المعركة.
3 -
(ومنها): أنّ فيه -كما قال في "الفتح"- مشروعيةَ الصلاة على المرأة، فإن كونها نفساء وصف غير معتبر، وأما كونها امرأة، فيَحْتَمِل أن يكون معتبرًا، فإن القيام عند وسطها لسترها، وذلك مطلوب في حقها، بخلاف
(1)
"المصباح" في مادّة: (وسط).
الرجل، وَيحْتَمِل أن لا يكون معتبرًا، وأن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء، فأما بعد اتخاذه، فقد حصل الستر المطلوب، ولهذا ترجم البخاريّ رحمه الله بقوله:"باب أين يقوم من المرأة والرجل؟ "، فأورده مورد السؤال، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود، والترمذيّ من طريق أبي غالب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلّى على رجل، فقام عند رأسه، وصلّى على امرأة، فقام عند عجيزتها، فقال له العلاء بن زياد: أهكذا كان رسول الله على يفعل؟ قال: نعم.
وحَكَى ابن رشيد عن ابن المرابط أنه أبدى لكونها نفساء علّة مناسبة، وهي استقبال جنينها ليناله من بركة الدعاء. وتعُقّب بأن الجنين كعضو منها، ثم هو لا يُصلَّى عليه إذا انفرد، وكان سِقْطًا، فأحرى إذا كان باقيًا في بطنها أن لا يُقصد
(1)
. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله في "الفتح"، من تضعيف حديث أنس رضي الله عنه ليس كما ينبغي، فإنه صحيح، فقد أخرجه أبو داود (3194)، والترمذيّ (1034) بسند صحيح، ولفظ أبي داود:
(3194)
- حدثنا داود بن معاذ، حدثنا عبد الوارث، عن نافع أبي غالب، قال: كنت في سِكَّة الْمِرْبَد، فمرّت جنازة، معها ناس كثير، قالوا: جنازة عبد اللُّه بن عمير، فتبعتها، فإذا أنا برجل عليه كساء رقيق، على بُرَيذِينته، وعلى رأسه خرقة، تقيه من الشمس، فقلت: مَن هذا الدهقان؟ قالوا:
(1)
تعقّب الشيخ ابن باز رحمه الله كلام الحافظ هذا، وأجاد في ذلك، فقال: القول بعدم الصلاة على السقط ضعيف، والصواب مشروعيّة الصلاة عليه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه، وكان محكومًا بإسلامه؛ لأنه ميت مسلم، فشُرعت الصلاة عليه كسائر موتى المسلمين، ولما روى أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائي، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"والسقط يصلَّى عليه، ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة"، وإسناده حسن، والله أعلم. انتهى كلام الشيخ ابن باز رحمه الله من هامش "الفتح" 4/ 108 وهو تحقيق نفيسٌ، ولمزيد التحقيق راجع: ما كتبته في "شرح النسائيّ"(19/ 187 - 189) تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(2)
"الفتح" 3/ 561 كتاب الجنائز.
هذا أنس بن مالك، فلما وُضِعت الجنازة، قام أنس، فصلى عليها، وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، فكبّر أربع تكبيرات، لم يُطِل ولم يسرع، ثم ذهب يقعد، فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فقرّبوها، وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، فصلى عليها، نحو صلاته على الرجل، ثم جلس، فقال العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي على الجنازة، كصلاتك، يكبر عليها أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة؟ قال: نعم، قال: يا أبا حمزة، غزوتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غزوتُ معه حُنينًا، فخرج المشركون، فحملوا علينا، حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا، وفي القوم رجل، يَحْمِل علينا، فيدُقُّنا، ويَحطِمنا، فهزمهم الله، وجعل يُجاء بهم، فيبايعونه على الإسلام، فقال رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ علي نذرًا إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا، لأضربن عنقه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجيء بالرجل، فلما رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله تبت إلى الله، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يبايعه، ليفي الآخر بنذره، قال: فجعل الرجل، يتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله، وجعل يهاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن يقتله، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أنه لا يصنع شيئًا بايعه، فقال الرجل: يا رسول الله نذري، فقال:"إني لم أمسك عنه، منذ اليوم، إلا لتوفي بنذرك"، فقال: يا رسول الله، ألا أومضت إلي؟، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنه ليس لنبيّ، أن يومض". قال أبو غالب: فسألت عن صنيع أنس، في قيامه على المرأة، عند عجيزتها، فحدثوني أنه إنما كان؛ لأنه لم تكن النعوش، فكان الإمام يقوم حيال عجيزتها، يسترها من القوم.
قال أبو داود: قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، نسخ من هذا الحديث الوفاء بالنذر، في قتله بقوله: إني قد تبت. انتهى.
ولفظ الترمذيّ:
(1034)
- حدثنا عبد الله بن منير، عن سعيد بن عامر، عن همام، عن أبي غالب، قال: صليت مع أنس بن مالك، على جنازة رجل، فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة، من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة، صلِّ عليها،
فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، قام - على الجنازة، مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟، قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظوا.
وفي الباب عن سمرة، قال أبو عيسى: حديث أنس هذا حديث حسن.
وقد رَوَى غير واحد عن همام مثل هذا، وروى وكيع هذا الحديث عن همام فوهم فيه، فقال: عن غالب، عن أنس، والصحيح عن أبي غالب، وقد رَوَى هذا الحديث عبد الوارث بن سعيد، وغير واحد، عن أبي غالب، مثل رواية همام، واختلفوا في اسم أبي غالب هذا، فقال بعضهم: يقال: اسمه نافع، ويقال: رافع، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا، وهو قول أحمد، وإسحاق. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا الإسناد صحيح، وأبو غالب وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وغيرهما، وقال في "التقريب": أبو غالب الباهليّ مولاهم الخيّاط البصريّ، اسمه نافعٌ، أو رافعٌ، ثقةٌ من الخامسة. انتهى.
فقد تبيّن بهذا أن الحديث صحيح، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في محل وقوف الإمام من الميت في حال الصلاة عليه: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في موقف الإمام من الرجل والمرأة إذا صلى عليهما، فقالت طائفة: يقوم بحيال الصدر رجلًا كان، أو امرأةً، هكذا قال أصحاب الرأي.
وقال الأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز: إذا كان رجلًا فقم بحذاء وسطه، وإن كانت امرأة فقم بحذاء منكبها.
وقال الثوريّ: يقوم مما يلي صدر الرجل. وكان أبو ثور يقول: يقوم وسط الجنازة. وكان الحسن البصريّ لا يبالي أين يقوم من الرجل والمرأة.
وقد روينا عن النخعي ثلاث روايات: إحداها: أن يقوم من الرجل والمرأة وسطًا. والثانية: أن يقوم عند صدر الرجل، ومنكب المرأة. والثالثة: أن يقوم عند صدر الرجل والمرأة.
وقالت طائفة: يقوم من المرأة وسطها، ومن الرجل عند صدره، هذا قول أحمد بن حنبل.
قال ابن المنذر: يقوم من المرأة وسطها، وعند رأس الرجل. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي رجّحه ابن المنذر رحمه الله هو الأرجح عندي؛ لصحة حديث أنس رضي الله عنه، كما تقدّم قريبًا، وهو مذهب الشافعيّ، وداود، وابن حزم -رحمهم الله تعالى-.
قال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله بعد حكاية المذاهب: قد عرفت أن الأدلة دلّت على ما ذهب إليه الشافعيّ، وأن ما عداه لا مُستند له، من المرفوع، بل مجرّد التعويل على محض الرأي، أو ترجيح ما فعله الصحابيِّ على فعله صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
نعم لا ينتهض مجرّد الفعل دليلًا للوجوب، ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن، ولا أولى، ولا أحسن من الكيفيّة التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
وقال في "الروضة النديّة"(ص 167): أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقف مقابلًا لرأس الرجل، ولم يثبت عنه غير ذلك، وأما المرأة، فروي أنه كان يقوم مقابلًا لوسطها، وروي أنه كان يقوم مقابلًا لعجيزتها، ولا منافاة بين الروايتين، فالعجيزة يصدُق عليها أنها وسط، وإيثار ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أئمة الفنّ الذين هم المرجع لغيرهم واجب، ولم يقل أحد من أهل العلم بترجيح قول أحد من الصحابة، أو من غيرهم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفِعلِهِ، وهذا مما لا ينبغي أن يخفى. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله العلامة الشوكافيّ رحمه الله حسن جدًّا.
وحاصله أنه يقوم مقابل رأس الرجل، ومقابل وسط المرأة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الأوسط" باختصار/ 418 - 419.
(2)
"نيل الأوطار" 4/ 82، باب موقف الإمام من الرجل والمرأة.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2236]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ (ح) وَحَدَّثَنى عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، كُلُّهُمْ عَن حُسَيْنٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أمّ كَعْبٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) تقدّم قريبًا أيضًا.
4 -
(عَليّ بْنُ حُجْرٍ) تقدّم قبل بابين.
5 -
(الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) السِّينانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، مولى بني قطيعة، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9].
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وعبيد الله وعبد الله ابني عمر، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وداود بن أبي هند، والحسين بن ذكوان المعلم.
وروى عنه إسحاق ابن راهويه، وإبراهيم بن موسى الرازي، وأبو عمار الحسين بن حريث، ويوسف بن عيسى المروزيّ، ومعاذ بن أسد، والجارود بن معاذ الترمذيّ، وأبو إسحاق الطالقانيّ، وعلي بن حجر، وآخرون.
قال ابن معين، وابن سعد: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوق صالح، وقال عليّ بن خَشْرَم: سألت وكيعًا عنه، فقال: أعرفه ثقةً، صاحب سنة، وقال الأنباريّ، عن أبي نعيم: هوأثبت من ابن المبارك، وقال أبو إسماعيل الترمذيّ: سمعت أبا نعيم ذكره، فقال: كان والله عاقلًا لبيبًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان مولده سنة خمس عشرة ومائة، ومات سنة إحدى أو اثنتين وتسعين ومائة، وقال أبو رجاء محمد بن حمدويه السبخيّ: مات في ربيع
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
الأول سنة اثنتين، وقال الحاكم: هو كبير السنّ عالي الإسناد، إمامٌ، من أئمة عصره في الحديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": كان ابن المبارك يقول: حدثني الثقة يعنيه، وقال البخاريّ: فضل بن موسى مروزيّ، أبو عبد الله ثقةٌ، وقال إبراهيم بن شماس: سألت وكيعًا عن السينانيّ، فقال: ثَبْت سمع الحديث معنا، لا نبالي سمعت الحديث منه، أو من ابن المبارك.
وقال عبد الله بن عليّ ابن المدينيّ: سألت أبي عن حديث الفضل بن موسى، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شَهَرَ سيفه فدمه هدر"، فقال: منكر ضعيفٌ.
وقال عبد الله أيضًا: سألت أبي عن الفضل وأبي تُمَيلة، فقَدَّم أبا تميلة، وقال: روى الفضل مناكير.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، برقم (964) و (1378) و (1550) و (1833) و (2154) و (2452) و (2516) و (2865).
و"حُسين" هو: ابن ذكوان ذُكر قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ حُسَيْنٍ بِهَذَا الإسْنَادِ) يعني أن كلًّا من ابن المبارك، ويزيد بن هارون، والفضل بن موسى رووا هذا الحديث عن حسين بن ذكوان المعلّم، لكنهم لَمْ يَذْكُرُوا أُمَّ كَعْبِ، وإنما قالوا:"صلى على امرأة"، أو "صلّى على أم فلان".
[تنبيه]: رواية ابن المبارك، والفضل بن موسى كلاهما عن حسين ساقها الترمذي رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(1035)
- حدّثنا عليّ بن حُجْر، أخبرنا عبد الله بن المبارك، والفضل بن موسى، عن حُسين المعلِّم، عن عبد الله بن بُريدة، عن سمرة بن جُنْدَب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة، فقام وسطها، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيحٌ؛ وقد رواه شعبة، عن حسين المعلّم. انتهى.
ورواية يزيد بن هارون، عن حسين، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(19649)
- حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حسين؛ يعني المعلِّم، عن
عبد الله بن بُريدة، عن سمرة بن جندب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى على أم فلان، ماتت في نفاسها، فقام وسطها. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2237]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَم الْعَمِّيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قالَ: قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ: لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَ هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي، وَقَدْ صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَلَاةِ وَسَطَهَا، وَنر رِوَايَةِ ابْنِ الْمُثئى: قَالَ: حَذَثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، قَالَ
(1)
: فَقَامَ عَلَيْهَا لِلصَلَاةِ وَسَطَهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.
2 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَم الْعَمِّيُّ) أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11](د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
3 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَمَا يَمْنَعُني مِنَ الْقَوْلِ إِلا أَن هَا هُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنَّي) فيه أدب العالم، وهو أن يتأدّب مع من هو أكبر منه سنًّا، أو علمًا، فلا يُحدِّث بحضرته، بل يرشد الناس إليه حتى يستفيدوا منه، وفي المسألة اختلاف بين العلماء هل التحديث بحضرة من هو أولى مكروه أم لا؟ وقد استوفيت بحثه في "شرح ألفيّة الحديث"، فراجعه تستفد.
(1)
وفي نسخة: "وقال".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(27) - (بَابُ رُكُوبِ الْمُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ إِذَا انْصَرَفَ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2238]
(965) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَ أَبو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَل، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: أتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفَرَسٍ مُعْرَوْرًى، فَرَكِبَهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ، وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ).
رجال هذا الإسناد:
1 -
(يَحْيى بْنُ يَحْيى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح، تقدّم قريبًا.
4 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَل) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
5 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْب) البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، تغيّر بآخره، فربما تلقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
6 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة السُّوائيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، نزل الكوفة، ومات بها بعد (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808، وشرح الحديث يأتي في التالي، وأخّرته إليه؛ لكونه أتمّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2239]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: صلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنِ الدَّخدَاحِ، ثُمَّ أُتِيَ بِفَرَسٍ عُرْيٍ، فَعَقَلَهُ رَجُلٌ، فَرَكِبَهُ، فَجَعَلَ يَتَوَقَّصُ بِهِ، وَنَخنُ نَتَّبِعُهُ، نَسْعَى خَلْفَهُ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلّقٍ، أَوْ مُدَلًّى فِي الْجَنَّةِ لِابْنِ الدَّحْدَاحِ"، أَوْ قَالَ شُعْبَةُ:"لِأَبِي الدَّحْدَاحِ").
رجال هذا الإسناد: ستة، والنصف الأول تقدّموا قريبًا، والثاني ذُكروا في السند الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ) ويقال له: "أبو الدحداح" أيضًا، وهو بِدالين، وحاءين مهملات، قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: لا يُعرف اسمه، لكن قال الحافظ رحمه الله في "الإصابة": إنه ثابت بن الدحداح، وأفاد أن الذي لا يُعْرَف اسمه هوأبو الدحداح الأنصاريّ،، حليف لهم، وأنه عاش إلى زمن معاوية.
وقال في حرف الثاء: ثابت بن الدحداح بن نعيم بن غَنْم بن إياس، حليف الأنصار، وكان بَلَويًّا، حالف بني عمرو بن عوف، ويقال: ثابت بن الدحداحة، ويكنى أبا الدحداح، وأبا الدحداحة.
وروى الطبرانيّ من طريق ابن إسحاق: حدّثني ابن يسار، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة ثابت بن الدحداح
…
" الحديث، وهو في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة، لكنه لم يسمّه، قال: "صلينا على ابن الدحداح
…
"، وفي رواية: "على أبي الدحداح
…
". وروى الباورديّ من طريق ابن إسحاق: حدّثني محمد بن أبي عديّ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ثابت بن الدحداحة، سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية [البقرة: 222]. وقال الواقديّ في "غزوة أحد": حدّثني عبد الله بن عمارة الخطميّ، قال: أقبل ثابت بن الدحداحة يوم أحد، فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قُتل، فإن الله حيّ لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فحَمَل بمن معه من المسلمين، فطعنه خالد، فأنفذه، فوقع ميتًا. قال الواقديّ: وبعض أصحابنا
يقول: إنه جُرح، ثم برأ من جراحته، ومات بعد ذلك على فراشه، مرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحديبية، فالله أعلم. انتهى.
(ثُمَّ أُتِيَ) بالبناء للمفعول (بِفَرَسٍ عُرْي) بضمّ العين المهملة، وسكون الراء، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: فرسٌ عُرْيٌ: لا سَرْجَ عليه، وُصِف بالمصدر، ثم جُعل اسمًا، وجُمِعَ، فقيل: خيلٌ أَعْراءٌ، مثلُ قُفْل وأَقفالٍ، قالوا: ولا يقال: فرسٌ عُريانٌ، كما لا يقال: رجلٌ عُرْيٌ. انتهى
(1)
.
وفي الرواية السابقة: " أُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بِفَرَسٍ مُعْرَوْرًى"، وهو بضم الميم، وسكون العين، وفتح الراء، وهو بمعنى عُرْي، قال أهل اللغة: اعرَوْرَيتُ الفرسَ: إذا ركبته عُرْيًا، فهو مُعْرَوْرًى
(2)
، قالوا: ولم يأت افعَوْلَى مُعَدًّى، إلا قولهم: اعرَوريت الفرسَ، واحْلَوْلَيت الشرابَ، قاله النوويّ
(3)
.
(فَعَقَلَهُ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف اسمه. انتهى
(4)
. وقال النوويّ: معناه: أمسكه له، وحبسه، وفيه إباحة ذلك، وأنه لا بأس بخدمة التابع متبوعه برضاه
(5)
. (فَرَكِبَهُ) صلى الله عليه وسلم (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع النبي صلى الله عليه وسلم (يَتَوَقَّصُ بِه)؛ أي: يتوثّب بذلك الفرس (وَنَحْنُ نَتَبِعُهُ) جملة حاليّة من الفاعل، وكذا قوله:(ئَسْعَى خَلْفَهُ)؛ أي: نُسْرع في المشي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(قَالَ) الراوي، والظاهر أنه سماك، ويدلّ على هذا رواية أحمد: رحمه الله في "مسند" لهذا الحديث من طريق شعبة، وحجاج، وفي آخره: قال حجاج في حديثه: قال رجل معنا عند جابر بن سمرة في المجلس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من عذق مُدَلًّى لأبي الدحداح في الجنة". انتهى.
فظاهر هذه الرواية أن القائل: "قال رجل معنا إلخ" هو سماك بن حرب، فتأمله، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 406.
(2)
وأثبت في "النهاية"، و"اللسان" أن اعرورى يتعدّى ويلزم، وعليه فيقال: فرش معرورٍ، ومُعْرَوْرًى، فتنبّه.
(3)
"شرح النووي" 7/ 32.
(4)
"تنبيه المعلم" ص 183.
(5)
"شرح النوويّ" 7/ 33.
(فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) قال صاحب التنبيه: لا أعرف اسمه
(1)
. (إِن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كَمْ مِنْ عِذْقٍ) بكسر العين المهملة: هو الغصن من النخلة، وأما العَذْق بفتحها، فهو النخلة بكمالها، وليس مرادًا هنا، قاله النوويّ.
وقيل: الظاهر أن المراد هنا النخلة، أو الحائط؛ لقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] واقتصار النبيّ صلى الله عليه وسلم على الواحدة لبيان أنها تكفي في الرغبة في الخير، والله تعالى أعلم.
وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قيل: إنما يقال للنخلة: عَذْق إذا كانت بحملها، وللعرجون عذق إذا كان تامًّا بشماريخه وتمره
(2)
.
و"الشماريخ": جمع شِمراخ وهو ما يكون عليه الرطب
(3)
.
(مُعَلَّقٍ، أَوْ) للشكّ من الراوي (مُدَلًّى) هو بمعنى مُعَلَّق (فِي الْجَنَّةِ لِابْنِ الدَّحْدَاحِ، أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ شُعْبَةُ: "لِأَبِي الدَّحْدَاحِ") تقدّم أنه يقال له: ابن الدحداح، وأبو الدحداح أيضًا.
[تنبيه]: ذكر القاضي عياض، والنوويّ، والقرطبيّ تبعًا لابن عبد البرّ سببًا لقصّة أبي الدحداح هذه، فقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستيعاب": ورَوَى عُقَيل، عن ابن شهاب، أن يتيمًا خاصم أبا لبابة في نخلة، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة، فبكى الغلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة:"أعطه نخلتك"، فقال: لا، فقال:"أعطه إياها، ولك بها عِذقٌ في الجنة"، فقال: لا، فسمع بذلك أبو الدحداح، فقال لأبي لبابة: أتبيع عذقك ذلك بحديقتي هذه؟ قال: نعم، فجاء أبو الدحداحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله النخلة التي سألت لليتيم إن أعطيته إياها ألي بها عذق في الجنة؟ قال: "نعم"، ثم قُتِل أبو الدحداحة شهيدًا يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رُبّ عذق مُذلَّل لأبي الدحداحة في الجنة"، ولما نزلت:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11] كان أبو الدحداح نازلًا في حائط له هو وأهله، فجاء إلى امرأته،
(1)
"تنبيه المعلم"183.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 71.
(3)
راجع: هامش "المسند"(19/ 465) تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد.
فقال: اخرجي يا أم الدحداح فقد أقرضته الله عز وجل، فتصدق بحائطه على الفقراء والمساكين
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أورد القصّة ابن عبد البرّ في "الاستيعاب"، معلّقة وموقوفة على ابن شهاب، ولم يذكر إسنادها، ويحتاج إلى النظر في إسنادها، وأولى ما يُعتمد عليه في هذه القصّة هو ما أخرجه الإمام أحمد، وابن حبّان، والحاكم، وغيرهم بغير هذا السياق.
فقال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":
(12073)
- حدّثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمُره أن يعطيني، حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أعطها إياه بنخلة في الجنة"، فأبى
(2)
، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي، ففعل، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من عذق رَداح
(3)
، لأبي الدحداح، في الجنة"، قالها مرارًا، قال: فأتى امرأته، فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني قد بعته، بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها
(4)
. انتهى.
وقال ابن حبان رحمه الله في "صحيحه"(16/ 113):
(7159)
- أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفيّ، حدّثنا أبو نصر التمار، حدّثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: أتى رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لفلان نخلةً، وأنا أقيم حائطي بها، فمره يعطيني، أقيم بها حائطي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطه إياها بنخلة في
(1)
"الاستيعاب"(4/ 1645 - 1646).
(2)
قال السنديّ رحمه الله: قيل: كان قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطه" شفاعة، لا أمرًا، وإلا عصى بخلافه. انتهى.
(3)
وقع في بعض النسخ: "راح"، والصواب:"رَداح" براء وقال مهملة خفيفة، وهو الثقيل لكثرة ما فيه من الثمار.
(4)
إسناد صحيح على شرط مسلم.
الجنة"، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي، ففَعَلَ، فأتى أبو الدحداح النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي، وقد أعطيتكها، فاجعلها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم من عذق دَوّاح
(1)
لأبي الدحداح في الجنة"، مرارًا، فأتى أبو الدحداح امرأته، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح السعر. انتهى
(2)
.
فهذا أولى مما أورده ابن عبد البرّ، وتبعه شرّاح "صحيح مسلم" كما أسلفته؛ لأن هذا متّصلٌ صحيح الإسناد، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 2238 و 2239](965)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3178)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1014)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 85)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 90 و 95 و 152) وابنه في "زوائده"(5/ 98 و 99)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 46 - 47)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7157 و 7158)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(760)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1899)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 22 - 23)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الركوب عند الانصراف من صلاة الجنازة، قال النوويّ رحمه الله: فيه إباحة الركوب في الرجوع عن الجنازة، وإنما يكره الركوب في الذهاب معها. انتهى.
(1)
"الدوّاح": هو العظيم الشديد العلوّ، وكل شجرة عظيمة دَوْحة.
(2)
إسناده صحيح أيضًا.
وسيأتي بيان اختلاف العلماء في حكم الركوب مع الجنازة في المسألة التالية- إن شاء الله تعالى-.
2 -
(ومنها): جواز ركوب الفَرَس الْعُرْيِ.
3 -
(ومنها): جواز مشي الجماعة مع كبيرهم، وهو راكب، وأنه لا كراهة فيه في حقّه، ولا في حقهم؛ إذا لم يكن فيه مفسدة، وإنما يكره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعين، أو خيف إعجاب ونحوه في حقّ المتبوع، أو نحو ذلك من المفاسد.
4 -
(ومنها): أن في قوله في رواية مسلم: "فعقله له رجل، فركبه"- أي أمسكه له، وحبسه- إباحةَ ذلك، وأنه لا بأس بخدمة التابع متبوعه برضاه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سير الراكب مع الجنازة: قال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله: قد اختُلِف في هذا الباب، فروينا عن ابن عمر بأنه كان على بَغْل راكبًا أمام الجنازة، وكان علقمة، والنخعيّ يكرهان أن يتقدّم الراكب أمام الجنازة، وقال أحمد، وإسحاق: الراكب خلف الجنازة.
وكرهت طائفة الركوب في الجنازة، روينا عن ابن عباس بأنه قال: الراكب مع الجنازة كالجالس في أهله. ورُوي عن ثوبان أنه قال لرجل راكب في جنازة: تركب، وعبادُ الله يمشون، وأخذ بلجام دابّته، فجعل يَكْبَحُها
(1)
. وروي عن الشعبيّ أنه قال كقول ابن عباس. وقد روينا عن ابن عباس رواية أخرى أنه رئي راكبًا في جنازة. وقال عبد الله بن رباح الأنصاريّ: للماشي في الجنازة قيراطان، وللراكب قيراط. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي في هذه المسألة القول الأول، وحاصله أنه يجوز الركوب لمن يتبع الجنازة، وأن الأولى أن يكون خلفها، لما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
(1)
كبح الدّابة باللجام كَبْحًا، من باب نَفَع: جذبها به لتقف.
(2)
"الأوسط" 5/ 384 - 386.
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه".
قال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في المشي مع الجنازة:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: قد اختلفوا في المشي أمام الجنازة، وخلفها، فيمن كان يرى المشي أمام الجنازة: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وأبو هريرة، والحسن بن عليّ، وابن الزبير، وأبو أُسَيد الساعديّ، وأبو قتادة، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لقد كنّا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نمشي بين يدي الجنازة، ولا يرون بذلك بأسًا. وهو قول عُبيد بن عُمير، وشُريح، والقاسم بن محمد، وسالم، والزهريّ، ومالك، والشافعيّ، وأحمد، واحتَجَّ بتقديم عمر بن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش
(1)
.
وقال أصحاب الرأي: لا بأس بالمشي قدّامها، والمشيُ خلفها أحبّ إلينا. وقال إسحاق ابن راهويه: يتأخر أحبّ إلينا، وقد روينا عن عليّ أنه مشى خلفها. وسئل الأوزاعيّ عن المشي أمام الجنازة؟ فقال: هو سعة، والأفضل عندنا خلفها.
وقالت طائفة: إنما أنتم مُتَّبِعُون، تكونون بين يديها، وخلفها، وعن يمينها، وعن شمالها، هذا قول مالك بن أنس، وبه قال معاوية بن قرّة، وسعيد بن جبير. وقال إسحاق في موضع آخر: لا بأس أن يمشي الرجل أمام الجنازة، وخلفها قريبًا.
قال ابن المنذر رحمه الله: المشي أمام الجنازة، وخلفها، وعن
(1)
قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن محمد بن المنكدر، قال: أخبرني شيخ لنا يقال له: ربيعة بن عبد الله بن الحدير، قال: رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس يقدّمهم أمام جنازة زينب بنت جحش. انتهى. وإسناده صحيح، وربيعة بن عبد الله من رجال البخاريّ.
شمالها
(1)
جائز، والمشي أمامها أحبّ إليّ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة
(2)
، ولأن عليه الأكثرَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم.
فليُكثِر من تبع الجنازة، حيث مشى منها ذكرَ الموت، والفكر في صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعدّوا للموت، ولمَا بعده، سَهَّل الله لنا حسن الاستعداد، واللقاء به انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله
(3)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله بعد أن ذكر الاختلاف بين العلماء في هذه المسألة ما نصّه:
قال أبو عمر: المشي أمام الجنازة أكثر عن العلماء، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين، وهو مذهب الحجازيين، وهو الأفضل -إن شاء الله- ولا بأس عندي بالمشي خلفها، وحيث شاء الماشي منها؛ لأن الله عز وجل لم يَحظُر ذلك، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلمُ أحدًا من العلماء كَرِهَ ذلك، ولا ذكر أن مشي الماشي خلف الجنازة يُحبط أجره فيها، ويكون كمن لم يشهدها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شهد الجنازة، حتى يصلي، فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن كان له قيراطان"، ولم يخصّ الماشي خلفها من الماشي أمامها. انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله
(4)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الإمامان الحافظان: أبو بكر بن المنذر، وأبو عمر بن عبد البرّ -رحمهما الله تعالى- في هذه المسألة هو الحقّ عندي.
وحاصله أن المشي أمام الجنازة، أفضل، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو
(1)
الظاهر أنه سقط من النسخة لفظة "وعن يمينها". والله تعالى أعلم.
(2)
الحديث مختلف في وصله وإرساله، وقد حققت ذلك في "شرح النسائي"، ورجحت وصله، فراجعه تستفد.
(3)
"الأوسط" باختصار 5/ 380 - 384.
(4)
"الاستذكار" 8/ 222 - 223. بتغيير نصّ الحديث بنصّ حديث البخاريّ رحمه الله تعالى.
حديث صحيح، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"
(1)
.
ولأنه عَمَلُ أكثر الصحابة، والتابعين، ومَن بعدهم، هذا من حيث الأفضليةُ، وإلا فالمشي حيث تيسر: أمامها، وخلفها، ويمينها، وشمالها جائز؛ لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الذي تقدّم آنفًا، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(28) - (بَاب فِي اللَّحْدِ، وَنَصْبِ اللَّبِنِ عَلَى الْمَيْتِ، وَوَضْعِ الْقَطِيفَةِ فِي الْقَبْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2240]
(966) - (حَدَّثَنَا
(2)
يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمِسْوَرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْىي بْنُ يَحْىي) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمِسْوَرِيُّ) هو: عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن الْمِسْوَر بن مَخْرَمة، أبو محمد الْمَخْرَميّ المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 170)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 22/ 1318.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 134)(خ م دت س) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.
4 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
(1)
راجع: "المجتبى" 19/ 172 - 174.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
5 -
(سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ) هو: سعد بن مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، أحد العشرة، مات رضي الله عنه سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف: رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
4 -
(ومنها): أن صحابيه أحد العشرة المبشّرين بالجنة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله رضي الله عنه، وهو آخر من مات من العشرة، مات بالعقيق رضي الله عنه سنة (55) على المشهور، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ:"أن سعدًا لَمّا حضرته الوفاة"(قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ)؛ أي: مات بسببه (الْحَدُوا لِي لَحْدًا) قال النوويّ رحمه الله: بوصل الهمزة، وفتح الحاء، ويجوز بقطع الهمزة، وكسر الحاء، يقال: لَحَدَ يَلْحَدُ، كذَهَب يَذْهَبُ، وأَلْحَدَ يُلحِد: إذا حَفَر اللحدَ، واللَّحْدُ، بفتح اللام، وضمها معروف، وهو الشقّ تحت الجانب القبليّ من القبر، وفيه دليل لمذهب الشافعيّ، والأكثرين في أن الدفن في اللحد أفضل من الشقّ؛ إذا أمكن، وأجمعوا على جواز اللحد، والشقّ. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اللحد: هو أن يُشَقّ في الأرض، ثم يُحْفَر قبر آخر في جانب الشقّ، من جهة القبلة، يُدخل فيه الميت، ويُسدّ عليه باللبن، وهو أفضل عندنا من الشقّ، وكلّ واحد منهما جائز، غير أن الذي اختار الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم هو اللحد، وذلك أنه لما أراد الصحابة أن يَحفِروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، اشتوروا في
(1)
"شرح مسلم" 7/ 38.
ذلك، وكان في المدينة رجلان، أحدهما يُلحِد، والآخر لا يَلْحِد، فقالت الصحابة: اللهم اختر لنبيّك صلى الله عليه وسلم، فجاء الذي يلحد أوّلًا، فلَحَدوا
(1)
، واشتوارهم في ذلك، واتّفاقهم يدلّ على أنه لم يكن عندهم في أفضليّة أحدهما من النبي صلى الله عليه وسلم تعيينٌ، ولذلك رجعوا إلى الدعاء في تعيين الأفضل. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قصّة اللحد للنبيّ صلى الله عليه وسلم أخرجها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(1557)
- حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا مبارك بن فَضَالة، حدّثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لَمّا تُوُفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يلحد، وآخر يَضْرَح، فقالوا: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد حسن، ومبارك بن فضالة حسن الحديث إلا أنه يدلّس، وهنا صرّح بالتحديث.
وأخرج أيضًا من طريق آخر ضعيف أن الذي كان يضرح هوأبو عبيدة بن الجزاح، والذي كان يلحد هوأبو طلحة الأنصاري.
(وَانْصِبُوا) بوصل الهمزة؛ لأنه من نَصَب، ثلاثيًّا، يقال: نَصَبتُ الخشبةَ، نَصْبًا، من باب ضرب: أقمتها، ونصبت الحجرَ: رفعتُهُ علامة، قاله في "المصباح". (عَلَى اللَّبِنَ) بفتح اللام، وكسر الموحّدة: ما يُعمل من الطين، ويُبنَى به، الواحدة لَبِنَةٌ، ويجوز التخفيف، فيصير مثلَ حِمْلٍ، قاله في "المصباح"
(3)
، وقال في "القاموس": اللَّبِن، ككَتِفٍ: المضروب من الطين مربَّعًا للبناء، ويقال فيه بالكسر، وبكسرتين، كإِبِلٍ لغةٌ، ولَبَّنَ تَلْبينًا: اتّخذه. انتهى
(4)
.
(1)
قال في "الموطّأ": (488) - وحدّثني عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: كان بالمدينة رجلان: أحدهما يلحد، والآخر لا يلحد، فقالوا: أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(2)
"المفهم" 2/ 624.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 548.
(4)
"القاموس المحيط" 4/ 265.
وقوله: (نَصْبًا) منصوب على المصدريّة، زاد في رواية أبي نعيم في "مستخرجه":"واحثُوا على التراب حَثْوًا"(كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب اللحد، ونصب اللبِن، وأنه فُعِل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق الصحابة رضي الله عنهم، وقد نَقَلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وسلم تسع. انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسالة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 2240](966)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 80)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1556)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 169 و 173 و 184)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(47)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 407) و"المعرفة"(3/ 124)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تفضيل اللحد على الشقّ، مع بيان جواز الأمرين.
2 -
(ومنها): استحباب نصب اللبن في اللحد.
3 -
(ومنها): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دُفن في اللحد، ونُصِبت عليه اللبنات، وذلك باتفاق الصحابة رضي الله عنهم، قال النوويّ رحمه الله تعالى: وقد نقلوا أن عدد لبناته صلى الله عليه وسلم تسع. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحرص على اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا وميتًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
(1)
"شرح مسلم" 7/ 38.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2241]
(967) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْن يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا غُنْدَرٌ، وَوَكِيعٌ، جَمِيعًا عَنْ شعْبَةَ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْن الْمُثَنَّى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثنَا يَحْيى بْن سَعِيدٍ، حَدَّثنا شعْبَةُ، حَدَّثنا أَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جُعِلَ في قَبْرِ رَسُولِ اللهِ على قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ.
قَالَ مُسْلِم: أَبُو جَمْرَةَ اسْمُة نَصْرُ بْن عِمْرَانَ، وَأَبُو التَّيَّاحِ، وَاسْمَهْ يَزِيدُ بْن حُمَيْدٍ، مَاتَا بِسَرَخْسَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَحْيى بْن سَعِيدٍ) القطّان تقدّم قريبًا.
8 -
(أَبُو جَمْرَةَ) نصر بن عِمران بن عِصَام الضُّبَعيّ البصريّ، نزيل خُرَاسان، ثقةٌ ثبت مشهور بكنيته [3](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
9 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) الحبر البحر رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقون تقّدموا في الباب، والباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح، غير شيخيه: يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وأبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما شيخه ابن المثنّى فمن التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير يحيى، فنيسابوري، وأبي بكر ووكيع، فكوفيّان.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث.
5 -
(ومنها): أنه ليس في الرواة من يُكنى أبا جمرة بالجيم والراء غير أبي جمرة هذا، ومن عداه كلهم فأبو حمزة بالحاء والزاي.
6 -
(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنه من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "جُعل تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دُفن"(قَطِيفَة حَمْرَاءُ)"القطيفة": كِسَاء له خَمْلٌ، جمعه قَطائف، وقُطُف بضمتين. و"الخَمْل" وزان فَلْس: الْهُدْب.
قال النوويّ رحمه الله: هذه القطيفة ألقاها شُقْران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: كَرِهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي تضعيف هذه القصّة، إن شاء الله تعالى.
وقال السيوطيّ رحمه الله: زاد ابن سعد في "طبقاته": قال وكيع: هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة، وله عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُسط تحته شمل قطيفة حمراء، كان يلبسها، قال: وكانت أرض نديّة، وله طريق آخر عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افرشوا لي قطيفتي في لحدي، فإن الأرض لم تُسلّط على أجساد الأنبياء". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى: هذان الأثران ضعيفان؛ لأنهما من مراسيل الحسن البصري، وهي ضعاف عند الجمهور، وكذا قول وكيع: إنها خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم مما لا دليل عليه، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى-.
(قَالَ مُسْلِم) بن الحجاج، صاحب الكتاب رحمه الله (أَبُو جَمْرَةَ اسْمُهُ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ، وَأَبُو التَّيَّاحِ، وَاسْمَهْ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، مَاتَا بِسَرَخْسَ) قال النوويّ رحمه الله: هوأبو جمرة بالجيم، و"الضُّبَعيّ" بضم الضاد المعجمة، وفتح الباء الموحّدة، وأما سَرَخْس، فمدينة معروفة بخُرَاسان، وهي بفتح السين، والراء، وإسكان الخاء المعجمة، ويقال أيضًا: بإسكان الراء، وفتح الخاء، والأول أشهر.
وإنما ذكر مسلم رحمه الله أبا جمرة، وأبا التيّاح جميعًا، مع أن أبا جمرة مذكور في الإسناد، ولا ذكر لأبي التياح هنا؛ لاشتراكهما في أشياء، قَلّ أن
(1)
"زهر الربى" 3/ 81 - 85.
يشترك فيها اثنان من العلماء؛ لأنهما جميعًا ضُبَعيّان، بصريّان، تابعيّان، ثقتان، ماتا بسرخس في سنة واحدة، سنة (128).
وذكر ابن عبد البرّ، وابن منده، وأبو نُعيم الأصبهانيّ عمران والد أبي جمرة في كتبهم في معرفة الصحابة، قالوا: واختَلَف العلماء، هل هو صحابيّ، أم تابعيّ؟ وكان قاضيًا على البصرة، رَوَى عنه ابنه أبو جمرة وغيره.
قال الحاكم أبو أحمد في كتابه في الكنى: ليس في الرواة من يُكنى أبا جمرة بالجيم غير أبي جمرة هذا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: قال النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى" بعد إخراجه حديث الباب ما نصّه: قال أبو عبد الرحمن: وأبو حمزة عمران بن أبي عطاء ليس بالقويّ، وأبو جمرة
(2)
، نصر بن عمران، بصريّ، ثقةٌ، وكلاهما يرويان عن ابن عباس. انتهى
(3)
.
ونحو ما قاله النسائيّ قول الترمذيّ في "جامعه": وقد رَوَى شعبة عن أبي حمزة القصّاب، واسمه عمران بن أبي عطاء، وروى عن أبي جمرة الضُّبَعيّ، واسمه نصر بن عمران، وكلاهما من أصحاب ابن عباس. انتهى
(4)
.
وقد ذكر بعضهم أن شعبة يروي عن سبعة، كلهم يكنى أبا حمزة، إلا واحدًا، وهو أبو جمرة، نصر بن عمران هذا، وكلهم يروون عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإلى ذلك أشار الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث"، حيث قال:
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ يَرْوِي شُعْبَةُ
…
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِزَايٍ عِدَّةُ
إِلَّا أَبَا جَمْرَةَ فَهْوَ بِالرَّا
…
وَهْوَ الَّذِي يُطْلَقُ يُدْعَى نَصْرَا
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"شرح مسلم" 7/ 38 - 39.
(2)
وقع في نسخة "الكبرى" أبو حمزة بالحاء المهملة في الموضعين، وهو غلط، والصواب أن الأول: بالحاء المهملة، والثاني: بالجيم بدل الحاء، فتنبّه.
(3)
"السنن الكبرى" 1/ 649 رقم الحديث 2139.
(4)
"جامع الترمذي" 4/ 149 رقم الحديث 1053 بنسخة شرح المباركفوري.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 2241](967)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1048)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 81)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2751)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 336)، و (أحمد) في "مسنده "(1/ 228 و 355)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 48)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6631)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 143)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 408)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم وضع الثوب في اللحد:
قال النوويّ رحمه الله: وقد نصّ الشافعيّ، وجميع أصحابنا، وغيرهم، من العلماء على كراهة وضع قَطِيفة، أو مُضَرَّبَة، أو مِخَدّة، ونحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذّ عنهم البغويّ من أصحابنا، فقال في كتابه "التهذيب": لا بأس بذلك؛ لهذا الحديث، والصواب كراهته، كما قال الجمهور.
وأجابوا عن هذا الحديث بأن شُقران انفرد بفعل ذلك، لم يوافقه غيره من الصحابة، ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران؛ لما ذكرناه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها، ويفترشها، فلم تطب نفس شقران أن يبتذلها أحد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخالفه غيره، فروى البيهقيّ عن ابن عباس بأنه كره أن يُجعل تحت الميت ثوب في قبره. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام النوويّ رحمه الله هذا نظر من وجوه:
(الأول): أن قوله: لم يوافقه غيره من الصحابة، ولا علموا ذلك، غير صحيح، فمَن الذي خالفه من الصحابة؟، وهذا ابن عباس يعلم بذلك، وحدّث به، ولم يثبت عنه الإنكار، وأما ما رُوي عنه من الكراهة، فسيأتي الجواب عنه قريبًا.
(1)
"شرح مسلم" 7/ 38.
(الثاني): قوله: وإنما فعله شُقران كراهة أن يلبسها أحد بعده باب إلخ، غير صحيح أيضًا، فقد أخرجه البيهقيّ (3/ 408) بسنده عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"وقد كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، أخذ قطيفة قد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يلبسها، ويفرشها، فدفنها معه في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فهذا سند ضعيف؛ لأن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشميّ الراوي عن عكرمة اتفقوا على ضعفه، ولذا قال البيهقيّ: ففي هذه الرواية إن كانت ثابتة إلخ.
والصحيح عن شقران ما أخرجه الترمذيّ بسند صحيح، عن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت شُقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر.
فلم يذكر ما ذكره النوويّ، بل أثبت وضعه لها تحته صلى الله عليه وسلم ".
وروى ابن أبي شيبة من طريق حفص، عن جعفر، عن أبيه، قال:"ألحد لرسول الله، وأَلْقَى شُقْران في قبره قطيفة، كان يركب بها في حياته"، وهذا مرسل صحيح، وأيضًا لماذا يخصّ شقران القطيفة، ويكره أن يلبسها أحد بعده، ويترك سائر ما كان يستعمله النبيّ، من قميص، وعمامة، وفراش؟ فلماذا لم يدفن جميع ذلك معه؟ هذا شيء عجيب.
ومنها: ما ذكره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره ذلك، وهذا غير صحيح أيضًا؛ لأنه ليس له إسناد، فقد ذكره الترمذيّ (1/ 195) تعليقًا بلا إسناد، وكذا البيهقيّ الذي نقل النوويّ عنه هذا الكلام، ذكره في "سننه" (3/ 408) بلفظ:"وقد رُوي عن يزيد بن الأصمّ، عن أبن عباس أنه كَرِه أن يجعل تحت الميت ثوبًا في القبر". انتهى.
فهذا غاية ما خالف فيه ابن عباس شُقران على زعم النوويّ، فكيف يُعارَض بمثل هذا ما صحّ في "صحيح مسلم" وغيره عنه أنه أثبت ذلك؟.
ومن الغريب جعل قول البغويّ من الشافعية شاذًّا مع أن الدليل الصحيح، معه، إن هذا لشيء عجيب!!!.
وبالجملة فدعوى عدم علم الصحابة بذلك عجيب!، فكيف لا يعلمون
ذلك، وقد تَوَلَّى جماعة دفنه صلى الله عليه وسلم، ولم ينفرد شقران بدفنه، حتى يخفى على الآخرين وضع القطيفة تحته صلى الله عليه وسلم؟.
ومن الغريب أيضًا ما رجحه العراقيّ في "ألفية السيرة"، من أن تلك القطيفة أُخرجت بعدما فُرشت، حيث قال فيها:
وَفُرِشَتْ فِي قَبْرِهِ قَطِيفَةُ
…
وَقِيلَ أُخْرِجَتْ وَهَذَا أَثْبَتُ
وهذا قاله تبعًا لابن عبد البرّ، فإنه رجح ذلك، وهذا لا يثبت، فإنه رواه الواقديّ، عن عليّ بن حسين- كما ذكره الحافظ في "التلخيص الحبير"(2/ 263) - وهذا مرسل، والكلام في الواقديّ شهير، فكيف يُرَجَّح ما هذا حاله على ما ثبت في "صحيح مسلم"، وغيره؟ هذا من الغرابة بمكان.
والحاصل أن الصواب جواز وضع الثوب تحت الميت.
وقد ذهب إلى هذا القول الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله، ودونك عبارته:"مسألة: ولا بأس بأن يُبسط في القبر تحت الميت ثوب "؛ لما رَوَينا من طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، نا يحيى بن سعيد القطان، نا شعبة، نا أبو جمرة، عن ابن عبّاس، قال:"بُسلط في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء"، ورواه أيضًا كذلك وكيع، ومحمد بن جعفر، ويزيد بن زُريع، كلهم عن شعبة بإسناده.
قال: وهذا من جملة ما يُكساه الميت في كفنه، وقد ترك الله تعالى هذا العمل في دفن رسوله صلى الله عليه وسلم المعصوم من الناس، ولم يمنع منه، وفعله خِيرة أهل الأرض في ذلك الوقت، بإجماع منهم، لم يُنكره أحد منهم، ولم يرد ذلك المالكيون، وهم يدّعون في أقلّ من هذا عمل أهل المدينة، وقد تركوا عملهم هنا، وفي الصلاة على الميت في المسجد. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله
(1)
. وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"المحلّى" 5/ 164.
(29) - (بَابُ الأَمْرِ بِتَسْوِيةِ الْقَبْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2242]
(968) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيَلِي، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الطَّاهِرِ، أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْهَمْدَانِي حَدَّثَهُ، وَفي رِوَايَةِ هَارُونَ، أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ شُفَع حَدَّثَهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ، فَتُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا، فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ، فَسُوِّيَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِتَسْوِيتِهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو عَلِيٍّ الْهَمْدَانيَّ) - بإسكان الميم، وبالدال المهملة- هو ثُمامة بن شُفيّ- بمعجمة، وفاء، مصغرًا الأحروجيّ، ويقال: الأصبحيّ المصريّ، سكن الإسكندريّة، ثقةٌ [3].
رَوَى عن فَضَالة بن عُبيد، وعقبة بن عامر، وأبي رَيْحانة الأزديّ، وعبد الله بن زرير الغافقيّ، وقبيصة بن ذُويب.
وروى عنه عمرو بن الحارث، وعبد الرحمن بن حرملة الأسلميِّ، وعبد العزيز بن أبي الصعبة، وبكر بن عمرو، ويزيد بن أبي حبيب، وابن إسحاق، وآخرون.
قال النسائي: ثقةٌ، وقال ابن يونس: تُوُفّي في خلافة هشام بن عبد الملك قبل العشرين ومائة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (968) و (1917) و (1918).
2 -
(فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ) بن نافذ بن قيس بن صُهَيبة، ويقال: صُهيب بن الأصرم بن جَحْجَبا بن كُلْفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن أوس،
أبو محمد الأنصاريّ، شَهِدَ أحدًا وما بعدها، وولاه معاوية الغزو، وقضاء دمشق، واستخلفه على دمشق لَمّا غاب عنها.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عُمر، وأبي الدرداء، وجماعة.
وروى عنه أبو عليّ ثُمامة بن شُفيّ، وحَنَش بن عبد الله الصنعانيّ، وعبد الرحمن بن مُحيريز، وعبد الله بن عامر اليحصبيّ، وسلمان بن سُمير، وعبد الله بن مُحيريز، وعليّ بن رَبَاح، وأبو عليّ عمرو بن مالك الْجَنْبيّ، وميسرة مولاه، ومحمد بن كعب الْقُرَظيّ، وأبو يزيد الْخَوْلانيّ، وآخرون.
قال خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه: كان أبو الدرداء على القضاء بدمشق، فلما حضرته الوفاة قال له معاوية: من ترى لهذا الأمر؟ قال: فَضَالة بن عُبيد، فلما مات أرسل إلى فضالة فولاه، وقال أبو الحسن المداينيّ، وغير واحد: مات سنة ثلاث وخمسين، وقيل: مات سنة سبع وستين، والأول الصحيح.
وقال ابن حبان في "الصحابة": سكن مصر والشام، ومات في ولاية معاوية، وكان معاوية ممن حَمَلَ سريره، وقال أبو يونس: شَهِد فتح مصر، وولي بها البحر، والقضاء لمعاوية.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (968) و (1591) وكرّره أربع مرّات.
والباقون تقدّموا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه وثمامة، فما أخرج لهم البخاريّ والترمذيّ، وغير الصحابيّ، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، من أوله إلى آخره.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.
5 -
(ومنها): أن قوله: (فِي رِوَايَةِ أَبِي الطَّاهِرِ، أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيَّ
حَدَّثَهُ، وَفِي رِوَايَةِ هَارُونَ، أَن ثُمَامَةَ بْنَ شُفَيٍّ حَدَّثَهُ، قَالَ) فيه بيان اختلاف شيخيه؛ أي: الطاهر، وهارون، على شيخهما ابن وهب، في الأداء عنه، فوقع في رواية شيخه أبي الطاهر: قوله: "أن أبا عليّ الهمداني حدّثه "؛ أي: حدّث عمرو بن الحارث، ووقع في رواية هارون: قوله: "أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ شُفَيِّ حَدَّثَهُ"، فثمامة اسم أبي عليّ الذي في رواية أبي الطاهر، فأبو عليّ كنيته، وثمامة اسمه، والضمير المنصوب في "حدّثه" في الروايتين لعمرو بن الحارث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن ثُمامة بن شُفيّ رحمه الله أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة (ابْنِ عُبَيْدٍ) بالتصغير (بِأَرْضِ الرُّومِ) بضم الراء، قال في "القاموس": الرُّوم بالضمّ جِيلٌ من ولد الرُّوم بن عِيصو. انتهى
(1)
. وقوله: (بِرُودِسَ) قال النوويّ رحمه الله: هو براء مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم دال مهملة مكسورة، ثم سين مهملة، هكذا ضبطناه في "صحيح مسلم"، وكذا نقله القاضي عياض في "المشارق" عن الأكثرين، ونقل عن بعضهم بفتح الراء، وعن بعضهم بفتح الدال، وعن بعضهم بالشين المعجمة، وفي رواية أبي داود في "السنن" بذال معجمة، وسين مهملة، وقال: هي جزيرة بأرض الروم. انتهى.
وقال في "المنهل": هي جزيرة في البحر الأبيض المتوسط -بحر الروم- مقابل الإسكندرية على ليلة منها، فتحت سنة (53) من الهجرة، في عهد معاوية رضي الله عنه، وقام بها جماعة من المسلمين، كانوا أشدّاء على الكفّار، يعترضونهم في البحر، ويقطعون سبيلهم، وكان معاوية يُدرّ عليهم الأرزاق والعطايا، ولما تولى ابنه يزيد أخرجهم منها، ولم تزل تتقلّب عليها الأيدي حتى استولى عليها السلطان سليم الثاني سنة (922) هجرية، وهي الآن تابعة لإيطاليا. انتهى
(2)
.
(1)
"القاموس" 4/ 123.
(2)
"المنهل العذب" 9/ 72.
(فَتُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا (قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(1)
. (فَأمَرَ فَضَالَة بْن كبَيْدٍ) رضي الله عنه (بِقَبْرِهِ)؛ أي: بتسوية قبره (فَسُوِّيَ)؛ أي: جُعل مساويًا للأرض، لا مرتفعًا عليها (ثُمَّ قَالَ) فَضَالة رضي الله عنه ذاكرًا لهم دليله على أمره بالتسوية (سَمِعْت رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأَمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا)؛ أي: جَعْلها مستوية بالأرض، أو المراد عدم جعلها مسنّمةً بل تُجعل مسطّحةً، وإن ارتفعت عن الأرض بقليل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 2242](968)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3219)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 88) وفي "الكبرى"(1/ 653)، و (أحمد) في "مسنده "(6/ 18 و 21)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 48)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 4)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 314)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): دل حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه هذا على أن المشروع تسوية القبر، لا تسنيمه، وفيه خلاف بين أهل العلم:
قال في "الفتح" عند شرح ما أخرجه البخاريّ من طريق أبي بكر بن عياش، عن سفيان التمار أنه حدثه:"أنه رأى قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم مسنّمًا" ما نصّه: قوله: "مسنّمًا"؛ أي: مرتفعًا، زاد أبو نعيم في "المستخرج":"وقبر أبي بكر، وعمر كذلك".
واستدلّ به على أن المستحبّ تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، والمزنيّ، وكثير من الشافعيّة، وادَّعَى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه.
(1)
"تنبيه المعلم"(ص 184).
وتعقّب بأن جماعة من قدماء الشافعيّة استحبّوا التسطيح، كما نصّ عليه الشافعيّ، وبه جزم الماورديّ، وآخرون.
وقول سفيان التمّار لا حجة فيه، كما قال البيهقيّ؛ لاحتمال أن قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن في الأول مسنّمًا، فقد روى أبو داود، والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر، قال: "دخلتُ على عائشة رضي الله عنها، فقلت: يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه، فكشفت له عن ثلاثة قبور، لا مشرفة، ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العَرْصَة
(1)
الحمراء"، زاد الحاكم: "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدّمًا، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبيّ صلى الله عليه وسلم ".
وهذا كان في خلافة معاوية رضي الله عنه فكأنها كانت في الأول مسطّحة، ثم لما بُني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَلِ الوليد بن عبد الملك صيّروها مرتفعة.
وقد روى أبو بكر الآجريّ في "كتاب صفة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم " من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند، عن غُنيم بن بسطام المدينيّ، قال: رأيت قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا، نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه.
ثم الاختلاف في ذلك في أيّهما أفضل، لا في أصل الجواز، ورجّح المزنيّ التسنيم من حيث المعنى بأن السطيح يشبه ما يُصنع للجلوس، بخلاف المسنّم، ورجحه ابن قُدامة بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا، وهو من شعار أهل البدع، فكان التسنيم أولى.
ويرجّح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فَضَالة بن عُبيد أنه أمر بقبر فَسُوِّيَ، ثم قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها". انتهى ما في "الفتح"
(2)
.
(1)
العرصة- بفتح، فسكون-: البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء. اهـ. مصباح.
(2)
"الفتح" 3/ 630 - 631.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصواب أن التسطيح هو المتعيّن؛ لحديث فضالة رضي الله عنه المذكور في الباب، وأما ما حكاه سفيان التمّار، فلا حجة فيه؛ لما تقدم في كلام البيهقيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2243]
(969) - (حَدثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَّا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْ لَا تَدَع تِمْثَالًا إِلا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا أيضًا.
3 -
(حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ) قيس، أو هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيةٌ جليلٌ، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.
4 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم جليلٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
5 -
(أَبُو الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيُّ) حيّان بن حُصين الكوفيّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن عليّ، وعمار، وعنه ابناه: جرير ومنصور، وأبو وائل، والشعبيّ.
قال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وقال ابن عبد البر: كان كاتب عمار رضي الله عنه، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا
الحديث فقط، وله ذكر بلا رواية عند الترمذيّ
(1)
.
6 -
(عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما مرّ غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة غير شيوخه، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والآخران ما أخرج لهما الترمذيّ، وغير أبي الهيّاج، فتفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ بهذا الحديث فقط.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير يحيى، فنيسابوريّ، وزهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ) بفتح الهاء، وتشديد الياء المثناة من تحت، وآخره جيم، قال السيوطيّ رحمه الله تعالى: ليس له في الكتب إلا هذا الحديث. انتهى
(2)
. واسمه حيّان بن حصين (الْأَسَدِيِّ) بفتحتين أنه (قَالَ: قَالَ في عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (أَلَّا) يَحْتَمِل أن تكون "ألا" بفتح الهمزة، وتخفيف اللام، وتشديدها، وهي أداة تحضيض، ومعناه طلب الشيء بحثّ، وهي تختصّ بالجملة الفعليّة، كما هنا، وكما قوله تعالى:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [النور: 22] وقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية [التوبة: 13].
(أَبْعَثُكَ)؛ أي: أرسلك (عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلى
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 3/ 59.
(2)
زهر الربى 4/ 88.
مثل الذي أرسلني إليه صلى الله عليه وسلم، وإنما عبّر بـ "على"؛ لما في البعث من معنى الاستعلاء والتأمير؛ أي: أجعلك أميرًا على ذلك، كما أمّرني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقوله: (أَنْ لَا تَدَعَ) يَحْتَمل أن تكون الجملة بيانًا لما بَعَث به النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًا رضي الله عنه، و"أن" مصدرية، و"لا" نافية، فيكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هو عدم تركك إلخ، ويَحْتَمِل أن تكون "أن" تفسيرية، و"لا" ناهية، والفعل مجزوم بها؛ أي: لا تترك
…
إلخ.
(تِمْثَالًا) بكسر التاء: هي الصورة المصوّرة، يقال: في ثوبه تماثيل؛ أي: صورة حيوانات مصوَّرة، قاله في "المصباح"
(2)
، وقال في "القاموس": التَّمْثَال بالفتح: التمثيل، وبالكسر: الصورة. انتهى
(3)
.
(إِلَّا طَمَسْتَهُ)؛ أي: محوته، أو غَيَّرْتَه من هيئته، بقطع رأسه، أو نحو ذلك، وفي الرواية التالية:"ولا صورةً إلا طمستها".
قال القرطبيّ رحمه الله: والتِّمْثَال: مثال صورة ما فيه روح، وهو يعمّ ما كان متجسّدًا، وما كان مصوّرًا في رقم، أو نقش، لا سيّما وقد رُوي "صورة" مكان "تمثال"، وقيل: إن المراد به هنا ما كان له شخص وجسد، دون ما كان في ثوب، أو حائط منقوشًا.
قال: وطمسها: تغييرها، وذلك يكون بقطع رؤوسها، وتغيير وجوهها، وغير ذلك، مما يذهبها. انتهى كلام القرطبي رحمه الله
(4)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ تعميم طمس جميع أنواع الصور، فلا يستثنى منها شيء؛ لعموم النصوص الواردة في النهي عن اتخاذها، والأمر بتغييرها، وأن إبقاءها منكر، والله تعالى أعلم.
(وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا) اسم فاعل، من الإشراف، وهو الارتفاع؛ أي: مرتفعًا عن الأرض.
قال السنديّ رحمه الله: قيل: المراد هو الذي بُني عليه حتى ارتفع، دون
(1)
"المرعاة" 5/ 435.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 564.
(3)
"القاموس المحيط" 4/ 49.
(4)
"المفهم" 2/ 625.
الذي أُعلم عليه بالرمل، والحصى، والحجر؛ ليعرف، فلا يوطأ، ولا فائدة في البناء عليه، فلذلك نُهي عنه. وذهب كثير إلى أن الارتفاع المأمور إزالته ليس هو التسنيم على وجه يُعلم أنه قبر، والظاهر أن التسوية لا تُناسب التسنيم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصواب أن معنى التسوية هو التسطيح، وهو غير التسنيم، فلا يُشرع التسنيم؛ لأنه مما لا يدلّ عليه دليل؛ والله تعالى أعلم.
(إِلَّا سَوَّيتَهُ)؛ أي: ألصقته بالأرض، قال النوويّ رحمه الله: فيه أن السنّة أن القبر لا يُرفع على الأرض رفعًا كثيرًا، ولا يُسنّم، بل يُرفع نحو شبر، ويسطّح، وهذا مذهب الشافعيّ، ومن وافقه، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسويتها، وهو مذهب مالك. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر الحديث على ما نقله القاضي عياض عن أكثر العلماء، وأما التسنيم، وكذا رفعه نحو شبر فمما لا دليل عليه، كما تقدم.
[تنبيه]: قال في "المنهل العذب المورود": واتفق العلماء على استحباب رفع القبر نحو شبر؛ ليُعلم أنه قبر، فيتوقى، ويُترخم على صاحبه، إلا أن يكون مسلمًا في دار الحرب، فيُخفى قبره؛ مخافةَ أن يَتعرّض له الكفّار بالأذى. انتهى
(3)
.
قمال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى اتفاق العلماء على استحباب رفع القبر شبرًا غير صحيحة؛ لما تقدم من أن التسطيح هو قول مالك، وأكثر العلماء، فأين الاتفاق المزعوم؟ واستدلاله بما أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي، من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رشّ على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء، ورفعه شبرًا"، غير صحيح؛ لأنه مرسل، فلا يصلح لردّ ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عليّ رضي الله عنه هذا، وحديث فضالة رضي الله عنه المتقدم.
(1)
"شرح السندي" 4/ 88.
(2)
"شرح مسلم" 7/ 40.
(3)
"المنهل العذب" 9/ 70.
وأما قوله: ليعلم أنه قبر إلخ، فليس ذلك مما يحيى المحظور، من رفعه عن الأرض؛ لأن كونه قبرًا يعلم من طريق آخر مأذون فيه شرعًا، وهو وضع الحجر عليه حتى يُعلم أنه قبر، كما وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم على قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه حجرًا، فقد أخرج أبو داود بإسناد حسن، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال: لما مات عثمان بن مظعون، أُخرج بجنازته، فدُفن، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحَسَرَ عن ذراعيه، قال كثير: قال المطَّلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله ل صلى الله عليه وسلم قال: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنهما، ثم حملها، فوضعها عند رأسه، وقال:"أتعلّم بها قبر أخي، وأَدْفِن إليه من مات من أهلي".
وفي إسناده كثير بن زيد مولى الأسلميين، تكلّم فيه بعضهم، ووثّقه ابن عمّار الموصليّ، وابن حبّان، وقال أحمد: ما أرى به بأسًا، وقال ابن معين: لا بأس به، وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به
(1)
.
وبالجملة فهو حسن الحديث
(2)
، فهو دليلٌ على جواز وضع الحجر علامة على القبر؛ ليُعرف أنه قبرٌ، وعلى دفن بعض الأقارب بقرب بعض، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 2243 و 2244](969)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3218)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1049)، و (النسائيّ) في
(1)
راجع ترجمته في: "تهذيب التهذيب" 3/ 458 - 459.
(2)
وقد حسّن الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
"الجنائز"(4/ 88)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 89 و 96 و 128)، و (عبد الله بن أحمد) في "زوائده"(1/ 111)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 48)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 524)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 3) و"المعرفة"(3/ 187)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 285 و 286 و 455)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الأمر بتسوية القبور إذا كانت مرتفعة.
2 -
(ومنها): شدة اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة المنكرات.
3 -
(ومنها): إزالة المنكر باليد، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا، فليغيّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، رواه مسلم.
4 -
(ومنها): عدم جواز رفع القبر عن وجه الأرض.
5 -
(ومنها): وجوب محو صور ذوات الأرواح، أو تغييرها عن هيئتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله عند شرح حديث الباب ما نصّه: فيه أن السنة أن القبر لا يُرفع رفعًا كثيرًا، من غير فرق بين من كان فاضلًا، ومن كان غير فاضل.
والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرّم، وقد صرّح بذلك أصحاب أحمد، وجماعة من أصحاب الشافعيّ، ومالك، والقول بأنه غير محظور؛ لوقوعه من السلف والخلف بلا نكير -كما قال الإمام يحيى، والمهديّ في "الغيث"- لا يصحّ؛ لأن غاية ما فيه أنهم سكتوا عن ذلك، والسكوت لا يكون دليلًا؛ إذا كان في الأمور الظنّيّة، وتحريم رفع القبور ظنّيّ.
ومِنْ رَفْعِ القبور الداخل تحت الحديث دخولًا أوّليّا الْقُبَبُ، والْمَشَاهد المعمورة على القبور، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبيّ صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك، وكم قد سَرَى عن تشييد أبنية القبور، وتحسينها، من مفاسد يَبكِي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفّار للأصنام، وعظم ذلك، فظنّوا أنها قادرة على جلب النفع، ودفع الضرّ، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء
الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربّهم، وشدّوا إليها الرحال، وتمسّحوا بها، واستغاثوا.
وبالجملة إنهم لم يَدَعُوا شيئًا، مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل زاد هؤلاء على ما كان عليه أهل الجاهلية، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام ويدعونها في الرخاء، فإذا أصابتهم شدة أخلصوا التوحيد لله تعالى، والتجأوا إليه، وتركوها، كما قال الله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65]، وأما هؤلاء فالرخاء والشدة عندهم سواء، فلا يزالون يقولون في جميع أحوالهم: يا سيدي فلان أغثنا، أنقذنا مما نحن فيه، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
قال رحمه الله: ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفظيع لا نجد مَن يغضب لله، وَيغَار، حميّة للدين الحنيف، لا عالمًا، ولا متعلمًا، ولا أميرًا، ولا وزيرًا، ولا ملكًا.
قال الجامع عفا الله عنه: بل صار الأمر بالعكس، فكم ممن ينتسب إلى العلم يراهم، ويسمعهم، فلا يُنكر عليهم، بل العلماء أنفسهم شركاء لهم في ذلك، بل هم أشد منهم، فإنهم يؤلفون كتبًا في الاستغاثة بهم، ويقرؤونها عند قبورهم، أو غيرها من المجالس، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
يَا مُصْلِحَ الْعِبَادِ يَا مِلْحَ الْبَلَدْ
…
مَنْ يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحُ فَسَدْ
قال رحمه الله: وقد تواردت إلينا من الأخبار ما لا يُشكّ معه أن كثيرًا، من هؤلاء القبوريين
(1)
، أو أكثرهم إذا توجهتْ عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك، ومعتقدك الوليّ الفلانيّ تلعثم، وتلكّأ، وأبى، واعترف بالحقّ، وهذا من أبين الأدلّة الدالّة على أن
(1)
هكذا اشتهر على الألسنة، والصواب القبريين؛ لأنه إذا نسب إلى الجمع يرد إلى واحدة، كما قال ابن مالك:
وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ
…
إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ
شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة.
فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين؛ أيّ رَزْءٍ للإسلام أشدّ من الكفر؟، وأيّ بلاء لهذا الدين أضرّ عليه من عبادة غير الله؟ وأيّ مصيبة يُصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟، وأيّ منكر يجب إنكاره، إن لم يكن إنكار الشرك البيّن واجبًا؟.
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا
…
وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
وَلَوْ نَارًا نَفَخْتَ بِهَا أَضَاءَتْ
…
وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ
انتهى كلام العلامة الشوكاني رحمه الله، ولقد أحسن، وأجاد، وأفهم، وأفاد، فجزاه الله تعالى على هذا التذكير العظيم وإنكار هذا المنكر الجسيم خير الجزاء، إنه بعباده عليم، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2244]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدثنِي حَبِيبٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "وَلَا صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) هو: محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:
(2031)
- أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا يحيى، قال: حدّثنا سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الْهَيّاج، قال: قال على رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَدَعَنَّ قبرًا مُشْرِفًا إلا سوّيته، ولا
صورةً في بيت إلا طمستها". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(30) - (بَابُ بَيَانِ النَّهْيِ عَنْ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ، وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2245]
(970) - (حَدَّثَنَا
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غَيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق بن معاوية النخعيّ الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيةٌ تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيةٌ فاضل، لكنه يدلّس ويرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
(1)
وفي نسخة: "وحدّثنا".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه وحفصًا كوفيان، والباقون مكيون، وجابر رضي الله عنه سكن مكة.
4 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ) وفي رواية عبد الرزّاق التالية: "عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أَنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم .... "، فصرّح كلٌّ من ابن جريج، وأبي الزبير بالسماع، فزالت عنهما تهمة التدليس، والحمد لله.
(قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ) ببناء الفعل للمفعول، وفي الرواية الآتية:"نُهِي عن تقصيص القبور"، و"التقصيص" بالقاف، وصادين مهملتين: هو التجصيص، والْقَصّة بفتح القاف، وتشديد الصاد: هي الجصّ، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "المصباح": الْجِصّ بكسر الجيم معروف، وهو معرّب؛ لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة عربيّة، ولهذا قيل: الإجّاص معرّب، وجَصّصت الدار عملتها بالجصّ، قال في "البارع": قال أبو حاتم: والعامّة تقول: الجَصّ بالفتح، والصواب الكسر، وهو كلام العرب، وقال ابن السّكّيت نحوه، وقال في مادّة "قصّ": والقَصّة بالفتح الجِصّ بلغه الحجاز، قاله في "البارع"، والفارابيّ. انتهى ما في "المصباح".
لكن الذي في "الصحاح"، و"القاموس" أن الْجِصّ بفتح الجيم، وتكسر. انتهى.
(1)
"شرح النووي" 7/ 37.
وقال القرطبيّ رحمه الله: التجصيص، والتقصيص: هو البناء بالجصّ، وهو القصّ، والقَصّة، والْجَصّاص، والْقَصّاص واحد، فإذا خُلِط الجصّ بالرماد، فهو الْجَيّار، وذكر معنى ذلك أبو عبيد، وابن الأعرابيّ.
قال: وبظاهر هذا الحديث قال مالك، فكره البناء، والجصّ على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه.
ووجه النهي عن البناء، والتجصيص في القبور أن ذلك مُباهاةٌ، واستعمالُ زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبّه بمن كان يُعظِّم القبور، ويعبدها، وباعتبار هذه المعاني، وبظاهر هذا النهي ينبغي أن يُقال: هو حرام، كما قال به بعض أهل العلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وقد تقدّم هذا البحث مستوفًى في الباب الماضي، فلا تكن من الغافلين.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: ذكر بعضهم أن الحكمة في النهي عن تجصيص القبور كون الجصّ أُحرق بالنار، وحينئذ، فلا بأس بالتطيين، كما نصّ عليه الشافعيّ.
قال السنديّ رحمه الله: التطيين لا يناسب ما ورد من تسوية القبور المرتفعة، كما سبق، وكذا لا يناسب قوله:"أن يُبنَى عليه"، والظاهر أن المراد النهي عن الارتفاع، والبناء مطلقًا، وإفراد التجصيص؛ لأنه أتمّ في إحكام البناء، فخُصّ بالنهي مبالغةً. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السنديّ رحمه الله هو الحقّ، لا ما قاله العراقيّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا؛ أي: نُهي عن الجلوس على القبر، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على تحريم القعود على القبر، والمراد بالقعود الجلوس عليه، وهذا مذهب الشافعيّ، وجمهور العلماء.
وقال مالك في "الموطأ": المراد بالقعود الحدث، قال النوويّ: وهذا تأويل ضعيف، أو باطل، والصواب أن المراد بالقعود الجلوس، ومما يوضّحه
(1)
"المفهم" 2/ 626 - 627.
الرواية التي ذكرها مسلم بعد هذا، من حديث أبي مَرْثَد الْغَنَويّ رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إليها"، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يَجلس أحدكم على جمرة، فَتُحرِق ثيابه، فتخلُص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر". انتهى كلام النوويّ رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
.
(وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول أيضًا، قيل: يَحْتَمِل أن المراد البناء على نفس القبر؛ ليُرفَع عن أن يُنال بالوطئ، كما يفعله كثير من الناس، أو البناء حوله، نقله السنديّ رحمه الله في شرح النسائيّ
(2)
.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: البناء يَحْتَمِل وجهين: البناء على القبر بالحجارة، أو ما يجري مجراها، والآخر أن يُضرب عليها خباء، ونحوه، وكلاهما منهيّ عنه. انتهى.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: فيه دليل على تحريم البناء على القبر، وفَضل الشافعيّ، وأصحابه، فقالوا: إن كان البناء في ملك الباني، فمكروه، وإن كان في مَقْبَرَة مُسَبَّلَة فحرام، قال الشوكانيّ رحمه الله: ولا دليل على هذا التفصيل. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الشوكانيّ رحمه الله في هذا التعقّب، فليس لنا دليل يخصص جواز بعض أنواع البناء، دون بعض، فالأرجح عدم جواز البناء مطلقًا؛ لإطلاق النصّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد ألله رضي الله عنه هذا من أفراد
المصنّف: رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"شرح مسلم" 7/ 41. وراجع: "نيل الأوطار" أيضًا 4/ 104.
(2)
"شرح السندي" 4/ 86.
(3)
"نيل الأوطار" 4/ 104.
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 2245 و 2246 و 2247](970)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3225)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1052)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 86 - 87)، و (أحمد) في "مسنده "(3/ 295 و 339)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 49)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 25)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(325)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن تجصيص القبر.
2 -
(ومنها): بيان النهي عن البناء على القبر.
3 -
(ومنها): بيان النهي عن الجلوس على القبر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): زاد في رواية النسائيّ من طريق سليمان بن موسى، عن جابر رضي الله عنه:"أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ"، وأشار النسائيّ إلى أن زيادة الكتابة في الحديث من تفرّد سليمان بن موسى، وفيما قاله نظر؛ لأنها ثبتت من رواية أبي الزبير أيضًا، فقد أخرج الحديث الترمذيّ برقم (1052) فقال: حدثنا عبد الرحمن بن الأسود، أبو عمرو البصريّ، حدثنا محمد بن ربيعة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:"نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تُجصّص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن جابر. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أفادت رواية الترمذيّ رحمه الله تحريم وطء القبور، فلا يجوز وطؤها بالأقدام، والله تعالى أعلم.
وأخرجه الحاكم أيضًا في "المستدرك"(1/ 370) من طريق سَلْم بن جُنَادة، ثنا حفص بن غياث النخعيّ، ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:"نهى رسول الله رحمه الله أن يُبنى على القبر، أو يُجَصَّص، أو يُقعد عليه، ونَهَى أن يُكتب عليه"، قال: هذا حديث على شرط مسلم، وقد أخرج بإسناده غير الكتابة، فإنها لفظة صحيحة غريبة.
قال الحاكم: وكذلك رواه أبو معاوية، عن ابن جريج، ثم أخرجه بسنده
عن سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، والكتاب فيها، والبناء عليها، والجلوس عليها"، قال: هذه أسانيد صحيحة، وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عَمَل أَخَذَ به الخلف عن السلف. انتهى.
وتعقّبه الحافظ الذهبيّ رحمه الله في "تلخيص المستدرك"، فقال: ما قلت طائلًا، ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين، فمن بعدهم، ولم يبلغةم النهي. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أن زيادة الكتابة في حديث جابر رضي الله عنه صحيحة ثابتة من طريق أبي الزبير أيضًا، فتدلّ على تحريم الكتابة على القبر
(1)
.
ثم إن الحافظ الذهبيُّ رحمه الله أحسن، وأجاد حيث تعقّب على الحاكم فيما قاله، فإن ما قاله مخالف لهذا الحديث الصحيح، ودعواه عمل المسلمين بخلافه غير صحيحة، فلم يصحّ ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وإنما هوأمر محدَث مخالف للسنة الصحيحة، فلا يجوز العمل به، بل المنقول عن السلف كراهته عكسَ ما قاله الحاكم، فقد أخرج ابن أبي شيبة في "مصنّفه"(3/ 334 - 335) بسند صحيح عن محمد -يعني ابن سيرين- أنه كره أن يُعَلَّم القبر.
وأخرج عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يعلّم الرجل قبره.
(1)
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: يحتمل أن المراد مطلق الكتابة، ككتابة اسم صاحب القبر عليه، أو تأريخ وفاته، أو المراد كتابة شيء من القرآن، وأسماء الله تعالى للتبرّك؛ لاحتمال أن يوطأ، أو يسقط على الأرض، فيصير تحت الأرجل. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن النهي عامّ لجميع أنواع الكتابة، فلا تجوز الكتابة عليه مطلقًا، فإن النصّ لم يقيّده بنوع دون نوع، فلا يخصّص شيء منها بالجواز، وأما ما قاله الحاكم من أن أئمة المسلمين من الشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، فقد ردّ الذهبيُّ عليه، فأجاد، وأفاد، فلا تغترّ به، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وأخرج عن القاسم، أنه أوصى، قال: يا بُنيّ لا تكتب على قبري، ولا تشرفنّه، إلا قدر ما يردّ عني الماء.
وأخرج عن الحسن، أنه كَرِه أن يُجعل اللوح على القبر.
فقد تبيّن بهذا أن ما ادّعاه الحاكم من عمل السلف على الكتابة على القبر غير صحيح، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف": سليمان لم يسمع من جابر، فلعلّ ابن جريج رواه عن سليمان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، وعن أبي الزبير، عن جابر، مسندًا. ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الأشجّ، عن حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن جابر، قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكتب على القبر شيء. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد عرفت أن سليمان لم ينفرد بزيادة الكتابة، بل ثبتت في رواية أبي الزبير أيضًا، فلا يضرّ في صحتها الانقطاع الذي أشار إليه الحافظ المزيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2246]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَني أَبُو الزُّبَيْرِ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور، أبو محمد الترمذيّ، نزيل الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره بعد دخوله بغداد [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
3 -
(مُحَمَّد بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهير عَمِي، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية حجاج بن محمد، وعبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 49) فقال:
(2174)
- أخبرنا سليمان بن أحمد، أنبأ إسحاق بن إبراهيم، أنبأ عبد الرزاق، أنبا ابن جريج (ح) وثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا عبد الله بن شيرويه، أنبأ إسحاق بن إبراهيم، أنبأ أبو معاوية، ثنا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، وحفص بن غياث، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر (ح) وثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن بركة، ثنا يوسف بن سعيد، ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، وأن يُبْنَى عليها، أو يُجْلَس عليها". انتهى.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2247]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نُهِيَ عَنْ تَقْصِيصِ الْقُبُورِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ
مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(أَيُّوبَ) بن أبي تميمة كيسان السختياني، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (نُهِيَ عَنْ تَقْصِيصِ الْقُبُورِ)"التقصيص" بالقاف، هو التجصيص، كما تقدّم.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(31) - (بَابُ بَيَانِ النَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، وَالصَّلَاةِ إِلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2248]
(971) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ، فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
4 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدني، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنسائي، ثم بغداديّ، وجرير، كوفيّ، ثم رازيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ) بفتح. اللام، وهي لام الابتداء، والمصدر المؤول بعدها مبتدأ، وخبره قوله:"خير"(عَلَى جَمْرَةٍ) -بفتح، فسكون-: القطعة الملتَهِبَةُ من النار، والجمع جَمْر، مثلُ تمرة وتمر (فَتُحْرِقَ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإحراق رباعيًّا، يقال: أحرقتْهُ النارُ، إحراقًا، ويتعدّى بالحرف، فيقال: أحرقته بالنار، فهو مُحرَقٌ، وحَرِيق، قاله في "المصباح"
(1)
، وَيحْتَمل أن يكون من التحريق، والضمير للجمرة (ثِيَابَهُ) بالنصب على المفعوليّة (فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ) "تَخْلُص" بضم اللام؛ أي: تَصِلَ إليه، يقال: خَلَصَ إلى الشيء، من باب قعد: إذا وَصَلَ إليه
(2)
. (خَيْرُ لَهُ)؛ أي: أحسن، وأهون عليه (مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ") قال الطيبيّ رحمه الله: جعل الجلوس على القبر، وسِرَاية مضرّته إلى قلبه، وهو لا يشعُر بمنزلة سراية النار من الثوب إلى الجلد. انتهى.
وقال في "الروضة النديّة": قال في "الحجة البالغة": ومعنى أن لا يَقْعُد عليه، قيل: أن يلازمه المزوِّرون، وقيل: أن يطأوا القبور، وعلى هذا فالمعنى إكرام الميت، فالحقّ التوسط بين التعظيم الذي يقارب الشرك، وبين الإهانة وترك الموالاة به. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 131.
(2)
راجع: "القاموس" 2/ 301.
(3)
"الروضة الندية" 1/ 479.
والحديث دليلٌ على أنه لا يجوز الجلوس على القبر مطلقًا، وأن المراد الجلوس على حقيقته، وليس كناية عن البول والغائط، كما قيل.
وإلي التحريم ذهب الجمهور، قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث تحريم القعود، والمراد الجلوس عليه، هذا مذهب الشافعيّ، وجمهور العلماء رحمهم الله تعالى، وقال أيضًا: والقعود عليه حرام، وكذا الاستناد إليه، والاتكاء عليه. انتهى
(1)
.
وأما ما رواه الطحاويّ من طريق محمد بن كعب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"من جلس على قبر، يبول عليه، أو يتغوّط، فكأنما جلس على جمر"، فإسناده ضعيف.
وما روي أنّ ابن عمر كان يجلس على القبر يُحْمَل على أنه لم يبلغه النهي
(2)
، واللة تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 2248 و 2249](971)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3228)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(2044) و"الكبرى"(2171)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1566)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 311 و 444 و 528)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7/ 436)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 50)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 79) و"معرفة السنن "(3/ 206)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 26)، و (الطبراني) في "الأوسط"(1/ 217)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في حكم الجلوس على القبر:
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: الآثار مروية من طرق عن
(1)
"شرح مسلم" 7/ 41، كتاب الجنائز.
(2)
راجع: "المرعاة" 5/ 434.
النبي صلى الله عليه وسلم أنه نَهَى عن القعود على القبور، من حديث عقبة بن عامر، وجابر، وأبي هريرة، وغيرهم، ومن الرواة من يوقف حديث عقبة، وحديث أبي هريرة، ويجعله من حديثهما.
وأما حديث جابر، فذكر عبد الرزاق، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنا ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يَقْعُد الرجل على القبر، ويُقصّص، أو يبنى عليه. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقعَد عليها؛ يعني القبور.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أطأ على جمرة حتى تُطفأ أحبّ إليّ من أقعد على قبر، وعن أبي بكرة مثله سواءً.
وعن أبي هريرة، قال: لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتُحرق رداءه، ثم قميصه، ثم إزاره، حتى تخلُص إلى جلده أحبّ إليّ من أن يجلس على قبر.
وروى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، أن أبا الخير حدثه أن عقبة بن عامر قال: لأن أطأ على جمرة، أو على حدّ سيف حتى يخطف رجلي أحبّ إليّ من أن أمشي على مسلم، وما أبالي في القبور قضيت حاجتي، أو في السوق، والناس ينظرون.
وقال مالك رحمه الله: وإنما نهي عن القعود على القبور، فيما نُرَى للمذاهب، يريد حاجة الإنسان. وحجته أن عليّ بن أبي طالب كان يتوسّد القبور، ويضطجع عليها.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حُنيف أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال له: هلمّ يا ابن أخي إنما نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر لحدثِ بولٍ، أو غائط. انتهى كلام أبي عمر رحمه الله. بتصرّف، واختصار
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالجلوس القعود عند الجمهور، وقال مالك: المراد بالقعود الحدث، وهو تأويل ضعيف، أو باطل. انتهى.
قال في "الفتح": وهو يوهم انفراد مالك بذلك، وكذا أوهمه كلام ابن
(1)
"الاستذكار" 8/ 306 - 308.
الجوزيّ، حيث قال: جمهور الفقهاء على الكراهة، خلافًا لمالك، وصرّح النوويّ في "شرح المهذّب" بأن مذهب أبي حنيفة كالجمهور، وليس كذلك، بل مذهب أبي حنيفة، وأصحابه يقول مالك، كما نقله عنهم الطحاويّ، واحتجّ له بما أخرجه من طريق بكير بن عبد الله بن الأشجّ، أن نافعًا حدثه: أنّ عبد الله ابن عمر كان يجلس على القبور، وأخرج عن عليّ نحوه، وعن زيد بن ثابت، مرفوعًا:"إنما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور لحدث غائط، أو بول"، ورجال إسناده ثقات.
ويؤيّد قول الجمهور ما أخرجه أحمد، من حديث عمرو بن حزم الأنصاريّ، مرفوعًا:"لا تقعدوا على القبور"، وفي رواية له، عنه: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا متكئ على قبر، فقال:"لا تؤذ صاحب القبر". وإسناده صحيح
(1)
، وهو دالّ على أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته.
وردّ ابن حزم التأويل المتقدّم بأن لفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتُحرق ثيابه، فتخلُص إلى جلده
…
"، قال: وما عهدنا أحدًا يقعد على ثيابه للغائط، فدلّ على أن المراد القعود على حقيقته.
وقال ابن بطّال: التأويل المذكور بعيد؛ لأن الحدث على القبر أقبح من أن يُكرَه، وإنما يُكره الجلوس المتعارف. انتهى ما في "الفتح"
(2)
.
قمال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور من تحريم الجلوس على القبور هو الصواب؛ للأحاديث الصحاح التي تقدّمت.
وأما ما احتجّ به الذين قالوا إن المراد بالجلوس قضاء الحاجة عليها، كما نُقل عن مالك، وغيره، من الآثار التي رُويت عن عليّ، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة رضي الله عنهم، فالجواب عنها، أن نقول: أما أثر عليّ رضي الله عنه فضعيف؛ لأن في سنده مولى لآل علي رضي الله عنه، ولم يسمّ.
(1)
ليس كما قال، بل في إسناد الحديث الأول النضر بن عبد الله السلمي، وهو مجهول، وفي إسناد الثاني عبد الله بن لهيعة، والكلام فيه معروف. لكن متن الحديث صحيح بشواهده، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
(2)
"الفتح" 3/ 589 - 590، كتاب الجنائز.
وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما، وإن كان صحيحًا، فلا يعارض الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يُحْمَل على أنه لم يبلغه النهي.
وأما أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه، وإن كان صحيحًا، فلا يعارض الأحاديث الصحاح الصريحة بالنهي عن الجلوس، بل هو حديث آخر، سمعه زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ينهى عن الجلوس لقضاء الحاجة، كما سمعه الآخرون ينهى عن مطلق الجلوس، فهذا هو وجه العمل بالحديثين، وإن سلكنا مسلك الترجيح، فالأحاديث الأخرى ترجّح عليه؛ لكونها أقوى منه، فقد أخرجها مسلم في "صحيحه"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومن حديث أبي مَرْثَد الغنويّ رضي الله عنه، ومن حديث جابر رضي الله عنه، وورد أيضًا من حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه، عند النسائيّ، وفي سنده ضعف، لكن يتقوّى بالأحاديث المذكورة، فهذه الأحاديث أرجح من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأقوى، فترجّح عليه، لكن الجمع أولى، كما أسلفناه آنفًا.
وأما أثر أبي هريرة رضي الله عنه فضعيف؛ لأن في سنده محمد بن أبي حميد الأنصاري الزُّرَقيّ المدنيّ، لقبه حماد، ضعيف، فالصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع، وهو النهي عن الجلوس.
فتبيّن بهذا أن الصواب هو ما عليه الجمهور من المنع عن الجلوس على القبور مطلقًا، وأن النهي فيه للتحريم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2249]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: عبد العزيز بن محمد الدراورديّ الْجُهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الزقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
4 -
(أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ الكوفي، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية الدراورديّ، عن سفيان ساقها البيهقيّ في "السنن الكبرى" (79/ 4) فقال:
(7006)
- وأخبرنا أبو صالح بن أبي طاهر العنبريّ، أنبأ جدّي، يحيى بن منصور القاضي، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا عبد العزيز؛ يعني ابن محمد، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لأن يجلس أحدكم على جمرة، أو على نار، فتحرق ثيابه، حتى تخلص إليه، خير له من أن يجلس على قبر". انتهى.
وأما رواية أبي أحمد الزبيريّ عن سفيان، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2250]
(972) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ وَاثِلَةَ، عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 2.
2 -
(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(ابْنُ جَابِرٍ) هو: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزديّ، أبو عتبة الشاميّ الدارانيّ، ثقةٌ [7] مات سنة بضع (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
4 -
(بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ الله) الحضرميّ الشاميّ، ثقةٌ حافظٌ [4].
رَوَى عن واثلة، وعمرو بن عَبَسَة، ورُويفع بن ثابت، وعبد الله بن مُحيريز، وأبي إدريس الخولانيّ، وغيرهم.
وروى عنه عبد الله بن العلاء بن زَبْر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وزيد بن واقد، وغيرهم.
قال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، قال أبو مسهر: هو أحفظ أصحاب أبي إدريس، وقال مروان بن محمد: من كبار أهل المسجد، ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (972) وأعاده بعده، و (1847).
5 -
(وَاثِلَةُ) بن الأسقع الليثي رضي الله عنه، تقدم في "صلاة المسافرين" 52/ 1930.
6 -
(أَبُو مَرْثَدٍ
(1)
الْغَنَوِيُّ) كَنّاز -بفتح الكاف، وتشديد النون، آخره زاي- ابن الْحُصين بن يَرْبُوع بن عَمْرو بن يَربوع بن سَعْد بن طَرِيف بن
(1)
بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلّثة، وآخره دال.
جُلّان بن غَنْم بن غَنِيّ بن أَعْصُر بن سَعْد بن قَيس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ، حليف حمزة بن عبد المطلب، شَهِد بدرًا، وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب فقط، روى عنه واثلة بن الأسقع، وآخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين عُبادة بن الصامت رضي الله عنهما.
قال الواقديّ: تُوُفّي سنة (12) من الهجرة.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالشاميين، غير شيخه، فمروزيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ رضي الله عنهما.
4 -
(ومنها): أنه لا يُعْرَف مَن شَهِدَ بدرًا مع ابنه إلا أبو مرثد هذا وابنه مرثد، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الأثر" فقال:
النّوَوي مَا عَرَفُوا مَنْ شَهِدَا
…
بَدْرًا مَعَ الْوَالِدِ إِلَّا مَرْثَدًا
5 -
(ومنها): أن أبا مرثد من المقلِّين من الرواية، فليس له غير حديث واحد، وهو حديث الباب، عند المصنّف، وأبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ) كَنَّاز بن الحصين رضي الله عنه (الْغَنَوِيِّ) - بفتح الغين المعجمة، والنون-: نسبة إلى غَنِيّ أحد أجداده كما مر في نسبه؛ لأن القاعدة في النسبة إلى فَعِيل معتلِّ اللام، كغَنِيّ، وعَديّ، وفُعَيل مصغّرًا، كقُصَي، وجوب حذف يائه، وفتح عينه، فتقول: غَنَويّ، وعَدَويّ، وقُصَويّ، كما قال في "الخلاصة":
وَفَعَلِيٌّ فِي فَعِلَةَ الْتُزِمْ
…
وَفُعَلِيٌّ فِي فُعَيْلَةَ حُتِمْ
وَأَلْحَقُوا مُعَلَّ لَامٍ عَرِيَا
…
مِنَ الْمِثَالَيْنِ بِمَا التَّا أُوليَا
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ) قال السنديّ رحمه الله: الظاهر أن المراد بالجلوس معناه المتعارف، وقيل: كناية عن قضاء الحاجة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الصواب ما عليه الجمهور من أن المراد الجلوس المتعارف، وأن الحقّ هو تحريم الجلوس على القبور، واستوفيت تمام البحث في ذلك في المسألة الثالثة من شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا")؛ أي: بالاستقبال إليها؛ لما فيه من التشبه بعبادتها، قاله السنديّ رحمه الله.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى قبر، قال الشافعيّ رحمه الله: وأكره أن يُعَظَّم مخلوق حتى يُجْعَل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن النهي هنا للتحريم؛ إذ لا صارف له، فلا تصح الصلاة إلى القبر مطلقًا، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي مرثد الغنويّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 2250 و 2251](972)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3229)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1051)، و (النسائيّ) في "القبلة"(2/ 67)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 135)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(793)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(6/ 91)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 51)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 243 - 244)، و (الطبرانيّ) في
"الكبير"(11/ 939)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 83)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 172)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 435 و 4/ 79) و"المعرفة"(2/ 255 و 3/ 26)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة إلى المقبرة، ومثله الصلاة فيها، وعليها:
[اعلم]: أنهم قد اختلفوا في ذلك، فذهب أحمد رحمه الله إلى تحريم الصلاة في المقبرة، ولم يُفَرِّق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيئًا يقيه من النجاسة، أم لا، ولا بين أن يكون في القبور، أو في مكان منفرد عنها كالبيت، وإلى ذلك ذهبت الظاهرية، ولم يفرقوا بين مقابر المسلمين والكفار.
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: وبه يقول طوائف من السلف، روينا عن نافع بن جبير بن مطعم أنه قال: يُنْهَى أن يصلى وسط القبور، والحمام، والحُشّان
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تصلين إلى حُشّ، ولا في حمام، ولا في مقبرة. وعن إبراهيم النخعيّ، قال: كانوا يكرهون أن يتخذوا ثلاثة أبيات قبلة: الحش، والحمام، والقبر. وعن العلاء بن زياد، عن أبيه، وعن خيثمة بن عبد الرحمن أنهما قالا: لا تصلِّ إلى حمام، ولا إلى حش، ولا وسط مقبرة. وقال أحمد: من صلى في حمام أعاد أبدًا.
وعن أنس قال: رآني عمر بن الخطاب أصلي إلى قبر، فنهاني، وقال: القبر أمامك. وعن ثابت البناني، عن أنس، قال: رآني عمر بن الخطاب أصلي عند قبر، فقال لي: القبر لا تصلي إليه، قال ثابت: فكان أنس يأخذ بيدي إذا أَرَدَ أن يصلي، فيتنحى عن القبور.
(1)
"الْحُشّان" بالضمّ والكسر جمع حَشّ بالفتح والضمّ: النخل المجتمع، أو البستان، والمراد محلّ قضاء الحاجة.
وعن علي بن أبي طالب: من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد. وعن ابن عباس رفعه: "لا تصلوا إلى قبر، ولا على قبر". وعن ابن جريج، أخبرني ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يقول: قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قال ابن جريج: قلت لعطاء: أتكره أن تصلي وسط القبور، أو إلى قبر؟ قال: نعم، كان يُنهى عن ذلك، لا تصلّ وبينك وبين القبلة قبر، فإن كان بينك وبينه سترة ذراع فصلّ. قال ابن جريج: وسئل عمرو بن دينار عن الصلاة وسط القبور؟، فقال: ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلعنهم الله".
قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال: لا أعلمه إلا أنه كان يكره الصلاة وسط القبور كراهية شديدة. وعن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا إذا خرجوا في جنازة تنخوا عن القبور للصلاة. وقال أحمد: من صلى في مقبرة، أو إلى مقبرة أعاد أبدًا.
فهؤلاء عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس ما نعلم لهم مخالفًا من الصحابة رضي الله عنهم
(1)
. انتهى كلام ابن حزم
(1)
قال الشوكانيّ رحمه الله: قوله: "لا نعلم لهم مخالفًا إلخ" إخبار عن علمه، وإلا فقد حكى الخطابيّ في "معالم السنن" عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة، وحكى أيضًا عن الحسن أنه صلى في المقبرة. انتهى. "نيل الأوطار" 2/ 236.
وقال النوويّ رحمه الله: قال ابن المنذر: روينا عن عليّ، وابن عبّاس، وابن عمر، وعطاء، والنخعيّ أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة، ولم يكرهها أبو هريرة، وواثلة بن الأسقع، والحسن البصريّ، وعن مالك فيه روايتان أشهرهما لا يكره ما لم يُعلم نجاستها، وقال أحمد: الصلاة فيها حرام، وفي صحّتها روايتان، وإن تحقّق طهارتها، ونقل صاحب "الحاوي" عن داود أنه قال: تصحّ الصلاة، وإن تحقّق نبشها. انتهى. "المجموع" 3/ 158.
باختصار
(1)
.
وذهب الشافعي إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة، وغيرها، فقال: إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم، وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته
(2)
.
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرّقوا كما فرّق الشافعي، ومن معه بين المنبوشة وغيرها.
وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة، والأحاديث ترد عليه. وقد احتج له بعض أصحابه المالكية بما يقضي منه العجب
(3)
؛ فاستدل له بأنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة السوداء، وأحاديث النهي لا تقصر عن الدلالة على التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له، وقد تقرر في الأصول أن النهي يدل عَلَى فساد المنهي عنه، فيكون الحق التحريم والبطلان؟ لأن الفساد الذي يقتضيه النهي هو المرادف للبطلان من غير فرق بين الصلاة على القبر وبين المقابر، وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة، أفاده العلامة الشوكاني رحمه الله
(4)
.
(1)
"المحلى" 4/ 30 - 32.
(2)
ونصق النوويّ في "المجموع" باختصار: أما حكم المسألة، فإن تحقّق أن المقبرة منبوشة لم تصحّ صلاته فيها بلا خلاف إذا لم يبسط تحته شيء، وإن تحقّق عدم نبشها صحّت صلاته بلا خلاف، وهي مكروهة كراهة تنزيه، وإن شك في نبشها فقولان، أصحّهما تصحّ الصلاة مع الكراهة، والثاني لا تصحّ. انتهى. "المجموع" 3/ 158.
وقوله: "بلا خلاف": أي بين أصحاب الشافعيّ، لا بين جميع أهل العلم مطلقًا، فتنبه.
قال الجامع: هذه التفاصيل التي ذُكرت في مذهب الشافعي مما لا يخفى بعدها؛ لكونها مخالفة لإطلاق النصوص، فتبضر.
(3)
هكذا النسخة، ولعل الصواب:"بما لا يقضي منه العجب"، والله تعالى أعلم.
(4)
"نيل الأوطار" 2/ 336 - 337.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ ما ذهب إليه المانعون من الصلاة في المقبرة، أو إليها، أو عليها مطلقًا، وأن الصلاة باطلة؛ لأن النهي للتحريم، ولا صارف له، والنهي يقتضي الفساد والبطلان، إلا الصلاة على الميت بعدما دُفن؛ فمانها صحيحة؛ عملًا بما صح من الأحاديث في ذلك، كما تقدّم بيان ذلك، فعموم النهي عن الصلاة فيها، وإليها، مخصوص بأحاديث الصلاة على الميت، وبهذا تجتمع الأحاديث من غير تعارض، وبالله التوفيق.
قال العلامة المحقّق أبو محمد بن حزم رحمه الله: وكل هذه الآثار حقّ، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا، إلا صلاة الجنازة؛ فإنها تصلى في المقبرة، وعلى القبر الذي قد دُفن صاحبه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نُحَرِّم ما نَهَى عنه، ونَعُدّ من القرب إلى الله تعالى أن نفعل مثل ما فعل، فأمره ونهيه حقّ، وفعله حقّ، وما عدا ذلك فباطل، والحمد لله رب العالمين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله أبو محمد رحمه الله تحقيق حقيق بالقبول؛ لموافقته لصحيح المنقول، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2251]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا
(2)
حَسَنُ بْنُ الزَبِيعِ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ يَزِيدَ
(3)
، عَنْ بُسْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ، وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا").
(1)
"المحلّى" 4/ 32.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ الْبَجَلِيُّ) أبو عليّ الْبُورانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 220 أو 221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
2 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله الإمام الحجة الحافظ الشهير المروزيّ [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
3 -
(أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) عائد بن عبد الله، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، وسمع من كبار الصحابة [2] مات سنة (80)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
والباقون ذُكروا قبله، و"عبد الرحمن بن يزيد" هو:"ابن جابر" المذكور في السند الماضي.
[تنبيه]: قد تكلّم العلماء في رواية ابن المبارك هذه، فقال الترمذيّ في "الجامع " بعد إخرج الحديث ما نصّه: قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاريّ-: حديث ابن المبارك خطأ، إنما هو عن بسر بن عبيد الله عن واثلة، هكذا رَوَى غير واحد، عن ابن جابر، وبُسرٌ سمع من واثلة.
وقال في "العلل الكبرى": سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: حديث الوليد بن مسلم أصحّ، وهكذا روى غير واحد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن واثلة بن الأسقع. انتهى
(1)
.
وقال أبو الحسن الدارقطنيّ: زاد ابن المبارك في إسناد هذا الحديث: "أبا إدريس الخولانيّ " ولا أحسبه إلا أدخل حديثًا في حديث؛ لأن وهيب بن خالد رواه عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكره الحافظ المزيّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"علل الترمذيّ " 1/ 151.
(2)
"تحفة الأشراف" 8/ 329، و"تهذيب الكمال" 24/ 225.
وعبارة "العلل" للدارقطنيّ: (1199) وسئل عن حديث أبي مَرْثد الغَنَويّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا عليها"، فقال: يرويه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، واختُلِف عنه، فرواه الوليد بن مسلم، وصدقة بن خالد، وبكر بن يزيد الطويل، ومحمد بن شعيب، وأيوب بن سُويد، وغيرهم، عن ابن جابر، عن بُسْر بن عبيد الله، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد.
وخالفهم عبد الله بن المبارك، وبشر بن بكر، فروياه عن ابن جابر، عن بسر، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي مرثد، والمحفوظ ما قاله الوليد، ومن تابعه، عن ابن جابر، لم يذكر عن أبي إدريس فيه، ورواه وهيب بن خالد، عن ابن جابر بإسناد آخر، عن القاسم بن مُخَيمرة، عن أبي سعيد الخدرفي، ولم يُتابَع عليه، والصحيح حديث واثلة، عن أبي مرثد. انتهى
(1)
.
وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في "مقدمته" رواية ابن المبارك المذكورة مثالأ للمزيد في متصل الأسانيد، وهاك نصه:
(النوع السابع والثلاثون معرفة المزيد في متصل الأسانيد) مثاله ما روى عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني بسر بن عبيد الله، قال: سمعت أبا إدريس، يقول: سمعت واثلة بن الأسقع، يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها".
فذِكْرُ سفيان في هذا الإسناد زيادة وَهَم، وهكذا ذِكْرُ أبي إدريس، أما الوهم في ذكر سفيان فممن دون ابن المبارك لا من ابن المبارك؟ لأن جماعة ثقات رووه عن ابن المبارك، عن ابن جابر نفسه، ومنهم من صرّح فيه بلفظ الإخبار بينهما.
وأما ذكر أبي إدريس فيه فابن المبارك منسوب فيه إلى الوهم؛ وذلك لأن
(1)
"العلل" للدارقطنيّ 7/ 43.
جماعة من الثقات رووه عن ابن جابر، فلم يذكروا أبا إدريس بين بسر وواثلة، وفيهم من صرّح فيه بسماع بسر من واثلة.
قال أبو حاتم الرازي: يرون أن ابن المبارك وَهِمَ في هذا، وكثيرًا ما يُحَدِّث بسر عن أبي إدرشى، فغَلِطَ ابن المبارك، وظنّ أن هذا مما روى عن أبي إدريس، عن واثلة، وقد سمع هذا بسر من واثلة نفسه.
قال: قد ألّف الخطيب الحافظ في هذا النوع كتابًا سماه "تمييز المزيد في متصل الأسانيد" وفي كثير مما ذكره نظر؛ لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظة "عن" في ذلك، فينبغي أن يحكم بإرساله، ويجعل معللًا بالإسناد الذي ذكر فيه الزائد، وإن كان فيه تصريح بالسماع، أو بالإخبار، كما في المثال الذي أوردناه فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجل عنه، ثم سمعه منه نفسِهِ، فيكون بُسْر في هذا الحديث قد سمعه من أبي إدريس، عن واثلة، ثم لقي واثلة، فسمعه منه، كما جاء مثله مصرحاً به في غير هذا، الفهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونه وهمًا، كنحو ما ذكره أبو حاتم في المثال المذكور، وأيضًا فالظاهر ممن وقع له مثل ذلك أن يذكر السماعين، فإذا لم يجئ عنه ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة، والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لكن الإمام مسلمًا رحمه الله يرى صحة الطريقين، فلذا أخرج الحديث بالطريقين، وهو الظاهر، فإن ابن المبارك إمام حافظٌ ثبتٌ تقبل زيادته، ولم ينفرد بذلك، بل تابعه عليه بشر بن بكر، كما سبق عن الدارقطنيّ، وبشر ثقةٌ، فاتّفاقهما يدلّ على أن الحديث محفوظ بزيادة أبي إدريس، كما أنه محفوظ بحذفه، فالظاهر ما مشى عليه مسلم رحمه الله، من صحّة الطريقين، فتامله بالإنصاف.
وقد أخرج ابن حزم رحمه الله الحديث في "الْمُحَلى"(29/ 4) محتجًا به، وهاك نصه: حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، ثنا أحمد بن الفضل الدينوري، ثنا محمد بن جرير الطبري، ثنا محمد بن بشار بندار، ثنا عبد
(1)
"مقدّمة ابن الصلاح"(ص 289 - 290) بنسخة "التقييد والإيضاح".
الرحمن بن مهدي، ثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني بُسر بن عبيد الله، سمعت أبا إدريس الخولاني، قال: سمعت واثلة بن الأسقع، يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلّوا إليها".
قال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على"المحلَّى" ما نصه: ويظهر أن بسرًا سمع الحديث من أبي إدريس، عن واثلة، ثم من واثلة، ولذلك جاء عنه بالإسنادين في "مسند أحمد"، و"صحيح مسلم"، وصرح بالسماع من واثلة في أبي داود، و"المسند". اهـ.
ونص "المسند"(4/ 135): حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت ابنُ جابرٍ يقول: حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي، أنه سمع واثلة بن الأسقع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
فقد صرّح بُسْرٌ بسماعه من أبي إدريس، كما في "المسند"، و"المحلَّى"، ومن واثلة كما في "المسند" وأبي داود (3/ 217).
قال الجامع عفا الله عنه: فظهر بهذا صحة الطريقين، وهذا أولى من تخطئة ابن المبارك الإمام الجبل في الحفظ، مع أنه تابعه عليه بشر بن بكر، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(32) - (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2252]
(973) - (وَحَدَّثَنِي
(1)
عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ، قَالَ عَلِي: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ أَمَرَتْ أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَة سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأَنكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ، مَا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ الْبَيْضَاءِ إِلَّا في الْمَسْجِدِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن واهويه الإمام الحجة الثبت [10](ت 238)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ حَمْزَةَ) بن عبد الله بن الزبير الأسديّ، أبو حمزة المدنيّ، لا باس به [6].
رَوَى عن عمة عباد بن عبد الله بن الزبير، وعنه موسى بن عقبة، وعبد الوا حد بن فلاد، والدراورديّ.
قال ابن معين: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.
3 -
(عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ المدنيّ، كان قاضي مكة زمن أبيه، فخليفته إذا حجّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وجدته أسماء، وخالة أبيه عائشة، ورجل من بني مُرّة بن عوف، وعمر بن الخطماب، وزيد بن ثابت.
وروى عنه ابنه يحيى، وابن أخيه عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله، وابنا عميه: هشام بن عروة ومحمد بن جعفر، وصالح بن عجلان، وابن أبي مليكة، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال الزبير بن بكار: كان عظيم القَدْر عند أبيه، وكان على قضائه بمكة، وكان يستخلفه إذا حجّ، وكان أصدق الناس لهجةً، ووصفه مصعب الزبيريّ بالوقار، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وأما روايته عن عمر بن الخطاب فمرسلة بلا تردد.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (973) وأعاده بعده، و (1029) و (1112) وأعاده بعده، و (2444).
4 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي، وعبد العزيز بن محمد هو: الدراورديّ.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لما مرّ غير مرّة.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، فمروزيان.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن خالة أبيه.
4 -
(ومنها): أن فيه عائشة من المكثرين السبعة، روت (2210)، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبَادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَن عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَمَرَتْ أَنْ يُمَرَّ) بالبناء للمفعول (بِجَنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ) رضي الله عنه (فِي الْمَسْجِدِ) النبويّ، وفي الرواية الثالثة:"قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه".
وإنما أمرت عائشة رضي الله عنه بذلك؛ لامتناعها هي وسائر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخروج مع الناس؛ عملًا بقوله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الآية [الأحزاب: 33].
(فَتُصَلِّيَ) بالنصب عطفًا على "يُمَرّ"(عَلَيْهِ) يَحْتَمل أن تصلي عليه، وهي في حجرتها، وجنازته على بابها، وهو ظاهر سياق الرواية التالية، وَيحْتَمل أن تكون صلّت عليه في المسجد، وهذا الاحتمال يؤيّده قولها في الرواية الثالثة:"ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ"، فإنه ظاهر في أنها صلّت عليه في المسجد، فهذا الوجه أولى، والنّه تعالى أعلم.
(فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهَا)؛ أي: إدخالها الجنازة المسجد، وفي الرواية التالية:"ما كانت الجنائز يُدخل بها المسجدَ". (فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها لَمّا بلغها
إنكارهم (مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ النَّاسُ): ما الأولى تعجّبيّة، والثانية مصدريّة؛ أي: ما أسرع نسيان الناس.
قال القاضي عياض رحمه الله: اختلفوا في تأويله، فقيل: معناه ما أسرع ما نسي الناس السنّة، وقيل: ما أسرع الناس إلى الطعن والعيب، قال: وجاء في رواية العذريّ أحد التأويلين في حديث عليّ بن حجر، قال: يعني ما نسي الناس، وجاء فيه في حديث ابن حاتم التأويل الآخر مفسّرًا من قول عائشة رضي الله عنها بما لا يجب أن يقال سواه، ولا يتأوّل عليها غيره؛ إذ قد نَصَّتْ عليه، ورفعت الاحتمال، فقالت:"ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به". انتهى
(1)
.
وقوله: (مَا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم)"ما" هنا نافية؛ أي: لم يصلّ صلى الله عليه وسلم (عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ الْبَيْضَاءِ) القرشيّ، الفهريّ، من المهاجرين، يُكنى أبا موسى، هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وشَهِدَ بدرًا، وأحدًا، ومات رضي الله عنه بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك سنة تسع.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: بنو بيضاء، ثلاثة إخوة: سَهْل، وسُهيل، وصفوان، وأمهم البيضاء، اسمها دَعْد بنت الجحدم بن أمية بن ضبّة بن الحارث، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضَبَّة بن الحارث بن فهر القرشيّ الفهريّ، وكان سُهيل قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا وغيرها، توفي سنة تسع من الهجرة رضي الله عنه. انتهى كلام النوويّ بزيادة من "الاستيعاب"
(2)
.
وأما أخوه سهل، فقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: كان ممن أظهر إسلامه بمكة، وهو الذي مشى إلى النفر الذين قاموا في شأن الصحيفة التي كتبها مشركو قريش على بني هاشم، حتى اجتمع له نفر، تبرّءوا من الصحيفة، وأنكروها، وهم هشام بن عمرو بن ربيعة، والمطعم بن عديّ بن نوفل، وزَمْعَة ابن الأسود بن عبد المطّلب بن أسد، وأبو البَخْتَريّ بن هشام بن الحارث بن
(1)
"إكمال المعلم" 3/ 445 - 446.
(2)
"شرح مسلم" 7/ 43.
أسد، وزُهير بن أبي أُميّة بن المغيرة، وفي ذلك يقول أبو طالب [من الطويل]:
جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ رَهْطًا تَبَايَعُوا
…
عَلَى مَلأٍ يُهْدَى لِخَيْبر وَيُرْشَدُ
قُعُودٍ لَدَى جَنْبِ الْحَطِيمِ كَأَنَّهُ
…
مَقَاوَلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزّ وَأَمْجَدُ
هُمُ رَجَعُوا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا
…
فَسُرَّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا وَمُحَمَّدُ
أَلَمْ يَأَتِكُمْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ مُزِّقَتْ
…
وَأَنْ كُلَّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللهُ مُفْسَدُ
أَعَانَ عَلَيْهَا كُلُّ صَقْرٍ كَأَنَّهُ
…
إِذَا مَا مَشَى فِي رَفْرَفِ الدِّرْعِ أَحْرَدُ
أسلم سهل ابن بيضاء بمكة، وأخفى إسلامه، فأخرجته قريش معهم إلى بدر، فأُسر يومئذ مع المشركين، فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه بمكة يصلي، فخُفي عنه، ولا أعلم له رواية، ومات بالمدينة. انتهى
(1)
.
(إِلا فِي الْمَسْجِدِ) النبويّ، وفي الرواية التالية:"إلا في جوف المسجد".
وهذا يدلّ على جواز الصلاة على الميت في المسجد، وفيه خلاف بين
أهل العلم سنتكلّم عليه في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 2252 و 2253 و 2254](973)، و (أبو دا ود) في "الجنائز"(3189)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1033)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 68) وفي "الكبرى"(1/ 639)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1518)، و (أحمد) في "مسنده"(79/ 6 و 133 و 169)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 51 - 52)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 730)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 209)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 51)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 44)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 526)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 229)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الاستيعاب" لابن عبد البرّ في هامش الإصابة 4/ 270 - 271.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الصلاة على الميت في المسجد، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
2 -
(منها): جواز صلاة النساء على الجنائز، وليس المراد بالصلاة هنا الدعاء، بل المراد الصلاة المعهودة على الميت، وأما قول القاضي عياض رحمه الله: المراد بهذه الصلاة الدعاء
(1)
، ففيه نظر، بل الحقّ أنها الصلاة المعهودة، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): فضل علم عائشة رضي الله عنها، فإنها حفظت من السنّة ما جهله الكثيرون من الصحابة والتابعين، حتى أنكروا عليها؛ لجهلهم، فردّت عليهم، وتعجّبت من سرعة النسيان إليهم في سنّة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم-بمشهد من الجميع الكثير، وهو صلاته على ابني البيضاء في المسجد.
4 -
(ومنها): بيان أن السنة لا تترك لإنكار بعض الناس لها؛ جهلاً، بل ينبغي إظهارها للناس، وتعليم الجاهلين بها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة على الجنازة في المسجد:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختلفوا في الصلاة على الجنائز في المسجد، فروينا أن أبا بكر -ضي الله عنه- مسجد، وصُلِّي على عمر بن الخطّاب في المسجد.
وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال مالك: لا يُصلّى على الجنازة في المسجد، إلا أن يتضايق المكان، وكره أن توضع الجنازة في المسجد.
قال ابن المنذر رحمه الله: وفي صلاة من حضر، فصلّى على أبي بكر من المهاجرين والأنصار قدوة لمن أراد الاقتداء بهم، وحجّة، وكذلك صلاتهم على عمر في المسجد، وقد روينا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلّي علي سُهيل ابن بيضاء في المسجد. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 3/ 445.
(2)
"الأوسط" 5/ 415 - 416.
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي سهيل ابن بيضاء من أصحّ ما يُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد العدول.
وهو قول الشافعيّ، وجمهور أهل العلم، وهي السنّة المعمول بها في الخليفتين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلّى عمر على أبي بكر الصّدّيق في المسجد، وصلى صُهيب على عمر في المسجد بمحضر كبار الصحابة، وصدر السلف، من غير نكير، وما أعلم من يُنكر ذلك إلا ابن أبي ذئب.
ورويت كراهية ذلك عن ابن عبّاس من وجوه لا تصحّ، ولا تثبت، وعن بعض أصحاب مالك، ورواه عن مالك، وقد رُوي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة، وغيرهم، وقد قال في المعتكف: لا يخرج إلى جنازة، فإن اتصلت الصفوف به في المسجد، فلا يصلي عليها مع الناس.
وعن مالك قال: لا يعجبني أن يُصَلَّى على أحد في المسجد، قال: ولو فَعَل ذلك فاعل ما كان ضيّقًا، ولا مكروهًا، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء في المسجد، وصلّى عمر على أبي بكر في المسجد، وصلى صُهيب على عمر في المسجد.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، والثوريّ، عن هشام بن عروة، قال: رأى أبي الناس يخرجون من المسجد ليصلّوا على جنازة، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ ما صُلِّي على أبي بكر إلا في المسجد.
[فإن قيل]: إن الناس الذين أنكروا على عائشة رضي الله عنها أن يُمَرَّ عليها بجنازة سعد بن أبي وقّاص في المسجد، هم الصحابة، وكبار التابعين، لا محالة؟.
أقيل لهم،: ما رأت عائشة إنكارهم بكبير، ورأت الحجّةَ في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو الأسوة الحسنة، والقدوة، وأين المذهب، والرغبة عن سنته صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عنه ما يخالفها من وجه معروف، ولو لم تكن في هذا الباب سنّة ما وجب أن يُمنَع عن ذلك؛ لأن الأضل الإباحة حتى يرد المنع والحظر، فكيف، وفي إنكار ذلك جهل السنّة، والعملِ القديم بالمدينة.
ألا ترى أن قول عائشة رضي الله عنها: "ما أسرع الناس" تريد إلى إنكارها ما يعلمون، وترك السؤال عما يجهلون. وقد روي:"ما أسرع ما ينسى الناس"، وليس من نَسِيَ علمًا حجة على من ذكره، وعَلِمَه.
وقد احتجّ بعض من تُعميه نفسه من المنتسبين إلى العلم في كراهية الصلاة على الجنائز في المسجد؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَى للناس النجاشيّ، وخرج بهم إلى المصلى، فصفّهم، وكبّر أربع تكبيرات، قال: ولم يصلّ عليه في المسجد، وفي احتجاجه هذا ضروب من الإغفال.
[منها]: أنه لا يرى الصلاة على الغائب، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشيّ خصوص له عنده.
[ومنها]: أنه ليس في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنازة في موضع، ولا صلاة العيد في موضع دليلٌ على أن صلاة العيد، وصلاة الجنائز لا تجوز إلا في ذلك الموضع، والمسلمون في كلّ أفق لهم مصلى في العيد، يخرجون إليه، ويُصلّون فيه، ولا يقول أحد من علمائهم: إن الصلاة لا تجوز إلا فيه. وكذلك صلاتهم في المقابر على جنائزهم، ليس فيه دليل على أنه لا يُصلّى على الجنائز إلا في المقبرة، وما لم يَنْهَ عنه الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمباح فعله، فكيف بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله ببعض تصرّف
(1)
. وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل للشافعيّ، والأكثرين في جواز الصلاة على الميت في المسجد، وممن قال به أحمد، وإسحاق، قال ابن عبد البرّ: ورواه المدنيّون في "الموطأ" عن مالك، وبه قال ابن حبيب المالكيّ، وقال ابن أبي ذئب، وأبو حنيفة، ومالك في المشهور عنه: لا تصحّ الصلاة عليه في المسجد بحديث في "سنن أبي داود": "من صلى على جنازة في المسجد، فلا شيء له". ودليل الشافعيّ، والجمهور حديث سهيل ابن بيضاء. وأجابوا عن حديث "سنن أبي داود" بأجوبة:
[أحدها]: أنه ضعيف، لا يصحّ الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف، تفرّد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف.
[الثاني]: أن الذي في النسخ المشهورة المحقّقة المسموعة من "سنن أبي
(1)
"الاستذكار" 8/ 272 - 276، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز في المسجد.
داود": "ومن صلّى على جنازة في المسجد، فلا شيء عليه"، ولا حجّة لهم حينئذ فيه.
[الثالث]: أنه لو ثبتٌ الحديث، وثبت أنه قال:"فلا شيء له"، لوجب تأويله على: فلا شيء عليه، ليُجمَع بين الروايتين، وبين هذا الحديث، وحديث سهيل ابن بيضاء، وقد جاء "له" بمعنى "عليه"، كقوله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
[الرابع]: أنه محمول على نقص الأجر في حقّ من صلّى في المسجد، ورجع، ولم يشيّعها إلى المقبرة لما فاته من تشييعه إلى المقبرة، وحضور دفنه
(1)
، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من أقوال أهل العلم، وأدلتهم في حكم الصلاة على الجنازة في المسجد أن المذهب الصحيح، هو ما عليه الجمهور، من أنه جائز، بلا كراهة؛ لأن أدلة المانعين غير صالحة لمعارضة ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، كما سبق تفصيله، وأما حديث أبي داود:"من صلى على جنازة في المسجد، فلا شيء له " فضعيف لا حاجة إلى تأويله، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم صلاة النساء على الجنائز:
[اعلم]: أن حديث الباب يدلّ على مشروعيّة صلاة النساء على الجنائز، قال الباجيّ رحمه الله: هذا الذي يقتضيه مذهب مالك، وقال الشافعيّ: لا يصلي النساء على الجنائز، والدليل على صحة ذلك أن هذه صلاة يصحّ أن يفعلها الرجال، فصحّ أن يفعلها النساء، كصلاة الجماعة، وهل يجوز أن يفعلها النساء دون الرجال؟ قال ابن القاسم وأشهب: يجوز، وإن اختلفا في صفتهما. انتهى.
(1)
قلت: هذا الوجه ضعيف؛ لأنه ينافي إثبات قيراط واحد لمن صلى، ورجع، وهو ثابت في "الصحيحين". فتنبّه.
(2)
"شرح صحيح مسلم" 43/ 7 - 44 كتاب الجنائز.
وقال ابن قُدامة: يصلّي النساء جماعةً، إمامتهن في وسطهنّ، نَصّ عليه أحمد، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعيّ: يصلين منفردات، لا يسبق بعضهنّ بعضًا، وإن صلين جماعة جاز.
قال: ولنا أنهن من أهل الجماعة فيصلين جماعةً، كالرجال، وما ذكروه من كونهن منفردات لا يسبق بعضهنّ بعضًا تَحَكمٌ، لا يصار إليه إلا بنصّ أو إجماع، وقد صلى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. انتهى
(1)
.
وقال في "المرعاة": ويدلّ على صلاة النساء مع الرجال جماعة ما رواه الحاكم أن أبا طلحة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُمير بن أبي طلحة حين تُوفّي، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه في منزلهم، فتقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طلحة وراءه، وأم سُليم وراء أبي طلحة، ولم يكن معهم غيرهم، قال الحاكم: حديث صحيحٌ على شرط الشيخين، وسنّة غريبة في إباحة صلاة النساء على الجنائز، ووافقه الذهبيّ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث صحيح، كما قال الحاكم، ووافقه الذهبيّ، ولكنه على شرط مسلم، كما قال الشيخ الألبانيّ
(3)
، فإن عمارة بن غزيّة من رجال مسلم، وإنما علّق له البخاريّ، فتنبّه.
والحاصل أن الحقّ جواز صلاة النساء على الجنائز مع الرجال، أو منفردات؛ للأحاديث المذكورة، فتفطّن، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2253]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ الزُّبَيْرِ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، أَّنهَا
(4)
لَمَّا تُوُفَّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ
(1)
"المغني" 2/ 180.
(2)
"المرعاة" 5/ 385 - 386.
(3)
راجع: "أحكام الجنائز"(ص 126).
(4)
وفي نسخة: "أنها قالت".
يَمُرُّوا بِجَنَازَتهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا، فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ، يُصَلِّينَ عَلَيْهِ، أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ، فَبَلَغَهُنَّ أَن النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ إِلا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ السمين، صدوقٌ فاضلٌ ربما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ تغيّر قليلًا [7](ت 165)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيه، إمام في المغازي [5](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقون ذُكروا قبله، و"عبد الواحد" هو ابن حمزة.
وقوله: (لَمَّا تُوُفيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقاصٍ)؛ أي: في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وذلك سنة (55) على المشهور، وحُمل إلى المدينة على أعناق الرجال ليدفن بالبقيع، وذلك في خلافة معاوية رضي الله عنه، وكان على المدينة مروان
(1)
.
وقوله: (أَنْ يَمُرُّوا) بالبناء للفاعل؛ أي: يمرّ الناس الذين حملوا جنازته.
وقوله: (فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ) الظاهر أن المراد الصلاة المعهودة على الجنازة، لا الدعاء، كما زعمه القاضي عياض، فتنبّه.
وقوله: (فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَ، يُصَلِّينَ عَلَيْهِ) هذا ظاهرٌ أنهنّ صلّين عليه
(1)
"المرعاة" 5/ 358.
منفردات بأن وُقف به على باب حجرة كلّ واحدة منهنّ، فصلّين عليه، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يصلين عليه"؛ أي: يدعون له، وهذا بعد أن صُلي عليه الصلاة الجامعة، ويَحْتَمِل أن تكون هذه الصلاة الجامعة، ويكون معنى قوله:"فوُقف به على حُجَرهنّ" على هذا؟ أي: حُبس بين حُجَرهنّ حتى يجتمع الناس للصلاة عليه، فيُصلّين عليه في جملة الناس.
قال القرطبي: قلت: وظاهره أنهنّ صلّين عليه صلاةً أخرى، وفيه في ليلٌ لمن قال بجواز إعادة الصلاة على الميت، كما تقدّم. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَأُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ) فيه أنه كان باب معدّ لخروج الجنائز من المسجد بعدما صلّي عليه، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2254]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، يَعْنِي ابْنَ عثمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، أَنَّ عَائِشَةَ، لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقاصٍ، قَالَتِ: ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأُنكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ: سُهَيْلٍ، وَأَخِيهِ، قَالَ مُسْلِم: سُهَيْلُ ابْنُ دَعْدٍ، وَهُوَ ابْنُ الْبَيْضَاءِ، أمُّهُ بَيْضَاءُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، تقدّم قبل بابًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل باب أيضًا.
(1)
"المفهم" 2/ 631 - 632.
3 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك الدِّيلي مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
4 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
5 -
(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أُميّة، مولى عمر بن عُبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ يُرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثر فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 3 ص 423.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (سُهَيْلٍ، وَأَخِيهِ) تقدّم أن اسم أخيه سهل بن بيضاء.
وقوله: (قَالَ مُسْلِم) صاحب الكتاب رحمه الله (سُهَيْلُ ابْنُ دَعْدٍ، وَهُوَ ابْنُ الْبَيْضَاءِ، أَمُّهُ بَيْضَاءُ)، تقدّم أن دعد اسمها، والبيضاء لقبها، ولم أجد ترجمتها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: إسناد هذا الحديث قد تكلّم فيه الدارقطنيّ: رحمه الله، فقال: قد خالف الضحاكَ حافظان: مالكٌ، وعبد العزيز الماجِشُون، فروياه عن أبي النضر، عن عائشة مرسلًا
(1)
، وقيل: عن الضحاك، عن أبي النضر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، ولا يصح إلا مرسلًا
(2)
. انتهى كلام الدارقطنيّ.
وقد أجاب النوويّ كعادته عن هذا الاستدراك، فقال: هذه الزيادة التي زادها الضحاك زيادة ثقةٌ، وهي مقبولة؛ لأنه حَفِظَ ما نسيه غيره، فلا تقدح فيه. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: جواب النوويّ رحمه الله هذا قد تقدّم تعقّبه بأنه ليس على إطلاقه، بل يحتاج إلى حال المخالفة، هل المخالف ممن يُقبل خلافه أم لا؟ وهنا ليس كذلك؛ لأن الضحاك بن عثمان كما سبق في ترجمته صدوقٌ
(1)
أي: منقطعًا.
(2)
أي: منقطعًا.
(3)
"شرح النوويّ" 7/ 40.
يُخطئ، فمخالفته لمالك والماجشون لا قيمة لها؛ لأنهما إمامان في الحفظ والإتقان، فلو خالف أحدهما لردّت مخالفته، فكيف وهما اثنان؟.
[فإن قيل]: قد ذُكر للضحاك متابع على الوصل، فقد تابعه حماد بن خالد الخيّاط، كما قاله الدارقطنيّ.
[قلت]: إن هذه المتابعة غير معتبرة؛ لأن حماد بن خالد قد خالف أصحاب مالك كلّهم، فقد رووه عنه، عن أبي النضر، عن عائشة، ولم يذكروا فيه أبا سلمة، فتكون روايته شاذة، فلا يصلح لمتابعة الضحّاك، فتفطّن.
والحاصل أن الصحيح هو ما قاله الدارقطنيّ من ترجيح الإرسال على الوصل؛ لما ذُكر
(1)
.
لكن يُجاب عن المصنّف رحمه الله بانه إنما أورد رواية الضحّاك من باب المتابعة، فقد أخرج الحديث قبله موصولًا عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها.
وقد تابع عبّاد بن عبد الله بن الزبير حمزة بن عبد الله بن الزبير، أخرجه أحمد، وابن حبّان في "صحيحه".
والحاصل أن الحديث صحيح موصول من الطريقين، فلا تضرّ العلة المذكورة في رواية الضحّاك، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(33) - (بَابُ بَيَانِ مَا يُقَالُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَقْبَرَةِ، وَالدُّعَاءِ لِأَهْلِهَا)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2255]
(974) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وبَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ،
(1)
راجع: الشيخ ربيع بن هادي في كتابه "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ"(ص 186 - 189).
وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شَرِيكٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا كَانَ
(1)
لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيع، فَيَقُولُ:"السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَّاكُمْ مَا تُوعَدُونَ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهم اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ"، وَلَمْ يُقِمْ
(2)
قتيْبَةُ قَوْلَهُ: "وَأَتَّاكُمْ ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
3 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ) هو: شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، نُسب لجدّه، أبو عبد الله المدنيّ، صدوق يخطئ [5] مات في حدود (140)(خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.
6 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2](ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
7 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها تقدّمت في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.
(1)
وفي نسخة: "كانت".
(2)
وفي نسخة: "ولم يقل".
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه الأولين، وابن أبي نمر.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا) قال الطيبيّ رحمه الله: "كلما" ظرف فيه معنى الشرط، والعموم، وجوابه قوله:"يَخْرُجُ"، وهو العامل فيه، والجملة خبر "كان"، وهو حكاية معنى قول عائشة، لا لفظها الذي تلفّظت به، والمعنى: كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا بات عند عائشة رضي الله عنها أن يخرج في آخر الليل إلى البقيع
(1)
.
وقوله: (كَانَ) وفي نسخة: "كانت "(لَيْلَتُهَا) فيه أنه صلى الله عليه وسلم يخرج كلّ ليلة من ليالي عائشة رضي الله عنها، ولا ينفي ذلك أنه ربما خرج في ليلة غيرها، ولكنها ما رأته، وقال السنديّ في "شرح النسائيّ"؟ أي: في آخر عمره بعد حجة الوداع. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تحديد الوقت بكونه بعد حجة الوداع يحتاج إلى دليل، فالله تعالى أعلم.
وقوله: (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الجارّ والمجرور متعلق بصفة لـ"ليلتها"، أو بحال منه.
(يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي تبعيّة (إِلَى الْبَقِيعِ)؛ أي: بقيع الغرقد، وفيه فضيلة الدعاء آخر الليل، وفضيلة زيارة قبور البقيع.
(فَيَقُولُ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْم مُؤْمِنِينَ)"دار" منصوب على النداء، والتقدير: يا أهل دار قوم، فحذف المضَاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وقيل: منصوب على الاختصاص، قال صاحب "المطالع": ويجوز جرّه على البدل من الضمير في "عليكم"، وقيل: الدار مقحم.
(1)
راجع: "الكاشف" 4/ 1435.
وقال الخطابيّ: وفيه أنه سمى المقابر دارًا، فدلّ على أن اسم الدار يقع على المقابر، قال: وهو صحيح، فإن الدار في اللغة يقع على الرَّبْع المسكون، وعلى الخراب غير المأهول، كقول الشاعر:
يَا دَارَ مَيَّةً فَالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ
ثم قال:
أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَمَدِ
(1)
(وَأتَاكُمْ) بالقصر؛ أي: جاءكم، قال ابن الملك: وإنما قال: "أتاكم"؛ لأن ما هو آت كالحاضر. انتهى. أو لتحقّقه كأنه وقع
(2)
.
وقال القاري: ووقع في بعض نسخ "المشكاة": "وآتاكم" بالمدّ؛ أي: أعطاكم تحقيق لقوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} الآية [آل عمران: 194]. انتهى
(3)
.
(مَا تُوعَدُونَ)؛ أي: ما كنتم توعدون به من الثواب، أوأعمّ منه ومن العذاب، وقوله:(غَداً) متعلّق بما قبله، وَيحْتَمل تعلّقه بما بعده، وهو قوله:(مُؤَجّلُونَ)؛ أي: أنتم مؤخّرون، وممهلون إلى غد باعتبار أجوركم استيفاءً واستقصاءً، فالجملة مستأنفة مبيّنة أن ما جاءهم من الموعود أمور إجماليّة، لا أجور تفصيليَّة.
وقال الطيبيّ رحمه الله إعرابه مشكلٌ، وإن حمل على الحال المؤكّدة من واو "توعدون " على حذف الواو والمبتدأ كان فيه شذوذان، قال ابن حجر الهيتميّ: وهو سائغ إذا دلّ عليه السياق كما هنا، قال الطيبيّ: ويجوز حمله على الإبدال من "ما توعدون "؟ أي: أتاكم ما تؤجّلونه أنتم، والأجل الوقت المضروب المحدود في المستقبل؛ لأن ما هو آتٍ بمنزلة الحاضر. انتهى
(4)
.
وقال القاري بعد ذكره كلام الطيبيّ هذا ما نصّه: وهو كما قال ابن حجر بعيد، تكلّف جدًّا، بل السياق ينبو عنه. انتهى
(5)
.
(1)
"معالم السنن" 4/ 351.
(2)
"المرعاة" 5/ 516.
(3)
"المرقاة" 4/ 254.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1435 - 1436.
(5)
"المرقاة" 4/ 255.
(وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ)؛ أي: يا أهل المقبرة بالخصوص (لَاحِقُونَ) لقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} الآية [لقمان: 34]، قيل: تُدفن، قاله القارى
(1)
.
[تنبيه]: اختُلف في إتيانه بالاستثناء مع أن الموت لا شكّ فيه على أقوال:
[أحدها]: وهو أظهرها: أنه ليس للشكّ، وإنما هو للِتبرّك، وامتثال أمر الله له بقوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الكهف: 23، 24].
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: الاستثناء قد يكون في الواجب، لا شكًّا، كقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: 27]، ولا يُضاف الشك إلى الله تعالى.
[والثاني]: أنه عادة المتكلّم، يُحسّن به كلامَهُ.
[والثالث]: أنه عائد إلى اللحوق في هذا المكان، والموتِ بالمدينة.
[والرابع]: أن "إن" بمعنى "إذ".
[والخامس]: أنه راجع إلى استصحاب الإيمان لمن معه.
[والسادس]: أنه كان معه من يظن بهم النفاق، فعاد الاستثناء إليهم.
وحكى الحافظ أبو عمر أنه عائد إلى معنى "مؤمنين"؛ أي: لاحقون في حال إيمان؛ لأن الفتنة لا يأمنها أحد، ألا ترى قول إبراهيم عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقول يوسف عليه السلام:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، ولأن نبينا صلى الله عليه وسلم مكان يقول:"اللهم اقبضني إليك غير مفتون".
واستبعد الأبيّ الثالث بقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "المحيا محياكم، والممات مماتكم"، قال: إلا أن يكون قال ذلك قبلُ. انتهى.
وقال النووي رحمه الله بعد ذكر الأقوال الأربعة الأُوَل ما نصّه: وقيل: أقوال أُخَر ضعيفة جدًّا، تركتها لضعفها، وعدم الحاجة إليها، منها قول من قال:
(1)
"المرقاة" 4/ 255.
الاستثناء منقطع، راجع إلى استصحاب الإيمان. وقول من قال: كان معه صلى الله عليه وسلم مؤمنون حقيقة، وآخرون يظنّ بهم النفاق، فعاد الاستثناء إليهم، وهذان القولان، وإن كانا مشهورين، فهما خطأ ظاهر. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو أقرب الأقوال عندي، فالاستثناء للتبرّك، والله تعالى أعلم.
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ") هو موضع بظاهر المدينة، فيه قبور أهلها، قال في "النهاية": هو المكان المتسع، ولا يسمّى بقيعًا إلا وفيه شجر، أوأصولها، والغرقد شجر، والآن بقيت الإضافة، دون الشجر.
وقال النوويّ: سُمّي بقيع الغرقد، لغرقد كان فيه، وهو ما عَظُم من العَوْسج
(1)
، وفيه إطلاق الأهل على ساكن المكان، من حيّ وميت. انتهى
(2)
.
وفيه أن الدعوة الإجماليّة على وجه العموم كافية
(3)
.
وقوله: (وَلَمْ يُقِمْ) يعني أنه لم يذكر في روايته، وفي نسخة:"ولم يقل"(قتيْبَةُ قَوْلَهُ: "وَأتاكُمْ") والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2255](974)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3/ 219)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(2039) و"الكبرى"(6/ 268)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 185)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 1013)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 53)، وفوائد الحديث تأتي في الحديث التالي- إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
العوسج: شجر الغرقد العظيم، وهو كثير الشوك، عديم الثمر.
(2)
"شرح مسلم" 7/ 45.
(3)
"المرقاة" 4/ 255.
وبالسند المتصل إلي الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أول الكتاب قال:
[2256]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، ألهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تُحَدَّثُ، فَقَالَتْ: ألَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنّي، قُلْنَا: بَلَى (ح) وَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ حَجَّاجًا الْأَعْوَرَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ، أَنهُ قَالَ يَوْمًا: ألَا أُحَدِّثُكُمْ
(1)
عَنِّي وَعَنْ أُمّي، قَالَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أمُّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ألا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتي الَّتي كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُويدًا، وَانْتَعَلَ رُويدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ
(2)
، فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ:"مَا لَكِ يَا عَائِشَ حَشْيَا رَابِيَةً؟ " قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيءَ، قَالَ: "لَتُخْبِرِينِي
(3)
، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: "فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ
(4)
أَمَامِي؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَني فِي صَدْرِي لَهْدَةً
(5)
أَوْجَعَتْني، ثُمَّ قَالَ:"أَظنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ " قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنَّ جِبْرِيلَ
(1)
وفي نسخة: "ألا أخبركم".
(2)
وفي نسخة: "وفتح الباب رويدًا".
(3)
وفي نسخة: "لَتُخْبِرِنِّي".
(4)
وفي نسخة: "رأيته".
(5)
وفي نسخة: "فلهزني في صدري لهزة".
أتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ، وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأَمُرُكَ أَنْ تَأَتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ"، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأَخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ").
رجال هذا الإسناد:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سعِيدٍ الأَيْلِيُّ) أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 225/ 29.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب) أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ عابد [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور، تقدّم قبل باب.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم أيضًا قبل باب.
5 -
(عَبْدُ الله بْنُ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلبِ) بن أبي وَدَاعة الحارث بن صُبيرة بن سُعيد بن سَعْد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصَيص بن كعب بن لُؤيّ بن غالب السهميّ، مقبول [6].
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات بعد سنة عشرين ومائة، وقال ابن عيينة: رأيت عبد الله أبن كثير سنة (22) وكان قاصّ الجماعة، وذكر البخاريّ قول سفيان هذا في ترجمة عبد الله بن كثير الداريّ.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسِ) بن مخرمة بن المطّلب بن عبد مناف المطلبيّ، يقال: له رؤية، وقد وثقه أبو داود وغيره، ثقةٌ [2].
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أبي هريرة، وعائشة، وعن أمه، عن عائشة.
وروى عنه ابنه حكيم، وابن أبي مليكة، على خلاف فيه، وعبد الله بن
كثير بن المطلب، وابن عجلان، وابن إسحاق، وعمر بن عبد الرحمن بن مُحيصن، وابن جريج.
قال أبو داود: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر العسكريّ أنه أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو صغير.
أخرج له المصنف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (974) وحديث (2574).
6 -
(عَائِشَةُ) رضي الله عنها، ذُكرت قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ) بن أبي وَدَاعة السهميّ (أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسٍ) المطّلبيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تحَدِّثُ) وقوله: (فَقَالَتْ) بيان وتوضيح لمعنى "تُحدِّث"(ألَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنِّي)؛ أي: عن قصتي التي جرت لي معه صلى الله عليه وسلم (قُلْنَا: بَلَى)؛ أي: حدّثينا.
وقوله: (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد (وَحَدَّثَنى مَنْ سَمِعَ حَجَّاجًا الْأَعْوَرَ) قال الحافظ أبو عليّ الغَسّانيّ الجيانيّ رحمه الله: هذا الحديث أحد الأحاديث المقطوعة في مسلم، قال: وهو أيضًا من الأحاديث التي وُهِمَ في رواتها، وقد رواه عبد الرزاق في "مصنّفه" عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة، أنه سمع عائشة. انتهى.
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: إن هذا مقطوع لا يُوافَقُ عليه، بل هو مُسْنَدٌ، وإنما لم يُسَمِّ راويه له، فهو من باب المجهول، لا من باب المنقطع؛ إذ المنقطع ما سقط من رواته راوٍ قبل التابعيّ.
وقوله: (وَاللَّفْظُ لَهُ)؛ أي: إن لفظ الحديث لحجاج الأعور، وقوله:(قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا إشكال آخر في هذا السند؛ إذ يوهم أن حجاجًا الأعور حدَّث به عن آخر، يقال له: حجاج بن محمد، وليس كذلك، بل حجاج الأعور هو حجاج بن محمد، بلا شكّ، وتقدير كلام مسلم: حدّثني من سمع حجاجاً الأعور، قال هذا المحدث:
حدّثني حجاج بن محمد، فَحَكَى لفظ المحدِّث. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
. وهو تحقيق مفيدٌ.
وقال النوويّ رحمه الله: ولا يقدح رواية مسلم لهذا الحديث عن هذا المجهول الذي سمعه منه، عن حجاج الأعور؛ لأن مسلمًا ذكره متابعة لا متأصلًا مُعتَمَدًا عليه، بل الاعتماد على الإسناد الصحيح قبله. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سنتكلّم مَن وصل رواية حجاج الأعور في المسألة الثانية -إن شاء الله تعالى-.
(حَدَّثنَا ابْنُ جُرَيْجٍ) قال: (أخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ) هو عبد الله بن كثير بن المطّلب المذكور في السند الذي قبله، هكذا في هذه الرواية أن شيخ ابن جريج هو عبد الله المذكور، وقد خالف في ذلك يوسف بن سعيد النسائيّ، فقال: عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، وقد رجّح الدارقطنيّ وغيره أن يوسف أخطأ في قوله:"ابن أبي مليكة"، إنما الصواب في هذا عبد الله بن كثير المذكور، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا -إن شاء الله تعالى- (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِب، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: ألا أُحَدِّثُكُمْ) وفي نسخة: "ألا أخبركم"(عَنِّي وَعَنْ أُمِّي)؛ أيَ: عما جرى بيني وبين أمي من الحديث (قَالَ) عبد الله الراوي عن محمد بن قيس (فَظَنَنَّا أنَّهُ يُرِيدُ أمُّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ) يعني أنه لَمّا قال لهم: عنّي وعن أمي، ظنوا أنه يريد والدته، فإذا هو يريد أمه، وأم جميع المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما بيّنه بقوله:(قَالَ) محمد بن قيس (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (ألا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي)"كان" هنا تامّة، فلا تحتاج إلى خبر؛ أي: لما جاءت، وحضرت ليلتي (الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي) تعني ليلة نوبتها (انْقَلَبَ)؛ أي: تحوّل عن فراشه الذي اضطجع عليه، وقال السنديّ رحمه الله: أي: رجع من صلاة العشاء (فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ)؛ أي: ليمكنه الانتعال عند قيامه للخروج (وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ)؛ أي: نام عليه (فَلَمْ يَلْبَثْ) من باب تَعِب، وجاء في المصدر السكون للتخفيف،
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 3/ 451.
(2)
"شرح النوويّ" 7/ 42 - 43.
قاله في "المصباح"
(1)
؛ أي: لم يتأخر في مكانه (إِلَّا ريثَمَا) بفتح الراء، وإسكان الياء، وبعدها ثاء مثلثة: أي قَدْرَ ما (ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ)؛ أي: نِمْتُ، يقال: رَقَدَ رَقْدًا، من باب نصرَ، ورُقُودًا ورُقادًا: إذا نام ليلًا كان أو نهارًا، وبعضهم يخصُّه بنوم الليل، والأول هو الحقّ، ويشهد له المطابقة في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، قال المفسّرون: إذا رأيتهم حسبتهم أيقاظًا؛ لأن أعينهم مفتَّحةٌ، وهم نيامٌ
(2)
. (فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُويدًا)؛ أي: مترفّقًا متمهّلًا؛ لئلا ينَبّهها، وهو مصدر في موضع الحال، قاله القرطبيّ. (وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ) زاد في بعض النسخ: "رُويدًا"(فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا)؛ أي: أغلق الباب بلطف؛ لئلَا تَعْلَم بخروجه، وبقائها في الليل وحدها، فتستوحش، وتُذعَرَ. (جَعَلْتُ دِرْعِي)؛ أي: قميصي (فِي رَأسِي، وَاخْتَمَرْتُ)؛ أي: لبست الخِمَار، وهو بكسر الخاء المعجمة: ثوب تُغطِّي به المرأة رأسها، والجمع خُمُرٌ، مثل كتاب، وكُتُب، قاله في "المصباح". (وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي)؛ أي: جعلت إزاري قِنَاعًا، والظاهر أنها تلفَّفت به فوق خمارها.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "وتقنّعت إزاري"، هكذا هو في الأصول "إزاري" بغير باء في أوله، وكأنه بمعنى لبست إزاري، فلهذا عُدّي بنفسه. انتهى.
(شُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ)؛ أي: في إثره؛ أي: بعده، يقال: تبعتُهُ في أَثَرِهِ -بفتحتين- وإِثْرِه- بكسر الهمزة، وسكون المثلُثة-؛ أي: تبعته عن قرب، أفاده في "المصباح"، والذي حملها على خروجها خلفه، ومتابعتها لما صنعه المغيرة، ظنّت أنه خرج إلى بعض أزواجه.
(حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ) بفتح الموحّدة، وكسر القاف: هو المكان المعروف بالمدينة، وتقذم البحث فيه في شرح الحديث الماضي. (فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: دعا ثلاث مرّات، رافعًا يديه (ثُمَّ انْحَرَفَ)؛ أي: مال، راجعًا إلى بيته (فَأَنْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ) في المشي (فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ) يقال: هَرْوَل هَرْولةً: أسرع في مشيه، دون الْخَبَب، ولهذا يقال: هو بين المشي
(1)
"المصباح المنير" 2/ 547.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 234 - 235.
والْعَدْو، وجعل جماعة الواو أصلًا، قاله في "المصباح"، وهو أشدّ من الإسراع (فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحضَرْتُ) بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، من الإحضار، وهو العَدْوُ، ومثله الْحُضْر بالضمّ؛ أي: عَدَا، فعدوت، يقال: عدا في مشيه عَدْوًا، من باب قال: قارب الْهَرْوَلة، وهو دون الْجَرْي، قاله في "المصباح"؛ أي: زاد في الإسراع أشدّ من الذي قبله، فازددَت أنا فيه (فَسبَقْتُهُ)؛ أي: في الوصول إلى البيت (فَدَخَلْتُ) البيت (فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ)؛ أي: ليس شيءٌ بعد دخول البيت إلا اضطجاعي، فالمؤول بالمصدر خبر "ليس"، واسمها محذوف، كما قدّرناه، أو المؤول اسمها، وخبرها محذوف؛ أي: واقعًا منّي، وقال السنديّ: أي: فليس بعد الدخول منّي إلا الاضطجاع، فالمذكور اسم "ليس"، وخبرها محذوف. انتهى.
(فَدَخَلَ) البيت (فَقَالَ: "مَا لَكِ يَا عَائِشَ) بالترخيم، ويجوز فيه فتح الشين، ويسمى لغة من ينتظر الحرف المحذوف للترخيم، وضمها، ويسمى لغة من لا ينتظره، وهما وجهان جاريان في كل المرخمات، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ نَوَيْتَ بَعْدَ حَذْفِ مَا حُذِفْ
…
فَالْبَاقِيَ اسْتَعْمِلْ بِمَا فِيهِ أُلِفْ
وَاجْعَلْهُ إِنْ لَمْ تَنْوِ مَحْذُوفًا كَمَا
…
لَو كَانَ بِالآخِرِ وَضْعًا تُمِّمَا
فَقُلْ عَلَى الأَوَّلِ فِي ثَمُودَ يَا
…
ثَمُو وَيَا ثَمِي عَلَى الثَّانِي بِيَا
وقوله: (حَشْيَا) منصوب على الحال، وهو بفتح الحاء المهملة، وإسكان الشين المعجمة، مقصورًا؛ أي: مرتفعةَ النَّفَس، متواترتَهُ، كما يحصل للمسرع في المشي، وقال النوويّ: معناه: وقد وقع عليكِ الْحَشَا، وهو الربو، والتهيّج، الذي يَعرِض للمسرع في مشيه، والْمُحْتَدِّ في كلامه، من ارتفاع النفَس، وتواتره، يقال: امرأة حَشْيا، وحَشْيَةٌ، ورجل حَشْيَان، وحَشٍ، قيل: أصله من أصاب الربو حشاه. انتهى.
وقوله: (رَابِيَةً؛ ")؛ أي: مرتفعة البطن (قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ)؛ أي: لم يوجد مني شيء يوجب ذلك، وقال النوويّ رحمه الله: وقع في بعض الأصول: "لا بي شيء" بباء الجر، وفي بعضها:"لأيّ شيء" بتشديد الياء، وحذف الباء، على الاستفهام، وفي بعضها:"لا شيء"، وحكاها القاضي، قال: وهذا الثالث أصوبها. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قيّد الأسديّ هذا الحرف "لأيّ شيء؛ " بالياء المثناة تحتُ، وخفض "شيء" على الاستفهام؛ تغطيةً لحالها، كأنها تقول: لأيّ شيء تسأل؟، ورواه العذريّ:"لا بي شيءٌ" بالباء الموحّدة، ورفع "شيء"، على أن تكون "لا" بمعنى "ليس "؛ أي: ليس بي شيء، وهي روايتنا، وفي بعض النسخ:"لا شيء"، وهي أقربها. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَتُخْبِرِينِي) بفتح اللام وهي اللام الموطئة للقسم، والنون مخفّفة، وفي بعض النسخ مشدّدة؛ أي: والله لتُخبرنّي بما صنعتِ، وقال السنديّ: بفتح لام، ونون ثقيلة، مضارع للواحدة المخاطبة، من الإخبار، فتكسر الراء هنا، وتفتح في الثاني. انتهى.
(أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ")؛ أي: يوحي إليّ بذلك (قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأمِّي) متعلق بمحذوف؛ أي: أفديك بأبي وأمي، فلما حذف الفعل انفصل الضمير، أو "أنت" مبتدأ، والجار والمجرور متعلّق بالخبر المقدّر؛ أي: مَفْديٌّ بأبي وأمي (فَأَخْبَرْتُهُ)؛ أي: خبر ما جرى لها من متابعته صلى الله عليه وسلم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأّنتِ السَّوَادُ)؛ أي: الشخص (الَّذِي رَأَيْتُ) وفي نسخة: "رأيته"(أَمَامِي؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً) بفتح الهاء، والدال المهملة؛ أي: دفعني، وضربني بجُمْع كفّه، وفي بعض النسخ:"فلهزني في صدري لهزةً"، بفتح الهاء، والزاي المعجمة، وهما متقاربان، قال النوويّ: قال أهل اللغة: لَهَدَه، ولَهَّدَه -بتخفيف الهاء، وتشديدها- أي: دفعه. ولَهَزَه: إذا ضربه بجُمْعِ كفه في صدره، ويقرب منهما لَكَزَه، وَوَكَزَه. انتهى
(2)
. وهذا منه صلى الله عليه وسلم كان تأديبًا لها من أجل سوء ظنّها به صلى الله عليه وسلم (أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: "أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ) عز وجل (عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ ") صلى الله عليه وسلم أي أن يظلماكِ، يقال: حاف يَحيف، حَيْفًا: جار، وظلم، فهو حائف، وجمعه حَافَةٌ، وحُيَّفٌ، أفاده في "المصباح".
وقال السنديّ رحمه الله: أي بأن يَدخُل الرسول في نوبتك على غيرك، وذكر "الله" لتعظيم الرسول، والدلالةِ على أن الرسول لا يمكن أن يفعل بدون إذن من الله تعالى، فلو كان منه جور لكان بإذن الله تعالى له فيه، وهذا غير ممكن،
(1)
"المفهم" 2/ 635.
(2)
"شرح مسلم" 7/ 47.
وفيه دلالة على أن القَسْم عليه واجب؛ إذ لا يكون تركه جورًا إلا إذا كان واجبًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح من أقول العلماء أن القسم ليس واجبًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تمام البحث فيه في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
(قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُم النَّاسُ)"مهما" شرطية، ولذا جُزِم الفعل بعدها، وجوابها قولها:(يَعْلَمْا اللهُ نَعَمْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع الأصول، وهو صحيح، وكأنها لما قالت: مهما يكتم الناس، يعلمه الله صدّقت نفسها، فقالت: نعم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإَنَّ جِبْرِيلَ) عليه السلام (أتانِي حِينَ رَأَيْتِ) مفعوله محذوف؛ أي: ما صنعته من وضع ردائي، فما بعده (فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْك)؛ أي: لئلا تفزعي، وتنزعجي (فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ) لما ذُكر (وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ)؛ أي: إنما ناداني من بعيد، ولم يدن مني؛ لأنه لا يدخل عليك (وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ) بكسر التاء لخطاب المرأة، والجملة في محل نصب على الحال من الفاعل، والرابط الواو (وَظنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ)؛ أي: إنما فعلتُ كذلك لظني نومك (فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي) من عطف العلة على المعلول؛ أي: إنما كرهت إيقاظك، خشيةً من استيحاشك (فَقَالَ) جبريل عليه السلام (إِن رَبَّكَ يَأَمُرُكَ أَنْ تَأَتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ، فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ") قال القرطبيّ رحمه الله: يدلّ على أنه دعا لأهل البقيع، واستغفر، وأن هذا هو الذي عبّر عنه في الرواية الأخرى:"يصلي"، وقد قيل: إنه صلى عليهم صلاته على الجنازة، ويؤيّد هذا القول أنه قد جاء في حديث مالك:"فأصلي عليهم"، ثم الذي يقول بهذا يرى أن ذلك خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر، وهذا محتمل. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني بعيد جداً، ومما يبعده قولها:"ثم رفع يديه ثلاث مرار"، فالصواب أنه استغفر، ودعا لهم، والله تعالى أعلم.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (قُلْتُ: كيْفَ أقولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟) المراد أهل القبور مطلقًا، لا خصوص أهل البقيع؛ أي كيف أقول من الذكر والدعاء عند زيارة القبور؟.
(1)
"المفهم" بتصرف 2/ 635 - 636.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُولي: "السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ)؛ أي: القبور، تشبيهًا للقبر بالدار في كونه مسكنًا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ) قال القرطبيّ رحمه الله هذا يدلّ على أن السلام على الموتى كالسلام على الأحياء؛ خلافًا لمن قال: إن تحية الميت: عليك السلام، بتقديم عليك، تمسكًا بما رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سلم رجل عليه، فقال: عليك السلام يا رسول الله، فقال:"لا تقل: عليك السلام؛ فإن عليك السلام تحيَّة الموتى"
(1)
، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما كره منه أن يبدأ بعليك السلام؛ لأنه كذلك كانت تحية الجاهلية للموتى، كما قال شاعرهم:
عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ
…
وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
ومقصوده صلى الله عليه وسلم أن سلام المؤمنين على الأحياء والموتى مخالف لما كانت الجاهليّة تفعله، وتقوله، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحديث الذي أشار إليه أخرجه أحمد، وأبو داود في "سننه" والترمذيّ، وصححه، والنسائيّ، وصححه الحاكم، عن أبي تميمة الْهُجَيميّ، عن أبي جُرَيّ -بالجيم، والراء، مصغرًا- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال:"لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحيّة الموتى".
وقد اعترض الحافظ رحمه الله، كون البيت المذكور من شعر أهل الجاهلية، فإن قيس بن عاصم صحابيّ مشهور، عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم والمرثية المذكورة لمسلم معروف، قالها لما مات قيس، ومثله ما أخرج ابن سعد وغيره أن الجنّ رَثَوا عمر بن الخطاب بأبيات، منها:
عَلَيْكَ سلَامٌ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ
…
يَدُ الله فِي ذَاكَ الأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ
وقال ابن العربيّ في السلام على أهل البقيع: لا يعارض النهي في حديث أبي جُرَيّ؛ لاحتمال أن يكون الله أحياهم لنبيّه صلى الله عليه وسلم، فسلم عليهم سلام الأحياء، كذا قال. قال الحافظ: ويردّه حديث عائشة المذكور
(3)
.
(1)
رواه أحمد 5/ 63، وأبو داود رقم 4084، والترمذيّ 2721، وابن حبان 522.
(2)
المصدر المذكور.
(3)
يعني: قولها: كيف أقول؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين".
وقال النوويّ: فيه ترجيح لقول من قال في قوله: "سلام عليكم دار قوم مؤمنين": إن معناه أهل دار قوم مؤمنين، وفيه أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد، وعطف أحدهما على الآخر؛ لاختلاف اللفظ، وهو بمعنى قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35، 36] ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن؛ لأن المؤمن إن كان منافقًا لا يجوز السلام عليه، والترحّم. انتهى
(1)
.
(وَيرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا)؛ أي: المتقدّمين إلى الآخرة، فالسين والتاء فيه، وفي "المستأخرين" ليستا للطلب، بل زائدتان للتوكيد (وَالْمُسْتَأْخِرِينَ)؛ أي: المتأخرين في الدنيا، وهم الأحياء، ففيه الدعاء بالرحمة للأحياء والأموات (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ") قد تقدّم في شرح الحديث الماضي بيان اختلاف العلماء في التقييد بهذا الاستئناء، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في ذكر من وصل رواية حجاج بن محمد الأعور التي أبهم المصنّف شيخه فيها:
قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: هذا الحديث قد رويناه متّصلًا من طريق يوسف بن سعيد بن مسلم، عن حجاج، غير أنه قال:"عن حجاج، عن ابن جريج، أخبرني عبد الله بن مُليكة"، فجعل بدل "عبد الله بن كثير بن المطّلب" عبد الله بن أبي مُليكة"، فخالف غيره من رُواة حجاج، وحديثهم أصحّ.
قال: أخبرنا حاتم بن محمد التميميّ، قال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن فراس بمكة- حرسها الله- وحدّثنا محمد بن عتّاب، وعبد الملك بن زيادة الله التميميّ، قالا: نا المَاضي يونس بن عبد الله، قال: نا أبو عمر
(1)
"شرح مسلم" 47/ 7 - 48، كتاب الجنائز.
أحمد بن هلال بن زيد، قال: نا أبو عبيد الله محمد ربيع الْجِيزيّ، قال: نا يوسف بن سعيد بن مسلم، قال: نا حجّاج، عن ابن جُريج قال: أخبرني ابن أبي مُليكة سمع محمد بن قيس بن مَخْرمة يقول: سمعت عائشة تُحدّث، قالت: ألا أحدّثكم عثّي وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لَمّا كانت ليلتي التي هو عندي
…
، واقتصّ الحديث بلفظ مسلم بن الحجاج.
قال: هكذا رَوَيناه من طريق أبي عبيد الله محمد بن الربيع الجِيزيّ، وكان ثقةً، وجعله في باب ابن أبي مليكة.
وقال أيضًا: أخبرناه أبو عمر النَّمَريّ، نا عبد الله بن محمد بن أسد، نا حمزة الكنانيّ، قال: أنا النسائيّ، قال: أنا يوسف بن سعيد -يعني المصّيصيّ- قال: نا حجاج- هو الأعور- عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن أبي مُليكة، أنه سمع محمد بن قيس بن مَخْرمة يقول: سمعت عائشة تقول، فذكر الحديث.
وأخبرنا أبو عمر النَّمَريّ، قال: نا خلف بن القاسم، قال: نا أبو عليّ بن السكن، نا أبو نعيم عبد الملك بن محمد الْجُرْجانيّ، حدّثني يوسف بن سعيد المصّيصيّ، نا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مُليكة، أنه سمع محمد بن قيس بن مَخرمة.
قال أبو عليّ
(1)
: وقد خُطئ يوسف بن سعيد في قوله: "عبد الله بن أبي مليكة"، ولم يُتابع عليه.
ذكر أبو الحسن الدارقطنيّ: نا أبو بكر النيسابوريّ، عبد الله بن محمد بن زياد، نا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدّثني عمّي، حدّثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، أنه سمع محمد بن قيس بن مَخْرمة يقول: سمعت عائشة تُحدّث، وذكر الحديث بكماله.
قال أبو الحسن: وحدّثنا أبو بكر النيسابوريّ، نا يوسف بن سعيد، نا حجاج، عن ابن جريج، نا عبد الله بن أبي مليكة، سمعت محمد بن قيس بن مخرمة، فذكر الحديث.
(1)
هو الجيّانيّ.
قال أبو الحسن: وحدّثنا أبو بكر النيسابوريّ، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، نا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني عبد الله رجل من قريش، أنه سمع محمد بن قيس بن مَخرمة.
قال أبو بكر النيسابوريّ: هذا هو الصواب، وأخطأ يوسف بن سعيد في قوله:"ابن أبي مليكة".
قال الدارقطنيّ: هو عبد الله بن كثير بن المطّلب بن أبي وَدَاعة السهميّ.
قال الدارقطنيّ: وحدّثنا أبو بكر النيسابوريّ، قال: حدّثني أبو أميّة، نا رَوْح، نا ابن جريج، نا من سمع محمد بن قيس بن مخرمة يقول: سمعت عائشة بهذا.
ورواه عبد الرزّاق في "مصنّفه": عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة، أنه سمع عائشة تقول
…
، وذكر الحديث.
هكذا رُوي لنا هذا الإسناد من طريق الدَّبَريّ مقطوعًا، لم يُذكر فيه "عبد الله بن كثير". انتهى كلام الحافظ الجيّانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما ساقه الجيّانيّ، ونقله عن الدارقطنيّ، وأبي بكر النيسابوريّ أن الصواب في هذا الإسناد كون شيخ ابن جريج هو عبد الله بن كثير بن المطّلب، كما هو رواية الأكثرين، وهو عبد الله رجل من قريش، كما وقع في سند المصنّف الثاني، وليس عبد الله بن أبي مليكة، كما هو رواية يوسف بن سعيد المصّيصيّ عند النسائيّ.
والحاصل أن عبد الله رجل من قريش في سند المصنّف الثاني هو عبد الله بن كثير بن المطّلب المذكور في السند الأول، وليس ابن أبي مليكة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2256](974)، و (الترمذيّ)(739)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(2037 و 2039) وفي "الكبرى"(2164) وفي باب "المغيرة" من "عشرة النساء"(8911 و 8912)، و (ابن ماجه)(1546)
(1)
"تقييد المهمل"(3/ 800 - 801 و 828 - 831).
و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6712) وقد سقط من سنده "عبد الله بن كثير"، و (أحمد) في "مسنده "(6/ 71 و 111 و 221)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4593 و 4619 و 4748)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 53 - 54)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(710)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 79)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يقال عند دخول المقبرة، من السلام على الموتى، والدعاء، والاستغفار لهم.
2 -
(ومنها): بيان مشروعية القَسْم بين الزوجات في المبيت، وغيره.
3 -
(ومنها): بيان ما جُبلت عليه النساء، من المغيرة.
4 -
(ومنها)؛ بيان حسن أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورأفته بأهل بيته، حيث إنه لم يفعل ما يُدخل على عائشة رضي الله عنه الوحشة، بل تلطّف في الخروج.
5 -
(ومنها): بيان كون الملائكة لا تدخل بيتاً، فيه امرأة وضعت ثيابها.
6 -
(ومنها): بيان رأفة الله تعالى، ورحمته بأهل البقيع حيث أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم.
7 -
(ومنها): بيان جواز ترخيم الاسم؛ إذا لم يكن فيه إيذاء للمرخّم.
8 -
(ومنها): بيان مشروعية تأديب الزوج زوجته بالضرب باليد ونحوه، ولو أوجعها ذلك.
9 -
(ومنها): بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظلم أحدًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يكرمه بالوحي، ويرشده إلى ما هو الصواب، فلا يقع في الحيف والظلم.
10 -
(ومنها): بيان استحباب إطالة الدعاء، وتكريره، ورفع اليدين فيه.
11 -
(ومنها): بيان أن دعاء القائم أكمل من دعاء الجالس في القبور.
12 -
(ومنها): بيان جواز زيارة النساء للقبور، وهو الصحيح، وقد تقدم تمام البحث في ذلك، فلا تغفل.
13 -
(ومنها): أنه استدلّ بعضهم بقوله: "أن يحيف الله عليك، ورسوله" على أن القَسْم واجب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن الراجح من أقوال أهل العلم في ذلك عدم وجوب القسم عليه صلى الله عليه وسلم-لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ
مَنْ تَشَاءُ} الآية [الأحزاب: 51]، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يَقسِم لكريم أخلاقه، وحسن عشرته صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه- إن شاء الله تعالى-.
14 -
(ومنها): استحباب الدعاء المذكور في الحديث عند زيارة القبور.
15 -
(ومنها): أن في قوله: "على أهل الديار" ترجيح قول من قال في قوله: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين": إن معناه أهل دار قوم مؤمنين.
16 -
(ومنها): بيان أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد، وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظ، وهو بمعنى قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35، 36]، ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن؛ لأن المؤمن إن كان منافقًا لا يجوز السلام عليه والترحّم، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2257]
(975) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَسَدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ:"السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ"، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ
(2)
، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَل الله
(3)
لنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللهِ الْأَسَدِيُّ) هو: أبو أحمد الزبيريّ، تقدّم قبل باب.
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 44 - 45.
(2)
وفي نسخة: زيادة: "والمسلمات".
(3)
وفي نسخة: "نسأل الله".
4 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
5 -
(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.
6 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3](ت 105) وله تسعون سنةً (ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.
7 -
(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو عبد الله الصحابيّ المشهور، أسلم قبل بدر، ومات سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمل والأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبيهِ) بريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا)؛ أيَ: خرج الصحابة رضي الله عنهم (إِلَى الْمَقَابِرِ)؛ أي: إلى زيارتها، وفي رواية النسائيّ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا أَتَى عَلَى الْمَقَابِرِ قال: السلام عليكم
…
" (فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ) وقوله: (فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ) بيان لاختلاف شيخيه في لفظ الحديث، فلفظ شيخه أبي بكر بن أبي شيبة: فكان قائلهم يقول: (السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ، وَفِي رِوَايَةِ) شيخه (زُهَيْرِ) بن حرب: فكان قائلهم يقول: ("السَّلَامُ عَلَيْكمْ أَهْلَ الدِّيَارِ،) بنصب "أهلَ" على النداء، أو الاختصاص، كما تقدّم بيان ذلك (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ)، وفي بعض النسخ زيادة:"والمسلمات"، وَيحتاج إلى تأكّد صحتها، والله تعالى أعلم.
(وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلَاحِقُونَ) زاد في رواية النسائيّ: "أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ، وَنحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ"، ومعنى قوله:"لنا فَرَط" بفتحتين؛ أي: متقدّمون علينا إلى الدار الآخرة، وأصل الفَرَط هو المتقدّم في طلب الماء، يُهَيّئ الدِّلَاء، والأَرْشاء،
يقال: فَرَطَ القومَ فُرُوطًا، من باب قَعَد: إذا تقدم لذلك، يستوي فيه الواحد، والجمع، يقال: رجلٌ فَرَطٌ، وقومٌ فَرَطٌ. أفاده في "المصباح"
(1)
.
ومعنى قوله: "وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ"؛ أي: متبعون لكم، وآتون إلى الآخرة بعدكم، فـ"التبع " بفتحتين يستوي فيه الواحد، وغيره، يقال: تَبع زيد عمرًا، من باب تَعِبَ: مشى خلفه، أو مَرَّ به، فمضى معه، والمصلي تبع لإمامه، والناس تبعٌ له، ويكون واحدًا، وجمعًا، ويجوز جمعه على أتباع، مثلُ سبب وأسباب، قاله في "المصباح" أيضًا
(2)
.
(أَسْأَل اللهَ) وفي نسخة: "نسأل الله"(لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ)؛ أي: محوَ الذنوب عنّا وعنكم، يقال: عفا الله عنك؛ أي: محا ذنوبَك، وعفوتُ عن الحقّ: أسقطتُهُ، كأنك محوتَهُ عن الذي هو عليه، وعافاه الله: محا عنه الأسقام، و"العافية": اسم منه، وهي مصدر جاءت على فاعلة، ومثله ناشئةُ الليل، بمعنى نُشُوء الليل، والخاتمةُ: بمعنى الختم، والعاقبة: بمعنى الْعُقُب، و {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)} [الواقعة: 2]، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسالتان تتعلقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2257](975)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(2040) و"الكبرى"(2167) و"عمل اليوم والليلة"(1091)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1547)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 340)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 353 و 359)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3173)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 53)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(594)،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 469.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 72.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 419.
و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 79)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1555)، وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(34) - (بَابُ اسْتِئذَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارةِ قَبْرِ أُمِّهِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2258]
(976) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيةَ، عَنْ يَزِيدَ، يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْتَأذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي
(1)
، فَلَمْ يَأَذَنْ لي، وَاسْتَأَذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأَذِنَ لي ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزَّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
3 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيةَ) بن الحارث بن أسماء الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
5 -
(أَبُو حَازِم) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
(1)
وفي نسخة: "في أن أستغفر لأمي".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه، فبغداديّان، والصحابيّ، فمدنيّ.
3 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه، رَأسُ المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اسْتَأَذَنْتُ رَبِّي)؛ أي: طلبت منه الإذن، وكان ذلك عام الفتح (أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي) وفي نسخة:"في أن أستغفر لأمي"؛ أي: أطلب لها أن يغفر ذنوبها (فَلَمْ يَأَذَنْ لِي) بالبناء للفاعل، وفي الرواية التالية:"فلم يؤذن لي" بالبناء للمفعول.
قال ابن الملك رحمه الله: إنما لم يأذن له؛ لأنها كافرة، والاستغفار للكافرين لا يجوز؛ لأن الله لا يغفر لهم أبدًا، وقال النووي رحمه الله: فيه النهي عن الاستغفار للكفّار، وقال الشوكانيّ رحمه الله: فيه دليل على عدم جواز الاستغفار لمن مات على غير ملة الإسلام.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ أن يكون هذا الاستئذان قبل نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [التوبة: 113]، ويَحْتَمِل أن يكون بعد ذلك؛ وارتجى خصوصية أمه بذلك، والله تعالى أعلم، وهذا التأويل الثاني أولى. انتهى
(1)
.
(وَاسْتَاذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا) وكان بالأبواء، بين مكة والمدينة.
و"الزيارة" -بكسر الزاي، وتخفيف الياء-: معناه القَصْدُ، يقال: زاره، زِيارةً، وزَوْرًا -بالفتح-: قصده، فهو زائرٌ، وزَوْرٌ -بفتح، فسكون-، وقَوم زَوْرٌ أيضًا، وزُوّارٌ، مثلُ سافرٍ، وسَفْرٍ، وسُفَار، ونسوةٌ زَوْرٌ أيضًا، وزُوَّرٌ،
(1)
"المفهم" 2/ 633 - 634.
وزائرات، والْمَزَار -بفتح الميم- يكون مصدرًا، وموضعُ الزيا رة، والزيَارةُ في الْعُرْف قَصْدُ المزور؛ إكرامًا له، واستئناسًا به، أفاده في "المصباح"
(1)
.
(فَأَذِنَ لِي") بالبناء للفاعل، قال القاضي عياض رحمه الله: سبب زيارته صلى الله عليه وسلم قبرها أنه قصد الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها، ويؤيّده قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "فزوروا القبور، فإنها نها تذكر الموت لا، وقيل: زيارته صلى الله عليه وسلم قبرها مع أنها كافرة تعليم منه للأمة حقوق الوالدين، والأقارب، فإنه لم يترك قضاء حقها مع كفرها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 2258 و 2259](976)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3234)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(2034) و"الكبرى"(2161)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1569 و 1572)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 343)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 441)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3169)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 55)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 375)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 76)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1554)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز زيارة قبر المشرك.
2 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على جواز زيارة المشركين في الحياة، وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة، وقد انقطع الأمل في إسلامهم ففي الحياة أولى؛ لأنه يمكن أن يُدعَوْا إلى الإسلام، ويشرح لهم محاسنه، وتكشف شبهاتهم، ويرغّبون في الدخول فيه، فيُرجَى بذلك إنقاذهم
(1)
"المصباح المنير" 1/ 260.
من النار، وقد ثبت في "الصحيح" أن غلامًا يهوديًّا كان يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمرض، فعاده النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم.
3 -
(ومنها): بيان جواز البكاء عند حضور المقابر؛ لما في الرواية التالية من كونه صلى الله عليه وسلم بكى، وأبكى من حوله.
4 -
(ومنها): بيان النهي عن الاستغفار للمشركين.
5 -
(ومنها): بيان تأكُّد بِرِّ الوالدين، وأن إسلامهما ليس شرطًا في وجوب بِرّهما، بل يلزم برّهما ولو كانا مشركين، كما قال الله تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} الآية [لقمان: 15]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال صاحب "المرعاة في شرح المشكاة": الحديث بظاهره يدلّ على أن أمه صلى الله عليه وسلم ماتت على غير الإسلام، وهو مذهب جمهور العلماء في شأن أبويه صلى الله عليه وسلم، وقد ترجم النسائيّ، وابن ماجه لهذا الحديث:"باب زيارة قبر المشرك".
قال السنديّ في حاشية النسائيّ: كأنه أخذ ما ذَكَرَ في الترجمة من المنع عن الاستغفار، أو من مجرّد أنه الظاهر على مقتضى وجودها في وقت الجاهليّة، لا من قوله:"فبكى، وأبكى"؛ إذ لا يلزم من البكاء عند الحضور في ذلك المحلّ العذاب، أو الكفر، بل يمكن تحققه مع النجاة، والإسلام أيضًا، لكن من يقول بنجاة الوالدين لهم ثلاث مسالك في ذلك:
مَسلَكُ أنهما ما بلغتهما الدعوة، ولا عذاب على من لم تبلغه الدعوة؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فلعلّ من سلك هذا المسلك يقول في تأويل الحديث: إن الاستغفار فرع تصوّر الذنب لهم، وذلك في أوان التكليف، ولا يُعقل ذلك فيمن لم تبلغه الدعوة، فلا حاجة إلى الاستغفار لهم، فيمكن أنه ما شُرع الاستغفار إلا لأهل الدعوة، لا لغيرهم، وإن كانوا ناجين، وأما من يقول بأنهما أُحييا له صلى الله عليه وسلم، فآمنا به، فيَحمِل هذا الحديث على أنه كان قبل الإحياء، وأما من يقول بأنه تعالى يوفقهما للخير عند الامتحان يوم القيامة، فهو يقول: بمنع الاستغفار لهما قطعًا، فلا حاجة له إلى تأويل، فاتضح وجه الحديث على جميع المسالك، والله تعالى أعلم. انتهى
كلام السنديّ
(1)
.
قال صاحب "المرعاة": ولا يخفى ما في الوجوه الثلاثة من الضعف؛ لأن حديث إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم ضعيف جدًّا حتى حكم عليه بعض الأئمة بالوضع، كالدارقطنيّ، والجوزقانيّ، وابن الجوزيّ، وابن دحية، وصرّح بضعفه فقط غير واحد، كابن شاهين، والخطيب، وابن عساكر، والسهيليّ، والمحبّ الطبريّ، وابن سيّد الناس، وقد اعترف بضعفه السيوطيّ أيضًا، حيث قال: وروى ابن شاهين حديثًا مسندًا في ذلك، لكن الحديث مضعّف.
وأما الآية الكريمة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} فهي مكيّة، وزيارته صلى الله عليه وسلم لقبر أمه كانت عام الفتح، وقيل: عام الحديبية، سنة ستّ من الهجرة، وقيل: الآية في حقّ الأمم السالفة السابقة خاصّة، وقيل: المنفيّ فيها عذاب الاستئصال في الدنيا، لا عذاب الآخرة، وقيل: المراد: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بعد مجيء الشرع، من أنواع العبادات والحدود.
وأما القول بأنه تعالى يوفقهما للخير عند الامتحان يوم القيامة، فهي دعوى مجرّدة، من غير برهان، فلا يُلتفت إليه.
قال النوويّ في شرح حديث أنس رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: "في النار"، قال: فلما قَفَّى دعاه، فقال:"إن أبي وأباك في النار"، ما نصّه: فيه أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان، فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء قد بلغتهم دعوة إبراهيم، وغيره من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
وهذا يدلّ على أن النوويّ يكتفي في وجوب الإيمان على كلّ أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل، وإن لم يكن مرسلًا إليه، وإلى هذا ذهب الْحَلِيميّ، كما صرّح به في "منهاجه".
وقال القاري: الجمهور على أن والديه صلى الله عليه وسلم ماتا كافرين، وهذا الحديث أصحّ ما ورد في حقّهما، وقول ابن حجر -يعني الهيتمي-: وحديث إحيائهما
(1)
"شرح السندي على النسائيّ" 4/ 90.
حتى آمنا به، ثم توفيا حديث صحيح، وممن صححه الإمام القرطبيّ، والحافظ ابن ناصر الدين
(1)
، فعلى تقدير صحته لا يصلح أن يكون معارضًا لحديث مسلم، مع أن الحفاظ طعنوا فيه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول ابن حجر: حديث صحيح، غير صحيح، وكذا نسبته التصحيح إلى القرطبيّ، وابن ناصر الدين غير صحيحة أيضًا، فقد ذكر السيوطيّ مَن مال إلى القول بإحيائهما، وإيمانهما من العلماء: الخطيبَ، والسهيليّ، والقرطبيّ، والمحب الطبريّ، والعلامة ناصر الدين ابن المنيّر، وغيرهم، وذكر استدلالةم بالحديث المذكور، ثم قال: هذا الحديث ضعيف باتفاق المحدثين، بل قيل: إنه موضوع إلى آخر كلامه، والسيوطىّ من أشدّ من حاول في إثبات النجاة لهما، ولكن عمدته في ذلك عموم الآيات، كقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية، وغيرها، والأدلة العقلية، فلو كان أحد من حفاظ الحديث قال بصحة هذا الحديث لذكره، ونصره، وهو مع شدة بحثه للأدلة في المسألة لم يستطع أن يصححه بكل ما أوتيه من العلم، وإنما دافع عن القول بوضعه فقط، ولم يبرهن على ذلك.
وبالجملة، فالحديث ما صححه عالم له عناية بالحديث، وإنما صححه من يَعْتَمِد على الرؤيا المنامية، والطرق الكشفية، التي لم يأذن الله تعالى بها في التشريع، وإنما غايتها إن كانت صحيحة أن يُستأنس بها في تثبيت ما ثبت
(1)
الظاهر أنه ابن ناصر الدين المعروف بابن المنير الآتي في كلام السيوطيّ، وليس هو المحدث الكبير الحافظ المشهور ابن ناصر الدين الدمشقيّ، بدليل أنه ضعّف الحديث، كما ذكر السيوطىّ عنه، ونصه: وقال الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقيّ في كتابه المسمى "مورد الصادي في مولد الهادي" بعد إيراده الحديث المذكور، منشدًا لنفسه:
حَبَا اللهُ النَّبِىَّ مَزِيدَ فَضْلٍ
…
عَلَى فَضْلٍ وَكَانَ بِهِ رَؤُوفَا
فَأَحْيَا أُمَّهُ وَكَذَا أَبَاهُ
…
لإِيمَانٍ بِهِ فَضْلًا لَطِيفَا
فَسَلِّمْ فَالْقَدِيمُ بِذَا قَدِيرٌ
…
وَإنْ كَانَ الْحَدِيثُ بِهِ ضَعِيفَا
فبان بهذا أن الحافظ ابن ناصر الدين ممن ضعّف الحديث، لا ممن صححه، فتنبه.
شرعًا، لا في إثبات ما أبطله علماء الحديث، وغيرهم ممن أوجب الله تعالى اتباعهم على الأمة، وجعلهم مرجعًا لها في المعضلات، حيث قال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقال القاري رحمه الله: ومنعوا جوازه أيضًا بأن إيمان اليأس غير مقبول إجماعًا، كما يدلّ عليه الكتاب والسنّة، وبأن الإيمان المطلوب من المكلّف إنما هو الإيمان الغيبيّ، وقد قال الله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية [الأنعام: 28]. وهذا الحديث الصحيح صريح أيضًا في ردّ ما تشبث به بعضهم بأنهما كانا من أهل الفترة، ولا عذاب عليهم، مع اختلاف في المسألة
(1)
.
قال صاحب "المرعاة": واعلم أن هذه المسألة كثر النزاع والخلاف بين العلماء فيها، فمنهم من نصّ على عدم نجاة الوالدين، كما رأيت في كلام النوويّ، والقاري، وقد بسط الكلام في ذلك القاري في "شرح الفقه الأكبر"، وفي رسالة مستقلّة له، ومنهم من شَهِد لهما بالنجاة، كالسيوطيّ، وقد ألّف في هذه المسألة سبع رسائل
(2)
، بسط الكلام فيها، وذكر الأدلة من الجانبين، من شاء رجع إليها، والأسلم، والأحوط عندي هو التوقّف، والسكوت. انتهى كلام صاحب "المرعاة".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأولى، والأسلم الوقوف مع النصوص الصحيحة، كحديث الباب، وحديث مسلم المذكور:"إن أبي وأباك في النار"، مع عدم التوسع والخوض بزيادة ما ليس في النصوص، وأما تصحيح حديث إحياء أبوي النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن حجر الهيتميّ فمما لا يُلتفت إليه، فإن جلّ الحفّاظ من المحدثين على أنه موضوع، كما أشرت إليه فيما تقدّم.
ثم إن هذه المسألة ما رأيت للمتقدّمين فيها كلامًا، بل إنما أثارها، وتنازع فيها، وخاض غَمْرَتَها المتأخرون، من أمثال السيوطي، ومن سار على دَرْبه فما وَسِع الأولين من السكوت، وعدم الخوض، وترك التنازع، والتخاصم
(1)
"مرقاة المفاتيح" 4/ 250 - 251.
(2)
كذا في "المرعاة"، والذي في كلام القاري "ثلاث رسائل"، فليُحرّر.
هو الصواب لمن كان حريصًا على دينه، فلو كان في هذا الخوض خير لكان المتقدّمون أسبق إليه، وأحرص من المتأخرين عليه، فسلوك سبيلهم فيه السلامة في الدنيا والآخرة، فالواجب الوقوف على ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم التوسّع، ونصبِ الخلاف فيما وراءه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2259]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ
(1)
، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي
(2)
، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ) بن أبي أميّة الطنافسيّ الكوفيّ الأحدب، ثقة حافظٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 32/ 234.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
وقوله: (زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ) قال القاضي: بكاؤه صلى الله عليه وسلم على ما فاتها من إدراكه، والإيمان به، وقيل: على عذابها، وفيه دليل على جواز البكاء عند حضور المقابر. انتهى.
وقوله: (فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي) بالبناء للمفعول، وفي بعض النسخ:"فلم يأذن لي" بالبناء للفاعل.
وقوله: (فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)؛ أي: وذكرُ الموت يزهّد في الدنيا، ويرغّب في العقبى.
(1)
وفي نسخة: "عن يزيد يعني: ابن كيسان".
(2)
وفي نسخة: "يأذن لي".
وقال القاضي عياض رحمه الله
(1)
: قوله: "فزوروها" بَيان في نسخ النهي عن زيارة القبور، وفي علّة الإباحة، وهو أن يكون للتذكر والاعتبار، لا للفخر والمباهاة، ولا لإقامة النوح والمآتم عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: فزوروها، ولا تقولوا هُجْرًا
(2)
.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث وُجِد في رواية أبي العلاء بن ماهان لأهل المغرب، ولم يوجد في روايات بلادنا من جهة عبد الغافر الفارسيّ، ولكنه يوجد في كثير من الأصول في آخر "كتاب الجنائز"، ويُضَبَّب عليه، وربما كتب في الحاشية: رواه أبو داود في "سننه" عن محمد بن سليمان الأنباريّ، عن محمد بن عبيد بهذا الإسناد، ورواه النسائي عن قتيبة، عن محمد بن عبيد، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن عبيد، وهؤلاء كلهم ثقات، فهو حديث صحيح بلا شك. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال الحافظ رحمه الله في "النكت الظراف" بعد نقل كلام النوويّ المذكور ما نصّه: قلت: قد ذكره الحميديّ في "الجمع"، من "صحيح مسلم" من طريق الجلوديّ، شيخ عبد الغافر، وكذا سبقه أبو مسعود في "أطراف الصحيحين"، وأخرجه البغويّ في "شرح السنّة" من طريق عبد الغافر الفارسيّ.
قال: وأقرب من هذا أن يُجمع بين الكلامين بأنه سقط من النسخ
(1)
"إكمال المعلم" 3/ 452 - 453.
(2)
حديث صحيح أخرجه النسائيّ (2033): أخبرني محمد بن قُدامة، قال: حدثنا جرير، عن أبي فروة، عن المغيرة بن سبيع، حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أنه كان في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إني كنت نهيتكم أن تأكلوا لحوم الأضاحي إلا ثلاثًا، فكلوا، وأطعموا، وادّخِروا ما بدا لكم، وذكرت لكم أن لا تنتبذوا في الظروف: الدباء، والمزَفّت، والنقير، والحنتم، انتبذوا فيما رأيتم، واجتنبوا كل مسكر، ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هُجْرًا".
(3)
"شرح النوويّ" 7/ 46.
المتأخّرة التي تدور على فقيه الحرم محمد الفضل الْفُرَاويّ، وعلى ذلك يُحمل كلام النوويّ، وكان ثابتًا في الأصل من طريق الجلوديّ، وعلى ذلك يُحمل صنيع صاحب "شرح السنّة"، وسائر من أثبته في "صحيح مسلم"، وأخرجه أبو نعيم الأصبهانيّ في "مستخرجه على صحيح مسلم" بأسانيده، وجزم بأن مسلمًا أخرجه، وكتاب مسلم عنده من طريق أبي العلاء بن ماهان التي وقعت لنا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله باختصار
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذا أن هذا الحديث ثابت في "صحيح مسلم"، ولذا أورده الحافظ المزّيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف"(10/ 92 - 93)، ولم يتكلم فيه بشيء، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2260]
(977) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، وَهُوَ ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ، فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ، إِلا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا"، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبِيهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
(1)
"النكت الظراف" 9/ 450 من نسخة "تحفة الأشراف".
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوق عارف، رمي بالتشيّع [9](195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
4 -
(أَبُو سِنَانٍ ضِرَارُ
(1)
بْنُ مُرَّةَ) الشيبانيّ الأكبر الكوفيّ، ثقة ثبت [6].
روى عن أبي صالح السمّان، وسعيد بن جبير، ومحارب بن دثار، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، وشريك، والسفيانان، وهُشيم، ومحمد بن فُضيل، وخالد الواسطىّ، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم.
قال ابن المدينيّ، عن يحيى القطّان: كان ثقة. وقال أبو طالب، عن أحمد: كوفيّ ثبت. وقال أبو حاتم: ثقة لا بأس به. وقال النسائيّ: كوفيّ ثقة. وقال العجليّ: ثقة ثبت في الحديث، مبرّز، صاحب سنّة، وهو في عداد الشيوخ، ليس بكثير الحديث. وقال ابن يونس، عن أبي بكر بن عيّاش: حدثنا أبو سنان ضِرَار بن مُرّة، وكان من خيار الناس. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، حَفَر قبره قبل موته بخمس عشرة سنة، وكان يأتيه، فيختم فيه القرآن. ونقل ابن خلفون، عن ابن نُمير، أنه وثقه. وقال يعقوب بن سفيان: كان خيارًا ثقة. وفي موضع آخر: ثقة ثقة. وقال الدارقطنيّ: كوفيّ ثقة فاضل. وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة ثبت. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات سنة (132) وكذا أرّخه يعقوب بن سفيان، وخليفة، وابن قانع.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد" وأبو داود في "المراسيل"، والباقون، سوى ابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وكرّره ثلاث مرّات، و (1151) حديث: "إن الصوم لي، وأنا أجزي به
…
" الحديث.
[تنبيه]: ولهم أبو سنان الشيبانىّ الأصغر، وهو سعيد بن سِنَان الْبُرْجُميّ الكوفيّ، نزيل الريّ، صدوق له أوهام، وهو أيضًا من الطبقة [6] وله في هذا الكتاب حديث واحد، وهو حديث: "لا وجدت، إنما بُنيت المساجد
…
"، وتقدّم في [18/ 1267](569).
(1)
بكسر أوله، مخفّف الراء.
5 -
(مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ) السّدوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقة إمام زاهد [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.
6 -
(ابْنُ بُرَيْدَةَ) هو: عبد الله بن بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ القاضي، ثقة [3] (ت 105) وقيل:(115)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
7 -
(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.
وأبو بكر بن أبي شيبة ذُكر قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لما سبق غير مرّة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما ابن المثنّى فمن التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير ابن المثنّى، فبصريّ، وبريدة وابنه فمروزيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) هو عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) بُريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَهَيْتُكُمْ) وفي رواية للنسائيّ: أنه كان في مجلسٍ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني كنت نهيتكم أن تأكلوا لحوم الأضاحي
…
" (عَنْ زِيارةِ الْقُبُورِ) قيل: سبب النهي عن زيارة القبور في أول الأمر أنهم كانوا حديثي عهد بالجاهليّة، وقريبي عهد بعبادة الأوثان، ودعاء الأصنام، فنُهُوا عن زيارة القبور، خشية أن يقولوا، أو يفعلوا عندها ما كانوا يعتادونه في الجاهلية، وخوفًا من أن يكون ذلك ذريعة لعبادة أهل القبور
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "المرعاة" 5/ 510.
(فَزُورُوهَا) وفي رواية للنسائيّ: "فمن أراد أن يزورها، فليزرها، ولا تقولوا هُجْرًا"، بضم، فسكون؛ أي: ما لا ينبغي من الكلام، وفي رواية له من طريق زُبيد بن الحارث، عن محارب:"فزوروها ولْتَزدكم زيارتها خيرًا"، وفي رواية له من طريق الزبير بن عديّ، عن ابن بُريدة:"ومن أراد زيارة القبور، فإنها تذكر الآخرة"، وللحاكم من حديث أنس رضي الله عنه:"وتُرِقّ القلبَ، وتُدمِع العين، فلا تقولوا هُجْرًا"، وله من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"فإنها تزهد في الدنيا"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، الماضي عند مسلم:"زوروا القبور، فإنها تذكّر الموت".
وفي قوله: "ومن أراد زيارة القبور إلخ" بيان أن الأمر في زيارتها للاستحباب، لا.
للوجوب؛ لأنه علّقه بالإرادة، ففيه الردّ على بعض من قال: إن زيارتها واجبة -كابن حزم- مستدلًّا بلفظ الأمر، حيث إنه للوجوب، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا من الأحاديث التي تَجمَع بين الناسخ والمنسوخ، وهو صريح في نسخ نهي الرجال عن زيارتها، وأجمعوا على أن زيارتها سنّة، وأما النساء ففيهنّ خلاف لأصحابنا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي أن الراجح هو الجواز للنساء أيضًا؛ لقوة دليله، والله تعالى أعلم.
(وَنَهَيْتُكمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِىِّ)؛ أي: عن أكل لحومها (فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ) وفي رواية: "فكلوا، وأطعموا، وادَّخِروا، ما بدا لكم".
وسبب نهيه صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، هو ما سيأتي للمصنف رحمه الله في "كتاب الأضاحي"(1971) من طريق عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دَفّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى، زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادَّخِروا ثلاثًا، ثم تصدقوا بما بقي"،
(1)
"شرح مسلم" 7/ 50.
فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويَجْمُلون منها الوَدَكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟ "، قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال:"إنما نهيتكم من أجل الدافّة التي دَفَّت، فكلوا، وادَّخِروا، وتصدقوا".
والدّافّة بتشديد الفاء: الجماعة التي تسير سيرًا ليّنًا، وسيأتي تمام ما يتعلّق به هناك -إن شاء الله تعالى-.
(وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ) فعيل بمعنى مفعول، يقال: نَبَذْته نَبْذًا، من باب ضرب: ألقيتُهُ، فهو منبوذ، وصبيّ منبوذ: مطروح، ومنه سمي النبيذ؛ لأنه يُنبَذ؛ أي: يُترك حتى يشتدّ. قاله في "المصباح".
والمعنى نهيتكم عن شرب النبيذ، في الظروف (إِلَّا) حالة كونه (فِي سِقَاءٍ)؛ أي: قِرْبَة، وفي رواية للنسائيّ:"وذكرت لكم أن لا تنتبذوا في الظروف: الدبّاء، والمزفّت، والنقير، والحنتم"(فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا) وفي رواية للنسائيّ: "في الأوعية كلها"، وهو بوزن "الأسقية" ومعناها، قال السنديّ رحمه الله: أي الظروف، وإلا لا يصحّ المقابلة. انتهى. (وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) وفي رواية للنسائيّ:"انتبذوا فيما رأيتم، واجتنبوا كلّ مسكر".
يعني أن الانتباذ في جميع الظروف جائز، وإنما المنهيّ عنه هو شرب المسكر.
وقوله: (قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ)؛ أي: محمد بن عبد الله بن نُمير شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) غرض المصنف رحمه الله بهذا بيان أن المكنّى في رواية أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن المثنّى بـ "ابن بُريدة" هو عبد الله بن بُريدة، كما بيّنه ابن نمير في روايته، وليس سليمان بن بُريدة أخاه، كما يأتي في رواية علقمة بن مرثد.
والحاصل أن هذا الحديث مرويّ عن ابني بُريدة: عبد الله، وسليمان، كلاهما عن أبيهما، ولكن رواية محارب بن دثار، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، وكذا رواية عطاء الخراسانىّ، وأما رواية علقمة بن مرثد، فعن سليمان، عن أبيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث بريدة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 2260 و 2261](977)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3698)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1054 و 1510 و 1869)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(2032 و 2033 و 4429 و 4430 و 5651 و 5652 و 5653 و 5654 و 5655 و 5678) و"الكبرى"(100 و 2159 و 2160 و 4518 و 4519)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(3405)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 530 و 531)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 55)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 76 و 77)، و (الدارقطني) في "سننه"(4/ 259)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(5/ 84)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 29)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 569)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 82) و"الأوسط"(3/ 219)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 240)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 355 و 356)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إباحة زيارة القبور، ونسخه بعد أن كان منهيًّا عنه، بشرط أن لا يقولوا منكرًا من القول، وأن لا يفعلوا فعلًا منكرًا أيضًا.
2 -
(ومنها): نسخ النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، وسيأتي تمام الكلام عليه في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
3 -
(ومنها): نسخ النهي عن الانتباذ، إلا في الأسقية، وإباحته في كلّ وعاء، بشرط الاتقاء عن شرب المسكر، وسيأتي تمام الكلام فيه أيضًا في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): بيان جواز النسخ في الشرع، ووقوعه، وهو مجمع عليه عند المسلمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم زيارة القبور:
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بعد أن أخرج حديث الباب ما
نصّه: والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بزيارة القبور بأسًا، وهو قول ابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.
وقال أيضًا بعد أن أخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنَ زَوّارات القبور" ما نصه: وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخّص النبيّ صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء، لقلة صبرهنّ، وكثرة جزعهنّ. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله
(1)
.
وقال العلامة القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فزوروها" نصّ في النسخ للمنع المتقدّم، لكن اختلف العلماء، هل هذا النسخ عامّ للرجال وللنساء، أم هو خاصّ للرجال، دون النساء؛ والأول أظهر. وقد دلّ على صحة ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى امرأة تبكي عند قبر، فلم يُنكر عليها الزيارة، وإنما أنكر عليها البكاء.
وقال أيضًا عند قوله: "فإنها تذكّر الموت" ما نصّه: وتَذَكُّر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء، على أن أصحّ ما في نهي النساء عن زيارة القبور ما خرّجه الترمذيّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن زَوّارات القبور"، صححه الترمذيّ على أن في إسناده عُمَر بن أبي سلمة، وهو ضعيف عندهم. ثم إن هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لأن زوّارات للمبالغة، ويمكن أن يقال: إن النساء إنما يُمنعن من إكثار الزيارة؛ لما يؤدي إليه الإكثار من تضييع حقوق الزوج، والتبرّج، والشهرة، والتشبّه بمن يلازم القبور لتعظيمها، ولِمَا يُخاف عليها من الصُّرَاخ، وغير ذلك من المفاسد، وعلى هذا يُفرّق بين الزائرات، والزوّارات، والصحيح نسخ المنع عن الرجال والنساء، كما تقدّم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبىّ رحمه الله، هو الحقّ؛ لقوة دليله، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح": قال النوويّ تبعًا للعبدريّ، والحازميّ،
(1)
انظر: "جامع الترمذيّ" 3/ 361 - 363.
(2)
"المفهم" 2/ 632 - 633.
وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة، كذا أطلقوا، وفيه نظر؛ لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين، وإبراهيم النخعيّ، والشعبىّ الكراهة مطلقًا، حتى قال الشعبيّ: لولا نهي النبي صلى الله عليه وسلم لزرت قبر ابنتي. فلعلّ من أطلق أراد بالاتفاق ما استقرّ عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ، والله أعلم.
ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة، ولو مرّة واحدة في العمر، لورود الأمر به.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدم أن الصواب كون الأمر للاستحباب؛ لصحة قوله صلى الله عليه وسلم في رواية النسائيّ رحمه الله: "فمن أراد أن يزور فليزر"، ولعلّ ابن حزم لم يستحضر هذه الرواية حينما قال بالوجوب، والله تعالى أعلم.
قال: واختُلف في النساء، فقيل: دخلن في عموم الإذن، وهو قول الأكثر، ومحلّه ما إذا أُمِنت الفتنة، ويؤيد الجواز حديث الباب -يعني حديث أنس رضي الله عنه الذي أورده البخاريّ مستدلًّا على مشروعية زيارة القبور، فقال في "صحيحه":
(1283)
- حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: مَرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، بامرأة تبكي عند قبر، فقال:"اتقي الله، واصبري"، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتت بابَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بَوّابِين، فقالت: لم أعرفك، فقال:"إنما الصبر، عند الصدمة الأولى".
وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريرُهُ صلى الله عليه وسلم حجة. وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة رضي الله عنها، فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة، أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، فقيل لها: أليس قد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت: نعم، كان نهى، ثم أمر بزيارتها.
وقيل: الإذن خاصّ بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في "المهذّب"، واستدلّ بحديث أحمد، والنسائيّ عن
عبد الله بن عمرو، قال: "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ بصر بامرأة
…
" الحديث، وفيه: قال لها: "ما أخرجك من بيتك، يا فاطمة؟ "، قالت: أتيت أهل هذا الميت، فترحّمت إليهم، وعزيتهم بميتهم، قال: "لعلك بلغت معهم الكُدَى؟ " قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، فقال لها: "لو بلغتها معهم، ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك". لكن الحديث ضعيف، ضعفّه النسائيّ.
وبحديث: "لعن الله زَوّارات القبور"، أخرجه الترمذيّ، وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس، ومن حديث حسان بن ثابت.
قال: واختلف من قال بالكراهة في حقّهنّ، هل هي كراهة تحريم، أو تنزيه؟. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الراجح في هذه المسألة هو ما عليه أكثر أهل العلم، من أن زيارة القبور جائزة للرجال والنساء؛ لصحّة الأحاديث بذلك:
[فمنها]: حديث الباب، فإن الخطاب، وإن كان للذكور، إلا أنه يشمل النساء بدليل الأحاديث الأخرى.
[ومنها]: حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدّم قبل هذا، وفيه: أنها قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟، قال:"قولي: السلام على أهل الديار، من المؤمنين، والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا، والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"، فإنه صلى الله عليه وسلم علّمها ما يُشرَع قوله عند زيارة القبور، ولم يمنعها من الزيارة، فدل على جوازه للنساء.
[ومنها]: ما أخرجه الحاكم بإسناد صحيح من طريق أبي التيّاح يزيد بن حميد، عن عبد الله بن أبي مليكة: "أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة
(1)
"الفتح" 3/ 492 - 493.
القبور؟ قالت: نعم كان نهى، ثمّ أمر بزيارتها"
(1)
.
[ومنها]: حديث أنس رضي الله عنه عند الشيخين، وقد تقدم قريبًا، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها زيارتها للقبر، وإنما أنكر عليها البكاء، وعدمَ الصبر، ولذلك استدلّ به الإمام البخاريّ على جواز زيارة القبور، ولم يذكر من الأحاديث الدالّة على الجواز في "باب زيارة القبور" غيره، قال الحافظ في "الفتح": وكأنه لم تثبت على شرطه الأحاديث المصرّحة بالجواز.
والحاصل أن هذه الأحاديث الصحاح تدلّ دلالة واضحة على جواز زيارة القبور للنساء، ولم يأت المانعون بحجة تُعارض هذه الأحاديث الصحاح، فكلّ ما استدلّوا به من الأحاديث لا يخلو من كلام.
[فمنها]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تقدم: "أنه صلى الله عليه وسلم لعن زَوّارات القبور"، فهو وإن صححه الترمذي، إلا أن في سنده عُمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والأكثرون على تضعيفه.
[ومنها]: حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه، أخرجه أحمد، وابن ماجه، واللفظ له:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّارات القبور"، وفي سنده عبد الرحمن بن بَهْمان، لم يرو عنه غير عبد الله بن عثمان بن خُثيم، وقال ابن المدينيّ: لا يعرف، ووثقه بعضهم.
[ومنها]: حديث ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، بلفظ:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها السرج"، وفي سنده أبو صالح باذان، أو باذام، مولى أم هانئ ضعفوه، ومنهم من كذّبه.
فهذه الأحاديث، وإن قيل: إنها يتقوّى بعضها ببعض، لكنها لا تعارض الأحاديث السابقة الصحيحة، لأمور:
(أحدهما): رجحان تلك عليها، من حيث الصحّة.
(الثاني): أن الظاهر كون النبيّ صلى الله عليه وسلم قالها قبل النسخ، كما بيّنته عائشة رضي الله عنها، لما سألها ابن أبي مليكة، كما تقدّم.
(الثالث): أنها محمولة على ما إذا كانت زيارتهنّ مشتملة على محظور،
(1)
راجع: "المستدرك" 1/ 376.
من النياحة، والجزع، وتجديد الحزن، أو من التبرّج، والتزيّن الذي يتسبب للفتنة.
وقد تقدم عن القرطبي رحمه الله، أن اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يُفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرّج، وما ينشأ من الصياح، وقد يقال: إذا أُمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهن؛ لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. انتهى.
قال الشوكانيّ رحمه الله: وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر. انتهى
(1)
.
والحاصل أن الصواب جواز زيارة القبور للنساء، لكن بشرط أن يكنّ ملتزمات بحدود الشرع، الذي أوجبه الشرع عليهنّ عند الخروج إلى المساجد، ونحوها، بأن يكنّ محتجبات، غير متطيبات، وغير مُظهرات زينتهنّ، وغير قاصدات للمحظور المذكور، من النياحة، بل لمجرّد السلام، والدعاء للميت، وتذكر الآخرة، والاعتبار بأصحاب القبور، كما بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك حينما أمر بزيارتها، بقوله:"إنها تذكر الآخرة"، وقوله:"تزهد في الدنيا"، و"تُرِقّ القلب، وتُدمع العين"، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب المحظورات بقوله:"فلا تقولوا هُجرًا"، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
[2261]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِىِّ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، أُرَاهُ عَنْ أَبِيهِ، الشَّكُّ مِنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ) زُهير بن معاوية بن حُديج الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
(1)
"نيل الأوطار" 4/ 134 - 135.
3 -
(زُبَيْدٌ الْيَامِىُّ) هو: زبيد بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية زُبيد الياميّ، عن محارب هذه، ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(4429)
- أخبرنا عمرو بن منصور، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد، وهو النفيليّ، قال: حدّثنا زهير (ح) وأنبأنا محمد بن معدان بن عيسى، قال: حدّثنا الحسن بن أعين، قال: حدّثنا زهير، قال: حدّثنا زُبيد بن الحارث، عن محارب بن دِثَار، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت نهيتكم عن ثلاث: عن زيارة القبور فزوروها، ولتزدكم زيارتها خيرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا منها، وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أيّ وِعاء شئتم، ولا تشربوا مسكرًا"، ولم يذكر محمد:"وأمسكوا". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[
…
] (
…
) - (ح) وَحَدَّثنَا
(1)
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ) بن محمد بن سفيان السُّواليّ، أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ ربما خالف [9](ت 215) على الصحيح (ع) وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وقد سبق له أثرٌ واحد في "المقدّمة" 6/ 61.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
[تنبيه]: رواية سليمان بن بُريدة، عن أبيه هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 56) فقال:
(2192)
- حدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا قبيصة
(1)
، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان، عن أبيه (ح) وثنا محمد بن إبراهيم، ثنا الحسين بن محمد بن حماد الحرانيّ، ثنا ابن بشار، والمغيرة بن عبد الرحمن، ثنا أبو عاصم، ثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمد صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه، فزوروها، فإنها تذكر الآخرة".
قال: رواه مسلم عن أبي بكر، عن قبيصة، عن سفيان، لفظ قبيصة
(2)
: "سألت ربي الزيارة لقبر أمي، فأَذن لي، فزاره، فبكى، فلم نَرَ يومًا أكثر باكيًا من يومئذ". انتهى.
[تنبيه آخر]: رواية سليمان بن بُريدة، عن أبيه هذه أخرجها المصنّف هنا في "الجنائز" عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن قبيصة بن عُقبة، -وفي "الأضاحي" عن حجاج بن الشاعر، عن أبي عاصم الضحّاك بن مَخْلد- كلاهما عن سفيان، عن علقمة بن مَرْثد، عنه به، وأعاده في "الأشربة" عن حجاج بقصّة الظروف، قاله الحافظ المزّيّ رحمه الله
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[
…
] (
…
) - (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي سِنَانٍ.
(1)
وقع في النسخة: "قتيبة"، والظاهر أنه غلط، فتنبّه.
(2)
وقع في النسخة أيضًا: "قتيبة"، والظاهر أنه غلط، فتنبّه.
(3)
"تحفة الأشراف" 2/ 84.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدّمة" 4/ 18.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّىّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، عَمِي، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
5 -
(مَعْمَرُ) بن راشد البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
6 -
(عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِىُّ) هو: عطاء بن أبي مسلم، أبو أيوب، ويقال: أبو عثمان، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو صالح البلخيّ: نزيل الشام، مولى الْمُهَلَّب بن أبي صُفْرَة الأزديّ، اسم أبيه عبد الله، ويقال: ميسرة، صدوقٌ يَهِم كثيرًا، ويُرسل، ويدلّس [5].
رَوَى عن الصحابة مرسلًا، كابن عباس، وعدي بن عدي الكنديّ، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأنس، وكعب بن عجرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهم.
ورَوَى عنه عثمان ابنه، وشعبة، وإبراهيم بن طهمان، وأبو عبد الرحمن إسحاق بن أسيد الخراساني، وداود بن أبي هند، ومعمر، وابن جريج، والأوزاعي، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: ثقة صدوق، قلت: يحتج به؟ قال: نعم. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: ثقة في نفسه، إلا أنه لم يَلْقَ ابن عباس. وقال أبو داود: ولم يدرك ابن عباس، ولم يره. وقال حجاج بن محمد عن شعبة: ثنا عطاء الخراسانيّ، وكان نسيًّا. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، يخطئ، ولا يَعْلَم، فبطل الاحتجاج به. قال ابن القطان: اسم أبيه عبد الله، كذا جزم به، وهذا قول مالك، وكان إبراهيم
الصائغ يكنيه، وأما الأكثر فقالوا: ابن ميسرة، منهم أحمد، ويحيى بن معين، وقد ترجم البخاري لعطاء الخراساني ترجمتين: أحدهما عطاء بن عبد الله، قال: وهو ابن أبي مسلم، والثاني عطاء بن ميسرة، وقال الخطيب في:"الموضح": هما واحد. وقال ابن سعد: كان ثقة، روى عنه مالك. وقال الطبراني: لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أنس. وقال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كان يُحيي الليل. وعن عطاء: قال: أوثق أعمالي في نفسي نشر العلم. قال ابنه عثمان بن عطاء: مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وقال أبو نعيم الحافظ: كان مولده سنة (50).
أخرج له الجماعة، سوى البخاريّ، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية عطاء الخراسانيّ، عن عبد الله بن بُريدة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(22496)
- حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن عطاء الخراسانيّ، حدّثني عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة، ونهيتكم عن نبيذ الجرّ، فانتبذوا في كل وعاء، واجتنبوا كل مسكر، ونهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا، وتزوّدوا، وادَّخِرُوا". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(35) - (بَابُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[2262]
(978) - (حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ الْكُوفِيُّ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: أُتِى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ
(1)
الْكُوفِيُّ) أبو جعفر، مولى بني هاشم، ثقةٌ [10](230)(م) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية، أبو خيثمة المذكور في الباب الماضي.
3 -
(سِمَاكُ) بن حرب بن أوس، تقدّم قريبًا.
4 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا أيضًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (141) من رباعيّات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فمن أفراده، وسماك علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أُتِيَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(2)
. (بِمَشَاقِصَ) جمع مِشْقَص بكسر الميم، وفتح القاف: هو نَصْلُ السهم؛ إذا كان طويلًا، غيرَ عريض (فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) ولفظ النسائيّ: أن رجلًا قتل نفسه بمشاقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أنا فلا أصلي عليه".
قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل لمن يقول: لا يُصلَّى على قاتل نفسه؛ لعصيانه، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز، والأوزاعيّ، وقال الحسن، والنخعيّ، وقتادة، ومالك، وأبو حنيفة، والشّافعيّ، وجماهير العلماء: يصلَّى عليه، وأجابوا بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ عليه بنفسه زجرًا للناس عن مثل فعله، وصلّت عليه الصحابة، وهذا كما ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الأمر الصلاة على من عليه دَين، زجرًا لهم عن التساهل في الاستدانة، وعن إهمال وفائه، وأمر
(1)
بتشديد اللام.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 185.
أصحابه بالصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"صلّوا على صاحبكم". انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: مذهب العلماء كافّة الصلاة على كل مسلم، ومحدود، ومرجوم، وقاتل نفسه، وولد الزنى، وعن مالك وغيره أن الإمام يجتنب الصلاة على مقتول في حدّ، وأن أهل الفضل لا يصلون على الفُسّاق؛ زجرًا لهم.
وعن الزهريّ: لا يصلى على مرجوم، ويصلى على المقتول في قصاص.
وقال أبو حنيفة: لا يصلى على محارب، ولا على قتيل الفئة الباغية.
وقال قتادة: لا يصلى على ولد الزنى، وعن الحسن لا يصلى على النفساء تموت من زنًا، ولا على ولدها.
ومنع بعض السلف الصلاة على الطفل الصغير، واختلفوا في الصلاة على السقط، فقال بها فقهاء المحدثين، وبعض السلف إذا مضى عليه أربعة أشهر، ومنعها جمهور الفقهاء حتى يَسْتَهِلّ، وتُعرَف حياته بغير ذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن السقط يُصلّى عليه؛ لما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعًا:"والسقط يُصَلَّى عليه، ويُدْعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة"، وهو حديث صحيح.
قال: وأما الشهيد المقتول في حرب الكفار، فقال مالك، والشافعيّ، والجمهور: لا يُغْسَل، ولا يصلى عليه، وقال أبو حنيفة: يُغْسَل ولا يصلى عليه، وعن الحسن يغسل ويصلى عليه. انتهى كلام القاضي باختصار
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح قول من قال بجواز الصلاة على الشهيد، قال الإمام أحمد رحمه الله: الصلاة عليه أجود، وإن لم يصلّوا عليه أجزأ، وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: إن صُلِّي على الشهيد فحسنٌ، وإن لم يصلّ عليه فحسن، وقد حقّقت المسألة بما فيه الكفاية في "شرح النسائيّ"
(3)
، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"شرح مسلم" 7/ 51، كتاب الجنائز رقم الحديث 2259.
(2)
راجع: "إكمال المعلم" 3/ 454 - 455.
(3)
راجع: "ذخيرة القعبى" 19/ 207 - 215 رقم الحديث (1953).
وقال القرطبيّ رحمه الله: لعلّ هذا القاتل لنفسه كان مستحلًّا لقتل نفسه، فمات كافرًا، فلم يصلّ عليه لذلك، وأما المسلم القاتل لنفسه فيُصلَّى عليه عند كافّة العلماء. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يردّ قول القرطبىّ: كان مستحلًّا
…
إلخ قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا أصلي عليه"؛ لأن تقديره: وأما أنتم فصلّوا عليه؛ لأن "أما" للتفصيل، فيكون المراد تفصيل حال المصلين عليه بين من لا يصلّي، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبين من يصلّي، وهم الصحابة رضي الله عنهم، فدلّ على أنه مسلم، وليس بكافر، وأما تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه مع كونه مسلمًا؛ زجرًا لغيره؛ لئلّا يتجاسروا بقتل أنفسهم.
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: واختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه، فكان الحسن، والنخعيّ، وقتادة يرون الصلاة عليه، وقال الأوزاعيّ: لا يصلى عليه، وذكر أن عمر بن عبد العزيز لم يُصلّ عليه.
قال ابن المنذر رحمه الله: سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا، وقد دخل في جملتهم الأخيار والأشرار، ومن قُتل في حدّ، ولا نعلم خبرًا أوجب استثناء أحد ممن ذكرناهم، فيُصَلَّى على من قتل نفسه، وعلى من أصيب في أيّ حدّ أصيب فيه، وعلى شارب الخمر، وولد الزنا، لا يُستثنَى منهم إلا من استثناه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة، وقد ثبت أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم صلى على من أصيب في حدّ. انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله حسنٌ جدًّا، وهو أن يصَلَّى على جميع المسلمين، إلا من صحّ استثناؤه منهم، كالشهيد، إلا أن للإمام خاصّةً أن لا يصلي على من يَحِيف في الوصيّة
(2)
، وعلى من غَلّ، وعلى من عليه دَين، وعلى من قَتَلَ نفسه، إن رأى ذلك؛ لأجل أن ينزجر الناس عن مثل أفعالهم، وقد استوفيت بيان أدلّة ما ذُكر في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصوب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
الأوسط 5/ 406 - 409.
(2)
هذا على تقدير صحة حديثه، لكن الحديث لا يصحّ، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة علىّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثامن عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" والمؤذّن يؤذّن لصلاة الظهر يوم الاثنين المبارك (25/ 1/ 1428 هـ الموافق 13 فبراير - شباط 2007 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 183].
(اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء التاسع عشر مفتتحًا بـ 12 - كِتَاب الزكاة، (1) - (بَابُ بَيَانِ مَا تَجِبُ فيهِ الزَّكَاةُ، وكَمْ مِقْدَارُ ما يُخْرَجُ) رقم الحديث [2263](979).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *