المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليلة الجمعة المباركة 29/ 1/ 1428 هـ - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ١٩

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليلة الجمعة المباركة 29/ 1/ 1428 هـ أول الجزء التاسع عشر من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى، البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج، رحمه الله تعالى.

‌12 - (كِتَابُ الزَّكَاةِ)

أي هذا كتاب تُذكر فيه الأحاديث الدّالة على أحكام الزكاة.

وإنما ذَكَر "كتاب الزكاة" عقيب "كتاب الصلاة"؛ لأن الزكاة ثالثة الإيمان، وثانية الصلاة في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3]، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "بُنى الإسلام على خمس

" الحديث

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في بيان ما يتعلّق بلفظ "الزكاة" من حيث اشتقاقها، ومعناها لغةً وشرعًا:

قال العلامة ابن الأثير رحمه الله: قد تكرّر في الحديث ذكر "الزكاة"، و"التزكية"، وأصل "الزكاة" في اللغة: الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح، وكلّ ذلك قد استُعمِل في القرآن، والحديث، ووزنها فَعَلَة كالصدقة، فلما تحركت الواو، وانفتح ما قبلها انقلبت ألفًا، وهي من الأسماء المشتركة بين الْمُخرَج، والفعل، فتُطلَق على العين، وهي الطائفة من المال الْمُزَكَّى بها، وعلى المعنى، وهو التزكية. ومن الجهل بهذا البيان أُتِي من ظَلَم نفسه بالطعن على قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)} [المؤمنون: 4] ذاهبًا إلى العين،

(1)

راجع: "عمدة القاري" 8/ 233.

ص: 5

وإنما المراد المعنى الذي هو التزكية، فالزكاة طُهْرة للأموال، وزكاة الفطر طُهرة للأبدان. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: والزكاء بالمدّ: النماء، والزيادة، يقال: زكا الزرع والأرض تزكو زُكُوًّا، من باب قعد، وأزكى بالألف مثله، وسُمّي القدرُ الْمُخرَج من المال زكاةً؛ لأنه سبب يُرجى به الزكاءُ، وزكَّى الرجلُ ماله -بالتشديد- تزكيةً، والزكاةُ اسم منه، وأزكى الله المالَ، وزكّاه بالألف، والتثقيل. وإذا نسبت إلى الزكاة وجب حذفُ الهاء، وقلبُ الألف واوًا، فيقال: زكويّ، كما يقال في النسبة إلى حصاة حَصَويّ؛ لأن النسبة تردّ إلى الأصول، وقولهم: زكاتيّةٌ عاميّ، والصواب زكويّة. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله في "المجموع": قال الإمام أبو الحسن الواحديّ: الزكاة تطهير للمال، وإصلاح له، وتمييز، وإنماء، كلّ ذلك قد قيل، قال: والأظهر أن أصلها عن الزيادة، يقال: زكا الزرع يزكو زَكَاءً ممدود، وكلّ شيء ازداد فقد زكا، قال: والزكاة أيضًا الصلاح، وأصلها من زيادة الخير، يقال: رجلٌ زَكِىٌّ؛ أي: زائد الخير، من قوم أزكياء، وزَكَّى القاضي الشهودَ: إذا بيّن زيادتهم في الخير، وسمي ما يُخرَج من المال للمساكين بإيجاب الشرع زكاةً؛ لأنها تزيد في المال الذي أُخرِجت منه، وتوفّره في المعنى، وتقيه الآفات، هذا كلام الواحديّ.

وأما الزكاة في الشرع، فقال صاحب "الحاوي" وآخرون: هو اسم لأخذ شيء مخصوص، من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة، لطائفة مخصوصة.

و [اعلم]: أن الزكاة لفظة عربيّة معروفة قبل ورود الشرع، مستعملة في أشعارهم، وذلك كثير من أن يُستدلّ له، قال صاحب "الحاوي": وقال داود الظاهريّ: لا أصل لهذا الاسم في اللغة، وإنما عُرف بالشرع، قال صاحب "الحاوي": وهذا القول -وإن كان فاسدًا- فليس الخلاف فيه مؤثّرًا في أحكام الزكاة. انتهى كلام النوويّ

(3)

.

(1)

"النهاية" 2/ 307.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 254.

(3)

"المجموع" 5/ 295.

ص: 6

وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح": والزكاة في اللغة: النماء، يقال: زكا الزرع: إذا نما، وتَرِد أيضًا في المال، وترد أيضًا بمعنى التطهير. وشرعًا بالاعتبارين معًا.

أما بالأول فلأن إخراجها سبب للنماء في المال، أو بمعنى أن الأجر بسببها يكثر، أو بمعنى أن متعلّقها الأموال، ذات النماء، كالتجارة، والزراعة، ودليل الأول:"ما نقص مالٌ من صدقة"

(1)

، ولأنها يضاعف ثوابها، كما جاء:"إن الله يربّي الصدقة"

(2)

.

وأما بالثاني: فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، وتطهير من الذنوب.

وهي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها.

وقال ابن العربيّ: تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة، والمندوبة، والنفقة، والحقّ، والعفو. وتعريفها في الشرع: إعطاء جزء من النصاب الحوليّ إلى فقير ونحوه، غير هاشميّ، ولا مطّلبيّ.

ثم لها ركنٌ، وهو الإخلاص، وشرطٌ، هو السبب، وهو ملك النصاب الحوليّ، وشرطُ من تجب عليه، وهو العقل، والبلوغ، والحرّيّة.

ولها حكم، وهو سقوط الواجب في الدنيا، وحصول الثواب في الأخرى.

وحكمة: وهي التطهير من الأدناس، ورفع الدرجة، واسترقاق الأحرار، فإن الإنسان عبد الإحسان. انتهى. وهو جيّدٌ لكن في شرط من تجب عليه اختلاف.

والزكاة أمر مقطوع به في الشرع، يَستغني عن تكلّف الاحتجاج له، وإنما وقع الاختلاف في فروعه، وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(3)

.

وقال العلامة ابن الملقّن رحمه الله في كتابه "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام": الزكاة في اللغة: النماء، والتطهير. فمن الأول قولهم: زَكَى الزرعُ؛ أي: نما، فالمال ينمو بإخراج الزكاة من حيث لا يُرى، وإن كان في الظاهر يُحسّ بالنقصان، وقد صحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما نقص مال من صدقة". وقد وقع لبعض الصالحين، فوجد وزن ما عنده كما كان قبل الصدقة. وقيل: يزكو عند الله

(1)

أخرجه مسلم.

(2)

متّفقٌ عليه بنحوه.

(3)

"الفتح" 4/ 5.

ص: 7

أجرها، كما صحّ أن الله تعالى يربّي الصدقة حتى تكون كالجبل. وقيل: لأن متعلقها الأموال ذات النماء، فسميت بالنماء لتعلقها به.

ومن الثاني: قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآية [التوبة: 103]، وقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} [الشمس: 9]؛ أي: طهّرها من دنس المعاصي والمخالفات، دليله قوله تعالى:{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 10]؛ أي: أخملها بالمعاصي، فالزكاة تطهّر النفس من رذيلة البخل وغيره. وقد قيل: من أذى زكاة ماله لم يُسَمّ بخيلًا، وتطهّر أيضًا من الذنوب، وتطهّر المال أيضًا من الخبث. وقيل: سميت زكاةً لأنها تزكي صاحبها، وتشهد بصحّة إيمانه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"والصدقة بُرهان" رواه مسلم. وقد قيل في قوله تعالى: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] لا يشهدون أن لا إله إلا الله. وتسمى أيضًا صدقةً؛ كما نصّ عليه القرآن والسنّة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها، وصحّة إيمانه ظاهرًا وباطنًا. وتسمى أيضًا حقَّا، قال تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، ونفقةً، قال تعالى:{وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وعفوًا، قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] فهذه خمسة أسماء.

وقوله تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74]، وقوله:{غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 19]؛ أي: طاهرًا. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14]، وقوله:{الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} [الليل: 18]؛ أي: يتقرّب. وقيل: يعمل صالحًا.

وجاء في القرآن بمعنى الإسلام، قال تعالى:{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)} [عبس: 7]. وبمعنى الحلال، قال تعالى:{أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19]. ومن العجب إنكار داود الظاهريّ وجود الزكاة لغة، وقال: إنما عُرفت بالشرع.

وهي في الشرع: اسم لما يُخرج من المال طهارةً له.

وشُرعت لمصلحة الدافع طهرةً له، وتضعيفًا لأجره، ولمصلحة الآخذ سدًّا لخلّته.

وأفهم الشرع أنها وجبت للمساواة، وأنها لا تكون إلا في مال له بالٌ، وهو النصاب، ثم جعلها في الأموال النامية، وهي العين، والزرع، والماشية. وأجمعوا على أن وجوب الزكاة في هذه الأنواع، واختلفوا فيما سواها كالعروض، والجمهورُ على الوجوب فيها؛ خلافًا لداود، مستدلًّا بحديث:

ص: 8

"ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقة". متفق عليه، وحمله الجمهور على ما كان للقنية. وحدّد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة.

فنصاب الفضّة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنصّ الحديث. وأما الذهب، فعشرون مثقالًا بنصّ الحديث، والإجماع أيضًا، وإن كان فيه خلاف شاذّ. وأما الزرع والثمار والماشية، فنُصُبُها معلومة.

ورتّب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها، وأقلها تعبًا الركاز، وفيه الخمس؛ لعدم التعب فيه، ويليه الزرع والثمر، فإن سُقي بماء السماء، ونحوه، ففيه العشر، وإلا فنصفه؛ لأن في الأول التعبَ من طرف

(1)

، والثاني من طرفين، ويليه الذهب والفضة، والتجارة، ففيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة، ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص

(2)

، بخلاف الأنواع السابقة.

فالمأخوذ إذًا: الْخُمُس، ونصفه، وربعه، وثمنه، وهذا من حسن ترتيب الشريعة، وهو التدريج في المأخوذ. انتهى كلام ابن الملقّن

(3)

.

وقال القرطبىّ رحمه الله: وتسمى الزكاة صدقةً مأخوذة من الصدق؛ إذ هي دليل على صحّة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره.

قال: وشرعها الله تعالى مواساة للفقراء، وتطهيرًا للأغنياء من البخل، وإنما تجب على من كان له من المال ما له بالٌ، وأقلّ ذلك النصاب على ما يأتي بيانه.

ثم موضوعها الأموال النامية؛ أي: الصالحة للنماء، وهي العين، والحرث، والماشية، ثم هذه الأصول منها ما ينمو بنفسه، كالحرث والماشية، ومنها ما ينو بتغيير عينه وتقليبه كالعين. والإجماع منعقدٌ على تعلّق الزكاة بأعيان هذه المسميات، فأما تعلّق الزكاة بما سواها من العروض، والديون، ففيها ثلاثة أقوال:

(1)

وقع في الكتاب بلفظ "من طرفين" في الموضعين، والظاهر أن الأول خطأ.

(2)

جمع وَقَص بفتحتين، وهو ما بين الفريضتين من نُصُب الزكاة مما لا شيء فيه.

اهـ. مصباح.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 7 - 11.

ص: 9

فأبو حنيفة يوجبها على الإطلاق، وداود يُسقطها في ذلك، ومالك يوجبها في عروض التجارة، وفي الديون تفصيل يعرف في كتب الفقه، وسيأتي حجة كل فريق في تضاعيف الكلام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله القرطبيّ من إيجاب الإمام أبي حنيفة الزكاة في الديون على الإطلاق، ليس كما قال، بل في مذهبه تفصيل، فليُرجَع لكتب مذهبه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في السنة التي فُرضت فيها الزكاة:

ذهب الأكثرون إلى أنّ فرضيتها وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية، قبل فرض رمضان، أشار إليه النوويّ في "باب السير" من كتابه "الروضة". وجزم ابن الأثير في "التاريخ" بأن ذلك كان في السنة التاسعة. وهذا -كما قال الحافظ- فيه نظر، فقد ثبت في حديث ضمام بن ثعلبة، وفي حديث وفد عبد القيس، وفي عدّة أحاديث ذكر الزكاة، وكذا مخاطبة أبي سفيان مع هرقل، وكانت في أول السابعة، وقال فيها:"يأمرنا بالزكاة"، لكن يمكن تأويل كلّ ذلك، كما سيأتي في آخر الكلام.

وقوّى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصّة ثعلبة بن حاطب المطوّلة، ففيها:"لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عاملًا، فقال: ما هذه إلا جزية، أو أخت الجزية". والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة. لكن الحديث ضعيف، لا يُحتجّ به.

وادّعَى ابن خزيمة في "صحيحه" أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتجّ بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصّة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب، قال للنجاشيّ في جملة ما أخبره به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام". انتهى.

قال الحافظ: وفي استدلالة بذلك نظرٌ؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فُرضت بعدُ، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشيّ، وإنما أخبره بذلك بعد مدّة، قد وقع فيها ما ذكر،

(1)

"المفهم" 3/ 5.

ص: 10

من قصّة الصلاة، والصيام، وبلغ ذلك جعفرًا، فقال:"يأمرنا" بمعنى يأمر به أمته، وهو بعيدٌ جدًّا.

وأولى ما حُمل عليه حديث أم سلمة هذا -إن سَلِمَ من قدح في إسناده- أن المراد بقوله: "يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام"؛ أي في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس، ولا بالصيام صيام رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.

ومما يدلّ على أن فرض الزكاة كان قبل السنة التاسعة حديث أنس رضي الله عنه في "الصحيح" في قصّة ضمام بن ثعلبة، وفيه قوله: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا، فتردها على فقرائنا؟ وكان قدوم ضمام سنة خمس، كما تقدّم، وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمّال لأخذ الصدقات، وذلك يقتضي تقدّم فريضة الزكاة قبل ذلك.

ومما يدلّ على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فُرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدّالة على فرضيته مدنيّة بلا خلاف.

وثبت عند أحمد، وابن خزيمة أيضًا، والنسائيّ، وابن ماجه، والحاكم، من حديث قيس بن سعد بن عُبادة، قال:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت الزكاة، فلم يأمرنا، ولم ينهنا، ونحنُ نفعله". إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمّار الراوي له عن قيس بن سعد، وهو كوفيّ، اسمه عَرِيب -بالمهملة المفتوحة- ابن حُميد، وقد وثّقه أحمد، وابن معين، وهو دالٌّ على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان، وذلك بعد الهجرة، وهو المطلوب.

ووقع في "تاريخ الإسلام": في السنة الأولى فُرِضت الزكاة. وقد أخرج البيهقيّ في "الدلائل" حديث أم سلمة المذكور من طريق "المغازي لابن إسحاق" من طريق يونس بن بُكير، عنه، وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من حديث ابن إسحاق، لكن من طريق سلمة بن الفضل، عنه، وفي سلمة مقال

(1)

.

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 9 - 10.

ص: 11

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الراجح أن فرض الزكاة كان بعد الهجرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن تجب عليه الزكاة:

قال الإمام محمد بن رُشد رحمه الله في كتابه "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد": اتفقوا على أنها تجب على كل مسلم حرّ، بالغ، عاقل، مالك للنصاب، ملكًا تامًّا.

واختلفوا في وجوبها على اليتيم، والمجنون، والعبيد، وأهل الذّمّة، والناقص الملك، مثل الذي عليه دينٌ، أو له الدين، ومثل المال المحبّس الأصل.

فأما الصغار، فإن قومًا قالوا: تجب عليهم الزكاة في أموالهم، وبه قال عمر، وعلىّ، وابن عمر، وجابر، وعائشة، والحسن بن عليّ من الصحابة رضي الله عنهم، وبه قال جابر بن زيد، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وربيعة، ومالك، والشافعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم من فقهاء الأمصار.

وقال قوم: ليس في مال اليتيم صدقة أصلًا. وبه قال النخعيّ، والحسن، وسعيد بن جبير، من التابعين.

وفرّق قوم بين ما تُخرج الأرض، وبين ما لا تُخرجه، فقالوا: عليه الزكاة فيما تُخرجه الأرض، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك، من الماشية، والنّاضّ

(1)

، والعُرُوض، وغير ذلك. وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه.

وفرق آخرون بين النّاضّ وغيره، فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناضّ.

قال ابن رشد: وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه، أو لا إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية، هل هي عبادة كالصلاة، والصيام؟ أم هي حقّ واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال: إنها عبادة اشترط فيها البلوغ، ومن قال: إنها حقّ واجبٌ للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، لم يَعتَبِر في

(1)

أي: الدراهم والدنانير، فقد ذكر في "القاموس" من معاني "الناضّ": الدرهم والدينار، أو إنما يسمّى ناضًّا إذا تحوّل عينًا بعد أن كان متاعًا. انتهى بتصرّف.

ص: 12

ذلك بلوغًا من غيره، وأما من فرّق بين ما تُخرجه الأرض، أو لا تخرجه، وبين الخفيّ والظاهر، فلا أعلم له مستندًا في هذا الوقت. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المذهب الأول عندي هو الأرجح؛ لعموم النصوص الصحيحة في إيجاب الزكاة، ولما روي من آثار عن الصحابة: عمر، وعليّ، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم، رواها أبو عبيد، والبيهقيّ، والدارقطنىّ وغيرهم. والله تعالى أعلم.

قال: وأما أهل الذمّة، فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم؛ إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب -أعني أن يؤخذ منهم مِثلا ما يؤخذ من المسلمين في كلّ شيء-.

وممن قال بهذا: الشافعىّ، وأبو حنيفة، وأحمد، والثوريّ، وليس عن مالك في ذلك قولٌ، وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه ثبت أنه فعل عمر بن الخطّاب بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيفٌ، ولكن الأصول تعارضه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كون هذا الذي أُخذ من نصارى بني تغلب زكاة فيه نظرٌ لا يخفى. والله تعالى أعلم.

قال: وأما العبيد فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب:

فقوم قالوا: لا زكاة في أموالهم أصلًا، وهو قول ابن عمر، وجابر من الصحابة رضي الله عنهم، ومالك، وأحمد، وأبي عُبيد، من الفقهاء.

وقال آخرون: بل زكاة مال العبد على سيده، وبه قال الشافعيّ، فيما حكاه ابن المنذر، والثوريّ، وأبو حنيفة، وأصحابه.

وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة، وهو مرويّ عن ابن عمر، من الصحابة، وبه قال عطاء، من التابعين، وأبو ثور من الفقهاء، وأهل الظاهر، وبعضهم

(1)

. وجمهور من قال: لا زكاة في مال العبد هو على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق. وقال أبو ثور: في مال المكاتب زكاة.

وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد اختلافهم في هل يملك العبد ملكًا تامًّا أو غير تام؟ فمن رأى أنه لا يملك ملكًا تامًّا، وأن السيّد هو المالك؛ إذ

(1)

هكذا النسخة بالواو، ولعله (أو بعضهم) بـ (أو)، فليُحرّر.

ص: 13

كان لا يخلو مال من مالك، قال: الزكاة على السيّد، ومن رأى أنه لا واحد منهما يملكه ملكًا تامًّا، لا السيّد؛ إذ كانت يد العبد هي التي عليه، لا يد السيّد، ولا العبد أيضًا؛ لأن للسيّد انتزاعه منه، قال: لا زكاة في ماله أصلًا. ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرّفها فيه تشبيهًا بتصرّف يد الحرّ قال: الزكاة عليه، لا سيّما من كان عنده أن الخطاب العامّ يتناول الأحرار والعبيد، وأن الزكاة عبادة تتعلّق بالمكلّف لتصرّف اليد في المال.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول الأخير هو الظاهر عندي؛ لأن النصوص تعمّ الحرّ والعبد، وظواهر النصوص أن العبد يملك إذا أذن له السيّد في التصرّف. والله تعالى أعلم.

قال: وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم، وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال قوم: لا زكاة في مال حَبًّا كان، أو غيره حتى تُخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زُكّي، وإلا فلا. وبه قال الثوريّ، وأبو ثور، وابن المبارك، وجماعة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدَّين لا يمنع زكاة الحبوب، ويمنع ما سواها.

وقال مالك: الدَّين يمنع زكاة الناضّ فقط، إلا أن يكون له عُروض فيها وفاء من دينه، فإنه لا يَمنع.

وقال قوم بمقابل القول الأول، وهو أن الدَّين لا يمنع زكاة أصلًا.

والسبب في اختلافهم اختلافُهم: هل الزكاة عبادة، أو حقّ مرتّبٌ في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حقّ لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدَّين؛ لأن حقّ صاحب الدَّين متقدّم بالزمان على حقّ المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدَّين، لا للذي المالُ بيده، ومن قال: هي عبادة قال: تجب على من بيده مالٌ؛ لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلّف، سواء كان عليه دَينٌ، أو لم يكن؛ وأيضًا فإنه قد تعارض هنالك حقّان: حقّ لله، وحقّ للآدميّ، وحقّ الله أحقّ أن يُقضى. والأشبه بغرض

ص: 14

الشرع إسقاط الزكاة عن المديون؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتُردّ على فقرائهم

" والمديون ليس بغنيّ. وأما من فرّق بين الحبوب، وغير الحبوب، وبين الناضّ، وغير النّاضّ، فلا أعلم له شبهة بيّنة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأقرب عندي أن من عليه دَين يستغرق ماله، لا زكاة عليه أصلًا، ومن عليه دين لا يستغرق لا زكاة عليه بقدر الدين، ويزكي ما عداه؛ لظاهر النصّ المذكور، فإنه شرط في أخذ الزكاة أن يكون غنيًّا، والمديون لا يسمّى غنيًّا. والله تعالى أعلم.

قال: وأما المال الذي هو في الذّمّة -أعني في ذمة الغير- وليس هو بيد المالك، وهو الدَّين، فإنهم اختلفوا فيه أيضًا، فقوم قالوا: لا زكاة فيه، وإن قُبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له، وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعيّ، وبه قال الليث، أو هو قياس قوله. وقوم قالوا: إذا قبضه زكّاه لما مضى من السنين. وقال مالك: يزكيه لحول واحد، وإن أقام عند المديون سنين إذا كان أصله عن عوض، وأما إذا كان عن غير عوض، مثل الميراث، فإنه يستقبل به الحول. انتهى كلام ابن رشد رحمه الله ببعض تصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي أنه إن كان الدَّين عند مقرّ به، أو له عليه بيّنة، فإنه يزكّيه، وإلا فلا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط الحول في الزكاة: ذكر ابن رشد رحمه الله أن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضّة والماشية الحولَ، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم ولانتشار العمل به، ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"، وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار، وليس فيه في الصدر الأول خلاف، إلا ما روي عن ابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم، وسبب اختلافهم أنه لم يَرِد في ذلك

(1)

"بداية المجتهد" 1/ 245 - 246.

ص: 15

حديث ثابت، قاله ابن رشد رحمه الله

(1)

.

وقال النووىّ رحمه الله ما معناه: هذا الأثر المذكور عن أبي بكر، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم صحيح عنهم، رواه البيهقيّ وغيره، وقد روي عن علي، وعائشة رضي الله عنهما عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".

قال: وإنما لم يحتجّ المصنّف -يعني صاحب "المهذّب"- بالحديث؛ لأنه ضعيف، فاقتصر على الآثار المفسّرة. قال البيهقىّ: الاعتماد في اشتراط الحول على الآثار الصحيحة، فيه عن أبي بكر الصدّيق، وعثمان، وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم.

قال العبدريّ: أموال الزكاة ضربان:

(أحدهما): ما له نماء في نفسه، كالحبوب والثمار، فهذا تجب الزكاة فيه لوجوده.

(والثاني): ما هو مُرَصَّدٌ للنماء، كالدراهم، والدنانير، وعروض التجارة، والماشية، فهذا يُعتبر فيه الحول، فلا زكاة في نصابه حتى يحول عليه الحول، وبه قال الفقهاء كافّةً، قال: وقال ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما: تجب الزكاة فيه يوم ملك النصاب، قال: فإذا حال الحول وجبت زكاة ثانية

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مذهب الجمهور، في اشتراط الحول عندي هو الأرجح؛ للآثار الصحيحة المذكورة، والحديث المذكور صحيح موقوفًا، لكن الموقوف في مثل هذا في حكم المرفوع، وأما رفعه فضعيف. وقد صححه بعض أهل العلم من المعاصرين، وفيه نظر لا يخفى؛ لأن فيه عنعنة أبي إسحاق السبيعىّ، وهو معروف بالتدليس، وأن جرير بن حازم خالف الثقات في رفعه، فقد رواه الثوريّ، وشريك، وزكريا بن أبي زائدة، وغيرهم عن أبي إسحاق عن علي موقوفًا

(3)

.

وفيه علّة أخرى، نبّه عليها ابن الموّاق، وهي أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق، فقد رواه الحفاظ أصحاب ابن وهب: سحنون،

(1)

"بداية المجتهد" 1/ 270.

(2)

"المجموع" 5/ 327 - 328.

(3)

راجع: "إرواء الغليل" للشيخ الألبانىّ 3/ 256 - 257.

ص: 16

وحرملة، ويونس، وبحر بن نصر، وغيرهم عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، والحارث بن نبهان، عن الحسن بن عمارة، عن أبي إسحاق، فذكره. ذكره الحافظ في "التلخيص الحبير"

(1)

.

وهذه العلة بمفردها تكفي، فإن الحسن بن عمارة متروك الحديث.

وقد روي الحديث أيضًا عن ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، بأسانيد ضعيفة، لا تصلح للاحتجاج بها، ولا للاستشهاد.

والحاصل أن الاعتماد في المسألة على الآثار الصحيحة المتقدّمة، لا على المرفوع، كما نبّه عليه البيهقىّ رحمه الله، فيما تقدم من كلامه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) - (بَابُ بَيَانِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَمْ مِقْدَارُ مَا يُخْرَجُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2263]

(979) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَألتُ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ) أبو عثمان البغداديّ، ثم الرّقّيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الثبت الفقيه، من رؤوس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ) بن أبي حسن المازنىّ المدنىّ، ثقة [6] مات بعد (130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.

(1)

"التلخيص الحبير" 2/ 337.

ص: 17

4 -

(أَبُوهُ) يحيى بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) أو (74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيّين غير شيخه، فبغداديّ، ثم رَقّيّ، وسفيان، فكوفيّ، ثم مكيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث والإخبار، سوى موضعين.

5 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الابن عن أبيه.

6 -

(ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

عن سفيان بن عيينة أنه قال: (سَألْتُ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ) وفي رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ عند البخاريّ التصريح بسماع عمرو بن يحيى، عن أبيه (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه وفي الرواية الآتية: عن يحيى بن عُمارة قال: "سمعت أبا سعيد الخدريّ يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

".

[تنبيه]: ذَكَر ابن عبد البرّ رحمه الله عن بعض أهل العلم أن حديث الباب لم يأت إلا من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: وهذا هو الأغلب، إلا أنني وجدته من رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومن طريق محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر رضي الله عنه. انتهى.

قال الحافظ: ورواية سُهيل في "الأموال لأبي عبيد"، ورواية محمد بن

ص: 18

مسلم في "المستدرك"، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن جابر، وجاء أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وعائشة، وأبي رافع، ومحمد بن عبد الله بن جَحْش، أخرج أحاديث الأربعة الدارقطنيّ، ومن حديث ابن عمر، أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد أيضًا. انتهى

(1)

.

(عَنِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) وهكذا وقع في رواية الشيخين، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق أبي الْبَخْتَريّ الطائيّ، عن أبي سعيد نحو هذا الحديث، وفيه:"والوسق ستون صاعًا"، وأخرجها أبو داود أيضًا، لكن قال:"ستون مختومًا"، وأخرج أيضًا عن إبراهيم النخعيّ، قال:"الوسق ستون صاعًا مختومًا بالحجّاجيّ"، وأخرج الدارقطنيّ من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا:"والوسق ستون صاعًا".

ومعنى قوله: "مختومًا"؛ أي: صاعًا مُعْلَمًا بخاتم في أعلاه، قال أبو عبيد رحمه الله في "كتاب الأموال": والمختوم هاهنا الصاع بعينه، وإنما سُمّي مختومًا؛ لأن الأمراء جعلت على أعلاه خاتمًا مطبوعًا؛ لئلا يُزاد فيه، ولا يُنقص منه. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيهان]: (الأول): "الأَوْسُق" جمع قلّة للوَسْق -بفتح الواو، كفَلْس وأَفْلُس، ويجوز كسرها- كما حكاه صاحب "المحكم" وغيره، والأشهر فتح الواو، وجمعه في الكسر أوساق، كحِمْلٍ وأَحمال. وأصله في اللغة: الْحِمْلُ.

واختلفوا في اشتقاق الوَسْق، فقال شَمِر: كلّ شيء حَمَلْتَه فقد وَسَقته، يقال: ما أفعلُ كذا ما وَسَقَت عيني الماءَ؛ أي: ما حملته. وقال غيره: الوسق ضمّك الشيء إلى الشيء، ومنه قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)} [الانشقاق: 17] أي: جمع، وضمّ، وذلك أن الليل يضمّ كلّ شيء إلى مأواه، واستوسق الشيءُ: إذا اجتمع وكمل. وقيل: معنى وَسَقَ: علا، وذلك أن الليل يعلو كلّ شيء، ويُجَلِّلُه، ولا يمتنع منه شيء، ويقال للذي يجمع الإبل: وَاسِقٌ، وللإبل نفسها: وَسَقَت، وقد وسقتها، فاستوسقت؛ أي: اجتمعت، وانضمّت.

وقال الخطّابيّ: الوسق تمام حِمْل الدوابّ النقّالة، وهو ستون صاعًا.

(1)

"الفتح" 4/ 66.

(2)

"كتاب الأموال" ص 518.

ص: 19

وقال غيره: والصاع أربعة أمداد، والمدّ رطل وثلث بالبغداديّ، والرطل البغداديّ اثنا عشر أوقيّة، والأُوقيّة هنا زنة عشرة دراهم، وثلثي درهم، من دراهم عبد الملك بن مروان، فمبلغ زنة الرطل من ذلك مائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا.

قال الإمام ابن الملقّن: كذا قدّره القرطبىّ، وهو أحد الأوجه عن الشافعيّة، والأصحّ عند الرافعيّ أنه مائة وثلاثون، والأصحّ عند النوويّ أنه مائة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، فالأوسق الخمسة: ألف وستمائة رطل بالبغداديّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رأيت في كلام الشيخ عبد الله البسّام في كتابه "توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام" ما نصّه: والوسق ستون صاعًا، فيكون نصاب الحبوب والثمار ثلاثمائة صاع، والصاع في الموازين الحاضرة 3000 (ثلاثة آلاف غرامًا) وهذا تقدير تقريبىّ احتياطيّ بالحنطة الرزينة، فيكون الثلاثمائة صاع 9000 (تسعة آلاف غرامًا)

(1)

.

وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء في قدر الصاع النبويّ بالنسبة للمكاييل الحديثة، فلم يصلوا إلى تحديد متيقّن حاسم، وذلك لعدم وجود صاع نبويّ متيقّن، فكان رأي غالب الأعضاء تقديره بثلاثة آلاف غرام، وهذا احتياط لصدقة الفطر ونحوها. انتهى

(2)

.

قال ابن الملقّن: وهل هذا التقدير بالأرطال تقريبٌ، أم تحديدٌ؟ وجهان للشافعيّة، أصحّهما أنه تحديد، كسائر النُّصُب، وهو ظاهر الحديث، وقيل: تقريبٌ. ووقع في "شرح مسلم للنوويّ" تصحيحه، وتبعه على ذلك الفاكهيّ، وابن العطار، ورجّحه الشيخ ابن دقيق العيد، فقال: الأظهر أن النقصان اليسير لا يمنع إطلاق الاسم في العرف، ولا يَعبَأُ به أهل العرف أنه يغتفر

(3)

. والله تعالى أعلم.

(1)

هكذا عبارة الشيخ، وهو غير صحيح، والصواب 900000 (تسعمائة ألف غرام). فليحرّر.

(2)

"توضيح الأحكام من بلوغ المرام" 3/ 45.

(3)

"المفهم" 3/ 9 - 10، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 45 - 47، و"إحكام الأحكام" 3/ 286 - 288.

ص: 20

[التنبيه الثاني]: أنه لم يقع في هذه الرواية بيان الْمَكِيل بالأوسق، لكن وقع في الرواية الآتية من طريق محمد بن يحيى بن حَبّان، عن يحيى بن عمارة بلفظ:"ليس فيما دون خمسة أوساق، من تمر، ولا حبّ صدقة"، وفي لفظ: "ليس في حبٍّ ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق

"، وفي رواية للنسائيّ بلفظ: "لا يَحُلُّ في البرّ والتمر زكاة حتى تبلغ خمسة أوسق"، والله تعالى أعلم بالصواب.

(صَدَقَةٌ)؛ أي: زكاةٌ، والمراد بها العشر، أو نصف العشر، على ما سيأتي، قال الحافظ رحمه الله: ولفظ "دون" في المواضع الثلاثة بمعنى "أقلّ"، لا أنه نَفَى عن غير الخمس الصدقة، كما زعم بعض من لا يُعتدّ بقوله. انتهى.

والمعنى أنه إذا خرج من الأرض أقلّ من ذلك فلا زكاة فيه، وبه أخذ جمهور أهل العلم، وهو الحقّ والصواب، وخالفهم فيه أبو حنيفة، فقال: في قليل ما أخرجته الأرض وكثيرة الزكاة، وهو قول إبراهيم النخعي، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وخالف أبو يوسف، ومحمد الإمام أبا حنيفة، فقالا بقول الجمهور، وهو الحق الذي تدلّ عليه النصوص الصريحة، وسيأتي تحقيق القول في ذلك مستوفًى قريبًا -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم.

(وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ) الرواية المشهورة إضافة "خمسِ" إلى "ذود"، وروي بتنوين "خمسٍ"، فيكون "ذود" بدلًا منها، والمعروف الأول، ونقله ابن عبد البرّ، والقاضي عياض عن الجمهور.

و"الذَّوْدُ" أصله -كما قال القرطبىّ- من ذاد يذود: إذا دفع شيئًا، فهو مصدرٌ، فكأن من كان عنده دفع عن نفسه مَعَرَّة الفقر، وشدّة الفاقة والحاجة

(1)

.

وهو عند أهل اللغة من الثلاثة إلى العشرة، من الإبل، لا واحد له من لفظه، قالوا: ويقال في الواحد بعير. قالوا: وكذلك النفَرُ، والرَّهْطُ، والقوم، والنساء، وأشباه هذه الألفاظ، لا واحد لها من لفظها. قالوا: وقولهم: "خمس ذود" كقولهم: "خمسة أبعرة"، و"خمسة جِمَال"، و"خمس نُوق"، و"خمس نسوة".

(1)

"المفهم" 3/ 8.

ص: 21

وقال سيبويه: تقول: ثلاث ذود؛ لأن الذود مؤنّثٌ، وليس باسم كُسِّرَ عليه مذكّره.

وقال أبو عُبيد: الذود ما بين الثنتين إلى التسع. -وقوله مخالف جمهورَ أهل اللغة- قال: وهو مختصّ بالإناث.

وقال الأصمعيّ لما ذكر أن الذود من الثلاث إلى العشرة: الصُّبّة -بالضمّ-: خمسٌ، أو ستٌّ. والصِّرْمَة -بالكسر-: ما بين العشر إلى العشرين، والْعَكَرَةُ -محرّكةً-: ما بين العشرين إلى الثلاثين. والْهَجْمَة -بفتح، فسكون-: ما بين الستين إلى السبعين. والْهُنَيدُ -مصغّرًا-: مائة. والْخِطْرُ -بكسر، فسكون، وتُفتح خاؤه-: نحو المائتين. والْعَرْجُ -بفتح، فسكون- من خمسمائة إلى ألف.

وقال أبو عبيد وغيره: الصِّرْمة: من العشرين إلى الأربعين. وقال غير الأصمعىّ: وهِنْد -بكسر، فسكون- غير مصغّر مائتان، وأُمَامة -بالضمّ- ثلاثمائة.

وأنكر ابن قُتيبة أن يُراد بالذود الواحد، وقال: لا يصحّ أن يقال خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب. وغلّطه العلماء، بل هذا اللفظ شائع مسموع من العرب، معروف في كتب اللغة، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، وليس جمعًا لمفرد، بخلاف الأثواب.

قال أبو حاتم السجستانيّ: تركوا القياس في الجمع، فقالوا: خمس ذود من الإبل، وثلاث ذود، لثلاث من الإبل، وأربع ذود، وعشر ذود، على غير قياس، كما قالوا: ثلاثمائة، وأربعمائة، والقياس مئين، ومئات، ولا يكادون يقولونه.

وقال القرطبيّ: وهذا صريح بأن الذود واحد في لفظه، والأشهر ما قاله المتقدّمون أنه لا يقال على الواحد.

[ثم اعلم]: أن رواية الجمهور: "خمس ذود"، ورواه بعضهم "خمسة ذود" وكلاهما لرواية مسلم، ولكن الأول أشهر، وهما صحيحان في اللغة، فإثبات الهاء لإطلاقه على المذكّر والمؤنّث، ومَن حَذَفَها: أراد أن الواحدة منه

ص: 22

فريضة، قاله الإمام ابن الملقّن رحمه الله

(1)

.

وقد استوفيت البحث في زكاة الإبل في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

(وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ) زاد مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد رضي الله عنه:"خمس أواق، من الوَرِق صدقة"، و"أواق" بالتنوين، وبإثبات التحتانيّة، مشدّدًا، ومخفّفًا، جمع أوقيّة -بضمّ الهمزة، وتشديد التحتانيّة- وحكى اللحيانيّ:"وَقيّة" -بحذف الألف، وفتح الواو- ومقدار الأوقيّة في هذا الحديث أربعون درهمًا بالاتفاق.

والمراد بالدرهم الخالص من الفضّة، سواء كان مضروبًا، أو غير مضروب، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: كون "خمس أواقٍ" في هذا المحلّ بتنوين "أواقٍ" هو الموجود في النسخ التي بين يديّ، لكن قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "وليس فيما دون خمس أواقي صدقة" هكذا وقع في الرواية الأولى "أواقي" بالياء، وفي باقي الروايات بعدها "أواقٍ" بحذف الياء، وكلاهما صحيح، قال أهل اللغة:"الأوقيّة" بضم الهمزة، وتشديد الياء، وجمعها أواقي بتشديد الياء وتخفيفها، وأواقٍ بحذفها، قال ابن السِّكِّيت في "الإصلاح": كل ما كان من هذا النوع واحدة مشدّدًا جاز في جمعه التشديد والتخفيف، كالأوقية والأواقي، والسُّرّيّة والسراري، والعُليّة، والأثفيّة، ونظائرها، وأنكر جمهورهم أن يقال في الواحدة وقيّة بحذف الهمزة، وحَكَى اللحياني جوازها بفتح الواو

(2)

، وتشديد الياء، وجمعها وَقَايا.

وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة أهل اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهمًا، وهي أوقية الحجاز.

قال القاضي عياض: ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، ويقع بها البياعات

(1)

"الإعلام" 5/ 41 - 44.

(2)

وقع في النسخة: "بحذف الواو"، وهو غلط بلا شكّ، فتنبّه.

ص: 23

والأنكحة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، قال: وهذا يبيّن أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمان عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل، ووزن الدرهم ستة دوانيق، قول باطلٌ، وإنما معنى ما نُقِل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام، وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعاتٌ من ضرب فارس والروم، وصغارًا وكبارًا، وقطع فضة غير مضروبة، ولا منقوشة، ويمنية، ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزنًا واحدًا لا يختلف، وأعيانًا ليُستَغنَى فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها وأصغرها، وضربوه على وزنهم، قال القاضي: ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة، وإلا فكيف كانت تعَلَّق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها، وحقوق العباد، ولهذا كانت الأوقية معلومةً. هذا كلام القاضي.

قال النوويّ: وقال أصحابنا: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية، ولا الإسلام. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" بعدما نقل معنى كلام القاضي عياض المذكور: وقال غيره: لم يتغيّر المثقال في جاهليّة، ولا إسلام، وأما الدراهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم، ولم يُخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم، يبلغ مائة وأربعين مثقالًا من الفضّة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسيّ، فإنه انفرد بقوله: إن كل أهل بلد يتعاملون بدراهمهم.

وذكر ابن عبد البرّ الإجماع، فاعتبر النصاب بالعدد، لا الوزن.

وانفرد السرخسيّ من الشافعيّة بحكاية وجهٍ في المذهب أن الدراهم المغشوشة إذا بلغت قدرًا لو ضمّ إليه قيمة الغشّ من نحاس مثلًا لبلغ نصابًا فإن الزكاة تجب فيه، كما نُقل عن أبي حنيفة.

واستُدِلّ بهذا الحديث على عدم الوجوب فيما إذا نقص من النصاب، ولو

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 51 - 52.

ص: 24

حبّة واحد، خلافًا لمن سامح بنقص يسير، كما نقل عن بعض المالكيّة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: اختُلف في مقدار النصاب في الذهب والفضّة بالوزن المتعارف في الوقت الحاضر:

قد درس الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "فقه الزكاة" دراسة مطوّلة، قال في آخرها ما حاصله:

نصاب الفضّة بالوزن الحديث هو 975 و 2 × 200 = 595 من الجرامات، ونصاب الذهب هو 25 و 4 × 20 = 85 جرامًا من الذهب.

فمن ملك من الفضّة الخالصة -نقودًا، أو سبائك- ما يزن 595 جرامًا وجبت عليه فيه الزكاة: 5 و 2 بالمئة. انتهى

(2)

.

وكتب الشيخ أبو بكر الجزائريّ في رسالته "زكاة العُمَل" أن نصاب الذهب بالجرام 70 جرامًا ونصاب الفضة به 460 جرامًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: والأول هو الذي عليه غير واحد من المعاصرين، وما قاله الشيخ الجزائريّ أحوط، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2263 و 2264 و 2265 و 2266 و 2267 و 2268 و 2269](979)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1405 و 1447 و 1459 و 1484)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1558 و 1559)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(626 و 627)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 17 و 18 و 36 و 40)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1793)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 244)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 6 و 44 و 60 و 74 و 79)، و (الدارميّ) في "سننه"(1633 و 1634)، و (ابن

(1)

"الفتح" 4/ 66 - 67.

(2)

"فقة الزكاة" 1/ 260.

ص: 25

خزيمة) في "صحيحه"(2263 و 2293 و 2294 و 2295 و 2298 و 2301)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3268)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 57 - 59)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الزكاة في الإبل، وبيان أقلّ نصاب زكاة الإبل، وهو خمس ذود، وقد استوفيت البحث في زكاة الإبل في "شرح النسائيّ"، فراجعه

(1)

تستفد علمًا جمًّا.

2 -

(ومنها): بيان أقلّ نصاب الحبوب والثمار، وهو خمسة أوسق، فما كان أقلّ من ذلك لا يجب فيه شئ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: مالك، والشافعيّ، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم، وهو المذهب الراجح، وخالف فيه أبو حنيفة، وروي عن ابن عباس، وزيد بن عليّ، والنخعيّ، فقالوا: تجب الزكاة في قليل ما أخرجته الأرض، وكثيرة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء والعيون، أو كان عَثَرِيًّا العشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر" رواه البخاريّ

(2)

، قالوا: هذا عامّ في القليل والكثير.

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: وأجيب عنه بأن المقصود من الحديث بيان قدر المخرج، لا بيان المخرج منه، وهذا فيه قاعدة أصوليّة، وهو أن الألفاظ العامّة بوضع اللغة على ثلاث مراتب:

(إحداها): ما ظهر فيه عدم قصد التعميم، ومُثّل بهذا الحديث.

(والثانية): ما ظهر فيه التعميم بأن أورد مبتدأً، لا على سبب؛ لقصد تأسيس القواعد.

(والثالثة): ما لم تظهر فيه قرينة زائدة تدلّ على التعميم، ولا قرينة تدلّ على عدم التعميم.

وقد وقع تنازع من بعض المتأخّرين في القسم الأول في كون المقصود منه عدم التعميم، فطالب بعضهم بالدليل على ذلك، وهذا الطريق ليس بجيّد؛

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 20/ 50 - 92.

(2)

أخرجه النسائي برقم (2488 و 2489).

ص: 26

لأن هذا أمر يُعرف من سياق الكلام، ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وكذلك لو فُهم المقصود من الكلام، وطولب بالدليل عليه لعسُر، فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر إلى دينه وإنصافه. انتهى كلام ابن دقيق العيد

(1)

.

وحكى القاضي عياض عن داود أن كلّ ما يدخله الكيل يُراعى فيه خمسة أوسق، وما عداه مما لا يوسق ففي قليله وكثيرة الزكاة، وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

3 -

(ومنها): بيان أقلّ نصاب الورق، وهو خمسة أواق، وهي مائتا درهم، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان أقوال أهل العلم في حكم زكاة الفضّة، والذهب، والجواهر:

قال النووىّ رحمه الله: تجب الزكاة في الذهب بالإجماع، ودليل المسألة النصوص، والإجماع، وسواء فيهما المسبوك، والتبر، والحجارة منهما، والسبائك، وغيرها من جنسها، إلا الحليّ المباح، على أصحّ القولين.

قال: ولا زكاة فيما سوى الذهب، والفضّة من الجواهر، كالياقوت، والفيروز، واللؤلؤ، والمرجان، والزّمرّد، والزبرجد، والحديد، والصفر، وسائر النحاس، والزجاج، وإن حسنت صنعتها، وكثرت قيمتها، ولا زكاة أيضًا في المسك، والعنبر. قال الشافعيّ رحمه الله في "المختصر": ولا في حلية بحر. قال أصحابنا: معناه: كلّ ما يستخرج منه، فلا زكاة فيه. ولا خلاف في شيء من هذا عندنا.

وبه قال جماهير العلماء، من السلف وغيرهم. وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن البصريّ، وعمر بن عبد العزيز، والزهريّ، وأبي يوسف، وإسحاق ابن راهويه أنهم قالوا: يجب الخمس في العنبر، قال الزهريّ: وكذلك اللؤلؤ. وحكى أصحابنا عن عبد الله بن الحسن العنبريّ أنه قال: يجب الخمس في كلّ ما يخرج من البحر، سوى السمك. وحكى العنبريّ وغيره عن أحمد روايتين:

(1)

"إحكام الأحكام" 3/ 283 - 285 بنسخة الحاشية.

ص: 27

إحداهما: كمذهب الجماهير. والثانية: أنه أوجب الزكاة في كلّ ما ذكرنا إذا بلغت قيمته نصابًا حتى في المسك والسمك

(1)

.

ودليلنا: الأصل أن لا زكاة إلا فيما ثبت الشرع فيه. وصحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس في العنبر زكاة، إنما هو شيء دَسَرَه البحر، وهو بدال وسين مهملتين مفتوحتين؛ أي: قذفه ودفعه، فهذا الذي ذكرناه هو المعتمد في دليل المسألة، وأما الحديث المرويّ عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا زكاة في حجر". فضعيفٌ جدًّا، رواه البيهقيّ، وبيّن ضعفه

(2)

. انتهى ما قاله النوويّ

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصواب ما قاله الجمهور من عدم وجوب الزكاة في غير الذهب والفضّة؛ لما ذكره النوويّ، ولأنه -كما قال ابن قُدامة-: قد كان يُخرَج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، فلم تأت فيه سنّة عنه، ولا عن أحد من خلفائه من وجه يصح. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان أقوال أهل العلم في نصاب الذهب والفضّة:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن نصاب الفضة مائتا درهم، وأن فيه خمسة دراهم، واختلفوا فيما زاد على المائتين، فقال الجمهور: يُخرج مما زاد بحسابه ربع العشر، قلّت أم كثرت.

وممن قال به عليّ بن أبي طالب، وابن عمر، والنخعيّ، ومالك، وابن

(1)

القول الأول الذي عليه الجماهير هو المختار في مذهب أحمد رحمه الله تعالى. انظر: "المغني" 5/ 244.

(2)

وسبب ضعفه كما نبّه عليه البيهقيّ أنّ الذين رووه عن عمرو بن شعيب كلهم ضعفاء. انتهى. قلت: رواه عنه عمر بن أبي عمر الكلاعيّ الدمشقيّ، وهو منكر الحديث. وعثمان بن عبد الرحمن الوقاصىّ، قال أبو حاتم: متروك الحديث ذاهب. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، يكذب. ومحمد بن عبيد الله العرْزَميّ، متروك.

(3)

"المجموع" 5/ 489 - 490.

ص: 28

أبي ليلى، والثوريّ، والشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وأبو ثور، وأبو عبيد.

قال: وقال سعيد بن المسيّب، وطاوس، والحسن البصريّ، والشعبيّ، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهريّ، وأبو حنيفة: لا شيء في الزيادة على مائتين حتى تبلغ أربعين، ففيها درهم.

قال ابن المنذر: وبالأول أقول، ودليل الوجوب في القليل والكثير قوله صلى الله عليه وسلم:"في الرقة ربع العشر"، أخرجه البخاريّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وبما رجّحه ابن المنذر أقول؛ لوضوح دليله، والله تعالى أعلم.

قال النوويّ: وأما الذهب فمذهبنا أن نصابه عشرون مثقالًا، ويجب فيما زاد بحسابه ربع العشر، قلّت الزيادة أم كثرت، وبه قال الجمهور من السلف والخلف.

وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالًا، وقيمتها مائتا درهم وجبت فيه الزكاة، إلا ما اختلف فيه عن الحسن، فروي عنه هذا، وروي عنه أنه لا زكاة فيما هو دون أربعين مثقالًا، لا تساوي مائتي درهم.

واختلفوا فيما دون عشرين إذا ساوى مائتي درهم، فقال كثير منهم: لا زكاة فيما دون عشرين، وإن بلغت مائتي درهم، وتجب في عشرين، وإن لم تبلغها.

وممن قال به عليّ بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، وابن سيرين، وعروة، والنخعيّ، والحكم، ومالك، والثوريّ، والأوزاعىّ، والليث، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد.

وقال طاوس، وعطاء، والزهريّ، وأيوب، وسليمان بن حرب: يجب ربع العشر في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم، وإن كان دون عشرين مثقالًا، ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعة دنانير.

وأما إذا كانت الفضّة تنقص عن مائتي درهم، والذهب ينقص عن عشرين

ص: 29

مثقالًا نقصًا يسيرًا جدًّا بحيث يروج رواج الوازنة، فلا زكاة في مذهب الشافعيّ، وبه قال إسحاق، وابن المنذر، والجمهور. وقال مالك: تجب. انتهى كلام النوويّ بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: مذهب الجمهور عندي أرجح؛ لقوّة حجته، والله تعالى أعلم.

(المسألة السادسة): في اختلاف العلماء في ضمّ تكميل نصاب الدراهم بالدنانير، والعكس:

قال النوويّ رحمه الله أيضًا: مذهبنا أنه لا يكمّل نصاب الدراهم بالذهب، ولا عكسه، حتى لو ملك مائتين إلا درهمًا، وعشرين مثقالًا، إلا نصفًا، أو غيره فلا زكاة في واحد منهما.

وبه قال جمهور العلماء

(2)

. حكاه ابن المنذر عن ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وشريك، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عُبيد.

قال ابن المنذر: وقال الحسن، وقتادة، والأوزاعيّ، والثوريّ، ومالك، وأبو حنيفة، وسائر أصحاب الرأي: يضمّ أحدهما إلى الآخر. واختلفوا في كيفيّة الضمّ:

فقال الأوزاعيّ: يخرج ربع عشر كلّ واحد، فإذا كانت له مائة درهم، وعشرة دنانير أخرج ربع عشر كلّ واحد منهما.

وقال الثوريّ: يضمّ القليل إلى الكثير. ونقل العبدريّ عن أبي حنيفة، أنه قال: يضمّ الذهب إلى الفضّة بالقيمة، فإذا كانت له مائة درهم، وله ذهب قيمته مائة درهم وجبت الزكاة، قال: وقال مالك، وأبو يوسف، وأحمد: يضمّ أحدهما إلى الآخر بالأجزاء، فإذا كان معه مائة درهم، وعشرة دنانير، أو خمسون درهمًا، وخمسة عشر دينارًا ضمّ أحدهما إلى الآخر، ولو كان له مائة درهم، وخمسة دنانير، قيمتها مائة درهم، فلا ضمّ.

قال النوويّ: دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق

(1)

"المجموع" 5/ 503 - 504.

(2)

فيه نظر، فإن المذهب الآخر أيضًا فيه الجمهور، بل الظاهر أنهم أكثر من هؤلاء.

ص: 30

صدقة". انتهى كلام النوويّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن مذهب القائلين بعدم الضمّ أرجح؛ لأن الْوَرِق في اللغة يُطلق على الدرهم فقط، ولا يطلق على الدينار، فالحديث المذكور يدلّ على أنه لا يجب فيما دون خمس أواق من الدراهم زكاة، فلو كان الضمّ معتبرًا لبيّنه صلى الله عليه وسلم.

والحاصل أن الدراهم، والدنانير يعتبر تمام نصاب كلّ منهما بمفرده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في زكاة الوَرَقِ الماليّ:

كتب الدكتور يوسف القرضاويّ في هذه المسألة أيضًا بحثًا نفيسًا، قال فيه.

لم تُعرف النقود الورقيّة إلّا في العصر الحاضر، فلا نطمع أن يكون لعلماء السلف فيها حكم، وكلّ ما هنالك أن كثيرًا من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجًا على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفيّة والظاهريّة، فلم ير هذه نقودًا؛ لأن النقود الشرعيّة إنما هي الفضّة والذهب، وإذًا لا زكاة فيها.

وبهذا أفتى الشيخ عليش مفتي المالكيّة في مصر في عصره، فقد استُفتِي في حكم "الكاغد" -الورق- الذي فيه ختم السلطان، ويُتعامل به كالدراهم والدنانير، فأفتى أن لا زكاة فيه.

وكذا أفتى بعض الشافعيّة بأن لا زكاة فيها، حتى تقبض قيمتها ذهبًا، أو فضّة، ويمضي على ذلك حولٌ بناءً على أن المعاملة بها حوالة غير صحيحة شرعًا؛ لعدم الإيجاب والقبول اللفظيين.

وفي كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" الذي ألّفته لجنة تمثّل علماء هذه المذاهب في مصر نقرأ ما يأتي:

1 -

الشافعيّة قالوا: الورق النقديّ التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته دينًا على البنك، والبنك مليء مُقرٌّ مستعدّ للدفع حاضرٌ،

(1)

"المجموع" 5/ 504.

ص: 31

ومتى كان المدين بهذه الأوصاف، وجبت زكاة الدين في الحال. وعدم الإيجاب والقبول اللفظيّين في الحوالة لا يبطلها، حيث جرى العرف بذلك. على أن بعض أئمة الشافعيّة قال: المراد بالإيجاب والقبول كلّ ما يُشعر بالرضا من قول أو فعل، والرضا محقّق.

2 -

الحنفيّة قالوا: الأوراق الماليّة -البنكنوت- من قبيل الدين القويّ، إلا أنها يمكن صرفها فضة فورًا، فيجب فيها الزكاة فورًا.

3 -

المالكيّة قالوا: أوراق البنكنوت، وإن كانت سندات دين إلا أنها يمكن صرفها فضّة فورًا، وتقوم مقام الذهب في التعامل، فيجب فيها الزكاة بشروطها.

4 -

الحنابلة قالوا: لا تجب زكاة الورق النقديّ إلا إذا صُرف ذهبًا أو فضةً، ووجدت فيه شروط الزكاة.

ومن هذه الأقوال المنسوبة إلى المذاهب، نعلم أن أساسها هو اعتبار هذه الأوراق سندات دين على بنك الإصدار، وأنها يمكن صرف قيمتها فضّة فورًا، فتجب الزكاة فيها فورًا عند المذاهب الثلاثة، وعند الصرف فعلًا على مذهب الحنابلة. ونحن نعلم أن القانون أصبح يُعفي أوراق النقد المصرفيّة "البنكنوت" من أن يلتزم البنك صرفها بالذهب والفضّة، وبهذا ينهار الأساس الذي بني عليه إيجاب الزكاة في هذه الأوراق.

هذا، مع أن هذه الأوراق أصبحت هي أساس التعامل بين الناس، ولم يعُدْ يرى الناس العملة الذهبيّة قط، ولا الفضيّة، إلا في المبالغ التافهة، أما عماد الثروات، والمبادلات، فهو هذه العملة الورقيّة.

إن هذه الأوراق أصبحت -باعتماد السلطات الشرعيّة إياها، وجريان التعامل بها- أثمان الأشياء، ورؤوس الأموال، وبها يتمّ البيع والشراء، والتعامل داخل كل دولة، ومنها تُصرَف الأجور، والرواتب، والمكافآت، وغيرها، وعلى قدر ما يملك المرء منها يعتبر غناه، ولها قوّة الذهب والفضّة في قضاء الحاجات، وتيسير المبادلات، وتحقيق المكاسب والأرباح، فهي بهذا الاعتبار أموال نامية، أو قابلة للنماء، شأنها شأن الذهب والفضة.

صحيح أن الذهب والفضّة لهما قيمة ماليّة ذاتيّة من حيث إنهما معدنان

ص: 32

نفيسان، حتى لو بطل التعامل بهما نقدين لبقيت قيمتهما الماليّة معدنين، نعم هذا صحيح، ولكن الذي يفهم من روح الشريعة، ونصوصها أنها لم توجب الزكاة في الذهب والفضّة لمحض ماليّتهما؛ إذ لم توجب الزكاة في كلّ مال، بل في المال المعدّ للنماء، والذهب والفضّة إنما اعتبرهما الشارع مالًا معدًّا للنماء من جهة أنهما ثمنان للأشياء، وقِيَمٌ لها، فالثمنيّة مراعاة مع الماليّة أيضًا، ولهذا كان عنوان زكاة الذهب والفضّة في كثير من الكتب "زكاة الأثمان"، أو "زكاة النقدين".

ومن أجل هذا لا يسوغ أن يقال للناس: إن بعض المذاهب لا يرى إخراج الزكاة عن هذه الأوراق، وينسب ذلك إلى مذهب أحمد، أو مالك، أو الشافعيّ، أو غيرهم.

فالحقّ أن هذا أمر مستحدثٌ، ليس له نظير في عصر الأئمّة المجتهدين رضي الله عنهم حتى يقاس عليه، ويُلحق به.

والواجب أن يُنظر إليه نظرة مستقلّة في ضوء واقعنا، وظروف حياتنا وعصرنا.

وإني لأسجّل بالتقدير هنا ما كتبه، وأفتى به العلّامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدويّ رحمه الله في رسالته "التبيان في زكاة الأثمان"؛ إذ قال معقّبًا على تخريج زكاة الأوراق الماليّة على زكاة الدَّين المعروف عند الفقهاء القدامى، واعتبار هذه الأوراق سند دَين (صكًّا كالكمبيالة) لا تجب تزكيته إلا على مذهب من لا يشترط القبض في تزكية الدَّين إذا كان على مليء مقرّ.

قال: ولا يخفى أن تخريج زكاة الأوراق الماليّة على زكاة الدَّين -مع كونه مُجحِفًا بحقّ الفقراء على غير ما ذهب إليه الشافعيّة- مبنيّ على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدَين حقيقيّ في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقيّة.

مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق، وما هو مضمون بها، وبين الدَّين الحقيقيّ، وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدَّين ما دام في ذمّة المدين لا ينمو، ولا ينتفع به ربّه، ولا يجري التعامل بسنده رسمًا، ولذا قيل بعدم وجوب زكاته؛ لأنه ليس مالًا حاضرًا مُعدًّا للنماء، بحيث ينتفع به ربّه، بخلاف

ص: 33

قيمة هذه الأوراق، فإنها نامية، منتفع بها، كما ينتفع بالأموال الحاضرة، وكيف يقال: إن هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أخذ على المدين للتوثّق، وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمّة المدين، ولا للتعامل به؟ أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضّةً، مع أن عدم الزكاة في الدَّين كما علمت إنما هو لكونه ليس معدًّا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين؟. والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدَّين ما دام في ذمّة المدين حتى يقبضه المالك، نظرًا لهذه العلّة، واستثنى الشافعيّة دَين الموسر إذا كان حالًّا، فإنه يزكَّى قبل قبضه كالوديعة، نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعدّ للنماء. فلو فُرض نماؤه كما في بدل الأوراق الماليّة لما كان هناك وجه لتوقّف الزكاة على القبض، ولما خالف في ذلك أحدٌ من العلماء.

فالحق أن هذا النوع من الدَّين نوع آخر مُستَحدَثٌ لا ينطبق عليه حقيقة الدَّين، وشروطه المعروفة عند الفقهاء، ولا يجري فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدَّين، بل ينبغي أن يُتّفَق على وجوب الزكاة فيه، لما علمت أنه كالمال الحاضر

إلى أن قال: ولو فُرض أنه ليس في البنك شيء من النقود، ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها، وعن التزام التعهّد المرقوم بها، واعتبر وجهة إصدار الحكومة لها، واعتبار العلّة لها أثمانًا رائجةً، لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرّد الثمنيّة، ولو لم تكن خلقيّة كما تقدّم في زكاة الفلوس، وقِطَع الجلود، والكواغد.

فتحصّل أن الأوراق الماليّة يصحّ أن تُزكّى باعتبارات أربعة:

(الأول): باعتبار المال المضمون بها في ذمّة البنك، وأنه كمالٍ حاضرٍ مقبوضٍ، وإن لم يكن كالدَّين المعروف عند الفقهاء من كلّ وجه.

(الثاني): زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا.

(الثالث): زكاتها باعتبار قيمتها دَينًا في ذمّة البنك، فتزكّى زكاة الدَّين الحالّ على مليء، كما ذهب إليه الشافعيّ.

(الرابع): زكاتها باعتبار قيمتها الوضعيّة عند جريان الرسم بها في

ص: 34

المعاملات، واتفاق الملّة

(1)

على اتخاذها أثمانًا للمقوّمات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس كزكاة الفلوس والنحاس. انتهى.

قال القرضاويّ: هذا الاعتبار الأخير هو الذي يجب أن يُعوّل عليه في حكم النقود الورقيّة الإلزاميّة التي هي عمدة التبادل والتعامل الآن، والتي لم يعد يشترط أن يقابلها رصيد معدنيّ بالبنك، ولا يلتزم البنك صرفها بذهب أو فضّة.

وربما كان الخلاف في أمر هذه الأوراق مقبولًا في بدء استعمالها، وعدم اطمئنان الجمهور إليها شأنَ كلّ جديد، أما الآن فالوضع قد تغيّر تمامًا.

لقد أصبحت هذه الأوراق النقديّة تحقّق داخل كلّ دولة ما تحقّقه النقود المعدنيّة، وينظر المجتمع إليها نظرته إلى تلك.

إنها تُدفع مهرًا، فتستباح بها الفروج شرعًا دون أيّ اعتراض. وتدفع ثمنًا، فتنقل ملكيّة السلعة إلى دافعها بلا جدال. وتدفع أجرًا للجهد البشريّ، فلا يمتنع عاملٌ، أو موظّفٌ من أخذها جزاءً على عمله. وتدفع بها دية في القتل الخطأ، أو شبه العمد، فتبرئ ذمّةَ القاتل، ويرضى أولياء المقتول. وتُسْرَقُ فيستحقّ سارقها عقوبة السرقة بلا مراء من أحد. وتدّخر وتملك، فيعدّ مالكها غنيًّا بقدر ما يملك منها، فكلما كثرت في يده عظم غناه عند الناس، وعند نفسه

(2)

.

ومعنى هذا كلّه أن لها وظائف النقود الشرعيّة، وأهمّيّتها، ونظرة المجتمع إليها، فكيف يسوغ لنا أن نَحرِمَ الفقراءَ والمساكينَ، وسائرَ المستحقّين من الانتفاع بهذه النقود، ووظائفها المتعدّدة الوفيرة؟ أليس الناس كلّ الناس يسعون إلى تحصيلها جاهدين؛ أليس مُلّاكها يعُدّونها نعمة يجب شكرها؟ أليس الفقراء يتطلّعون إليها، ويسيل لعابهم شوقًا إليها؟ أليس يفرحون بها إذا أعطوا القليل منها؟ بلى والله.

(1)

هكذا النسخة، ولعله "الأمّة".

(2)

كتب في الهامش ما نصّه: لا معنى إذن لما يقوله بعض المتحذلقين في عصرنا من أن النقود الشرعيّة هي الذهب والفضّة؛ فهي التي تجب فيها الزكاة، وهي التي يجري فيها الربا.

ص: 35

وأختم هذه النقطة بما قرّره أساتذة الاقتصاد أنه يمكن القول بأن النقود هي كلّ ما يُستعمل مقياسًا للقيم، وواسطة للتبادل، وأداة للادخار، فأيّ شيء يؤدّي إلى هذه الوظيفة يعتبر نقودًا، بصرف النظر عن المادّة المصنوع منها، وبصرف النظر عن الكيفيّة التي أصبح بها وسيلة التعامل في مبدأ الأمر، فما دامت هناك مادّة يقبلها كلّ المنتجين في مجتمع ما للمبادلة نظير ما يبيعون، فهذه المادّة نقود. انتهى ما كتبه الدكتور القرضاويّ، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وخلاصته إيجاب الزكاة في الأموال الورقيّة المتعارفة الآن على أنها مال صحيح التعامل به بإجماع أهل العصر، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2264]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْث (ح) وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التُّجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الفقيه الحافظ الثبت الحجة المشهور [7](ت 175)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) يعني أن كلًّا من الليث، وعبد الله بن إدريس رويا هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاري

إلخ.

ص: 36

[تنبيه]: رواية الليث، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(2446)

- أخبرنا عيسى بن حماد، قال: أنبأنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس فيما دون خمسة ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". انتهى.

وأما رواية عبد الله بن إدريس، عن يحيى بن سعيد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2265]

(

) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَأَشَارَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِكَفِّهِ بِخَمْسِ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن جُريج.

[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن عمرو بن يحيى هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (4/ 124) فقال:

(7241)

- أخبرنا أبو صالح بن أبي طاهر، أنبأ جدي يحيى بن منصور، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، أنبأ ابن جريج، أخبرني عمرو بن يحيى بن عُمارة، عن أبيه يحيى بن عُمارة، قال: سمعت أبا

ص: 37

سعيد الخدريّ يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول، وأشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بكفه بخمس أصابع: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2266]

(

) - (وحَدَّثَني أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(بِشْرُ بْنُ مُفَضَّلٍ) الرقاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ) بن الحارث الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 585.

والباقيان ذُكرا قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2267]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ، مِنْ تَمْرٍ، وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ").

ص: 38

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(وَكِيعٌ) بن الجّرّاح، تقدّم قريبًا.

4 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم قبل باب.

5 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أميّة الأمويّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) -بفتح الحاء المهملة- ابن منقذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [4](ت 121) وهو ابن (74) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ) قال النوويّ: هكذا هو في الأصول خمسة أوساق وهو صحيح، جمعُ وِسْق، بكسر الواو، كحِمْل وأَحْمال، وقد سبق أن الْوَسْق بفتح الواو، وبكسرها. انتهى

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2268]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ، يَعْنِي ابْنَ مَهْدِىٍّ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِى حَبٍّ، وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ، حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 52 - 53.

ص: 39

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ مَهْدِيِّ) الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ حجة [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فِي حَبٍّ، وَلَا تَمْرٍ) هو "تَمْر" بفتح التاء المثنّاة، وإسكان الميم، وفي رواية محمد بن رافع، عن عبد الرزّاق التالية:"ثَمَر" بفتح الثاء المثلّثة، وفتح الميم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2269]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، بِهَذَا الإسنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِىٍّ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الأمويّ مولاهم، أبو زكرياء الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن آدم، عن سفيان الثوريّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (4/ 128) فقال:

(7260)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر بن الحسن القاضي، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا سفيان بن سعيد، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حَبّان، عن يحيى بن عُمارة، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا صدقة في حَبّ، ولا تمر دون خمسة أوسق". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 40

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2270]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، وَمَعْمَرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ بَدَلَ "التَّمْرِ": "ثَمَرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية عبد الرّزّاق، عن الثوريّ، ومعمر هذه ساقها عبد الرزاق رحمه الله في "مصنّفه" مفرّقة (4/ 141) فقال:

(7254)

- عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حَبّان، عن يحيى بن عُمارة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في حَبّ ولا في ثمر صدقةٌ، حتى يبلغ خمسة أوسق، وليس فيما دون خمسة أواق صدقةٌ، وليس فيما دون خمس ذود صدقة".

(7255)

- عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن يحيى بن عُمارة، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2271]

(980) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيلِىُّ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ، مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ، مِنَ الإبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ").

ص: 41

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) عن (74) سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِىُّ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم قبل ثلاثة أبواب أيضًا.

4 -

(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن الفِهْريّ المدنيّ، نزيل مصر، فيه لينٌ [7](م د س ق) تقدم في "الحيض" 21/ 792.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدّم قريبًا.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

وقوله: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) قال النووىّ رحمه الله: قال أهل اللغة: يقال: وَرِقٌ، ووَرْقٌ بكسر الراء وإسكانها، والمراد به هنا الفضة كلُّها مضروبها وغيره، واختَلَف أهل اللغة في أصله، فقيل: يُطْلَق في الأصل على جميع الفضة، وقيل: هو حقيقة للمضروب دراهم، ولا يطلق على غير الدراهم إلا مجازًا، وهذا قول كثير من أهل اللغة، وبالأول قال ابن قتيبة وغيره منهم، وهو مذهب الفقهاء، ولم يأت في "الصحيح" بيان نصاب الذهب، وقد جاءت فيه أحاديث بتحديد نصابه بعشرين مثقالًا، وهي ضعاف، ولكن أَجْمَع من يُعْتَدّ به في الإجماع على ذلك، وكذا اتفقوا على اشتراط الحول في زكاة الماشية، والذهب والفضة، دون المعشَّرات.

وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعيّ وموافقيه في الفضة إذا كانت دون مائتي درهم رائجة أو نحوها لا زكاة فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، وقد سبق أن الأوقية أربعون درهمًا، وهي أوقية الحجاز الشرعية، وقال مالك: إذا نقصت شيئًا يسيرًا بحيث تروج رواج الوازنة وجبت الزكاة، ودليلنا أنه يصدق أنها دون خمس أواق.

وفيه دليل أيضًا للشافعيّ وموافقيه في الدراهم المغشوشة، أنه لا زكاة

ص: 42

فيها، حتى تبلغ الفضة المحضة منها مائتي درهم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2271](980)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1794)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2299)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 296)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 93)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 59)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ بَيَانِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2272]

(981) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأيْلِىُّ، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أبا الًزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَذْكُرُ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِيمَا سَقَتِ الأنهَارُ، وَالْغَيْمُ، الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ) -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 53 - 54.

ص: 43

3 -

(الْوَليدُ بْنُ شُجَاعِ) بن الوليد بن قيس السَّكُونيّ، أبو همّام بن أبي بدر الكوفيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [10](ت 243) على الصحيح (م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 77/ 402.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قرن بينهم، ثم فصّل.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى أبي الزبير، فهو مكيّ، والصحابيّ مدنيّ، والوليد كوفيّ.

3 -

(ومنها): أن صحابيه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أبَا الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم (حَدَّثَهُ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَذْكُرُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (أنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِيمَا سَقَتِ الأنهَارُ) جمع نَهَر -بفتحتين- قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّهْرُ: الماء الجاري المتّسِعُ، والجمع نُهُرٌ - بضمّتين- وأنهُرٌ، والنَّهَر -بفتحتين- لغةٌ، والجمع أنهارٌ، مثلُ سَبَبٍ وأسباب، ثم أطلق النهْرُ على الأُخْدُود مجازًا للمجاورة، فيقال: جرى النهرُ، وجَفّ النهر، كما يقال: جَرَى الميزابُ، والأصل جَرَى ماء النّهر. انتهى

(1)

. (وَالْغَيْمُ) قال النوويّ رحمه الله: هو هنا بفتح الغين المعجمة، وهو المطر، وجاء في غير "صحيح مسلم""الْغَيْل" باللام، قال أبو عبيد: هو ما جرى من المياه في الأنهار، وهو سيل دون السيل الكبير، وقال ابن السِّكِّيت هو الماء الجاري على الأرض (الْعُشُورُ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه "العُشُور" بضم العين، جمع عُشْر، وقال القاضي

(1)

"المصباح المنير" في مادّة: (نهر).

ص: 44

عياض: ضبطناه عن عامة شيوخنا بفتح العين جمع، وهو اسم للمخرج من ذلك، وقال صاحب "مطالع الأنوار": أكثر الشيوخ يقولونه بالضم، وصوابه الفتح، وهذا الذي ادّعاه من الصواب ليس بصحيح، وقد اعتَرَف بأن أكثر الرواة رووه بالضم، وهو الصواب، جمع عُشْر، وقد اتفقوا على قولهم: عُشُور أهل الذمة بالضم، وهو الصواب، جمع عُشْر، ولا فرق بين اللفظين. انتهى

(1)

.

(وَفِيمَا سُقِيَ) بالبناء للمفعول (بِالسَّانِيَةِ) هو البعير الذي يُستَقَى به الماء من البئر، ويقال له: الناضح، يقال منه: سنا يسنو: إذا أسقى به، ومثله في الحكم البقر، ونحوها، فإن المراد به ما يحتاج في سقيه إلى مؤونة (نِصْفُ الْعُشْرِ") في هذا الحديث وجوب العشر فيما سُقِي بماء السماء والأنهار ونحوها، مما ليس فيه مؤنة كثيرة، ونصف العشر فيما سُقي بالنواضح وغيرها، مما فيه مؤنة كثيرة، وهذا مُتّفق عليه، ولكن اختَلَف العلماء في أنه هل تجب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض من الثمار والزروع والرياحين وغيرها إلا الحشيش والحطب ونحوهما، أم يختصّ؟ فعمّم أبو حنيفة، وخصص الجمهور على اختلاف لهم فيما يختص به، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال الخطّابيّ رحمه الله: إنما كان وجوب الصدقة مختلف المقادير في النوعين؛ لأنّ ما عمّت منفعته، وخفّت مُؤْنته كان أحمل للمواساة، فأُوجِب فيه العشرُ، توسعةً على الفقراء، وجُعل فيما كثُرت مؤونته نصف العشر؛ رِفْقًا بأرباب الأموال. انتهى.

وقال ابن قُدامة رحمه الله ما حاصله: كلّ ما سُقي بكُلْفة ومُؤنة، من دالية، أو سانية، أو دُولاب، أو ناعورة

(3)

، أو غير ذلك، ففيه نصف العشر، وما سُقي بغير مُؤنة ففيه العشر، لا نعلم في هذا خلافًا، وهو قول مالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، وغيرهم؛ لما روينا من الخبر، ولأن للكُلْفة تأثيرًا

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 54.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 54 - 55.

(3)

هي المَنْجَنُون التي يُديرها الماء، والجمع نواعير. سمّيت بذلك لنعيرها؛ أي تصويتها. أفاده في "المصباح".

ص: 45

في إسقاط الزكاة جُملةً؛ بدليل المعلوفة، فبأن يؤثّر في تخفيفها أولى؛ ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي، وللكلفة تأثيرٌ في تقليل النماء، فأثّرت في تقليل الواجب فيها، ولا يؤثّر حفر الأنهار، والسواقي في نقصان الزكاة؛ لأن المؤنة تقلّ؛ لأنها تكون من جملة إحياء الأرض، ولا تتكرّر كلّ عام، وكذلك لا يؤثّر احتياجها إلى ساق يَسقيها، ويُحوّل الماء في نواحيها؛ لأنّ ذلك لا بدّ منه في كلّ سقي بكلفة، فهو زيادة على المؤنة في التنقيص، فجرى مجرى حرث الأرض، وتحسينها، وإن كان الماء يجري من النهر في ساقية إلى الأرض، ويستقرّ في مكان قريب من وجهها، لا يَصْعَدُ إلا بغَرْف، أو دُولاب، فهو من الكلفة المسقطة لنصف الزكاة، على ما مرّ؛ لأن مقدار الكلفة، وقُرب الماء، وبعده لا يُعتبر، والضابط لذلك هو أن يَحتاج في ترقية الماء إلى الأرض بآلة، من غَرْفٍ، أو نَضْحٍ، أو دالية، وقد وُجِد. انتهى كلام ابن قدامة رحمه الله

(1)

، وسيأتي تمام البحث في ذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2272](981)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1597)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2489) و"الكبرى"(2268)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 341 و 353)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 37 - 38)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 59)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 96)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 130)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 130)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 161)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما يوجب عشر ما خرج من الأرض، وهو ما سقته

(1)

"المغني" 2/ 293

ص: 46

السماء، والأنهار، والعيون، وكذلك ما كان بَعْلًا، وهو ما يشرب بعروقه من الأرض، وما يوجب نصف العشر، وهو ما سُقي بكُلْفة، كالسواني.

2 -

(ومنها): وجوب زكاة الخارج من الأرض.

3 -

(ومنها): رأفة الله تعالى بعباده، حيث خفّف عنهم في محلّ الكلفة، فأوجب عليهم النصف.

4 -

(ومنها): أن فيه بيان الحكمة البالغة في الشريعة السمحة، حيث راعت حقوق جميع المسلمين، أغنيائِهم، وفقرائِهم، فأوجبت على الأغنياء القليل من الكثير مما يمتلكونه؛ لئلا يتضرّروا، وأوجبت للفقراء، في أموال الأغنياء ما يواسونهم به؛ لئلا تنكسر قلوبهم، ويَحْمِلوا على الأغنياء، حِقْدًا، وحَسَدًا، فبهذا تجتمع قلوب الجميع، وتتآلف، ولا يحصل بينهم تحاسدٌ، ولا تباغضٌ، ولا تدابرٌ، ولا تقاطع، بل يكونون إخوانًا متحابّين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر جسده بالسَّهَر والحمّى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): دلّ حديث الباب على وجوب الزكاة في الزروع والثمار، قال ابن قُدامة رحمه الله: والأصل في ذلك الكتاب، والسنّة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267] والزكاة تُسمّى نفقةً، بدليل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 34]. وقال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: حقّه الزكاة المفروضة. وقال مرّةً: العشر، ونصف العشر.

قال: ومن السنة قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، مُتّفقٌ عليه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"فيما سقت السماء والعيون، وكان عَثَرِيًّا العشرُ، وفيما سُقِي بالنضح نصف العشر"، أخرجه البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ.

وعن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سُقي بالساقية نصف العشر"، أخرجه مسلم، وأبو داود.

ص: 47

قال: وأجمع أهل العلم على أن الصدقة واجبة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، قاله ابن المنذر، وابن عبد البرّ. انتهى كلام ابن قُدامة

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في اشتراط النصاب لوجوب زكاة الزروع والثمار:

ذهب الجمهور إلى أنه لا تجب الزكاة في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق.

وممن قال به عبد الله بن عمر، وجابرٌ، وأبو أُمامة بن سهل، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، والحسن، وعطاء، ومكحول، والحكم، والنخعيّ، ومالك، وأهل المدينة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، والشافعيّ، وأبو يوسف، ومحمد، وجمهور أهل العلم

(2)

.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يُشترط النصاب لوجوب الزكاة فيما يَخرُج من الأرض، فيجب عنده العشر، أو نصف العشر في كثير الخارج، وقليله، وهو مرويّ عن إبراهيم النخعيّ، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز

(3)

، أخرج ذلك عنهم عبد الرزاق، وابن أبي شيبة في "مصنّفيهما"؛ لعموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، وقوله: صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر"، قالوا: إن الآية، والحديث عامان، فإن "ما" من ألفاظ العموم، فتشمل ما كان خمسة أوسق، أو أقلّ، أو أكثر، ولأنه لا يُعتبر له حولٌ، فلا يُعتبر له نصابٌ.

واحتجّ الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". متفقٌ عليه، قالوا: هذا خاصّ يجب تقديمه على العامّ، فيخصص به عموم ما أوردوه، كما خصصنا بلا خلاف قولَه صلى الله عليه وسلم:"في سائمة الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة"، وقولَه صلى الله عليه وسلم:"في الرقة ربع العشر" بقوله:

(1)

"المغني" 5/ 154.

(2)

ذكر ذلك ابن قدامة في مغنيه 5/ 161 - 162.

(3)

تقدم عن إبراهيم، وعمر بن عبد العزيز مثل قول الجمهور أيضًا.

ص: 48

"ليس فيما دون خمس أواق صدقة"، ولأنه مالٌ تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره، كسائر الأموال الزكوية، وإنما لم يُعتبر فيه الحول؛ لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتُبر الحول في غيره؛ لأنه مظنّة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصابُ اعتُبر ليبلغ حدًّا يحتمل المواساة منه، فلهذا اعتبر فيه. قاله ابن قدامة رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله في "إعلام الموقّعين"(1/ 283): لا تعارض بين الحديثين بوجه من الوجوه، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء العشر" إنما أُريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر، وبين ما يجب فيه نصفه، فذَكَرَ النوعين مُفرِّقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبيّنه نصًّا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النّصّ الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دلّ عليه البتّة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلّق فيه بعمومٍ لم يُقصد، وبيانه بالخاصّ المحكم المبيّن، كبيان سائر العمومات بما يخصّصها من النصوص. انتهى.

قال صاحب "المرعاة": ذهب جمهور الأصوليين، وعامّتهم إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد الصحيح، وهو الحقّ، واحتجّ لذلك في "المحصول" بأن العموم، وخبر الواحد دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخصّ من العموم، فوجب تقديمه على العموم.

قال الشوكانيّ: وأيضًا يدلّ على جواز التخصيص دلالة بيّنة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيّه صلى الله عليه وسلم من غير تقييد، فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبًا، وإذا عارضه عموم قرآنيّ كان سلوك طريقة الجمع ببناء العامّ على الخاصّ متحتّمًا، ودلالة العامّ على أفراده ظنيّةٌ، لا قطعيّة، فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية. انتهى.

ثم قال ابن القيّم رحمه الله: ويا لله العجب، كيف يخصّون عموم القرآن والسنّة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفًا في الاحتجاج به، وهو محلّ اشتباه، واضطرابٍ؛ إذ ما من قياس، إلا وتمكن معارضته بقياس مثله،

(1)

"المغني" 5/ 161 - 162.

ص: 49

أو دونه، أو أقوى منه، بخلاف السنّة الصحيحة الصريحة، فإنها لا يُعارضها إلا سنّةٌ ناسخةٌ معلومة التأخّر والمخالفة.

ثم يقال: إذا خصّصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش، ولا ذكر لهما في النصّ، فهلّا خصصتموه بقوله:"لا زكاة في حبّ، ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق"، وإذا كنتم تخصّون العموم بالقياس، فهلّا خصّصتم هذا العامّ بالقياس الجليّ الذي هو من أجلى القياس، وأصحّه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة، فإن الزكاة الخاصّة لم يشرعها الله عز وجل، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في مال إلا وجعل له نصابًا، كالمواشي، والذهب، والفضّة. ويقال أيضًا: هلّا أوجبتم الزكاة في قليل مال، وكثيرة؛ عملًا بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب إبلٍ، ولا بقرٍ، لا يؤدّي زكاتها، إلا بُطح له بقاعٍ قَرْقَرٍ

"، وبقوله: "ما من صاحب ذهب، ولا فضة، لا يؤدّي زكاتها إلا صُفّحت له يوم القيامة صفائح من نار

"، وهلّا كان هذا العموم عندكم مقدّمًا على أحاديث النصب الخاصّة، وهلّا قلتم هناك تعارض مسقطٌ، وموجبٌ، فقدّمنا الموجب احتياطًا، وهذا في غاية الوضوح. انتهى.

وقد اتضح بهذا كلّه كلّ الاتضاح أنه يجب تخصيص عموم قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "فيما سقت السماء العشر

" الحديث، وحديث جابر رضي الله عنه: "فيما سقت الأنهار والغيم العشور" بحديث الأوساق السابقة، كما خُصّص قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} بالأخبار التي دلّت على كون الزكاة منحصرة في أشياء مخصوصة، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] بأحاديث النُّصُب الخاصّة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وقوله: "في الرّقة ربع العشر" بقوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأدلّة أن ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط النصاب، في زكاة الزروع والثمار، وهو خمسة أوسق، هو الحقّ؛ لوضوح أدلّته، كما تقدّم بيانها.

ص: 50

وقد بالغ صاحب "المرعاة" في تتبّع متمسّكات الحنفيّة في عدم وجوب النصاب، والإجابة عليها بما لا تجده مجموعًا في كتاب غيره، فراجعه في (6/ 68 - 75) تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال الإمام ابن قدامة رحمه الله ما حاصله: لا نعلم خلافًا أن العشر يجب فيما سُقي بغير مؤنة، ونصف العشر فيما سُقي بالْمُؤنة.

هذا إذا كان السقي المذكور بنوعيه كلّ السّنة، وأما إذا سُقي نصف السنة بكُلفة، ونصفها بغير كلفة، ففيه ثلاثة أرباع العشر.

وهذا قول مالك، والشافعيّ، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأن كلّ واحد منهما لو وجد في جميع السنة لأوجب مقتضاه، فإذا وُجد في نصفها أوجب نصفه، وإن سُقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتُبر أكثرهما، فوجب مقتضاه، وسقط حكم الآخر؛ أي: كان حكم الأقلّ تبعًا للأكثر، نصّ عليه أحمد، وهو قول عطاء، والثوريّ، وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعيّ، وقال ابن حامد: يؤخذ بالقِسْط، وهو القول الثاني للشافعيّ؛ لأنهما لو كانا نصفين أُخذا بالحصّة، فكذلك إذا كان أحدهما أكثر، كما لو كانت الثمرة نوعين.

ووجه الأول أن اعتبار مقدار السقي، وعدد مراته، وقدر ما يُشرَب في كلّ سَقْيَة يَشُقّ، وَيتَعَذّر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية.

وإن جُهل المقدار غلّبنا إيجاب العشر احتياطًا، نصّ عليه أحمد، في رواية ابنه عبد الله؛ لأن الأصل وجوب العشر، وإنما يَسقط بوجود الكُلْفة، فما لم يتحقّق المسقط يَبقى على الأصل؛ ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر، فلا يثبت وجودها مع الشكّ فيه، وإن اختلف الساعي، وربّ المال في أيهما سُقي به أكثر، فالقول قول ربّ المال بغير يمين، فإن الناس لا يُستحلفون على صدقاتهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حقّقه ابن قُدامة رحمه الله حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"المغني" 5/ 166 - 167.

ص: 51

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب:

قال أبو إسحاق الشيرازيّ رحمه الله في "المهذّب": تجب الزكاة في كلّ ما تُخرجه الأرض، مما يُقتات، ويُدَّخَر، ويُنبته الآدميّون، كالحنطة، والشعير، والدُّخْن، والذُّرَة، والْجَاوَرْس، والأرز، وما أشبه ذلك

(1)

.

وقال ابن قدامة في "المغني": وقال مالك، والشافعيّ: لا زكاة في ثمر إلا التمر، والزبيب، ولا في حبّ، إلا ما كان قوتًا في حال الاختيار، إلا في الزيتون على اختلاف

(2)

.

وذهب أبو حنيفة أنها تجب في كلّ ما يُقصد بزراعته نماء الأرض، إلا الحطب، والقصب الفارسيّ، والحشيش، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وأبي بردة بن أبي موسى وحمّاد، وإبراهيم. واحتجّوا بعموم قوله تعالى:{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، وبعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"فيما سقت السماء العشر".

وتُعُقّب بأن عموم ما ذُكر يُخصّ بحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المتقدّم: "ليس في حبّ، وتمر صدقة

"، فيقيّد عموم "ما أخرجنا لكم"، و"ما سقت السماء" بالحبوب التي يَقتات بها الآدميّون على ما فسّره به أهل اللغة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وإلى قول أبي حنيفة، ومن معه ذهب داود الظاهريّ، إلا أنه قال: إن كلّ ما يدخل فيه الكيل يُراعى فيه النصاب، وما لا يدخل، ففي قليله وكثيرة الزكاة، قال الحافظ: وهذا نوع من الجمع بين الحديثين.

وذهب أحمد إلى أنها تجب فيما جمع الكيل، والبقاء، واليبس، من الحبوب، والثمار، مما يُنبته الآدميّون؛ إذا نبت في أرضه، سواء كان قوتًا، كالحنطة، والشعير، والسُّلْت، والأرز، والذّرة، والدُّخْن، أو من الْقِطْنيّات

(3)

،

(1)

"المهذب بشرح المجموع" 5/ 468.

(2)

"المغني" 4/ 156.

(3)

بالكسر، حكاه ابن قتيبة بالتخفيف، وأبو حنيفة بالتشديد: الحبوب التي تدّخر.

وذكره في "اللسان" بضم القاف ضبط قلم، وقال: ما كان سوى الحنطة، والشعير، =

ص: 52

كالباقلّا، والعَدَس، والماش، ونحوها، أو البزور، كبِزْر الكتّان، والقثّاء، والخيار، ونحوها، أو حبّ البقول، كالفُجْل، والسمسم، وسائر الحبوب.

وحُكي عنه لا زكاة إلا في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وهو قول موسى بن طلحة، والحسن البصريّ، وابن سيرين، والشعبيّ، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، وأبي عُبيد، ورجحه الصنعانيّ، والشوكانيّ.

واستُدلّ لهذا القول بأن ما عدا هذه لا نصّ فيها، ولا إجماع، ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها، ووجودها، فلم يصحّ قياسه عليها، ولا إلحاقه بها، فيبقى على النفي الأصليّ.

وأما عموم الآية، والحديث فهو مخصوص بأحاديث الخضروات، وبالأحاديث الواردة بصيغة الحصر في الأقوات الأربعة، قالوا: وهي مرويّة بطرق متعدّدة يقوّي بعضها بعضًا، فتنتهض لتخصيص هذه العمومات.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وتعقّب بأن أحاديث الخضروات، وأحاديث الحصر في الأربعة، لا تصحّ أصلًا، ولا تتقوّى، فلا تُعارض عموم الآية، والحديث المذكور، فقد احتجّوا بأحاديث كثيرة على الحصر في الأشياء الأربعة، ولكنّها كلّها لا تثبت:

(فمنها): ما روى الدارقطنيّ (ص 201) والحاكم (1/ 401) والبيهقيّ 4/ 125 والطبرانيّ من طريق طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى، ومعاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يُعَلِّمَا الناس أمر دينهم، وقال:"لا تأخذوا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر". قال الحاكم: إسناد صحيح، ووافقه الذهبيّ، وقال البيهقىّ: رجاله رجال الصحيح، ونقل الحافظ في "التلخيص" 2/ 322 عن البيهقيّ، أنه قال: رواته ثقات، وهو متّصل، وقال في "الدراية" (ص 164): في الإسناد طلحة بن يحيى مختلف فيه، وهو أمثل ما في الباب. انتهى.

= والزبيب، والتمر. أو هو اسم جامع للحبوب التي تُطبخ. أفاده في هامش المغني 4/ 155.

ص: 53

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تصحيح الحاكم، وموافقة الذهبيّ له، غير صحيح؛ لأن الحديث فيه ثلاث علل:

(أحدها): عنعنة سفيان الثوريّ، فإنه معروف بالتدليس، وهذه العلّة بمفردها تكفي في ردّ مثل هذا الحديث الذي ذكروه لمعارضة عموم الأدلّة الصحيحة.

(ثانيها): أن طلحة بن يحيى مختلف فيه، فهو وإن وثّقه جماعة، فقد تكلّم فيه آخرون، قال يحيى القطّان: لم يكن بالقويّ. وقال البخاريّ: منكر الحديث. وقال يعقوب بن شيبة: لا بأس به، في حديثه لين. وقال ابن حبّان: كان يخطئ. وقال الساجيّ: صدوق لم يكن بالقويّ

(1)

فتفرُّد مثله بمثل هذا الحديث الذي يعارض الأحاديث الصحيحة محلّ نظر.

(ثالثها): أنه اختُلف في رفعه، ووقفه، فقد رواه البيهقيّ (4/ 125)، كما سبق، ورواه من طريق الثوريّ أيضًا، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعريّ، ومعاذ بأنهما حين بُعثا إلى اليمن لم يأخذا إلا من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. قال الإمام ابن دقيق العيد في "الإمام": وهذا غير صريح في الرفع. انتهى

(2)

.

والحاصل أن هذا الحديث لا يصحّ، فلا تُعارَض به الأدلّة السابقة.

(ومنها): ما روى ابن أبي شيبة، وأبو عُبيد في "الأموال"(ص 468)، ويحيى بن آدم في "الخراج" (ص 148) عن موسى بن طلحة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة من الحنطة، والشعير، والنخل، والعنب. وهذا منقطع؛ لأنّ موسى بن طلحة لم يُدرك معاذًا، كما قاله ابن حزم (5/ 222) وقال الحافظ في "التلخيص": فيه انقطاع. وقال أبو زرعة: موسى بن طلحة بن عُبيد الله، عن عمر مرسلة، ومعاذٌ توفّي في خلافة عمر، فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال. وقال تقيّ الدين في "الإمام": وفي الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا أن وفاة موسى سنة ثلاث

(1)

راجع: ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 244 - 245.

(2)

نصب الراية 2/ 389.

ص: 54

ومائة، وقيل: سنة أربع ومائة. ذكره الزيلعيّ (2/ 387). وقال ابن عبد البرّ: لم يلق موسى معاذًا، ولا أدركه. انتهى.

والمشهور في ذلك ما رُوي عن عمرو بن عثمان، عن موسى بن طلحة، قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر، أخرجه أحمد (5/ 228)، والدارقطنيّ (2/ 96)، والبيهقيّ (4/ 129)، وابن حزم في "المحلّى"(5/ 222)، وأبو يوسف في "الخراج"(ص 64).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا وجادة والوجادة عند المحدّثين منقطعة، فلذا تعقّب صاحب "التنقيح" تصحيح الحاكم، والذهبيّ للحديث بالانقطاع، وقد أصاب في هذا التعقّب.

فاعتراض الشيخ الألباني على صاحب "التنقيح" وتعقّبه، بأن الوجادة حجة على الراجح فيه نظر؛ لأنها وإن كانت حجة للعمل بها إذا صحّت النسخة، لكن الرواية بها منقطعة، كما حرره علماء أصول الحديث، ودونك ما قاله صاحب "التقريب" مع شرحه "التدريب" (2/ 63): وهي -يعني الوجادة- أن يَقِف على أحاديث بخطّ راويها غير المعاصر له، أو المعاصر، ولم يسمع منه، أو سمع منه ولكن لا يروي تلك الأحاديث الخاصّة عنه بسماع، ولا إجازة، فله أن يقول: وجدت بخطّ فلان، أو في كتابه .... إلى أن قال: وهو من باب المنقطع. فقد صرّح بأن الوجادة منقطعة.

والحاصل أن تقوية الحديث بهذه الوجادة حتى يكون متّصلًا غير صحيح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(ومنها): ما روى الدارقطنيّ (2/ 97)، والحاكم (1/ 401)، والبيهقيّ (4/ 129)، والطبرانيّ من طريق إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمّه موسى بن طلحة، عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فيما سقت السماء، والْبَعْل، والسيل العشرُ، وفيما سُقي بالنضح نصفُ العشر، وإنما يكون ذلك في التمر، والحنطة، والحبوب، فأما القثّاء، والبطّيخ، والرمّان، والقصب، فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، لم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ.

ص: 55

قلت: هذا التصحيح منهما غير صحيح، فإن إسحاق بن يحيى متروك، تركه أحمد، والنسائيّ، وقال ابن معين: لا يُكتب حديثه، وقال البخاريّ: يتكلّمون في حفظه. وقال يحيى بن سعيد القطّان: شبه لا شيء. وقال أبو زرعة: واهي الحديث

(1)

. وفيه أيضًا الانقطاع المذكور بين موسى ومعاذ بن جبل.

(ومنها): ما روى الدارقطنيّ (2/ 96)، وأبو يوسف في "الخراج"(ص 65)، من طريق محمد بن عبيد الله العرزميّ، عن الحكم، عن موسى بن طلحة، عن عمر بن الخطّاب، قال: إنما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الأربعة: الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر. وفيه أن العرزميّ متروك أيضًا، وفيه أيضًا الانقطاع المتقدّم.

(ومنها): ما روى ابن ماجه رقم (1815) من طريق العرزميّ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال:"إنما سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الخمسة: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والذرة". والعرزميّ هو محمد بن عبيد الله المتروك المتقدّم.

ورواه يحيى بن آدم في "الخراج"(ص 150) من طريق يحيى بن أبي أُنيسة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، مرفوعًا، بلفظ:"أربع ليس فيما سواها شيء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب". وفيه يحيى بن أبي أُنيسة، قال أحمد، والنسائيّ، والدارقطنيّ: متروك الحديث. وقال عمرو الفلّاس: صدوق كان يَهِم في الحديث، وقد اجتمع أصحاب الحديث على تركه إلا من لا يعلم. وقال أخوه زيد بن أبي أُنيسة: إنه كذّاب

(2)

.

(ومنها): ما روى الدارقطنيّ (2/ 150) من حديث جابر رضي الله عنه قال: لم تكن المقاثي

(3)

فيما جاء به معاذ، إنما أخذ الصدقة من البرّ، والشعير، والتمر، والزبيب، وليس في المقاثي شيء. وفي سنده عديّ بن الفضل متروك الحديث.

(1)

انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب" 1/ 129 - 130.

(2)

انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب" 4/ 341 - 342.

(3)

"المقاثي" جمع مقثأة، وهي موضع القثّاء.

ص: 56

(ومنها): ما روى يحيى بن آدم في "الخراج" عن أبي حمّاد الحنفيّ، عن أبان، عن أنس، قال: لم يَفرِض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا من الحنطة، والشعير، والتمر، والأعناب. وفيه أبو حماد، مفضّل بن صدقة الحنفيّ الكوفيّ، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائيّ: متروك.

(ومنها): ما روى يحيى بن آدم في "الخراج" أيضًا، والبيهقيّ من طريقه (4/ 129) عن عتاب بن بشير، عن خُصيف، عن مجاهد، قال:"لم تكن الصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في خمسة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والذرة". وهذا مرسل، وفيه خُصيف، صدوق سيئ الحفظ، خلط بآخرة، أنكروا عليه أحاديث رواها عنه عتّاب بن بشير. وعتاب أيضًا متكلّم فيه.

(ومنها): ما روى يحيى بن آدم أيضًا (ص 149)، والبيهقيّ من طريقه (4/ 129) عن ابن عُيينة، عن عمرو بن عُبيد، عن الحسن البصريّ، قال:"لم يَفرِض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، إلا في عشرة أشياء: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضّة، والحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب". قال ابن عُيينة: أُراه قال: "والذُّرَة". وذكر في رواية للبيهقيّ: "السُّلْت" مكان "الذرة".

وهذا أيضًا مرسل. وقال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح.

وفيه عمرو بن عُبيد قدريّ داعية، متروك الحديث، وكان يَكذِب على الحسن في الحديث.

(ومنها): ما رواه يحيى بن آدم أيضًا (ص 149)، والبيهقيّ من طريقه (4/ 129) عن أبي بكر بن عيّاش، عن الأجلح، عن الشعبيّ، قال:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب". وهذا أيضًا مرسل، وأبو بكر بن عيّاش ثقة إلا أنه لَمّا كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح. والأجلح متكلّم فيه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أحاديث حصر وجوب الصدقة في الأربعة المذكورة كلها ضعافٌ جدًّا، لا تصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة المتقدّمة، وأَمثَلُها حديث يحيى بن طلحة المتقدّم، وقد عرفت ما فيه

ص: 57

من العلل، وتصحيح الحاكم لها من تساهلاته، وأما غيره كالذهبيّ، وغيره فقد تابعوه في تساهله.

فالأرجح عندي قول من قال بوجوب الزكاة في كلّ ما أخرجت الأرض من الحبوب الذي يَقتات به الآدميّون، وهذا معنى الحبّ المذكور في الحديث الصحيح:"ليس في حبّ، ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق"، على ما قاله أهل اللغة، وهو المخصّص لعموم آية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية [البقرة: 267]، ولعموم حديث: "فيما سقت السماء العشر

" الحديث.

وأما ما قاله ابن حزم في "المحلّى"(5/ 220 - 221) من أن الحبّ المذكور في الحديث هو الحنطة والشعير، ولا يطلق في لغة العرب على غيرهما، ونقل ذلك عن بعض أهل اللغة، ففيه تقصير، ومن غريب ما اتفق له في ذلك أن بعض ما نقله يردّ عليه، فإنه قد نقل عن أبي حنيفة الدِّينوريّ، عن الكسائيّ، قال: واحد الْحِبّة حَبّة -بفتح الحاء-، فأما الْحَبّ، فليس إلا الحنطة والشعير، واحدها حَبّة -بفتح الحاء-، وإنما افترقتا في الجمع، ثم ذكر أبو حنيفة بعد هذا الفصل إثر كلام ذكره لأبي نصر، صاحب الأصمعيّ كلامًا نصّه: وكذلك غيره من الحبوب، كالأرز، والدخن.

قال ابن حزم: فهذه ثلاثة جموع: الحبّ للحنطة، والشعير خاصّة، والحبّة -بكسر الحاء، وزيادة الهاء في آخرها- لكلّ ما عداهما من البزور خاصّة، والحبوب للحنطة، والشعير، وسائر البزور. انتهى كلامه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام أبي حنيفة المذكور يدلّ على أن الحبّ يطلق على جميع الحبوب؛ لأن الحبوب جمع للْحَبّ، فتفطّن.

ودونك ما قاله أهل اللغة في هذا الباب:

قال الفيّوميّ رحمه الله في "المصباح المنير": والْحَبّ -أي بالفتح-: اسمُ جنس للحنطة، وغيرها، مما يكون في السُّنْبُل، والأَكْمَام، والجمع حُبوب، مثلُ فَلْس وفُلُوس، الواحدة حَبَّة، وتجمع على حبّات على لفظها، وعلى حِبَابٍ، مثل كلبة وكِلاب، والحِبُّ -بالكسر-: ما لا يُقتات، مثل بُزُور

ص: 58

الرياحين، الواحدة حِبّةٌ. انتهى

(1)

.

وقال ابن منظور رحمه الله في "لسان العرب": والْحَبُّ: الزرعُ، صغيرًا كان أو كبيرًا، واحدته حبّةٌ، والحَبُّ معروف، مستعملٌ في أشياء جَمَّةٍ: حَبّةٌ من بُرّ، وحَبّةٌ من شعيرٍ، حتى يقولوا: حَبّةٌ من عِنَب. قال: وقال الجوهريّ: الْحَبّةُ واحدة حَبّ الحنطة، ونحوها، من الحبوب، والْحِبّةُ: بَزْرُ كلّ نبات، ينبت وحده من غير أن يُبْذَر، وكلُّ ما بُذِرَ، فبَزْرُهُ حَبَّةٌ بالفتح. قال: وقال الأزهريّ: ويقال لِحَبِّ الرَّيَاحين: حِبَّةٌ، وللواحدة منها حَبَّةٌ -بالفتح-، والحِبَّةُ حَبُّ الْبَقْل الذي يَنتثِرُ، والْحَبّةُ: حَبَّةُ الطعَام، حَبَّةٌ من بُرّ، وشَعيرٍ، وعَدَسٍ، وأَرُزٍّ، وكلُّ ما يأكله الناس. انتهى المقصود من كلام ابن منظور

(2)

.

فظهر بهذا ردّ ما ادعاه ابن حزم من أن الحبّ مقصور في لغة العرب على الحنطة، والشعير، فلا تجب الزكاة فيما عدا البرّ، والشعير، والتمر عنده، متمسّكًا بما ذكره.

فالحقّ أن الحبّ كلّ ما يقتات به الناس، من البرّ، والشعير، والتمر، والزبيب، والدُّخْن، والأرز، وغيرها من الحبوب. فثبت بالنّصّ وجوب الزكاة في جميع أنواع الحبوب التي يقتات به الآدميّون، وما عدا ذلك، فالأصل عدم وجوب الزكاة فيه؛ لعدم وجود نصّ صحيح في ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في اجتماع العشر والخراج في أرض واحدة:

ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجب العشر، أو نصفه إذا بلغ الخارج النصاب، سواء زرعه في أرض له، أو في أرض غيره، عشريّة كانت، أو خراجيّة، سقي بماء العشر، أو بماء الخراج.

قال ابن المنذر رحمه الله: هو قول أكثر العلماء، وممن قال به عمر بن عبد العزيز، وربيعة، والزهريّ، ويحيى الأنصاريّ، ومالك، والأوزاعيّ، والثوريّ، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، والليث، وابن المبارك،

(1)

"المصباح المنير" في مادّة: (حبّ).

(2)

"لسان العرب" في مادّة: (حبّ).

ص: 59

والشافعىّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود

(1)

.

فيجتمع عندهم العشر والخراج في أرض واحدة، ولا يمنع أحدهما وجوب الآخر.

وقال أبو حنيفة: لا عشر فيما أُصيب في أرض الخراج، فاشترط لوجوب العشر أن تكون الأرض عشريّة، فلا يجتمع عنده العشر والخراج في أرض واحدة.

واحتجّ الجمهور بقوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر

" الحديث، متّفق عليه، وغيرها من عمومات الأخبار.

قال ابن الجوزيّ في "التحقيق" بعد ذكر هذا الخبر: هذا عامّ في الأرض الخراجيّة وغيرها. وقال ابن المبارك: يقول الله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ، ثم يقول: نترك القرآن لقول أبي حنيفة.

واستدلّ الشيخ ابن دقيق العيد في الإمام للجمهور بما روى يحيى بن آدم في "الخراج"(ص 165)، والبيهقيّ من طريقه (4/ 131) عن سفيان بن سعيد، عن عمرو بن ميمون بن مِهْرَان، قال: سألت عمر بن عبد العزيز عن مسلم يكون في يده أرض خراج، فَيُسألُ الزكاة، فيقول: عليّ الخراجُ؟ قال: فقال: الخراج على الأرض، وفي الحبّ الزكاة، قال: ثمّ سألته مرّة أخرى، فقال مثل ذلك. ورواه أبو عبيد في "الأموال"(ص 88) عن قبيصة، عن سفيان. قال الحافظ في "الدراية" (ص 268): وصحّ عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمن قال: إنما عليّ الخراجُ: الخراج على الأرض، والعشر على الحبّ. أخرجه البيهقيّ من طريق يحيى بن آدم. وأخرج أيضًا عن يحيى، ثنا ابن المبارك، عن يونس -وفي "الخراج" ليحيى (ص 166) "عن معمر" مكان "عن يونس"- قال: سألت الزهريّ عن زكاة الأرض التي عليها الجزية؟ فقال: لم يزل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعده يُعاملون على الأرض، ويستكرونها، ويؤدّون الزكاة مما خرج منها، فنرى هذه الأرض على نحو ذلك. انتهى. وهذا فيه إرسال.

(1)

"المجموع" 5/ 479 ببعض تصرّف.

ص: 60

وروى يحيى بن آدم في "الخراج"(ص 165)، وأبو عبيد في "الأموال"(ص 88) عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن أبي عوف، عاملِهِ على فلسطين، فيمن كانت في يده أرض يحرثها من المسلمين أن يقبض منها جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية، قال ابن أبي عبلة: أنا ابتليت بذلك، ومنّي أخذوا الجزية -يعني خراج الأرض-.

واستدلّ الحنفيّة بما رواه ابن عديّ في "الكامل"، والبيهقيّ من طريقه عن يحيى بن عنبسة، ثنا أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم".

وبأن أحدًا من أئمّة العدل وولاة الْجَوْر لم يأخذ من أرض السواد عشرًا إلى يومنا هذا، فالقول بوجوب العشر فيها يخالف الإجماع، فيكون باطلًا. قال صاحب "الهداية": لم يجمع أحدٌ من أئمة العدل والجور بينهما، وكفى بإجماعهم حجة. انتهى.

وأجيب عن الحديث بأنه باطلٌ، لا أصل له. قال البيهقيّ: هذا حديثٌ باطلٌ وَصْلُه، ورَفْعُه، ويحيى بن عنبسة متّهمٌ بالوضع، وقال ابن عديّ: يحيى بن عنبسة منكر الحديث، وإنما يُروَى هذا من قول إبراهيم. وقد رواه أبو حنيفة، عن حمّاد، عن إبراهيم قولَهُ، فجاء يحيى بن عنبسة، فأبطل فيه، ووصله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحيى مكشوف الأمر في ضعفه؛ لروايته عن الثقات الموضوعات. انتهى. وقال ابن حبّان: ليس هذا من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحيى بن عنبسة دجّالٌ يضع الحديث، لا تحلّ الرواية عنه. وقال الدارقطنيّ: يحيى هذا دجّال يضع الحديث، وهو كذب على أبي حنيفة، ومن بعده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكره ابن الجوزيّ في "الموضوعات". كذا في "نصب الراية" 3/ 442.

وأجيب عن دعوى الإجماع بأنها باطلة جدًّا. قال الحافظ في "الدراية" ردًّا على صاحب "الهداية: ولا إجماعَ مع خلاف عمر بن عبد العزيز، والزهريّ، بل لم يثبت عن غيرهما التصريح بخلافهما. انتهى. وقال أبو عبيد في "الأموال" (ص 90): لا نعلم أحدًا من الصحابة قال: لا يجتمع عليه العشر

ص: 61

والخراج، ولا نعلمه من التابعين إلا شيء يُروى عن عكرمة، رواه عنه رجل من أهل خراسان، يُكنى أبا المنيب، سمعه يقول ذلك. انتهى.

وقال صاحب "المرعاة"(6/ 79) بعد ذكر ما تقدّم: وقد ظهر بما ذكرنا أنه لم يقم دليل صحيح، أو سقيم على أن الخراج والعشر لا يجتمعان على مسلم، بل الآية المذكورة، وحديث:"فيما سقت السماء العشر"، وما في معناه يدلّان بعمومهما على الجمع بينهما، وأثر عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وأثر الزهريّ يدلّان على أن العمل كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، فالحقّ، والصواب في ذلك ما ذهب إليه الجمهور. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله صاحب "المرعاة" رحمه الله حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ بَيَانِ أنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلَا فِي فَرَسِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2273]

(982) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ، وَلَا فَرَسِهِ

(1)

صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِىُّ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة الحجة الثبت [7](ت 189)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدني، ثقة [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

(1)

وفي نسخة: "ولا في فرسه".

ص: 62

4 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الْهلاليّ المدنىّ، مولى ميمونة، أو أم سلمة، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، من كبار [3] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

5 -

(عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) الغفاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، رَوَى بعضهم عن بعض: عبد الله بن دينار، وسليمان بن يسار، وعراك بن مالك، وكلهم مدنيّون.

5 -

(ومنها): أن سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة.

6 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ) خَصّ المسلم، وإن كان الصحيح من أقوال العلماء أن الكافر مكلّف بالفروع؛ لأنه ما دام كافرًا لا تُقبل منه حتى يُسلِم، وإذا أسلم سقطت منه؛ لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله

(1)

. (فِي عَبْدِهِ)؛ أي: رقيقه، ذكرًا كان أو أنثى، ونفَى الصدقة في العبد مطلقًا، لكنه مقيّدٌ بما ثبت في الرواية الآتية:"ليس في العبد صدقة، إلا صدقة الفطر"، ولأبي داود:"ليس في الخيل، والرقيق زكاة، إلا زكاة الفطر".

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 90.

ص: 63

(وَلَا فَرَسِهِ) وفي نسخة: "ولا في فرسه"، والمراد: الشامل للذكر والأنثى، وجمعه الخيل، من غير لفظه، قال في "القاموس": الْخَيْلُ: جماعة الأفراس، لا واحد له، أو واحدة خائلٌ؛ لأنه يختال، جمعه أَخْيَالٌ، وخُيُول، ويُكسرُ، والْفُرْسان، ومنه ما روي:"يا خيل الله اركبي"؛ أي: يا رُكّاب خيل الله. انتهى بزيادة.

وقال في "المصباح": الْخَيْلُ: معروفة، وهي مؤنّثةٌ، ولا واحد لها من لفظها، والجمع خُيُولٌ. قال بعضهم: وتطلق الخيل على العِرَاب، وعلى الْبَرَاذِين، وعلى الفُرْسَان، وسميت خيلًا؛ لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مَرَحًا، ومنه يقال: اختال الرجلُ، وبه خُيَلاءُ، وهو الكبر والإعجاب. انتهى

(1)

.

(صَدَقَةٌ")؛ أي: زكاة، قال في "الفتح" عند قول البخاريّ رحمه الله:"باب ليس على المسلم في فرسه صدقة": قال ابن رُشيد: أراد بذلك الجنس في الفرس، والعبد، لا الفرد الواحد؛ إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرّف، والفرس المعدّ للركوب، ولا خلاف أيضًا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين: يؤخذ منها بالقيمة.

ولعلّ البخاريّ أشار إلى حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعًا: "قد عفوت عن الخيل، والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقَّةِ"، أخرجه أبو داود، وغيره

(2)

وإسناده حسن.

والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذُكرانًا وإناثًا نظرًا إلى النسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثمّ عنده أن المالك يتخيّر بين أن يخرج عن كلّ فرس دينارًا، أو يقوّم، ويُخرج ربع العشر.

واستُدِلّ عليه بهذا الحديث، وأُجيب بحمل النفي فيه على الرقبة، لا على القيمة.

واستَدَلّ به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقًا، ولو

(1)

راجع: "القاموس"، و"المصباح المنير" في مادّة:(خال).

(2)

أخرجه النسائي برقم (2477 و 2478).

ص: 64

كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره، فيخصّ به عموم هذا الحديث. انتهى

(1)

.

وتعقّب بعضهم دعوى الإجماع المذكور، فقال: كيف الإجماع مع خلاف الظاهرية؟.

قال: وأجيبوا بأن زكاة التجارة متعلّقها القيمة، لا العين، فالحديث يدلّ على عدم التعلّق بالعين، فإنه لو تعلّقت الزكاة بالعين من العبيد والخيل لثبتت ما بقيت العين، وليس كذلك، فإنه لو نوى القنية لسقطت الزكاة، والعين باقية، وإنما الزكاة متعلّقة بالقيمة بشرط نيّة التجارة.

قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث أصل في أنّ أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق؛ إذا لم تكن للتجارة.

وبهذا قال العلماء كافّة، من السلف والخلف، إلا أبا حنيفة، وشيخه حماد بن أبي سليمان، وزفر، فأوجبوا في الخيل على تفصيل سيأتي قريبًا، قال النوويّ: وليس لهم حجة في ذلك، وهذا الحديث صريحٌ في الرّدّ عليهم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2273 و 2274 و 2275 و 2276](982)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1463 و 1464)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1594 و 1595)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(628)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2467 و 2468 و 2469 و 2470 و 2471 و 2472) و"الكبرى" في (2246 و 2247 و 2248 و 2249 و 2250 و 2251)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1812)، و (أحمد) في "مسند"(2/ 242 و 254 و 410 و 469 و 470 و 477)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 277)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 4/ 87.

ص: 65

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الزكاة في الخيل:

ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا زكاة في الخيل إلا إذا كانت للتجارة.

وذهب أبو حنيفة، وشيخه حماد بن أبي سليمان، وزفر فأوجبوا فيها الزكاة؛ إذا كانت إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا، في كلّ فرس دينارًا، وإن شاء قوّمها، وأخرج عن كلّ مائتي درهم خمسة دراهم.

احتجّ الجمهور بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، وبحديث عليّ رضي الله عنه الآتي بعد باب.

قال أبو عُبيد في "كتاب الأموال"(ص 465): إيجاب الصدقة في سائمة الخيل التي يبتغي منها النسل ليس على اتّباع السنّة، ولا على طريق النظر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفا عن صدقتها، ولم يستثن سائمة، ولا غيرها، وبه عملت الأئمة، والعلماء بعده فهذه السنّة.

وأما في النظر فكان يلزمه إذا رأى فيها صدقة أن يجعلها كالماشية؛ تشبيهًا بها؛ لأنها سائمة مثلها، ولم يَصِر إلى واحد من الأمرين، على أن تسمية سائمتها قد جاءت عن غير واحد من التابعين بإسقاط الزكاة منها، ثم روى عن إبراهيم، والحسن، وعمر بن عبد العزيز.

وأجاب الحنفيّة عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه بأنه محمول على فرس الركوب، والحمل، والجهاد في سبيل الله؛ لما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه لما بلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: صدق، إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس الغازي. ذكره صاحب "الهداية" تبعًا لأبي زيد الدبوسيّ.

قال الحافظ في "الدراية"(ص 158): تبع صاحب "الهداية" في ذلك أبا زيد الدبوسيّ، فإنه نقله عن زيد بن ثابت بلا إسناد. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الزكاة في الخيل، والرقيق؛ لحديث الباب.

وقد ذكر العلّامة عبيد الله بن محمد المباركفوريّ، صاحب "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" رحمه الله أدلة الحنفيّة وناقشها كلها، فأجاد، وأفاد، بما لا تجده في كتاب غيره، فجزاه الله تعالى خيرًا، فإن شئت فراجعه

ص: 66

في (6/ 90 - 96) تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2274]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أيُّوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ عَمْرٌو: عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ زُهَيْرٌ: يَبْلُغُ بِهِ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ، وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) تقدّم قبل باب.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب أيضًا.

4 -

(أيُّوبُ بْنُ مُوسَى) بن عمرو بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو موسى المكيّ، ثقةٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "الحيض" 11/ 750.

5 -

(مَكْحُولٌ) الشاميّ، أبو عبد الله، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ، كثير الإرسال [5] مات سنة بضع عشرة ومائة (م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ عَمْرٌو: عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ زُهَيْرٌ: يَبْلُغُ بِهِ) أشار به إلى بيان اختلاف شيخيه في صيغ الأداء، فقال عمرو الناقد:"عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقال زهير بن حرب:"عن أبي هريرة يبلغ به"؛ أي: يرفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الصيغة من صيغ الرفع حكمًا، وإنما عدل عن الصيغة المعروفة، مثل "سمع"، أو "قال"، أو "عن" مثلًا لكونه نسي الصيغة التي سمعها من شيخه، مع أنه تأكّد من رفعه، فأتى بصيغة تحتمل كلّ الصيغ، وهي قوله:"يبلغ به"، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى غير مرّة، فلا تكن من الغافلين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث

ص: 67

الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2275]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، كُلُّهُمْ عَنْ خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) الأزديّ الْجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

5 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوقٌ يَهِم، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

6 -

(خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ) الغفاريّ المدنيّ، ثقة

(1)

[6].

رَوَى عن أبيه، وسليمان بن يسار، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ويحيى بن سعيد القطان، وحماد بن زيد، وسلمان بن بلال، وحاتم بن إسماعيل، وغيرهم.

وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العقيليّ: ليس

(1)

هذا أولى من قوله في "التقريب": لا بأس به، فقد روى عنه جماعة، ووثقه النسائيّ وغيره، وأخرج له الشيخان، فتنبّه.

ص: 68

به بأس، وقال الأزديّ: منكر الحديث، وقال ابن حزم: لا تجوز الرواية عنه، قال الحافظ: وهي مجازفة صعبة، ولعل مستند من وَهّاه ما ذكره أبو عليّ الكرابيسيّ في "كتاب القضاء": حدثنا سعيد بن زبير، ومصعب الزبيريّ، قالا: استفتى أمير المدينة مالكًا عن شيء، فلم يُفْته، فأرسل إليه: ما منعك من ذلك؟ فقال مالك: لأنك وَلَّيت خُثيم بن عراك بن مالك على المسلمين، فلما بلغه ذلك عزله. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر الحافظ الحكاية، ولم يُجب عنها، وعندي أنها لا تكون موجبة لضعف خثيم، كما اعتمده الأزديّ، وابن حزم؛ لأن إنكار مالك توليته للقضاء يَحتمل لأمر آخر، لا صلة له برواية الحديث.

والحاصل أن خثيمًا ثقةٌ كما وثّقه النسائيّ وغيره، وروى عنه جماعة، وأخرج له الشيخان في "صحيحيهما"، فتنبّه.

ثم رأيت الحافظ أجاب في "الهدي"، وأجاد، فقال: خُثيم بن عراك بن مالك الغفاريّ، وثّقه النسائيّ، وابن حبّان، والعقيليّ، وشذّ الأزديّ، فقال: منكر الحديث، وغفل أبو محمد بن حزم، فاتّبع الأزديّ، وأفرط، فقال: لا تجوز الرواية عنه، وما درى أن الأزديّ ضعيف، فكيف يُقبل منه تضعيف الثقات؟. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (982) و (1559) و (2516).

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية خثيم، عن أبيه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1464)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى بن سعيد، عن خُثيم بن عِرَاك، قال: حدّثني أبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وحدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا وهيب بن خالد، حدّثنا خُثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم صدقة في عبده، ولا في

(1)

"هدي الساري"(ص 420).

ص: 69

فرسه". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2276]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِىُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي

(1)

مَخْرَمَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ في الْعَبْدِ صَدَقَةٌ، إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) المصريّ المعروف بابن التستريّ، صدوقٌ، تُكلّم في بعض سماعه بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

2 -

(مَخْرَمَةُ) بن بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، صدوق [7](ت 159)(بخ م د س) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

3 -

(أَبُوهُ) بُكير بن عبد الله بن الأشجّ الْمَخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنىّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

والباقون تقدّموا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ) قال النوويّ رحمه الله: هذا صريح في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبده، سواءٌ كان للقنية أم للتجارة، وهو مذهب مالك، والشافعىّ، والجمهور، وقال أهل الكوفة: لا يجب في عبيد التجارة، وحُكِيَ عن داود أنه قال: لا تجب على السيد، بل تجب على العبد، ويَلْزَم السيدَ تمكينه من الكسب؛ ليؤديها، وحكاه القاضي عن أبي ثور أيضًا، ومذهب الشافعيّ، وجمهور العلماء أن المكاتب لا فطرة عليه، ولا على سيده، وعن عطاء، ومالك، وأبي ثور وجوبها على السيد، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعيّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم"

(2)

، وفيه وجه أيضًا لبعض أصحابنا

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

حديث حسنٌ، أخرجه أبو داود في "سننه" بسند حسن.

ص: 70

أنها تجب على المكاتب؛ لأنه كالحرّ في كثير من الأحكام. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قول من قال: إنها تجب على سيّده هو الحقّ؛ للحديث المذكور، وسيأتي تمام البحث فيه بعد باب -إن شاء الله تعالى-.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: فإن قلت: كيف أخرج المصنّف رواية مخرمة عن أبيه، وهي متكلّم فيها؛ لأنها وجادة من كتابه، كما قاله أحمد، وابن معين، وغيرهما؟.

[قلت]: لم ينفرد بها مخرمة، فقد تابعه جماعة في روايتها عن أبيه، وهم: مكحول، وجعفر بن ربيعة، وموسى بن عقبة. فاما رواية مكحول، فأخرجها ابن خزيمة في "صحيحه" (4/ 82) فقال:

(2396)

- حدّثنا محمد بن حكيم، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أسامة بن زيد، عن مكحول، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس على المسلم في فرسه، ولا في عبده، ولا وليدته صدقة، إلا صدقة الفطر".

وأخرجه أيضًا الدارقطنيّ في "سننه"(2/ 127) فقال:

(8)

- حدّثنا سعيد بن محمد بن أحمد الحناط، ثنا يوسف بن موسى، ثنا أبوأسامة، عن أسامة بن زيد، أخبرني مكحول، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليس على المرء المسلم صدقة في فرسه، ولا في عبده، ولا في وليدته"، قال أسامة بن زيد: وثنا سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله. انتهى.

وأما رواية جعفر بن ربيعة، فأخرجها الدارقطنيّ في "سننه" (2/ 127) فقال:

(7)

- حدّثنا محمد بن أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، ثنا أحمد بن محمد بن رِشدين، نا ابن أبي مريم، ثنا نافع بن يزيد، حدّثني جعفر بن ربيعة،

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 55 - 56.

ص: 71

عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا صدقة على الرجل في فرسه، ولا في عبده إلا زكاة الفطر".

وقال البيهقيّ في "الكبرى"(4/ 160) بعد أن أخرجه من هذا الوجه: ورواه محمد بن سهل بن عسكر، عن ابن أبي مريم، فقال في الحديث:"ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة، إلا صدقة الفطر". انتهى.

وأما رواية موسى بن عقبة، عن عراك، فأخرجها الطبرانيّ في "المعجم الأوسط" (6/ 90) فقال:

(5887)

- حدّثنا محمد بن خُليد العبديّ، قال: نا محمد بن عُبيد المحاربيّ، قال: نا أبي، عن عبد السلام بن مصعب، أبي مصعب المدنيّ، عن موسى بن عقبة، عن عِرَاك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبيّ قال:"ليس على الرجل في عبده، ولا فرسه صدقة، إلا صدقة الفطر"، لم يرو هذا الحديث عن موسى بن عقبة إلا عبد السلام بن مصعب

(1)

. انتهى.

فتحصّل مما سبق أن الحديث لم ينفرد به مخرمة عن أبيه، بل رواه عنه معه هؤلاء الثلاثة: مكحول، وجعفر بن ربيعة، وموسى بن عقبة، فتنبّه. والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا (3/ 2276)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 420)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2289)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 60)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 160)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 152)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 127)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الأوسط"(6/ 90)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 312)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 523)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وهو ثقة، وثقه ابن معين، من السابعة، قاله في "التقريب"(213).

ص: 72

(4) - (بَابٌ فِي تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، وَتَحَمُّلِهَا عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2277]

(983) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَليدِ، وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ، وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلِىُّ بْنُ حَفْصٍ) المدائنيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [9](م د ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 8.

2 -

(وَرْقَاءُ) بن عمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وعلي بن حفص، فما أخرج له البخاريّ، وأبو داود، وابن ماجه.

ص: 73

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، وعلي، فبغداديّان، وورقاء، فمدائنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ) هذا ظاهر في كون الحديث من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، ووقع عند النسائيّ بلفظ:"وَقَالَ عُمَرُ"، قال في "الفتح": والمحفوظ أنه من مسند أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما جرى لعمر رضي الله عنه فيه ذكرٌ فقط. انتهى

(1)

.

(عَلَى الصَّدَقَةِ)؛ أي: ساعيًا عليها، وهو مشعر بأنها صدقة الفرض؛ لأن صدقة التطوّع لا يُبعَث عليها السُّعَاةُ.

وهذا هو الصحيح المشهور، نقله القرطبيّ عن الجمهور، وقال ابن القصّار المالكيّ: الأليق أنها صدقة التطوّع؛ لأنه لا يُظنّ بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض.

وتُعُقّب بأنهم ما منعوه كلهم جحدًا، ولا عنادًا، أما ابن جميل، فقد قيل: إنه كان منافقًا، ثم تاب بعد ذلك. كذا حكاه المهلّب، وجزم القاضي حسين في "تعليقه" أن فيه نزلت:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75]. انتهى. والمشهور أنها نزلت في ثعلبة.

وأما خالد، فكان متأوّلًا بإجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العبّاس؛ لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عَذَر النبيّ صلى الله عليه وسلم خالدًا والعبّاس، ولم يعذر ابن جميل.

وقال ابن الملقّن رحمه الله: ويبعد أن يراد بها صدقة التطوّع لوجوه:

(أحدها): أن المتبادر إلى الذهن خلافه.

(ثانيها): أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يبعث في الزكاة المفروضة، على ما نُقل.

(1)

"الفتح" 4/ 94.

ص: 74

(ثالثها): قوله: "وأما العبّاس فهي علَيّ"، و"عليّ" من ألفاظ الوجوب. انتهى

(1)

.

(فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ) قائل ذلك عمر رضي الله عنه، كما سيأتي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الكلام على قصّة العباس رضي الله عنه.

ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عُبيد: "فقال بعض من يَلْمِز"؛ أي: يَعيب.

و"ابن جميل" هذا قال صاحب "التنبيه": قال ابن منده وغيره: لا يُعرف اسمه. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": لم أقف على اسمه في كتب الحديث، لكن وقع في تعليق القاضي الحسين المروزيّ الشافعيّ، وتبعه الرويانيّ أن اسمه "عبد الله"، ووقع في شرح الشيخ سراج الدين ابن الملقّن أن ابن بزيزة سمّاه "حميدًا"، ولم أر ذلك في كتاب ابن بزيزة، ووقع في رواية ابن جريج "أبو جهم بن حُذيفة" بدل ابن جميل، وهو خطأ؛ لإطباق الجميع على "ابن جميل"، وقول الأكثر: إنه كان أنصاريًّا، وأبو جهم بن حذيفة، قرشيّ، فافترقا، وذكر بعض المتأخّرين أن أبا عبيد ذكر في "شرح الأمثال" له أنه "أبو جهم بن جميل". انتهى.

(وَخَالِدُ بْنُ الْوَليدِ) بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم، سيف الله، يكنى أبا سليمان، من كبار الصحابة رضي الله عنه، وكان إسلامه بين الحديبية والفتح، وكان أميرًا على قتال أهل الرّدّة وغيرها من الفتوح، إلى أن مات سنة (21 هـ) أو بعدها.

(وَالْعَبَّاسُ) بن عبد المطّلب، وقوله:(عَمُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالرفع على البدليّة توفّي العبّاس رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها، وهو ابن (88) سنة.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ) -بفتح القاف وكسرها- أي ما يعيب، أو ما يُنكر، أو ما يَكرَه، يقال: نَقَمْتُ عليه أمره، ونَقَمتُ منه نَقْمًا، من باب ضرب، ونُقُومًا، ونَقِمْتُ أَنقَمُ، من باب تَعِبَ لغةٌ: إذا عِبْتَه، وكرِهته أشدّ

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 75.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 186.

ص: 75

الكراهة؛ لسوء فعله، وفي التنزيل:{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [الأعراف: 126] على اللغة الأولى: أي ما تطعَنُ فينا، وتَقْدَحُ. وقيل: ليس لنا عندك ذنب، ولا ركِبنَا مكروهاً، قاله في "المصباح".

وقال في "اللسان": معنى نَقِمتُ: بالغت في كراهية الشيء، وأنشد بعضهم [من الخفيف]:

مَا نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا

أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ إِنْ غَضِبُوا

يروى بالفتح والكسر.

وقال الإمام ابن الملقّن رحمه الله: واختُلف في معناه على ثلاثة أقوال:

(أحدها): يُنكِر.

(وثانيها): يَكرَه.

(وثالثها): يَعيب، وقد فُسّر قوله تعالى:{هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} الآية [المائدة: 59] بـ"يكرهون" و"ينكرون". فإن فسّرناه بـ "ينكر" فإن معناه: أنه لا عُذر له في المنع؛ إذ لم يكن موجبه إلا أن كان فقيراً، فأغناه الله، وذلك ليس بموجب له، فلا موجب البتّة، وهذا من باب قوله [من الطويل]:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ

بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

فيقصدون النفي على سبيل المبالغة في الإثبات؛ إذ المعنى أنه لم يكن لهم عيبٌ إلا هذا، وهذا ليس بعيبٍ، فلا عيب فيهم البتّة، وكذلك المعنى هنا إذا لم يُنكر ابن جميل إلا كون الله أغناه بعد فقره، فلم ينكر مُنكَراً أصلاً، فلا عذر له في المنع، وكذلك إن فسّرناه بـ "يَكره"؛ أي: ما يكره إخراج الزكاة على ما تقدّم.

ويقال: نَقِمَ الإنسان: إذا جعله مؤدّياً إلى كفره النعمة، فالمعنى أن غناه أدّاه إلى كفر نعمة الله تعالى بالمنع، فما ينقم؛ أي: ما يكره إلا أن يكفر النعمة، وأما تفسيره بـ "يَعِيبُ" ففيه بُعْدٌ. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله

(1)

.

(إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيراً، فَأَغْنَاهُ اللهُ) زاد في رواية البخاريّ: "ورسوله"، قال في "الفتح": إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه لأنه كان سبباً لدخوله في الإسلام،

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 77 - 78.

ص: 76

فأصبح غنيًّا بعد فقره بما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأباح لأمته من الغنائم.

وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يُشبه الذّمّ؛ لأنه إذا لم يكن له عذرٌ إلا ما ذُكر من أن الله أغناه، فلا عُذر له، وفيه التعريض بكفران النعم، والتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان. انتهى

(1)

.

(وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً) الخطاب للعمّال على الصدقة حيث لم يحتسبوا له بما أنفق في الجهاد من الجند والْعُدّة؛ لأنهم طلبوا منه زكاة أعتاده ظناً منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم عليّ، فقالوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إن خالداً منع الزكاة، فقال:"إنكم تظلمون خالداً"؛ لأنه حبسها، ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها، ولا زكاة فيها، قاله النوويّ في "شرحه"

(2)

.

وَيحْتَمِل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاةٌ لأعطاها، ولم يَشحّ بها؛ لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرّعاً، فكيف يشحّ بواجب عليه؟.

وَيحْتَمِل أنه لم يقفها، بل رفع يده عنها، وخلّى بينها وبين الناس في سبيل الله؛ لا أنه احتبسها وقفاً على التأبيد؛ لأنه صرفها مصرفها حيث تعيّنت للجهاد، وقد جعل الله للجهاد حظاً من الزكاة، فرأى صرفها فيه، فاشترى بها ما يصلح له، كما يفعله الإمام، فلما تحقّق النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، قال:"إنكم تظلمون خالداً"، فإنه صرفها مصرفها، وأجاز له ذلك، وبه جزم القرطبيّ في "شرحه"

(3)

.

وقيل: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه من ذلك فيما يجب عليه من الزكاة؛ لأنه في سبيل الله، حكاه القاضي عياض

(4)

.

(قَدِ احْتَبَسَ)؛ أي: وَقَفَ، وَيحْتَمِل أن يكون معناه: إبانة اليد عن الملك لله تعالى كما يفعل المهدي لبيت الله تعالى فيها بالتخلية بينها وبين

(1)

"الفتح" 4/ 95.

(2)

"شرح مسلم" 7/ 59 - 60.

(3)

ذكر القرطبي رحمه الله تعالى معنى هذا الكلام في "المفهم" 3/ 16.

(4)

"إكمال المعلم" 3/ 115.

ص: 77

مستحقيها، قال الأصبهانيّ: واحتبس لغة في حَبَسَ

(1)

. (أَدْرَاعَهُ) بفتح الهمزة: جمع دِرْع بكسر، فسكون، ويكون من الحديد وغيره (وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ) "الأَعْتَادُ" -بفتح الهمزة-: جمع عَتَدَ- بفتحتين - ووقع في رواية البخاريّ: "وَأَعتُدَه" - بضمّ المثنّاة - وهو جمعه أيضاً، قيل: هو ما يُعِدُّه الرجل من الدوابّ، والسلاح، وقيل: الخيل خاصّة، يقال: فرسٌ عَتِيد؛ أي: صَلْبٌ، أو مُعَدٌّ للركوب، أو سَريع الوثوب، أقوال. وقيل: إن لبعض رواة البخاريّ: "وأعبُده" - بالموحّدة - جمع "عَبْد"، حكاه عياض، والأول هو المشهور، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال الإمام ابن الملَقّن رحمه الله: هذه اللفظة رُويت على أوجه:

(أحدهما): "أعتاده"، وأنكره بعضهم، وهي ثابتة في "صحيح مسلم".

(ثانيها): "أعتُده" بالتاء المثنّاة فوقُ، وحَكَى الدارقطنيّ أن أحمد بن حنبل قال: أخطأ عليّ بن حفص في هذا، وصَحَّفَ، وإنما هو "أعبُده" يعني بالباء الموحّدة، وقال عبد الحقّ في "الجمع بين الصحيحين": وقع في رواية للبخاريّ: "وأعبده"، والصحيح "وأعتُده" بالتاء المثنّاة فوقُ.

قال ابن الملقّن: وهي "الأعتاد" جمع قلّة لعَتَد بفتح العين والتاء، وهو الفرس الصَّلْب، وقيل: الْمُعَدّ للركوب، وقيل: السريع الوَثبِ.

وقال الهرويّ والخطّابيّ: هو ما أعدّه الرجل من سلاح، وآلة، ومركوب للجهاد، وبه جزم الشيخ تقيّ الدين، وعزاه النوويّ إلى أهل اللغة، ولم يذكر غيره.

(ثالثها): "عَتَاده" وُيجمَع على "أعتد" بكسر التاء وضمّها.

(رابعها): "أعبده" بالباء الموحّدة، جمع قلّة للعبد، وهو الحيوان العاقل، هذا هو الظاهر.

قال: وروي "فقد احتبس رقيقه ودوابّه"، وروي "عقاره" بالقاف والراء، وهو الأرض، والضياع، والنخل، ومتاع البيت. انتهى كلام ابن الملقّن رحمه الله باختصار

(3)

.

(1)

راجع: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 83.

(2)

"الفتح" 4/ 95.

(3)

"الإعلام" 5/ 82 - 86.

ص: 78

(وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا") ولفظ البخاريّ: "وأما العبّاس بن عبد المطّلب، فعمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي عليه صدقةٌ، ومثلها معها"، قال في "الفتح": كذا في رواية شعيب، ولم يقل ورقاء، ولا موسى بن عُقبة:"صدقة"، فعلى هذه الرواية يكون صلى الله عليه وسلم ألزمه بتضعيف صدقته؛ ليكون أرفع لقدره، وأَنْبَهَ لذكره، وأنفى للذّمّ عنه، فالمعنى فهي صدقة ثابتة عليه سيتصدّق بها، ويُضيف إليها مثلها كَرَماً، ودلّت رواية مسلم على أنه صلى الله عليه وسلم التزم بإخراج ذلك عنه لقوله:"فهي عليّ"، وفيه تنبيه على سبب ذلك، وهو قوله:"إن العمّ صنو الأب"، تفضيلاً له، وتشريفاً.

ويَحْتَمِل أن يكون تحمّل عنه بها، فيُستفاد منه أن الزكاة تتعلّق بالذمّة، كما هو أحد قولي الشافعيّ.

وجمع بعضهم بين رواية "علَيّ" ورواية "عليه" بأن الأصل رواية "علَيّ"، ورواية "عليه" مثلها إلا أن فيها زيادة هاء السكت، حكاه ابن الجوزيّ، عن ابن ناصر.

وقيل: معنى "علَيّ"؛ أي: هي عندي قرض؛ لأنني استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً فيما أخرجه الترمذيّ وغيره من حديث عليّ، وفي إسناده مقال.

وفي الدارقطنيّ من طريق موسى بن طلحة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنا كنا احتجنا، فتعجّلنا من العبّاس صدقة ماله سنتين"، وهذا مرسل.

وروى الدارقطنيّ أيضاً موصولاً بذكر طلحة فيه، وإسناد المرسل أصحّ.

وفي الدارقطنيّ أيضاً من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعياً، فأتى العبّاسَ، فأغلظ له، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن العبّاس قد أسلَفَنا زكاة ماله العام، والعام المقبل"، وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضاً هو، والطبرانيّ من حديث أبي رافع رضي الله عنه نحو هذا، وإسناده ضعيف أيضاً، ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّل من العباس صدقة سنتين"، وفي إسناده محمد بن ذكوان، وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعاً للإشكال، ولرجّح به سياق رواية مسلم على بقيّة الروايات، وفيه ردّ لقول من قال: إنّ قصّة التعجيل إنما وردت في وقت غير الوقت الذي بعث فيه عمر رضي الله عنه لأخذ الصدقة.

ص: 79

قال الحافظ رحمه الله: وليس ثبوت هذه القصّة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق. والله أعلم.

وقيل: المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين، فأمر أن يُقاصّ به من ذلك، واستُبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان صلى الله عليه وسلم أعلم عمرَ بأنه لا يطالب العباس. وليس ببعيد.

ومعنى "عليه" على التأويل الأول: أي لازمة له، وليس معناه أنه يقبضها؛ لأن الصدقة عليه حرام؛ لكونه من بني هاشم.

ومنهم من حمل رواية الباب على ظاهرها، فقال: كان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم، ويؤيّده رواية موسى بن عُقبة، عن أبي الزناد، عند ابن خُزيمة بلفظ:"فهي له"، بدل "عليه".

وقال البيهقيّ: اللام هنا بمعنى "على"؛ لتتّفق الروايات، قال الحافظ: وهذا أولى؛ لأن المخرج واحد، وإليه مال ابن حبّان.

وقيل: معناها فهي له؛ أي: القدر الذي كان يُراد منه أن يُخرجه لأنني التزمت عنه بإخراجه، وقيل: إنه أخّرها عنه ذلك العام إلى عام قابل، فيكون عليه صدقة عامين، قاله أبو عُبيد. وقيل: إنه كان استدان حين فادى عَقيلاً وغيره، فصار من جملة الغارمين، فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار.

وأبعد الأقوال كلها قول من قال: كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العبّاس بامتناعه من أداء الزكاة بأن يؤدّي ضعف ما وجب عليه؛ لعظمة قدره، وجلالته، كما في قوله تعالى في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية [الأحزاب: 30]، وقد تقدّم بعضه في أول الكلام. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح الأقوال عندي قول من قال: إنه صلى الله عليه وسلم ألزمه بتضعيف صدقته؛ ليكون أرفع لمنزلته، وأنبه لذكره، وأنفى للذّمّ عنه، ثم إنه صلى الله عليه وسلم تحمّلها عنه؛ احتراماً له، ومبرّةً وإكراماً، يؤيّد ذلك رواية مسلم:"فهي علَيّ، ومثلها معها"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا عُمر، أما شَعَرت أن عمّ الرجل صِنو

(1)

"الفتح" 4/ 95 - 96.

ص: 80

أبيه"، فإن في هذه الجملة إشعاراً بما ذُكر، فإن كونه صنو أبيه يناسب تحمّل ما عليه، كما قال ابن دقيق العيدس رحمه الله

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ) بفتح العين؛ أي: علمت، يقال: شَعَرتُ بالشيء شُعُوراً، من باب قَعَدَ، وشِعْراً، وشِعْرَةً بكسرهما: إذا عَلِمتَ، وليتَ شِعري؛ أي: ليتني علمتُ، قاله في "المصباح"

(2)

.

(أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ")؛ أي: يرجع مع أبيه إلى أصل واحد، فيتعيّن إكرامه، كما يتعيّن إكرام الأَب، ومنه قوله تعالى:{صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} الآية [الرعد: 4]. وأصله في النخلتين، والثلاث، والأربع، التي ترجع إلى أصل واحد، فكلّ واحدة منهنّ صِنْوٌ، والاثنان صِنْوَانِ، والثلاث صِنْوَانٌ برفع النون، فالصنوان جمع صنو، كقنو وقنوان، ويُجمع على أصناء، كأسماء.

وعن ابن الأعرابيّ: أن الصنو المثل؛ أي: مثل أبيه، وذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لعمر تعظيماً لحقّ العمّ، وهو مقتضٍ، ومناسبٌ لأن يُحمَل قوله:"هي علَيّ" أنه تحمّلها عنه؛ احتراماً، ومبرّةً، وإكراماً حتى لا يتعرّض له بطلبها أحدٌ إذا تحمّلها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أفاده ابن الملقّن

(3)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2277](983)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1468)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1633)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3761)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2464 و 2465) و"الكبرى"(2243 و 2244)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 322)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2329 و 2330)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 61)، و (أبو عوانة) في "مسنده"

(1)

"إحكام الأحكام" 3/ 306.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 315.

(3)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 5/ 93.

ص: 81

(2/ 147)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 375)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 67)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 111)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 123)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 382)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 80) و"الأوسط"(1/ 299)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 414)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة بعث الإمام العُمّالَ لجباية الزكاة، وكونهم أمناء، فقهاء، ثقات عارفين، حيث بعث صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه عليها.

2 -

(ومنها): تنبيه الغافل على ما أنعم الله به عليه من نعمة الغنى بعد الفقر؛ ليقوم بحقّ الله عز وجل عليه.

3 -

(ومنها): جواز العَتْبِ على من منع الواجب، وذِكْره في غيبته بذلك، ولا يكون من الغيبة المحرّمة.

4 -

(ومنها): تحمُّل الإمام عن بعض رعيّته ما يجب عليه، وجواز اعتذاره عنه بما يسوغ الاعتذار به.

5 -

(ومنها): بيان جواز إعطاء صاحب المال خيار ماله من غير أن يختار المصَدّق، ووجه ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا أَخبَر أنّ العباس يدفع صدقته ومثلها معها، وتحمّل عنه ذلك، وقام بالدفع نيابةً عنه، دلّ على أن زيادة المالك في الصدقة باختياره، من غير طلب المصدّق جائز. والله تعالى أعلم.

6 -

(ومنها): أنه استُدلّ بقصّة خالد على جواز إخراج مال الزكاة في شراء السلاح، وغيره، من آلات الحرب، والإعانة بها في سبيل الله تعالى؛ بناءً على أنه صلى الله عليه وسلم أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه، وهذه طريقة البخاريّ رحمه الله.

وأجاب الجمهور عنه بأجوبة:

(أحدهما): أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل إخبار من أخبره بمنع خالد؛ حملاً على أنه لم يصرّح بالمنع، وإنما نقلوه عنه بناءً على ما فهموه، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم:"تظلمونه"؛ أي: بنسبتكم إياه إلى المنع، وهو لا يمنع، وكيف يمنع الفرض، وقد تطوّع بتحبيس سلاحه، وخيله؟.

(ثانيها): أنهم ظنّوا أنها للتجارة، فطالبوه بزكاة قيمتها، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم بأنه

ص: 82

لا زكاة عليه فيما حبس، قال الحافظ: وهذا يحتاج لنقل خاصّ، فيكون فيه حجّة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبّسة، ولمن أوجبها في عروض التجارة.

(ثالثها): أنه كان نوى بإخراجها عن ملكه الزكاة عن ماله؛ لأن أحد الأصناف "سبيلُ الله"، وهم المجاهدون، وهذا يقوله من يُجيز إخراج القيم في الزكاة، كالحنفيّة، ومن يُجيز التعجيل، كالشافعيّة.

7 -

(ومنها): استُدلّ بقصة خالد رضي الله عنه أيضاً على مشروعيّة تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه.

8 -

(ومنها): جواز إخراج العُرُوض في الزكاة، وهو مذهب الإمام البخاريّ رحمه الله، حيث قال في "صحيحه": وقال طاوس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: ائتوني بعَرْضٍ ثيابٍ، خَمِيصٍ، أو لَبِيس، في الصدقة مكان الشعير والذُّرَة، أهون عليكم، وخيرٌ لأصحاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وأما خالد احتبس أدراعه، وأعتده في سبيل الله". انتهى.

قال ابن رُشيد: وافق البخاريُّ في هذه المسألة الحنفيّةَ مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل. انتهى.

قال في "الفتح": وقوله: "في الصدقة": يردّ قول من قال: إن ذلك كان في الخراج.

وحكى البيهقيّ أن بعضهم قال فيه: "من الجزية" بدل الصدقة، فإن ثبت ذلك سقط الاستدلال، لكن المشهور الأول، وقد رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الثوريّ، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس:"أن معاذاً كان يأخذ العَرْض في الصدقة".

وأجاب الإسماعيليّ باحتمال أن يكون المعنى: ائتوني به آخذه منكم مكان الشعير والذُّرَة الذي آخذه شرا" بما آخذه، فيكون بقبضه قد بلغ محلّه، ثم يأخذ مكانه ما يشتريه مما هوأوسع عندهم، وأنفع للآخذ، قال: ويؤيّده أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصحابة، وقد أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم، فيردّها على فقرائهم.

وأجيب بأنه لا مانع من أنه كان يحمل الزكاة إلى الإمام ليتولّى قسمتها.

ص: 83

وقد احتجّ به من يُجيز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وهي مسألة خلافيّة أيضاً.

وقيل في الجواب عن قصّة معاذ: إنها اجتهاد منه، فلا حجّة فيها.

وفيه نظر؛ لأنه كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد بيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن ما يَصنَعُ.

وقيل: كانت تلك واقعةَ حال، لا دلالة فيها؛ لاحتمال أن يكون عَلِمَ بأهل المدينة حاجة لذلك، وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وفي قوله: "واقعة حال" نظر لا يخفى؛ إذ الظاهر أنها تدلّ على جواز نقلها؛ إذا دعت الحاجة إليه، وقد استوفيت البحث في هذه في "شرح النسائي"، فراجعه (46/ 2522) وبالله تعالى التوفيق.

وقال القاضي عبد الوهّاب المالكيّ: كانوا يُطلقون على الجزية اسمَ الصدقة، فلعلّ هذا منها.

وتُعُقّب بقوله: "مكان الشعير والذرة"، وما كانت الجزية حينئذ من أولئك من شعير، ولا ذُرَة، إلا من النقدين

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أنّ أرجح الأقوال في المسألة ما ذهب إليه الإمام البخاريّ رحمه الله، وهو جواز أخذ الْعَرْض بدل الصدقة إن رأى الْمُصَدِّق ذلك خيراً، وأنفعَ للفقراء، كما عَمِل به معاذ رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

9 -

(ومنها): جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد، وهو قول العلماء كافّة، خلافًا للشافعيّ في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية.

وتعقّب ابن دقيق العيد بأن القصّة واقعة عين، محتملة لما ذُكر وغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على ذلك، وفيه ما مرّ قريباً، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 68 - 69.

ص: 84

(5) - (بَابُ بَيَانِ فَرْضِ زَكَاةِ الْفِطْرِ)

قال الجامع عفا الله عنه: يقال: إنما قيل لها: زكاة الفطر؛ لكونها تجب بالفطر من صوم رمضان، فيكون من إضافة الشيء إلى سببه، وقيل: من إضافة الشيء إلى شرطه، كحجة الإسلام

(1)

.

وقد ترجم البخاريّ، وغيره بـ "باب صدقة الفطر"، قال في "الفتح": وأضيفت الصدقة للفطر؛ لكونها تجب بالفطر من رمضان. وقال ابن قُتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس، مأخوذة من الفطرة التي هي أصل الخلقة. والأول أظهر، ويؤيّده قوله في بعض طرق الحديث:"زكاة الفطر من رمضان". انتهى

(2)

.

وقال ابن قدامة رحمه الله: قال ابن قُتيبة: وقيل لها فطرة؛ لأن الفطرة الخِلْقةُ، قال الله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم: 30]؛ أي: جِبِلّته التي جبل الناس عليها، وهذه يُراد بها الصدقة عن البدن والنفس، كما كانت الأولى صدقة عن المال. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": يقال: زكاة الفطر، وصدقة الفطر، ويقال للمُخرَج: فِطْرة - بكسر الفاء - لا غير، وهي لفظة مولّدة، لا عربيّةٌ، ولا مُعَرَّبة، بل اصطلاحيّة للفقهاء، وكأنها من الفطرة التي هي الخلقة؛ أي: زكاة الخلقة، وممن ذكر هذا صاحب "الحاوي". انتهى

(4)

.

وفي "المنهل": وتسمية أوّل يوم من شوّال بيوم الفطر تسمية شرعيّة، لم تُعرَف قبل الإسلام، وفُرضت صدقة الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي في الشرع: اسم لما يُعطَى من المال لمن يستحقّ الزكاة على وجه مخصوص يأتي بيانه. انتهى

(5)

. والله تعالى أعلم بالصواب.

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 185.

(2)

"الفتح" 4/ 139.

(3)

"المغني" 4/ 282 - 283.

(4)

"المجموع" 6/ 91.

(5)

"المنهل العذب المورود" 9/ 218.

ص: 85

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2278]

(984) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ، قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النّاسِ، صًاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ".

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (ع) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب أيضاً.

4 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم قبل باب أيضاً.

5 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

6 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رُباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق غير مرّة، وهو (142) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه يحيى، فما أخرج أبو داود، وابنُ ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير يحيى، فنيسابوريّ، وقتيبة، فبغلانيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة من الصحابة،

ص: 86

روى (2630) من الأحاديث، وهو أحد العبادلة الأربعة، وهم: ابن عمر، وابن عبّاس، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ)؛ أي: أوجب، وألزم، وما فرضه صلى الله عليه وسلم إلا عن أمر من الله عز وجل، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]. قال الطيبيّ: دلّ قوله: "فَرَض" على أن صدقة الفطر فريضة، والحنفيّة على أنها واجبة، قال القاري: لعدم ثبوتها بدليل قطعيّ، فهو فرض عمليُّ، لا اعتقاديّ، وقال السنديّ: الحديث من أخبار الآحاد، فمؤدّاه الظنّ، فلذلك قال بوجوبه دون افتراضه من خصّ الفرض بالقطع، والواجب بالظنّ. انتهى.

وقال ابن حجر الهيتميّ: في الحديث دليلٌ لمذهبنا، ولَمّا رأى الحنفيّة الفرق بين الفرض والواجب بأنّ الأول ما ثبت بدليل قطعيّ، والثاني ما ثبت بدليل ظنّيّ، قالوا: إن المراد بالفرض هنا الواجب، وفيه نظر؛ لأنّ هذا قطعيّ؛ لما علمت أنه مجمع عليه، فالفرض فيه باق على حاله، حتى على قواعدهم، فلا يحتاج لتأويلهم الفرض بالواجب. انتهى.

قال القاري: وفيه أن الإجماع على تقدير ثبوته إنما هو في لزوم هذا الفعل، وأما أنه على طريق الفرض، أو الواجب بناءً على اصطلاح الفقهاء المتأخّرين، فغير مسلّم، وأما قوله: ووجوبها مجمع عليه، كما حكاه المنذريّ، والبيهقيّ، فمنقوض بأن جمعاً حكوا الخلاف فيها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمل كلام الشارع على الحقيقة الشرعيّة ما أمكن هو المتعيّن، وأما حمله على المصطلح الحادث فغير صحيح، فإن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يعرفون هذا الاصطلاح الحادث في الفرق بين الفرض والواجب، كما يقول به الحنفيّة، فعبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ما كان يقصد أنه دون فرض زكاة المال، وفرض صوم رمضان، بل كان يعتقد أنه من الفروض التي كَلَّف الله تعالى بها المكلّفين، من غير فرق بين فرض، وفرض، فمن فرض صوم رمضان، هو الذي فرض زكاة رمضان.

ص: 87

والحاصل أن ما ذهب إليه الأئفة الثلاثة من أن صدقة الفطر فريضة هو الحقّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ)؛ أي: الزكاة الواجبة عند الفطر من صوم شهر رمضان، فإضافة الزكاة إلى "الفطر" من إضافة الشيء إلى سببه، كما سبق أوّل الباب.

فـ "زكاة" منصوب على المفعوليّة لـ "فَرَضَ"، وقوله:(عَلَى النَّاسِ) متعلّق بـ "فرَضَ"، قال السنديّ:"على" بمعنى "عن"؛ إذ لا وجوب على العبد، والصغير، كما في بعض الروايات؛ إذ لا مال للعبد، ولا تكليف على الصغير، نعم يجب على العبد عند بعض، والمولى نائبٌ عنه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن "على" على بابها، فهي تدلّ على الوجوب على الجميع، فكون الأداء عن الصغير والعبد على الوليّ، والسيّد لا ينافي وجوبها عليهما، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(صَاعاً) منصوب على البدلتة من "زكاةَ الفطر"، أو حال منه، أو "زكاة" منصوب على نزع الخافض؛ أي: في زكاة الفطر، والمفعول "صاعاً"، أفاده السنديّ رحمه الله، وقال السيوطيّ رحمه الله: قيل: إن "صاعاً" منصوب على أنه مفعول ثان، وقيل: على التمييز، وقيل: خبر "كان" محذوفاً، وقيل: على سبيل الحكاية. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنْ تَمْرٍ) متعلّق بصفة لـ "صاعاً"(أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ)"أو" هنا للتخيير، فيُخيّر بين أن يخرج صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير (عَلَّى كُلَّ حُرًّ، أَوْ عَبْدٍ) ظاهره إخراج العبد عن نفسه، ولم يقل به إلا داود، فقال: يجب على السيّد أن يمكّن العبد من الاكتساب لها، كما يجب عليه أن يمكّنه من الصلاة، وخالفه أصحابه، والناس، واحتجّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:"ليس على المسلم في عبده صدقة، إلا صدقة الفطر"، رواه مسلم، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك قبل باب، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى) مجرور على البدليّة، وظاهره وجوبها على المرأة،

(1)

"شرح السندي" 5/ 47، و"شرح السيوطيّ" 5/ 47 - 48.

ص: 88

سواء كان لها زوج أم لا، وبه قال الثوريّ، وأبو حنيفة، وابن المنذر، وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك قريباً - إن شاء الله تعالى -.

وقوله: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لأئمة الحديث كلام طويل في هذه اللفظة، سنحققه قريباً - إن شاء الله تعالى - وهو حجة لمن قال: لا تجب زكاة الفطر على سيّد العبد الكافر، وسيأتي أيضاً تحقيق الخلاف فيه - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر بهذا متّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2278 و 2279 و 2280 و 2281 و 2282](984)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1503 و 1504 و 1507 و 1509 و 1511 و 1512)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1611 و 1613 و 1614)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(675 و 676 و 677)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2500 و 2501 و 2502 و 2503 و 2504 و 2505 و 2516 و 2521) و"الكبرى"(2279 و 2280 و 2281 و 2282 و 2283 و 2284 و 2295 و 2300)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1825 و 1826)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 66 و 102 و 137)، و (مالك) في "الموطأ"(627)، و (الدارميّ) في "سننه"(1661 و 1662)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 62)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 569)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 80 و 83 و 85)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 60 و 61 و 62 و 66)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 139 و 140 و 144)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 92 و 93)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في الكلام على زيادة "من المسلمين" في هذا الحديث:

[اعلم]: أنه ذَكَرَ غير واحد أن مالكاً تفرّد بها من بين الثقات، فقال الترمذيّ في "العلل" التي في آخر "الجامع": وربّ حديث إنما يُستغرب لزيادة

ص: 89

تكون في الحديث، وإنما يصحّ إذا كانت الزيادة ممن يُعتمد على حفظه، مثل ما رَوَى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، فذكر هذا الحديث، قال: وزاد مالكٌ في هذا الحديث: "من المسلمين". قال: وقد رَوَى أيوب السختيانيّ، وعُبيد الله بن عُمر، وغير واحد من الأئمّة هذا الحديث، عن نافع، عن ابن عُمر، ولم يذكروا فيه "من المسلمين". وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك، ممن لا يُعتمد على حفظه. وتبعه على ذلك ابن الصلاح في "علوم الحديث".

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": ولم ينفرد مالك بقوله: "من المسلمين"، بل قد رواه جماعة ممن يُعتمد على حفظهم، واختُلف على بعضهم في زيادتها، وهم عشرة، أو أكثر

(1)

، منهم:

عمر بن نافع، والضحّاك بن عثمان، وكَثِير بن فَرْقَد، والمعلّى بن إسماعيل، ويونس بن يزيد، وابن أبي ليلى، وعبد الله بن عمر العمريّ، وأخوه عُبيد الله بن عمر، وأيوب السختيانيّ، على اختلاف عنهما في زيادتها.

فأما رواية عمر بن نافع، عن أبيه، فأخرجها البخاريّ في "صحيحه". وأما رواية الضحّاك بن عثمان، فأخرجها مسلم في "صحيحه". وأما رواية كثير بن فَرْقَد، فرواها الدارقطنيّ في "سننه"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: إنه صحيح على شرطهما. وأما رواية المعلّى بن إسماعيل، فرواها ابن حبّان في "صحيحه"، والدارقطنيّ في "سننه". وأما رواية يونس بن يزيد، فرواها الطحاويّ في "بيان المشكل". وأما رواية ابن أبي ليلى، وعبد الله بن عمر العمريّ، وأخيه عبيد الله بن عمر التي أتى فيها بزيادة قوله:"من المسلمين"، فرواها الدارقطنيّ في "سننه". وأما رواية أيوب السختيانيّ، فذكرها الدارقطنيّ في "سننه"، وأنها رُويت عن ابن شَوْذَب، عن أيوب، عن نافع. انتهى كلام الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى.

وقال الحافظ في "الفتح": قال ابن عبد البرّ: لم يَختلف الرواة عن مالك في هذه الزيادة، إلا أن قتيبة بن سعيد، رواه عن مالك بدونها، وأطلق أبو

(1)

لكن الذين ذكرهم هنا لا يتجاوزون تسعة، فليحرّر. والله تعالى أعلم.

ص: 90

قلابة الرقَاشِيّ، ومحمد بن وضّاح، وابن الصلاح، ومن تبعه أن مالكاَ تفرّد بها، دون أصحاب نافع. وهو متعقّبٌ برواية عمر بن نافع المذكورة في "صحيح البخاريّ". وكذا أخرجه مسلمٌ من طريق الضحّاك بن عثمان، عن نافع بهذه الزيادة. وقال أبو عوانة في "صحيحه": لم يقل فيه: "من المسلمين" غير مالك، والضحّاك. ورواية عمر بن نافع تردّ عليه أيضاً.

وقال أبو داود بعد أن أخرجه من طريق مالك، وعمر بن نافع: رواه عبد الله العمريّ، عن نافع، فقال:"على كلّ مسلم". ورواه سعيد بن عبد الرحمن الْجُمَحِيّ، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، فقال فيه:"من المسلمين". والمشهور عن عبيد الله، ليس فيه "من المسلمين". انتهى.

وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق سعيد بن عبد الرحمن المذكورة. وأخرج الدارقطنيّ، وابن الجارود من طريق عبد الله العمريّ.

وقال الترمذيّ في "الجامع" بعد رواية مالك: رواه غير واحد عن نافع، ولم يذكروا فيه "من المسلمين". وقال في "العلل" التي في آخر "الجامع": روى أيوب، وعُبيد الله بن عمر، وغير واحد من الأئمّة هذا الحديث عن نافع، ولم يذكروا فيه "من المسلمين". وروى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك، ممن لا يُعتمد على حفظه. انتهى. وهذه العبارة أولى من عبارته الأولى، ولكن لا يُدرى مَن عَنَى بذلك.

وقال النوويّ في "شرح مسلم": رواه ثقتان غير مالك: عمر بن نافع، والضحّاك. انتهى.

قال الحافظ: وقد وقع لنا من رواية جماعة غيرهما، منهم: كثير بن فَرْقَد، عند الطحاويّ، والدارقطنيّ، والحاكم. ويونسُ بن يزيد عند الطحاويّ. والْمُعَلَّى بن إسماعيل عند ابن حبّان في "صحيحه". وابنُ أبي ليلى عند الدارقطنيّ، أخرجه من طريق عبد الرزّاق، عن الثوريّ، عن ابن أبي ليلى، وعبيدِ الله بنِ عمر، كلاهما عن نافع. وهذه الطريق تردّ على أبي داود في إشارته إلى أنّ سعيد بن عبد الرحمن تفرّد بها عن عبيد الله بن عمر، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته حمل لفظ ابن أبي ليلى على لفظ عبيد الله.

وقد اختُلف فيه على أيوب أيضاً، كما اختُلف على عبيد الله بن عمر،

ص: 91

فذكر ابن عبد البرّ أن أحمد بن خالد ذكر عن بعض شيوخه، عن يوسف القاضي، عن سليمان بن حرب، عن حمّاد، عن أيوب، فذكر فيه "من المسلمين". قال ابن عبد البرّ: وهو خطأٌ، والمحفوظ فيه عن أيوب ليس فيه "من المسلمين". انتهى.

وقد أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق عبد الله بن شَوْذَب، عن أيوب، وقال فيه أيضاً:"من المسلمين".

قال الحافظ: وذكر شيخنا سراج الدين ابن الملَقّن في "شرحه" تبعاً لمغلطاي أن البيهقيّ أخرجه من طريق أيوب بن موسى، وموسى بن عقبة، ويحيى بن سعيد، ثلاثتهم، عن نافع، وفيه الزيادة. وقد تتبعّتُ تصانيف البيهقيّ، فلم أجد فيها هذه الزيادة من رواية أحد من هؤلاء الثلاثة.

وفي الجملة ليس فيمن رَوَى هذه الزيادة أحدٌ مثلُ مالك؛ لأنه لم يُتّفق على أيوب، وعبيد الله في زيادتها، وليس في الباقين مثل يونس، لكن في الراوي عنه، وهو يحيى بن أيوب مقال. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من أقوال الحفّاظ أن القول بأن مالكاً رحمه الله تفرّد بزيادة "من المسلمين" غير صحيح، فقد تابعه جماعة من الرواة الذين تقدم ذكرهم آنفاً، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم صدقة الفطر:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع عوامّ أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، وقال إسحاق -يعني ابن راهويه - هو كالإجماع من أهل العلم، وقال الخطّابيّ: قال به عامّة أهل العلم.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: فأما قوله في حديث ابن عمر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم

" فمعناه عند أكثر أهل العلم: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأمر الله أوجبه، وما كان لينطق عن الهوى، فأجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر، ثم اختلفوا في نسخها.

فقالت فرقةٌ: هي منسوخة بالزكاة، ورووا عن قيس بن سعد بن عُبَادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم يأمرنا

ص: 92

بها، ولم ينهنا عنها، ونحن نفعله

(1)

.

وقال جمهور من أهل العلم من التابعين، ومن بعدهم: هي فرضٌ واجبٌ على حسب ما فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم ينسخها شيء.

وممن قال بهذا: مالك بن أنس، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه. قال إسحاق: هو الإجماعُ.

وقال أشهب: سألت مالكاً عن زكاة الفطر، أواجبة هي؟ قال: نعم. وذكر أبو التَمَّام، قال: قال مالك: زكاة الفطر واجبة. قال: وبه قال أهل العلم كلّهم إلا بعض أهل العراق، فإنه قال: هي سنّة مؤكّدةٌ.

قال أبو عمر: اختلف المتأخّرون من أصحاب مالك في وجوبها، فقال بعضهم: هي سنّةٌ مؤكّدة. وقال بعضهم: هي فرضٌ واجبٌ. وممن ذهب إلى هذا أصبغ بن الفَرَج.

واختلف أصحاب داود في ذلك على قولين أيضاً: أحدهما: أنها فرض واجبٌ. والآخر أنها سنّةٌ مؤكّدةٌ. وسائر العلماء على أنها واجبةٌ. انتهى كلام ابن عبد البرّ في "الاستذكار"

(2)

.

وقال في "التمهيد": وأما قول ابن عمر في هذا الحديث: "فرضَ إلخ" فإنه يحتمل وجهين: أحدهما -وهو الأظهر- فرض بمعنى أوجب، والآخر فرض بمعنى قدّر من المقدار، كما تقول: فرض القاضي نفقة اليتيم؛ أي: قدّرها، وعرف مقدارها.

والذي أذهبُ إليه أن لا يزال قوله: فَرَضَ على معنى الإيجاب، إلا بدليل الإجماع، وذلك معدوم في هذا الموضع، وقد فَهِمَ المسلمون من قوله عز وجل:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} الآية [النساء: 11]، ونحو ذلك أنه شيء أوجبه، وقدّره، وقضى به، وقال الجميع للشيء الذي أوجبه الله: هذا فرض، وما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن الله أوجبه، وقد فرض الله طاعته، وحذر مخالفته،

(1)

أخرجه النسائي برقم 2507. وأخرجه ابن ماجه برقم 1828.

(2)

"الاستذكار" 9/ 348 - 350.

ص: 93

ففَرْضُ الله، وفَرْضُ رسوله سواء، إلا أن يقوم الدليل على الفرق بين شيء من ذلك، فيسلّم للدليل الذي لا مدفع فيه.

قال: والقول بوجوبها من جهة اتباع سبيل المؤمنين واجبٌ أيضاً؛ لأنّ القول بانها غير واجبة شذوذ، أو ضرب من الشذوذ.

قال: ولعلّ جاهلاً يقول: إن زكاة الفطر لو كانت فريضة، لكُفِّرَ من قال: إنها ليست بفرض، كما لو قال في زكاة المال المفروضة، أو في الصلاة المفروضة: إنها ليست بفرض، كُفِّرَ.

فالجواب عن هذا ومثله أنّ ما ثبت فرضه من جهة الإجماع الذي يَقطَعُ العذر، كُفِّرَ دافعه؛ لأنه لا عذر له فيه. وكلّ فرض ثبت بدليل، لم يُكَفَّر صاحبه، ولكنّه يُجَهَّل، ويُخطَّأُ، فإن تمادى بعد البيان له هُجِر، وإن لم يُبئن له عُذِر بالتأويل، ألا ترى أنه قد قام الدليل الواضح على تحريم المسكر، ولسنا نُكَفَّر من قال بتحليله، وقد قام الدليل على تحريم نكاح المتعة، ونكاح السّرّ، والصلاة بغير قراءة، وبيع الدرهم بالدرهمين يدأ بيد

إلى أشياء يطول ذكرها من فرائض الصلاة، والزكاة، والحجّ، وسائر الأحكام، ولسنا نُكَفِّر من قال بتحليل شيء من ذلك؟ لأن الدليل في ذلك يوجب العمل، ولا يَقطع العذر، والأمر في هذا واضح لمن فهم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله كلام نفيسٌ جدًّا.

والحاصل أن الحقّ ما عليه جمهور أهل العلم، من أن صدقة الفطر فريضة، كفرض زكاة المال، وغيرها من فرائض الله تعالى، ولا ينافي هذا تفاوت درجات فرضيّتها فيما بينها، فإن الفرائض تختلف، فمنها ما يُكفّر جاحده، ومنها ما ليس كذلك، كما بيّنه رحمه الله تعالى آنفاً، ولكن يجمع الكلّ كونها مما فرضه الله تعالى، يجب اعتقاده، والعمل به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): لم يُقَيَّد في الحديث افتراض زكاة الفطر باليسار،

(1)

"التمهيد" 14/ 323 - 324.

ص: 94

لكن لا بدّ من القدرة على ذلك؛ لما عُلِم من القواعد العامّة، وقد قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا شيء على من لا شيء له. انتهى.

واختَلَف العلماء في ضابط ذلك، فذكر الشافعيّة، والحنابلة أنّ ضابط ذلك أن يملك فاضلاً عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد، ويومه ما يؤدي في زكاة الفطر، وحكاه العبدريّ عن أبي هريرة، وعطاء، والشعبيّ، وابن سيرين، وأبي العالية، والزهريّ، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وأبي ثور. انتهى.

وغاير ابن المنذر في ذلك بين مذهبي مالك، والشافعيّ، فقال: كان أبو هريرة يراه على الغنيّ، والفقير، وبه قال أبو العالية، والشعبيّ، وعطاء، وابن سيرين، ومالك، وأبو ثور، وقال ابن المبارك، والشافعيّ، وأحمد: إذا فضل عن قوت المرء، وقوت من يجب عليه أن يقوته مقدارُ زكاة الفطر، فعليه أن يؤدّي. انتهى.

قال وليّ الدين: وما حكاه ابن المنذر أقرب إلى مذهب مالك، فإن ابن شاس قال في "الجواهر": لا زكاة على معسر، وهو الذي لا يفضل له عن قوت يومه صاع، ولا وجد من يُسلفه إيّاه. انتهى.

فقوله: ولا من يُسلفه إياه لا يُوافق عليه الشافعيّ، وأحمد، ثم قال ابن شاس: وقيل: هو الذي يُجحِف به في معاشه إخراجها. وقيل: من يَحلّ له أخذها، ثم قيل فيمن يحلّ له أخذها: إنه الذي يحلّ له أخذ الزكاة. وقيل: الفقير الذي لم يأخذ منها في يومه ذلك. انتهى.

وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا على من ملك نصاباً من الذهب أو الفضّة، أو ما قيمته قيمة نصاب، فاضلاً عن مسكنه، وأثاثه الذي لا بدّ منه. قال العبدريّ: ولا يُحفَظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة. وحكى ابن حزم عن سفيان الثوريّ أنه قال: من كان له خمسون درهماً فهو غنيّ، وإلا فهو فقير. قال: وقال غيره: أربعون درهماً. انتهى.

وفي "مسند أحمد" عن أبي هريرة رضي الله عنه في زكاة الفطر: "على كلّ حرّ، وعبد، ذكرٍ، وأنثى، صغير، أو كبير، فقير، أو غنيّ، صاع من تمر، أو نصف

ص: 95

صاع من قَمْحٍ"

(1)

، قال معمر: وبلغني أن الزهريّ كان يرويه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وروى الدارقطنيّ عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أدّوا صاعاً من قَمح، أو قال: برّ، عن الصغير، والكبير، والذكر والأنثى، والحرّ والمملوك، والغنيّ والفقير، أما غنيّكم، فيزكّيه الله، وأما فقيركم، فيردّ عليه أكثر مما أعطى"

(2)

.

ومال ابن العربيّ المالكيّ إلى مقالة أبي حنيفة في ذلك، فقال: والمسألة له قوئة، فإن الفقير لا زكاة عليه، ولا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذها منه، وإنما أمر بإعطائها له، وحديث ثعلبة لا يُعارض الأحاديث الصحاح، ولا الأصول القويّة، وقد قال:"لا صدقة إلا عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول"، وإذا لم يكن هذا غنيًّا، فلا تلزمه الصدقة. انتهى.

قال الحافظ وليّ الدين: وهو ضعيف، وليس التمسّك في ذلك بحديث ثعلبة، وإنما التمسّك بالعموم الذي في قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس"، وقد ذكر هو في أول كلامه: إلا أنا اعتبرنا القدرة على الصاع؛ لما عُلِم من القواعد العامّة، فأخرجنا عن ذلك العاجز عنه، والله أعلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(3)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله في "النيل": قد اختُلف في القدر الذي يُعتبر ملكه لمن تلزمه الفطرة، فقال أبو حنيفة، وأصحابه: إنه يُعتبر أن يكون المخرج غنيًّا غنى شرعيًّا، واستُدلّ لهم بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، أخرجه أحمد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً، وبالقياس على زكاة المال.

ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب؛ لأنه بلفظ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"، كما أخرجه أبو داود. انتهى.

وأخرجه البخاريّ أيضاً بهذا اللفظ، وهو مشعر بان النفي في رواية أحمد

(1)

هو موقوف، رجاله ثقات.

(2)

ضعيف؛ لكثرة اضطرابه سنداً، ومتناً. انظر:"نصب الراية" 2/ 406 - 410.

(3)

"طرح التثريب" 4/ 65 - 66.

ص: 96

للكمال، لا للحقيقة، فالمعنى: لا صدقة كاملة إلا عن ظهر غنى.

قال الشوكانيّ: وأما الاستدلال بالقياس، فغير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق؛ إذ وجوب الفطرة متعلّق بالأبدان، والزكاة بالأموال.

وقال مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً لقوت يوم وليلة؛ لما روي أنه طهرة للصائم، ولا فرق بين الغنيّ، والفقير في ذلك، ويؤيّد ذلك ما روي من تفسيره صلى الله عليه وسلم من لا يحلّ له السؤال بمن يملك ما يُغدّيه، ويعشّيه، وهذا هو الحقّ؛ لأن النصوص أطلقت، ولم تخصّ غنيًّا، ولا فقيراً، ولا مجالَ للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً له، ولا سيّما والعلّة التي شُرعت لها الفطرة موجودةٌ في الغنيّ والفقير، وهي التطهّر من اللغو، والرفث، واعتبار كونه واجداً لقوت يوم وليلة أمرٌ لا بدّ منه؛ لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم، كما أخرجه البيهقيّ، والدارقطنيّ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً، وفيه:"أغنوهم في هذا اليوم". وفي رواية للبيهقيّ: "أغنوهم عن طواف هذا اليوم". وأخرجه أيضاً ابن سعد في "الطبقات" من حديث عائشة، وأبي سعيد رضي الله عنهما، فلو لم يُعتبر في حقّ المخرِج ذلك لكان ممن أُمرنا بإغنائه في ذلك اليوم، لا من المأمورين بإخراج الفطرة، وإغناء غيره. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الشوكانيّ رحمه الله كلام حسنٌ جدًّا.

والحاصل أنّ ما ذهب إليه الجمهور من وجوبها على الفقير؛ إذا كان له ما يفضل عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته في ذلك اليوم هو الصواب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"على كلّ حرّ، أو عبد، ذكر، أو أنثى، صغير، أو كبير". فالفقير داخل في جملة هؤلاء، فيلزمه ما يلزمهم، إلا إذا أتى نصّ صريحٌ يُخرجه من العموم، ولم يوجد ذلك، وأما كونه لا يلزمه شيء إذا لم يفضل عن قوت يومه شيء، فبالإجماع، وبقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية [البقرة: 286]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في إيجاب زكاة الفطر على المملوك:

استدلّ بظاهر حديث الباب داود بن عليّ الظاهريّ على وجوب إخراج

ص: 97

العبد صدقة الفطر عن نفسه، قال وليّ الدين العراقيّ: لا نعلم أحداً قال به سواه، ولم يتابعه على ذلك ابن حزم، ولا أحد من أصحابه، ويبطله قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقةٌ، إلا صدقة الفطر في الرقيق"، والاستثناء في "صحيح مسلم" بلفظ:"إلا صدقة الفطر"، وذلك يقتضي أن زكاة الفطر ليست على العبد نفسِهِ، وإنما هي على سيّده.

قال ابن المنذر: أجمع عوامّ أهل العلم على أنّ على المرء أداء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر، غير المكاتب، والعبد المغصوب، والآبق، والعبد المشترى للتجارة، وقال ابن قُدامة: لا نعلم فيه خلافاً. انتهى.

قال الجامع عفا الثه تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور هو الصواب، فتجب زكاة الفطر على السيّد عن عبده؛ لصحّة الحديث المتقدّم، وما استدلّ به داود من عموم حديث الباب يُقَدّم عليه خصوص هذا الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): أنهم اختلفوا في أشياء، من مسألة وجوب زكاة الفطر على السيّد عن عبده، أشار ابن المنذر رحمه الله في عبارته السابقة إلى بعضها، فلنذكرها:

(فمنها): العبد الغائب، فمذهب الشافعيّ وجوب فطرته، وإن لم تُعلم حياته، بل انقطع خبره، ولم يكن في طاعته، بل كان آبقاً، ولم يكن في يده، بل كان مغصوباً، ولم يعرف موضعه، بل كان ضالًّا، ويجب إخراجها عن هؤلاء في الحال، وفي هذه الصور خلاف ضعيف عندهم، وكذلك مذهب أحمد، إلا في منقطع الخبر، فإنه لم يوجب فطرته، لكنه قال: لو علم بذلك حياته لزمه الإخراج لما مضى، ولم يوجب أبو حنيفة زكاة الآبق، والأسير، والمغصوب المجحود، وعنه رواية بوجوب زكاة الآبق، وفصّل مالك، فأوجب في كلّ من المغصوب، والآبق الزكاة؛ إذا كانت غيبته قريبة، وهو يُرجَى حياته، ورجعته، فإن بعدت غيبته، وأُيس منه سقطت الزكاة عن سيّده.

قال ابن المنذر: أكثر من يُحفظ عنه من أهل العلم يرون أن تؤدّى زكاة الفطر عن الرقيق غائبهم، وحاضرهم، وهو مذهب مالك، والشافعيّ، والكوفيين، وكان ابن عمر يُخرج عن غلمانه الذين بوادي القرى وخيبر.

ص: 98

قال الجامع عفا الله عنه: هذا المذهب هو الحقّ عندي؛ لظهور حجته، والله تعالى أعلم.

ثم حَكَى ابن المنذر الخلاف عن الآبق، فحكى عن الشافعيّ، وأبي ثور وجوبها، دمان لم يعلم مكانه. وعن الزهريّ، وأحمد، وإسحاق وجوبها إذا عُلم مكانه، وعن الأوزاعيّ وجوبها إذا كان في دار الإسلام، وعن عطاء، والثوريّ، وأصحاب الرأي عدم وجوبها، وعن مالك وجوبها إذا كانت غيبة قريبة ترجى رجعته، فهذه خمسة أقوال.

(ومنها): المكاتب، فذهب عطاء، ومالك في المشهور عنه، والشافعيّ في قول، وأبو ثور، وابن المنذر إلى أنها تجب على سيّده.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا المذهب هو الحقّ عندي؛ لعموم النصّ، والله تعالى أعلم.

وذهب أبو حنيفة، والشافعيّ في أصح الأقوال عنه، إلى أنها لا تجب عليه، ولا على سيّده. وذهب أحمد، وهو أحد الأقوال للشافعيّ إلى أنها تجب عليه في كسبه، كنفقته.

وذهب إسحاق ابن راهويه إلى أن سيّده يعطي عنه إن كان في عياله، وإلا فلا، حكاه ابن المنذر عن إسحاق.

وذهب ابن حزم إلى أنّ السيّد يخرج عنه إن لم يؤدّ شيئاً من كتابته، فإن أدّى شيئاً من كتابته، وإن قلّ فهي عليه.

(ومنها): العبد المشترى للتجارة، فالجمهور على أنّه يجب على السيّد فطرته كغيره؛ لعموم الحديث، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، والليث بن سعد، والأوزاعيّ، وإسحاق ابن راهويه، وابن المنذر، وأهل الظاهر. قلت: وهو الحقّ عندي؛ لعموم النصّ.

وقال أبو حنيفة: لا تجب فطرته؛ لوجوب زكاة التجارة فيه. وحكي عن عطاء، والنخعيّ، والثوريّ. والله تعالى أعلم.

(ومنها): العبد المشترك بين اثنين، والجمهور أن الفطرة عليهما، وهو الحقّ. والعبد المرهون، والجمهور على أن الزكاة على مولاه، وهو الحقّ.

وقد اختلفوا في أنواع من العبيد غير هؤلاء، كالعبد الموصى برقبته

ص: 99

لشخص، وبمنفعته لآخر. وعبد بيت المال، والموقوف على مسجد. والعبد العامل في ماشية، أو حائط. وقد فصّل الأقوال في الجميع الحافظُ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله في "طرح التثريب"، فراجعه تستفد

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في أنّ إخراج زكاة الفطر عن الأنثى على من هو؟:

ذهب أبو حنيفة، وسفيان الثوريّ، وابن المنذر، وداود، وابن حزم، وابن الأشرس من المالكيّة إلى أن على المرأة إخراجَ زكاة الفطر من مال نفسها، سواء كانت متزوّجة، أم غير متزوّجة؛ عملاً بظاهر النصّ.

وذهب مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والليث بن سعد إلى أن المتزوّجة تجب فطرتها على زوجها، وفي معناها الرجعيّة، والبائن، إن كانت حاملاً، دون ما إذا كانت حاملاً، فلو نشزت وقت الوجوب سقطت فطرتها عن الزوج. وقال أبو الخطّاب الحنبليّ: لا تسقط. فلو كان الزوج معسراً، فالأصحّ في مذهب الشافعيّ أنه إن كانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على سيّدها، وإن كانت حرّة لم يجب عليها شيء، وهو الذي نصّ عليه الشافعيّ. وفرّقوا بينهما بكمال تسليم الحرّة نفسها، بخلاف الأمة. وأوجبت الحنابلة على الحرّة فطرة نفسها في هذه الصورة.

وتمسّك هؤلاء الذين أوجبوها على الزوج بالقياس على النفقة، واستأنسوا بما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير، والكبير، والحرّ، والعبد، ممن تمونون"، رواه الدارقطنيّ، والبيهقيّ، وقال: إسناده غير قويّ، ورواه البيهقيّ أيضاً من رواية جعفر بن محمد، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً، وفي رواية عن عليّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مرسلاً أيضاً، قال النوويّ في "شرح المهذّب": الحاصل أن هذه اللفظة: "ممن تمونون" ليست بثابتة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الأولون من أن

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 55 - 58.

ص: 100

إخراج زكاة الفطر على المرأة في مالها، لا على الزوج، هو الصواب؛ لأن الوجوب عليها بنصّ الحديث، فلا يجب الإخراج على غيرها، وهو الزوج، وحجة من أوجب على الزوج هو القياس على النفقة، والقياس في مقابلة النصّ غير صحيح، ومن حجتهم أيضاً الحديث المذكور، وقد عرفت أنه لا يثبت، فلا يصلح للاحتجاج به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في إخراج زكاة الفطر عن الصغير الذي لم يبلغ، هل هي في ماله، إن كان له مالٌ، أو هي على أبيه؟:

ذهب مالكٌ، والشافعيّ، وأحمد، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والجمهور إلى أنها في ماله، إن كان له مالٌ، فإن لم يكن له مالٌ، فعلى من عليه نفقته، من أبٍ وغيره. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقاً، ولو كان للصغيًر مالٌ. وقال ابن حزم: هي في مال الصغير، إن كان له مالٌ، فإن لم يكن له شيء سقطت عنه، ولا تجب على أبيه. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على خلافه. وقال ابن العربيّ: لا خلاف بين الناس أن الابن الصغير إذا كان له مالٌ أن زكاة الفطر تُخرج من ماله. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الأولون من أنها تجب في مال الصبيّ، إن كان له مالٌ، وإلا فعلى من تلزمه نفقته هو الأرجح عندي، والله تعالى أعلم.

وقال الشافعيّة: لا يختصّ ذلك بالصغير، بل متى وجبت نفقة الكبير بزمانه، ونحوها، وجبت فطرته، فلو كان الابن الكبير في نفقة أبيه، فوجد قُوْتَه ليلة العيد ويومه لم تجب فطرته على الأب؛ لسقوط نفقته عنه في وقت الوجوب، ولا على الابن؛ لإعساره، وكذا الابن الصغير؛ إذا كان كذلك في الأصحّ.

وحكوا عن سعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ أنها لا تجب إلا على من صلّى، وصام. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنها لا تجب إلا على من أطاق الصوم والصلاة. قال الماورديّ: وبمذهبنا قال سائر الصحابة، والتابعين، وجميع الفقهاء. انتهى. ذكره وليّ الدين

(1)

.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 59 - 60.

ص: 101

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحكاية المذكورة عن عليّ، وابن المسيّب، والحسن ما أظنها تصحّ، وإن صحّت فلا يُلتفت إليها؛ حيث إنها تصادم صريح النصّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله:"على الكبير والصغير" من غير فرق بين من أطاق الصوم والصلاة، ومن لم يطق، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: من أغرب ما ذكره ابن حزم في هذه المسألة أنه قال: تجب زكاة الفطر على الجنين، مستدلًّا بذكر الصغير في هذا الحديث، وقال: الجنين يقع عليه اسم صغير، ثم استدلّ بحديث ابن مسعود رضي الله عنه في "الصحيحين": يُجمَع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون عَلَقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً

وفيه: ثم ينفخ فيه الروح

الحديث. ثم قال: هو قبل ما ذكرنا موات، فلا حكم على ميت، وأما إذا كان حيًّا، فكلّ حكم وجب على الصغير، فهو واجب عليه، ثم ذكر من رواية بكر بن عبد الله المزنيّ، وقتادة أن عثمان رضي الله عنه كان يُعطي صدقة الفطر عن الصغير، والكبير، حتى عن الحمل في بطن أُمّه. وعن أبي قلابة، قال: كان يعجبهم أن يُعطوا زكاة الفطر عن الصغير، والكبير، حتى عن الحمل في بطن أمّه. قال: وأبو قلابة أدرك الصحابة، وصحبهم، ورَوَى عنهم. وعن سليمان بن يسار أنه سئل عن الحمل؛ أيُزكَّى عنه؟ قال: نعم. قال: ولا يُعرف لعثمان في هذا مخالف من الصحابة. انتهى.

فتعقّبه الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" - وأصاب في ذلك - فقال: إنّ استدلالة بما استدلّ به على وجوب زكاة الفطر على الجنين في بطن أُمّه في غاية العجب:

أما قوله: "على الصغير، والكبير"، فلا يَفهَم عاقلٌ منه إلا الموجودين في الدنيا، أما المعدوم، فلا نعلم أحداً أوجب عليه.

وأما حديث ابن مسعود، فلا يَطّلع على ما في الرحم إلا الله، كما قال:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية [لقمان: 34]، وربما يُظنّ حملها، وليس بحمل، وقد قال إمام الحرمين: لا خلاف في أنّ الحمل لا يُعلم، وإنما الخلاف في أنه يعامل معاملة المعلوم، بمعنى أنه يؤخّر له ميراث؛ لاحتمال وجوده، ولم

ص: 102

يختلف العلماء في أنّ الحمل لا يملك شيئاً في بطن أمّه، ولا يُحكم على المعدوم حتى يظهر وجوده.

قال: وأما استدلاله بما ذكر عن عثمان وغيره، فلا حجّة فيه؛ لأن أثر عثمان منقطع، فإن بكراً، وقتادة روايتهما عن عثمان مرسلةٌ، والعجب أنه لا يحتجّ بالموقوفات، ولو كانت صحيحة متّصلة.

وأما أثر أبي قلابة فَمَنِ الذين يُعجبهم ذلك؟، وهو لو سمّى جمعاً من الصحابة لما كان ذلك حجّة. وأما سليمان بن يسار، فلم يثبت عنه، فإنه من رواية رجل لم يُسمّ، عنه، فلم يثبت فيه خلاف لأحد من أهل العلم، بل قول أبي قلابة:"كان يُعجبهم" ظاهر في عدم وجوبه، ومن تبرعّ بصدقة عن حمل، رجاء حفظه، وسلامته، فليس عليه فيه بأس.

وقد نُقِلَ الاتفاقُ على عدم الوجوب قبل مخالفة ابن حزم، فقال ابن المنذر: ذَكَرَ كلُّ من يُحفظ عنه العلم، من علماء الأمصار أنه لا يجب على الرجل إخراج زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمّه، وممن حُفظ ذلك عنه: عطاء بن أبي رباحٍ، ومالكٌ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وكان أحمد بن حنبل يستحبّ ذلك، ولا يوجبه، ولا يصحّ عن عثمان خلاف ما قلناه. انتهى.

وعن أحمد بن حنبل رواية أخرى بوجوب إخراجها عن الجنين

(1)

. وقال ابن عبد البرّ فيمن وُلد له مولود بعد يوم الفطر: لم يختلف قول مالك أنه لا يلزم فيه شيء، قال: وهذا إجماع منه، ومن سائر العلماء، ثم أشار إلى أن ما ذُكر عن مالك، وغيره من الإخراج عمن وُلد في بقيّة يوم الفطر محمول على الاستحباب. وكذا ما حكاه عن الليث فيمن وُلد له مولود بعد صلاة الفطر أن على أبيه زكاة الفطر عنه، قال: وأُحِبّ ذلك للنصرانيّ يُسلم ذلك الوقت، ولا أراه واجباً عليه.

قال الحافظ العراقيّ: فقد صرّح الليث فيه بعدم الوجوب، ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيداً؛ لأنه يمتدّ وقت إخراجها إلى آخر يوم الفطر، قياساً على الصلاة، يُدرَك وقت أدائها.

(1)

إن صحّت هذه الرواية عن أحمد تنقض دعوى الإجماع. فتنبّه.

ص: 103

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في قوله: يمتدّ وقت إخراجها قياساً إلخ نظر لا يخفى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أدّاها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات"، رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن، وهو ظاهر في كون ما بعد الصلاة ليس وقتاً لها، والقياس في مقابلة النصّ فاسد الاعتبار. فشْبّه. والله تعالى أعلم.

قال: ومع كون ابن حزم قد خالف الإجماع في وجوبها على الجنين، فقد تناقض كلامه، فقال: إن الصغير لا يجب على أبيه زكاة الفطر عنه، إلا أن يكون له مالٌ، فيُخرج عنه من ماله، فإن لم يكن له مالٌ لم يجب عليه حينئذ، ولا بعد ذلك، فكيف لا يوجب زكاته على أبيه، والولد حيّ موجود، ويوجبها، وهو معدوم، لم يوجد؟.

فإن قلت: يُحمل كلامه على إذا كان للحمل مالٌ. قلت: كيف يمكن أن يكون له مالٌ، وهو لا يصحّ تمليكه، ولو مات من يرثه الحمل لم نملّكه، وهو جنين، فلا يوصف بالملك إلا بعد أن يولد، وكذلك النفقة الصحيح أنها تجب للأمّ الحامل، لا للحمل، ولو كانت للحمل لسقطت بمضيّ الزمان، كنفقة القريب، وهي لا تسقط. انتهى كلام الحافظ العراقيّ رحمه الله تعالى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في وجوب زكاة الفطر على الكافر:

[اعلم]: أن زيادة "من المسلمين" في حديث الباب تدلّ على اشتراط الإسلام في وجوب زكاة الفطر، ومقتضاه أنها لا تجب على الكافر، عن نفسه، وهو متّفقٌ عليه، وهل يُخرجها عن غيره، كمستولدته المسلمة مثلاً؟ نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب، لكن فيه وجه للشافعيّة، ورواية عن أحمد، وهل يُخرجها المسلم عن عبده الكافر؟ قال الجمهور: لا، خلافاً لعطاء، والنخعيّ، والثوريّ، والحنفيّة، وإسحاق، واستدلُّوا بعموم قوله:"ليس على المسلم في عبده صدقةٌ، إلا صدقة الفطر".

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 60 - 61.

ص: 104

وأجاب الآخرون بأن الخاصّ يقضي على العامّ، فعموم قوله:"في عبده" مخصوصٌ بقوله: "من المسلمين".

وقال الطحاويّ: قوله: "من المسلمين" صفةٌ للمخرجِين، لا للمخرَجِ عنهم. وظاهر الحديث يأباه؛ لأن فيه العبد، والصغير في رواية عمر بن نافع، وهما ممن يُخرَجُ عنه، فدلّ على أنّ صفة الإسلام لا تختصّ بالمخرِجِين. ويؤيّده رواية الضّحّاك عند مسلم، بلفظ: "على كلّ نفسٍ، من المسلمين، حرًّ، أو عبدٍ

" الحديث.

وقال القرطبيّ: ظاهر الحديث أنه قصد بيان مقدار الصدقة، ومن تجب عليه، ولم يقصد فيه بيان من يُخرجها عن نفسه، ممن يُخرجها عن غيره، بل شمل الجميع. ويؤيّده حديث أبي سعيد الآتي

(1)

، فإنه دالّ على أنهم كانوا يُخرجون عن أنفسهم، وعن غيرهم؛ لقوله فيه:"عن كلّ صغير، وكبير". لكن لا بدّ من أن يكون بين المخرِج، وبين الغير ملابسةٌ، كما بين الصغير ووليّه، والعبد وسيّده، والمرأة وزوجها.

وقال الطيبيّ: قوله: "من المسلمين" حال من العبد، وما عُطف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة أنها جاءت مزدوجة على التضادّ؛ للاستيعاب، لا للتخصيص، فيكون المعنى: فرض على جميع الناس، من المسلمين. وأما كونها فيم وجبت، وعلى من وجبت؟ فيُعلم من نصوص أخرى. انتهى.

ونقل ابن المنذر أن بعضهم احتجّ بما أخرجه من حديث ابن إسحاق:

(1)

يعني: ما أخرجه مسلم في "صحيحه"، ونصّه: 985 - حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا داود -يعني: ابن قيس- عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال:"كنا نخرج؛ إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطر، عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرجه، حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان، حاجاً أو معتمراً، فكقم الناس على المنبر، فكان فيما كلّم به الناس، أن قال: إني أرى، أن مدّين من سمراء الشام، تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فاما أنا فلا أزال أخرجه، كما كنت أخرجه، أبداً ما عشت".

ص: 105

"حدثني نافع أنّ ابن عمر كان يُخرج عن أهل بيته، حرِّهم، وعبدِهم، صغيرِهم، وكبيرهم، مسلمهم، وكافرهم، من الرقيق". قال: وابن عمر راوي الحديث، وقد كان يخرج عن عبده الكافر، وهو أعرف بمراد الحديث. وتعقّب بأنه لو صحّ حُمِل على أنه كان يخرج عنهم تطوّعاً، ولا مانع منه.

واستُدلّ بعموم قوله: "من المسلمين" على تناولها لأهل البادية -وهو الحقّ-، خلافاً للزهريّ، وربيعة، والليث في قولهم: إنّ زكاة الفطر تختصّ بالحاضرة. ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب إخراج زكاة الفطر عن العبد الكافر هو الأرجح عندي؛ عملاً بالحديثين، فيُخصَّصُ عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس على المسلم في عبده صدقة، إلا صدقة الفطر" بقوله صلى الله عليه وسلم: "من المسلمين" في حديث الباب، فالعمل بهما متعيّنٌ بالوجه المذكور، وإلا أدّى إلى إلغاء أحد النصّين، مع إمكان العمل بهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في مقدار المخرَج في زكاة الفطر:

ذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وجمهور العلماء، من السلف، والخلف إلى أن الواجب إخراجه في زكاة الفطر صاع، من أيّ جنس أُخرج. وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصريّ، وأبي العالية، وجابر بن زيد، وإسحاق ابن راهويه. قال ابن قُدامة: وروي عن أبي سعيد الخدريّ. انتهى.

وقال أبو حنيفة: إنما يُخرِج صاعاً؛ إذا أَخرج تمراً، أو شعيراً، فأما إذا أخرج قَمْحاً، أو دقيقه، أو سويقه، فالواجب نصف صاع، وعنه في الزبيب روايتان: أشهرهما عنه أنه مثل القَمْح، فيُخرج منه نصف صاع. والثانية: أنه كالشعير، فيخرج منه صاعاً، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوريّ، وأكثر أهل الكوفة، غير أبي حنيفة. قال: وروينا عن جماعة من الصحابة، والتابعين أنه يجزئ نصف صاع من البرّ، روينا ذلك عن

(1)

الفتح 4/ 142 - 143.

ص: 106

أبي بكر، وعثمان، وليس يثبت ذلك عنهما، وعن عليّ، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء. وبه قال سعيد بن المسيّب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، ورُوي ذلك عن سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي قلابة، وعبد الله بن شدّاد، ومصعب بن سعد. واختُلف فيه عن عليّ، وابن عبّاس، والشعبيّ، فروي عن كلّ منهم القولان جميعاً. انتهى.

قال وليّ الدين: وهو قول في مذهب مالك أنه يُجزئ من القمح نصف صاع.

واحتجّ هؤلاء بما في "سنن أبي داود" عن ثعلبة بن أبي صُعير، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"صاع من قَمْح، على كلّ اثنين"

(1)

. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة، صاعاً من تمر، أو شعير، أو نصف صاع قَمْح".

وروى الترمذيّ عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فِجاج مكّة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كلّ مسلم، ذكر، أو أنثى، حرّ، أو عبد، صغير، أو كبير، مدّان من قَمْحٍ، أو سواه صاعٌ من طعام. قال الترمذيّ: حسن غريبٌ

(2)

.

(1)

ضعيف، وله طرق عند أحمد، وأبي داود، والدارقطنيّ، وغيرهم، إلا أن مدار الجميع على الزهريّ، عن عبد الله بن ثعلبة، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه، وقد أوضح هذا الاختلاف الدارقطنيّ في "علله"، ونقله الزيلعيّ في "نصب الراية"، وقال ابن التركمانيّ في "الجوهر النقيّ": هو حديث اضطرب إسناداً ومتناً، وقد بيّن البيهقيّ بعض ذلك. وقال ابن عبد البرّ: هذا حديث مضطرب لا يثبت، وليس دون الزهريّ في هذا الحديث من تقوم به حجة، واختلف عليه فيه أيضاً. انتهى. انظر:"المرعاة" 6/ 211 - 212.

(2)

بل هو ضعيف؛ لأن فيه عنعنة ابن جريج، وهو مشهور بالتدليس، قال الدارقطنيّ: تجنّب تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلّس إلا فيما سمعه من مجروح. وقال الترمذيّ: سألت محمداً -يعني: البخاريّ- عن هذا الحديث؟ فقال: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب. انتهى. انظر: المرعاة 6/ 209.

ص: 107

واحتجّ الأوّلون بأن في بعض طرُق حديث ابن عمر: "صاعاً من بُرّ"، وهذه زيادة يجب الأخذ بها. وروي أيضاً من حديث عليّ، وزيد بن ثابت. وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدريّ رحمه الله: كنّا نعطيها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية، وجاءت السَّمْرَاء، قال: أرى مدًّا من هذا يعدل مدّين. قال ابن عبد البرّ: ولم يختلف مَن ذكر الطعام في هذا الحديث أنه أراد به الحنطة. وثبت في "الصحيحين" في حديث ابن عمر: "أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فعجل الناس عدله مدّين من حنطة". وهذا صريح في أنّ إخراج نصف صاع من القَمح لم يكن في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما حدث بعده. وأجابوا عن أحاديث نصف الصاع من القمح بأنها لا تثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قاله ابن المنذر

(1)

.

وقال في "الفتح": وقال ابن المنذر أيضاً: لا نعلم في القَمْح خبراً ثابتاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، يُعتَمد عليه، ولم يكن البرّ بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمّة، فغير جائز أن يُعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم أسند عن عثمان، وعليّ، وأبي هريرة، وجابر، وابن عبّاس، وابن الزبير، وأمّه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد صحيحة أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح. انتهى. وهذا مصيرٌ منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفيّة. لكن حديث أبي سعيد دالّ على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة، خلافاً للطحاويّ. وكأن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لَمّا كانت متساويةً في مقدار ما يخرج منها مع ما يُخالفها في القيمة دلّ على أنّ إخراج هذا المقدار من أيّ جنس كان، فلا فرق بين الحنطة وغيرها. هذه حجّة الشافعيّ. وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير، فقد فعل ذلك بالاجتهاد بناءً منه على أن قيم ما عدا الحنطة متساوية، وكانت الحنطة إذ ذاك غالية الثمن، لكن يلزم على قولهم أن تعتبر القيمة في كلّ زمان، فيختلف

(1)

"طرح التثريب" 4/ 52 - 53.

ص: 108

الحال، ولا ينضبط، وربّما لزم في بعض الأحيان إخراج آصُعٍ من حنطة، ويدلّ على أنهم لحظوا ذلك ما رَوَى جعفر الفريابيّ في "كتاب صدقة الفطر" أن ابن عبّاس لما كان أمير البصرة أمرهم بإخراج زكاة الفطر، وبيّن لهم أنها صاع من تمر، إلى أن قال: أو نصف صاع من برّ. قال: فلما جاء عليّ، ورأى رخص أسعارهم، قال: اجعلوها صاعاً من كلِّ. فدلّ على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك، ونظر أبو سعيد إلى الكيل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأحوط أن يُخرج من الحنطة صاعاً، وإن أخرج نصف صاع تبعاً لما نُقل عن جلّ الصحابة، كما تقدّم، فلا مانع؛ لأنه اجتهاد منهم لم يصادم نصًّا صحيحاً؛ إذ لم يصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صاع البر، ولا نصفه شيء يُعتمد عليه.

وأما دعوى الإجماع من الصحابة على نصف صاع من برّ، كما زعمه الزيلعيّ وغيره فغير صحيح؛ لصحة مخالفة أبي سعيد الخدريّ، وابن عمر رضي الله عنهم، فلا إجماع مع مخالفتهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2279]

(

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ عَبْدٍ، أَوْ حُرًّ، صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

(1)

"الفتح" 4/ 146 - 147.

ص: 109

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5] مات سنة بضع (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2280]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:"فَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ رَمَضَانَ، عَلَى الْحُرَّ، وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ"، قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريْعٍ) أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ) فاعل "قال" ضمير ابن عمر رضي الله عنهما.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 110

وقوله: (فَعَدَلَ النَّاسُ)؛ أي: جعلوه مثله، قال الفيّوميّ رحمه الله: وعِدْلُ الشيءِ بالكسر مثلُهُ من جنسه، أو مقدارِهِ، قال ابن فارس: والْعِدْلُ: الذي يُعادل في الوزن والقدر، وعَدْلُهُ بالفتح: ما يقوم مقامه من غير جِنسه، ومنه قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، وهو مصدر في الأصل، يقال: عَدَلْتُ هذا بهذا عدْلاً، من باب ضرب: إذا جعلته مثله، قائماً مقامه، قال الله تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. انتهى

(1)

.

قمال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن المناسب هنا فتح العين؛ لأنه من غير الجنس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: المراد بالناس هنا معاويةُ رضي الله عنه، ومن تبعه، فقد وقع التصريح به في حديث أيوب، عن نافع، أخرجه الحميديّ، في "مسنده"، عن سفيان بن عُيينة: حدّثنا أيوب، ولفظه:"صدقة الفطر صاع من شعير، أو صاع من تمر"، قال ابن عمر: فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع برّ بصاع من شعير.

وهكذا أخرجه ابن خُزيمة في "صحيحه" من وجه آخر عن سفيان، وهو المعتمد، وهو موافق لقول أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي بعد ثلاثة أحاديث، وهو أصرح منه.

وأما ما وقع عند أبي داود من طريق عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافع، قال فيه: فلما كان عمر كثرت الحنطة، فجعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء، فقد حكم مسلم في "كتاب التمييز" على عبد العزيز فيه بالوَهَم، وأوضح الردّ عليه، وقال ابن عبد البرّ: قول ابن عُيينة عندي أولى.

وزعم الطحاويّ أن الذي عدل عن ذلك عمر، ثم عثمان، وغيرهما، فأخرج عن يسار بن نُمير أن عمر قال له: إني أحلف لا أعطي قوماً، ثم يبدو لي، فأفعل، فإذا رأيتني فعلت ذلك، فأطعم عنّي عشرة مساكين، لكلّ مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعير.

ومن طريق أبي الأشعث، قال: خطبنا عثمان، فقال: أدّوا زكاة الفطر مدّين من حنطة، وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله تعالى.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 396.

ص: 111

وقوله: (بِهِ) متعلّق بـ "عَدَل"؛ أي: بما ذُكر من صاع تمر، أو صاع من شعير.

وقوله: (نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ) يعني أنهم جعلوا نصف صاع من برّ يقوم مقام صاع من تمر، أو شعَير، فيجزئ أداؤه عن صدقة الفطر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2281]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ:"إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ النَّاسُ عَدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطةٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم أيضاً قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (143) من رباعيّات الكتاب، فتنبّه.

وقوله: (عَدْلَهُ) تقدّم أن المناسب هنا فتح العين المهملة؛ أي: جعلوه مثله.

وقوله: (مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ) هو بمعنى قوله الماضي: "نصف صاع"؛ لأن الصاع أربعة أمداد.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 112

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2282]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، عَلَى كُلَّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ، أَوْ رَجُلٍ، أَوِ امْرَأَةٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك المدنيّ، تقدّم قريباً.

3 -

(الضَّحَّاكُ) بن عثمان بن عبد الله بن خالد الحِزاميّ المدنيّ، تقدّم أيضاً قريباً.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2283]

(985) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الله، أوأبوأسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيةٌ، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

2 -

(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ) القرشيّ العامريّ المكيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

ص: 113

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان ذُكرا في الباب، وسيأتي شرح الحديث، ومسائله في الحديث التالي، وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2284]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرًّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِراً، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ، أَنْ قَالَ: إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ، تَعْدِلُ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ، كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَداً مَا عِشْتُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) الفَرّاء الدبّاغ، أبو سليمان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [5] مات في خلافة أبي جعفر (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1084.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (144) من رباعيّات الكتاب.

2 -

ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى القعنبيّ، كما أخرج له ابن ماجه، وداود عَلَّق عنه البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى عياض، فمكيّ، والقعنبيّ، مدنيّ، ثم بصريّ.

ص: 114

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

(ومنها): أن فيه أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثاً، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"إذ" ظرفيّة؛ أي: وقت كون النبيّ صلى الله عليه وسلم فينا، وفي رواية للبخاريّ:"كنّا نعطيها في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وفي أخرى له أيضاً:"كنّا نُخرج في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ".

قال الحافظ: هذا حكمه الرفع؛ لإضافته إلى زمنه صلى الله عليه وسلم، ففيه إشعار باطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريرِهِ له، ولا سيّما في هذه الصورة التي توضع عنده، وتُجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها، وتفرقتها. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وإلى كون هذا ونحوه من المرفوع حكماً أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث" حيث قال:

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ صَحَابِي

كَذَا أُمِرْنَا وَكَذَا كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

ثَالِثُهَا إِن كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي

تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي

وفيه ردٌّ على ابن حزم في زعمه أن حديث أبي سعيد ليس مسنداً؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِم بذلك، وأقرّه.

ووجه الردّ أن ألفاظ الحديث تدلّ على أن ذلك كان معلوماً معروفاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى مثلُ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(زَكَاةَ الْفِطْرِ) منصوب على المفعوليّة لـ "نُخرج"، وقوله:(عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) متعلّق بـ "نُخرِج"، وقوله:(حُر أَوْ مَمْلُوكٍ) مجرور على البدليّة (صَاعماً مِنْ طَعَامٍ) قال السنديّ رحمه الله في "حاشية ابن ماجه": يَحْتَمِل أن صاعاً من طعام أريد به صاع من الحنطة، فإن الطعام، وإن كان يعمّ الحنطة وغيرها لغةً، لكن

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 194.

ص: 115

اشتَهَرَ في العرف إطلاقه على الحنطة، ويؤيّده المقابلة بما بعده.

ويَحْتَمِل أن يكون صاعاً من طعام مجملاً، ويكون ما بعده بياناً له، كانه بيّن أن الطعام الذي كانوا يعطون منه الصاع كان تمراً، وشعيراً، وأَقِطاً، لا حنطةً، ويؤيّده ما رواه البخاريّ عن أبي سعيد رضي الله عنه:"كنّا نُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر، صاعاً من طعام، وكان طعامنا يومئذ الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر"، وكذا ما رواه ابن خُزيمة عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر، والزبيب، والشعير، ولم تكن الحنطة"، فينبغي أن يتعيّن الحمل على هذا المعنى، بل يُستبعد أن يكون المعلوم فيما بينهم صاعاً من الحنطة، فيتركونه إلى نصفه بكلام معاوية رضي الله عنه، بل لا يبقى لقول معاوية:"إن النصف يَعْدِل الصاع" حينئذ وجهٌ، إلا بتكلّف.

وبالجملة فمعنى هذا الحديث أنه ما كان عندهم نصّ منه صلى الله عليه وسلم في البرّ بصاعٍ، أو بنصفه، وإلا فلو كان عندهم حديث بالصاع لما خالفوه، أو بنصفه لما احتاجوا إلى القياس، بل حكموا بذلك، ويدلّ على هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الباب المرويّ في الصحاح. انتهى كلام السنديّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السنديّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وسيأتي تمام الكلام عليه في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

(أَوْ صَاعاً) اختُلف في أنّ "أو" في هذا الحديث لتخيير المؤدَّى من هذه الأشياء، أو لتعيين واحد منها، وهو الغالب، فقيل: إنها للتخيير، وبه قال أبو حنيفة، وقيل: إنها لتعيين أحد هذه الأشياء بالغلبة، وهو غالب قوت البلد، وبه قال الأكثرون، فمعنى الحديث على هذا: كنا نخرج هذه الأنواع بحسب أقواتنا، ومقتضى أحوالنا، أفاده بعضهم

(1)

، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

(مِنْ أَقِطٍ) - بفتح الهمزة، مع كسر القاف، أو ضمّها، أو فتحها، أو إسكانها، وبكسر الهمزة، مع كسر القاف، وإسكانها، وبضمّ الهمزة، مع إسكان القاف فقط: وهو شيء يُتّخَذ من اللبن الْمَخيض، كأنه نوع من اللبن

(1)

ذكره القاري، قائلاً: قال ميرك، نقلاً عن "الأزهار". انظر:"المرعاة" 6/ 197.

ص: 116

الجافّ، وقيل: هو لبنٌ، مجفّفٌ، يابس، جامد، مستحجرٌ، غير منزوع الزُّبْد، يُطبخ به.

وقال في "اللسان": "الأَقِط" -أي بفتح، فكسر- و"الإِقْطُ" -أي بكسر، فسكون- و"الأَقْطُ" -أي بفتح، فسكون- و"الأُقْطُ"- أي بضمّ، فسكون -: شيءٌ يُتّخذ من اللبن الْمَخِيض، يُطبخ، ثمّ يُترك حتىّ يَمْصُل، والقِطْعة منه أَقِطَةٌ. قال ابن الأعرابيّ: هو من ألبان الإبل خاصّة. وقال الجوهريّ: الأقط معروف، قال: وربّما سُكّن في الشعر، وتُنقل حركة القاف إلى ما قبلها، قال الشاعر [من الطويل]:

رُوَيْدَكَ حَتَّى يَنْبُتَ الْبَقْلُ وَالْغَضَا

فَيَكْثُرَ إِقْظٌ عِنْدَهُمْ وَحَلِيبُ

قال: وَأْتَقَطْتُ: اتّخذتُ الأقِطَ، وهو افتَعَلْتُ، وأَقَطَ الطّعَامَ يَأْقِطُهُ أَقْطاً: عَمِلَهُ بالأَقِطِ، فهو مأْقُوطٌ، وأنشد الأَصْمَعِيٌّ [من الرجز]:

وَيَأْكُلُ الْحَيَّةَ وَالْحَيُّوتَا

وَيَدْمُقُ

(1)

الأَقْفَالَ وَالتَّابُوتَا

وَيَخْنُقُ الْعَجُوزَ أَوْ تَمُوتَا

أَوْ تُخْرِجُ الْمَأْقُوطَ وَالْمَلْتُوتَا

انتهت عبارة "لسان العرب" باختصار.

(أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرِ) - بفتح الشين المعجمة، وكسر العين المهملة-: جنس من الحبوب معروفٌ، واحدته شَعيرةٌ، وبائعه شَعِيريٌّ، قال سيبويه: وليس مما بُني على فاعل، ولا فَعّالٍ، كما يغلب في هذا النحو، وأما قول بعضهم: شِعِيرٌ، وبِعِيرٌ، ورِغِيفٌ، وما أشبه ذلك -أي بكسر أوله، وثانيه- لتقريب الصوت من الصوت، فلا يكون هذا إلا مع حروف الحلق، ذكره في "اللسان".

وقال في "المصباح": الشَّعِير: حَبّ معروف، قال الزّجّاج: أهل نجد تؤنّثه، وغيرهم يُذكّره، فيقال: هي الشعير، وهو الشعير. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أفاد ما تقدّم عن سيبويه أن الشَّعِير بفتح أوّله، وكسر ثانية، ويجوز كسر أوله أيضاً تبعاً لحركة العين، وهكذا كلّ ما أتي على فَعِيل، وكان عينه حرف حلق، كبَعِير، ورَغِيفٍ، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

(1)

يقال: دَمَقَ يدمُقُ دُمُوقاً، من باب قعد: دخل بغير إذن، والدَّمْقُ - بفتح، فسكون -: السرقة. أفاده في "القاموس".

ص: 117

(أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "التَّمْرُ" من ثمر النخل كالزبيب من العنب، وهو اليابس بإجماع أهل اللغة؛ لأنه يُتْرَك على النخل بعد إرطابه حتى يَجِفّ، أو يقارب، ثم يُقْطَع ويُتْرَك في الشمس حتى يَيْبَسَ، قال أبو حاتم: وربما جُدَّت النخلة، وهي باسرة بعدما أخلت؛ ليُخَفَّف عنها، أو لخوف السرقة، فتترك حتى تكون تمراً، الواحدة تمرةٌ، والجمع تُمُور، وتُمْرَان بالضم. انتهى

(1)

.

(أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ)"الزبيب": معروف، وهو اسم جمع يُذكّر ويُؤنّث، فيقال: هو الزبيب، وهو الزبيب، والواحدة زبيبة بالهاء، وزَبّبتُ العِنَبَ جعلته زَبيباً، قاله في "المصباح"، وفي "القاموس": الزّبيب ذَاوِي

(2)

العنب والتين. انتهى؛ يعني يابس العنب والتين، وفي "اللسان": الزبيب ذَاوِي العنب، معروفٌ، واحدته زبيبة، وقد أَزَبَّ العنب، وزَبَّبَ فلانٌ عنبه تزبيباً، قال أبو حنيفة -يعني الدينوريّ -: واستَعْمَل أعرابيّ من أعراب السَّرَاة الزبيب في التين، فقال: الْفَيْلَحَانيُّ تِينٌ شديد السواد، جيّد الزبيب -يعني يابسه. انتهى.

(فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ)؛ أي: ما ذُكر من صاع طعام، وما ذُكر معه (حَتَّى قَدِمَ) بكسر الدال (عَلَيْنَا مُعَاوَيةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) رضي الله عنهما، زاد في رواية ابن خزيمة:"وهو يومئذ خليفة"، وقوله:(حَاجًّا) منصوب على الحال من الفاعل (أَوْ مُعْتَمِراً)"أو" للشكّ، وَيحتمل أن يكون من أبِي سعيد، أو ممن دونه (فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ)؛ أي: النبويّ (فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ، أَنْ قَالَ)"أن" بالفتح مصدريّة؛ أي قوله: (إِنِّي أَرَى)؛ أي: أعتقد، وأذهب إليه (أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ)؛ أي: الْقَمْح الشاميّ. قيل: هو الحنطة الجيّدة المعروفة بالشام بالجبليّ، وأُضيفت إلى الشام؛ لكثرتها بها، ولم يكن بالمدينة منها في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير.

(تَعْدِلُ) بكسر الدال، من باب ضرب، كما سبق بيانه؛ أي تساوي (صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ)؛ أي: عَمِل أكثر أهل المدينة برأي معاوية رضي الله عنه،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 76 - 77.

(2)

يقال: ذَوَى البقلُ، كرمى، ورضي ذوياً، كصُلِيَّ: ذَبَلَ، وأذواه الحرّ. انتهى. "ق".

ص: 118

وإلا فبعضهم، كأبي سعيد، وابن عمر رضي الله عنهم لم يأخذوا بقوله، كما بيّنه بقوله:(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ)؛ أي: الصاع من الأصناف المذكورة (كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ)؛ أي: في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَبَداً) منصوب على الظرفيّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الأبد: الدهر، ويقال: الدهر الطويل الذي ليس بمحدود، قال الرُّمّانيّ: فإذا قلت: لا أكلمه أبداً، فالأبد من لدن تكلّمت إلى آخر عمرك، وجمعه آباد، مثلُ سبَبٍ وأسباب. انتهى

(1)

.

وقوله: (مَا عِشْتُ)"ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة دوام عيشي؛ أي: طول عمري، فهو مؤكّدٌ لمعنى "أبداً"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [5/ 2283 و 2284 و 2285 و 2286 و 2287](985)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1505 و 1506 و 1508 و 1510)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1616 و 1618)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(673)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 51 و 52 و 53)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1829)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 284)، و (الحميديّ) في "مسنده"(742)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 73)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2407 و 2408 و 2413 و 2414 و 2419)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 63 - 64)، و (الدارميّ) في "سننه"(1663 و 1664)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم زكاة الفطر من الزبيب:

ذهب الجمهور إلى إجزائه، إلا أن الأئمة الثلاثة قالوا: إن الواجب منه صاع، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وهي رواية عن أبي حنيفة، وهو

(1)

"المصباح المنير"1/ 1.

ص: 119

الحقّ، لحديث الباب. وفي رواية عنه نصف صاع، كالقَمْح، وهي رواية ضعيفة، لمخالفتها النصوص الصحيحة.

وذهب الظاهرية إلى أن الزبيب لا يجزئ، بل الواجب هو التمر أو الشعير، وأجاب ابن حزم عن حديث الباب بوجهين:

[أحدهما]: أنه غير مسند - أي مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه ليس في شيء من طرقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بذلك، فأقرّه.

[والثاني]: أنه مُضطرَب فيه، فإن في بعض طرقه إثبات الزبيب، وفي بعضها نفيه، وفي بعضها ذكر الدقيق، والسُّلْت.

وقد تقدم الجواب عن الوجه الأول.

وأما الثاني، فقد أجاب عنه العلّامة أحمد محمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المحلّى" 6/ 125، بأن هذا ليس من الاضطراب في شيء، بل إن بعض الرواة يُطيل، وبعضهم يختصر، ومنهم من يذكر شيئاً، ويسهو عن غيره، وزيادة الثقة مقبولة، فالواجب جمع كلّ ما ورد في الروايات الصحيحة؛ إذ لا تعارض بينها أصلاً. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله العلّامة أحمد شاكر رحمه الله حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن الحديث صحيح، وأن الأرجح ما قاله الجمهور، من إجزاء الزبيب في صدقة الفطر، وأن مقداره صاع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تعيين المراد بـ "الطعام" في هذا الحديث:

قال الخطّابيّ رحمه الله تعالى في "المعالم"(2/ 50 - 51): زعم بعض أهل العلم أن المراد بالطعام هنا الحنطة، وأنه عندهم اسمٌ خاصّ للبرّ، قال: ويدلّ على صحّة ذلك أنه ذكَرَ في الخبر الشعيرَ، والأَقِطَ، والتمر، والزبيب، وهي أقواتهم التي كانوا يقتاتونها في الحضر والبدو، ولم يَذكُر الحنطةَ، وكانت أغلاها، وأفضلها كلّها، فلولا أنه أرادها بقوله:"صاعاً من طعام" لكان يجري ذكرها عند التفصيل، كما جرى ذكر غيرها من سائر الأقوات، ولا سيّما حيث

ص: 120

عُطفت عليها بحرف "أو" الفاصلة

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": وقد كانت لفظة "الطعام" تستعمل في البرّ عند الإطلاق حتى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فُهِم منه سوق البرّ، وإذا غلب العرف بذلك نُزِّل اللفظ عليه؛ لأن الغالب أن الإطلاق في الألفاظ على حسب ما يخطر في البال من المعاني، والمدلولات، وما غلب استعمال اللفظ عليه فخطوره عند الإطلاق أقرب، فيُنَزَّل اللفظ عليه، وهذا بناء على أن يكون هذا العرف موجوداً في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

قال الخطّابيّ: وزعم آخرون أن هذا جملةٌ قد فُصِّلَت، والتفصيل لا يخالف الجملة، وإنما قال في أول الحديث صاعاً من طعام، ثمّ فصّله، فقال: صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو كذا، أو كذا، واسم الطعام شاملٌ لجميع ذلك. انتهى

(3)

.

وقال القاري: قال علماؤنا: إن المراد بالطعام المعنى الأعمّ، لا الحنطة بخصوصها، فيكون عطف ما بعده عليه من باب عطف الخاصّ على العامّ.

قال الحافظ: وقد ردّ ذلك -أي حمل الطعام على البرّ- ابنُ المنذر، وقال: ظنّ بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد: "صاعاً من طعام" حجة لمن قال: صاعاً من حنطة، وهذا غلطٌ منه، وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام، ثمّ فسّره، ثم أورد طريق حفص بن ميسرة عند البخاريّ وغيره: أن أبا سعيد قال: "كنّا نُخرج في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر"، وهي ظاهرة فيما قال.

وأخرج الطحاويّ نحوه من طريق أخرى، وقال فيه:"ولا يُخرَج غيره"، قال: وفي قوله: "فلمّا جاء معاوية، وجاءت السمراء" دليلٌ على أنها لم تكن قوتاً لهم قبل هذا، فدلّ على أنها لم تكن كثيرة، ولا قوتاً، فكيف يُتوهّم أنهم أخرجوا ما لم يكن موجوداً؟. انتهى كلامه.

(1)

راجع: "المعالم" 2/ 218 وهو منقول ببعض تصرّف.

(2)

"إحكام الأحكام" 3/ 320 - 321. بنسخة الحاشية.

(3)

"المعالم" 2/ 218.

ص: 121

وأخرج ابن خزيمة، والحاكم في "صحيحيهما" من طريق ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم، عن عياض بن عبد الله، قال: قال أبو سعيد، وذكروا عنده صدقة رمضان، فقال:"لا أُخرج إلا ما كنت أُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاع من تمر، أو صاع حنطة، أو صاع شعير، أو صاع أقط، فقال له رجلٌ من القوم: أو مدّين من قَمْح، فقال: لا، تلك قيمة معاوية مطويّة، لا أقبلها، ولا أعمل بها"، قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ، ولا أدري ممن الوَهَمُ؟.

وقوله: "فقال له رجلٌ إلخ" دالٌّ على أن ذكر الحنطة في أول القصّة خطأٌ؛ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم كانوا يخرجون منها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً لَمَا كان الرجل يقول له: أو مدّين من قَمْح، وقد أشار أبو داود إلى رواية ابن إسحاق هذه، وقال: إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ، وذكر أن معاوية بن هشام رَوَى في هذا الحديث عن سفيان:"نصف صاع من برّ" وهو وَهَمٌ، وأن ابن عيينة حدّث به عن ابن عجلان، عن عياض، فزاد فيه:"أو صاعاً من دقيق"، وأنهم أنكروا عليه، فتركه، قال أبو داود: وذِكْرُ الدقيق وَهَمٌ من ابن عيينة. وأخرج ابن خزيمة أيضاً من طريق فُضيل بن غَزْوَان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر، والزبيب، والشعير، ولم تكن الحنطة"، ولمسلم من وجه آخر، عن عياض، عن أبي سعيد:"كنّا نخرج من ثلاثة أصناف: صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاُ من شعير"، وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلّته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة.

وهذه الطرق كلّها تدلّ على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيَحْتَمِل أن تكون الذُّرَةَ، فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن، وهي قوت غالبٌ لهم.

وقد روى الجوزقيّ من طريق ابن عجلان، عن عياض في حديث أبي سعيد:"صاعاً من تمر، صاعاً من سُلْت، أو ذُرَة". انتهى كلام الحافظ

(1)

.

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 145 - 146.

ص: 122

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فيَحْتَمِل أن تكون الذرة إلخ" فيه نظر، بل الصواب أن الطعام مجملٌ، فسّره ما بعده، كما سبق، والله تعالى أعلم.

وأجاب البرماويّ عن رواية حفص بن ميسرة بأن الطعام فيها محمول على معناه اللغويّ الشامل لكلّ مطعوم، قال: فلا ينافي تخصيص الطعام فيما سبق بالبرّ؛ لأنه قد عطف عليه الشعير، وغيره، فدلّ على التغاير، وهذا كالوعد، فإنه عامّ في الخير والشرّ، وإذا عطف عليه الوعيد خُصّ بالخير، وليس هو من عطف الخاصّ على العامّ، نحو {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]، فإن ذلك إنما هو فيما إذا كان الخاصّ أشرف، وهنا بالعكس.

وقال الكرمانيّ: فإن قلت: قوله: قال أبو سعيد: "وكان طعامنا إلخ" مناف لما تقدّم من قولك: إن الطعام هو الحنطة، ثمّ أجاب بقوله: لا نزاع في أنّ الطعام بحسب اللغة عامّ لكلّ مطعوم، إنما البحث فيما يعطف عليه الشعير، وسائر الأطعمة، فإن العطف قرينة لإرادة المعنى العرفيّ منه، وهو البرّ بخصوصه. انتهى.

قال صاحب "المرعاة": ولا يخفى ما فيه من التكلّف، والظاهر عندي هو قول من قال: إن الطعام في قوله: "صاعاً من طعام" مجملٌ، وما ذُكر بعده بيان له، كما يدلّ عليه طريق حفص بن ميسرة، وحديث ابن عمر عند ابن خزيمة، وأن الصحابة ما كانوا يُخرجون البرّ في عهده صلى الله عليه وسلم، كما يدلّ عليه رواية النسائيّ، والطحاويّ:"كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، لا نخرج غيره"، وأنّ أبا سعيد ما أخرج البرّ في صدقة الفطر قطّ، لا في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولا فيما بعده، لا صاعاً، ولا نصفه، كما يدلّ عليه رواية مسلم: إن معاوية لَمّا جعل نصف الصاع من الحنطة عَدْلَ صاع من تمر، أنكر ذلك أبو سعيد، وقال:"لا أخرج فيها إلا الذي كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط"، وفي رواية: قال أبو سعيد: "فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عِشْتُ"، وأن أبا سعيد لَمّا تحقق عنده أن

ص: 123

الصحابة أخرجوا في زمنه صلى الله عليه وسلم صاعاً من جميع ما أخرجوا من الشعير، والأقط، والتمر، والزبيب، وغيرها، ذهب إلى أن المقدار الواجب من كلّ شيء صاع، أو لَمّا رأى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شرع لهم صاعاً من غير البرّ، ولم يبيّن لهم حال البرّ، فقاس عليه أبو سعيد حال البرّ، ورأى أن الواجب في البرّ أيضاً صاعٌ.

وقد روى أبو داود عن عياض، قال: سمعت أبا سعيد يقول: "لا أخرج أبداً إلا صاعاً - أي: من كلّ شيء - إنا كنّا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاع تمر، أو شعير، أو أقط، أو زبيب".

وأخرج الطحاويّ في "شرح معاني الآثار"(2/ 42) عن عياض، قال: سمعت أبا سعيد، وهو يُسأل عن صدقة الفطر؟ قال:"لا أخرج إلا ما كنت أخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، فقال له رجلٌ: أو مدّين من قَمْحٍ؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها، ولا أعمل بها".

وأخرجه أيضاً الدارقطنيّ في "سننه"(2/ 145 - 146)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 411)، وابن خزيمة في "صحيحه"(4/ 89 - 90)، والبيهقيّ (4/ 166) وزادوا فيه:"أو صاعاً من حنطة" بعد قوله: "صاعاً من تمر". وقد صرّح ابن خزيمة، وأبو داود أن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ.

وأما ما أخرجه الطحاويّ بسنده (2/ 44) عن أبي سعيد أنه قال: "إنما علينا أن نعطي لكلّ رأس عند كلّ فطر صاعاً من تمر، أو نصف صاع من برّ"، فلا يوازي الروايات المتقدّمة، فلا يُلتفت إليه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أي: لأنه ضعيف؛ لأن في سنده الحسن البصريّ، عن أبي سعيد الخدريّ، والحسن لم يسمع من أبي سعيد الخدريّ

(1)

، وقد عنعنه، وهو مدلّس، والله تعالى أعلم.

قال: والقول بأن حديث الباب يدلّ على أنهم كانوا يُعطون من البرّ

(1)

انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب" 1/ 388 - 391، فقد عدّ بهز بن أسد أبا سعيد الخدريّ من جملة من لم يسمع منهم الحسن، من الصحابة.

ص: 124

صاعاً، لكن على سبيل التبرّع -يعني: أن أبا سعيد، وغيره من الصحابة إنما كانوا يخرجون النصف الآخر تطوّعاً، واختياراً، وفضلاً- تأويل بعيد، لا يخفى تكلّفه.

وأما ما يُذكر من الأحاديث المرفوعة في الصاع من القمح، أو في نصفه، فكلّها مدخولة.

قال البيهقيّ (4/ 170) بعد إيراد أحاديث نصف الصاع من القمح: وقد وردت أخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صاع من برّ، ووردت أخبار في نصف صاع، ولا يصحّ شيء من ذلك، قد بيّنت علّة كلّ واحد منها في "الخلافيّات". انتهى كلام صاحب "المرعاة" رحمه الله باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذكره صاحب "المرعاة" رحمه الله كلام نفيسٌ جدًّا، وقد اتّضح بما تقدّم أن الصواب كون الطعام في قوله:"صاعاً من طعام" مجملاً، والمعطوفات عليه تفصيلٌ له، وتوضيح للمراد منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في النوع الذي يُجزئ في صدقة الفطر:

ذهب الشافعيّة إلى أن جنس الفطرة كل ما يجب فيه العشر. وعن الشافعيّ قولٌ قديم أنه لا يجزئ فيها الحمّص، والعدَسُ، والمذهب المشهور الأول، والصحيح عندهم إجزاء الأقط أيضاً؛ لصحّة الحديث به، قال وليّ الدين: فإن جوّزناه فالأصحّ أن اللبن، والجبن الذي ليس منزوع الزّبد في معناه، والخلاف في إخراج مَنْ قوته الأقط، واللبن، والجبن، ولا يجزئ الدقيق، ولا السويق، ولا الخبز، كما لا تُجزئ القيمة. وقال الأنماطيّ: يجزئ الدقيق، قال ابن عبدان: يقتضي قوله إجزاء السويق، والخبز، وصححه.

وفي الواجب من الأجناس المجزئة ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعيّ: أصحها عند الجمهور غالب قوت البلد. والثاني: قوت نفسه، وصححه ابن عبدان. والثالث: يتخيّر بين الأجناس، وهو الأصحّ عند القاضي أبي الطيب.

(1)

انظر: "المرعاة" 6/ 194 - 196.

ص: 125

ثم إذا كان الواجب قوت نفسه، أو البلد، فعدل إلى ما هو دونه لم يجز، دوان عدل إلى أعلى منه جاز. وفيما يعتبر به الأعلى والأدنى وجهان: أصحّهما الاعتبار بزيادة صلاحية الاقتيات. والثاني بالقيمة.

وقالت الحنابلة: هو مخيّر بين الخمسة المنصوص عليها، وهي التمر، والشعير، والبرّ، والزبيب، والأقط، قا لوا: والسُّلْت نوع من الشعير، فيجوز إخراجه لدخوله في المنصوص عليه، وهو في بعض طرق حديث ابن عمر. ونصّ أحمد على جواز إخراج الدقيق، وكذلك السويق، ولا يجزئ عندهم الخبز، قالوا: فيتخيّر بين هذه، فيخرج ما شاء منها، وإن لم يكن قوتًا له، إلا الأقط، فإنما يخرجه من هو قوته، أو لم يجد من المنصوص عليه سواه، فإن وجد سواه، ففي إجزائه عندهم روايتان، منشؤهما ورود النصّ به، وكونه غير زكويّ، قا لوا: وأفضلها التمر، وبعده البرّ، وقال بعضهم: الزبيب. قالوا: ولا يجوز العدول عن هذه الأشياء مع القدرة على أحدها، ولو كان المعدول إليه قوت بلده، فإن عجز عنها أجزأه كلّ مقتات، من كلّ حبّة وثمرة. قاله الخرقيّ.

قال ابن قُدامة: وظاهره أنه لا يجزئه المقتات من غيرها، كاللحم واللبن. وقال أبو بكر: يُعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها عند عدمها. وقال ابن حامد: يجزئه عند عدمها الإخراج مما يُقتات به، كالذُّرَة، والدُّخْن، ولحوم الحيتان، والأنعام، ولا يُرَدّون إلى أقرب قوت الأمصار.

وأما المالكيّة فإن المشهور عندهم أنه جنسيّة المقتات في زمنه صلى الله عليه وسلم، من القَمْح، والشعير، والسُّلْت، والزبيب، والتمر، والأقط، والذُّرَة، والأرز، والدُّخْن، وزاد ابن حبيب: العلس

(1)

، وقال أشهب: من المستّ الأُوَلِ خاصّة، فلو اقتِيتَ غيره، كالقَطَانيّ

(2)

، والتين، والسويق، واللحم، واللبن، فالمشهور

(1)

"العلس" -بفتحتين-: ضرب من الحنطة، يكون في القشرة منه حبتان، وقد تكون واحدة، أو ثلاث. وقال بعضهم: هو حبة سوداء تؤكل في الجدب. وقيل: مثل البرّ، إلا أنه عَسِرُ الاستنقاء. وقيل: هو العدَس. قاله في "المصباح".

(2)

القَطَانيّ: بالفتح جمع قِطْنيّة، وهي العَدَسُ، والخُلَّرُ، والفول، والدُّجْرُ، والحمّص. اهـ. "القاموس". وفي "المصباح": قيل لما يُدّخر في البيت من =

ص: 126

الإجزاء، وفي الدقيق قولان، ويخرج من غالب قوت البلد، فإن كان قوته دونه لا لشحّ، فقولان.

وقال الحنفيّة: يتخيّر بين البرّ، والدقيق، والسويق، والزبيب، والتمر، والشعير، والدقيقُ أولى من البرّ، والدراهم أولى من الدقيق، فيما يُروى عن أبي يوسف، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر؛ لأنه أدفع للحاجة. وعن أبي بكر الأعمش: تفضيل القمح؛ لأنه أبعد من الخلاف.

قال وليّ الدين رحمه الله: من قال بالتخيير فقد أخذ بظاهر الحديث، وأما من قال بتعيين غالب قوت البلد، أو قوت نفسه، فإنه حمل الحديث على ذلك، ولم يجعله على ظاهره من التخيير، واقتصر في المشهور من روايات ابن عمر على التمر، والشعير؛ لأنهما غالب ما يُقتات بالمدينة في ذلك الوقت، فإما أن يكون محمولًا على إيجاب التمر على من يقتاته، والشعير على من يقتاته، وإما أن يكون مخيّرًا بينهما؛ لاستوائهما في الغلبة، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، فالمخرِج مخيّر بينهما. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي حمل "أو" على معنى التخيير، وأن المؤدّي لصدقة الفطر مخيّرٌ في إخراج أيّ نوع شاء، مما صحّ ذكره في الحديث، لا من سائر أنواع الحبوب، فإنها لا تجزئ مع وجود المنصوص عليه، وإن لم يوجد شيء من المنصوص عليه أجزأ كلُّ ما كان قوتَ أهل البلد غالبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في الأفضل من الأجناس المنصوص عليها:

= الحبوب، ويقيم زمانًا قِطْنيّة -بكسر القاف- على النسبة، وضمُّ القاف لغة. وفي "التهذيب": القِطْنِيّةُ: اسم جامع للحبوب التي تطبخ، وذلك مثل العدس، والباقلَاء، واللُّوبِيَا" والحمّص، والأرز، والسمسم، وليس القمح، والشعير من الْقَطَانيّ. انتهى.

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 50 - 52.

ص: 127

ذهب الإمامان: مالك، وأحمد إلى اختيار إخراج التمر، قال ابن المنذر: واستحبّ مالك إخراج العجوة منه.

وذهب الشافعيّ، وأبو عبيد إلى اختيار إخراج البرّ. وقال بعض أصحاب الشافعيّ: يَحْتَمِل أن يكون الشافعيّ قال ذلك؛ لأن البرّ كان أعلى في وقته، ومكانه؛ لأن المستحبّ أن يخرج أغلاها ثمنًا، وأنفسها؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن أفضل الرقاب؟ قال:"أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها"، متّفق عليه.

وإنما اختار أحمد إخراج التمر اقتداءَ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعًا لهم. وروى بإسناده عن أبي مِجْلَزٍ، قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبرّ أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقًا، وأنا أُحبّ أن أسلكه. وظاهر هذا أن جماعة من الصحابة كانوا يخرجون التمر، فأحبّ ابن عمر موافقتهم، وسلوك طريقتهم، وأحبّ أحمد أيضًا لاقتداء بهم، واتِّبَاعهم.

ورَوَى البخاريّ عن ابن عمر، قال: "فرض النبيّ صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر

" الحديث. وفيه: كان ابن عمر يُعطي التمر، فأعوز أهلُ المدينة من التمر، فأعطى شعيرًا، قال الحافظ: فيه دلالة على أن التمر أفضل ما يُخْرَج في صدقة الفطر.

وقد روى جعفر الفريابيّ من طريق أبي مِجْلَزٍ، قال: قلت لابن عمر: قد أوسع الله، والبرّ أفضل من التمر، أفلا تُعطي البرّ؟، قال: لا أعطي إلا كما كان يعطي أصحابي. ويُستَنبَطُ من ذلك أنهم كانوا يخرجون من أعلى الأصناف التي يُقتات بها؛ لأن التمر أعلى من غيره، مما ذُكر في حديث أبي سعيد، وإن كان ابن عمر فَهِمَ منه خصوصيّة التمر بذلك، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال ابن قُدامة رحمه الله: والأفضل بعد التمر البرّ، وقال بعض أصحابنا: الأفضل بعده الزبيب؛ لأنه أقرب تناولًا، وأقلّ كلفة، فأشبه التمر. ولنا أن البرّ أنفع في الاقتيات، وأبلغ في دفع حاجة الفقير. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي قول من فضّل الزبيب على البرّ أرجح؛ لصحّة الحديث به، دون البرّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 148 - 150.

(2)

راجع: "المغني" 4/ 291 - 292.

ص: 128

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في دفع الأقط في صدقة الفطر:

(اعلم): أنهم قد اختلفوا في ذلك، فقال مالك بالإجزاء؛ إذا كان من أغلب القوت، وللشافعيّ فيه قولان: أحدهما كقول مالك. والثاني: أنه لا يجزئ، قال الحافظ: وعند الشافعيّة فيه خلاف، وزعم الماورديّ أنه يختصّ بأهل البادية، وأما الحاضرة، فلا يجزئ عنهم بلا خلاف، وتعفبه النوويّ في "شرح المهذّب"، وقال: قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع. انتهى. والمذكور في فروع الشافعيّة الإجزاء إذا كان غالب أقوات المخرج. قال النوويّ في "شرح مسلم": يجزئ الأقط على المذهب. انتهى. وقال الحنفيّة: لا يُجزئ إلا بدلًا عن القيمة. قال الكاسانيّ في "البدائع": أما الأقط، فتعتبر فيه القيمة لا يجزئ إلا باعتبار القيمة؛ لأنه غير منصوص عليه من وجه يوثق به، وجواز ما ليس بمنصوص عليه لا يكون إلا بالقيمة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا عجيب من الكاسانيّ، فإن حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا أخرجه الشيخان، وغيرهما، فقوله:"غير منصوص عليه من وجه يوثق به" ينادي عليه بأنه بعيد كلّ البعد عن مراجعة مشاهير الكتب الحديثية، كالصحيحين، فضلًا عن غيرها، مع أنه يعدّ من كبار الفقهاء الحنفية، إن لهو العجب العُجاب.

وقال ابن قدامة: يجزئ أهل البادية إخراج الأقط إذا كان قوتهم، وكذلك من لم يجد من الأصناف المنصوص عليها سواه، فأما من وجد سواه، فهل يجزئ؟ على روايتين: إحداهما: يجزئه أيضًا؟ لحديث أبي سعيد المذكور في الباب. والثانية: لا يجزئه؛ لأنه جنس لا تجب فيه الزكاة، فلا يجزئ إخراجه لمن يقدر على غيره من الأجناس المنصوص عليها، كاللحم، ويُحمل الحديث على من هو قوت له، أو لم يقدر على غيره. انتهى كلام ابن قدامة باختصار.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الحقّ، وأما القول الثاني، فمخالف للنصوص الصحيحة، فلا يلتفت إليه.

فالحق أنه يجزئ إخراج الأقط، مطلقًا، سواء كانوا من أهل الأمصار، أو من غيرهم، قادرين على غيره، من التمر، وغيره، أو لا، وسواء كان قوتًا

ص: 129

له، أو لا؛ لأن الحديث لم يفرّق، ولم يفصّل شيئًا من ذلك.

والحاصل أن الأقط مجزئ مطلقًا؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المذكور في الباب، حيث قال: "كنّا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

" الحديث، فأطلق، ولم يقيّده بشيء، مما ذكروه، فدلّ على أنه يجزئ مطلقًا، كالتمر، والشعير المذكورين معه، حيث لا خلاف في إجزائهما، فكذلك هو، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في إخراج القيمة في صدقة الفطر:

ذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعيّ، وأحمد -رحمهم الله تعالى- إلى أنه لا يجوز دفع القيمة في صدقة الفطر.

وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه -رحمهم الله تعالى- إلى جواز ذلك.

قال ابن قدامة: قال أبو داود: قيل لأحمد، وأنا أسمع: أَعطَى دراهم -يعني: في صدقة الفطر- قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو طالب: قال أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له: قوم يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة، قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون قال فلان، قال ابن عمر:"فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]. وقال قوم يردّون السنن: قال فلان، قال فلان.

وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه إخراج القيمة في شيء من الزكوات، وبه قال مالك، والشافعيّ.

وقال الثوريّ، وأبو حنيفة: يجوز. وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وروي عن أحمد مثل قولهم فيما عدا صدقةَ الفطر، وقال أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمر نخلته؟، قال: عشرة على الذي باعه، قيل له: فيخرج ثمرًا، أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمرًا، وإن شاء أخرج من الثمن. وهذا دليل على جواز إخراج القيم. ووجهه قول معاذ لأهل اليمن:"ايتوني بخميس، أو لبيس، آخذه منكم، فإنه أيسر عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة".

وقال سعيد: حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، قال: لَمّا قدم معاذ

ص: 130

اليمن، قال:"ائتوني بعرض ثياب، آخذه منكم مكان الذرة، والشعير، فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة". قال: وحدّثنا جرير، عن ليث، عن عطاء، قال: كان عمر بن الخطّاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم؛ ولأن المقصود دفع الحاجة، ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر الماليّة باختلاف صور المال.

قال ابن قدامة: ولنا قول ابن عمر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير"، فإذا عدل عن ذلك، فقد ترك المفروض. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"في أربعين شاةً شاةٌ"، وفي مائتي درهم خمسة دراهم. وهو وارد لبيان مجمل قوله تعالى:{وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر للوجوب. انتهى.

وقد وافق الإمام البخاريّ في ذلك الحنفيّةَ، فقال بجواز إخراج العروض في الزكاة؛ إذا كانت بقيمتها؛ إذ ترجم بقوله:"باب الْعَرْضِ في الزكاة"، وذكر فيه أثر طاوس المتقدّم، وغيره من الأحاديث. وقد أجاب الجمهور عن جميع ذلك، وقد تقدّم البحث عن ذلك.

وقال الشوكانيّ رحمه الله في كتابه "السيل الجرّار" في شرح قول صاحب "حدائق الأزهار": "إنما تجزئ القيمة للعذر": أقول هذا صحيح؛ لأن ظاهر الأحاديث الواردة بتعيين قدر الفطرة من الأطعمة أنّ إخراج ذلك مما سمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم متعيّنٌ، وإذا عرض مانع من إخراج العين، كانت القيمة مجزئة؛ لأن ذلك هو الذي يمكن مَنْ عليه الفطرة، ولا يجب عليه ما لا يدخل تحت إمكانه. انتهى كلام الشوكانيّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله هو الأرجح عندي.

وحاصله أن دفع عين ما وجب في زكاة الفطر، أو زكاة المال هو المتعيّن، فإن لم يتيسّر جازت القيمة؛ لقول الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية [البقرة: 286]، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الآية [التغابن: 16]،

(1)

راجع: "السيل الجرّار" 2/ 86.

ص: 131

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء، فائتوا منه ما استطعتم

" الحديث متفق عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2285]

(

) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكبِيرٍ، حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ، مِنْ ثَلَاَثةِ أَصْنَافٍ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ كَذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَةُ، فَرَأَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ، تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: هذا الإسناد مما انتقده الدارقطنيّ على مسلم، فقال: خالف سعيد بن مسلمة معمراً فيه، فرواه عن إسماعيل بن أميّة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، عن عياض، قال الدارقطنيّ: والحديث محفوظ عن الحارث. انتهى.

وقد أجاب النوويّ، فقال: هذا الاستدراك ليس بلازم، فإن إسماعيل بن أميّة صحيح السماع، عن عياض. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما أجاب به النوويّ حسنٌ، ولا سيّما أن المخالف لمعمر، وهو سعيد بن مسلمة ضعفه الأئمة، فقد قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاريّ: منكر الحديث، فيه نظر، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال الدارقطنيّ: ضعيف يُعتبر به، وقال ابن حبان: فاحش الخطأ، منكر

ص: 132

الحديث جدًّا، وقال الساجيّ: صدوق منكر الحديث

(1)

.

فمخالفة من هذه حاله للإمام الحجة الثبت معمر بن راشد غير مقبولة، فالحقّ أن رواية معمر صحيحة، على أنه لا مانع من أن يكون الطريقان صحيحتين، فيُحمل على أن إسماعيل بن أميّة حدّث به عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن عياض، ثم سمعه من عياض نفسه، فحدّث بالوجهين

(2)

.

والحاصل أن رواية مسلم من طريق معمر هذه صحيحة بلا شكّ، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقوله: (حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَةُ)"كان" هنا تامّة؛ أي: حتى جاء وقت خلافته، ويَحْتَمِل أن تكون ناقصةً، ويُقدّر خبرها؛ أي: حتى كان معاوية خليفةً، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2286]

(

) - (وَحَدَّثَنى مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَابٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، مِنْ ثَلَاَثةِ أَصْنَافٍ: الْأَقِطِ، وَا لتَّمْرِ، وَالشَّعِيرِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(الْحَارِث بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ) هو: الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن أبي ذُباب الدوسيّ المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [5](ت 146)(عخ م مد ت س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 54/ 1529.

(1)

"تهذيب التهذيب" 2/ 43.

(2)

راجع: ما كتبه الشيخ ربيع بن هادي في دراسته "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ"(ص 190 - 194).

ص: 133

والباقون ذُكروا قبله، والحديث تقدّم شرحه، وبيان ما يتعلّق به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2287]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ مُعَاوَيةَ لَمَّا جَعَلَ نِصْفَ الصَّاعِ مِنَ الْحِنْطَةِ عَدْلَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ، وَقَالَ: لَا أُخْرِجُ فِيهَا إِلَّا الَّذِي كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.

2 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد القرشيّ، مولى فاطمة بنت الوليد، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ [5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

والحديث سبق تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ الأَمْرِ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2288]

(986) - (حَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ").

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 134

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زهير بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

2 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأزدي مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وأبي خيثمة، فبغداديّ، نزيل الجزيرة.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، وتقدّم الكلام في ابن عمر رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، أَنْ تُؤَدَّى)"أن" بالفتح مصدريّة، والمصدر المؤوّل بدل من "زكاةِ الفطر"؛ أي: بأدائها (قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ للشافعيّ والجمهور في أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد، وأن الأفضل إخراجها قبل الخروج إلى المصلّى. انتهى. وسيأتي تحقيق الخلاف في المسألتين الآتيتين -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2288 و 2289](986)، و (البخاريّ) في

ص: 135

"الزكاة"(1509)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1610)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(677)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 54)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 151 و 154 و 157)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2421 و 2422 و 2423)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(93/ 8 و 96)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 139 و 152 و 153)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 174) و"المعرفة"(3/ 333)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 64 - 65)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في وقت وجوبها:

قال الإمام ابن قُدامة رحمه الله: فأما وقت وجوبها، فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان، فمن تزوّج، أو مَلَك عبدًا، أو وُلِد له ولدٌ، أو أسلم قبل غروب الشمس، فعليه الفطرة، وإن كان بعد الغروب، لم تلزمه، ولو كان حين الوجوب معسرًا، ثمّ أيسر في ليلته تلك، أو في يومه، لم يجب عليه شيء، ولو كان في وقت الوجوب موسرًا، ثمّ أعسر، لم تسقط عنه؛ اعتبارًا بحالة الوجوب، ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر، فعليه صدقة الفطر، نصّ عليه أحمد.

وبما ذكرنا في وقت الوجوب قال الثوريّ، وإسحاق، ومالكٌ، في إحدى الروايتين عنه، والشافعيّ في أحد قوليه

(1)

.

واحتجّ هؤلاء بما أخرجه أبو داود من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث

" الحديث، وهو حديث حسن.

قالوا: لأنها أضيفت إلى الفطر، فكانت واجبة به، كزكاة المال، وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص، والسبب أخصّ بحكمه من غيره.

ووجه ذلك أن الفطر من صوم رمضان، والخروج عنه جملةً يكون بغروب شمس آخر يوم من رمضان.

وقال الليث، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: تجب بطلوع الفجر يوم العيد، وهو رواية عن مالك؛ لأنها قربة تتعلّق بالعيد، فلم يتقدّم وقتها يوم العيد،

(1)

"المغني" 4/ 298 - 299.

ص: 136

كالأضحيّة، ولأن هذا وقت الفطر، لا ما قبله؛ لأنه في كلّ ليلة كان يفطر كذلك، ثم يصبح صائمًا، فإنما أفطر من صومه جملةً صبيحةَ يوم الفطر.

وقال ابن حزم: وقت زكاة الفطر الذي لا تجب قبله، وإنما تجب بدخوله، ثم لا تجب بخروجه، فهو إثر طلوع الفجر الثاني، من يوم الفطر ممتدًّا إلى أن تبيضّ الشمس، وتحلّ الصلاة من ذلك اليوم نفسه، ثم استدلّ بحديث الباب، وقال: فهذا وقت أدائها بالنصّ، ثم ذكر في وقت الوجوب مثل المذهب الثاني.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن المذهب الأول هو الأرجح؛ لأنه أقرب إلى المعنى؛ لأن الصدقة مضافة إلى الفطر من رمضان، كما تقدّم، والفطر من رمضان يتحقّق بانسلاخ آخر يوم منه وذلك بغروب شمسه، فليلة العيد ليست منه، بل هي تابعة لما بعدها وهو يوم العيد، وهي وقت الفطر من رمضان، وأولها من غروب الشمس، فيتعلّق الوجوب به، وهذا ظاهر لمن تامّل بإنصاف، فالحقّ أن الوجوب يتعلّق بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فمن كان من أهل وجوب الفطر حينئذ لزمته، ومن لا فلا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز تأخيرها عن وقتها:

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز تأخير إخراجها عن يوم الفطر، وبه قال الشافعيّة، والحنفيّة، والمالكيّة، وهو المشهور عند الحنابلة. قاله وليّ الدين.

وقال ابن قدامة: المستحبّ إخراجها يوم الفطر قبل الصلاة؛ لحديث الباب، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعًا:"من أدّاها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات"، رواه أبو داود، وتقدّم أنه حديث حسنٌ.

قال: فإن أخّرها عن الصلاة ترك الأفضل؛ لما ذكرنا من السنّة، ولأن المقصود منها الإغناء عن الطواف والطلب في هذا اليوم، فمتى أخّرها لم يحصل إغناؤهم في جميعه، لا سيما وقت الصلاة، ومال إلى هذا القول عطاءٌ، ومالك، وموسى بن وَرْدَان، وإسحاق، وأصحاب الرأي، قال: فإن أخّرها عن يوم العيد أثم، ولزمه القضاء.

ص: 137

وحَكَى ابن المنذر عن ابن سيرين، والنخعيّ أنهما كانا يرخّصان في تأخيرها عن يوم الفطر، قال: وقال أحمد: أرجو أن لا يكون بذلك بأس

(1)

.

وذكر ابن قُدامة أن محمد بن يحيى الكحّال قال: قلت لأبي عبد الله: فإن أخرج الزكاة، ولم يعطها، قال: نعم؛ إذا أعدّها لقوم، قال ابن قُدامة: واتباع السنّة أولى. انتهى

(2)

.

ومما استُدلّ به على أنه لا يجوز تأخير إخراجها عن يوم العيد ما رواه البيهقيّ في "سننه"(4/ 175) من طريق أبي معشر السِّنْدِيّ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"أغنوهم عن طواف هذا اليوم"، وفيه أبو معشر نَجِيح السِّنْديّ المدينيّ، ضعيف.

وقال ابن حزم رحمه الله: إذا تمّ الخروج إلى صلاة الفطر بدخول وقت دخولهم في الصلاة، فقد خرج وقتها، فمن لم يؤدّها حتى خرج وقتها، فقد وجبت في ذمّته وماله لمن هي له، فهي دين لهم، وحقّ من حقوقهم، قد وجب إخراجها من ماله، وحَرُم عليه إمساكها في ماله، فوجب عليه أداؤها أبدًا، فإذا أداها سقط بذلك حقهم، ويبقى حقّ الله تعالى في تضييعه الوقت، لا يَقدِر على جبره إلا بالاستغفار، والندامة. انتهى كلامه رحمه الله بتصرّف

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله في هذه المسألة أرجح المذاهب؛ لحديث الباب، حيث أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُؤَدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وقد قال الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، ولا يتوعّد الله سبحانه وتعالى بمثل هذا التوعّد إلا على ترك واجب، فثبت بذلك وجوب أدائها قبل الصلاة، فإذا وجب حَرُمَ تأخيرها، ويؤيّد ذلك الحديثُ المتقدّمُ:"من أدّاها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، وهو حديث حسن.

والحاصل أنه لا يجوز تأخيرها عن الصلاة؛ لما ذكر، ولكن لا تسقط

(1)

"طرح التثريب" 4/ 64.

(2)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 64.

(3)

راجع: "المحلّى" 6/ 143.

ص: 138

بالتأخير، بل تكون دينًا عليه يجب أداؤها أبدًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في جواز تقديمها عن وقتها:

ذهب الجمهور إلى أنه يجوز تقديم إخراج صدقة الفطر قبل ليلة الفطر، ثم اختلفوا في مقدار التقديم.

فاشتهر عن الحنفيّة جواز تعجيلها من أول الحول، وعندهم في ذلك خلافٌ، فحَكَى الطحاويّ عن أصحابهم جواز تعجيلها من غير تفصيل، وذكر أبو الحسن الكرخيّ جوازها يومًا أو يومين، وروى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة أنه يجوز تعجيلها سنة، وسنتين، وروى هشام عن الحسن بن زياد أنه لا يجوز تعجيلها.

وعند المالكية في تقديمها بيوم إلى ثلاثة قولان.

وقال الشافعيّة: يجوز من أول شهر رمضان؛ لأنها حقّ ماليّ وجب بسببين، وهما رمضان، والفطر منه، فيجوز تقديمها على أحدهما، وهو الفطر، ولا يجوز تقديمها عليهما.

وعنهم وجهان آخران: أحدهما: يجوز إخراجها بعد طلوع الفجر الأول من رمضان، وبعده إلى آخر الشهر، ولا يجوز في الليلة الأولى؛ لأنه لم يَشرَع بعدُ في الصوم. والثاني: أنه يجوز في جميع السنة، حكاهما النوويّ في "شرح المهذّب".

وذهب أكثر الحنابلة إلى أنه لا يجوز تقديمها بأكثر من يومين، وقال بعض الحنابلة يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر، كما يجوز تعجيل أذان الفجر، والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل.

وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلًا، ذكر هذا كلّه الحافظ وليّ الدين رحمه الله، ونقلته بتصرّف

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح قول من قال بجواز تقديمها يومًا، أو يومين، ولا بأس بثلاثة أيام؛ لما أخرجه البخاريّ في

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 64 - 65.

ص: 139

"صحيحه" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"وكانوا يُعطون قبل الفطر بيوم، أو يومين". وأخرج ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق عبد الوارث، عن أيوب، قلت:"متى كان ابن عمر يُعطي؟ قال: إذا قعد العامل، قلت: متى يقعد العامل؟ قال: قبل الفطر بيوم، أو يومين"، ولمالك في "الموطأ" عن نافع: أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي يُجمَع عنده قبل الفطر بيومين، أو ثلاث، وأخرجه الشافعيّ، عنه، وقال: هذا حسن، وأنا أستحبّه -يعني: تعجيلها قبل يوم الفطر- انتهى

(1)

.

فقوله: "وكانوا يعطون" دليل على أن هذا عمل الصحابة جميعًا؛ لما تقرّر في علمي الحديث، والأصول، أن قول الصحابيّ: كنا نفعل كذا وكذا حكمه الرفع، وإن لم يقيّد بعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم على المرجح المختار، قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الحديث"، حيث قال:

وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ

نَحْوُ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ صَحَابِي

كَذَا أُمِرْنَا وَكَذا كُنَّا نَرَى

فِي عَهْدِهِ أَوْ عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى

ثَالِثُهَا إِنْ كَانَ لَا يَخْفَى وَفِي

تَصْرِيحِهِ بِعِلْمِهِ الْخُلْفُ نُفِي

ويدلّ على ذلك أيضًا -كما قال الحافظ- ما أخرجه البخاريّ في "كتاب الوكالة"، وغيره، من "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "وكّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان

" الحديث، وفيه أنه أمسك الشيطان ثلاث ليالي، وهو يأخذ من التمر، فإنه يدلّ على أنهم كانوا يعجّلونها، وعكس الجوزقيّ، فاستدلّ به على جواز تأخيرها عن يوم الفطر، قال الحافظ: وهو محتملٌ للأمرين. انتهى

(2)

.

والحاصل أن الحقّ هو جواز تقديمها على يوم العيد بيوم، أو يومين، كما صحّ ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، مع أن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريره لهم، وهذا هو الدليل الصحيح الواضح، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور، فدلالته على مسألتنا محلّ نظر، فليتأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 150.

(2)

المصدر المذكور.

ص: 140

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2289]

(

) - (حَدَّثنا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، أَنْ تُؤَدَّى قَبْلُ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ")

(2)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، و"ابن أبي فُديك" هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك، و"الضحّاك" هو: ابن عثمان بن عبد الله بن خالد الحزاميّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابُ بَيَانِ إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2290]

(987) - (وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، يَعْنِي ابْنَ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيَّ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذهَبٍ، وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفَحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ، وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ

(3)

أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْإِبِلُ؟ قَالَ: "وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "إلى المصلّى".

(3)

وفي نسخة: "كلما رُدّت".

ص: 141

قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَعَضُّهُ بأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: "وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ، وَلَا غَنَمِ، لَا يُؤَدي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلَا جَلْحَاءُ، وَلَا عَضْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْخَيْلُ؟ قَالَ: "الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، فَأَمَّا الَّتي هِيَ لَهُ وِزْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِياءً، وَفَخْرًا، وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي ظُهُورِهَا، وَلَا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ

(1)

، فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ، وَلَا تَقْطَعُ طِوَلَهَا، فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ، وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ، فَشَرِبَتْ مِنْهُ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْحُمُرُ؟ قَالَ: "مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ، إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8] ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحَدَثانيّ، هرويّ الأصل، أبو محمد، صدوقٌ في

(1)

وفي نسخة: "أو روضة".

ص: 142

نفسه، إلا أنه عَمِيَ، فصار يتلقّن، من قُدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيُّ) نزيل عَسْقلان، أبو عمر، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8](181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

3 -

(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو صَالِحٍ ذَكْوَانَ) السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى سُويد، فحدثانيّ، وحفص، فعسقلانيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه، رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويّ مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أَنَّ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ) السمّان الزيّات (أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا" نافية (مِنْ) زائدة (صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا) قال التوربشتيّ رحمه الله: ذَكَرَ جنسين من المال، ثم قال:"لا يؤَدّي منهَا حَقَّهَا"؛ ذهابًا إلى أن الضمير إلى معنى الذهب والفضّة دون لفظهما؛ لأن كلّ واحد منهما جملة وافية، ودنانير ودراهم، ويَحْتَمِل أن يراد بها الأموال، ويَحْتَمِل أنه أراد بها الفضّة، واكتفى بذكر أحدهما، كقول الشاعر [من الطويل]:

وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ

فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بهَا لَغَرِيبُ

وبمثله ورد التنزيل، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 34].

أو لكون الفضّة أكثر انتفاعًا في المعاملات من الذهب، وأشهر في أثمان

ص: 143

الأجناس، ولذا اكتفى بها في قوله صلى الله عليه وسلم:"وليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة". انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يؤدّي حقها" كذا صحّت الرواية بـ "ها" التأنيث المفردة، وظاهره أنه عائد على الفضّة، فإنه أقرب مذكور، وهي مؤنّثة، ومثل هذا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 34]، وقد حُمل هذا على الاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر، كما في قول الشاعر:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا

عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِ

وقيل: أعاد على معنى الكلمات المتقدّمة، وكأنه قال: لا يؤدّي من تلك الأمور المذكورات حقّها، وأشبه من هذه الأوجه أن يقال: إن الذهب والفضّة يقال لهما عين لغةً، فاعاد عليها الضمير، وهي مؤنّثةٌ.

قال: وهذا الحديث يدلّ على أن الذهب والبقر فيهما الزكاة، وإن لم يجئ ذكرهما في حديث جابر رضي الله عنه المتقدّم، ولا في كتاب أبي بكر رضي الله عنه في الصدقة، على ما ذكره البخاريّ، ولا خلاف في وجوب الزكاة فيهما، وإن اختلفوا في نصاب البقر. انتهى

(2)

.

(إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) استثناء من عموم الأحوال (صُفِّحَتْ) بتشديد الفاء مبنيًّا للمفعول؛ أي: جعلت الفضّة ونحوها (لَهُ) أي: لصاحبها (صَفَائِحَ) جمع صَفِيحَة، وهي ما يُطبع مما يتطرّق، كالحديد والنحاس، ورُوي مرفوعًا على أنه نائب فاعل و"صُفّحت"، ومنصوبًا على أنه مفعول ثانٍ لها، وفي الفعل ضمير الذهب والفضّة، وأنّث إما بالتأويل السابق، وإما على التطبيق بينه وبين المفعول الثاني الذي هو "صفائح".

وقوله: (مِنْ نَارٍ) يعني: أنه إذا لم يؤدّ صاحب الذهب والفضّة حفها يُجعل له صفائح من نار، أو جُعلت الذهب والفضّة صفائح من نار، وكأنه تنقلب صفائح الذهب والفضّة لفرط إحمائها، وشدّة حرارتها صفائح النار،

(1)

راجع: "المرقاة" 4/ 261، و"المرعاة" 6/ 8 - 9.

(2)

"المفهم" 3/ 24 - 25.

ص: 144

فيكوى بها جبينه

إلخ، وهذا التأويل يوافق ما في التنزيل حيث قال تعالى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا} الآية [التوبة: 35]، فجعل عين الذهب والفضّة هي المحمى عليها في نار جهنم، قاله الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

(فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ) ببناء الفعل للمفعول، و"عليها" نائب فاعله؛ أي: أوقد عليها نار ذات حمى وحرّ شديد، من قوله:{نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 11]، ففيه مبالغة في "أحميت في نار"، قاله الطيبيّ، والضمير في "عليها" للفضّة، فالفاء تفسيريّةٌ، وقيل: الضمير إلى الصفائح الناريّة؛ أي: تُحمى مرّة ثانيةً في نار جهنّم؛ ليشتدّ حرّها، فالفاء تعقيبيّة.

(فَيُكْوَى بِهَا) أي: بتلك الفضّة، أو بتلك الصفائح (جَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ، وَظَهْرُهُ) قيل: إنما خُصّت هذه المواضع بالكيّ دون غيرها من أعضائه؛ لتقطيبة وجهه في وجه السائل، وازْوِرَاره عنه بجانبه، وانصرافه عنه بظهره، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "المرعاة": قيل: خصّ هذه الأعضاء بالذكر من بين سائر الأعضاء؛ لأنها مجوّفة، فتُسرع الحرارة إليها، أو لأن الكيّ في الوجه أبشع وأشهر، وفي الظهر والجنب أوجع وآلم، وقيل: لأن جمعهم وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى، والتنعّم بالمطاعم الشهيّة، والملابس البهيّة، وقيل: لأن السائل متى تعرّض للطلب من البخيل أول ما يبدو منه من آثار الكراهية والمنع أنه يُقَطِّبُ في وجهه، ويتكلّح، ويجمع أساريره، فيتجعّد جبينه، ثم إن كرّر الطلب ناء بجانبه عنه، ومال عن جهته، وتركه جانبًا، فإن استمرّ الطلب ولّاه ظهره، واستَقْبَلَ جهةً أخرى، وهي النهاية في الردّ، والغاية في المنع الدالّة على كراهيته للعطاء والبذل، وهذا دأب مانعي البرّ والإحسالى، وعادة البخلاء بالرفد والعطاء، فلذلك خصّ هذه الأعضاء بالكيّ، قاله الجزريّ في "جامع الأصول"

(3)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1470 - 1471.

(2)

"المفهم" 3/ 25.

(3)

راجع: "المرعاة شرح المشكاة" 6/ 9.

ص: 145

وقال الطيبيّ رحمه الله: خصّ هذه الأعضاء -أعني الجنب، والجبين، والظهر- لأنه جمع المال، وأمسكه، ولم يصرفه في مصارفه؛ لِيَحْصُلَ به وجاهةٌ عند الناس، وترفّهٌ، وتنعّمٌ في المطاعم والملابس، فيحوي جنبه وظهره المأكولات الهنيّة اللذيذة، فينتفخ، ويقوى منها، وتحويها الثياب الفاخرة، والملابس الناعمة، فيلتذّ جنباه بها، أو لأنه ازْوَرّ عن الفقير في المجلس، وأعرض عنه، وولَّى ظهره، أو لكونها أشرف الأعضاء الظاهرة؛ لاشتمالها على الأعضاء الرئيسيّة التي هي الدماغ، والقلب، والكبد.

وقيل: المراد بها الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن، ومآخِره، وجنبتاه. انتهى

(1)

.

(كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا رواية السجزيّ، ولكافّة الرواة كلها "رُدّت"، والأول هو الصواب، فتأمّله، فإنه المناسب للمعنى. انتهى

(2)

.

فيكون المعنى على هذا: كلما بردت تلك الصفائح رُدّت إلى نار جهنّم ليُحمى عليها، ويكون على الثاني: كلما رُدّت تلك الصفائح من بدنه إلى النار، أعيد إليه أشدّ ما كانت، والمراد منه استمرار التعذيب، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ: "بَرَدَت" بالباء، وفي بعضها:"رُدّت" بحذف الباء، وبضمّ الراء، وذكر القاضي عياض الروايتين، وقال: الأولى هي الصواب، قال: والثانية رواية الجمهور. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: معناه: دوام التعذيب، واستمرار شدّة الحرارة في تلك الصفائح استمرارَها في حديدة مُحماة تُرَدّ إلى الكِير، وتُخرج منها ساعةً، فساعة. انتهى

(4)

.

وقال ابن الملك: يعني: إذا وصل كيّ هذه الأعضاء إلى آخرها أعيد الكيّ إلى أولها حتى وصل إلى آخرها. انتهى.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1471.

(2)

"المفهم" 3/ 25.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 64.

(4)

"الكاشف" 5/ 1471.

ص: 146

وقال القاري: ويَحْتَمِل أن يكون الضمير في "رُدّت" للأعضاء؛ أي: كلما رُدّت الأعضاء بالتبديل بعد الإحراق، والقرب من الإفناء أعيدت الصفائح عليها، فيكون موافقًا لقوله عز وجل:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} الآية [النساء: 56]. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَهُ) أي: لمانع الزكاة، وهو متعلّقٌ بـ "أُعيدت".

(فِي يَوْمٍ) هو يوم القيامة (كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) هذا المقدار على الكافرين، ويطول على بقيّة العاصين بقدر ذنوبهم، وأما المؤمنون فهو على بعضهم كركعتي الفجر

(2)

، وإليه أشار بقوله عز وجل:{يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدّثّر: 9، 10]، قاله القاري رحمه الله.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قيل: معناه: لو حاسب غير الله عز وجل، وقيل: قدر مواقفهم للحساب، وقيل: يوم القيامة فيه خمسون موطنًا، كل موطن ألف سنة.

قال الجامع عفا الله عنه: الأقرب أن طول ذلك اليوم مقدار خمسين ألف سنة من سنيّ الدنيا، كما هو ظاهر النصّ، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(1)

"المرقاة" 4/ 262.

(2)

هكذا ذكر في "المرقاة"(4/ 262)، ولم يَعْزُه إلى من خرّجه حتى يُنظر في إسناده.

وأخرج الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في "تفسيره"(29/ 72)، فقال:

حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن دَرّاجًا حدّثه عن أبي الهيثم، عن سعيد، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ما أطول هذا؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنه ليُخَفَّف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا".

وهذا الإسناد ضعيف؛ لأن درّاج بن سمعان، أبا السمح، وإن كان صدوقًا، إلا أن حديثه عن أبي الهيثم ضعيف، فتنبّه.

وقال الهيثميّ رحمة الله في"مجمع الزوائد"(10/ 337): رواه أحمد، وأبو يعلى، وإسناده حسنٌ على ضعف في راويه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا غريب من الهيثميّ رحمه الله، فإن في سند أحمد ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، فكيف يُحسّنه؟، فتنبّه.

ص: 147

(حَتَّى يُقْضَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يُحكَم، ويُفرغ من حساب الناس (بَيْنَ الْعِبَادِ) قال القاري رحمه الله: وفيه إشارة إلى أنه في العذاب، وبقيّة الخلق في الحساب، ولذا قيل: الدنيا حلالها حساب، وحرامها عقاب

(1)

. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": يمكن أن يؤخذ منه أن مانع الزكاة آخر من يُقضَى فيه، وأنه يُعذّب بما ذُكر حتى يُفرغ من القضاء بين الناس، فيُقضى فيه بالنار، أو الجنّة.

ويحتمل أن المراد حتى يُشرع في القضاء بين الناس، ويجيء القضاء فيه، إما في أولهم، أو وسطهم، أو آخرهم على ما يريد الله، وهذا أظهر. انتهى.

قال ولده وليّ الدين رحمه الله: قد يشير إلى الأول قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، ويقال: إنما ذُكر في معرض استيعاب ذلك اليوم بتعذيبه؛ لجواز أن يكون القضاء فيه آخر الناس، وإن احْتَمَل أن يكون فصل أمره في وسطه، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(فَيُرَى) بالبناء للمفعول، من الرؤية، أو من الإراءة، وقوله:(سَبِيلَهُ) مرفوع على الأول على أنه نائب الفاعل، ومنصوب على أنه مفعول ثان على الثاني، والنائب عن الفاعل ضمير صاحب المال، وروي بالبناء للفاعل من الرؤية؛ أي: يَرَى هو سبيله، فـ"سبيله" منصوب على المفعوليّة.

وقال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بضمّ الياء وفتحها، وبرفع لام "سبيلُهُ " ونصبها. انتهى

(4)

.

وفيه إشارة إلى أنه مسلوب الاختيار يومئذ مقهور، لا يقدر أن يروح إلى النار فضلاً عن الجنّة حتى يُعيّن له أحد السبيلين

(5)

.

(1)

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "المغني عن حمل الأسفار"(2/ 883):

حديث: "حلالها حساب، وحرامها عذاب"، رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في "الشعب" من طريقه، موقوفًا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإسناد منقطع، بلفظ:"وحزامها النار"، ولم أجده مرفوعًا. انتهى كلامه رحمه الله.

(2)

"المرقاة" 4/ 262.

(3)

"طرح التثريب" 4/ 10.

(4)

"شرح النووي" 7/ 65.

(5)

"المرقاة" 4/ 262.

ص: 148

(إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) أي: إن لم يكن له ذنب سواه، وكان العذاب تكفيرًا له (وَإِمَّا إِلَى النَّارِ") إن كان على خلاف ذلك.

قال القاري رحمه الله: وفيه ردّ على من يقول: إن آية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية [التوبة: 34] مختصّة بأهل الكتاب، ويؤيّده القاعدة الأصوليّة: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع أنه لا دلالة في الحديث على خلوده في النار، قال: وبهذا يُعلم ضعف قول ابن حجر -يعني: الْهَيتميّ- أيضًا: "إما إلى الجنة" إن كان مؤمنًا بأن لم يستحلّ ترك الزكاة، "وإما إلى النار" إن كان كافرًا بأن استَحَلّ تركها. انتهى كلام القاري

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله ابن حجر الهيتميّ رحمه الله ليس ببعيد، بل هو محتمل في معنى الحديث، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالابِلُ؟) الفاء متصلة بمحذوف؛ أي: عرفنا حكم الذهب والفضّة، فما حكم الإبل؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ) بالجرّ عطفًا على "صاحب ذهب"، فيكون من باب العطف التلقينيّ، أو بالرفع على أنه فاعل لمقدّر؛ أي: ولا يوجد صاحب إبل، وقوله:(لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقِّهَا) في محلّ جرّ صفة لـ"إبل"؛ أي: لا يعطي صاحب الإبل منها حقّها؛ أي: ما يجب عليه فيها للفقراء، من الزكاة، أوأعمّ من ذلك (وَمِنْ حَقِّهَا) أي: المندوب على ما قاله الجمهور، أو الواجب على ما قاله بعضهم، وهو الحقّ على ما يأتي بيانه، قال الطيبيّ رحمه الله: و"من" للتبعيض؛ أي: بعض حقّها حلبها، وحقّها الأول أعمّ من الثاني، وذكر الثاني للاستطراد، والوعيد مرتّب على الأول، ويَحْتَمِلُ أن يكون التعذيب عليهما معًا تغليظًا. انتهى

(2)

. (حَلَبُهَا) بفتح اللام على اللغة المشهورة، وحُكي إسكانها، وهو غريب ضعيف، وإن كان هو القياس، قاله النوويّ

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ رحمه الله: غريبٌ ضعيفٌ، ولا أدري من أين أخذه، فإن كتب اللغة أثبتته، ولم تشر إلى ضعفه، قال في

(1)

"المرقاة" 4/ 262 - 263.

(2)

"الكاشف" 4/ 1472.

(3)

شرح مسلم 7/ 67.

ص: 149

"المصباح": حَلَبْتُ الناقةَ وغيرها حَلْبًا، من باب قَتَلَ، والْحَلَبُ بفتحتين يُطلَقُ على المصدر أيضًا، وعلى اللبن المحلوب، فيقال: لبنٌ، وحليبٌ، ومحلوبٌ. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": الْحَلْب -أي: بسكون اللام- ويُحَرَّكُ: استخراج ما في الضرع من اللبن، كالْحِلاب بالكسر، والاحتلاب، يَحْلُب، ويَحْلِبُ - أي: من بابى نصر وضرب- والمِحْلَبُ والحِلاب بكسرهما: إناءٌ يُحلب فيه، وقال أيضًا: والْحَلَبُ مُحرّكةً، والحليب: اللبن المحلوب، أو الحليب ما لم يتغيّر طعمه. انتهى

(2)

.

فقد تبيّن بما قاله في "المصباح"، و"القاموس" أن الحلْب بسكون اللام مصدر قياسيّ مستعمل، فدعوى كونه ضعيفًا غير مقبول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(يَوْمَ وِرْدِهَا) -بكسر الواو- أي: إتيانها إلى الماء، أو نوبة الإتيان إلى الماء، فإن الإبل تأتي الماء في كلّ ثلاثة أيام، أو أربعة، وربما تأتي في ثمانية.

وفي حديث جابر الآتي: "حَلَبها على الماء"؛ أي: في محلّ سقيها الماء.

وإنما خصّ الْحَلْبَ بموضع الماء ليكون أسهل على المحتاجين من قصد المنازل، وأرفق بالماشية، قاله في "الفتح"، ولأنه حالة كثرة لبنها؛ ولأن الفقراء يحضرون هناك لذلك.

وفي هذا دليل لمن يرى في المال حقوقاً غير الزكاة، قاله في "طرح التثريب".

وقال الطيبيّ: معناه أن يُسقى ألبانها المارّة، ومن ينتاب المياه من أبناء السبيل، وقيل: أمر أن يحلبها صاحبها عند الماء ليصيب ذوو الحاجة منه، وهذا مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجذاذ بالليل، أراد أن يُصرَمَ بالنهار ليحضره الفقراء. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير"1/ 145.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 57.

(3)

"الكاشف" 4/ 1472.

ص: 150

وقال ابن بطّال: يريد حقّ الكَرَم، والمواساة، وشريفِ الأخلاق، لا أن ذلك فرضٌ، قال: وكانت عادة العرب التصدّق باللبن على الماء، فكان الضعفاء يرصدون ذلك منهم، قال: والحقّ حقّان: فرض عين، وغيره، فالحلب من الحقوق التي هي من مكارم الأخلاق.

وقال إسماعيل القاضي: الحقّ المفترض هو الموصوف المحدّد، وقد تحدث أمورٌ لا تُحدّ، فتجب فيها المواساة للضرورة التي تنزل، من ضعيف مضطرّ، أو جائع، أو عار، أو ميت ليس له من يُواريه، فيجب حينئذ على من يمكنه المواساة التي تزول بها الضرورات.

وقال ابن التين: وقيل: كان هذا قبل فرض الزكاة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر الحديث يردّ قولَ من قال: إنه من مكارم الأخلاق، وليس من الواجب، وقول من قال بالنسخ، ويدلّ دلالة واضحة لمن يَرَى في المال حقًّا سوى الزكاة على ما سنبيّنه، وهو مذهب غير واحد من التابعين، وهو الحقّ، وسيأتي تحقيق الخلاف في هذا، في المسائل -إن شاء الله تعالى-.

[تنبيه]: قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: الظاهر أن قوله: "ومن حقها حلبها يوم وردها" مدرج من قول أبي هريرة، قال: وكأن أبا داود أشار إلى ذلك في "سننه" من غير تصريح، فإنه لما ذكر هذه الزيادة رَوَى بعدها من حديث أبي عُمَر الغدانيّ، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذه القصّة، فقال له -يعني: لأبي هريرة-: فما حقّ الإبل؟، قال: تُعطي الكريمة، وتَمنَح الغزيرة، وتُفقر الظهر، وتُطرِق الفحل، وتَسقي اللبن، قال: ففي هذه الرواية أن هذا من قول أبي هريرة رضي الله عنه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الإدراج المذكور عندي محلّ نظر، فإن البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، روى الزيادة فقط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقال في "كتاب المساقاة" من "صحيحه":

(2378)

- حدّثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا محمد بن فُلَيح، قال: حدّثني أبي، عن هلال بن عليّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من حق الإبل، أن تُحْلَب على الماء".

ص: 151

وزاد أبو نعيم في "مستخرجه"، والبرقانيّ في "المصافحة" من طريق المعافى بن سُليمان، عن فُليح:"يوم وُرُودها"، قاله في "الفتح"

(1)

.

فهذا صريح في رفع هذا الكلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بحيث لا يَحْتَمِلُ الإدراج.

والحاصل أن ادّعاء الإدراج لهذه الزيادة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مما لا يخفى بُعده، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

(إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) استثناء مفرّغٌ من عموم الأحوال، و"كان" تامّة، بمعنى جاء ووقع (بُطِحَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أُلقي صاحب الإبل على وجهه.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "بُطِحَ" قال جماعة: معناه أُلقي على وجهه، قال القاضي: قد جاء في رواية البخاريّ: "تَخبِط وجهه بأخفافها". قال: وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البَطْح كونه على الوجه، وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمدّ، فقد يكون على وجهه، وقد يكون على ظهره، ومنه سمّيت بطحاء مكة؛ لانبساطها. انتهى

(2)

.

(لَهَا) أي: لتلك الإبل، وهو متعلّقٌ بـ "بُطِحَ"، قال التوربشتيّ رحمه الله: ووقع في بعض نسخ "المشكاة" بلفظ "له" بالتذكير، وهو خطأٌ رواية ودرايةً؛ لأن الضمير المرفوع في الفعل لصاحب الإبل، والمجرور للإبل؛ ليستقيم؛ لأن المبطوح المالك، لا الإبل. انتهى.

وتعقّبه الطيبيّ، فقال: أما التمسّك بالرواية فمستقيم، وأما بالمعنى فلا، لم لا يجوز أن يذكّر الضمير لإرادة الجنس، أو للتأويل بالمذكور، على أنه يجوز أن يرجع الضمير لصاحب الإبل، ويكون الجارّ والمجرور قائمًا مقام الفاعل، كما في قوله تعالى:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]. انتهى

(3)

.

(بِقَاعِ قَرْقَرٍ)"القاع": المستوي الواسع من الأرض، يعلوه ماء السماء، فيمسكه، قَال الَهرويّ: وجمعه قِيَعَة، وقِيعان، مثل جار، وجِيَرَة، وجِيران، و"القرقر" -بفتح القافين-: المستوي أيضًا من الأرض الواسعُ، قاله النوويّ،

(1)

"الفتح" 6/ 186 "كتاب المساقاة" رقم (2378).

(2)

"شرح مسلم" 7/ 67 - 68.

(3)

راجع: "المرقاة" 4/ 263 - 264.

ص: 152

وقال في "النهاية": القاع المكان المستوي من الأرض الواسع، والقَرْقَرُ: الأملس. انتهى. فيكون ذكر القرقر بعد القاع تأكيدًا.

(أَوْفَرَ مَا كَانَتْ) أي: أكثر عددًا، وأعظم سِمَنًا، وأقوى قُوّةً، قال في "شرح السنّة": يريد كمال حال الإبل التي تطأ صاحبها في القوّة والسِّمَن؛ ليكون أثقل لوطئها، قال الطيبيّ:"أوفر" مضاف إلى "ما" المصدرية، والوقتُ مقدَّر، وهو منصوب على الحال من المجرور في "لها"، إن كان الضمير المجرور للإبل، وجُوِّز وقوعه حالًا، ولا يمنعها إضافته إلى المعرفة؛ لأن الإضافة فيه غير محضة، بدليل قولهم: مررت برجل أفضلِ الناس، وإن كان لصاحب الإبل، فهو خبر مبتدأ محذوف على الاستئناف. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَا يَفْقِدُ) أيضًا، إما مترادفة إن كان صاحب الحال الضمير في "بُطِحَ"، أو متداخلة إن كان صاحب الحال الضمير المستتر في "كانت" التامّة الراجع إلى الإبل؛ لوجود الضمير في "منها؛ أي: لا يفقد الصاحب المذكور (مِنْهَا) أي: من تلك الإبل (فَصِيلًا) -بفتح الفاء، وكسر الصاد المهملة-: ولد الناقة، سُمّي بذلك؛ لأنه يُفصَل عن أمه، فهو فَعِيلٌ بمعنى مفعول، والجمع فِصْلان بضمّ الفاء وكسرها، وقد يُجمع على فِصَالٍ بالكسر، كأنهم توهّموا فيه الصفة، مثلُ كريم وكِرَامٍ، قاله في "المصباح"

(2)

.

وقوله: (وَاحِدًا) صفة مؤكّدة لـ"فَصِيلًا".

(تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا) أي: تضربه، وتدوسه الإبل بأرجلها، والجملة حال مترادفة، أو متداخلة على التقديرين؛ لوجود ضمير المذكّر والمؤنّث، ويجوز أن يكون استئنافًا بيانيًّا، كأنه لما قيل: بُطِحَ صاحب الإبل لإبله، حال كونها قويّةً تامّة مع جميع فصيلاتها، غير فاقدة منها شيئًا، اتّجَهَ السائل أن يقول: لم بُطِحَ لها؟، فأجيب لتطأه بأخفافها

إلخ، وعلى هذا حكم "كلما" في الحاليّة، والاستئنافيّة؛ أي: تطؤه دائمًا، قاله الطيبيّ رحمه الله

(3)

.

(وَتَعَضُّهُ) بفتح العين المهملة، يقال: عَضِضتُ اللُّقْمة، وبها، وعليها

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1472.

(2)

"المصباح المنير" جـ 2 ص 474.

(3)

"الكاشف" 4/ 1472.

ص: 153

عَضًّا: إذا أمسكتها بالأسنان، وهو من باب تَعِبَ في الأكثر، لكن المصدر ساكن، ومن باب نَفَعَ لغةٌ قليلةٌ، وفي "أفعال ابن القَطّاع": من باب قتل، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقال في "القاموس": عَضَضْته، وعليه، كسمِعَ، ومَنَعَ عَضًّا، وعَضِيضًا: أمسكته بأسناني، أو بلساني. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أثبت في "المصباح" و"القاموس" مجيء "عَضّ" من الباب الثالث، وهو فتح العين في الماضي والمضارع، وفيه نظرٌ؛ لأن شرط الباب الثالث غير موجود، وقد تعقّب محمد المرتضى شارح "القاموس" رحمه الله ذلك، ودونك عبارته: عَضَضْتُهُ مُتعدّيًا بنَفْسه، وعَضِضْتُ عَلَيْه مُتَعَدِّيًا بـ"عَلَى"، وكَذَا عَضضْتُ بِهِ مُتَعَدِّيًا بالبَاءِ، صَرَّح به الجَوْهَرِيُّ، والصّاغَانِيُّ، كسَمِعَ ومَنَعَ، قال شيخُنا: وَزْنُه بمَنَع وَهَمٌ؛ إِذِ الشَّرْطُ غَيْرُ مَوْجُودٍ كما في "القاموس"، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ. انتهى.

قُلْتُ

(3)

: الفَتْحُ نَقَلَه الجَوْهَرِيّ، ونَصُّه: ابنُ السِّكِّيت: عَضَضْتُ باللُّقْمَة فاَنَا أَعَضُّ، وقال أَبو عُبيْدٍ: عَضَضْتُ بالفَتْحِ لُغةٌ في الرِّبابِ، قال ابنُ بَرِّيّ: هذا تَصْحِيفٌ على ابنِ السِّكِّيتِ، والَّذِي ذَكَرَهُ ابن السِّكِّيت في "كِتاب الإِصلاح": غَصِصْتُ باللُّقْمَةِ، فأَنا أَغَصُّ بها غَصَصًا، قال أَبو عُبَيْدة: وغَصَصْتُ لُغَةٌ في الرِّباب، بالصَّاد المُهْمَلَة، لا بالضَّاد المُعْجَمَة.

قلتُ: وهكَذا وُجِدَ بخَطِّ أَبي زَكَريّا، وابْن الجَوَاليقيّ في "الإِصْلاح" لابْن السِّكّيت، في باب ما نُطِقَ به بفَعِلْتُ وفَعَلْتُ بالغين والصاد المُهْمَلَة على الصَّواب، وصَرَّحُوا بأَنَّ مَا في "الصّحاح" تَصْحيفٌ، وقد تَبِعَهُ المُصَنِّف

(4)

هُنَا، حَيْثُ وَزَنَهُ بمَنَع؛ إِشَارَة إلى قَوْل أَبي عُبَيْدَةَ المَذْكُور، من غَيْر تَنْبيهٍ عليه، وذَكَرَهُ أَيْضًا في الصَّاد على الصّواب، وقد وَقَعَ في هذَا الوَهَمِ أَيْضًا الصّاغَانيُّ في "العُبَاب"، حَيْثُ نَقَلَ قَوْلَ أَبي عُبَيْدَةَ السَّابقَ، وكأَنَّ المُصَنِّفَ حَذَا حَذْوَهُ على عَادَته، مع أَنَّه نَبَّهَ على تَوْهيمِ الجَوْهَريّ في كتَابه "التَّكْملَة"، فَقَالَ ما نَصُّه:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 414 - 415.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 337.

(3)

القائل الشارح المرتضى رحمه الله.

(4)

يعني: صاحب "القاموس".

ص: 154

وقَال الجَوْهَريُّ: عَضِضْتُ باللُّقْمَة، والصَّوابُ غَصِصْتُ، بالغَيْن المُعْجَمَة، وبَصَادَيْن مُهْمَلَتَيْن، ولم يَذْكُرْ قَوْلَ أَبي عُبَيْدَةَ، وكَأن عنده الوَهَمَ في غَصصْت باللُّقْمَة فَقَط، والصَّواب ما نَقَلَه ابنُ بَرّيّ فيما تَقَدَّمَ من القَوْل، فتَأَمّلْ تَرْشُدْ، فالصَّوابُ الَّذي لا مَحيدَ عنه أَنَّهُ من باب سَمِع فَقَط. انتهى كلام محمد المرتضى رحمه الله في"شرحه"

(1)

.

فتحَصَّل بما ذُكر أن الصواب أن عضّ، من باب سِمَعَ، لا من باب نفع، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (بِأَفْوَاهِهَا) أي: بأسنانها، متعلّقٌ بـ"تعضّه" (كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا) أي: أولى تلك الإبل (رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع، قال القاضي عياض: قالوا: هو تغيير، وتصحيف، وصوابه ما جاء بعده في الحديث الآخر، من رواية سهيل، عن أبيه، وما جاء في حديث المعرور بن سُويد، عن أبي ذَرّ رضي الله عنه "كلما مَرّ عليه أخراها، رُدّ عليه أولاها"، وبهذا ينتظم الكلام. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هكذا صحّت الرواية، فقيل: هو تغيير وقلبٌ في الكلام، وصوابه كما جاء في رواية أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"كلّما مرّ عليه أُخراها رُدّت عليه أُولاها"، قيل: وهكذا يستقيم الكلام؛ لأنه إنما يريد الأول الذي قد مَرّ قبلُ، وأما الآخر فلم يمرّ بعدُ، فلا يقال فيه:"رُدّت".

قال: ويظهر لي أن الرواية الصحيحة ليس فيها تغيير؛ لأن معناها: أنّ أول الماشية كلما وصلت إلى آخر ما تمشي عليه، تلاحقت بها أخراها، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع، فعادت الأخرى أولى، حتى تنتهي إلى آخره، وهكذا إلى أن يقضي الله بين العباد، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

وكذا وجّهه الطيبيّ رحمه الله، فقال: إنّ المراد أن أولاها إذا مرّت عليه تتابع إلى أن تنتهي إلى الأخرى، ثم ردّت الأخرى من هذه الغاية، وتبعها ما كان

(1)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 18/ 432 - 433.

(2)

"شرح النووي" 7/ 65.

(3)

"المفهم" 3/ 27.

ص: 155

يليها، فما يليها إلى أن تنتهي أيضًا إلى الأولى، حصل الغرض من التتابع والاستمرار. انتهى.

فيكون الابتداء في المرّة الأولى من الإبل الأولى، وفي المرّة الثانية من الأخرى، والحاصل أنه يحصل هذا بعد أخرى

(1)

.

وقوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) تقدّم البحث في هذا قريبًا، فلا تنس (حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يُفرغ من الحكم بينهم.

وقوله: (فَيُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ") تقدّم البحث فيه مستوفًى، فلا تنس.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟) تقدّم أن الفاء عاطفة على محذوف؛ أي: هذا حكم الإبل، فما حكم البقر والغنم؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ) تقدّم أنه يجوز رفعه، وجرّه (لَا يُؤَدِّي مِنْهَا) أي: مما ذُكر من البقر والغنم (حَقَّهَا) أي: الواجب عليه فيها (إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا) أي: من ذواتها، وصفاتها، كما بيّنه بقوله:(لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ) أي: ملتوية القرنين (وَلَا جَلْحَاءُ) أي: لا قرن لها (وَلَا عَضْبَاءُ) أي: مكسورة قرنها الداخل، ونفي الثلاثة عبارة عن سلامة قرونها؛ ليكون أجرح للمنطوح

(2)

.

قال القاري رحمه الله: ظاهر الحديث أن هذه الصفات فيها معدومة في العقبى، وإن كانت موجودة لها في الدنيا، وظاهر البعث أن يعيد الله تعالى الأشياء على ما كانت عليه في الحالة الأولى، كما هو مفهوم من الكتاب والسنّة، ولعله يخلقها أولًا كما كانت، ثم يعطيها القرون؛ ليكون سببًا لعذابه على وجه الشدّة، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(تَنْطَحُهُ) بكسر الطاء المهملة، وفتحها لغتان، حكاهما الجوهريّ وغيره، والكسر أفصح، وهو المعروف في الرواية، قاله النوويّ رحمه الله، وقال في

(1)

انظر: "المرعاة" 6/ 12 - 13.

(2)

"الكاشف" 4/ 1473.

(3)

"المرقاة" 4/ 265.

ص: 156

"القاموس": نَطَحَه، كمنعه، وضربه: أصابه بقرنه. انتهى

(1)

. فقوله: (بِقُرُونِهَا) إما تأكيدٌ، وإما تجريد، قاله القاري

(2)

.

(وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا) بالفتح: جمع ظِلْف -بكسر، فسكون-: للبقر، والغنم، والظِّباء، وهو المنشق من القوائم، قاله النوويّ.

وقال القرطبيّ: هو الظُّفُر من كلّ دابّة مشقوقة الرجل، ومن الإبل الخفّ، ومن الخيل، والبغال، والحمير: الحافر. انتهى

(3)

.

وقوله: (كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا، رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ") تقدّم شرحه مستوفًى.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: فَالْخَيْلُ؟) أي: ما حكمها؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ) قال الطيبيّ رحمه الله: [فإن قلت]: الجوابان السابقان مطابقان للسؤالين؛ لأن الأسئلة عن حقوق الله تعالى في الأجناس، ووجوب الزكاة فيها، فأين المطابقة في السؤال الثالث؟.

[قلت]: هو وارد على الأسلوب الحكيم، وفي التوجيه وجهان:

[أحدهما]: على مذهب الشافعيّ رحمه الله

(4)

؛ أي: دَعْ السؤال عن الوجوب؛ إذ ليس فيه حقّ واجب، ولكن سل عن اقتنائها عما يرجع إلى صاحبها من المضرّة والمنفعة.

[وثانيهما]: على مذهب أبي حنيفة رحمه الله

(5)

أي: لا تسأل عما وجب فيها من الحقوق وحده، بل سل عنه، وعما يتّصل بها من المنفعة والمضرّة إلى صاحبها.

[فإن قيل]: كيف استُدلّ على الوجوب بالحديث؟.

[قلت]: بعطف الرقاب على الظهور؛ لأن المراد بالرقاب ذواتها؛ إذ ليس

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 253.

(2)

"المرقاة" 4/ 265.

(3)

"المفهم" 3/ 27.

(4)

يعني: القائل بعدم وجوب الزكاة في الخيل، وهو الحقّ، كما سيأتي بيانه.

(5)

يعني: القائل بوجوب الزكاة في الخيل.

ص: 157

في الرقاب منفعة عائدة إلى الغير، كالظهور، وبمفهوم الجواب الآتي من قوله صلى الله عليه وسلم:"ما أُنزل عليّ في الْحُمُرِ شيءٌ".

وأجاب القاضي البيضاويّ عنه بأن معنى قوله: "لم ينس حقّ الله في رقابها" أداء زكاة تجارتها.

قال الطيبىّ: وجه هذه الكناية أن الرقاب ربما يُكنى بها عن الانقياد والمملوكيّة، وما يساق للتجارة يقاد بها بما يشدّ على رقابها للجلب، وينصره قوله:"لم ينس"، فإنه لا يستعمل في الوجوب، كقوله تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} الآية [القصص: 77].

وأما الجواب عن السؤال الأخير، فإن الفاء في قوله:"فالْحُمُرُ" جاءت عقب المذكورات، كأنه قيل: عرفنا الوجوب في النقدين، والأنعام، والندب في الخيل، فما حكم الحمير؟.

قال: وفي قوله: "فالخيل ثلاثة" جمع وتفريق وتقسيم، فأما الجمع، ففي قوله:"ثلاثة"، وأما التفريق ففي قوله: "هي لرجل وزرٌ

إلخ". انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

ومعنى قوله: (الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ) أي: ربطها على ثلاثة أنحاء، وفي رواية:"الخيل لثلاثة"، ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتني الخيل، إما أن يقتنيها للركوب، أو للتجارة، وكلّ منهما، إما أن يقترن به فعل طاعة الله، وهو الأول، أو معصيته، وهو الأخير، أو يتجرّد عن ذلك، وهو الثاني، قاله في "الفتح"

(2)

.

(هِيَ) أي: الخيل (لِرَجُلٍ وِزْرٌ) أي: ثقلٌ وإثمٌ (وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ) بكسر، فسكون: أي: ساترة لحاله في معيشته؛ لحفظه عن الاحتياج والسؤال (وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أي: ثواب عظيم، فالتنوين للتعظيم.

(فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ، فَرَجُلٌ) قال القاري: الظاهر أن يقال: فخيل ربطها، أو يقال: فأما الذي هي له وزر، فرجلٌ، والأظهر أن يكون التقدير:

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1473 - 1474.

(2)

"الفتح" 6/ 154.

ص: 158

فخيل رجلٍ (رَبَطَهَا رِيَاءً) بالهمز، ويُبدل؛ أي: ليُري الناس عظمته في ركوبه وحشمته (وَفَخْرًا) أي: ليفتخر بلسانه على من دونه من الناس (وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ) الواو بمعنى "أو"؛ فإن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص، وكلّ واحد منها مذموم على حدته، والنّواء بكسر النون والمدّ: المنازعة والمعاداة، يقال: ناوأته نِواءً، ومنوأةً: إذا عاديته، كأنه ناء إليك، ونأوت إليه، من النوء وهو النهوض، كأن كلّ واحد من المتعاديين ينهض إلى صاحبه بالعداوة

(1)

.

والمعنى: أنه ربطها منازعةً ومعاداةً للمسلمين.

(فَهِيَ) أي: تلك الخيل (لَهُ) أي: لذلك الرجل (وِزْرٌ) أي: مكسب للإثم، بسبب قصده السيّئ، فالجملة مؤكّدة لما قبلها مشعرة باهتمام الشارع به، والتحذير عنه.

(وَأَمَّا الَّتي هِيَ لَهُ سِتْرٌ) بفتح السين، وكسرها؛ أي: ساتر وحجاب له عن ذلّ السؤال، والحاجة إلى الناس (فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل: معناه: ليجاهد في سبيل الله، والصواب ما قاله الطيبيّ رحمه الله: إنه لم يُرد به الجهاد، بل النيّة الصالحة؛ لئلا يلزم منه التكرار، قال: ويعضده رواية غيره: "ورجل ربطها تغنّيًا وتعفّفًا"؛ أي: استغناء بها وتعفّفًا عن السؤال، وهو الآن يطلب بنتاجها الغنى والعفّة، أو يتردّد عليها إلى متاجرة ومزارعة، فتكون سترًا له تحجبه عن الفاقة. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي ظُهُورِهَا) أي: بالعارية للركوب، أو الفحل (وَلَا رِقَابِهَا) قال الطيبيّ رحمه الله: إما تاكيد وتَتِمّةٌ للظهور، وإما دليل لقول من قال بوجوب الزكاة فيها. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد استظهر القاري الاحتمال الثاني تأييدًا لمذهبه الحنفيّ الموجب لزكاة الخيل، لكن الراجح عدم الوجوب، كما سيأتي تحقيقه، فتنبّه.

وقال الجزريّ في "جامع الأصول": أما حقّ الظهور، فهو أن يَحْمِل

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1474.

(2)

راجع: "الكاشف" 4/ 1474.

ص: 159

عليها منقَطَعًا، ويشهد له قوله في موضع آخر:"وأن يُفقِر ظهرها"، وأما حقّ رقابها، فقيل: أراد به الإحسان إليها، والقيام بعلفها، وسائر مؤنها، وقيل: أراد به الحمل عليها، فعبّر بالرقبة عن الذات. انتهى

(1)

.

وأوّله السنديّ بأن المراد: لم ينس شكر الله تعالى لأجل إباحة ظهورها، وتمليك رقابها، وذلك الشكر يتأدّى بالعارية. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد تعلّق أبو حنيفة، ومن يقول بوجوب الزكاة في الخيل بقوله:"ثم لم ينس حقّ الله في رقابها"، قالوا: وحقّ الله هو الزكاة، ولا حجة فيه؛ لأن ذكر الحقّ هنا مُجملٌ غير مفسّر، ثم يقال بموجبه؛ إذ قد يتعيّن فيها حقوق واجبة دئه تعالى في بعض الأوقات، كإخراجها في الجهاد، والحمل عليها في سبيل الله، والإحسان بها الواجب، والصدقة بما يكتسب عليها إن دعت إلى ذلك ضرورة. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله القرطبيّ رحمه الله هو الحقّ، فليس حقّ الله تعالى الواجب محصورًا في الزكاة فقط، فقد يجب في بعض الأحيان غير الزكاة، كما سيأتي تحقيقه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

(فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ) أي: حجاب من سؤال الغير عند حاجته لركوب فرس، بدليل قوله:"تغنّيًا، وتعفّفًا" أي: عن الناس.

(وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي: أعدّها لإعلاء كلمة الله تعالى، وأصله من الربط، ومنه الرباط، وهو حبس الرجل نفسه وعُدّته في الثغور تجاه العدوّ، أفاده القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) فيه إشارة إلى أن المراد به الجهاد، فإن نفعه متعدّ إلى أهل الإسلام.

(فِي مَرْجٍ) بفتح الميم، وسكون الراء، آخره جيمٌ: أي: مَرْعًى، قال في "النهاية": هو الأرض الواسعة ذات نبات كثير، تَمْرُج فيها الدوابّ؛ أي: تُسرَح فيها، والجارّ متعلّق بـ "رَبَطَ"، وقوله:(وَرَوْضَةٍ) عطف تفسير، أو الروضة أخصّ

(1)

"جامع الأصول" 5/ 466 - 467.

(2)

"المفهم" 3/ 28.

(3)

"المفهم" 3/ 28.

ص: 160

من المرج، وفي بعض النسخ:"أو روضة" بـ "أو" التي للشكّ من الراوي.

وقال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: "الْمَرْجُ": الموضع الواسع الذي فيه نبات ترعاه الدوابّ، سُمّي بذلك؛ لأنها تَمْرُج فيه أي: تروح، وتجيء، وتذهب كيف شاءت، و"الرَّوْضة": الموضع الذي يَكثُر فيه الماء، فيكون فيه صنوف النبات، من رياحين البادية وغيرها، فالفرق بين المرج والروضة أن الأول مُعَدٌّ لِرَعْي الدواب، ولذلك يكون واسعًا؛ ليتأتى لها فيه ذلك، والروضة ليست مُعَدَّة لرعي الدواب، وإنما هي للتنزه بها؛ لما فيها من أصناف النبات، هذا هو الذي يتحرر من كلام أهل اللغة، فصحّ عطف الروضة على المرج، وكذا وقع في "صحيح مسلم" عطف الروضة أولًا بالواو، وثانياً بـ "أو"، والظاهر أن الواو أوّلًا بمعنى "أو". انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(فَمَا أَكَلَتْ) أي: الخيل، وقوله:(مِنْ ذَلِكَ الْمَرْج، أَوِ الرَّوْضَةِ) بيان مقدّم لقوله: (مِنْ شَئ) أي: من العلف، أو الأزهار، قلّ أَو كثُر (إِلَّا كُتِبَ لَهُ) بالبناء للمفعول (عَدَدَ مَما أَكَلَتْ)"ما" موصولة، والفعل مبنيّ للفاعل؛ أي: أكلته من العشب وغيره، وقوله:(حَسَنَاتٌ) بالرفع على أنه نائب لـ"كُتِبَ"، و"عدَدَ" منصوب على الظرفيّة، أو بنزع الخافض؛ أي: بعدد ما أكلته. وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قوله: "كُتِبَ له عددُ ما أكلت حسناتٍ" برفع "عددُ" لنيابته عن الفاعل، ونصب "حسناتٍ" بالكسرة على التمييز، وَيحْتَمِل رفع قوله:"حسنات" على أنه بدل من "عددُ"، أو عطف بيان، وَيحْتَمِل أن يكون هو النائب عن الفاعل، ويكون قوله:"عددَ" منصوبًا نصبَ المصدر العددي. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ) إعرابه كإعراب سابقه، قال في "المرعاة": إنما كُتبت الأرواث، والأبوال حسنات؛ لأن بها بقاء حياتها، مع أن أصلها قبل الاستحالة غالبًا من مال مالكها. انتهى

(3)

.

(وَلَا تَقْطَعُ) أي: تلك الخيل (طِوَلَهَا) بكسر الطاء، وفتح الواو، ويقال:

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 13 - 14.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 14.

(3)

"المرعاة" 6/ 16.

ص: 161

"طِيَلَها" بالياء، وكذا في "الموطأ"، والطِّوَلُ، والطِّيَلُ: الحبل الطويل الذي يُرْبَط أحد طرفيه في يد الفرس، والآخر في وَتَد، أو غيره؛ لتدور فيه، وترعى من جوانبها، ولا تذهب لوجهها.

(فَاسْتَنَّتْ) بالسين المهملة، والتاء المثناة من فوقُ، والنون المشدَّدة: أي: جَرَت بقوّة من الاستنان، وهو الجريُ، وقال القاري: أي: عَدَتْ، ومَرِجَتْ، ونَشِطَت لِمُرَاحها (شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ) -بفتح الشين المعجمة، والراء المهملة- وهو العالي من الأرض، وقيل: المراد هنا طَلَقًا، أو طَلَقَيْن، قاله النوويّ، وقال الجزريّ: الشَّرَفُ: الشوط والْمَدَى (إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا) أي: بعدد خُطاها (وَأَرْوَاثِهَا) با لفتح: جمع رَوْث -بفتح، فسكون- قال الفيّوميّ: راث الفرس، ونحوه رَوْثًا، من باب قال، والخارج رَوْث، تسمية بالمصدر، والروثة الواحدة منه. انتهى.

وقال في "المرعاة": لعله أراد بالروث هنا ما يشمل البول، أو أسقطه للعلم به منه

(1)

.

وقول: (حَسَنَاتٍ) هنا بالنصب، لا غير؛ لأنه مفعول به لـ"كَتَبَ".

(وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ) -بسكون الهاء، وفتحها- قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّهْرُ: الماء الجاري الْمُتَّسِعُ، والجمع نُهُرٌ -بضمّتين-، وأنهُرٌ. والنَّهَر -بفتحتين- لغة، والجمع أنهارٌ، مثلُ سبب وأسباب، ثم أُطلق النهر على الأُخدود، مجازًا؛ للمجاورة، فيقال: جرى النهر، وجفّ النهر، كما يقال: جرى الميزاب، والأصل: جرى ماء النهر. انتهى.

(فَشَرِبَتْ) الخيل (مِنْهُ) أي: من ذلك النهر، وقوله:(وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا) بفتح أوله، وضمّه، من سقى، وأسقى ثلاثيًّا ورباعيًّا، والجملة حال؛ أي: والحال أن صاحبها لا ينوي أن يسقيها من ذلك النهر.

(إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ") قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: هذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا حَصَلت له هذه الحسنات من غير أن يَقْصِد سقيها، فإذا قصده فأولى بإضعاف الحسنات. انتهى

(2)

.

(1)

"المرعاة" 6/ 16.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 14.

ص: 162

وقال الطيبيّ رحمه الله: فيه مبالغة في اعتداد الثواب؛ لأنه إذا اعتُبر ما تستقذره النفوس، وتنفر عنه الطباع، فكيف بغيرها؟، وكذا إذا احتُسب ما لا نيّة له فيه، وقد ورد:"وإنما لكلّ امرئ ما نوى"، فما بال ما إذا قصد الاحتساب فيه، قال ابن الملك: فالحاصل أنه يُجعل لمالكها بجميع حركاتها، وسكناتها، وفَضَلاتها حسنات.

وقال الحافظ: وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أصلها، وإن لم يقصد تلك التفاصيل. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله. وهذا لا يخالف حديث "إنما الأعمال بالنيّات"؛ لأن المفروض وجود النيّة في أصل ربط هذه الفرس، وتلك كافية. انتهى

(2)

.

(قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَالْحُمُرُ؟) بضمّتين: جمع حمار؛ أي: ما حكمها؟، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف عدى تسمية السائل صريحًا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ، إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ) الاستثناء مفرّغٌ، واسم الإشارة في محلّ رفع على أنه نائب الفاعل و"أُنزل"، و"الآيةُ" مرفوع على أنه بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان، أو نعت له (الْفَاذَّةُ) بالذال المعجمة المشدّدة: أي: المنفردة في معناها، وقيل: القليلة النظير، وقيل: النادرة الواحدة (الْجَامِعَةُ) أي: العامّة المتناولة لكل خير ومعروف، ومعنى ذلك أنه لم ينزل عليّ فيها نصّ بعينها، ولكن نزلت هذه الآية العامة.

وقال ابن الملك: يعني: أنه ليس في القرآن آية مثلها في قلة الألفاظ، وجمع معاني الخير والشرّ.

وقال الطيبيّ: سُمّيت جامعةً؛ لاشتمال اسم الخير على جميع أنواع الطاعات، فرائضها، ونوافلها، واسم الشرّ على ما يقابلها، من الكفر والمعاصي: صغيرها وكبيرها.

وقال في "الفتح": سمّاها جامعةً لشمولها لجميع الأنواع من طاعة ومعصية، وسمّاها فاذّة؛ لانفرادها في معناها. وقال ابن التين: والمراد أن

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 16.

(2)

"شرح السندي" 6/ 216 - 217.

ص: 163

الآية دلّت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك، وإن عمل معصيةً، رأى عقاب ذلك.

قال النوويّ رحمه الله: وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم، وقد يَحتجّ به من قال: لا يجوز الاجتهاد للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يحكم بالوحي، ويجاب للجمهور القائلين بجواز الاجتهاد بأنه لم يظهر له فيها شيء. انتهى

(1)

.

({فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}) أي: مقدار أصغر نملة ({خَيْرًا}) منصوب على التمييز لذرة ({يَرَهُ} [الزلزلة: 7]) أي: في الآخرة ليجازى عليه خيرًا ({فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}) [الزلزلة: 8] أي: ليُجازَى عليه شرًا؛ إذ الجزاء من جنس العمل، وأنشدوا في معنى الآية [من الخفيف]:

إِنَّ مَنْ يَعْتَدِي وَيَكْسِبُ إِثْمًا

وَزْنَ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ سَيَرَاهُ

وَيُجَازَى بِفِعْلِهِ الشَّرَّ شَرًّا

وَبِفِعْلِ الْجَمِيلِ أَيْضًا جَزَاهُ

هَكَذَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ رَبِّي

فِي {إِذَا زُلْزِلَتِ} وَجَلَّ ثَنَاهُ

(2)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 2290 و 2291 و 2292 و 2293 و 2294 و 2295](987)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1402) و"المساقاة"(2371) و"الجهاد والسير"(2860 و 3646) و"التفسير"(4565 و 4659) و (4962 و 4963) و"الأيمان والنذور"(6638) و"الحيل"(6958)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1658 و 1659)، و (الترمذيّ) في "فضائل الجهاد"(1636)، و (النسائيّ) في "الخيل"(3589 و 3609) و"الكبرى"(4402 و 4403 و 4423)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2788)، و (مالك) في "الموطأ"(975)،

(1)

"طرح التثريب" 4/ 14.

(2)

راجع: "تفسير القرطبيّ" 20/ 152.

ص: 164

و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(4/ 27)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 101 و 262 و 276 و 383 و 423)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2252 و 2253 و 2291)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 45)، و (أبو نعيم) في "مسنده"(3/ 66 - 69)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الأوسط"(3/ 185)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 81 و 119 و 137 و 183 و 3/ 7)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1562)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان التغليظ في عقوبة منع الزكاة.

2 -

(ومنها): بيان وجوب الزكاة في الفضّة والذهب، ولا خلاف فيه، وكذا لا خلاف في باقي المذكورات، من الإبل والبقر، والغنم.

3 -

(ومنها): بيان وجوب الزكاة في الإبل، وقد استوفيت بيان ما يتعلّق بزكاتها، واختلاف العلماء فيه في "شرح النسائيّ"، فراجعه

(1)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

4 -

(ومنها): أن هذا الحديث أصحّ ما ورد في وجوب الزكاة في البقر، وقد استوفيت البحث فيه في "شرح النسائيّ"، فراجعه

(2)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

5 -

(ومنها): بيان وجوب الزكاة في الغنم، وقد استوفيت بيان ما يتعلّق بذلك في "شرح النسائيّ"، فراجعه

(3)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

6 -

(ومنها): التنفير من جمع المال، لمن لا يقوم بواجبه، بل يمنع الحقوق الواجبة فيه؛ لما فيه من الوعيد الشديد.

7 -

(ومنها): أنه لا يُقطع لمانع الزكاة بالنار، إن لم يستحلّ ذلك؛ لقوله:"فيرى سبيلهْ إما إلى الجنّة، أو إلى النار"، والله تعالى أعلم بالصواب.

8 -

(ومنها): بيان فضل الخيل.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 22/ 71 - 92.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 22/ 114 - 116.

(3)

راجع: "ذخيرة العقبى" 22/ 123.

ص: 165

9 -

(ومنها): بيان أن الخيل إنما يكون في نواصيها الخير والبركة؛ إذا كان اتخاذها في الطاعة، أو في الأمور المباحة، وإلا فهي مذمومة.

10 -

(ومنها): أن فيه تحقيقَ إثبات العمل بظواهر العموم، وأنها مُلْزِمة، حتى يدلّ دليلٌ التخصيص.

11 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى الفرق بين الحكم الخاصّ المنصوص، والعامّ الظاهر، وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة، ومحلّ بحث هذه المسألة فنّ أصول الفقه.

12 -

(ومنها): أن ابن بطال قال: فيه تعليم الاستنباط والقياس؛ لأنه شبّه ما لم يَذكر الله حكمه في كتابه، وهو الحمر، بما ذكره من عمل مثقال ذرّة من خير أو شرّ؛ إذ كان معناهما واحدًا، قال: وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنه.

وتعقّبه ابن الْمُنَيِّر بأن هذا ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم، وإثبات لصيغته، خلافًا لمن أنكر، أو وقف. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وجوب حقّ في المال سوى الزكاة:

قال المازريّ رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن حقّها حلبها يوم وردها": يَحْتَمِل أن يكون هذا الحقّ في موضع تتعيّن فيه المواساة، وقال القاضي عياض رحمه الله: هذه الألفاظ صريحة في أن هذا الحقّ غير الزكاة، قال: ولعلّ هذا كان قبل وجوب الزكاة.

وقد اختلف السلف في معنى قول الله تعالى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، فقال الجمهور: المراد به الزكاة، وأنه ليس في المال حقّ سوى الزكاة، وأما ما جاء غير ذلك فعلى وجه الندب، ومكارم الأخلاق، ولأن الآية إخبار عن وصف قوم أُثني عليهم بخصال كريمة، فلا يقتضي الوجوب، كما لا يقتضيه قوله تعالى:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17].

(1)

"الفتح" 6/ 155.

ص: 166

وقال بعضهم: هي منسوخة بالزكاة، وإن كان لفظه لفظ خبر، فمعناه أمر.

قال: وذهب جماعة، منهم: الشعبيّ، والحسن، وطاوسٌ، وعطاءٌ، ومسروقٌ، وغيرهم إلى أنها محكمة، وأن في المال حقًّا سوى الزكاة، من فكّ الأسير، وإطعام المضطرّ، والمواساة في العسرة، وصلة القرابة. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: إنه مذهب أبي ذرّ، وغير واحد من التابعين

(2)

.

وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: من قال: إنه لا حقّ في المال غير الزكاة، فقد قال الباطل، ولا برهان على صحّة قوله، لا من نصّ، ولا إجماع، وكلّ ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأموال فهو واجب، ونسأل من قال هذا: هل تجب في الأموال كفارة الظهار، والأيمان، وديون الناس، أم لا؟ فمن قولهم: نعم، وهذا تناقض منهم، وأما إعارة الدلو، وإطراق الفحل، فداخل تحت قول الله تعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7]. انتهى

(3)

.

وهذا المذهب هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله، فإنه رجّح القول بأن في المال حقًّا سوى الزكاة، وذلك مثل صلة الرحم من النفقة الواجبة، وحمل العقل عن المعقول عنه، ومثل إطعام الجائع، وكسوة العاري، وكالإعطاء في النوائب، مثل النفقة في الجهاد، وكذلك قرى الضيف، فهو واجب بالسنة الصحيحة.

قال: وهو فرض كفاية، فمن غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به تعيّن عليه. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله بتصرّف

(4)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهذا القول الأخير الذي اختاره ابن حزم، وابن تيميّة هو الحقّ عندي؟ لظواهر النصوص الدالّة على أن في المال

(1)

"شرح مسلم" للنوويّ 7/ 73 - 74.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 11.

(3)

"المحلّى" 6/ 50.

(4)

راجع: "مختصر الفتاوى المصريّة" ص 247.

وراجع: "تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف د. أحمد موافي 1/ 415.

ص: 167

حقًّا سوى الزكاة، كأحاديث الباب، وأما قولهم: إنه كان قبل الزكاة، فنسخ بها، فغير صحيح؛ لأن الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو متأخّر الإسلام عن وجوب الزكاة بيقين، فإنه أسلم عام خيبر، وفرض الزكاة كان قبل ذلك بزمان، كما تقدّم بيانه.

والحاصل أن الصواب وجوب الحقّ في المال سوى الزكاة إذا دعت الحاجة إليه، كفكّ الأسير، وإطعام المضطرّ، والمواساة في العسرة، وصلة القرابة، وتكفين الميت، وتجهيزه، ودفنه؛ إذا لم يوجد من يقوم به، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[تنبيه]: أخرج الترمذيّ في "جامعه"، وابن ماجه في "سننه" عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إن في المال حقًّا سوى الزكاة"، ولفظ ابن ماجه:"في المال حقّ سوى الزكاة"، وفي بعض نسخه:"ليس في المال حقّ سوى الزكاة".

وهو ضعيف جدًّا، لا يصلح للاحتجاج به؛ لأن في إسناده أبا حمزة ميمون الأعور القصّاب، قال أحمد: متروك الحديث، وقال الترمذيّ: هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يُضعّف، ورَوَى بيانٌ، وإسماعيل بن سالم عن الشعبيّ هذا الحديث قولَهُ، وهذا أصحّ انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[2291]

(

) - (وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ إِلَى آخِرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا"، وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْهَا حَقَّهَا"، وَذَكَرَ فِيهِ: "لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا"، وَقَالَ: "يُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ، وَجَبْهَتُهُ، وَظَهْرُهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ) أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

(1)

راجع: "جامع الترمذيّ" 3/ 326 - 327. بنسخة "تحفة الأحوذيّ".

ص: 168

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عبّاد، أو أبو سعد المدنيّ، صدوقٌ له أوهامٌ، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7](ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.

و"زيد بن أسلم" ذُكر قبله.

وقوله: (وَذَكَرَ فِيهِ: "لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا") ظاهره أن هذا ليس في رواية حفص بن ميسرة، وفيه نظر، فقد تقدّم فيها، إلا إذا اختلفت النسخ، فليُحرّر، والله أعلم.

[تنبيه]: رواية هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2292]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ، لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ، إِلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إِلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ، تَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ

(1)

، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ، لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إِلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ، فَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلَا جَلْحَاءُ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا

(1)

وفي نسخة: "بين العباد".

ص: 169

إِلَى النَّارِ"، قَالَ سُهَيْلٌ: فَلَا أَدْرِي

(1)

أَذَكَرَ الْبَقَرَ أَمْ لَا؟ قَالُوا: فَالْخَيْلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا، أَوْ قَالَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا، قَالَ سُهَيلٌ: أَنَا أَشُكُّ: الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْخَيْلُ ثَلَاَثةٌ: فَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّتى هِيَ لَهُ أَجْرٌ، فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُعِدُّهَا لَهُ، فَلَا تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ أَجْرًا، وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ، مَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا، وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ، حَتَّى ذَكَرَ الْأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا، وَلَوِ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ، وَأمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ، فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا، وَلَا يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا وَبُطُونِهَا، فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا، وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ

(2)

، فَالَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا، وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ، فَذَاكَ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ"، قَالُوا: فَالْحُمُرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا، إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8] ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُموِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارب الأمويّ البصريّ، صدوقٌ، من كبار [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدّبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 14/ 1674.

3 -

(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

وفي نسخة: "ولا أدري".

(2)

وفي نسخة: "وأما الذي هي عليه وزر".

ص: 170

وقوله: (مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ، لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ) قال في "الصحاح": الكنز المال المدفون، وفي "المحكم": أنه اسم للمال، ولما يُخزن فيه، وفي "المشارق": أصله ما أُودع الأرضَ، من الأموال، وفي الحديث:"ما لم يُؤَدِّ زكاتَهُ، وغيّبه عن ذلك"، وقال في "النهاية": الكنز في الأصل: المال المدفون تحت الأرض، فإذا أخرج منه الواجب لم يبق كنزًا، وإن كان مكنوزًا، قال: وهو حكم شرعيّ، تُجُوّز فيه عن الأصل. انتهى

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ: الكنز في لسان العرب: هو المال المجتمع المخزون، فوق الأرض كان، أو تحتها، ذكره صاحب "العين" وغيره بمعناه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: قال الإمام أبو جعفر الطبريّ رحمه الله: الكنز كلُّ شيء مجموعٌ بعضه على بعض، سواء كان في بطن الأرض، أم على ظهرها، زاد صاحب "العين" وغيره: وكان مخزونًا. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قد اختُلِف في معنى "الكنز" في هذا الحديث، ونحوه، وكذا في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} الآية [التوبة: 34]: قال القاضي عياض رحمه الله: واختَلَف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث، فقال أكثرهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة، فلم تُؤَدَّ، فأما ما أخرجت زكاته فليس بكنز، وقيل: الكنز هو المذكور عن أهل اللغة، ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة، وقيل: المراد بالآية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك، وقيل: كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز، وإن أديت زكاته، وقيل: هو ما فَضَلَ عن الحاجة، ولعل هذا كان في أول الإسلام، وضيق الحال، واتفَق أئمة الفتوى على القول الأول، وهو الصحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته

"، وذكر عقابه، وفي الحديث الآخر: "من كان عنده مالٌ، فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له شجاعًا أقرع"، وفي آخره: "فيقول: أنا كنزك". انتهى.

(1)

"النهاية" 4/ 253.

(2)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 7 - 9.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 67.

ص: 171

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله ما معناه: اختلف في المراد بالكنز في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ، وما في معناه، فالجمهور على أنه ما لم تؤدَّ زكاته، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، ثم ذكر ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وابن عباس، ثم استشهد لذلك بما رواه عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تُؤَدَّى زكاتُهُ، فزُكِّيَ فليس بكنز"، أخرجه أبو داود، قال الحافظ ابن عبد البرّ: وفي إسناده مقال، وقال الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ": إسناده جيّد، رجاله رجال الصحيح.

قال ابن عبد البرّ: ويشهد لصحّته حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أَدَّيتَ زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك"، رواه الترمذيّ، وقال حسنٌ غريب، والحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيح من حديث المصريين، وذكر العراقيّ أنه على شرط ابن حبّان في "صحيحه".

وفي معناه أيضًا حديث جابر مرفوعًا: "إذا أدّيت زكاة مالك، فقد أذهبت عنك شرّه"، رواه الحاكم في "مستدركه"، وصححه على شرط مسلم، ورجّح البيهقيّ وقفه على جابر، وكذلك ذكره ابن عبد البرّ، وكذا صحح أبو زرعة وقفه على جابر، وذكره بلفظ:"ما أدي زكاته فليس بكنز".

وروى البيهقيّ عن ابن عمر، مرفوعًا:"كلّ ما أدّي زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونًا تحت الأرض، وكلّ ما لا يؤدى زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهرًا"، وقال البيهقيّ: ليس بمحفوظ، والمشهور وقفه.

وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال: كَبُرَ ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم، فانطلق، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا نبيّ الله، إنه كَبُرَ على أصحابك هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يَفرض الزكاة إلا لتطييب ما بقي من أموالكم

" الحديث، وفيه ضعف

(1)

.

(1)

هذا الحديث إسناده ثقات، إلا أن فيه انقطاعًا، فقد ثبت عن شعبة أنه قال: =

ص: 172

قال ابن عبد البرّ: والاسم الشرعيّ قاضٍ على الاسم اللغويّ، وما أعلم مخالفًا في أن الكنز ما لم تؤدّ زكاته، إلا شيئًا عن عليّ، وأبي ذرّ، والضحّاك، ذهب إليه قوم من أهل الزهد، قالوا: إن في المال حقوقًا سوى الزكاة. أما أبو ذرّ رضي الله عنه، فقد ذهب إلى أن كلّ مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش، فهو كنز، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.

وأما عليّ رضي الله عنه، فروي أنه قال: أربعة آلاف نفقة، فما فوقها فهو كنز.

وأما الضّحّاك، فقال: من ملك عشرة آلاف درهم، فهو من الأكثرين الأخسرين إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا.

وكان مسروق يقول في قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية [آل عمران: 180]: هو الرجل يرزقه الله المال، فيمنع قرابته الحقّ الذي فيه، فيُجعل حيّة يُطَوَّقها.

قال ابن عبد البرّ: وهذا ظاهر أنه غير الزكاة، ويحتمل أنه الزكاة.

قال: وسائر العلماء، من السلف والخلف على ما تقدّم في الكنز، قال: وما استدلّ به من الأمر بإنفاق الفضل، فمعناه أنه على الندب، أو يكون قبل نزول الزكاة، ونُسِخَ بها، كما نسخ صوم عاشوراء برمضان، وعاد فضيلة بعد أن كان فريضة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدم في المسألة السابقة أن الراجح بقاء وجوب الحقّ سوى الزكاة؛ إذا دعت الحاجة إلى ذلك، من مواساة أصحاب الحاجة والضرورة. فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: على أن أبا ذرّ أكثر ما تواتر عنه في الأخبار الإنكارُ على من أخذ المال من السلاطين لنفسه، ومنع منه أهله، فهذا ما لا خلاف عنه في إنكاره، وأما إيجاب غير الزكاة، فمختلف عنه فيه.

وتأوّل القاضي عياض رحمه الله أيضًا كلام أبي ذرّ على نحو ذلك، فقال:

= لم يسمع جعفر عن مجاهد شيئًا، بل من صحيفة. انظر ترجمته في:"تهذيب التهذيب" 1/ 300 - 301، فعلى هذا ففيه انقطاع، فتنبّه.

ص: 173

الصحيح أن إنكاره إنما هو على السلاطين الذين يأخذون لأنفسهم من بيت المال، ولا ينفقونه في وجوهه.

قال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي قاله باطلٌ؛ لأن السلاطين في زمنه أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، وتوفي في زمن عثمان سنة اثنتين وثلاثين. انتهى.

قال وليّ الدين رحمه الله: لعله أراد بالسلاطين بعض نوّاب الخلفاء، كمعاوية، وقد وقع بينه وبين أبي ذرّ بسبب هذه الآية تشاجُر، أوجب انتقال أبي ذرّ إلى المدينة، كان معاوية يقول: هي في أهل الكتاب خاصّةً، وقال أبو ذرّ: هي فينا، وفيهم، على أن عبارة ابن عبد البرّ ليست صريحة في أن الإنكار على السلاطين، كعبارة القاضي عياض، بل هي محتملة لأن يكون المراد الإنكار على الآحاد الذين ياخذون الأموال من السلاطين، وهم غير محتاجين إليها، فيجمعونها عندهم، وقد يؤدّي ذلك إلى منع من هوأحقّ منهم، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تمثيله بمعاوية رضي الله عنه لمن يأخذ من بيت المال ظلمًا، فيه سوء أدب مع صحابيّ جليل، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليُتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: ولما حَكَى ابن العربيّ قول الضحّاك، قال: وإنما جعله أوّل حدّ الكثرة؛ لأنه قيمة النفس المؤمنة، وما دونه في حدّ القلّة، وهو فقه بالغ، وقد رُوي عن غيره، وإني لأستحبّه قولًا، وأصوّبه رأيًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي أن ما أدّي زكاته فليس بكنز، لكن هذا لا ينافي ما تقدّم من ثبوت الحقّ في المال لحاجة المحتاجين؛ لثبوت الأدلة على ذلك، فمن أنكر ذلك فقد تناقض، فإنه قد ثبت الإجماع على وجوب أنواع الكفارات، من القتل، والظهار، واليمين، والجماع في رمضان، وكذا النذور، وأداء ديون الناس، وغير ذلك من الحقوق، وكلها سوى الزكاة، فمن أوجب هذه الأشياء في المال، وهي سوى الزكاة، فكيف ينكر وجوب صلة ذوي الأرحام، ومواساة الفقراء، وغيرهم من أصحاب الضرورة؟، إن هذا

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 7 - 9.

ص: 174

لهو العجب العجاب. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وقوله: (قَالَ: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا) جمع ناصية، وهي الشعر المنسدِل على الجبهة.

وقوله: (الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) متعلّقٌ بـ "معقود"، وفهم منه دوام حكم الجهاد إلى يوم المعاد، وهذا الكلام جَمَعَ من أصناف البديع ما يعجز منه كلُّ بليغ، ومن سُهولة الألفاظ ما يعجب، ويُستطاب. قاله أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: جاء تفسير "الخير" في الحديث الآخر في "الصحيح": بالأجر والمغنم، وفيه دليل على بقاء الإسلام والجهاد إلى يوم القيامة، والمراد قُبيل القيامة بيسير؛ أي: حتى تأتي الريح الطيبة مِن قِبَلِ اليمن تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، كما ثبت في "الصحيح". انتهى.

وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": جاء تفسير الخير المذكور هنا بالأجر والغنيمة، قال: ويزاد العزّة، والجاه بالمشاهدة، فيُحمل ما جاء على التمثيل دون التحديد، أو على بيان أعظم الفوائد المطلوبة، بل على بيان الفائدة المترتّبة على ما خُلق له، وهو الجهاد، والجاه ونحوه حاصل بالاتّفاق، لا بالقصد، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَلَا تُغَيِّبُ) بضم أوله، وتشديد الياء، من التغييب، والضمير للخيل.

وقوله: (وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ) أي: أسامها في روضة، يقال: رَعَتِ الماشية تَرْعَى رَعْيًا، فهي راعيةٌ: إذاً سَرَحَتْ بنفسها، ورَعَيْتُهَا أرعاها، يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، قاله في "المصباح"

(3)

، وما هنا من المتعدّي، ولذا نصب ضمير الخير.

(1)

"المفهم" 3/ 703.

(2)

"شرح السندي على النسائيّ" 6/ 215.

(3)

"المصباح" 1/ 231.

ص: 175

و "الْمَرْج" بفتح، فسكون: أرضٌ ذات نبات ومَرْعًى، والجمع مُرُوجٌ، مثلُ فَلْسٍ وفُلُوس

(1)

.

وقوله: (بِكُلِّ خُطْوةٍ) بضمّ، فسكون: مسافة ما بين الرجلين، وأما الْخَطْوة بالفتح فهي المرّة، قال في "المصباح": خَطَوْتُ أَخْطُو خَطْواً: مشيتُ، الواحدة خَطْوَةٌ، مثلُ ضَرْب وضَرْبة، والْخُطْوَةُ بالضمّ: ما بين الرِّجلين، وجمع المفتوح خَطَوَات على لفًظه، مثلُ شَهْوةٍ وشَهَوَاتٍ، وجمع المضموم خُطًى، وخُطُوَات، مثلُ غُرَفٍ وغُرُفَات في وجوهها. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي عُسْرِهَا ويُسْرِهَا) لعله أراد حال نشاطها وقوّتها، وحال ضعفها ومرضها، والمراد جميع أحوالها؛ يعني: أنه يواسي المحتاجين بها في كلّ الأحوال، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَأمَّا الَّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ) وفي نسخة: "وأما الذي هي عليه وزر".

وقوله: (فَالذِي يَتَّخِذُهَا أَشَراً وَبَطَراً، وَبَذَخاً وَرِيَاءَ النَّاسِ) قال أهل اللغة: "الأَشَرُ" بفتح الهمزة والشين، وهو الْمَرَحُ واللَّجَاج، وأما "الْبَطَرُ": فالطغيان عند الحقّ، وأما "الْبَذَخُ": فبفتح الباء والذال المعجمة، وهو بمعنى الأشَر والبَطَر، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

والحديث متّفق عليه، وهو بهذا السياق المطوّل من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2293]

(

) - (وَحَدثنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدرَاوَرْدِي، عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدَّم قبل باب.

(1)

"المصباح" 2/ 567.

(2)

"المصباح" 1/ 174.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 69 - 70.

ص: 176

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدرَاوَرْدِيُّ) هو: ابن محمد الجهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يحدّث من كتب غيره فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

و (سُهيل) ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز الدراورديّ، عن سُهيل هذه ساقها التِّرمذيّ، فقال:

(1636)

- حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الخيل لثلاثة: هي لرجل أجرٌ، وهي لرجل ستر، وهي على رجل وزرٌ، فأمَّا الذي له أجر، فالذي يتخذها في سبيل الله، فيُعِدّها له، هي له أجر، لا يَغِيب في بطونها شيء، إلا كتب الله له أجرًا"، وفي الحديث قصة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2294]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صالِحٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَ بَدَلَ "عَقْصَاءُ": "عَضْبَاءُ"، وَقَالَ: "فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ، وَظَهْرُهُ"، وَلَمْ يَذْكُر "جَبِينُهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ)

(1)

البصريّ، ثقةٌ [10](ت 247)(م ت س) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريع) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

(1)

بفتح الباء الموحّدة، وكسر الزاي.

ص: 177

3 -

(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ العنبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

و"سُهيل" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية روح بن القاسم، عن سُهيل هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 67) فقال:

(2223)

- حدّثنا أبو الحسن سهل بن عبد الله التستريّ، ثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، ثنا يزيد بن زريع (ح) وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن يحيى، ومحمد بن العباس قالا: ثنا عمرو بن عليّ، ثنا يزيد بن زريع (ح) وثنا محمد بن أبي إسحاق، ثنا الحسين بن محمد الحرّانيّ، ثنا أبو الخطَّاب زياد بن يحيى، وإسماعيل بن بشر بن منصور قالا: ثنا يزيد بن زريع، ثنا رَوْح بن القاسم، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد له مالٌ لا يؤدِّي زكاته إلا جُمِع له يوم القيامة صفايح، يُحْمَى عليه في نار جهنم، فيُكْوَى بها جنبه وظهره، حتى يقضي الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدُّون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاته، إلا يجاء بها يوم القيامة، كأحسن ما كانت عليه، ثم يبطح لها بقاع قرقر، ثم تستن عليه، كلما مرت أُخراها رُدّت عليه أولاها، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدّون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب غنم، لا يؤدي زكاته، إلا يجاء بها يوم القيامة وبغنمه، كأكثر ما كانت، فيبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عَضْبَاءُ، ولا جَدْعاءُ، كلما مَضَت عليه أُخراها رُدّت عليه أولاها، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدُّون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"، قيل: يا رسول الله، فالخيل؟ قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والخيل لثلاثة: هي لرجل أجرٌ، وللآخر ستر، ولآخر وزر، فأمَّا التي هي له أجرٌ، فرجل يتخذها، ويُعِدّها في سبيل الله، فما غَيَّبَت في بطونها فهو له أجر، ولو رعاها في مرج، كان له بكلِّ شيء غيبت في بطونها أجر، ولو استنت شَرَفاً أو شَرَفَين كان له بكلِّ خطوة خَطَتْها أجر، ولو عَرَضَ له

ص: 178

نهر فسقاها منه، كان له بكلِّ قَطْرة غيّبتها في بطونها أجر، حتى إنه ليذكر الأجر في أرواثها وأبوالها، وأما التي هي له سترٌ، فرجل يتخذها تصنفاً

(1)

وتكرُّماً وتجملاً، ولا ينسى حق ظهورها ولا بطونها في عسره ويسره، وأما التي عليه وزرٌ، فرجل يتخذها أشراً وبَطَراً ورياءً الناس، وبَذَخاً عليهم"، قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: "ما أُنزل عليّ فيها شيء، إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} "، لفظ الحديث لزياد بن يحيى، وهو أتمهم لفظًا. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2295]

(

) - (وَحَدَّثَنِي هَارُون بْن سَعِيدٍ الْأيلِي، حَدَّثَنَا ابْن وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْن الْحَارِثِ، أَنَّ بكَيْراً حَدَّثَهُ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: "إذَا لَمْ يُؤَدِّ الْمَرْء حَقَّ اللهِ، أَوِ الصَّدَقَةَ فِي إِبِلِهِ"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِنَحْوِ حَدِيثِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارونُ بْن سَعِيدٍ الأيلِيُّ) تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْن وَهْب) هو عبد الله، تقدَّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عَمْرُو بْنً الْحَارِثِ) تقدَّم قريبًا.

4 -

(بكَيْر) بن عبد الله بن الأشجّ، تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية بكير، عن أبي صالح هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 69) فقال:

(2227)

- حدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكيراً حدّثه، عن أبي

(1)

كذا وقع في النسخة، ولعلّه "تعفّفاً" بعين مهملة، وفاءين، فليُحرّر.

ص: 179

صالح ذكوان، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لم يؤدِّ المرء حقّ الله، أو الصدقة في إبله بُطِح لها بصعيد قرقر، فوَطِأته بأخفافها، وعَضّته بأفواهها؛ إذا مر آخرها كَرَّ عليه أولها، حتى يَرَى مصدره إما من الجنة وإما من النار، والبقر إذا لم يؤدّ حقّ الله فيها بُطِح له

(1)

بصعيد قرقر، فوطأته بأظلافها ونطحته بقرونها؛ إذا مَرّ عليه آخرها كَرّ عليه أولها، حتى يرى مصدره إما من الجنة وأما من النار، والغنم كذلك تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيها عَقْصَاء، ولا جَمّاء، حتى يرى مصدره إما من الجنة وإما من النار، والخيل لثلاثة: أجر ووزر وستر، فمن اقتناها تعفّفاً وتغنياً كانت له ستراً، ومن اقتناها عُدّةً للجهاد في سبيل الله، كانت له أجرًا، فإن طول لها شَرَفاً أو شَرَفين، كان له في ذلك أجر، ومن اقتناها فخراً ورياءً ونواءً على المسلمين، كانت له وزراً"، قال قائل: يا رسول الله أفرأيت الحمر؟ قال: "لم يأت في الحمر شيء، إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} ". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2296]

(988) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أنه سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأنصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، لَا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا، إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أكثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاع قَرْقرٍ، تَسْتَنُّ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا، وَلَا صَاحِبِ بَقَرٍ، لَا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا، إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أكثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاع قَرْقَرٍ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونهَا، وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا، وَلَا صَاحِبِ غَنَم، لَا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا، إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أكثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقرٍ، تَنْطَحُهُ

(1)

هكذا في النسخة، ولعلّه "لها"، فليُحرّر.

ص: 180

بِقُرُونهَا، وَتَطَؤُهُ بِأظْلَافِهَا، لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ، وَلَا مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا، وَلَا صَاحِبِ كَنْزٍ، لَا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ، إِلَّا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أَقرَعَ، يَتْبَعُهُ فَاتِحاً فَاهُ، فَإِذَا إتاهُ فَرَّ مِنْهُ، فَيُنَادِيهِ: خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَأْتَهُ، فَأنَا عَنْهُ غَنيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لَا بُدَّ مِنْهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ"، قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ سَألنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْل عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَق الإبِلِ؟ قَالَ: "حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المروزيّ، ثقة ثبتٌ حجة إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدَّم قبل باب.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَاقِ) بن همّام، تقدَّم أيضًا قبل باب.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدَّم أيضًا قبل باب.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس، تقدَّم قريبًا.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأنصَارِيُّ) رضي الله عنهما، تقدَّم أيضًا قريبًا.

وقوله: (إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أكثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ، وَقَعَدَ لَهَا) وكذلك في البقر والغنم، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول بالثاء المثلثة، وقَعَدَ بفتح القاف والعين.

[تنبيه]: "قط" فيها لغاتٌ حكاهنّ الجوهريّ، والفصيحة المشهورة "قَطُّ" مفتوحة القاف، مشدّدة الطاء، قال الكسائيّ: كانت قَطُطُ، فلمَّا سُكّن الحرف الثاني للإدغام جُعِل الآخر متحرِّكاً، والثانية:"قُطُّ" بضم القاف؛ إتباعاً للضمة، كقولك: مُد يا هذا، والثالثة:"قَطُ" بفتح القاف، وتخفيف الطاء، والرابعة:"قُطُ" بضم القاف، والطاء المخففة، وهي قليلة، والخامسة: قَطِّ مكسورة

ص: 181

مشدّدة، حكاها ابن الأعرابيّ

(1)

.

هذا إذا كانت بمعنى الدهر، فأمَّا التي بمعنى حسبُ، وهو الاكتفاء فمفتوحة ساكنة الطاء، تقول: ما رأيته إلا مرةَ واحدة فَقَطْ، فإن أضفت قلت: قَطْكَ هذا الشيءُ؛ أي: حسبك، وقَطْنِي، وقَطِي، وقَطْهُ، وقَطْهَا، أفاده في "الصحاح"

(2)

.

وإلى ما ذُكر أشرت بقولي:

قَطُّ بِمَعْنَى الدَّهْرِ قُلْ خَمْسُ لُغَهْ

حَقَّقَهَا أَهْلُ اللُّغَاتِ النَّبَغَهْ

بِالْفَتْحِ فَالضَّمِّ وَضَمَّتَيْنِ

خَفِّفْ وَشُدَّ الطَّاءَ دُونَ مَيْنِ

خَامِسُهَا قَطِّ بِكَسْرِ شُدِّدَا

أَمَّا بِمَعْنَى حَسْبُ سَاكِناَ بَدَا

فَقُلْ فَقَطْ فَإِنْ أَضَفْتَ قَطْكَ قُلْ

قَطِي وَقَطْنِي عَنْهُمْ أَيْضاً نَبُلْ

وقوله: (وَلَا صَاحِبِ كَنْزٍ

إلخ) تقدَّم أن الأرجح في المراد بالكنز هنا هو كلّ ما وجبت فيه الزكاة، ولم يؤدّ.

وقوله: (شُجَاعاً أَقْرَعَ) الشجاع: هو الحية الذكر، والأقرع الذي تَمَعطَ شعره؛ لكثرة سُمِّهِ، وقيل: الشجاع الذي يُواثب الراجل والفارس، ويقوم على ذَنَبِهِ، وربما بلغ رأس الفارس، ويكون في الصحارى، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وفي "كتاب أبي عُبيد": سمي أقرع؛ لأن شعر رأسه يتمعّط لجمعه السمّ فيه.

وتعقّبه القزّاز بأن الحيّة لا شعر برأسها، فلعله يذهب جلد رأسه.

وفي "تهذيب الأزهريّ": سمي أقرع؛ لأنه يَقرِي السمّ، ويجمعه في رأسه، حتى تتمعّط فروة رأسه، قال ذو الرُّمّة [من الطويل]:

قَرَى السُّمَّ حَتَّى انْمَارَ فَرْوَةُ رَأسِهِ

عَنِ الْعَظْمِ صَلَّ قَاتِل اللَّسْعِ مَارِدُهْ

وقال القرطبيّ: الأقرع من الحيّات الذي ابيضّ رأسه من السمّ، ومن الناس الذي لا شعر برأسه؛ لتقرّحه، قال: وفي غير كتاب مسلم من الزيادة: "له زبيبتان"، وهما الزبيبتان في جانبي فيه من السمّ، ويكون مثلهما في شِدْقي

(1)

راجع: "لسان العرب" 7/ 381.

(2)

راجع: "الصحاح" 3/ 965.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 71.

ص: 182

الإنسان عند كثرة الكلام، وقيل: نكتتان على عينيه، وما هو على هذه الصفة من الحيّات هوأشدّ أذى، قال الداوديّ: وقيل: نابان يخرجان من فيه. انتهى

(1)

.

وقوله: (خُذْ كَنْزَكَ الذِي خَبَأتهُ) قال في "الفتح": وفائدة هذا القول الحسرة، والزيادة في التعذيب، حيث لا ينفعه الندم، وفيه نوع من التهكّم.

وقوله: (فَأنَا عَنْهُ غنِيٌّ) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا وقع لنا فيما رأيناه من النسخ، وفي الكلام خرمٌ يتلفّق بتقدير محذوف، وهو فيقول: فأنا عنه غنيّ، وحينئذ يلتئم الكلام، فتأمّله، وكثيراً ما يُحذف القول الذي للحكاية، كقوله تعالى:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]؛ أي: يقولون: إنما

إلخ. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَنْ لَا بُدَّ مِنْهُ)"أن" هنا مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف؛ أي: أنه لا بدّ من أخذه.

وقوله: (سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ) أي: أدخل يده في فم ذلك الشجاع.

وقوله: (فَيَقْضَمُهَا) بفتح الضاد، يقال: قَضِمَت الدابةُ شعيرها -بكسر الضاد- تَقْضَمه -بفتحها-، من باب تَعِبَ: إذا كسرته بأطراف أسنانها، وقَضَمَتْ قَضْماً، من باب ضرب لغةٌ، ومنه يقال على الاستعارة: قَضَمْتُ يدهُ: إذا عَضِضْتَهَا، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: القضم بأطراف الأسنان، والخضم بالفم كلّه، وقيل: القضم أكل اليابس، والخضم أكل الرطب، ومنه قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: تخضمون، ونقضم، والموعد الله. انتهى.

وقوله: (قَضْمَ الْفَحْلِ) مفعول مطلقٌ لـ "يَقْضِمها"؛ أي: مثلما يقَضِمُ الإبل الفحل.

وقوله: (قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ) بن قتادة الليثيّ، أبو عاصم المكيّ وُلد في عهد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله مسلم، وعدّه غيره في كبار التابعين،

(1)

"المفهم" 3/ 31.

(2)

"المفهم" 3/ 31.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 507.

ص: 183

وكان قاصّ أهل مكة، مجمع على ثقته، ومات سنة (68)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 473.

وقوله: (يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ

إلخ) أي: ما سبق من الحديث، والمعنى أن أبا الزبير سمع هذا الحديث من عُبيد بن عُمير مرسلاً؛ لأن عبيداً تابعيّ، ثم لقي جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فسأله عنه، فأخبره به، فصار متّصلاً.

وقوله: (قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ

إلخ) هذا ظاهر في أن هذا مما سمعه أبو الزبير عن عُبيد مرسلاً، وليس مما سمعه عن جابر رضي الله عنه.

وقوله: (مَا حَقُّ الإبِلِ؟

إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا السؤال الجواب أن هذا هو الحقّ المتوعَّد عليه فيما تقدَّم حين ذكر الإبل، وأنَّه كلُّ الحقّ، مع أنه لم يتعرَّض فيه لذكر الزكاة، وفي هذا الظاهر إشكالٌ تُزيله الرواية الأخرى التي ذُكر فيها "من" التي للتبعيض، بل وقد جاء في رواية أخرى مفسراً:"ما من صاحب إبل لا يؤدّي زكاتها"، وكذلك في الغنم، وكأنّ بعض الرواة أسقط في هذه الرواية "من"، وهي مرادة ولا بُدّ.

قال: ثم ظاهره أن هذه الخصال واجبةٌ، ولا قائل به مطلقاً، ولعلّ هذا الحديث خرج على وقت الحاجة، ووجوب المواساة، وحال الضرورة، كما كان في أول الإسلام، ويكون معنى الحديث أنه مهما تعيّنت هذه الحقوق ووجبت، فلم تُفْعَل تَعَلَّقَ بالممتنع من فعلها هذا الوعيد الشديد، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيس، وقد تقدَّم تحقيق هذا، وأن الصواب أن في المال حقّ سوى الزكاة، وذلك عند الحاجة والضرورة، مثل أن يتعيّن مواساة الفقراء والمحتاجين، ونحو ذلك، فإنه يجب على الأغنياء أن يقوموا بسدّ حاجتهم، فتفطّن لذلك، والله تعالى أعلم.

وقوله: (حَلْبُهَا عَلَى الْمَاءِ) قال القرطبيّ: رحمه الله: هو بسكون اللام

(2)

على المصدر، وهو الأصل في مصدر ما كان على فَعَلَ يَفْعُلُ، وقد جاء على فَعَلٍ

(1)

"المفهم" 3/ 31 - 32.

(2)

تقدَّم أن الرواية هنا بفتحتين، وبفتح، فسكون، فالوجهان جائزان، كما أشار إليه القرطبي رحمه الله فتنبّه.

ص: 184

بفتح العين في الْحَلَبِ، فأمَّا الْحَلَبُ اسمٌ للّبن، فبالفتح لا غير، وليس هذا موضعه، وخصّ حَلْب الإبل بموضع الماء؛ ليكون أقرب على المحتاج والجائع، فقد لا يقدر على الوصول لغير مواضع الماء. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فأمَّا حَلْبُها يوم وِرْدها ففيه رِفْقٌ بالماشية، وبالمساكين؛ لأنه أهون على الماشية، وأرفق بها، وأوسع عليها من حلبها في المنازل، وهو أسهل على المساكين، وأمكن في وصولهم إلى موضع الحلب؛ لِيُوَاسَوْا، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا) هو: إناء يُستقى به من البئر

(3)

، وتأنيثها أكثر، فيقال: هي الدلو، وفي التذكير يُصغّر على دُليّ، مثل فَلْسٍ وفُلَيْس، وثلاثة أدلٍ، وفي التأنيث دُليّةٌ بالهاء، وثلاثُ أدلٍ، وجمع الكثرة الدِّلاءُ، والدُّلِيّ، والأصل فُعُولٌ، مثلُ فُلُوسٍ

(4)

.

وقوله: (وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا) بفتح، فسكون، الذكر من الحيوان، وجمعه فُحُولٌ، وفُحُولةٌ، وفِحَالٌ

(5)

.

وقوله: (وَمَنِيحَتُهَا) بفتح الميم، وكسر النون: فَعِيلَة بمعنى مفعولة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْمِنْحَةُ بالكسر في الأصل الشاة، أو الناقةُ يُعطيها صاحبها رجلًا يَشرَب لبنها، ثم يرُدّها إذا انقطع اللبن، ثم كثُر استعماله حتى أُطلق على كلّ عطاء، ومَنَحْتُ مَنْحاً، من بأبي نَفَعَ وضَرَبَ: أعطيته، والاسم الْمَنِيحة. انتهى

(6)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: المنيحة ضربان:

[أحدهما]: أن يُعْطي الانسانُ آخرَ شيئًا هِبَةً، وهذا النوع يكون في الحيوان، والأرض، والأَثَاث، وغير ذلك.

[الثاني]: أن المنيحة ناقةٌ، أو بقرةٌ، أو شاةٌ يُنتَفَع بلبنها، ووَبَرها، وصوفها، وشعرها زمانًا، ثم يردها، ويقال: مَنَحَهُ يَمْنَحُهُ بفتح النون في

(1)

"المفهم" 3/ 33.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 72.

(3)

"المعجم الوسيط" 1/ 295.

(4)

"المصباح" 1/ 199.

(5)

"المصباح" 2/ 463.

(6)

"المصباح" 2/ 580.

ص: 185

المضارع وكسرها. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَحَمْل عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ")"حَمْلٌ" بفتح، فسكون: مصدر حَمَلَ، من باب ضرب، وهو مرفوع عطفًا على "حَلَبُهَا"، والجارّان متعلّقان به، وتمام شرح الحديث تقدَّم في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 2296 و 2297](988)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2454) و "الكبرى"(2234)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 321)، و (الدارميّ) في "سننه"(1565)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 69 و 70)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 182)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 428)، وفوائد الحديث تقدّمت في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2297]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غنَم، لَا يُؤَدِّي حَقهَا، إِلَّا أقعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقرٍ، تَطَؤُهُ ذَاتُ الظَّلْفِ بِظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ، وَلَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: "إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَحَمْل عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا مِنْ صاحِبِ مَال

(2)

، لَا يُؤَدي زَكَاتَهُ، إِلا تَحَوَّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقرَعَ، يَتْبَعُ صاحِبَهُ

(1)

"شرح النووي" 7/ 71 - 72.

(2)

وفي نسخة: "ولا صاحب مال".

ص: 186

حَيْثُمَا ذَهَبَ، وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَيُقَالُ: هَذَا مَالُكَ الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا رَأَى أنهُ لَا بُدَّ مِنْهُ

(1)

، أَدْخَلَ يَدَهُ في فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدَّم قبل باب.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدَّم أيضًا قبل باب.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ، ثقة [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (إِلَّا أقعِدَ لَهَا) بالبناء للمفعول.

وقوله: (جَمَّاءُ) بفتح الجيم، وتشديد الميم: هي التي لا قرن لها.

وقوله: (إِلَّا تَحَوَّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أَقْرَعَ) معنى "تحوّل" أي: صار، وفي رواية أخرى:"إلا مُثِّل له"؛ أي: صُوِّر له، وقيل: نُصِب، وأُقيم، من قولهم: مَثَلَ قَائماً، من باب قعد: أي: قام منتصباً، أفاده القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: قوله: (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا حَقُّهَا؟

إلخ) قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: الظاهر أن قوله: فقلنا: يا رسول الله وما حقّها؟ قال: "إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله" زيادة ليست متّصلةً، وقد بيّن ذلك أبو الزبير في بعض طرق مسلم -يعني: الحديث الماضي- فذكر الحديث دون الزيادة، ثم قال أبو الزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبد الله عن ذلك، فقال مثل قول عبيد بن عمير، قال أبوالزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول الله ما حقّ الإبل؟ قال: "حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فَحْلها، ومَنِيحتها، وحَمْل عليها في سبيل الله".

قال: فقد تبيّن بهذه الطريق أن هذه الزيادة إنما سمعها أبو الزبير من

(1)

وفي نسخة: "أنه لا بد له منه".

(2)

"المفهم" 3/ 30، و "المصباح" 2/ 564.

ص: 187

عُبيد بن عُمير مرسلةً، لا ذكر لجابر فيها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في الدعوى نظرٌ؛ لأن الانقطاع في طريق لا يستلزم الانقطاع في جميع الطرق، فأبو الزبير سمعه من جابر رضي الله عنه، مرفوعًا، وسمعه من عُبيد بن عمير مرسلاً، فحدّث بالطريقين

(2)

، وقد نبّه مسلم بإخراجه من كلا الطريقين على أن الإرسال هنا لا يضرّ الاتصال، على أن هذه الزيادة قد صحّت مرفوعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ كما قدّمته قريبًا.

والحاصل أن هذه الزيادة صحيحة مرفوعةً، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ بَيَانِ إِرْضاءِ السُّعَاةِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2298]

(989) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِلَالٍ الْعَبْسِى، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ نَاساً

(3)

مِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَأتونَنَا، فَيَظْلِمُونَنَا

(4)

، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ"، قَالَ جَرِيرٌ: مَا صَدَرَ عَنِّي مُصَدقٌ، مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ).

(1)

"طرح التثريب" 4/ 11 - 12.

(2)

قال البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(4/ 183) بعد إخراجه الحديث بالطريقين: ورواية أبي الزبير عن عبيد بن عمير، عن النبي صلى الله عليه وسلم منقطعة، وروايته عن جابر بن عبد الله مسندة. انتهى.

(3)

وفي نسخة: "أُناساً".

(4)

وفي نسخة: "يأتونا، فيظلمونا".

ص: 188

قال الجامع عفا الله عنه: كان الأولى للمصنّف رحمه الله أن يؤخّر هذا الحديث عن الأحاديث التي تأتي بعده؛ لأنها من أحاديث الباب الماضي، فإدخاله بينها مما لا يخفى بُعده، وسيأتي هذا الحديث آخر "كتاب الزكاة"، وهو المحلّ المناسب له، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِي) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم البصري، ثقة [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ) واسم أبيه راشد السُّلَميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أنس، وسعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن هلال، وأبي الضّحَى، وعاصم بن عُمير الْعَنَزيّ، وجماعة.

ورَوَى عنه الثوريّ، وعبد الواحد بن زياد، وعبد الله بن نُمير، وعبد الرحيم بن سليمان، ويحيى بن سعيد القطان، وأبي أسامة، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: محمد بن راشد أخو عُمر، وإسماعيل، ويعرفون ببني أبي إسماعيل، محمد أحبهم إليّ، وقال يحيى بن آدم، عن شريك أنه سئل عن امرأة وَلَدت في بطن أربعة، فقال: قد رأيت بني إسماعيل أربعة وُلدوا في بطن واحد، وعاشوا، قال البخاريّ: عامتهم محدِّثون، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاريّ: قال يحيى: مات سنة اثنتين وأربعين ومائة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (989)، و (2592): "من يُحرَم الرفق يُحرم الخير

"، و (1017): "من سنّ في الإسلام سنّة حسنةً

".

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِلَالٍ الْعَبْسِي) الكوفيّ، ثقةٌ [3].

روى عن جرير، وعنه أبوالضحَى، وتميم بن سَلَمَة، ومحمد بن أبي إسماعيل، وموسى بن عبد الله بن يزيد الخطميّ، ومجالد، وغيرهم.

ص: 189

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وفي الطبراني من طريق مجالد عنه قال: بعثني أبي إلى جرير، فسألته.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه.

وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (989)، و (1017): "جاء ناس من الإعراب

"، و (2592): "من يُحرَم الرفق يُحرم الخير

"، كرّره ثلاث مرات.

5 -

(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن جابر البجليّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (51)، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى فضيل، وعبد الواحد، فبصريان.

3 -

(ومنها): أن عبد الرحمن، ومحمد بن أبي إسماعيل هذا أول محل ذكرهما من الكتاب، وقد عرفت ما لكلّ منهما من الأحاديث في الكتاب.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) البجليّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ) بالفتح يريد أهل البادية، وواحد الإعراب أعرابيّ، والفرق بين الأعرابيّ والعربيّ أنّ من نزل البادية وجاور البادِينَ، وظعن بظَعْنِهم، فهو من الإعراب، ومَن نزل بلاد الرِّيفِ، واستوطن الْمُدُن، والقرى العربيّة، وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهو من العرب، وإن لم يكن فصيحاً (إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّقٌ بـ "جاء" (فَقَالُوا: إِن نَاساً) وفي نسخة: "أُناساً"، وهو لغة فيه (مِنَ الْمُصَدّقِينَ) وهو جمع مُصَدّق- بتخفيف الصاد، وتشديد الدال- أي: من السُّعَاة الذين يُرسلون لأخذ الصدقات من الناس (يَأتونَنَا، فَيَظْلِمُونَنَا) وفي نسخة: "يأتونا، فيظلمونا" بنون واحدة في الموضعين.

ص: 190

قال القرطبيّ رحمه الله: لا شكّ أن أهل البادية أهل جفاء وجهل غالبًا؛ ولذلك قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: 97] ولذلك نَسَبُوا الظلم إلى مصدّقي النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى فضلاء أصحابه، فإنه صلى الله عليه وسلم ما كان يَستعمل على ذلك إلا أعلم الناس، وأعدلهم؛ لكن لجهل الإعراب بحدود الله ظنّوا أن ذلك القدر الذي كانوا يأخذونه منهم هو ظلم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:"أرضوا مصدّقيكم، وإن ظُلِمتم" أي: على زعمكم وظنّكم، لا أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم سوّغ للعمّال الظلم، وأمر الأعراب بالانقياد لذلك؛ لأنه كان يكون ذلك منه إقرارًا على منكرٍ، وإغراءً بالظلم، وذلك مُحالٌ قطعًا، وإنما سلك النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء هذا الطريق، دون أن يبيّن لهم أن ذلك الذي أخذه المصدّقون ليس ظلماً؛ لأن هذا يحتاج إلى تطويل وتقريرٍ، وقد لا يَفهَم ذلك أكثرهم.

وأيضًا فَلْيَحصُل منهم الانقياد الكلّيّ بالتسليم، وترك الاعتراض الذي لا يحصل الإيمان إلا بعد حصوله، كما قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. انتهى كلام القرطبي رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

(قَالَ) جرير رضي الله عنه (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ") أي: ببذل الواجب، وملاطفتهم، وترك مُشاقّتهم، وسيأتي الحديث آخر "كتاب الزكاة" بعد حديث رقم (1078) من طريق الشعبيّ، عن جرير رضي الله عنه بلفظ:"إذا آتاكم المصدِّق، فليَصُدر عنكم، وهو عنكم راضٍ".

قال النوويّ رحمه الله: المصدّق الساعي، ومقصود الحديث الوَصَاية بالسعَاة، وطاعةِ وُلاة الأمور، وملاطفتِهِم، وجمعُ كلمة المسلمين، وإصلاح ذات البين.

وهذا كلّه ما لم يطلب جَوْراً، فإذا طلب جَوراً، فلا موافقة له، ولا طاعة

(2)

؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: "فمن سئلها على وجهها، فليعطها، ومن سئل فوقها، فلا يُعْطِ"، رواه البخاريّ.

(1)

"المفهم" 3/ 133 - 134.

(2)

وقال النووي أيضًا (7/ 73): وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي؛ =

ص: 191

قال: واختَلَفَ أصحابنا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يُعط" فقال أكثرهم: لا يُعطي الزيادة، بل يعطي الواجب، وقال بعضهم: لا يعطه شيئًا أصلًا؛ لأنه يفسق بطلب الزيادة، وينعزل، فلا يُعطَى شيئًا، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأكثرون هو الأقرب والأظهر عندي، والله تعالى أعلم.

وفي حديث بشير ابن الْخَصَاصيّة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله إن أهل الصدقة يَعْتَدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال:"لا"، رواه أبو داود، وفي إسناده مجهول.

وفي حديث جابر بن عَتِيك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتيكم ركب مُبَغّضون، فإذا جاؤوكم، فرحّبوا بهم، وخلّوا بينهم، وبين ما يَبتغون، فإن عَدَلُوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم، فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم"، رواه أبو داود أيضًا، وفي إسناده مجهول أيضًا

(2)

.

(قَالَ جَرِيرُ) بن عبد الله رضي الله عنه (مَا) نافية (صَدَرَ عَني مُصَدِّق) أي: ما رجع من عندي سَاعٍ، يقال: صدَرَ عن الموضع صَدْراً، من باب قتل: إذا رجع، قال الشاعر [من البسيط]:

وَلَيْلَةٍ جَعَلْتُ الصُّبْحَ مَوْعِدَهَا

صَدْرَ الْمَطِيَّةِ حَتَّى تَعْرِفَ السَّدَفَا

(3)

(مُنْذُ سَمِعْتُ هَذا) أي: قوله صلى الله عليه وسلم: "أرضوا مصدّقيكم"(مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ) يعني: أنه ما رجع من عنده ساعٍ بعد سماعه هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو راض عنه؛ لكونه أعطاه ما طلب، والله تعالى أعلم، وهو المستعان، وعليه التكلان.

= إذ لو فسق لانعزَلَ، ولم يجب الدفع إليه، بل لا يُجزئ، والظلم قد يكون بغير معصية، فإنَّه مجاوزة الحدّ، ويَدخُلُ في ذلك المكروهات. انتهى.

(1)

"شرح مسلم" 7/ 174 - 185.

(2)

راجع: "المنهل" 9/ 187 - 189.

(3)

راجع: "المصباح المنير" في مادة صدر.

ص: 192

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جرير رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2298 و 2299](989) وسيأتي بعد حديث (1078)، و (أبو داود) في "الزكاة"(647)، و (التِّرمذيّ) في "الزكاة"(1802)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2460 و 2461) و "الكبرى"(2240 و 2241)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1802)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 362)، و (الدارميّ) في "سننه"(1660)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 137)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب إرضاء الساعي في الصدقة، وإن ظنّ ربّ المال أنه يظلمه، وهذا محمول على ما إذا كان المصدّق معروفاً بالورع، لا يظلم الناس، ولكنّ صاحب المال لحرصه ظنّ أنه يظلمه، وأما إذا طلب فوق الواجب من دون تأويل، فلا يجب إرضاؤه؛ لما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لَمّا وجهه إلى البحرين: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة التي فَرَض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يُعْطِ

" الحديث.

وخلاصة القول: أن نقول: إنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن عامليه لا يظلمون الناس، ولكنّ أرباب الأموال لشدّة محبّتهم للأموال يَعُدّون ما يأخذونه منهم ظلمًا، فقال لهم:"أرضوا مصدّقيكم"؛ أي: وإن ظلموكم في زعمكم، فليس فيه تقرير للعاملين على الظلم، ولا تقرير للناس على الصبر عليه، وعلى إعطاء الزيادة على ما حدّه الله تعالى في الزكاة.

والحاصل أن الجمع بين الحديثين بما ذكر متعيّنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.

2 -

(ومنها): أن الإنسان مجبول على الحرص في ماله، ولذا يَظُنّ أحياناً المصدّق ظالماً له، ولهذا أمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بإرضاء المصدّق؛ لأنه لا يَظْلِم، حيث إنه صلى الله عليه وسلم لا يرسل إلا العالم الورع، ومع ذلك يوصيه بتوقّي كرائم أموال الناس،

ص: 193

فقد أخرج الشيخان عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا بَعَثَ معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال له في جملة وصيّته:"فإن أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم، وتردّ على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فخذ منهم، وتَوَقَّ كرائم أموال الناس"، لكن شدّة حِرْص صاحب المال على ماله، وشحّه به يحمله على اتهامه بذلك، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن يُعطيه ما طَلَب، وُيرضيه بذلك.

3 -

(ومنها): بيان فضل جرير بن عبد الله، بل وسائر الصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم إذا سمعوا من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أمراً بادروا إلى امتثاله، واستمرّوا عليه حتى يموتوا، فقد قال جرير رضي الله عنه في هذا الحديث:"ما صدر عني مصَدّق منذ سعمتُ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وذلك لصدق إيمانهم، وكمال محبّتهم لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2299]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا أَبُو أسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبي إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شَيْبَةَ) تقدَّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْن سلَيْمَانَ) الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقة له تصانيف، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 817.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ) بندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، الإمام الحجة الثبت الناقد، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

ص: 194

5 -

(إسْحَاقُ) ابن راهويه، تقدَّم في الباب الماضي.

6 -

(أَبوأُسَامَة) حمّاد بن أُسامة، تقدَّم قبل بابين.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ

إلخ) يعني: أن كلّا من عبد الرحيم، ويحيى بن سعيد، وأبي أسامة رووا هذا الحديث عن محمد بن أبي إسماعيل بالسند المذكور.

[تنبيه]: أما رواية يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي إسماعيل، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله، فقال:

(2460)

- أخبرنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، واللفظ له، قالا: حدّثنا يحيى، عن محمد بن أبي إسماعيل، عن عبد الرحمن بن هلال، قال: قال جرير: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ناس من الإعراب، فقالوا: يا رسول الله يأتينا ناس من مصدقيك يظلمون، قال:"أرضوا مصدقيكم"، قالوا: وإن ظَلَم؟ قال: "أرضوا مصدقيكم"، ثم قالوا: وإن ظلم؟ قال: "أرضوا مصدقيكم"، قال جرير: فما صدر عني مُصَدِّقٌ، منذ سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو راض. انتهى.

وأما رواية عبد الرحيم بن سليمان، وأبي أسامة، فلم أر من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ بَيَانِ تَغْلِيظِ عُقُوبَةِ مَنْ لَا يُؤَدِّي الزكَاةَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2300]

(990) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدثنا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُويدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ جَالِس فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ:"هُمُ الْأَخْسَرُونَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 195

فَجِئْتُ حتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أتقَارَّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمُ الأكثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَقَلِيل مَا هُمْ، مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلِ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غنَمٍ، لَا يُؤَدي زَكَاتَهَا، إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ، وَأًسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونهَا، وَتَطَؤُهُ بِأظْلَافِهَا، كُلمَا نَفِدَتْ

(1)

أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الناسِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابد، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله (70) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبت عابد، يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(الْمَعْرُورُ بْنُ سُويدٍ) الأسديّ، أبوأميّة الكوفيّ، ثقةٌ [2](ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.

5 -

(أَبُو ذَرٍّ) اسمه جندب بن جُنادة على الأصحّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذي.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى أبي ذرٍّ رضي الله عنه، فمدنيّ، ثم رَبَذيّ.

(1)

وفي نسخة: "كلّما نَفَذَت" بالذال المعجمة.

ص: 196

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فقد أخرج أحمد، وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أقلّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر"، وهو حديث صحيح

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: انْتَهَيْتُ) أي: وصلت (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "هُمُ الْأَخْسَرُونَ) يأتي تفسيره بقوله: "الأكثرون أموالاً"(وَرَبِّ الْكَعْبَةِ") فيه جواز القسم بهذه الصيغة (قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أتقَارَّ) أي: لم يمكني القرار والثبات (أَنْ قُمْتُ)"أن" بالفتح مصدريّة؛ أي: من القيام، وفي رواية النسائيّ:"فَقُلْتُ: مَا لِي؟ لَعَلِّي أُنْزِلَ فِيَّ شَيْءٌ"(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) مبتدأ وخبره (مَنْ هُمْ؟) أي: مَن هؤلاء الذين قلت في حقّهم: "هم الأخسرون"؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُمُ الأكثَرُونَ أَمْوَالاً) أي: هم الذين كانوا أكثر الناس أموالاً (إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا) قال السنديّ رحمه الله: استثناء من هذا الحكم، وفيه رجوع الضمير إلى الحاضر في الذهن، ثم تفسيره للمخاطب إذا سأل عنه، ومعنى:"إلا من قال هكذا": أي: إلا من تصدق من الأكثرين في جميع الجوانب، وهو كناية عن كثرة التصدّق، فذاك ليس من الأخسرين.

وقوله: "قال" إما بمعنى "تصدّق"، وقوله:"هكذا" إشارة إلى حَثْيِهِ في الجوانب الثلاث؛ أي: تصدّق في جميع جهات الخير، تصدّقاً كالحثي في الجهات الثلاث، أو بمعنى "فَعَل" أي: إلا من فَعَلَ بماله فعلًا مثل الحثْيِ في الجهات الثلاث، وهو كناية عن التصدّق العامّ في جهات الخير، وحَثْيُهُ صلى الله عليه وسلم بيان للمشار إليه بـ "هكذا"، والعرب تَجْعَل القول عبارة عن جميع الأفعال. انتهى كلام السنديّ رحمه الله.

(1)

صحّحه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، راجع:"سنن ابن ماجه" رقم (156).

ص: 197

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السنديّ رحمه الله حسن، إلا قوله:"أو بمعنى فَعَلَ إلخ"، فإنه لا فرق بين المعنى الأول والثاني، بل الثاني نفس الأول، فما الذي دعاه إلى أن يذكره احتمالًا ثانيًا؟، فليُتَأمل، والله تعالى أعلم.

(مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ) هذا تفسير لاسم الإشارة في قوله: "هكذا إلخ". وإشارته صلى الله عليه وسلم إلى قُدّام، ووراء، والجانبين، فمعناه أنه يُنفق في وجوه الخير، ولا يقتصر على نوع واحد من وجوه البرّ، بل يبادر إلى أن ينفق متى حضر أمرٌ مهمّ، أفاده النوويّ

(1)

.

(وَقَلِيل مَا هُمْ) مبتدأ مؤخّر، وخبر مقدّم، أو "قليل" مبتدأ، و "هم" فاعل سدّ مسدّ الخبر، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:

خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِياً

مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إِذَا الطيْرُ مَرَّتِ

(2)

و"ما" زائدة زيدت لتأكيد القلّة.

وقال في "الفتح": قوله: "وقليل ما هم": "ما" زائدة مؤكِّدة للقلة، وَيحْتَمِل أن تكون موصوفة، ولفظ "قليل" هو الخبر، و "هم" هو المبتدأ، والتقدير: وهم قليل، وقَدَّم الخبر للمبالغة في الاختصاص. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ضعف كون "ما" موصوفة، بل لا وجه له، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(مَا) نافية (مِنْ) زائدة للتوكيد (صَاحِبِ إبِلٍ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غنَمٍ، لَا يُؤَدي

(1)

"شرح مسلم" 7/ 76.

(2)

اختَلَف البصريّون والكوفيّون في إعراب قوله: "خبيرٌ بنو لِهْبٍ"، فقال الكوفيون:"خبير" مبتدأ، و "بنو لهب" خبره؛ لأن "خبير" مفرد لا يُخبر به عن الجمع، وهو "بنو"، فردّ عليهم البصريّون بأن فَعِيلاً بمعنى فاعل يستوي فيه الواحد وغيره كالمصدر، فإنَّه كصَهِيل، ونَعِيق، نحو قوله تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وقول الشاعر:

هُنَّ صَدِيق لِلذِي لَمْ يَشِبِ

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 126.

(3)

"الفتح" 14/ 544.

ص: 198

زَكَاتَهَا) هذا صريح في وجوب الزكاة في الإبل، والبقر، والغنم، وقد تقدَّم أن هذا الحديث أصرح ما ورد في زكاة البقر، فتنبّه (إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ) بفتح الطاء، وكسرها (بِقُرُونهَا، وَتَطَؤُهُ بِأظْلَافِهَا) بالفتح: جمع ظِلْف، وهو الْمُنشَق من القوائم، مختصّ بالبقر، والغنم، والظباء، والخفّ بالإبل، والحافر مختصّ بالفرس، والبغل، والحمار، والقدم للآدميّ، ذكره السيوطيّ في "حاشية التِّرمذيّ"

(1)

. (كلَّمَا نَفِدَتْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه "نَفِدَت" بالدال المهملة، و "نَفَذَت" بالذال المعجمة، وفتح الفاء، وكلاهما صحيح. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأول من باب تَعِبَ، يقال: نَفِدَ الشيءُ يَنْفَدُ نَفَاداً: فَنِيَ، وانقَطَعَ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: أنفدته: إذا أفنيته، والثاني من باب قعد، يقال: نَفَذَ السَّهْمُ يَنْفُذُ نَفَاذاً: خَرَقَ الرميةَ، وخرج منها، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، أفاده في "المصباح"

(3)

.

وقوله: (أُخْرَاهَا) مرفوع على الفاعليّة لـ "نفدت"(عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى) بالبناء للمفعول (بَيْنَ الناسِ") أي: يمتدّ عليه هذا التعذيب إلى أن يفرغ الله تعالى من الحكم بين الناس في عرصات القيامة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2300 و 2301](990)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1460) و "الإيمان والنذور"(6638)، و (التِّرمذيّ) في "الزكاة"(617)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 10 و 29)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1785)، و (أحمد) في "مسنده"(20844 و 20890 و 20980)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 71)، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "شرح السنديّ على النسائي" 5/ 11.

(2)

"شرح النووي" 7/ 74.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 616.

ص: 199

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تغليظ العقوبة في منع الزكاة.

2 -

(ومنها): أن من كان أكثر الناس مالاً، ثم لم يَقُم بحقّه من أداء الزكاة، وغيره، يعاقب بالعقاب المذكور، وهو أن يكون جنسُ ذلك المال عذاباً يعذّب به.

3 -

(ومنها): الحثّ على الصدقة في وجوه الخير، وأنَّه لا يقتصر على نوع من وجوه البرّ، بل ينبغي له أن ينفق في كلّ وجه من وجوه الخير.

4 -

(ومنها): جواز الحلف بغير تحليف، حيث قال:"وربّ الكعبة"، قال النوويّ رحمه الله: بل هو مستحبّ إذا كانت فيه مصلحة، كتوكيد أمر، وتحقيقه، ونفي المجاز عنه، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع لهذا المعنى. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): أن فيه أن بعض العصاة يُعذّب عذاباً خاصًّا في عرصات القيامة قبل فصل القضاء.

6 -

(ومنها): أن البعث في القيامة لا يخصّ العقلاء، بل يعم سائر الحيوانات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2301]

(

) - (وَحَدَّثنَاه أَبُو كُرَيْب مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمَعْرُورِ، عَنْ أَبِي ذَر، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ وَكِيعٍ، غَيْرَ أنهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا عَلَى الْأَرْضِ رَجُل يَمُوتُ، فَيَدع إِبِلاً، أَوْ بَقَراً، أَوْ غَنَماً، لَمْ يُؤَد زَكَاتَهَا").

(1)

"شرح مسلم" 7/ 76.

ص: 200

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم فَي "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضَّرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، ورُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ وَكِيعٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير أبي معاوية.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش هذه ساقها التِّرمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(617)

- حدّثنا هناد بن السريّ التميميّ الكوفيّ، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذرّ، قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في ظل الكعبة، قال: فرآني مقبلاً، فقال:"هم الأخسرون، ورب الكعبة يوم القيامة"، قال: فقلت: ما لي؟ لعله أنزل فيّ شيءٌ، قال: قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم الأكثرون، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا"، فحثا بين يديه، وعن يمينه، وعن شماله، ثم قال:"والذي نفسي بيده، لا يموت رجلٌ، فيدع إبلاً، أو بقراً، لم يؤد زكاتها، إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما نَفِدَت أُخراها، عادت عليه أولاها، حتى يُقْضَى بين الناس". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2302]

(991) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِي، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، يَعْنِي ابْنَ مُسْلِم، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لي أُحُداً ذَهَباً، تَأتى عَلَي ثَالِثَةٌ، وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَار، إِلَّا دِينَارٌ

(1)

أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ").

(1)

وفي نسخة: "إلا ديناراً".

ص: 201

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّام

(1)

الْجُمَحِي) مولاهم، أبو حرب البصريّ الأخباريّ

(2)

، صدوقٌ [10](ت 231) أو بعدها (م) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

2 -

(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِم) الجمحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 167)(بخ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقة ثبتٌ ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (145) من رباعيات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن شيخه من أفراد المصنّف، لم يرو عنه من أصحاب الأصول غيره.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا) نافية (يَسُرُّنِي) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: سَرّه يسُرّه سُرُوراً بالضمّ، والاسم السَّرُورُ بالفتح: إذا أفرحه، والْمَسَرّة منه، وهو ما يُسَرّ به الإنسان، والجمع الْمَسَارّ، والسَّرّاءُ: الخير والفضل

(3)

. (أَنَّ لِي أُحُداً ذَهَباً) بضمّتين؛ أي: مثل جبل أحُد، وهو الجبل المعروف بالمدينة، وقوله:(تَأتي عَلَيَ ثَالِثَةٌ) جملة حاليّة، ومعناه: ليلة

(1)

بتشديد اللام.

(2)

بفتح الهمزة: نسبة إلى الأخبار، يقال لمن يحكي الحكايات والقصص والنوادر: الأخباريّ، قاله في "اللباب" 1/ 26.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 274.

ص: 202

ثالثة، قيل: قَيّد بالثلاث؛ لأنه لا يتهيّأ تفريق قدر أُحُد من الذهب في أقلّ منها غالبًا، ويعكُرُ عليه رواية "يوم وليلة"، فالأولى أن يقال: الثلاثة أقصى ما يُحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك، والواحدة أقلّ ما يُمكن

(1)

.

وقوله: (وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ) جملة حاليّة أيضًا (إِلَّا دِينَارٌ) وفي نسخة: "إلا ديناراً" بالنصب، ووجه الرفع أن قوله:"دينار" الأول في حيّز النفي، ووجه النصب أن المستثنى منه مطلق عامّ، والمستثنى مقيّد خاصّ، أفاده الطيبيّ رحمه الله.

(أَرْصدُهُ) أي: أَعُدّه، يقال: رَصَدته، من باب نَصَرَ: إذا قعدتَ له على طريقه تترقبه، وأرصدت له العقوبةَ: إذا أعددتها له، وحقيقته جعلتها على طريقه، كالمترقبة له، قاله في "النهاية"

(2)

.

وقال في "اللسان": الراصدُ بالشيء: الراقبُ له، رَصَدَه بالخير وغيره يَرْصُدُه رَصْداً، ورَصَداً: ترقبه، ورَصَدَه بالمكافأة كذلك، والترَصُّد: الترقب، قال الليث: يقال: أنا لك مُرْصِدٌ بإحسانك حتى أكافئك به، قال: والإرصاد في المكافأة بالخير، وقد جعله بعضهم في الشرّ أيضًا، وأنشد [من مشطور الرجز]:

لَاهُمَّ رَبَّ الرَّاكِبِ الْمُسَافِرِ

احْفَظْهُ لِي مِنْ أَعْيُنِ السَّوَاحِرِ

وَحَيَّةٍ تَرْصُدُ بِالْهَوَاجِرِ

فالحية لا تَرْصُدُ إلا بالشرّ، ويقال للحية التي تَرْصُد المارّة على الطريق لِتَلْسَعَ: رَصِيد، والرَّصِيد: السَّبُعُ الذي يَرْصُدُ لِيَثِبَ

(3)

.

(لِدَيْنِ عَلَيَّ") متعلّقٌ بـ "أرصُدُه"، و "الدَّين" بفتح الدال؛ أي: لقضاء دين واجب عليَّ؛ لأن قضاء الدين مقدّم على الصدقة المندوبة، وهذا الإرصاد أعمّ من أن يكون لصاحب دَين غائب حتى يحضُر، فيأخذه، أو لأجل وفاء دَين مؤجّل حين يَحُلّ أجله، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية البخاريّ بلفظ: "لو كان لي مثلُ أحُد ذهباً ما يسُرّني أن لا

(1)

"المرعاة" 6/ 282.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 226 بزيادة يسيرة.

(3)

"لسان العرب" 3/ 177.

ص: 203

تمرّ عليّ ثلاث ليال، وعندي منه شيءٌ، إلا شيء أرصُده لدَين".

قال في "الفتح": قوله: "لو كان لي" زاد في رواية الأعرج، عن أبي هريرة، عند أحمد في أوله:"والذي نفسي بيده"، وعنده في رواية همام، عن أبي هريرة:"والذي نفس محمد بيده".

وقوله: ("ما يَسُرني أن لي أُحُداً ذَهَباً") وفي رواية الأعرج: "لوأنّ أُحُدَكم عندي ذهباً".

وقوله: "ما يَسُرّني أن لا تَمُرّ عليّ ثلاثُ ليالٍ، وعندي منه شيءٌ إلا شيئًا أرصده لدين"، في رواية الأعرج:"إلا أن يكون شيءٌ أرصُدُه في دين عليّ"، وفي رواية همام:"وعندي منه دينارٌ أَجِدُ من يقبله ليس شيئًا أرصده في دين عليّ".

قال ابن مالك: في هذا الحديث وقوع التمني بعد "مثل" وجواب "لو" مضارعًا منفيًّا بـ "ما"، وحقُّ جوابها أن يكون ماضيًا مثبتًا، نحو: لو قام لقمت، أو بلم، نحو: لو قام لم أقم.

والجواب من وجهين:

[أحدهما]: أن يكون وَضَعَ المضارع موضع الماضي الواقع جوابًا، كما وقع موضعه وهو شرط في قوله تعالى:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].

[ثانيهما]: أن يكون الأصل: ما كان يَسُرُّني، فحذف "كان"، وهو جواب، وفيه ضمير، وهو الاسم، و "يسُرُّني" خبر، وحَذْفُ "كان" مع اسمها، وبقاء خبرها كثيرٌ نظماً ونثراً، ومنه: المرء مَجْزيّ بعمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرّ، قال: وأشبه شيء بحذف "كان" قبل "يسُرّني" حذفُ "جَعَلَ" قبل {يُجَادِلُنَا} في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا} [هود: 74] أي: جعل يجادلنا، والوجه الأول أولى.

وفيه أيضًا وقوع "لا" بين "أَنْ " و "تَمُرّ"، وهي زائدة، والمعنى: ما يسرني أن تمرّ.

وقال الطيبيّ: قوله: "ما يسُرّني" هو جواب "لو" الامتناعية، فيفيد أنه لم يسرّه المذكور بعده؛ لأنه لم يكن عنده مثلُ أُحُد ذهباً، وفيه نوع مبالغة؛ لأنه إذا لم يَسُرّه كثرة ما ينفقه، فكيف ما لا ينفقه؟ قال: وفي التّقييد بالثلاثة تتميم

ص: 204

ومبالغة في سرعة الإنفاق، فلا تكون "لا" زائدة، كما قال ابن مالك، بل النفي فيها على حاله.

قال الحافظ: ويؤيد قولَ ابن مالك الروايةُ الآتيةُ بعدُ في حديث أبي ذرّ بلفظ: "ما يسُرُّني أن عندي مثلُ أحد ذهباً تمضي عليّ ثالثة". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2302 و 2303](991)، و (البخاريّ) في "الاستقراض"(2259 و 2389) و "الرقاق"(6445)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4231)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 316 و 467 و 530)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3214 و 6350)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 71 - 72)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1653)، وفوائد الحديث تأتي في شرح حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الآتي بعده، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2303]

(

) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشارٍ) تقدَّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الناقد الثبت [7](ت 160)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 318.

(1)

راجع: "الفتح" 14/ 552 "كتاب الرقاق" رقم (6445).

ص: 205

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن محمد بن زياد هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 457) فقال:

(9894)

- ثنا محمد بن جَعْفَرٍ، قال: ثنا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدِ بن زِيَادٍ، عن أبي هُرَيْرَة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال:"ما أُحِبُّ أَنَّ لي مِثْلَ أحُدِ ذَهَباً- قال شُعْبَةُ: أو قال: ما أُحِبُّ أَنَّ لي أُحُداً ذَهَباً -أَدَعُ يوم أَمُوتُ ديناراً، إلا أَنْ أَرْصُدَهُ لِدَيْنِ". انتهى.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2304]

(94)

(1)

- (حَدَّثَنَا

(2)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي مُعَاوِيةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِية، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في حَرةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، وَنَحْنُ نَنْظرُ إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا ذَرٍّ"، قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "مَا أُحِبّ أَنَّ أُحُداً ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبٌ

(3)

، أَمْسَى ثَالِثَةً عِنْدِي مِنْهُ دِينَار، إِلَّا دِينَاراً أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أقولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللهِ هَكَذَا، حَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ، وَهَكَذَا عَنْ شِمَالِهِ"، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا، فَقَالَ: "يَا أبا ذَرٍّ"، قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "إِن الأكثَرِينَ هُمُ الأقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ قَالَ هَكَذَا، وَهَكَذَا وَهَكَذَا"، مِثْلَ مَا صنَعَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، قَالَ: ثم مَشَيْنَا، قَالَ: "يَا أبا ذَرٍّ كمَا أنتَ حَتَّى آتِيَكَ"، قَالَ: فَانْطَلَقَ حتَّى تَوَارَى عَنِّي، قَالَ: سَمِعْتُ لَغَطاً، وَسَمِعْتُ صَوْتاً، قَالَ: فَقُلْتُ: لَعَل رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُرِضَ لَهُ، قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَّبِعَهُ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: "لَا تَبْرَحْ

(1)

هذا رقم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، وذلك لأن الحديث تقدَّم في "كتاب الإيمان" بهذا الرقم، وبرقمي (279)، فتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "حدّثني".

(3)

وفي نسخة: "ذهباً".

ص: 206

حَتَّى آتِيَكَ"، قَالَ: فَانْتظَرْتُهُ، فَلَمَّا جَاءَ ذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ، قَالَ: فَقَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ أتانِيِ، فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أمتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ زنَى وَإِنْ سرَقَ؟ قَالَ: وإنْ زَنَى وَإِنْ سرقَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدَّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدَّم في الباب الماضي.

3 -

(زَيْدُ بْنُ وَهْب) الْجُهَنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ جليلٌ [2] مات بعد (80) وقيل:(96)(ع) تقدم في "الإيمان" 67/ 374.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ، قرن بينهم، ثم فصّل؛ لما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وأبي بكر، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له التِّرمذيّ، وأمَّا أبو كريب فمن التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى يحيى، فنيسابوريّ، وأبي ذرّ رضي الله عنه، فمدنيّ، ثم رَبَذيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَر) الغِفَاريّ جُندب بن جُنادة رضي الله عنه، وفي رواية عند البخاريّ، عن زيد بن وهب:"حدّثنا والله أبو ذرّ بالرَّبَذَة"، بفتح الراء والموحّدة، بعدها معجمة: مكانٌ معروف من عَمَل المدينة النبويّة، وبينهما ثلاث مراحل، من طريق العراق، سكنه أبو ذرّ بأمر عثمان رضي الله عنهما، ومات به في خلافته

(1)

. (قَالَ:

(1)

"الفتح" 14/ 542.

ص: 207

كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ) "الْحَرَّة" -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء-: أرض ذات حجارة سُود، والجمع حِرَار، مثلُ كَلْبة وكِلاب، قاله الفيّوميّ

(1)

.

وقال ابن الأثير: الحرّة: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سُودٌ كثيرة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": الحرّة: مكان معروف بالمدينة، من الجانب الشماليّ منها، وكانت به الوقعة المشهورة في زمن يزيد بن معاوية، وقيل: الحرّة الأرض التي حجارتها سُود، وهو يَشْمَل جميعَ جهات المدينة التي لا عمارة فيها. انتهى

(3)

.

وقوله: (عِشَاءً) منصوب على الظرفيّة متعلّقٌ بـ "أمشي"؛ أي: وقت عشاء، أفادت هذه الرواية تعيين الزمان والمكان، وهذا يدلّ على أن قوله في رواية المعرور بن سُويد الماضية عن أبي ذرّ: انتهيت إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في ظلّ الكعبة، وهو يقول: "هم الأخسرون، ورب الكعبة

" الحديث، قصة أخرى مختلفة الزمان والمكان والسياق، أفاده في "الفتح"

(4)

.

(وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ) بضمّتين: الجبل المعروف، والجملة حاليّة (فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا ذَرٍّ"، قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"مَا) نافية (أُحِبُّ أَنَّ أُحُداً ذَاكَ عِنْدِي ذَهَب) بالرفع، وفي نسخة بالنصب، أما الرفع، فعلى أنه خبر لـ "أَنّ" بعد خبر، أو هو الخبر، و "عندي" حال، أو هو خبر لمحذوف؛ أي: وهو ذهب، والجملة حال، وأما النصب فعلى الحال، وهذا مما جاز فيه وقوع الحال جامدةً؛ لكونه نوعاً لصاحبه، كهذا مالك ذهباً

(5)

. (أَمْسَى ثَالِثَةً) منصوب على الظرفيّة؛ أي: ليلةً ثالثة، والظرف متعلّقٌ بـ "أمسى"، وقوله:(عِنْدِي) خبر "أمسى"، وقوله:(مِنْهُ) نعت مقدّم على النكرة، فيُعرب حالًا، على حدّ قول الشاعر:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 129.

(2)

"النهاية" 1/ 365.

(3)

"الفتح" 14/ 542.

(4)

راجع: "الفتح" 14/ 542.

(5)

راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل" 1/ 316 في "باب الحال".

ص: 208

لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلٌ

يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلٌ

وقوله: (دِينَارٌ) اسم "أمسى" مؤخّرٌ (إِلَّا دِينَاراً) تقدَّم أن النصب والرفع فيه جائزان؛ لأن المستثنى منه مطلق عامّ، والمستثنى مقيَّدٌ خاص، فاتجه النصب، وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي.

ووقع في رواية سويد بن الحارث، عن أبي ذرّ:"وعندي منه دينار، أو نصف دينار"، وفي رواية سالم، ومنصور:"أَدَعُ منه قيراطاً، قال: قلت: قِنطاراً، قال: قيراطاً"، وفيه: ثم قال: "يا أبا ذر إنما أقول الذي هو أقلُّ".

ووقع في رواية الأحنف: "ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير".

فقال في "الفتح": ظاهره نفي محبة حصول المال، ولو مع الإنفاق، وليس مراداً، وإنما المعنى نفي إنفاق البعض مقتصراً عليه، فهو يحب إنفاق الكل إلا ما استثنى، وسائر الطرق تدلّ على ذلك، ويؤيده أن في رواية سليمان بن يسار، عن أبي هريرة عند أحمد:"ما يسرّني أن أحُدَكم هذا ذهباً أنفق منه كل يوم في سبيل الله، فيمرّ بي ثلاثة أيام، وعندي منه شيءٌ، إلا شيء أرصده لدَين".

ويَحْتَمِل أن يكون على ظاهره، والمراد بالكراهة الإنفاق في خاصة نفسه، لا في سبيل الله فهو محبوب. انتهى

(1)

.

(أَرْصدُهُ لِدَيْنٍ) أي: أُعِدّه، أو أحفظه، وتقدّم أن هذا الإرصاد أعمّ من أن يكون لصاحب دَين غائب، حتى يحضر فيأخذه، أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يَحُلَّ فيُوَفَّى.

(إِلَّا أَنْ أقولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللهِ) هو استثناء بعد استثناء، فيفيد الإثبات، فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيَّدة بعدم الإنفاق، فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فما دام الإنفاق مستمِرًّا لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر، ولو كان قدر أُحُدٍ، أو أكثر مع استمرار الإنفاق.

(1)

"الفتح" 14/ 547.

ص: 209

[تنبيه]: "أقول" هنا، ومثله "قال" فيما يأتي ليس من القول بمعنى الكلام، بل معناه أَصرِفُ، أوأُفَرِّق، أوأُعطي، ونحو ذلك؛ لأن العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتُطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده: أي: أخذه، وقال برجله: أي: مشى، وقال الشاعر:

وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً

أي: أومأت، وقال بالماء على يده: أي: قَلَبه، وقال بثوبه: أي: رفعه، وكلُّ ذلك على المجاز والاتساع، كما رُوي في حديث السَّهو:"قال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صَدَقَ"، قيل: إنهم أومأوا برؤوسهم؛ أي: نعم، ولم يتكلموا، وفيه نظرٌ تقدَّم في محلّه، ويقال: قال بمعنى أقبل، وبمعنى مات ومال، واستراح، وضرب، وغلب، وُيعبّر بها عن التهيّؤ للأفعال، والاستعداد لها، فيقال: قال، فأكل، وقال، فضرب، وقال، فتكلّم، ونحو ذلك.

وقد نظمت معاني ما تأتي ما لفظة "قال"، فقلت:

تَجِيءُ "قَالَ" لِمَعَان تُجْتَلَى

تَكَلَّمَ اسْتَرَاحَ مَاتَ أَقْبَلَا

وَمَالَ مَعْ ضَرَبَ ثُمَّ غَلَبَا

وِللتَّهَيُّؤِ لِفِعْل يُجْتَبَى

فَجُمْلَةُ الْمَعَانِ قُلْ ثَمَانِيَهْ

فَاحْفَظْ فَإِنَّهَا مَعَال نَامِيَهْ

(هَكَذَا حَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ، وَهَكَذَا عَنْ شِمَالِهِ") وفي رواية البخاريّ: "هكذا، وهكذا، وهكذا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه"، قال في "الفتح": هكذا اقتصر على ثلاث، وحُمِل على المبالغة؛ لأن العطيّة لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر لي أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ثم وجدته في الجزء الثالث من "البشرانيات"، من رواية أحمد بن ملاعب، عن عُمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، بلفظ:"إلا أن أقول به في عباد الله، هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا، وأرانا بيده"، كذا فيه بإثبات الأربع، وقد أخرجه البخاريّ في "الاستئذان" عن عُمَر بن حفص مثله، لكن اقتَصَر من الأربع على ثلاث، وأخرجه أبو نعيم من طريق سهل بن بحر، عن عمر بن حفص، فاقتصر على ثنتين. انتهى.

(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (ثُمَّ مَشَيْنَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يا أبا ذَرً"، قَالَ: قُلْتُ: لبّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ("إِنَّ الأكثَرِينَ هُمُ الْأَقلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وهكذا عند البخاريّ في

ص: 210

رواية أبي شهاب، في "الاستقراض"، ورواية حفص في "الاستئذان" بلفظ:"هم الأقلّون" بالهمزة في الموضعين، وله من رواية عبد العزيز بن رُفَيع في "الرقاق":"إن المكثرين هم المقلون" بالميم في الموضعين، ولأحمد من رواية النُّعمان الغفاريّ، عن أبي ذر:"إن المكثرين الأقلون".

والمراد الإكثار من المال، والإقلال من ثواب الآخرة، وهذا في حقِّ مَن كان مكثراً، ولم يتصف بما دلّ عليه الاستثناء بعده من الإنفاق.

(إِلا مَنْ قَالَ هَكَذَا، وَهَكَذَا وَهَكَذَا") معناه إلَّا مَن صرف المال على الناس يمينًا، وشمالاً، وأماماً (مِثْلَ مَا صنَعَ فِي الْمَرَّةِ الْأولَى) أي: أشار مثل الإشارة السابقة، وهي الإشارة إلى ما بين يديه، وعن يمينه، وعن شماله.

وفي رواية البخاريّ: "إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه"، قال في "الفتح": وفي رواية أبي شهاب: "إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا، وأشار أبو شهاب بين يديه، وعن يمينه، وعن شماله"، وفي رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عند أحمد:"إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا، فحثا عن يمينه، ومن بين يديه، وعن يساره".

فاشتملت هذه الروايات على الجهات الأربع، وإن كان كلٌّ منها اقتصر على ثلاث، وقد جمعها عبد العزيز بن رُفَيع في روايته، ولفظه:"إلا من أعطاه الله خيرًا- أي: مالاً- فنفح- بنون، وفاء، ومهملة؛ أي: أعطى كثيرًا بغير تكلُّف- يمينًا، وشمالاً، وبين يديه، ووراءه"، وبقي من الجهات فوق وأسفلُ، والإعطاء من قِبَلِ كُلّ منهما ممكن، لكن حُذِف لندوره.

وقد فَسَّر بعضهم الإنفاق من وراءه بالوصية، وليس قيداً فيه، بل قد يَقْصِد الصحيح الإخفاء، فيدفع لمن وراءه ما لا يعطي به مَن هو أمامه.

وقوله: "هكذا" صفة لمصدر محذوف؛ أي: أشار بيده إشارةً مثل هذه الإشارة.

وقوله: "عن يمينه

إلخ" بيان للإشارة، وخصّ "عن" باليمين والشمال؛ لأن الغالب في الإعطاء صدوره عن اليدين، وزاد في رواية عبد العزيز بن رُفيع: "وعَمِل فيه خيرًا"؛ أي: حسنة، وفي سياقه جناس تام في قوله: "أعطاه الله خيرًا"، وفي قوله: "وعمل فيه خيرًا"، فمعنى الخير الأول

ص: 211

المال، والثاني الحسنة

(1)

.

(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (ثُمَّ مَشَيْنَا، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أبا ذَرٍّ كَمَا أنتَ) الكاف بمعنى "على"؛ أي: كن واقفاً على ما أنت عليه الآن من المكان (حَتَّى آتِيَكَ") أي: إلى أن أتيك، وفي رواية البخاريّ:"ثم قال لي: مكانك، لا تبرح حتى آتيك".

فقوله: "مكانك" بالنصب؛ أي: الزم مكانك، وقوله:"لا تَبْرح" تأكيد لذلك، ورَفْع لتوهّم أن الأمر بلزوم المكان ليس عامًّا في الأزمنة، وقوله:"حتى آتيك" غاية للزوم المكان المذكور، وفي رواية حفص:"لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع"، ووقع في رواية عبد العزيز بن رُفيع:"فمشيت معه ساعة، فقال لي: اجلس ها هنا، قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة"؛ أي: أرض سهلة مُطْمَئِنَّة.

(قَالَ) أبو ذرّ (فَانْطَلَقَ) أي: ذهب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"ثم انطلق في سواد الليل"، وفيه إشعار بأن القمر كان قد غاب (حَتَّى تَوَارَى عَنِّي) أي: غاب شخصه صلى الله عليه وسلم عن أبي ذرّ رضي الله عنه، وفي رواية حفص:"حتى غاب عني"، وفي رواية عبد العزيز:"فانطلق في الحرّة- أي: دخل فيها- حتى لا أراه"، وفي رواية أبي شهاب:"فتقدَّم غير بعيد"، زاد في رواية عبد العزيز:"فأطال اللَّبْثَ".

(قَالَ) أبو ذرّ (سَمِعْتُ لَغَطاً) بفتحتين: كلام فيه جَلَبَةٌ، واختلاطٌ، ولا يتبيّن، يقال: لَغَطَ لَغَطاً، من باب نَفَعَ، وألغط بالألف لغة

(2)

، فقوله:(وَسَمِعْتُ صَوْتاً) مؤكّد لما قبله، وفي رواية البخاريّ:"فسمعت صوتًا قد ارتَفَعَ"(قَالَ) أبو ذرّ (فَقُلْتُ: لَعَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُرِضَ لَهُ) بالبناء للمفعول؛ أي: تعرّض له أحد بسوء، وفي رواية البخاريّ:"فتخوّفت أن يكون أَحَدٌ عَرَضَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم ".

(قَالَ) أبو ذرّ (فَهَمَمْتُ) أي: قصدت، يقال: هَمْمتُ بالشيء هَمًّا، من باب نصر: إذا أردته، ولم تفعله، وفي الحديث: "لقد هممتُ أن أنهى عن

(1)

راجع: "الفتح" 14/ 544.

(2)

"المصباح" 2/ 555.

ص: 212

الْغِيلةِ"؛ أي: عن إتيان المرضع

(1)

. (أَنْ أتَّبِعَهُ)"أن" بالفتح مصدريّة، و "أتّبعه" بتشديد التاء، من الاتّباع، ويَحْتَمِل أن يكون بتخفيفها، من باب تَعِبَ، والمصدر المؤول مجرور بالباء المقدّرة؛ أي: هممتُ باتّباعه (قَالَ) أبو ذرّ (ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: "لَا تَبْرَحْ) أي: لا تزل، يقال: بَرِحَ الشيءُ يَبْرَحُ، من باب تَعِبَ بَرَاحاً: زال من مكانه (حَتَّى آتِيَكَ"، قَالَ) أبو ذرٍّ (فَانْتَظَرْتُهُ، فَلَمَّا جَاءَ ذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي سَمِعْتُ) وفي رواية البخاريّ: "قلت: يا رسول الله، لقد سمعت صوتًا تخوّفت، فذكرت له"، وفي رواية عبد العزيز بن رُفيع التالية:"ثمّ إني سمعته وهو يقول: وإن سرق وإن زنى، فقلت: يا رسول الله، من تكلم في جانب الحرّة؟ ما سمعت أحداً يرجع إليك شيئًا".

(قَالَ) أبو ذرّ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ذَاكَ) أي: الذي سمعت صوته، أو الذي كنت أخاطبه (جِبْرِيلُ) عليه السلام (أتانِي) زاد في رواية حفص عند البخاريّ:"فأخبرني"، ووقع في رواية عبد العزيز التالية:"عَرَضَ لي في جانب الحرّة، فقال: بَشِّر أمتك"، قال الحافظ:"ولم أر لفظ التبشير في رواية الأعمش". انتهى.

(فَقَالَ) جبريل عليه السلام (مَنْ) شرطيّة (مَاتَ مِنْ أمّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً) وقوله: (دَخَلَ الْجَنَّةَ) جواب الشرط، رَتَب دخولَ الجنة على الموت بغير إشراك بالله تعالى، وقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عَمِلَ بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عَمِلها فلذلك وقع الاستفهام بقوله: "قلت: وإن زنى

إلخ".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟) قال ابن مالك رحمه الله: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدَّرٌ، ولا بُدّ من تقديره، وقال غيره: التقدير أَوَ إن زنى، أَوَ إن سرق دخل الجنة؟، وقال الطيبيّ: أَدَخَل الجنة، وإن زنى وإن سرق؟ والشرط حال، ولا يذكر الجواب مبالغة وتتميماً لمعنى الإنكار.

(قَالَ) جبريل عليه السلام (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ") وفي رواية عبد العزيز التالية: قلت: يا جبريل، وإن سرق، وإن زنى؟ قال: نعم، وكررها ثلاثًا، وزاد في آخر الثالثة:"وإن شَرِبَ الخمر"، وكذا وقع التكرار ثلاثًا في رواية أبي

(1)

"المصباح المنير" 2/ 641.

ص: 213

الأسود، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عند البخاريّ في "اللباس"، لكن بتقديم الزنا على السرقة، كما في رواية الأعمش هنا، ولم يقل:"وإن شرب الخمر"، ولا وقعت في رواية الأعمش، وزاد أبو الأسود:"على رَغْم أنف أبي ذرّ، قال: وكان أبو ذر إذا حَدث بهذا الحديث يقول: وإن رُغِم أنفُ أبي ذر".

وزاد حفص بن غياث في روايته، عن الأعمش، قال الأعمش: قلت لزيد بن وهب: إنه بلغني أنه أبو الدرداء، قال: أشهد لحدثنيه أبو ذر بالرَّبَذَة، قال الأعمش: وحدثني أبو صالح، عن أبي الدرداء نحوه.

وأخرجه أحمد عن ابن نُمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء، بلفظ:"إنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة"، نحوه، وفيه:"وإن رغم أنف أبي الدرداء".

[تنبيه]: قال الإمام البخاري رحمه الله في بعض النسخ عقب رواية حفص: حديثُ أبي الدرداء مرسلٌ، لا يصحّ، إنما أردنا للمعرفة؛ أي: إنما أردنا أن نذكره للمعرفة بحاله، قال: والصحيح حديث أبي ذرّ، قيل له: فحديث عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء؟ فقال: مرسل أيضًا، لا يصحّ، ثم قال: اضربوا على حديث أبي الدرداء.

قال الحافظ رحمه الله: فلهذا هو ساقط من معظم النسخ، وثبت في نسخة الصغاني، وأوله: قال أبو عبد الله: حديث أبي صالح، عن أبي الدرداء مرسل، فساقه

إلخ.

ورواية عطاء بن يسار التي أشار إليها، أخرجها النسائي، من رواية محمد بن أبي حَرْملة، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، "أنه سمع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يقُصّ على المنبر يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، فقلت: وإن زنى، وإن سرق يا رسول الله؟ قال: "وإن زنى، وإن سرق"، فأعدت فأعاد، فقال في الثالثة قال: "نعم، وإن رغم أنف أبي الدرداء"، وقد وقع التصريح بسماع عطاء بن يسار له، من أبي الدرداء، في رواية ابن أبي حاتم، في "التفسير"، والطبرانيّ في "المعجم"، والبيهقيّ في "الشعب"، قال البيهقيّ: حديث أبي الدرداء هذا غير حديث أبي ذرّ، وإن كان فيه بعض معناه.

ص: 214

قال الحافظ: وهما قصتان متغايرتان، وإن اشتركتا في المعنى الأخير، وهو سؤال الصحابيّ بقوله:"وإن زنى، وإن سرق"، واشتركا أيضًا في قوله:"وإن رغم"، ومن المغايرة بينهما أيضًا وقوع المراجعة المذكورة بين النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وجبريل في رواية أبي ذرّ دون أبي الدرداء، وله عن أبي الدرداء طرُق أخرى:

منها: للنسائيّ من رواية محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي الدرداء، نحو رواية عطاء بن يسار.

ومنها: للطبرانيّ من طريق أم الدرداء، عن أبي الدرداء، رفعه بلفظ:"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"، فقال أبو الدرداء: وإن زنى، وإن سرق؟ فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"وإن زنى، وإن سرق، على رغم أنف أبي الدرداء".

ومن طريق أبي مريم، عن أبي الدرداء نحوه.

ومن طريق كعب بن ذهل: سمعت أبا الدرداء، رفعه:"أتاني آت من ربي، فقال: من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً، فقلت: يا رسول الله وإن زنى، وإن سرق؟ قال: نعم، ثم ثلثت، فقال: على رغم أنف عويمر، فرددها، قال: فأنا رأيت أبا الدرداء يضرب أنفه بإصبعه".

ومنها: لأحمد من طريق واهب بن عبد الله المعافريّ، عن أبي الدرداء رفعه:"من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي الدرداء، قال: فخرجت لأنادي بها في الناس، فلقيني عمر، فقال: ارجع فإن الناس إن يَعْلَمُوا بهذا اتكلوا عليها، فرجعت، فأخبرت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: صدق عمر"

(1)

.

وقد وقعت هذه الزيادة الأخيرة لأبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدَّم البحث فيها مستوفى في "كتاب الإيمان"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "الفتح" 14/ 550 - 551 "كتاب الرقاق" رقم (6445).

ص: 215

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2304 و 2305](94) وتقدّم مختصراً في "كتاب الإيمان" من طريق أخرى برقم [42/ 279](94)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1237) و "الاستقراض"(2388) و "بدء الخلق"(3222) و "الاستئذان"(6268) و "الرقاق"(6443 و 6444) و "اللباس"(5827) و "التوحيد"(7487)، و (التِّرمذيّ) في "الزكاة"(2644)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1118 و 1119 و 1121 و 1122 و 1123)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 152 و 166)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(169 و 170 و 195 و 213)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(444)، و (ابن منده) في "الإيمان"(78 و 80 و 81 و 82 و 83)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(51)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الترغيب في الصدقة، والحثّ عليها.

2 -

(ومنها): بيان أدب أبي ذرّ رضي الله عنه مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وترقبه أحواله، وشفقته عليه، حتى لا يدخل عليه أدنى شيء مما يتأذَّى به.

3 -

(ومنها): بيان حسن الأدب مع الأكابر، وأن الصغير إذا رأى الكبير منفردًا لا يتسوَّر عليه، ولا يجلس معه، ولا يلازمه إلا بإذن منه، وهذا بخلاف ما إذا كان في مَجْمَع، كالمسجد، والسوق، فيكون جلوسه معه بحسب ما يليق به.

4 -

(ومنها): بيان جواز تكنية المرء نفسه لغرض صحيح، كأن يكون أشهر من اسمه، ولا سيما إن كان اسمه مشتركاً بغيره، وكنيته فردةً.

5 -

(ومنها): جواز تفدية الصغير الكبير بنفسه وبغيرها.

6 -

(ومنها): جواز إجابة المنادي بمثل لبيك وسعديك زيادة في الأدب.

7 -

(ومنها): مشروعيّة الانفراد عند قضاء الحاجة.

8 -

(ومنها): بيان أن امتثال أمر الكبير، والوقوف عنده أولى من ارتكاب

ص: 216

ما يخالفه بالرأي، ولو كان فيما يقتضيه الرأي توَهُّم دفع مفسدة حتى يتحقق ذلك، فيكون دفع المفسدة أولى.

9 -

(ومنها): استفهام التابع من متبوعه على ما يحصل له فائدة دينية، أو علمية، أو غير ذلك.

10 -

(ومنها): الأخذ بالقرائن؛ لأن أبا ذرّ رضي الله عنه لما قال له النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَتُبْصِر أُحُداً؟ " فَهِم منه أنه يريد أن يرسله في حاجة، فنظر إلى ما على أُحُدٍ من الشَّمس؛ ليعلم هل يبقى من النهار قدر يسعها.

11 -

(ومنها): أن محل الأخذ بالقرينة إن كان في اللفظ ما يُخَصِّص ذلك، فإن الأمر وقع على خلاف ما فهمه أبو ذرّ من القرينة، فيؤخذ منه أن بعض القرائن لا يكون دالًّا على المراد، وذلك لضعفه.

12 -

(ومنها): أن فيه المراجعةَ في العلم بما تقرَّر عند الطالب في مقابلة ما يسمعه، مما يخالف ذلك؛ لأنه تقرّر عند أبي ذرّ رضي الله عنه من الآيات، والآثار الواردة في وعيد أهل الكبائر بالنار، وبالعذاب، فلما سمع أن من مات لا يشرك دخل الجنة استَفْهَم عن ذلك بقوله:"وإن زنى وإن سرق"، واقتَصَرَ على هاتين الكبيرتين؛ لأنهما كالمثالين فيما يتعلق بحق الله، وحق العباد، وأما قوله في الرواية الأخرى:"وإن شرب الخمر"، فللإشارة إلى فُحْش تلك الكبيرة؛ لأنها تؤدِّي إلى خلل العقل الذي شُرِّف به الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يحجز عن ارتكاب بقية الكبائر.

13 -

(ومنها): أن الطالب إذا ألحّ في المراجعة يُزْجَر بما يليق به أخذاً من قوله: "وإن رَغِم أنف أبي ذرّ".

14 -

(ومنها): أنه قد حَمَلَ هذا الحديث البخاريّ رحمه الله على من تاب عند الموت، وحمله غيره على أن المراد بدخول الجنة أعمّ من أن يكون ابتداءً، أو بعد المجازاة على المعصية، والأول هو وَفْقُ ما فهمه أبو ذرّ رضي الله عنه، والثاني أولى؛ للجمع بين الأدلة، ففي الحديث حُجّةٌ لأهل السنة، ورَدّ على من زعم من الخوارج والمعتزلة أن صاحب الكبيرة إذا مات عن غير توبة يُخَلَّد في النار.

قال الحافظ رحمه الله: لكن في الاستدلال به لذلك نظر؛ لما مر من سياق

ص: 217

كعب بن ذُهل، عن أبي الدرداء أن ذلك في حقّ مَن عمل سوءاً، أو ظَلَم نفسه، ثم استغفر، وسنده جَيِّدٌ عند الطبراني.

وحمله بعضهم على ظاهره، وخَصّ به هذه الأمة؛ لقوله فيه:"بَشِّر أمتك"، و "أن من مات من أمتي".

وتُعُقِّب بالأخبار الصحيحة الواردة في أن بعض عصاة هذه الأمة يعذبون، ففي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "المفلس من أمتي

" الحديث.

وفيه تَعَقب على من تأوّل في الأحاديث الواردة في أن من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وفي بعضها: حُرِّم على النار؛ أن ذلك كان قبل نزول الفرائض، والأمر، والنهي، وهو مروي عن سعيد بن المسيِّب، والزهريّ.

ووجه التعقب ذكر الزنا والسرقة فيه، فهو على خلاف هذا التأويل.

وحمله الحسن البصري على من قال الكلمة، وأدَّى حقها بأداء ما وجب، واجتناب ما نُهِي، ورجحه الطيبيّ، إلا أن هذا الحديث يَخْدُش فيه.

وأشكل الأحاديث، وأصعبها قوله:"لا يلقى الله بهما عبدٌ، غير شاكّ فيهما، إلا دخل الجنة"، وفي آخره:"وإن زنى وإن سرق".

وقيل: أشكلها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم بلفظ: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله إلا حرمه الله على النار"؛ لأنه أتى فيه بأداة الحصر، و "مِن" الاستغراقية، وصَرح بتحريم النار، بخلاف قوله:"دخل الجنة"، فإنه لا ينفي دخول النار أوّلاً، قال الطيبيّ: لكن الأول يترجح بقوله: "وإن زنى وإن سرق"؛ لأنه شرط لمجرد التأكيد، ولا سيما وقد كَرَّره ثلاثًا مبالغةً، وخُتم بقوله:"وإن رغم أنف أبي ذرّ"؛ تتميماً للمبالغة، والحديث الآخر مطلق يقبل التّقييد، فلا يقاوم قوله:"وإن زنى وإن سرق".

وقال النووي رحمه الله بعد أن ذكر المتون في ذلك، والاختلاف في هذا الحكم: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقناً بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دَيِّناً، أو سليماً من المعاصي دخل الجنة برحمة الله، وحُرِّم على النار، وإن كان من المخلِّطين بتضييع الأوامر، أو بعضها، وارتكاب النواهي، أو بعضها، ومات عن غير توبة، فهو في خطر

ص: 218

المشيئة، وهو بصدد أن يُمْضَى عليه الوعيدُ إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه، فإن شاء أن يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة. انتهى.

وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول تقديره: وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، لكنَّه قبل ذلك إن مات مصرًّا على المعصية في مشيئة الله، وتقدير الثاني: حرّمه الله على النار إلا أن يشاء الله، أو حرّمه على نار الخلود، والله أعلم.

قال الطيبيّ: قال بعض المحقّقين: قد يُتَّخَذ من أمثال هذه الأحاديث المبطلة ذريعةٌ إلى طرح التكاليف، وإبطال العمل ظنًّا أن ترك الشرك كافٍ، وهذا يستلزم طيّ بساط الشريعة، وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية لا تأثير له، بل يقتضي الانخلاع عن الدين، والانحلال عن قيد الشريعة، والخروج عن الضبط، والولوج في الخبط، وترك الناس سُدًى مُهْمَلين، وذلك يفضي إلى خراب الدنيا، بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى، مع أن قوله في بعض طرق الحديث:"أن يعبدوه"، يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية، وقوله:"ولا يشركوا به شيئًا"، يشمل مسمى الشرك الجليّ والخفيّ، فلا راحة للتمسك به في ترك العمل؛ لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض، فإنها في حكم الحديث الواحد، فيُحْمَل مطلقها على مقيّدها؛ ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها، وبالله التوفيق

(1)

.

15 -

(ومنها): أن فيه جواز الحلف بغير تحليف، ويستحب إذا كان لمصلحة، كتأكيد أمر مهمّ، وتحقيقه، ونفي المجاز عنه، وفي قوله في بعض طرقه:"والذي نفس محمد بيده" تعبير الإنسان عن نفسه باسمه، دون ضميره، وقد ثبت بالضمير في الطريق الأخرى:"والذي نفسي بيده"، وفي الأول نوع تجريد، وفي الحلف بذلك زيادة في التأكيد؛ لأن الإنسان إذا استحضر أن نفسه، وهي أعز الأشياء عليه بيد الله تعالى، يتصرف فيها كيف يشاء، استَشْعَر الخوف منه، فارتدع عن الحلف على ما لا يتحققه، ومن ثَمّ شُرع تغليظ الإيمان بذكر الصفات الإلهية، ولا سيما صفات الجلال.

16 -

(ومنها): أن فيه الحثّ على الإنفاق في وجوه الخير، وأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"الفتح" 14/ 554 - 555.

ص: 219

كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا، بحيث إنه لا يُحِبّ أن يبقى بيده شيء من الدنيا، إلا لإنفاقه فيمن يستحقه، وإما لإرصاده لمن له حقّ، وإما لتعذر من يقبل ذلك منه لتقييده في رواية همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه بقوله:"أجد من يقبله"

(1)

.

17 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء؛ إذا لم يوجد من يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يَعْزِل القدر الواجب من ماله، ويجتهد في حصول من يأخذه، فإن لم يجد فلا حرج عليه، ولا ينسب إلى تقصير في حبسه.

18 -

(ومنها): أن فيه تقديمَ وفاء الدين على صدقة التطوع.

19 -

(ومنها): جواز الاستقراض، وقيده ابن بطال باليسير؛ أخذاً من قوله:"إلا ديناراً"، قال: ولو كان عليه أكثر من ذلك لم يرصُد لأدائه ديناراً واحدًا؛ لأنه كان أحسن الناس قضاءً، قال: ويؤخذ من هذا أنه لا ينبغي الاستغراق في الدين، بحيث لا يجد له وفاءً، فيَعْجِز عن أدائه.

وتُعُقِّب بأن الذي فَهِمه من لفظ الدينار من الوحدة ليس كما فَهِم، بل إنما المراد به الجنس، وأما قوله في الرواية الأخرى:"ثلاثة دنانير"، فليست الثلاثة فيه للتقليل، بل للمثال، أو لضرورة الواقع، وقد قيل: إن المراد بالثلاثة أنها كانت كفايته فيما يحتاج إلى إخراجه في ذلك اليوم، وقيل: بل هي دينار الدَّين، كما في الرواية الأخرى:"ودينار للإنفاق على الأهل، ودينار للإنفاق على الضيف"، ثم المراد بدينار الدَّين الجنس، ويؤيده تعبيره في أكثر الطرق بالشيء على الإبهام، فيتناول القليل والكثير.

20 -

(ومنها): أن فيه الحثَّ على وفاء الديون، وأداء الأمانات.

21 -

(ومنها): جواز استعمال "لو" عند تمني الخير، وحملُ الحديث

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ في "كتاب التمنّي" رقم (7228) فقال: حدّثنا إسحاق بن نصر، حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، سمع أبا هريرة، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لو كان عندي أُحُدٌ ذهباً لأحببت أن لا يأتي عليّ ثلاث، وعندي منه دينارٌ، ليس شيء أرصُدُه في دين عليّ، أَجِدُ مَن يقبله".

ص: 220

الوارد في النهي عن استعمال "لو" على ما يكون في أمر غير محمود شرعًا.

22 -

(ومنها): أنه ادَّعَى المهلَّب أن قوله في رواية الأحنف، عن أبي ذرّ: "أَتُبصِر أُحُداً؟ قال: فنظرت ما عليه من الشَّمس

" الحديث أنه ذُكِر للتمثيل في تعجيل إخراج الزكاة، وأن المراد ما أحِب أن أَحْبِس ما أوجب الله عليَّ إخراجه بقدر ما بقي من النهار.

وتعقبه القاضي عياض، فقال: هو بعيد في التأويل، وإنما السياق بَيِّنٌ في أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينبهه على عِظَم أُحُدٍ ليضرب به المثل في أنه لو كان قدره ذهباً ما أحب أن يُؤَخَّر عنده إلا لما ذُكِر من الإنفاق، والإرصاد، فظنّ أبو ذر أنه يريد أن يبعثه في حاجة، ولم يكن ذاك مراداً إذ ذاك كما تقدم.

وقال القرطبيّ: إنما استفهمه عن رؤيته ليستحضر قدره حتى يُشَبّه له ما أراد بقوله: "لو كان لي مثله ذهباً".

23 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: قد يَحْتَجّ به مَن يُفَضِّل الفقر على الغني، وقد يَحْتَجّ به مَن يُفَضِّل الغني على الفقر، ومأخذ كل منهما واضح من سياق الخبر.

24 -

(ومنها): أن فيه الحضَّ على إنفاق المال في الحياة، وفي الصحة، وترجيحه على إنفاقه عند الموت، وسيأتي فيه حديث:"أن تَصَدَّق، وأنت صحيحٌ شحيح"

(1)

، وذلك أن كثيرًا من الأغنياء يَشِحّ بإخراج ما عنده ما دام في عافية، فيأمل البقاء، ويخشى الفقر، فمن خالف شيطانه، وقهر نفسه؛ إيثاراً لثواب الآخرة فاز، ومَن بَخِلَ بذلك لم يَأمَنِّ الجور في الوصيَّة، وإن سَلِمَ لم يأمن تأخير تنجيز ما أوْصَى به، أو تركه، أو غير ذلك من الآفات، ولا سيما إن خلف وارثاً غير مُوَفَّق فيبذره في أسرع وقت، ويبقى وباله على الذي جمعه، والله المستعان

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

يأتي برقم (1032).

(2)

"الفتح" 14/ 555 - 556 "كتاب الرقاق" رقم (6445).

ص: 221

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2305]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ ابْنُ رُفَيْعٍ، عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ الليالي، فَإذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَحْدَهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَان، قَالَ: فَظنَنْتُ أنهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَد، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ، فَالْتَفَتَ، فَرَآنِي، فَقَالَ:"مَنْ هَذَا؟ " فَقُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ

(2)

، قَالَ:"يَا أَبا ذَرٍّ تَعَالَهْ"، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ:"إِن الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْراً، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْراً"، قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ:"اجْلِسْ هَا هُنَّا"، قَالَ: فَأجْلَسَني فِي قَاعٍ، حَوْلَهُ حِجَارَة، فَقَالَ لِي:"اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ"، قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لَا أَرَاهُ، فَلَبِثَ عَنِّي، فَأَطَالَ اللبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ، وَهُوَ مُقْبِلْ، وَهُوَ يَقُولُ:"وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ "، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ، فَقُلْتُ: يَا نَبِي اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ

(3)

، مَنْ تكلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ؟ مَا سَمِعْتُ أَحَداً يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئاً، قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ، عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ: بَشِّرْ أمتَكَ أنَهُ مَنْ مَاتَ

(4)

لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، وإنْ شَرِبَ الْخَمْرَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدَّم قبل بابين.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "فداك".

(3)

وفي نسخة: "فداك".

(4)

وفي نسخة: "من مات منهم".

ص: 222

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ) الأسديّ، أبو عبد الله المكيّ، نزيل الكوفة، ثقة [4] (ت 103) وقيل: بعدهاً (ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَان) تأكيد لقوله: "وحده"، ويَحْتَمِل أن يكون لرفع توهّم أن يكون معه أحد من غير جنس الإنسان، من ملك، أو جنيّ.

وقوله: (فِي ظِل الْقَمَرِ) أي: في المكان الذي ليس للقمر فيه ضوء؛ ليُخفِي شَخْصه، وإنما استمر يمشي؛ لاحتمال أن يطرأ للنبيّ صلى الله عليه وسلم حاجة، فيكون قريبًا منه.

وقوله: (فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟ ") كأنه صلى الله عليه وسلم رأى شخصه، ولم يتبيّن له من هو؟.

وقوله: (فَقُلْتُ: أبو ذَرٍّ) خبر لمحذوف دلّ عليه السؤال؛ أي: أنا أبو ذر.

وقوله: (تَعَالَه) بهاء السكت، قال الداوديّ: فائدة الوقوف على هاء السكت أن لا يقف على ساكنين، نقله ابن التين، وتُعُقّب بأن ذلك غير مطّرد.

وقوله: (إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْراً) أي: مالاً.

وقوله: (فَنَفَحَ فِيهِ) بالفاء، والحاء المهملة، ومعناه: أعطى، وأصله الرمي بالشيء؛ يعني: أنه ضرب يديه فيه بالعطاء.

وقوله: (يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَوَرَاءَهُ) كلّها منصوبة على الظرفيّة، معمولة لـ "نَفَحَ"، وذكر الجهات كناية عن كثرة العطاء، فكأنه يعطي السُّؤَّال من أي جهة أتوه

(1)

.

وقوله: (وَعَمِلَ فِيهِ خَيْراً) أي: طاعة لله تعالى، وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالخير الأول المال، كقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات: 8]؛ أي: المال، والمراد بالخير الثاني طاعة الله تعالى، والمراد بيمينه وشماله ما سَبَق أنه جميع وجوه المكارم والخير.

وقوله: (فَأجْلَسَني في قَاعٍ) القاع: المستوي من الأرض في انخفاض.

(1)

"المفهم" 3/ 36.

ص: 223

وقوله: (فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ) أي: ذهب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، في الحرّة؛ أي: الأرض الملبَّسة حجارةً سوداء.

وقوله: (فَلَبِثَ عَنِّي) من باب تَعِبَ: أي: تأخّر عن المجيء إليّ.

وقوله: (يَرْجعُ إِلَيْكَ شَيْئاً) أي: يردّ عليك، ويُجيبك في كلامك.

وقوله: (عَرَضَ لي) من باب ضرب: أي: ظهر لي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَاب فِي الْكَنَّازِينَ لِلأموَالِ، وَالتَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2306]

(992) - (وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا أنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ، أَخْشَنُ الْجَسَدِ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ، يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كتِفَيْهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كتِفَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حلَمَةِ ثَدْيَيْهِ، يَتَزَلْزَلُ، قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئاً، قَالَ: فَأدْبَرَ، وَاتَبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ، قَالَ

(1)

: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً، إِنَّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ:"أترَى أُحُداً؟ " فَنَظَرْتُ مَا عَلَى مِنَ الشَّمْسِ، وَأنَا أَظُن أنهُ يَبْعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَقُلْتُ: أَرَاهُ، فَقَالَ:"مَا يَسُرنِي أَن لِي مِثْلَهُ ذَهَباً، أنفِقُهُ كُلهُ، إِلا ثَلَاَثةَ دَنَانِيرَ"، ثُمَّ هَؤُلَاءِ

(1)

وفي نسخة: "فقال".

ص: 224

يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً، قَالَ: قُلْتُ: مَا لَكَ وَلإخْوَتكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَا تَعْتَرِيهِمْ، وَتُصِيبُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لَا وَرَبِّكَ، لَا أَسْألهُمْ عَنْ دُنْيَا، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى ألحَقَ بِاللهِ وَرَسُوله).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة البصرىّ، ثقةٌ ثبت حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختلط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

4 -

(أَبُو الْعَلَاءِ) يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ البصريّ، ثقةٌ [2](ت 101)(ع) تقدم في "الحيض" 20/ 783.

5 -

(الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسِ) بن معاوية بن حُصين التميميّ السعديّ، أبو بحر البصريّ، اسمه الضحّاك، وقيل: صخر، وقيل: الحارث، والأحنف لقب، ثقة مخضرم [2].

أدرك النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم، وُيرْوَى بسند لَيِّن أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا له، رَوَى عن عمر، وعليّ، وعثمان، وسعد، وابن مسعود، وأبي ذرّ رضي الله عنهم، وغيرهم.

وروى عنه الحسن البصريّ، وأبو العلاء بن الشِّخِّير، وطَلْق بن حَبِيب، وغيرهم.

قال الحسن: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف، ومناقبه كثيرة، وحِلْمُه يُضْرَب به الْمَثَلُ، وذكره محمد بن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة، قال: وكان ثقةً مأموناً قليل الحديث، وذكر الحاكم أنه الذي افتَتَحَ مَرْوَ الرُّوذ، وقال مصعب بن الزبير يوم موته: ذهب اليوم الحزم والرأي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أحمد في "الزهد": حدّثنا أبو عُبيدة الحداد، ثنا عبد الملك بن مَعْن، عن خير بن حبيب، أن الأحنف بَلَّغَهُ رجلان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له فسجد، ومن طريق الحسن، عن الأحنف قال: لست بحليم، ولكني أتحالم.

ص: 225

قيل: مات سنة (67) وقيل: سنة (72).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (992) وأعاده بعده، و (2670): "هلك المتنطّعون

"، و (2888): "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما

"، وأعاده بعده.

6 -

(أبو ذَرّ) الغفاريّ رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(منها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وأبي ذرّ رضي الله عنه، فرَبَذِيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين البصريين الثقات روى بعضهم عن بعض: الجريريّ، عن أبي العلاء، عن الأحنف، وأن الأحنف هذا أول محلّ ذكره في الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) سعيد بن إياس (عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ) يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير (عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ) ووقع عند البخاريّ، من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه التصريح بالتحديث من الجريريّ، وأبي العلاء، ولفظه: "وحدّثني إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: حدّثني أبي، حدّثنا الْجُريريّ، حدّثنا أبو العلاء بن الشِّخِّير، أن الأحنف بن قيس حدّثهم، قال: جلست إلى مل! من قريش

" (قَالَ) الأحنف (قَدِمْتُ) بكسر الدال (الْمَدِينَةَ) النبويّة (فَبَيْنَا) هي "بين " الظرفيّة أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، وقد تقدّم البحث فيها مستوفى غير مرّة (أنا فِي حَلْقَةٍ) بسكون اللام، وحكى الجوهريّ لُغيّة رديئة في فتحها؛ أي: بين أوقاتي قعودي في حلقة، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"شرح النووي" 7/ 77.

ص: 226

(فِيهَا مَلَأٌ- بفتح الميم- مهموزاً: أشراف القوم، سُمُّوا بذلك؛ لكَلاءتهم بما يُلْتَمَس عندهم من المعروف، وجَوْدة الرأي، أو لأنهم يملئون العيون أُبَّهَةً، والصدور هَيْبةً، والجمع أملاءٌ، مثلُ سَبَب وأسباب

(1)

.

(مِنْ) للبيان مع التبعيض (قُرَيْشٍ) أي: من قبيلة قريش، وهم مَن ولدهم النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ، وقيل: هم بنو فهر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش، والأول قول الأكثرين، والثاني أصحّ، كما قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة":

أَمَّا قُرَيْشٌ فَالأَصَحُّ فِهْرُ

جِمَاعُهَا وَالأَكْثَرُونَ النَّضْرُ

(إِذْ) بكسر، فسكون هي الْفُجائيّة (جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ) بالخاء المعجمة، من الخُشُونة، وهو ضدّ اللين (أَخْشَنُ الْجَسَدِ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بالخاء والشين المعجمتين في الألفاظ الثلاثة، ونقله القاضي هكذا عن الجمهور، وهو من الخشونة، قال: وعند ابن الحذّاء في الأخير خاصّةً "حَسَنُ الوجه"، من الحسن، ورواه القابسيّ في البخاريّ "حَسَنُ الشعر، والثياب، والهيئة"، من الحسن، ولغيره "خَشِنُ" من الخشونة، وهو أصوب. انتهى.

ولفظ البخاريّ: "فجاء رجل خَشِن الشعر، والثياب، والهيئة"، قال في "الفتح": قوله: "خشن الشعر

إلخ " كذا للأكثر بمعجمتين، من الخشونة، وللقابسي بمهملتين، من الحسن، والأول أصح؛ لأنه اللائق بزيّ أبي ذرّ رضي الله عنه، قال: وليعقوب بن سفيان من طريق حميد بن هلال، عن الأحنف، قَدِمتُ المدينة، فدخلت مسجدها؛ إذ دخل رجل آدم، طُوال، أبيض الرأس واللحية، يشبه بعضه بعضأ، فقالوا: هذا أبو ذرّ. انتهى

(2)

.

(فَقَامَ) أي: وقف (عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ) بالنون والزاي، من كَنَزَ يَكْنِزُ، من باب ضرب، في المشهور، وحكى بعضهم أيضًا أنه من باب

(1)

"المصباح المنير" 2/ 580.

(2)

"الفتح" 14/ 223، و"عمدة القاري" 8/ 264.

ص: 227

نصر

(1)

، وفي رواية الإسماعيليّ:"بَشِّر الكَنَّازين" بتشديد النون، جمع كَنّاز مبالغةُ كانز، وقال ابن قرقول: وعند الطبريّ، والهرويّ:"الكاثرين" بالثاء المثلثة والراء، من الكثرة، والمعروف هو الأول.

وقوله: "بَشِّر" من باب التهكم، كما في قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 12] و [التوبة: 43] و [الانشقاق: 42]

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "بَشِّر الكانزين"، فظاهره أنه أراد الاحتجاج لمذهبه في أن الكنز كلُّ ما فَضَل عن حاجة الإنسان، هذا هو المعروف من مذهب أبي رضي الله عنه، وروي عنه غيره، والصحيح الذي عليه الجمهور أن الكنز هو المال الذي لم تؤدَّ زكاته، فأما إذا أديت زكاته، فليس بكنز، سواءٌ كَثُر أم قلّ.

وقال القاضي عياض: الصحيح أن إنكاره إنما هو على السلاطين الذين يأخذون لأنفسهم من بيت المال، ولا ينفقونه في وجوهه.

وتعقّبه النوويّ، فقال: هذا الذي قاله القاضي باطل؛ لأن السلاطين في زمنه لم تكن هذه صفتهم، ولم يخونوا في بيت المال، إنما كان في زمنه اْبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، وتُوُفّي في زمن عثمان رضي الله عنه سنة ثنتين وثلاثين. انتهى

(3)

.

(بِرَضْفٍ) بفتح الراء، وسكون المعجمة، بعدها فاء: هي الحجارة الْمُحْمَاةُ، واحدها رَضْفَة (يُحْمَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يوقد (عَلَيْهِ) أي: على ذلك الكنز (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) في "جهنّم " مذهبان لأهل العربية: أحدهما أنه اسم عجمئ فلا ينصرف؛ للعُجْمة، والعلميّة، قال الواحديّ: قال يونس: وأكثر النحويين هي أعجمية، لا تنصرف؛ للتعريف والعجمة، وقال آخرون: هو اسم عربيٌّ، سُفيت به؛ لبعد قَعْرها، ولم ينصرف للعلمية والتأنيث، قال قطرب، عن رؤبة: يقال: بئر جِهِنّامٌ: أي: بعيدة القَعْر، وقال الواحديّ في موضع آخر: قال بعض أهل اللغة: هي مشتقة من الجهومة، وهي الغِلَظ، يقال: جَهْمُ

(1)

راجع: "تاج العروس في شرح القاموس" 4/ 75.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 8/ 264.

(3)

"شرح النووي" 7/ 77.

ص: 228

الوجه؛ أي: غليظه، وسُمِّيت جهنم؛ لغلظ أمرها في العذاب

(1)

.

(فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ) الْحَلَمة: هي اللحمة الناتئة على رأس الثدي، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْحَلَمُ -بفتحئين-: الْقُرَاد الضَّخْمُ، الواحدة حَلَمَةٌ، مثلُ قَصَب وقَصَبَؤ، وقيل لرأس الثدي، وهي اللَّحْمة الناتئة حَلَمَةٌ على التشبيه بقدرها، قال الأزهريّ، والْحَلَمة: الْحَبّةُ على رأس الثدي من المرأة، ورأس الثَّنْدُوة من الرجل. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه جواز استعمال الثَّدْي في الرجُل، وهو الصحيح، ومن أهل اللغة من أنكره، وقال: لا يقال ثَدْيٌ إلا للمرأة، ويقال في الرجل: ثَنْدُوَة، وقد سبق بيان هذا مبسوطًا في "كتاب الأيمان" في حديث الرجل الذي قَتَلَ نفسه بسيفه، فجعل ذُبابه بين ثدييه، وسبق أن الثَّدْيَ يُذَكَّر ويؤنث، قاله النووي رحمه الله

(3)

.

(حَتى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ) بضم النون، وسكون المعجمة، بعدها ضاد معجمة: العظنم الدقيق الذي على طَرَف الكتف، وقيل: هو أعلى الكتف، ويقال له الناغض؛ أيضًا، قال الخطابيّ: هو الشاخص منه، وأصل النُّغْض الحركة، فسُمِّي ذلك الموضع نُغْضاً؛ لأنه يتحرك بحركة الإنسان، من قولهم: أنغض رأسه: أي: حرّكه، ومنه قوله تعالى:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} الآية [الإسراء: 51]؛ أي: يُحرّكونها استهزاءً

(4)

. (وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ، يَتَزَلْزَلُ) بزايين معجمتين: أي: يضطرب، ويتحرّك؛ يعني: أن الرَّضْفَ يتزلزل من النُّغْض إلى الْحَلَمَة، وفي رواية الإسماعيليّ:"فيتجلجل " بجيمين، قال القاضي عياضٌ رحمه الله: قيل: معناه أنه بسبب نضجه يتحرك؛ لكونه يهتري، قال: والصواب أن الحركة والتزلزل إنما هو للرَّضْف؛ أي: يتحرك من نُغْض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه.

ووقع في بعض النسخ: "على حلمة ثدي أحدهم -إلى قوله-: حتى

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 77 - 78.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 148 - 149.

(3)

" شرح النووي" 7/ 78.

(4)

"المفهم" 3/ 33.

ص: 229

يخرج من حلمة ثدييه" بإفراد الثدي في الأول، وتثنيته في الثاني، وكلاهما صحيح

(1)

.

(قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ) أي: أطرقوها متخشّعين، أو مستثقلين، يدلّ عليه قوله:"إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا"

(فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَع إِلَيْهِ شَيْئًا) أي: ما رَدُّوا عليه شيئًا مما حدَّثهم ذلك الرجل؛ لأنه صحابيّ ثقةٌ عدل عندهم، فما أخبرهم به لا يكون إلا صدقًا، أو لكراهتهم مناقشته في ذلك (قَالَ) الأحنف (فَأَدْبَرَ) أي: ولّى الرجل بعد أن أخبرهم بما ذُكر (وَاتبَعْتُهُ) أي: لأتبيّن من هو؟، ففي رواية البخاريّ: وأنا لا أدري من هو؟ (حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيةٍ) هي الأسطوانة، والجمع سَوَارٍ، مثلُ جاريةٍ وجَوَارٍ (فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ) لعل ذلك أنهم يرون أن الوعيد الذي ذكّرهم لا ينطبق عليهم، حيث إنهم يؤدّون الزكاة، وما أدّيت زكاته فليس بكنز، فمذهبهم خلاف مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه، فهو وإن حدّثهم بالصدق، إلا أنه فهم منه الإطلاق، وهم فهموا منه التقييد بما لم تُؤدّ زكاته، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه، وفي نسخة:"فقال"(إِن هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا) بَيَّن وجه ذلك في آخر الحديث حيث قال: إنما يجمعون الدنيا

إلخ.

وفي الرواية التالية من طريق خُلَيد الْعَصَريّ، عن الأحنف، فقلت: إ من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذرّ، فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقوله؟ قال: ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم"، وفي هذه الزيادة رَدّ لقول من قال: إنه موقوف على أبي ذرّ، فلا يكون حجة على غيره، ولأحمد من طريق يزيد الباهليّ، عن الأحنف: "كنت بالمدينة، فإذا أنا برجل يَفِرّ منه الناس حين يرونه، قلت: من أنت؟ قال: أبو ذرّ، قلت: ما نفر الناس عنك؟ قال: إني أنهاهم عن الكنوز التي كان ينهاهم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(إِنَّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: "أترَى أحُدًا؟ ") بضقتين الجبل المعروف بالمدينة، وإنما استفهمه عن رؤيته؛ لتحقّق رؤيته حتى يشبّه له

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 78.

ص: 230

به ما أراده بقوله: "ما يسُرّني أن لي

إلخ" (فَنَظَرْتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الشَّمْسِ) ثم بيّن سبب نظره الشمس، بقوله: (وَأنَا أَظُنُّ أنَّهُ يَبْعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ) يعني: أنه ظنّ أنه صلى الله عليه وسلم يرسله إلى أُحُد لقضاء حاجة، فاراد أن يعلم قدر الباقي من الوقت، هل يكفيه للذهاب والرجوع أم لا؟ (فَقُلْتُ: أَرَاهُ) أي: أُحُدًا (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا) نافية (يَسُرُّنِي) بفتح أوله، وضمّ ثالثه؛ أي: يُفرِحني (أَن لِي مِثْلَهُ) أي: مثل احُد (ذَهَبًا) منصوب على التمييز (أنْفِقُهُ كُلَّهُ) بالنصب توكيد للضمير المنصوب (إِلا ثَلَاَثةَ دَنَانِيرَ") قال القرطبيّ رحمه الله، رحمه الله: يعني: دينارًا يرصُده لدين؛ أي: يؤخّره، ودينارًا لأهله، ودينارًا لإعتاق رقبة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا فسّر القرطبيّ الثلاثة الدنانير بهذا التفسير، ولم يذكر مُستنده في ذلك، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر احتجاج أبي ذرّ رضي الله عنه بهذا الحديث وشبهه أن الكنز المتوعّد عليه هو جَمْعُ ما فَضَلَ عن الحاجة، وهكذا نُقل من مذهبه، وهو من شدائده رضي الله عنه، ومما انفرد به، وقد رُوي عنه خلاف ذلك، وحُمِل إنكاره هذا على ما أخذه السلاطين لأنفسهم، وجمعوه لهم من بيت المال وغيره، ولذلك هَجَرهم، وقال: لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين، والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق أن حمل إنكار أبي ذرّ رضي الله عنه على سلاطين وقته باطلٌ؛ لأنهم هم الخلفاء الراشدون، فلا يمكن أن يفعلوا ذلك، بل الصواب أن مذهب أبي ذرّ رضي الله عنه أنه يرى أن أخذ ما فضل عن حاجة الإنسان يُعتبر من الكنز المتوعّد عليه، وهذا تشدّد منه رضي الله عنه.

(قَالَ) الأحنف (قُلْتُ: مَا لَكَ)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء ثبتٌ لك (وَلِإخْوَتك مِنْ قُرَيْشٍ لَا تَعْتَرِيهِمْ) أي: تزورهم وتأتيهم تطلب حاجتك منهم، يقال: عَرَوْته واعتروته، واعتريته، واعتررته براءين: إذا أتيته تطلب حاجتك منه، ومن الأخيرة قوله تعالى:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} الآية [الحج: 36]، وهو الزائر، وقوله:(وَتُصِيبُ مِنْهُمْ؟) مؤكّد لما قبله؛ أي: تأخذ من أموالهم

(1)

"المفهم" 3/ 34.

(2)

"المفهم" 3/ 34.

ص: 231

حاجتك (قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (لَا وَرَبِّكَ لَا أَسْأَلهُمْ)"لا" الأولى نافية، والثانية مؤكّدة لها، فُصِل بينهما بالقسم، كما في قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].

وقوله: (عَنْ دُنْيَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول "عن دُنيا"، وفي رواية البخاريّ:"لا أسألهم دُنيا" بحذف "عن"، وهو الأجود؛ أي: لا أسألهم شيئًا من متاع دنياهم

(1)

. (وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ) أي: لا أستفتيهم، وأطلب منهم أن يُفتوني عن أمرٍ دينيّ (حَتَّى ألحَقَ بِاللهِ) تعالى (وَرَسُولهِ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: حتى أموت، أراد أبو ذرّ رضي الله عنه بذلك أنه مستغن عنهم دُنيا ودينًا، أما من حيث الدنيا، فإنه لا حاجة فيها؛ لكونه لا يأخذ منها إلا قوته، وأما من حيث الدين، فإنه أعلم منهم؛ لكونه عاش مع النبيّ صلى الله عليه وسلم طويلًا، وعلّمه من أمور الدين ما يُغنيه عن سؤال غيره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسالتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2306 و 2307](992)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1407)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 160 و 167 و 169)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3259 و 3260)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 73 - 74)، وأما فوائده فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2307]

(

) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، حَدَّثَنَا خُلَيْدٌ الْعَصَرِيُّ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كنْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمَرَّ أَبُو

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 78 - 79.

ص: 232

ذَرٍّ، وَهُوَ يَقُولُ:"بَشّرِ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ، يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ، وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أقفَائِهِمْ، يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ"، قَالَ: ثُمَّ تَنَحَّى، فَقَعَدَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا شَيءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ إِلَّا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيهِمْ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ؟ قَالَ: خُذْهُ، فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً، فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، أبو محمد، صدوق يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(أَبُو الْأَشْهَبِ) جعفر بن حيّان السعديّ العُطَارديّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [6](ت 165) وله (95) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 370.

3 -

(خُلَيْدٌ الْعَصَرِيُّ) هو: خُليد بن عبد الله، أبو سُليمان البصريّ، يقال له: مولى لأبي الدرداء، صدوق يُرسل [4].

رَوَى عن عليّ، وسلمان، وأبي ذرّ، وأبي الدرداء، والأحنف، وزيد بن صوحان، وقرأ عليه القرآن.

وروى عنه أبان بن أبي عياش، وأبو الأشهب العُطَارديّ، وعوف الأعرابيّ، وقتادة.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، أنه قال: لم يسمع خُليد بن عبد الله من سلمان، قال: فقلت: يقول: لَمّا ورد علينا سلمان، قال: يعني: بالبصرة. انتهى.

قال الحافظ: وعلى هذا فيبعد سماعه من عليّ، وأبي ذرّ رضي الله عنهما، وأما أبو الدرداء رضي الله عنه، فقال ابن حبان في "الثقات" لما ذكره: يقال: إن هذا مولى لأبي الدرداء رضي الله عنه.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وله عند أبي داود حديث واحد فقط.

[تنبيه]: قوله: "الْعَصَريّ" -بفتح العين، والصاد المهملتين-: منسوب إلى بني عَصَر، وهو بطن من عبد القيس، وهو عَصَر بن عوف بن عمرو بن

ص: 233

عوف بن جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس، قاله في "اللباب"

(1)

.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ)"الكيّ" بفتح الكاف، وتشديد الياء التحتانيّة: مصدر كَوَى، يقال: كواه يَكْويه كَيًّا: إذا أحرق جلده بحديدة ونحوها

(2)

.

وقوله: (مِنْ جُنُوبِهِمْ) بالضمّ: جمع جَنْب، بفتح، فسكون، كفَلْس وفُلُوس، وجنب الإنسان: ما تحت إبطه إلى كشحه

(3)

.

وقوله: (أقفَائِهِمْ) بفتح الهمزة: جمع قَفًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الْقَفَا مقصورًا: مؤخّرُ العُنُق، ويذكّر ويؤنّث، وجمعه على التذكير أَقْفيةٌ، وعلى التأنيث أقفاء، مثلُ أَرْجاء، قاله ابن السّرّاج، وقد يُجمَع على قُفِيّ، والأصل مثلُ فُلُوس، وعن الأصمعيّ أنه سَمِع ثلاثَ أَقْفٍ، قال الزجّاج: التذكير أغلب، وقال ابن السّكّيت: القَفَا مذكّر، وقد يؤنّث، وألفه واوٌ، ولهذا يثنّى قَفَوينْ. انتهى

(4)

.

وقوله: (جِبَماهِهِمْ) بالكسر: جمع جبهة، كلكلبة وكِلاب، قال الخليل: هي مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، وقال الأصمعيّ: هي موضع السجود. انتهى

(5)

.

وقو له: (قُبَيْلُ) تصغير " قَبْلُ".

وقوله: (مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ؟

إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: أراد ما يُعطاه الرجلُ من بيت المال على وجه يستحقّه، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه:"ما أتاك من هذا المال، وأنت غيرُ مُشرِفٍ، ولا سائل فخُذه، وما لا، فلا تُتبعه نفسك"

(6)

، متّفقٌ عليه.

وقوله: (مَعُونَةً) بالنصب على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا، ووزنها مَفْعُلةٌ بضمّ

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 117 - 118.

(2)

"القاموس" 4/ 384.

(3)

"المصباح" 1/ 110.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 512.

(5)

"المصباح" 1/ 91.

(6)

"المفهم" 3/ 35.

ص: 234

العين، وبعضهم يجعل الميم أصليّة، ويقول: هي مأخوذةٌ من الماعون، ويقول: هي فَعُولةٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ) أي: إذا كنت لا تتوصّل إليه إلا بوجه غير جائز، فلا تلتفت إليه، فإن سلامة الدِّين أهمّ من نَيْل الدنيا، فكيف إذا انتهى الأمر إلا أن لا يسلم دِينٌ، ولا تنال دُنيا؟ ومَن أخسر صَفْقةً ممن خسر الآخرة والأولى؟ نعوذ بالله تعالى من سخطه

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى النَّفَقَةِ، وَتبشِيرِ الْمُنْفِقِ بَالْخَلَفِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2308]

(993) - (حَدَّثَنِي

(3)

زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أنفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَمِينُ اللهِ مَلْأَى، وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَلْأنُ، سَحَّاءُ، لَا يَغِيضُهَا شَيءٌ، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام، من كبار [8](ت 198) وله (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

(1)

"المصباح" 2/ 439.

(2)

"المفهم" 3/ 35.

(3)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 235

4 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

5 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحادهما في كيفيّة الأخذ والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه زهير، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من أبي الزناد.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وقوله: (يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جملة حاليّة، ومعناها: يرفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما عدل عن الصيغ المشهورة، مثل "قال"، أو "حدّث"، أو "أخبر"، ونحوها؛ لكونه نسي الصيغة، مع تأكّده بإسناده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتى بصيغة تَحْتَمل الجميع، فتنبّه.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم "قَالَ اللهُ تبارك وتعالى هذا هو الذي يُسمّى بالحديث القدسيّ، وهو ما يُسنده النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على سبيل الحكاية، والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن متعبّد بلفظه، بخلاف هذا، فإنه لم يُتعبّد بتلاوته، فتنبّه.

(يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ) بقطع الهمزة، أمر من الإنفاق (أُنْفِقْ عَلَيْكَ) بضمّ الهمزة مجزوم على أنه جواب الأمر؛ أي: أعطك عوض ما أعطيته، وهذا معنى قوله عز وجل:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 34] فيتضمن الحثّ

ص: 236

على الإنفاق معنًى في وجوه الخير، والتبشير بالْخَلَف من فضل الله تعالى

(1)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَمِينُ الله مَلْأَى) مبتدأ وخبره، وهو فعلى تأنيث ملآن بالنون (وَقَالَ) محمد بن عبد الله (بْنُ نُمَيْرٍ) شيخه الثاني في روايته (مَلْآنُ) بالنون، قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقعت رواية ابن نُمير بالنون، قالوا: وهو غلطٌ منه، وصوابه "ملآى"، كما في سائر الروايات، ثم ضبطوا رواية ابن نمير من وجهين: أحدهما: إسكان اللام، وبعدها همزة، والثاني:"ملان" بفتح اللام بلا همز. انتهى

(2)

.

ووقع في رواية للبخاريّ "يد الله" بدل "يمين الله"، قال في "الفتح": ويُتَعقَّب برواية "يمين الله" على مَن فَسَّر اليد هنا بالنعمة، وأبعدُ منه من فسّرها بالخزائن، وقال: أَطْلق اليد على الخزائن؛ لتصرّفها فيها. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد صاحب "الفتح" حيث تعقّب من فسّر اليد بالنعمة، أو بالخزائن، فالحقّ أن اليد صفة ثابتة لله تعالى على ظاهرها كما يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: وقوله: "مَلْآى" بفتح الميم، وسكون اللام، وهمزة، مع القصر: تأنيث ملآن، ووقع بلفظِ ملآن في رواية لمسلم، وقيل: هي غلط، ووَجَّهَهَا بعضهم بإرادة اليمين، فإنها تُذَكَّر وتؤنّث، وكذلك الكَفّ

(4)

.

قال: والمراد من قوله: ملآى، أو ملآن لازمه، وهو أنه في غاية الغنى، وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق. انتهى

(5)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تفسير الملء باللازم ليس صوابًا؛ إذ فيه دعوى المجاز، والحقّ أن يُفسّر بالملزوم واللازم معًا، فإن صفات الله تعالى ثابتة له حقيقةً لا مجازًا، ولا محذور في إثباتها على حقيقتها؛ لأن الملء إذأ نُسب

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 79.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 79.

(3)

"الفتح" 17/ 373.

(4)

فقد ذكر في "المصباح" أن الكفّ مذكّر، ولا يُعرف تانيثه ممن يوثق به.

(5)

"الفتح" 17/ 373.

ص: 237

إلى الله تعالى يكون على ما يليق به، فلا يلزم منه التشبيه، فتنبّه لهذه الدقائق، فمانها من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (سَخَاءُ) صيغة مبالغة، من السَّحِّ، وهو الصبّ الدائم، وهو خبر ثانٍ لـ"يمين الله".

وقال النوويّ رحمه الله: ضَبَطُوا "سحاء" بوجهين: أحدهما: "سَحًّا" بالتنوين على المصدر، وهذا هو الأصح الأشهر، والثاني: حكاه القاضي "سَحَّاءُ" بالمد على الوصف، ووزنه فعلاء، صفة لليد، والسَّحّ الصبّ الدائم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الوجه الثاني هو الموجود في النسخ التي عندنا، فتنبّه.

وقال في "الفتح": قوله: "سَحَّاء" بفتح المهملتين، مُثَقَّلًا ممدودًا؛ أي: دائمةُ الصبِّ، يقال: سَحَّ بفتح أوله مثقلًا يَسُحُّ بكسر السين في المضارع، ويجوز ضمها، وضُبِطَ في مسلم "سَحًّا" بلفظ المصدر. انتهى.

وفي الرواية التالية: "سحّاءُ الليل والنهار"، والمراد عدم الانقطاع لعطائه؛ أي: هي دائمة الانصباب في الليل والنهار.

وقال السنديّ رحمه الله: قيل: ما أتمّ البلاغة، وأحسن هذه الاستعارة، فلقد نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ على معان دقيقة:

[منها]: وَصْفُ يده تعالى في الإعطاء بالتفوّق والاستعلاء، فإن السحّ إنما يكون من عُلْو.

[ومنها]: أنها المعطية عن ظهر غنًى؛ لأن الماء إذا انصبّ من فوقُ انصبّ بسهولة.

أومئها،: جزالة عطاياه سبحانه وتعالى، فإن السحّ يُستعمل فيما ارتفع عن حدّ التقاطر إلى حدّ السيلان.

[ومنها]: أنه لا مانع لها؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب من فوقُ لم يستطع أحدٌ أن يردّه. انتهى. وهو توجيه وجيه، والله تعالى أعلم.

(لَا يَغِيضهَا شَيءٌ) أي: لا يَنْقُصها شيء من الإنفاق، يقال: غاض الماءُ

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 80.

ص: 238

يَغِيض، من باب سار غَيْضًا ومَغَاضًا: نَضَبَ؛ أي: ذهب في الأرض، وغاضه الله يتعدّى، ولا يتعدّى، وغاض الشيءُ: نقَصَ، ومنه يقال: غاض ثمن السلعة: إذا نقص، وغِضْتُهُ: نقصتُهُ، يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ") في هذه الرواية منصوبان على الظرفيّة، تنازع فيهما "لا يَغيضها"، و"سحّاء"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 2308 و 2309](993)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4684 و 5352)، و" التوحيد"(7419 و 7496)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3045)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 363)، و (ابن ماجه) في "السنّة"(197)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1067)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242 و 464 و 500)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(725)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 134)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 553)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات "(395 و 396)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1656)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كثرة جود الله سبحانه وتعالى، وأنه ينفق كيف يشاء.

2 -

(ومنها): سعة رزقه تعالى، بحيث لا ينقصه الإنفاق.

3 -

(ومئها): أنه يستفاد من الرواية التالية أنه سبحانه وتعالى يرفع الميزان بأفعال العباد، وأرزاقهم، ويخفضه، كيف يشاء، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].

(1)

"المصباح" 2/ 459.

ص: 239

4 -

(ومنها): الردّ على الجهميّة في إنكارهم الصفات الثابتة لله عز وجل في نصوص الكتاب والسنّة الصحيحة، وهي اليد، واليمين، وأنه تعالى يرفع القسط، ويخفضه، وكلها صفات لائقة بجلاله، ثابتة له كما أثبتها هذا النصّ الصريح الصحيح، فلا نعطّل، ولا نشبّه، ولا نؤوّل.

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بعد إخراجه هذا الحديث ما نصّه: قال أبو عيسى: هذا حديث قد رَوَته الأئمةُ، نؤمن به كما جاء، من غير أن يُفَسَّر، أو يُتَوَهَّم، هكذا قال غيرُ واحد من الأئمة، منهم سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وابن عيينة، وابن المبارك، أنه تُرْوَى هذه الأشياء، وُيؤمَنُ بها، ولا يقال: كيف؟. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: مراد الترمذيّ رحمه الله بقوله: "من غير أن يُفَسَّر" تفسير الكيفيّة، كما أوضحه آخر كلامه، فتنبّه، فإن بعض الناس يَحْمِل تفويض السلف على أنهم يفوّضون المعنى، وهذا غلطٌ عليهم، فإنهم يعلمون معنى الصفات على ظاهرها، وُيثبتونها كذلك، وإنما يجهلون، ويفوّضون معنى كيفيّتها، فتفطّن لهذه الدقيقة فإنها من مزالّ الأقدام، فقد زلّ فيها كثير ممن ينتسب إلى العلم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2309]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الزَزَّاقِ بْنُ هَمَّامِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مًا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ قَالَ لِي: أَنفِقْ أُنفِقْ عَلَيْكَ"، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَمِينُ اللهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا، سَحَّاءُ، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أنفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمَاءَ

(1)

وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْضُ، يَرْفَعُ وَيَخْفِض").

(1)

وفي نسخة: "السماوات".

ص: 240

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَاقِ بْنُ هَمَّام) أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ، مصنّفٌ شهيرٌ، عمي، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ) الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهٍ) أبو عقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان، 26/ 213.

و"أَبُو هُرَيْرَةَ" ذُكر قبله.

وقوله: (أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ) المتوفّى سنة بضع عشرة ومائة، وستأتي ترجمته في [34/ 2390]"باب النهي عن المسألة"، وهمّام أكبر سنًّا من أخيه وهب، لكن تأخّرت وفاته عنه، فقد تُوُفّي سنة (132) على الصحيح.

وقوله: (قَالَ: هَذَا

إلخ) أي: قال همّام بن منبّه مشيرًا إلى ما كتبه في صحيفته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاسم الإشارة مبتدأ خبره قوله: "مَا حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

إلخ".

وقوله: (فَذَكرَ) أي: همّام (أَحَادِيثَ) كثيرة، وهي نحو (138) حديثًا.

وقوله: (مِنْهَا) جارّ ومجرور خبر مقدّم لقوله: "وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ " لقصد لفظه، فهو محكيّ.

(لَا يَغِيضُهَا) أي: لا ينقصها شيء من الإنفاق، ففاعله مقدّر، يدلّ عليه السياق، وقد جاء مصرّحاً به في الرواية السابقة، حيث قال:"لا يغيضها شيء".

وقوله: (سَحَّاءُ) بالمدّ والهمز والرفع على أنه خبرٌ لـ "يمينُ الله" بعد خبرين، وقوله:"الليل والنهار" في هذه الرواية منصوبان على الظرفيّة متعلّقان بما في "سحّاء" من معنى الفعل، قال القرطبيّ رحمه الله: هذه هي الرواية المشهورة، وعند أبي بحر:"سَحًّا" منصوبًا منوّنًا على أنه مصدر، حُذف فعله؛

ص: 241

أي: تسُحّ سحًّا، والسخ الصبّ الكثير

(1)

.

وقوله: (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه بوجهين: نصب "الليلَ والنهارَ"، ورفعهما، فالنصب على الظرف، والرفع على أنه فاعل.

وقال في "الفتح "؛ بالنصب على الظرفيّة؛ أي: فيهما، ويجوز الرفع، ووقع في رواية لمسلم: ة سَحُّ الليلِ والنهارِ" بالإضافة، وفتح الحاء، ويجوز ضمها. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: يجوز أن تكون "ملآى"، و"لا يَغِيضها"، و"سحّاء"، و"أرأيت" على تأويل مقول فيه أخبارًا مترادفةَ و"يمين الله"، ويجوز أن تكون الثلاثة الأخيرة أوصافاَ و"ملآى"، ويجوز أن يكون "أرأيت" استئنافًا وفيه معنى الترقّي، كأنه لَمّا قيل:"ملآى" أَوْهَم جواز النقصان، فأزاله بقوله:"لا يَغِيضها شيءٌ"، وربما يمتلئ الشيءُ، ولا يغيض، فقيل: سَحَاءُ، ليؤذن بالغيضان، وقرنها بما يدلّ على الاستمرار، من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعها بما يدلّ على أن ذلك ظاهر غير خافٍ على ذي بصر وبصيرة بعد أن انتقل من ذكر الليل والنهار إلى المدّة المتطاولة بقوله:"أرأيتم" مستأنفًا؛ لأنه خطاب عامّ، والهمزة فيه للتقرير، قال: وهذا الكلام إذا أخذته بجملته من غير نظر إلى مفرداته أبان زيادة الغنى، وكمال السعة، والنهاية في الجود، وبسط اليد في العطاء. انتهى كلامه ببعض تصرّف

(3)

.

وقوله: (أَرَأَيْتُمْ) بضمير الجمع، وفي رواية ابن ماجه:"أريت" بضمير المخاطب الواحد، وهو تنبيه على وضوح ذلك لمن له بصيرة.

وقوله: (مَا أنفَقَ)"ما" مصدريّة؛ أي: أتعلمون إنفاق الله تعالى (مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ) الضمير راجع إلى الإنفاق (لَمْ يَغِضْ)، بِالغين والضاد المعجمتين، وهو بمعنى ينقص، وفاعله ضمير الإنفاق أيضًا؛ أي: لم ينقص ذلك الإنفاق (ما فِي يَمِينِهِ)"ما" هذه موصولة، وهي مع صلتها مفعول "يَغِض"، وفي رواية البخاريّ:"ما في يده".

(1)

راجع: "المفهم" 3/ 38.

(2)

"الفتح" 17/ 373.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 552 - 553.

ص: 242

وقوله: (قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) فيه إشارة إلى أنه لم يكن تحت العرش قبل السماوات والأرض شيء إلا الماء، وإلى أن جوده تعالى لا نهاية له، ولا حصر.

وقال في "الفتح": مناسبة ذكر العرش هنا أن السامع يتطلع من قوله: "خلق السماوات والأرض" ما كان قبل ذلك، فذَكَرَ ما يدل على أن عرشه قبل خلق السماوات والأرض كان على الماء، كما وقع في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما بلفظ:"كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض". انتهى.

وقوله: (وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْضُ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين: أحدهما: "الْفَيْضُ" بالفاء والياء المثناة تحتُ، والثاني:"الْقَبْضُ" بالقاف والباء الموحدة، وذكر القاضي أنه بالقاف، وهو الموجود لأكثر الرواة، قال: وهو الأشهر والمعروف، قال: ومعنى القبض الموت، وأما الفيض بالفاء فالإحسان والعطاء والرزق الواسع، قال: وقد يكون بمعنى القبض بالقاف؛ أي: الموت، قال البكراويّ: والفيض الموت، قال القاضي: قَيْسٌ يقولون: فاضت نفسه بالضاد: إذا مات، وطَيّئٌ يقولون: فاظت نفسه بالظاء، وقيل: إذا ذكرت النفس فبالضاد، وإذا قيل: فاظ من غير ذكر النفس فبالظاء، وجاء في رواية أخرى:"وبيده الميزان، يَخْفِض ويرفع"، فقد يكون عبارةً عن الرزق ومقاديره، وقد يكون عبارة عن جملة المقادير، ومعنى "يخفض، ويرفع"، قيل؛ هو عبارة عن تقدير الرزق، يُقَتِّره على من يشاء، ويوسعه على من يشاء، وقد يكونان عبارة عن تصرف المقادير بالخلق بالعز والذل، والله أعلم. انتهى

(1)

.

ووقع في رواية البخاريّ: "وبيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع"؛ أي: يخفض الميزان ويرفعها، قال الخطابيّ: الميزان مَثَلٌ والمراد القسمة بين الخلق، وإليه الإشارة بقوله:"يخفض وبرفع"، وقال الداوديّ: معنى الميزان أنه قدّر الأشياء، ووقّتها، وحددها، فلا يملك أحد نفعًا ولا ضرًّا إلا منه وبه.

وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": وعنى قوله: "وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 81.

ص: 243

الْمِيزَانُ" كما ذكروا في "اليمين" من المجاز، فليُتأمل، قال: والوجه مذهب السلف، فالواجب فيه وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث والتسليم، وترك التصرّف فيه بالعقل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد السنديّ رحمه الله في آخر كلامه، فإن مذهب السلف هو الأسلم، والأعلم، والأحكم، فيا ليته التزم هذا المذهب في كلّ كتابه لأفاد وأجاد، ولكنك في بعض المواضع ترى منه العجب العُجاب، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال في "الفتح": ووقع في رواية همام؛ يعني: عند البخاريّ: "وبيده الأخرى الفيض، أو القبض"، الأولى بفاء وتحتانية، والثانية بقاف وموحدة، كذا للبخاريّ بالشك، ولمسلم بالقاف والموحدة بلا شك، وعن بعض رواته فيما حكاه عياض بالفاء والتحتانية، والأول أشهر، قال عياض: المراد بالقبض قبض الأرواح بالموت، وبالفيض الإحسان بالعطاء، وقد يكون بمعنى الموت، يقال: فاضت نفسه إذا مات، ويقال: بالضاد وبالظاء. انتهى.

قال الحافظ: والأولى أن يُفَسَّر بمعنى الميزان؛ ليوافق رواية الأعرج التي في هذا الباب، فإن الذي يوزن بالميزان يَخِفّ وَيرْجَح، فكذلك ما يُقْبَض، وَيحْتَمِل أن يكون المراد بالقبض المنع؛ لأن الإعطاء قد ذُكِر في قوله قبل ذلك:"سَحَّاءُ الليل والنهار"، فيكون مثل قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245].

ووقع في حديث النَّوّاس بن سَمْعان رضي الله عنه عند مسلم: "الميزان بيد الرحمن، يرفع أقواماً، ويَضَعُ آخرين".

وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه عند مسلم، وابن حبان:"إن الله لا ينام، ولا ينبغي أن ينام، يَخْفِض القسط، ويرفعه"، وظاهره أن المراد بالقسط الميزان، وهو مما يؤيد أن الضمير المستتر في قوله:"يخفض ويرفع" للميزان، كما بدأت الكلام به، وقد تقدّم على هذا الحديث في "كتاب الإيمان"

(2)

، فراجعه، تستفد.

(1)

"شرح السنديّ" 1/ 131.

(2)

تقدّم برقم (179) حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع: =

ص: 244

وقال المازريّ: ذكر القبض والبسط وإن كانت القدرة واحدة؛ لتفهيم العباد أنه يفعل بها المختلفات، وأشار بقوله:"بيده الأخرى" إلى أن عادة المخاطبين تعاطي الأشياء باليدين معًا، فعبّر عن قدرته على التصرف بذكر اليدين؛ لتفهيم المعنى المراد بما اعتادوه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذهب إليه المازريّ، وكذا القرطبيّ في "المفهم" من تفسيره اليد بالقدرة مذهب منابذٌ لظواهر الكتاب والسنّة، ومذهب السلف الصالح، وقد بيّنّا بطلانه في هذا الشرح في غير موضع، وكذا في شرح النسائيّ، وشرح ابن ماجه في عذة مواضع بما يكفي ويشفي.

والحاصل أن الله له صفة اليد كما أن له صفة القدرة، وله سائر صفاته العليّة على ما يليق بجلاله، فتبصّر، ولا تتهوّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ، وَالْمَمْلُوكِ، وَإِثْمِ مَنْ حَبَسَ عَنْهُمْ قُوتَهُمْ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2310]

(994) - (حَدَّثنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزهْرَانيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ

(1)

، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أفضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ"، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ، ثئَم قَالَ أَبُو

= "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط، ويخفضه، ويُرفع إليه عمل النهار بالليل، وعمل الليل بالنهار".

(1)

وفي نسخة: "عن أبي أسماء الرحبي".

ص: 245

قِلَابَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ، أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللهُ بِهِ

(1)

، وَبُغْنِيهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(أيَّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

5 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، وفيه نصث يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

6 -

(أَبُو أَسْمَاءَ) عمرو بن مرثد الرَّحَبيّ الدمشقيّ، ويقال: اسمه عبد الله، ثقةٌ [3] مات في خلافة عبد الملك (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

7 -

(ثَوْبَانُ) بن بُجْدُد، ويقال: ابن جَحْدر الهاشميّ مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، صَحِبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، مات رضي الله عنه بحِمْص سنة (54)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهما، ثم فصّل؛ لاختلافهما في كيفيّة صيغة الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى أبي الربيع، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين إلى أبي قلابة، وقتيبة بغلانيّ، والباقيان شاميّان.

(1)

وفي نسخة: "يعفّهم الله، أو ينفعهم الله به".

ص: 246

4 -

(ومنها): أن ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، ورواية الأخيرين من رواية الأقران.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَوْبَانَ) بن بُجْدُد رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أفضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ) يراد به العموم؛ أي: أكثر الدنانير إذا أُنفقت (دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ) بكسر العين المهملة، وتخفيف الياء التحتانيّة: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد عَيِّل، مثلُ جِيَادٍ وجَيِّدٍ، ويقال: عال الرجل اليتيم عَوْلًا، من باب قال: إذا كَفَلَهُ، وقام به

(1)

.

والمعنى: أن أفضل ما يُنفقه الرجل من الدنانير دينارٌ يُنفقه على من يعولهم، وتلزمه نفقتهم ومؤنتهم، من نحو زوجة، وولد، وخادم، وهذا إذا نوى به وجه الله تعالى؛ لما أخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أُجرت عليها، حتى ما تَجعَل في فم امرأتك".

وأخرجا عن أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أنفق الرجل على أهله يَحتسبها، فهو له صدقة"، ولفظ مسلم:"إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقةً، وهو يحتسبها، كانت له صدقةً".

(وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ الله) متعلّق بحال من "دابته"؛ أي: حال كونها مربوطة، أو مجاهَدًا بها في سبيل الله عز وجل، وفي رواية ابن ماجه:"على فرس في سبيل الله " (وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونهم مجاهدين في سبيل الله تعالى، والمراد رُفقاؤه الغُزاة، وقيل: المراد بـ "سبيل الله" كلُّ طاعة.

وقال القاري رحمه الله

(2)

: يعني: أن الإنفاق على هؤلاء الثلاثة على الترتيب أفضل من الإنفاق على غيرهم، ذكره ابن الملك.

قال: ولا دلالة في الحديث على الترتيب؛ لأن الواو لمطلق الجمع، إلا

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 438.

(2)

راجع: "المرقاة" 4/ 423 - 424.

ص: 247

أن يقال: الترتيب الذكريّ الصادر من الحكيم لا يخلو عن حكمة، فالأفضل ذلك، إلا أن يوجد مخصِّصٌ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"فابدءوا بما بدأ الله به"، رواه أحمد، ومسلم، وأصحاب السنن

(1)

.

(قَالَ أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد الْجَرْميّ (وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ) منوّهًا بتقديم العيال على غيرهم، ومنبّهًا على عظم أجر الإنفاق عليهم (وَأَيُّ رَجُلٍ) مبتدأ خبره قوله:(أَعْظَمُ أَجْرًا) منصوب على التمييز (مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإعفاف؛ أي: يمنعهم الله تعالى بسببه من مذلّة السؤال (أَوْ) للشكّ من الراوي (يَنْفَعُهُمُ) بفتح أوله، من النفع، وقوله (اللهُ بِهِ) تنازعه الفعلان قبله، وفي بعض النسخ:"يُعفّهم الله، أو ينفعهم"، وعليه فلا تنازع (وَيُغْنِيهِمْ) بضمّ أوله، من الإغناء، وهو مؤكّد لما قبله.

وهذا الذي قاله أبو قلابة يدلّ له ما يأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه التالي: "أعظمها نفقةً الذي أنفقته على أهلك"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ثوبان -رضي الله عن - هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2310](994)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(748)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصّلَة"(1944)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(9182)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2760)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 277 و 279 و 484)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 80)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 178) و (7/ 467)، والله تعالى أعلم.

(1)

هكذا وقعت في رواية للنسائيّ: "ثم خرج، فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فابدءوا بما بدأ الله به" بصيغة الأمر، وأما لفظ مسلم فهو "أَبْدَأُ" بصيغة مضارع المتكلّم، وأكثر الروايات بلفظ:"نبدأ"، بصيغة المضارع المبدوء بالنون، فتنبّه.

ص: 248

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على النفقة على العيال، وبيان عظم الثواب فيه؛ لأن منهم من تجب نفقته بالقرابة، ومنهم من تكون مندوبةً، وتكون صدقةً وصلةً، ومنهم من تكون واجبةً بملك النكاح، أو ملك اليمين، وهذا كله فاضل محثوثٌ عليه، وهو أفضل من صدقة التطوع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الرواية التالية:"أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك"، مع أنه ذكر قبله النفقة في سبيل الله، وفي العتق، والصدقة، ورَجَّحَ النفقة على العيال على هذا كله؛ لما ذكرناه وزاده تأكيدًا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"كفى بالمرء إثمًا أن يَحْبِس عمن يملك قوته"

(1)

.

2 -

(ومنها): الحثّ على العناية بالخيل ونحوه من عُدّة الجهاد في سبيل الله عز وجل.

3 -

(ومنها): الحثّ على التعاون في الجهاد، والإنفاق على الغزاة المعوزين فيه؛ لأنه من باب التعاون على البرّ والتقوى، قال عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الآية [المائدة: 2]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2311]

(995) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُزَاَحِمِ بْنِ زُفَرَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دِينَارٌ أنفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أنفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أنفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 81 - 82.

ص: 249

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل بابين.

4 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه المشهور، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

6 -

(مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ) بن الحارث الضبّيّ، ويقال: الثوريّ، ويقال: العلاليّ الجعفريّ العامريّ الكوفيّ، وهو مزاحم بن أبي مُزَاحم، ثقةٌ [6].

رَوَى عن عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والشعبيّ والربيع بن عبد الله التيميّ، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، والضحاك بن مزاحم.

ورَوَى عنه مِسْعَز، والمسعوديّ، ومنصور بن أبي الأسود، والثوريّ، وشعبة، وشريك، وغيرهم.

قال أبو داود، عن شعبة: أخبرني مُزاحم بن زُفَر الضبيّ، وكان كخير الرجال، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: مات يوم النهر غازيًا مع قتيبة بن مسلم. انتهى.

عَلَّقَ له البخاريّ، عن عمر بن عبد العزيز أَثَرًا، وروى له مسلم والنسائي حديث مجاهد عن أبي هريرة: دينار أعطيه في سبيل الله تعالى

الحديث، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.

7 -

(مُجَاهِدُ) بن جبر أبو الحجّاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام في التفسير [3](ت 101) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحادهم في كيفية التحمّل والأداء.

ص: 250

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه الأول والثاني، فما أخرج لهما الترمذيّ، وسوى مزاحم، فانفرد به المصنّف والنسائيّ، وأما شيخه الثالث، فممن اتّفق الجماعة على الرواية عنهم بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى زهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ، ومجاهد، فمكيّ، وأبو هريرة رضي الله عنه، فمدنيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "دِينَارٌ أنفَقْتَهُ) قوله: "دينار" مبتدأ، خبره جملة "أعظمها أجرًا

إلخ"، وقوله: "أنفقته

إلخ " في محلّ رفع صفة لـ "دينارٌ"، وما بعده عطف عليه (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي: في الجهاد، وقيل: المراد عموم سبيل الطاعة، كالحجّ، وطلب العلم (وَدِينَارٌ أنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ) أي: في فكّها، أو إعتاقها (وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أنفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) وقوله: (أَعْظَمُهَا) مبتدأ (أَجْرًا) منصوب على التمييز، وخبر المبتدأ قوله: (الَّذِي أنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ") والجملة خبر "دينارٌ"، كما مرّ آنفًا، وفيه دليلٌ على أن إنفاق الرجل على أهله أفضل من الإنفاق في سبيل الله، ومن الإنفاق في الرقاب، ومن الصدقة على المساكين، وإنما كان أعظمها أجرًا؛ لكونه فرضًا، وهي تطوّع، والفرض أفضل من التطوّع، ولأنه صدقةٌ وصلةٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسالتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2311](995)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(751)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 473 و 476)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 80)، وفوائد الحديث تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 251

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2312]

(996) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ الْكِنَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، إِذ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ) -بفتح الجيم، وسكون الراء- الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع، من كبار [11](تخ م د ق) تقدم في "الصلاة" 34/ 1016.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ الْكِنَانِيُّ) هو: عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد بن حيّان بن أبجر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 231)(م س) تقدم في "الجمعة" 15/ 2009.

3 -

(أَبُوهُ) عبد الملك بن سعيد بن حيّان بن أبجر الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [6](م دت س) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.

4 -

(طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفِ) بن عمرو بن كعب الياميّ الكوفيّ، ثقةٌ قاريءٌ فاضلٌ [5](ت 112) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.

5 -

(خَيْثَمَةُ) بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرَة -بفتح المهملة، وسكون الموحّدة- واسمه يزيد بن مالك بن عبد الله بن ذويب الْجَهْنيّ الكوفيّ -لأبيه ولجده صحبةٌ، وَفَدَ جده أبو سَبْرَة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ابناه: سَبْرة، وعزيز- ثقةٌ، يرسل [3].

رَوَى عن أبيه، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، والبراء بن عازب، وعَديّ بن حاتم، والنعمان بن بشير، وغيرهم من الصحابة والتابعين.

ورَوَى عنه زِرّ بن حُبَيش، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وطلحة بن مُصَرِّف، وعمرو بن مُرّة الْجَمَليّ، وقتادة، والأعمش، ومنصور، وغيرهم.

ص: 252

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ، ثقةٌ، وكان رجلًا صالحًا، وكان سَخِيًّا، ولم ينج من فتنة ابن الأشعث إلاهو وإبراهيم النخعيّ، وقال مالك بن مِغْوَل، عن طلحة بن مُصَرِّف: ما رأيت بالكوفة أحدًا أعجب إليّ منهما.

قال البخاريّ: مات قبل أبي وائل، وقال غيره: مات بعد سنة ثمانين، وأرّخه ابن قانع سنة (80)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وساق بسنده إلى نُعيم بن أبي هند، قال: رأيت أبا وائل في جنازة خيثمة، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: لم يسمع خيثمةُ من ابن مسعود، وكذا قال أبو حاتم، وقال أبو زرعة: خيثمة عن عمر مرسلٌ، وقال ابن القطان: يُنظَر في سماعه من عائشة رضي الله عنها.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (996) و (1016) وكرره ثلاث مرات، و (1066) و (2017) و (2586) و (2871).

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد بن سَهْم السهميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرّة على الأصحّ بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيّين، سوى الصحابيّ، فمصريّ، ثم طالفيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن صحابيّ، من السابقين إلى الإسلام، ومن الصحابة المكثرين من الرواية، وأحد العبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ خَيْثَمَةَ) بن عبد الرحمن الْجُهنيّ أنه (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) بالضمّ: جمع جالس (مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما (إِذْ جَاءَهُ) فجائيّة؛ أي: فاجأه

ص: 253

مجيء (قَهْرَمَانٌ لَهُ) -بفتح القاف، وإسكان الهاء، وفتح الراء-: هو الخازن القائم بحوائج الإنسان، وهو بمعنى الوكيل، وهو بلسان الْفُرْس

(1)

. (فَدَخَلَ) أي: القهرمان (فَقَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لقهرمانه (أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ) أي: العبيد، فهو هنا بمعنى الجمع، قال الفيّوميّ رحمه الله: ويُطلق الرقيق على الذكر والأنثى، وجمعه أَرِقّاءُ، مثلُ شَحِيحٍ وأَشِحّاء، وقد يُطلق على الجمع أيضًا، فيقال: عَبِيدٌ رَقِيقٌ، ومنه:"وليس في الرقيق صدقةٌ" أي: في عَبِيد الخدمة. انتهى

(2)

. (قُوتَيمْ؟) بالضمّ: ما يُؤكل ليُمسك الرَّمَقَ، قاله ابن فارس، والأزهريّ، والجمع: أقوات، ويقال: قاته يقوته قَوْتًا، من باب قال: أعطاه قُوتًا

(3)

. (قَالَ) القهرمان (لَا) أي: لم أُعطهم قوتهم (قَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ) وقوله: (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة تعليليّة لأمره بإعطائهم قوتهم ("كَفَى بِالْمَرْءِ) الباء زائدة في المفعول؛ أي: كفى المرء (إِثْمًا) منصوب على التمييز، وقوله:(أَنْ يَحْبِسَ) في تأويل المصدر فاعل "كَفَي"، ومعنى "يحبس": يمنع (عَمَّنْ يَمْلِكُ)"من" موصولة، والعائد محذوف؛ لكونه فضلةً؛ أي: عن الشخص الذي يملكه (قُوتَهُ") منصوب على المفعوليّة و"يَحْبِس".

والمعنى أنه أَبُو لم يكن للشخص ذنب غير منعه مملوكه قوته، لكفاه ذلك إثمًا يوجب له دخول النار، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2312](996)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4241)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 122 و 5/ 23 و 87)، و (البيهقيّ) في "الصغرى"(6/ 570)، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 82.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 235.

(3)

"المصباح" 2/ 518.

ص: 254

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب النفقة على العبيد.

2 -

(ومنها): بيان كون التقصير في نفقة العبيد إثمًا، وهو معنى حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي أخرجه أحمد، وأبو داود بسند صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بالمرء إثمًا أن يُضَيِّع من يَقُوت".

3 -

(ومنها): عناية الشريعة بحقوق جميع الناس، حتى العبيد والبهائم، حيث أوجبت على ملّاكها الإنفاق عليهم، والقيام بحقوقهم، فما أكمل الشريعة، وأشملها، وأقومها، وأعدلها، وأوفاها:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابُ بَيَانِ الأَمْرِ بِالابْتِدَاءِ في النَّفَقَةِ بِالنَّفْسِ، ثُمَّ بِالأَهْلِ، ثُمَّ الأقَارِبِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2313]

(997) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ألَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟ "، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ:"مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ "، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيُّ، بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"ابْدَأ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَليْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا"، يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ").

ص: 255

رجال هذا الإسناد:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بن سعيد الثقفي البغلاني، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُحَمَّدُ بْن رُمْحٍ) التجيبيّ المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) الإمام الحجة الثبت المشهور المصري [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرُس المكي، صدوق، يدلس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "لإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهوأعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو (146) من رباعيات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فتفرّد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ) وفي الرواية التالية من طريق أيوب، عن أبي الزبير:"أن رجلًا من الأنصار، يقال له: أبو مذكور أعتق غلامًا له"(مِنْ بَني عُذْرَةَ) -بضمّ العين المهملة، وسكون الذال المعجمة، بعدها راء- نسبة إلى عُذْرة، من قُضاعة، وهو عُذرة بن زيد اللات بن رُفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قُضاعة، وهي قبيلة معروفة

(1)

.

(1)

راجع: "الأنساب" للسمعانيّ 4/ 171 - 172.

ص: 256

(عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ) وفي الرواية التالية: "أعتق غلامًا له، يقال له: يعقوب"، زاد في الرواية الآتية في "كتاب الأيمان والنذور" من طريق عمرو بن دينار، عن جابر:"لم يكن له مالٌ غيره"، وفي رواية:"دبّر رجلٌ من الأنصار غلامًا له، لم يكن له مالٌ غيره، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراه ابن النحّام، عبدًا قبطيًّا، مات عامَ أوّلَ، في إمارة ابن الزبير".

[تنبيه]: "المدبّر": اسم مفعول، من دبّر الرجل عبده تدبيرًا: إذا أعتقه بعد موته، ويقال: أعتق عبده عن دُبُر: أي: بعد دُبُر؛ أي: في آخر أمره، وقال في "الفتح": المدبّر: هو الذي عَلّق مالكه عتقه بموته، سُمّي بذلك؛ لأن الموت دُبُر الحياة، أو لأن فاعله دَبّر أمر دنياه وآخرته، أما دنياه، فباستمراره على الانتفاع بخدمة عبده، وأما آخرته فبتحصيل ثواب العتق، وهو راجع إلى الأول؛ لأن تدبير الأمر مأخوذ من النظر في العاقبة، فيرجع إلى دبر الأمر، وهو آخره. انتهى

(1)

.

(فَبَلَغَ ذَلِكَ) أي: عتقه المذكور (رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم) منصوب على المفعوليّة (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للرجل ("أَلكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟ "، فَقَالَ: لا) أي: قال الرجل: ليس لي مالٌ غيره.

فيه دلالة على أنّ سبب بيعه كونه لا يملك شيئًا غيره، وأصرح من هذا رواية للبخاريّ، من طريق عطاء بن أبي رباح، عن جابر:"أنّ رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "من يشريه منّي

" الحديث. ففيها التصريح بأنّ سبب بيعه هو احتياجه إلى ثمنه، وقد جاءت رواية أخرى فيها بيان أن سببه هو الدَّين، فقد أخرج الإسماعيليّ، من طريق أبي بكر بن خلّاد، عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، وفيه: "أعتق غلامًا له، وعليه دين"، وقد جاءت رواية أخرى بيّنت السببين معًا، فقد أخرج النسائيّ من طريق الأعمش، عن سلمة بن كهيل، بلفظ: "أنّ رجلًا من الأنصار أعتق غلامًا له عن دبر، وكان محتاجًا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم، فأعطاه، وقال: اقض دينك".

(1)

"الفتح" 5/ 172 - 173.

ص: 257

والحاصل أنّ سبب بيعه كونه فقيرًا محتاجًا إليه، حيث لا مال له سواه، وتحمّله الدين، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي"؟) فيه جواز بيع المدبّر، وفيه خلاف بين أهل العلم، والراجح جوازه مطلقًا، وهو قول الشافعيّ، وأهل الحديث.

ومنهم من منع مطلقًا، وهو قول مالك، والأوزاعيّ، والكوفيين.

ومنهم من أجازه للحاجة، وهو قول الليث بن سعد.

وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": من لا يرى بيع المدبّر، منهم من يَحْمِله على أنه كان مدبّرًا مقيّدًا بمرضٍ، أو بمدّة، كعلمائنا -يعني: الحنفيّة- ومنهم من يَحْمِله على أنه دبّره، وهو مديون، كأصحاب مالك، والأول بعيدٌ، والثاني يردّه آخر الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله السنديّ رحمه الله إنصاف منه حيث رذ على أهل مذهبه، وغيرهم؛ لمخالفتهم الحديث، فيا ليت أصحاب المذاهب المتأخّرين كلهم كانوا هكذا، وانقادوا للنصّ إذا اتّضح لهم الحقّ، ولا يعاندوا، ولا يتعصّبوا لمذهبهم، ولا يتعلّلوا بتعليلات باردة في إعراضهم عن النص بالتأويل البعيد، اللهمّ أرنا الحقّ حقّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك أرحم الراحمين.

(فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْعَدَوِيُّ) هو نُعيم بن عبد الله بن أُسيد بن عبد عوف بن عبيد بن عُويج بن عديّ بن كعب القرشيّ العدويّ، المعروف بـ "النحّام"، قيل له ذلك؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"دخلت الجنة، فسمعت نَحْمة من نُعيم"، وأخرج ابن قتيبة في "الغريب" من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: خرجنا في سريّة زيد بن حارثة التي أصاب فيها بني فَزَارةَ، فأتينا القوم خلوفًا، فقاتل نعيم بن النحّام العدويّ يومئذ قتالًا شديدًا.

و"النحْمَةُ" هي السَّعْلَة التي تكون في آخر النَّحْنَحَة الممدود آخرها.

وقال خليفة: أمّه فاختة بنت حرب بن عبد شمس، وهي عدويّة أيضًا، من رهط عمر، وقال البخاريّ: له صحبة.

(1)

راجع: "شرح السندي" 5/ 70.

ص: 258

وقال مصعبٌ الزبيريّ: كان إسلامه قبل عمر، ولكنّه لم يُهاجر إلا قبيل فتح مكّة، وذلك لأنه كان يُنفق على أرامل بني عديّ، وأيتامهم، فلما أراد أن يهاجر، قال له قومه: أقم ودِنْ بايّ دِين شئت، وكان بيت بني عديّ بيته في الجاهليّة، حتى تحوّل في الإسلام لعمر في بني رَزَاح.

وقال الزبير: ذكروا أنه لما قدم المدينة قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا نُعيم، قومك كانوا خيرًا لك من قومي"، قال: بل قومك خير يا رسول الله، قال:"إن قومي أخرجوني، وإن قومك أقرّوك"، فقال نعيم: يا رسول الله، إن قومك أخرجوك إلى الهجرة، وإن قومي حبسوني عنها.

وقال الواقديّ: حدّثني يعقوب بن عمرو، عن نافع العدويّ، عن أبي بكر بن أبي الجهم، قال: أسلم نعيم بعد عشرة، وكان يكتم إسلامه، وقال ابن أبي خيثمة: أسلم بعد ثمانية وثلاثين إنسانًا، وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهريّ، أنّ نعيماً استُشْهِد بأَجْنَادِين، في خلافة عمر، وكذا قال ابن إسحاق، ومصعبٌ الزبيريّ، وأبو الأسود، وعروة، وسيفٌ في "الفتوح"، وأبو سليمان بن زَبْر، قال الواقديّ: وكانت أجنادينُ قبل اليرموك، سنة خمس عشرة، وقال ابن الْبَرْقيّ: يقول بعض أهل النسب: إنه قتل يوم مؤتة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا قال ابن الكلبيّ.

وأما ما ذكره عمر بن شبّة في "أخبار المدينة" عن أبي عبيد المدنيّ، قال: ابتاع مروان من النحّام داره بثلاثمائة درهم، فأدخلها في داره، فهو محمولٌ على أن المراد به إبراهيم بن نعيم المذكور، فإنه يقال له أيضًا: النحّام. ذكر هذا كلّه في "الإصابة"

(1)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو ما تقدّم: ثم هاجر عام الحديبية، ومعه أربعون من أهل بيته، واستُشهد في فتوح الشام، زمنَ أبي بكر، أو عمر، وروى الحارث في "مسنده" بإسناد حسن: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سماه صالحًا، وكان اسمه الذي يعرف به نُعيمًا.

وكان يُعرف بـ "النحام " بالنون والحاء المهملة الثقيلة، عند الجمهور،

(1)

راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 10/ 174 - 176.

ص: 259

وضبطه ابن الكلبي بضم الثون، وتخفيف الحاء، ومنعه الصغاني، وهو لقب نُعيم، وظاهر الرواية أنه لقب أبيه، قال النووي: وهو غلط؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت فيها نَحْمَةً من نعيم". انتهى. وكذا قال ابن العربي، وعياض، وغير واحد.

قال الحافظ رحمه الله: لكن الحديث المذكور من رواية الواقدي، وهو ضعيف، ولا تُرَدُّ الروايات الصحيحة بمثل هذا، فلعل أباه أيضًا، كان يقال له: النّحّام، و"النَّحْمَة" -بفتح النون، وإسكان المهملة-: الصوت، وقيل: السَّعْلَة، وقيل: النحنحة. انتهى

(1)

.

(بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ) قال في "الفتح": اتفقت الطُّرُق على أنّ ثمنه ثمانمائة درهم، إلا ما أخرجه أبو داود من طريق هشيم، عن إسماعيل، قال:"سبعمائة، أو تسعمائة". انتهى. (فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: أتى نعيم بن عبد الله بتلك الدراهم (فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ) أي: دفع النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الدراهم إلى الرجل المعتق، زاد في رواية الأوزاعيّ، عن عطاء بن أبي رباح، عند أبي داود في آخره:"أنت أحقّ بثمنه، والله أغنى عنه".

[تنبيه]: قال في "الفتح" ما حاصله: اتفقت الروايات على أن بيع ذلك المدبر كان في حياة الذي دبره، إلا ما رواه شريك، عن سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن جابر:"أن رجلًا مات، وترك مدبراً، ودينًا، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فباعه في دينه بثمانمائة درهم"، أخرجه الدارقطني، ونقل عن شيخه أبي بكر النيسابوري، أن شريكاً أخطأ فيه، والصحيح ما رواه الأعمش وغيره، عن سلمة، وفيه:"ودفع ثمنه إليه"، وفي رواية النسائي من وجه آخر، عن إسماعيل بن أبي خالد:"ودفع ثمنه إلى مولاه"، وقد رواه أحمد، عن أسود بن عامر، عن شريك بلفظ:"أن رجلًا دبر عبدًا له، وعليه دين، فباعه النبيّ صلى الله عليه وسلم في دين مولاه"، وهذا شبيه برواية الأعمش، وليس فيه للموت ذكر، وشريك كان تغير حفظه، لَمّا ولي القضاء، وسماع من حمله عنه قبل ذلك أصح،

(1)

"الفتح" 5/ 471.

ص: 260

ومنهم أسود المذكور. انتهى

(1)

.

وقال أيضًا في "كتاب العتق""باب بيع المدبّر" ما حاصله: وقد اتفقت طرق رواية عمرو بن دينار، عن جابر أيضًا على أن البيع وقع في حياة السيد، إلا ما أخرجه الترمذيّ، من طريق ابن عيينة عنه، بلفظ:"أن رجلًا من الأنصار دَبّر غلامًا له، فمات، ولم يترك مالًا غيره" الحديث، وقد أعلّه الشافعي بأنه سمعه من ابن عيينة مرارًا، لم يذكر قوله:"فمات"، وكذلك رواه الأئمة: أحمد، وإسحاق، وابن المدينيّ، والحميديّ، وابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، ووَجَّهَ البيهقي الرواية المذكورة، بأن أصلها: أن رجلًا من الأنصار، أعتق مملوكه، إن حدث به حادث فمات، فدعا به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فباعه من نعيم، كذلك رواه مَطَرٌ الوراق، عن عمرو، قال البيهقي: فقوله: "فمات" من بقية الشرط: أي: فمات من ذلك الحدث، وليس إخبارًا عن أن المدبر مات، فحذف من رواية ابن عيينة قوله:"إن حدث به حدث"، فوقع الغلط بسبب ذلك، والله أعلم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم للرجل ("ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا) وفي رواية: "إذا كان أحدكم فقيرًا، فليبدأ بنفسه"(فَإِنْ فَضَلَ شَيءٌ فَلِأَهْلِكَ) أي: فهو لأهلك، فتنفقه عليهم، وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه":"ابدأ بنفسك، فتصدّق عليها، ثمّ على أبويك، ثمّ على قرابتك، ثمّ هكذا، ثمّ هكذا"(فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ) أي: لأقربائك الذين ليسوا من أهلك (فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا) أي: تتصدّق به في وجوه الخير، كما بيّن المشار إليه بقوله (يَقُولُ) أي: يشير صلى الله عليه وسلم، وفيه إطلاق القول على الإشارة، (فَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَعَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ)، وهذا التفسير من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 5/ 173 - 174 "باب بيع المدبّر" من "كتاب البيوع" رقم 2230.

(2)

"الفتح" 5/ 472 "باب بيع المدبّر" من "كتاب العتق" رقم 2534.

ص: 261

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثائية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 2313 و 2314](997)، وفي (الأيمان والنذور" (3155)، و (البخاريّ) في "البيوع"(1997)، و (أبو داود) في "العتق"(3445 و 3446)، و (الترمذيّ) في "البيوع"(1140)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2546)، و" الكبرى"(2326)، و"البيوع"(4652 و 4653)، و"الكبرى"(6248 و 6249 و 6250)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2504)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(16664)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1748)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 68)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 301 و 305 و 369)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2445 و 2452)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3339)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 80)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 309)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن أفضل الصدقة الصدقة على النفس، ثم الأهل، ثم الأقرباء.

2 -

(ومنها): بيان مشروعيّة تدبير المملوك، قال القرطبيّ وغيره: اتَّفَقُوا على مشروعية التدبير، واتفقوا على أنه من الثلث، غير الليث، وزفر، فإنهما قالا: من رأس المال، واختلفوا هل هو عقد جائز، أو لازم؟ فمن قال: لازم منع التصرف فيه، إلا بالعتق، ومن قال: جائز أجاز، وبالأول قال مالك، والأوزاعي، والكوفيون، وبالثاني قال الشافعي، وأهل الحديث، وحجتهم حديث الباب، ولأنه تعليق للعتق بصفة، انفرد السيد بها، فيتمكن من بيعه، كمن عَلَّق عتقه بدخول الدار مثلًا، ولأن من أوصى بعتق شخص، جاز له بيعه باتفاق، فيلحق به جواز بيع المدبر؛ لأنه في معنى الوصية، وقيد الليث الجواز بالحاجة، وإلا فيكره، وأجاب الأول بأنها قضية عين، لا عموم لها، فيُحْمَل على بعض الصور، وهو اختصاص الجواز بما إذا كان عليه دين، وهو مشهور

ص: 262

مذهب أحمد، والخلاف في مذهب مالك أيضًا، وأجاب بعض المالكية عن الحديث، بأنه صلى الله عليه وسلم، رَدَّ تصرف هذا الرجل؛ لكونه لم يكن له مال غيره، فيُسْتَدَلّ به على ردّ تصرف من تصدق بجميع ماله، وادَّعَى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم؛ إنما باع خدمة المدبر، لا رقبته، واحتَجَّ بما رواه ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا بأس ببيع خدمة المدبر"، أخرجه الدارقطني، ورجال إسناده ثقات، إلا أنه اختُلف في وصله وإرساله، ولو صحّ لم يكن فيه حجة؛ إذ لا دليل فيه على أن البيع الذي وقع في قصة المدبر، الذي اشتراه نعيم بن النحّام، كان في منفعته، دون رقبته، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي قول من قال بجواز بيع المدبّر للحاجة، كما هو ظاهر حديث الباب، وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائي" في "كتاب البيوع"، فراجعه تستفد

(2)

، وبالله تعالى التوفيق.

3 -

(ومنها): بيان أنّ الحقوق إذا تزاحمت قُدّم الأوكد، فالأوكد.

4 -

(ومنها): أن الأفضل في صدقة التطوّع أن ينوّعها في جهات الخير، ووجوه البرّ، بحسب المصلحة، ولا ينحصر في جهة بعينها.

5 -

(ومنها): بيان أن الدَّين مقدّم على التبرّع بالتدبير.

6 -

(ومنها): أن للإمام أن يبيع أموال الناس بسبب ديونهم.

7 -

(ومنها): بيان أنه يُحْجَر على السفيه، وُيردّ عليه تصرّفه، وقد اختَلَف العلماء في ذلك، وسيأتي البحث فيه مستوفى في "كتاب البيوع" عند شرح حديث الرجل الذي كان يُخدَع في البيوع رقم (1533) -إن شاء الله تعالى-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 174 - 175.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" في "كتاب البيوع""باب بيع المدبر" رقم (84/ 4654).

ص: 263

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2314]

(

) - (وَحَدَّثَنِي

(1)

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الذَوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ، عَنْ أيُوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأنصَارِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو مَذْكُورٍ، أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، يُقَالُ لَهُ: يَعْقُوبُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْثِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنَ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أَيُوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبث فقيه عابدٌ حجة [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية أيوب، عن أبي الزبير هذه ساقها النسائيّ في "سننه"، فقال:

(4653)

- أخبرنا زياد بن أيوب، قال: حدّثنا إسماعيل، قال: حدثنا أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رجلًا من الأنصار يقال له: أبو مذكور، أعتق غلامًا له عن دبر، يقال له: يعقوب، لم يكن له مالٌ غيره، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"من يشتريه؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمان مائة درهم، فدفعها إليه، وقال:"إذا كان أحدكم فقيرأ فليبدأ بنفسه، فإن كان فضلًا فعلى عياله، فإن كان فضلًا فعلى قرابته، أو على ذي رحمه، فإن كان فضلًا فها هنا وها هنا". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 264

(14) - (بَابُ الْحَضِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ، وَالأَقرَبِينَ، وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ مُسْلِمينَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2315]

(998) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أنهُ سَمِعَ أنسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكثَرَ أنصَارِيّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَى، وَكَانَتْ مُسْتَقبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا، وَيشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِن اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالي إِلَي بَيْرَحَى، وَإِنَّهَا صَدَقَة للهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ الله حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الْأَقرَبِينَ"، فَقَسَمَهَا أَبُو طلحَةَ فِي أقَارِبِهِ، وَبَنى عَمِّهِ).

رجال الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 9/ 3.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الإمام الحجة الثبت الشهير، إمام دار الهجرة [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجّة [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

4 -

(أنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجي، الخادم الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

ص: 265

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنف رحمه الله، وهو (147) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن عمّه، فإن أنسًا عمّ لإسحاق.

5 -

(ومئها): أن أنسًا رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، ثم نال دعوته المباركة، فطال عمره، وكثر ماله، وأولاده بسببها، وأنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وعمره جاوز المائة، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أنَّهُ سَمِعَ أنسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: كَمانَ أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حَرَام الأنصاريّ النجّاريّ الصحابيّ المشهور، من كبار الصحابة، شَهِدَ بدرًا وما بعدها، مات رضي الله عنه سنة (34)، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720. (أَكثَرَ أَنْصَارِيٍّ) أي: أكثر كلِّ واحد من الأنصار، والإضافة إلى المفرد النكرة عند إرادة التفضيل سائغ، قاله في "الفتح"

(1)

، وفي رواية البخاريّ:"أكثر الأنصار"(بِالْمَدِينَةِ مَالًا) نُصب على التمييز؛ أي: من حيث المال (وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَى) اختلفوا في ضبط هذه اللفظة على أوجه، قال القاضي عياض رحمه الله: رَوَينا هذه اللفظة عن شيوخنا بفتح الراء وضمها، مع كسر الباء، وبفتح الباء والراء، قال الباجيّ رحمه الله: قرأت هذه اللفظة على أبي ذرّ: "الْبَيْرَحَى" بفتح الراء على كل حال، قال: وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق، وقال لي

(1)

"الفتح" 5/ 379.

ص: 266

الصُّوريّ: هي بالفتح، واتفقا على أن من رفع الراء، وألزمها حكم الإعراب فقد أخطأ، قال: وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس، وهذا الموضع يُعْرَف بقصر بني جَدِيلة قبليّ المسجد، وذكر مسلم رواية حماد بن سلمة هذا الحرف "بَرِيحَاء" بفتح الباء وكسر الراء، وكذا سمعناه من أبي بحر، عن العذريّ، والسمرقنديّ، وكان عند ابن سعيد، عن البحريّ، من رواية حماد "بِيرَحاء" بكسر الباء وفتح الراء، وضبطه الْحُمَيديّ من رواية حماد "بَيْرَحَاء" بفتح الباء والراء، ووقع في كتاب أبي داود:"جَعَلتُ أرضي بَارِيحَا لله"، وأكثر رواياتهم في هذا الحرف بالقصر، ورويناه عن بعض شيوخنا بالوجهين، وبالمد، وجدته بخط الأصيليّ، وهو حائط يُسَمَّى بهذا الاسم، وليس اسم بئر، والحديث يدل عليه. انتهى آخر كلام القاضي رحمه الله.

وقال في "الفتح": اختَلَفُوا في ضبطه على أوجه، جمعها ابن الأثير في "النهاية"، فقال: يُرْوَى بفتح الباء الموحدة وبكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمد والقصر، فهذه ثمان لغات، وفي رواية حماد بن سلمة "بَرِيحا" بفتح أوله وكسر الراء، وتقديمها على الياء آخر الحروف، وفي "سنن أبي داود":"باريحا" مثله، لكن بزيادة ألف.

وقال الباجيّ: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء، وفتح الراء مقصورًا، وكذا جزم به الصغانيّ، وقال إنه فَيْعَلَى من البراح، قال: ومن ذكره بكسر الباء الموحدة، وظن أنها بئر من آبار المدينة، فقد صَحَّف. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: رُويت هذه اللفظة بكسر الباء الموحّدة، وبفتح الراء وضمّها، وبمدّها وقصرها، فالنصب على أنه خبر "كان"، وحينئذ يُرفع "أحبُّ " على أنه اسمها، ورفعُ "بيرحى" على أنه اسم "كان"، وحينئذ يُنصب "أحبَّ" على أنه خبرها، فأما مدّ "حاء" وقصرها فلغتان، وهو حائط نخلٍ سُمّي بهذا الاسم، بموضع يُعرف بقصر بني جديلة، وليس ببئر، ولذلك قال الباجيّ: قرأت هذه اللفظة على أبي ذرّ الهرويّ بنصب الراء على كلّ حال، وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق، وقال لي الصوري: بيرحاء بنصب الراء،

(1)

"الفتح" 4/ 301 - 302.

ص: 267

قال: وبالرفع قرأناه على شيوخنا الأندلسيين، وقد رَوَى هذا الحرف في مسلم حمّاد بن سلمة بَرِيحا بكسر الراء وفتح الباء. انتهى

(1)

.

(وَكَانَتْ) أي: بيرحى (مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ) أي: في مقابلته، وقال النوويّ: وهذا الموضع يُعْرَف بقصر بني جَدِيلة بفتح الجيم وكسر الدال المهملة، قبليّ المسجد، وفي "التلويح": هو موضع بقرب المسجد يُعْرَف بقصر بني حُدَيلة وضبطها بالكتابة بضم الحاء المهملة، وفتح الدال، قال في "العمدة": الصواب بالجيم. انتهى

(2)

.

(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا) أي: بيرحى (وَيشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا) أي: في بيرحى (طَيِّب) بالجرّ صفة و"ماءٍ"(قَالَ أنسٌ) رضي الله عنه (فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال ابن عباس رضي الله عنها في رواية أبي صالح: لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة؛ أي: بعفما تحبون من الأموال، وقال الضحاك: يعني: لن تدخلوا الجنة حتى تنفقوا مما تحبون؛ يعني: تخرجون زكاة أموالكم طَيِّبةً بها أنفسكم، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية منسوخة نسختها آية الزكاة، وقوله:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 92] يعني: الصدقة وصلة الرحم {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92] أي: ما يخفى عليه، فَيُثيبكم عليه

(3)

.

(قَامَ أَبُو طَلْحَةَ) رضي الله عنه (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بحال محذوف؛ أي: قام حال كونه منتهيًا إليه صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة للمذهب الصحيح، وقولِ الجمهور: إنه يجوز أن يقال: إن الله تعالى يقول، كما يقال: إن الله قال، وقال مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير التابعيّ، لا يقال: الله يقول، وإنما يقال: قال الله، أو الله قال، ولا يُسْتَعْمَل مضارعًا، وهذا غلطٌ، والصواب جوازه، وقد قال الله تعالى:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة باستعمال ذلك، وقد أشرت إلى طرف منها في "كتاب الأذكار"، وكأن مَن كَرِهه ظَنَّ أنه

(1)

"المفهم" 3/ 41.

(2)

"عمدة القاري" 9/ 42.

(3)

راجع: "عمدة القاري" 9/ 42.

ص: 268

يقتضي استئناف القول، وقول الله تعالى قديم، وهذا ظَنّ عجيبٌ، فإن المعنى مفهومٌ، ولا لبس فيه، وفي هذا الحديث استحباب الإنفاق مما يُحَبّ، ومشاورة أهل العلم والفضل في كيفية الصدقات، ووجوه الطاعات وغيرها. انتهى

(1)

.

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَى، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ، أَرْجُو بِرَّهَا) أي: خيرها، والْبِرّ -بالكسر-: اسم جامعٌ لأنواع الخيرات والطاعات، ويقال: أرجو ثواب برّها (وَذُخْرَهَا) أي: أُقدّمها، فأدّخرها (عِنْدَ اللهِ) عز وجل؛ لأجدها عنده (فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَخْ) قال في "القاموس": "بَخْ" كقَدْ: أي: عَظُمَ الأمرُ، وفَخُمَ، تقال وحدها، وتُكرّر بَخٍ بَخْ الأول منوّنٌ، والثاني مُسكّنٌ، وقل في الإفراد: بَخْ ساكنةً، وبَخِ مكسورةً، وبني منوّنةً، وبخٌ منوّنة مضمومة، ويقال: بَخْ بَخْ مُسكّنين، وبَني بَخٍ منوّنين، وبخِّ بخِّ مشدّدين: كلمة تقال عند الرضا والإعجاب بالشيء، أو الفخر والمدح. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: "بخ" هذه كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء، وممَرَّر للمبالغة، فإن وُصِلَتْ خُفِّفَتْ، ونُوِّنتْ، وربما شُدِّدت كالاسم، ويقال بإسكان الخاء وتنوينها مكسورةً، وقال القاضي: حُكِي بالكسر بلا تنوين، ورُوي بالرفع، فإذا كُرّرت فالاختيار تحريك الأول منونًا، وإسكان الثاني، وقال ابن دُريد: معناه تعظيم الأمر، وتفخيمه، وسُكّنت الخاء فيه كسكون اللام في "هل"، و"بل"، ومن نوّنه شبّهه بالأصوات، كـ "صَهْ"، و"مَهْ"، وفي "الواعي": قال الأحمر: في "بخ" أربع لغات: الجزم، والخفض، والتشديد، والتخفيف، وقال ابن بطال: هي كلمةُ إعجاب، وقال ابن التين: هي كلمة تقولها العرب عند المدح والْمَحْمَدَة، وقال القزاز: هي كلمة يقولها المفتخر عند ذكر الشيء العظيم، وكلها متقاربة في المعنى. انتهى

(3)

.

(ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ) بالباء الموحدة؛ أي: يربح فيه صاحبه

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 84 - 85.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 256.

(3)

"عمدة القاري" 9/ 42 - 43.

ص: 269

في الآخرة، ومعناه ذو ربح كلابِني، وتامِرٍ؛ أي: ذو لبن وذو تمر، كما قال النابغة:

كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبٍ

وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَواكِبِ

(1)

وقال ابن قرقول؛ وروي بالياءً المثناة من تحتُ من الرواح؛ يعني: يروح عليه أجره.

وقال ابن بطال: والمعنى أن مسافته قريبة، وذلك أنفس الأموال، وقيل: معناه يروح بالأجر ويغدو به، واكتفى بالرواح عن الغدوّ؛ لعلم السامع، ويقال: معناه أنه مال رائح؛ يعني: من شأنه الرواح؛ أي: الذهاب والفوات، فإذا ذهب في الخير فهو أولى.

وقال القاضي: وهي رواية يحيى بن يحيى وجماعة، ورواية أبي مصعب وغيره بالباء الموحدة.

وقال ابن قرقول: بل الذي رويناه ليحيى بالباء المفردة، وهو ما في مسلم.

وفي "التلويح": يحيى الذي أشار إليه ابن قرقول يحيى الليثيّ المغربيّ، ويحيى الذي في البخاريّ هو النيسابوريّ.

وقال أبو العباس الواني في كتابه "أطراف الموطأ": في رواية يحيى الأندلسيّ بالباء الموحدة، قال: وتابعه روح بن عبادة وغيره، وقال يحيى بن يحيى النيسابوريّ، وإسماعيل، وابن وهب، وغيرهم:"رائح" بالهمزة، من الروح، وشكّ القعنبيّ فيه، وقال الإسماعيليّ: من قال: "رابح" بالباء فقد صَحَّف. انتهى

(2)

.

(قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا) قال في "العمدة": بَوَّب عليه البخاريّ في "الوكالة": "بابٌ إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله، وقال الوكيل: قد سمعت"، وقال المهلَّب: دل على قبوله صلى الله عليه وسلم ما جَعَل إليه أبو طلحة، ثم رَدَّ الوضع فيها إلى أبي طلحة بعد مشورته عليه فيمن يضعها. انتهى.

(وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأقرَبِينَ"، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ) رضي الله عنه (فِي أقَارِبِهِ)

(1)

راجع: "المفهم" 3/ 42.

(2)

"عمدة القاري" 9/ 43.

ص: 270

"الأقارب" جمع الأقرب، وقالت الفقهاء: أَبُو قال: وقفت على قرابتي يتناول الواحد، ويقال: هم قرابتي، وهو قرابتي، وفي "الفصيح": ذو قرابتي للواحد، وذو قرابتي للاثنين، وذو قرابتي للجمع، والقرابة والْقُرْبَى في الرحم، وفي "الصحاح": والقرابةُ: القربى في الرحم، وهو في الأصل مصدرٌ، تقول: بيني وبينه قرابةٌ، وقُرْبٌ، وقُرْبَى، ومَقْربة، ومقربة، وقُرْبة، وقُرُبة، بضم الراء، وهو قربى، وذو قرابتي، وهم أقربائي، وأقاربي، والعامة تقول: هو قرابتي، وهم قراباتي. انتهى.

وقوله: (وَبَنِي عَمِّهِ) من عطف الخاصّ على العامّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2315 و 2316، (998)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1461)، و"الوكالة"(2318)، و"الوصايا"(2752 و 2769)، و"التفسير"(4554)، و"الأشربة"(5611)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2997)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(11066)، و (مالك) في "الموطّا"(2/ 995)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 141 و 256)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 390)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2455)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3340)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 81)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 692)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 164 - 165)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1683)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب؛ إذا كانوا محتاجين.

2 -

(ومنها): بيان أن القرابة يُرْعَى حقّها في صلة الأرحام، وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في

ص: 271

الأقربين، فجعلها في أُبَيّ بن كعب، وحسان بن ثابت، وإنما يجتمعان معه في الجدّ السابع.

3 -

(ومنها): أن منقطع الآخر في الوقف يُصْرَف لأقرب الناس إلى الواقف.

4 -

(ومنها): بيان أن الوقف لا يَحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه.

5 -

(ومنها): أن بعض المالكيّة استَدَلَّ به على صحة الصدقة المطلقة، وهي التي لم يُعَيّن مصرفها، ثم يُعَيِّنها المتصدق لمن يريد.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به للجمهور في أن من أوصى أن يُفَرَّق ثلث ماله حيث أرى الله الوصيَّ صحّت وصيته، ويُفَرِّقه الوصيّ في سبل الخير، ولا يأكل منه شيئًا، ولا يعطي منه وارثًا للميت، وخالف في ذلك أبو ثور، وفاقًا للحنفية في الأول دون الثاني.

7 -

(ومنها): جواز التصدق من الحيّ في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَستفصِل أبا طلحة عن قدر ما تَصَدَّق به، وقال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:"الثلثُ كثير".

8 -

(ومنها): تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم.

9 -

(ومنها): جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم، ولا نقص عليه في ذلك، وقد أخبر تعالى عن الإنسان {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]، والخير هنا المال اتفاقًا.

10 -

(ومنها): جواز اتخاذ الحوائط والبساتين، ودخول أهل الفضل والعلم فيها، والاستظلال بظلها، والأكل من ثمرها، والراحة والتنزه فيها، وقد يكون ذلك مستحبّأ يَترتب عليه الأجر إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة، وتنشيطها للطاعة.

11 -

(ومنها): جواز كسب العقار، وإباحة الشرب من دار الصَّدِيق، ولو لم يكن حاضرًا إذا علم طيب نفسه.

12 -

(ومنها): إباحة استعذاب الماء، وتفضيل بعضه على بعض.

13 -

(ومنها): التمسك بالعموم؛ لأن أبا طلحة فَهِمَ من قوله تعالى: {لَنْ

ص: 272

تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] تناوُلَ ذلك جميع أفراده، فلم يَقِف حتى يَرِدَ عليه البيان عن شيء بعينه، بل بادر إلى إنقاق ما يحبه، وأقره النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.

14 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به لما ذَهَب إليه مالك من أن الصدقة تصحّ بالقول من قَبْل القبض، فإن كانت لمعيّن استَحَقَّ المطالبة بقبضها، وإن كانت لجهة عامّة خرجت عن ملك القائل، وكان للإمام صرفه في سبيل الصدقة، وكل هذا ما إذا لم يظهر مراد المتصدِّق، فإن ظهر اتُّبع.

15 -

(ومنها): جواز تولي المتصدِّق قَسْمَ صدقته.

16 -

(ومنها): جواز أخذ الغني من صدقة التطوع؛ إذا حصل له بغير مسألة.

17 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على مشروعية الحبس والوقف خلافًا لمن منع ذلك، وأبطله، قيل: ولا حجة فيه؛ لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة تمليكًا، كما هو ظاهر سياق بعض الروايات، فقد روي أن حسّان باع نصيبه من معاوية رضي الله عنهما بمائة ألف درهم، فقيل له: أتبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعًا من تمر بصاع من دراهم؟.

18 -

(ومنها): جواز زيادة الصدقة في التطوع على قدر نصاب الزكاة، خلافاً لمن قيّدها به.

19 -

(ومنها): بيان فضيلة لأبي طلحة رضي الله عنه؛ لأن الآية تضمنت الحثّ على الإنفاق من المحبوب، فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب، فصوَّب النبيّ صلى الله عليه وسلم رأيه، وشكر فعله، ثم أمره أن يَخُصّ بها أهله، وكَنَى عن رضاه بذلك بقوله:"بخ".

20 -

(ومنها): بيان أن الوقف يَتِمّ بقول الواقف: جعلتُ هذا وقفًا.

21 -

(ومنها): صحّة الوكالة؛ لقوله: "ضعه حيث شئت".

22 -

(ومنها): إطلاق لفظ الصدقة بمعنى الوقف.

23 -

(ومنها): أن الصدقة على الجهة العامة لا تحتاج إلى قبولِ مُعَيَّن، بل للإمام قبولها منه، ووضعها فيما يراه، كما في قصة أبي طلحة رضي الله عنه.

24 -

(ومنها): أنه لا يعتبر في القرابة مَن يجمعه والواقفَ أبٌ معينٌ، لا

ص: 273

رابع ولا غيره؛ لأن أُبَيًّا إنما يجتمع مع أبي طلحة في الأب السابع.

25 -

(ومنها): أنه لا يجب تقديم القريب على القريب الأبعد؛ لأن حسانًا وأخاه أقرب إلى أبي طلحة من أُبَيّ ونُبَيط، ومع ذلك فقد أشرك معهما أُبيًّا ونبيط بن جابر.

26 -

(ومنها): أنه لا يجب الاستيعاب؛ لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيرًا فضلًا عن عمرو بن مالك الذي يَجمع أبا طلحة وأُبَيًّا

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2316]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِثٌ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَرَى رَبَّنَا يَسْأَلنَا مِنْ أَمْوَالِنَا، فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بَرِيحَا للهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ"، قَالَ: فَجَعَلَهَا فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ، ربما وَهِمَ [10](ت 235)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد العمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد، أثبت الناس في ثابتٌ، وتغيّر بآخرة، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 11 - 12 "كتاب الوصايا" رقم (2769).

ص: 274

و"أنسٌ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: ({تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}) قال الحسن: لن تكونوا أبرارًا حتى تبذُلوا كبير أموالكم، وقال أبو بكر الورّاق: لن تنالوا بِرّي بكم حتى تبَرُّوا إخوانكم، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: هو الجنّة، وقال مجاهد: ثواب البرّ

(1)

.

وقوله: (قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بَرِيحَا للهِ) أي: جعلتها وقفًا لله تعالى، "وبَرِيحَا" في هذه الرواية بفتح الموحّدة، وكسر الراء، وتقديمها على الياء التحتانيّة الساكنة، ثم حاء مهملة، وظاهر النسخ التي بين يديّ أنها مقصورة، وظاهر ما في "الفتح" أنها ممدودة، حيث قال بعد نحو ما مرّ من ضبطها: ورَخح هذا صاحب "الفائق"، وقال: هي وزن فعلاء، من البراح، وهي الأرض الظاهرة المنكشفة. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَجَعَلَهَا فِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ) وتقدّم في الرواية السابقة: "فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمّه"، وفي رواية للبخاريّ: قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة

إلخ.

فقوله: "أَفْعَلُ " بضم اللام على أنه قول أبي طلحة، وقوله:"فقسمها أبو طلحة" فيه تعيين أحد الاحتمالين في رواية غيره حيث وقع فيها "أفعل فقسمها"، فإنه احتمل الأول، واحتمل أن يكون "افْعَلْ" صيغة أمر، وفاعلُ قسمها النبي صلى الله عليه وسلم، وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية، وذكر ابن عبد البرّ أن إسماعيل القاضي رواه عن القعنبيّ، عن مالك، فقال في روايته:"فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه"؛ أي: أقارب أبي طلحة، قال ابن عبد البرّ: إضافة القَسْم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان سائغًا شائعًا في لسان العرب على معنى أنه الآمَر به، لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك، والصواب رواية من قال:"فقسمها أبو طلحة". انتهى

(3)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المفهم " 3/ 41.

(2)

"الفتح" 7/ 9 "كتاب الوصايا" رقم (2769).

(3)

راجع: "الفتح" 7/ 10.

ص: 275

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2317]

(999) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كرَيْبٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، أنَهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ، كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيَليُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَمْرُو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(كُرَيْبُ) بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدِين المدنيّ، مولى ابن عبّاس، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

6 -

(مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ) الهلاليّة، أم المؤمنين رضي الله عنهما قيل: اسمها بَرّة، فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة، تزوّجها بسَرِفَ سنة سبع من الهجرة، وماتت بها سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ) رضي الله عنها (أنهَا أَعْتَقَتْ وَبيدَةً) أي: جاريةً، في

ص: 276

رواية النسائيّ من طريق عطاء بن يسار، عن ميمونة، أنها كانت لها جاريةٌ سوداءٌ، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم هذه الجارية، وبَيَّن النسائيّ من طريق أخرى، عن الهلالية زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي ميمونة، في أصل هذه الحادثة أنها كانت سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم خادمًا، فأعطاها خادمًا، فأعتقتها (فِي زَمَانِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ) وفي رواية البخاريّ: أَمَا أنك

(1)

، وأخوالها كانوا من بني هلال أيضًا، واسم أمها هند بنت عوف بن زُهير بن الحارث، ذكرها ابن سعد (كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ") قال النوويّ رحمه الله: وهكذا وقعت هذه اللفظة في "صحيح مسلم": "أخوالك" باللام، ووقعت في رواية غير الأصيليّ في البخاريّ، وفي رواية الأصيليّ:"أخواتك" بالتاء، قال القاضي: ولعله أصحّ بدليل رواية مالك في "الموطأ": "أعطيتها أُخْتَك".

وتعقّبه النوويّ، فقال: الجميع صحيحٌ، ولا تعارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك كله. انتهى. وهو تعقّب جيّدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ميمونة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2317](999)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2592 و 2594)، و (أبو داود) في "سننه"(1690)، و (النسائيّ) في "العتق" من "الكبرى"(4931)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 332)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2434)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3343)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 1067)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 82)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 179)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1678)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

قوله: "أَمَا" بتخفيف الميم، و"أَنّك" بفتح الهمزة.

ص: 277

1 -

(منها): الاعتناء بأقارب الأم؛ إكرامًا بحقها، وهو زيادة في برّها.

2 -

(ومنها): جواز تبرعّ المرأة بما لها بغير إذن زوجها.

3 -

(ومنها): بيان أن المرأة ليس عليها استئمار زوجها في التبرّع بمالها؛ إذا كانت رشيدة؛ لأن ميمونة رضي الله عنها أعتقت قبل أن تستأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يستدرك ذلك عليها، بل أرشدها إلى ما هو الأولى، فلو كان لا ينفُذُ لها تصرّف في مالها لأبطله.

4 -

(ومنها): بيان فضيلة صلة الأرحام، والإحسان إلى الأقارب، وأنه أفضل من العتق، قال في "الفتح": قال ابن بطال رحمه الله: فيه أن هبة ذي الرحم أفضل من العتق، ويؤئده ما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، وأحمد، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، من حديث سلمان بن عامر الضبيّ رضي الله عنه مرفوعًا:"الصدقة على المسكين صدقةٌ، وعلى ذي الرحم صدقة وصلةٌ"، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون هبة ذي الرحم أفضل مطلقًا؛ لاحتمال أن يكون المسكين محتاجًا، ونفعه بذلك متعذيًا، والآخر بالعكس، وقد وقع في رواية النسائيّ:"فقال: أفلا فَدَيتِ بها بنت أخيك من رِعاية الغنم"، فبَيَّن الوجه في الأولوية المذكورة، وهو احتياج قرابتها إلى مَن يخدُمها، وليس في الحديث أيضًا حجة على أن صلة الرحم أفضل من العتق؛ لأنها واقعة عين، والحقّ أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2318]

(1000) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زينَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُن"، قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ، فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُل خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، فَأْتِهِ، فَاسْأَلهُ

(1)

، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنَي، وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إِلَى

(1)

وفي نسخة: "فسله".

ص: 278

غَيْرِكُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنتِ، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الأنصَارِ بِبَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتِي حَاجَتُهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ألْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ، قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ، فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأتيْنِ بِالْبَابِ، تَسْأَلانِكَ أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَام في حُجُورِهِمَا؟، وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ بلَالٌ عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ هُمَا؟ "، فَقَالَ: امْرَأَةٌ مِنَ الْأنصَارِ، وَزينَبُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ "، قَالَ: امْرَأَةٌ عَبْدِ اللهِ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ) الْبَجَليّ، أبو عليّ الكوفيّ الْبُورَانيّ، ثقةٌ [10](ت 20 أو 221)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

2 -

(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ [7] 179) (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ ورعٌ، لكنّه يُدلس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سَلَمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

5 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن أبي ضِرَار -بكسر الضاد المعجمة- ابن حبيب بن عائذ بن مالك بن جُذَيمة -وهو المصطلق- ابن سعد بن كعب بن عمرو- وهو خزاعة- الخزايئ المصطلقيّ، أخو جويرية، أم المؤمنين رضي الله عنها، صحابيّ قليل الحديث.

روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه الحارث، وله صحبة، وعن ابن مسعود، وزينب امرأة ابن مسعود، وقيل: عن ابن أخيها، عنها.

ورَوَى عنه مولاه دينار، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وأبو إسحاق السبيعيّ، وأبو وائل، وزياد بن الجعد. قال ابن أبي داود: كان الحارث بن أبي ضِرَار، صهر عبد الله بن مسعود.

ص: 279

ورجّح ابن القظان أن عمرو بن الحارث الراوي عن زينب غير صاحب

الترجمة؛ لأن في كثير من الروايات: عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب،

وزينب ثقفيّة، فيكون ثقفيًّا، قال: اللَّهمّ إلا أن يكون ابن أخيها لأمّ، أو

للرضاعة، فالله أعلم.

روى له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

6 -

(زينَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ) هي: زينب بنت معاوية. وديل: بنت أبي معاوية. وقيل: بنت عبد الله بن معاوية بن عتّاب بن الأسعد بن غاضرة بن خُطَيط بن قسيّ - وهو ثقيف- وقيل: اسمها رائطة، تقدّمت في "الصلاة" 31/ 1001.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيّين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابي عن صحابية، وتابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ) بن أبي ضِرَار رضي الله عنه، قال في "الفتح": ووقع عند الترمذيّ عن هَنّاد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن الحارث بن المصْطَلِق، عن ابن أخي زينب، امرأة عبد الله، عن امرأة عبد الله، فزاد في الإسناد رجلًا، والموصوف بكونه ابن أخي زينب هو عمرو بن الحارث نفسه، وكأنّ أباه كان أخا زينب لأمها؛ لأنها ثقفيّة، وهو خزاعيّ.

ووقع عند الترمذىّ أيضًا، من طريق شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن عمرو بْن الحارث ابن أخي زينب امرأة عبد الله، عن زينب، فجعله عبد الله بن عمرو، هكذا جزم به المزّيّ، وعقد لعبد الله بن عمرو في "الأطراف" ترجمة لم يزد فيها على ما في هذا الحديث، قال الحافظ: ولم أقف على ذلك في الترمذيّ، بل وقفت على عدّة نسخ منه ليس فيها إلا عمرو بن الحارث.

ص: 280

وقد حَكَى ابن القطّان الخلافَ فيه على أبي معاوية، وشعبة، وخالف الترمذيَّ في ترجيح رواية شعبة في قوله:"عن عمرو بن الحارث، عن ابن أخي زينب"؛ لانفراد أبي معاوية بذلك، قال أبن القطّان: لا يضرّه الانفراد؛ لأنه حافظٌ، وقد وافقه حفص بن غياث في رواية عنه، وقد زاد في الإسناد رجلًا، لكن يلزم من ذلك أن يتوقّف في صحّة الإسناد؛ لأن ابن أخي زينب حينئذ لا يُعرف حاله.

وقد حَكَى الترمذيّ في "العلل" المفرد أنه سأل البخاريّ عنه، فحكم على رواية أبي معاوية بالْوَهَم، وأنّ الصواب رواية الجماعة، عن الأعمش، عن شقيق، عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب، قال الحافظ: ووافقه منصور، عن شقيق؛ أخرجه أحمد، فإن كان محفوظًا، فلعلّ أبا وائل حمله عن الأب، والابن، وإلا فالمحفوظ عن عمرو بن الحارث، وقد أخرجه النسائيّ، من طريق شعبة على الصواب، فقال:"عن عمرو بن الحارث". انتهى

(1)

.

(عَنْ زينَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ) هي زينب بنت معاوية، ويقال لها: رائطة -كما تقدّم- لكن قال في "تهذيب التهذيب"(4/ 675): فرّق أبو سعيد، وابن حبّان، والعسكريّ، وأبن منده، وأبو نُعيم، وغير واحد بين زينب، ورائطة امرأتي ابن مسعود. انتهى.

وقال في "الفتح": ويقال لها أيضًا: رائطة، وقع ذلك في "صحيح ابن حبّان" في نحو هذه القصّة، ويقال: هما اثنان عند الأكثرين، وممن جزم به ابن سعد، وقال الكلاباذيّ: رائطة هي المعروفة بزينب، وبهذا جزم الطحاويّ، فقال: رائطة هي زينب، لا يُعْلَم أن لعبد الله امرأة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها.

(قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ) وفي رواية حفص بن غياث، عن الأعمش التالية:"قالت: كنت في المسجد، فرآني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: تصدّقنَ، ولو من حليّكنّ"، وللنسائيّ في "عِشْرة النساء" من طريق أبي معاوية، عن الأعمش: "قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا

(1)

"الفتح" 4/ 305 - 306.

ص: 281

معشر النساء، تصدّقن، ولو من حُليّكنّ، فإن أكثركنّ أهلُ جهنّم يوم القيامة".

(وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُن") بضمّ الحاء المهملة، وكسر اللام، وتشديد الياء جمعاً، ويجوز فتح الحاء، وسكون اللام مفردًا.

(قَالَتْ) زينب (فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ) أي: ابن مسعود زوجِهَا رضي الله عنهما (فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ) كناية عن الفقر، وقلّة المال (وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، فَأَتِهِ، فَاسْأَلهُ) وفي نسخة:"فَسَلْهُ"(فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ) قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء تفصيل للمقدّر المسئول عنه؛ أي: اسأله هل يجزي عني أن أتصدّق عليك، وعلى أولادك أم لا؟، فإن كان يجزي عني صرفتها إليكم، وإن لم يجز صرفتها إلى غيركم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنِّي) جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما بعده: أي: صرفتها إليكم.

وقوله: "يَجْزي" بفتح حرف المضارعة: أي: يكفي، وكذا قولها بعدُ:"أتَجْزي الصدقةُ عنهما؟ " بفتح التاء، أفاده النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: جَزَى الأمرُ يَجْزي جزاءً، مثلُ قَضَى يَقْضي قَضَاءً وزنًا ومعنًى، وفي التنزيل:{يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الآية [البقرة: 48]، وفي الدعاء:"جزاه الله خيرًا"؛ أي: قضاه له، وأثابه عليه، وقد يُستَعْمل أجزأ بالألف والهمز بمعنى جَزَى، ونقلهما الأخفش بمعنى واحدٍ، فقال: الثلاثيّ من غير همز لغة الحجاز، والرباعيّ المهموز لغة تميم. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَإِلَّا) مركبّ من "إِن" الشرطيّة، و"لا" النافية؛ أي: وإن لم يَجْزِ عنّي (صَرَفْتُهَا) أي: الصدقة (إِلَى غَيْرِكُمْ) أي: إلى من يجوز لي صرفه له، والضمير لعبد الله بن مسعود، ولأيتام لها، كما يتبيّن مما سيأتي.

وفي رواية البخاريّ: "وكانت زينب تنفق على عبد الله، وأيتام في حجرها، فقالت لعبد الله: سَلْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أيجزئ عنّي أن أنفق عليك، وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

".

(1)

"الكاشف"4/ 1563.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 87.

(3)

"المصباح المنير"1/ 100.

ص: 282

وفي رواية النسائيّ: "أَيَسَعُنِي أَنْ أَضَعَ صَدَقَتِي فِيكَ، وَفِي بَنِي أَخٍ لِي، يَتَامَى؟ "، قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حَجْرها.

(قَالَتْ) زينب (فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ) قيل: سبب امتناع ابن مسعود رضي الله عنه عن السؤال ما بُيِّنَ بعد هذا في قولها: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أُلقيت عليه المهابة"، فكما أن زينب هابت أن تسأله فكذلك عبد الله هاب أن يسأله، وقيل: لعلّ امتناعه لأن سؤاله يُنبئ عن الطمع، والأول أظهر، والله تعالى أعلم.

(قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ) أي: ذهبت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لأسأله عنه ذلك (فَإِذَا امْرَأةٌ)"إذا" هي الْفُجَائيّة؛ أي: ففاجاني وجود امرأة (مِنَ الأنصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتي حَاجَتُهَا) قال الأبيّ رحمه الله: هو مثلُ قولهم: زَيدٌ زُهيرٌ شعرًا؛ أي: مثله. انتهى

(1)

.

وفي رواية النسائيّ: "فإذا امرأة من الأنصار، يُقَالُ لَهَا: زيْنَبُ، تسأل عما أسأل عنه"، وزينب هذه هي امرأة أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ رضي الله عنه، ففي رواية النسائيّ في "عشرة النساء" من طريق علقمة، عن عبد الله، قال: انطلقت امرأة عبد الله، وامرأة أبي مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلّ واحدة تكتم صاحبتها أمرها

قال الحافظ: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصاريّةً سوى هُزَيلة بنت ثابت بن ثعلبة الخزرجيّة، فلعلّ لها اسمين، أو وَهِمَ من سمّاها زينب، انتقالاً من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني بعيد، لا ينبغي اعتماده؛ لأن عدم ذكر ابن سعد لها لا يدُلّ على عدمها، مع ثبوته في رواية النسائيّ المذكورة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ ألْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ) بفتح الميم: أي: المخافة، قال في "القاموس"، و"شرحه": الهَيْبَةُ: الإِجلالُ، والمَخَافَة، وعن

(1)

"شرح الأبيّ" 3/ 140.

(2)

"الفتح" 4/ 307.

ص: 283

ابنِ سِيدهْ: الهَيْبَةُ: التَّقِيَّةُ من كُلِّ شَيءٍ، كالمَهابَةِ، وقد هابَهُ يهابُهُ، كخَافَهُ يَخَافُهُ هَيْبًا، وهَيْبَةً، ومَهَابَةً: خافَهُ، وراعَهُ، كاهْتَابَهُ، قال [من البسيط]:

ومَرْقَبٍ تَسْكُنُ العِقْبَانُ قُلَّتَهُ

أَشْرَفْتُهُ مُسْفِرًا والشَّمْسُ مُهْتَابَهْ

وفي "كتاب الأَفعال": هابَه، من باب تَعِبَ: حَذِرَه، ويُقال: هَابَه يَهِيبُه، من باب ضرب، نقله الفَيُّوميُّ في "المصباح".

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "وكان صلى الله عليه وسلم قد أُلقيت عليه المهابة": "كان" هذه هي التي تفيد الاستمرار، ومن ثَمَّ كان أصحابه صلى الله عليه وسلم في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير، وذلك عزّةٌ منه صلى الله عليه وسلم، لا كبر، وسوء خُلُق، وإن تلك العزّة ألبسها الله تعالى إياه صلى الله عليه وسلم، لا من تلقاء نفسه. انتهى

(1)

.

[فائدة]: ذكر ابن قَيِّم الجَوْزِيَّةِ رحمه الله فِي الفرْق بين المَهَابَة والكِبْر ما نَصُّه: إِنّ المَهابةَ أَثرُ امتلاءِ القلْبِ بمهابةِ الرَّبّ ومحبَّته، وَإِذا امتلأَ بذلك حلَّ فيه النُّورُ، ولَبِس رِداءَ الهَيْبة، فاكتسَى وَجهُهُ الحَلاوةَ والمَهَابَةَ، فحَنَّت إِليهِ الأَفئدةُ، وقَرَّتْ بها العُيُونُ، وأَمّا الكِبْرُ فهو أَثَرُ العُجْبِ في قلْب مملوءٍ جهلًا وظُلُماتٍ، رانَ عليه المَقْتُ، فنَظَرُهُ شَزْرٌ، ومِشْيَتُهُ تَبخْتُرٌ، لا يبْدأُ بسَلام، ولا يَرى لأَحَدٍ حَقًّا عليه، وَيرى حَقَّهُ على جميع الأَنامِ، فلا يزدادُ من اللهِ تعالى إِلّا بُعْدًا، ولا من النّاس إِلا حَقارًا وبُغْضًا. انتهى. تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله:

(قَالَتْ) زينب رضي الله عنها (فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَال) بن رَبَاح، مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (7 أو 8 أو 20 هـ) وله بضع وستّون سنة، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643. (فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأتيْنِ بِالْبَابِ، تَسْأَلَانِكَ أَتجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا) ووقع في بعض النسخ بلفظ:"على زوجيهما" بالتثنية، قال النوويّ رحمه الله: يقال: على زوجيهما، وعلى زوجهما، وعلى أزواجهما، وهي أفصحهنّ، وبها جاء القرآن العزيز في قوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وكذا قولها:"في حُجُورهما"، وشبه

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1563.

(2)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 4/ 409.

ص: 284

ذلك مما يكون لكلّ واحد من الاثنين منه واحد. انتهى

(1)

.

(وَعَلَى أَيْتَام فِي حُجُورِهِمَا؟) وفي رواية للنسائي، من طريق علقمة: "فقالتا لبلال: ايتً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: امرأتان لإحداهما فضلُ مال، وفي حجرها بنوأخ لها أيتام، وقالت الأخرى: إن لي فضل مال، ولي زوجٌ خفيف ذات اليد

".

(وَلَا تُخْبِرْهُ)"لا" ناهيةٌ، ولذا جُزم بها الفعل بعدها (مَنْ نَحْنُ؟) أي: لا تعيّق اسمنا، بل قل: تسأل امرأتان، إرادةَ الإخفاء؛ مبالغةً في نفي الرياء، أو رعاية للأفضل، وهذا أيضًا يصلح أن يكون وجهاً لعدم دخولهما، وقيل: المعنى: لا تخبره؛ أي: بلا سؤال، وإلا فعند السؤال يجب الإخبار، فلا يمكن المنع عنه، ولذلك أخبر بلال بعد السؤال (قَالَتْ) زينبُ (فَدَخَلَ بِلَالٌ) رضي الله عنه (عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هُمَا؟ ") أي: من السائلتان؟ (فَقَالَ) بلالٌ رضي الله عنه مخبرًا عنهما، ومعيّنًا لهما لوجوبه عليه بطلب الرسول صلى الله عليه وسلم، واستخباره، وقوله:(امْرَأةُ مِنَ الأنصَارِ، وَزَيْنَبُ) خبر لمحذوف دلّ عليه السؤال؛ أي: هما: امرأة من الأنصار، وزينب، ووقع في رواية النسائيّ بأن أجاب بقوله:"زينب"، وعليه فالمعنى أن اسم كلّ منهما زينب.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ ") وإنما لم يقل: "أيّةُ" بالتأنيث؛ لأنه يجوز التذكير والتأنيث، كما قال الله تعالى:{بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34](قَالَ) بلالٌ (امْرَأةُ عَبْدِ اللهِ) وفي رواية النسائيّ المذكورة: "زينَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ، وَزَيْنَبُ الْأَنْصَارِيَّةُ"؛ يعني: امرأة أبي مسعود، كما تقدّم.

قال النوويّ رحمه الله: قد يقال: إنه إخلاف للوعد، وإفشاء للسرّ، وجوابه أنه عارض ذلك جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوابه واجب محتمٌ، لا يجوز تأخيره، ولا يُقَدَّم عليه غيره، وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بُدئ بأهمها. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ليس إخبار بلال رضي الله عنه بالسائلتين اللتين استكتمتاه مَنْ هما بكشف أمانة سرّ؛ لوجهين:

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 87.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 87.

ص: 285

[أحدهما]: أن بلالًا فَهِمَ أن ذلك ليس على الإلزام، وإنما كان ذلك منهما على أنهما رأتا أنه لا ضرورة تُحْوِج إلى ذلك.

[الثاني]: أنه إنما أخبر بهما جوابًا لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى أنّ إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمّ، وأوجب من كتمان ما أمرتاه به.

وهذا كلّه بناء على أنهما أمرتاه به، وَيحْتَمِل أن يكون سؤالًا للإسراع، ولا يجب إسعاف كلّ سؤال. انتهى.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَهُمَا) أي: لكلّ واحدة منهما (أَجْرَانِ: أجْرُ الْقَرَابَةِ) أي: أجر صلة الرحم (وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ") أي: أجر منفعة الصدقة، وهذا ظاهره أنها لم تشافهه بالسؤال، ولا شافهها بالجواب، وحديث أبي سعيد الخدريّ الذي أخرجه الشيخان، وغيرهما، يدلّ أنها شافهته، وشافهها

(1)

؛ لقولها فيه: "يا نبيّ الله إنك أمرت"، وقوله فيه:"صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقّ"، فيَحْتَمِل أن يكونا قصّتين، وَيحْتَمِل أن يقال: تُحمَل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الاحتمال الأول هو الأرجح،

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه": (1462) حدّثنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد، هو ابن أسلم عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف، فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال:"أيها الناس تصدقوا"، فمرّ على النساء، فقال:"يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء"، ثم انصرف، فلما صار إلى منزلة جاءت زينب امرأة ابن مسعود، تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب، فقال:"أي الزيانب؟ " فقيل: امرأة ابن مسعود، قال:"نعم ائذنوا لها"، فإذن لها، قالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحقّ من تصدقت به عليهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقّ من تصدقتِ به عليهم". انتهى.

ص: 286

ومما يرجّحه، اختلاف سياق القصّتين، ففي حديث الباب أن السؤال عن أيتام هم بنوأخيها، لا عن ولدها، وفي حديث أبي سعيد أن الولد لها من ابن مسعود رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [14/ 2318 و 2319](1000)، و (البخاري) في "الزكاة"(1466)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(635)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1834)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2583)، و"الكبرى"(9200 و 9201 و 9202 و 9203)، و (أحمد) في "مسند"(3/ 502 و 6/ 363)، و (الدارمي) في "سننه "(1654)، (وابن خزيمة) في "صحيحه"(2463 و 2464)، (وأبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 82)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4248)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 726 و 727 و 729)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1653)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(2/ 22)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز صرف الصدقة على الأقارب، وفيه اختلاف بين العلماء سنحفقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): الحثّ على الصدقة على الأقارب.

3 -

(ومنها): الحثّ على صلة الرحم.

4 -

(ومنها): جواز تبرعّ المرأة بمالها بغير إذن زوجها.

5 -

(ومنها): مشروعيّة عِظَةِ الإمام النساء.

6 -

(ومنها): ترغيب وليّ الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء.

7 -

(ومنها): جواز تحدّث الرجل مع النساء الأجانب في الأمور المهمّة عند الحاجة.

ص: 287

8 -

(ومنها): التخويف من المؤاخذة بالذنوب، وما يُتوقّع بسببها من العذاب، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يا معشر النساء تصدّقن، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار".

9 -

(ومنها): جواز فُتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، حيث أفتى ابن مسعود رضي الله عنه بجواز صرف صدقة امرأته له، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صدق ابن مسعود"، كما في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

10 -

(ومنها): طلب الترقّي في تحمّل العلم، حيث ذهبت زينب رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أفتاها زوجها ابن مسعود رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز دفع الزكاة إلى الأقارب:

قال الإمام ابن قدامة نقلًا عن ابن المنذر -رحمهما الله تعالى-: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يُجبر الدافع إليهم على النفقة عليهم؛ لأن دفع زكاته إليهم تُغنيهم عن نفقته، وتُسقطها عنه، ويعود نفعها إليه، فكانه دفعها إلى نفسه، فلم تجز، كما أَبُو قضى بها دينه.

قال: ونصّ أحمد، فقال: لا يعطي الوالدين من الزكاة، ولا الولد، ولا ولد الولد، ولا الجدّ، ولا الجدّة، ولا ولد البنت.

قال: وأما سائر الأقارب، فمن لا يُوَرَّثُ منهم يجوز دفع الزكاة إليه، سواء كان انتفاء الإرث لانتفاء سببه، لكونه بعيد القرابة، أو لمانع، مثل الأخ المحجوب بالابن، فيجوز دفع الزكاة إليه؛ لأنه لا قرابة جزئيّة بينهما، ولا ميراث، فأشبها الأجانب، وإن كان بينهما ميراث، كالأخوين الذين يرث أحدهما الآخر، ففيه روايتان عن أحمد:

[إحداهما]: يجوز دفع زكاته إلى الآخر، وهي الظاهرة عنه، رواها عنه جماعة، فقد سئل: أيُعطِي الأخَ، والأختَ، والخالة من الزكاة؟ قال: يعطي كلَّ القرابة إلا الأبوين والولد، وهذا قول أكثر أهل العلم، قال أبو عبيد: هو القول عندي؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقةٌ، وهي لذي الرحم

ص: 288

اثنان، صدقة وصلة"، فلم يشرَط نافلة، ولا فريضة، ولم يفرّق بين الوارث وغيره.

[الرواية الثانية]: لا يجوز دفعها إلى الْمُوَرَّثِ؛ لأنه يلزمه مؤنته، فيغنيه بزكاته عن مؤنته، ويعود نفع زكاته إليهم، فلم يجز، كدفعها إلى والده، أو قضاء دينه بها، والحديث يحتمل صدقة التطوّع، فيُحمل عليها. انتهى مختصر كلام ابن قدامة رحمه الله بتصرف.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الراجح هو الأول، كما اختاره أبو عبيد، واحتجّ لى بإطلاق حديث:"الصدقةُ على المسكين إلخ"، وكذلك إطلاق حديث زينب المذكور في الباب، فإن ترك الاستفصال ينزّل منزلة العموم، كما هو مبيّن في محلّه.

والحاصل أن الحقّ جواز دفع الزكاة لعموم الأقارب، فإن صحّ الإجماع على أنه لا يجوز دفعها للوالدين -كما ادعاه ابن المنذر- قلنا به، وإلا فهما داخلان في عموم النصوص أيضًا.

قال العلامة الشوكانيّ رحمه الله: ويؤيّد الجواز، والإجزاء الحديث الذي تقدّم عند البخاريّ، بلفظ:"زوجك، وولدك أحقّ من تصدّقت عليهم"، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال، ينزّل منزلة العموم في المقال، ثم الأصل عدم المانع، فمن زعم أن القرابة، أو وجوب النفقة مانعان، فعليه الدليل، ولا دليل. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في جواز دفع زكاة أحد الزوجين إلى الآخر:

قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمعوا على أنّ الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة شيئًا؛ لأن نفقتها واجبةٌ عليه.

قال الصنعانيّ: وعندي فيه توقّف؛ لأن غنى المرأة بوجوب النفقة على زوجها، لا يصئرها غنيّة، الغِنَى الذي يمنع من حهلّ الزكاة لها. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الصنعانيّ متّجهٌ؛ إذ التعليل

ص: 289

بوجوب نفقتها على الزوج، لا يوجب امتناع الصرف إليها؛ لأن نفقتها واجبة عليه، غنيّة كانت، أو فقيرة، فالصرف إليها لا يسقط عنه شيئًا، فتأمّل حقّ التامّل، والله تعالى أعلم.

وأما دفع الزوجة زكاتها إلى زوجها، فذهب الشافعيّ، والثوريّ، وابن المنذر، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وإحدى الروايتين عن مالك، وأحمد إلى جوازه.

وحجّتهم حديثُ زينب المذكور في الباب، ووجه الاحتجاج به أنها سالته عن الصدقة على زوجها، وعلى الأيتام في حجرها، فأجابها بأن لها أجرَ الصلة، وأجر الصدقة، ولم يستفسر، هل هي صدقة واجبة، أم تطوّعٌ؟، وترك الاستفصال في حكاية الحال ينزّل منزلة العموم في المقال.

وذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية إلى منعه، واحتجّوا بانها تنتفع بدفعها إليه؛ لأنه إن كان عاجزًا عن الإنفاق عليها تمكّن باخذ الزكاة من الإنفاق فيلزمه، وإن لم يكن عاجزًا، ولكنه أيسر بها، لزمه نفقة الموسرين، فتنتفع بها في الحالين.

ورُدَّ هذا بأنه يلزم منه منع دفعها له صدقة التطوّع أيضًا؛ للعلّة المذكورة؛ مع أنه يجوز دفعها إليه اتفاقًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنّ المذهب الأول هو الأرجح؛ لأمرين:

(الأول): أن الزوج داخل في الأصناف المنصوص عليها في مصارف الزكاة؛ لأنه فقير.

(الثاني): أنه ليس في المنع نصّ، ولا إجماعٌ، ولا قياس صحيح.

قال العلّامة الشوكانيّ رحمه الله: الظاهر أنه يجوز صرف زكاتها إليه:

(أما أوّلًا): فلعدم المانع من ذلك، ومن قال: إنه لا يجوز فعليه الدليل.

(وأما ثانيًا): فلأن ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها ينزل منزلة العموم، فلما لم يستفصلها عن الصدقة، هل هي تطوّع، أم واجبٌ؟ فكانه قال: يجزي عنك فرضًا كان، أو تطوّعًا. انتهى. وهو بحث نفيس جدًّا.

ص: 290

والحاصل أن الأرجح جواز دفع الزكاة لزوجها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، صماليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2319]

(

) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأزدِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زَينَبَ امْرَأةِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: فَذَكَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ الله، بِمِثْلِهِ سَوَاءً؛ قَالَ: قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ، فَرَاَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُن"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأزدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله (85) سنةً (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.

2 -

(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) أبو حفص الكوفيّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [10](222)(ع)(خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.

3 -

(أَبُوهُ) حفص بن غياث بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ ثبت فقيهٌ تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب (80)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ: فَذَكَرْتُ لِإِبْرَاهِيمَ) أي: ذكرت حديث شقيق المذكور، والقائل:"فذكرت إلخ " هو الأعمش، وإبراهيم هو ابن يزيد النخعيّ، وأبو عُبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود، ففي الطريق ثلاثة من التابعين، ورجال الطرُق الثلاثة كلهم كوفيّون.

وقوله: (بِمِثْلِهِ سَوَاءً) أي: حدّثني إبراهيم، عن أبي عُبيدة عن عمرو بن الحارث بمثل حديث شقيق، عن عمرو بن الحارث المتقدّم.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ) فاعل "ساق" ضمير

ص: 291

حفص بن غياث؛ أي: ساق حفص، عن الأعمش بمعنى حديث أبي الأحوص عنه.

[تنبيه]: رواية حفص بن غياث، عن الأعمش هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

(1466)

- حدّثنا عُمر بن حفص، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش، قال: حدّثني شقيق، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنهما. قال: فذكرته لإبراهيم، فحدّثني إبراهيم، عن أبي عُبيدة، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله بمثله سواءً، قالت: كنت في المسجد، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"تصدقن، ولو من حليكن"، وكانت زينب تُنفق على عبد الله، وأيتام في حجرها، قال: فقالت لعبد الله: سَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أيَجْزِي عني أن أُنفق عليك، وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ فقال: سَلِي أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوَجَدتُ امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمَرّ علينا بلال، فقلنا: سل النبيّ صلى الله عليه وسلم أيَجْزِي عني أن أنفق على زوجي، وأيتام لي في حجري؟ وقلنا: لا تخبر بنا، فدخل، فسأله، فقال:"من هما؟ "، قال: زينب، قال:"أيُّ الزيانب؟ "، قال: امرأة عبد الله، قال:"نعم، لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2320]

(1001) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زينَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ، أنفِقُ عَلَيْهِمْ؟، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ، فَقَالَ: "نَعَمْ، لَكِ فِيهِمْ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قبل باب.

ص: 292

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قريبًا.

3 -

(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ يرسل [5](ت هـ أو 146) وله (87) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن الْعَوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

5 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الأسد المخزوميّة، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة (73)(ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.

6 -

(أمّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة بن المغيرة بن عبد الله المخزوميّة، أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث من الهجرة، وماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "المقدمة" جـ 2 ص 473.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته كلّهم رواة الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد الشيوخ التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقيان كوفيّان.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، والبنت عن أمها، وتابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّة عن صحابيّة.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ) أي: ابن عبد الأسد، الذي كان زوجها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: عُمَر، ومحمد، وزينب، ودُرَّة، وقولها:(أنفِقُ عَلَيْهِمْ؟) جملة في محلّ نصب على الحال من "بني أبي سلمة"(وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذا) معمول "تاركتهم"؛ أي: لست بتاركتهم ذاهبين هكذا وهكذا، يسألون

ص: 293

الناس، قاله السنوسيّ رحمه الله

(1)

. (إِنَّمَا هُمْ بَنيَّ) أصله بنون، فلما أضيف إلى ياء المتكلمة سقطت نون الجمع، فصار بَنُويَ، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فأُدغمت الواو في الياء، فصار بَنُيّ، بضم النون وتشديد الياء، ثم أُبدلت ضمةُ النون كسرةً؛ لمناسبة الياء، فصار بَنِيَّ، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا

وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا

فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا

وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ قَدْ رُسِمَا

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ، لَكِ فِيهِمْ أَجْرُ مَا أنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ") قال في "الفتح": رواه الأكثر بالإضافة على أن تكون "ما" موصولة، وجوّز أبو جعفر الْغَرْناطيّ نزيل حَلَب تنوين "أجرٌ" على أن تكون "ما" ظرفيّة. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسالتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2320 و 2321](1001)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1467)، و"النفقات"(5369)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1835)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 292 و 293 و 310 و 314)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4246)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7008)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 150)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 83)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 796 و 911)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 478)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1679)، وفوائد الحديث تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح السنوسيّ" 3/ 141 - 142.

(2)

"الفتح" 4/ 309.

ص: 294

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2321]

(

) - (وَحَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَاه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

5 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل بابين.

6 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل بابين.

و"هشام" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية معمر، عن هشام بن عروة هذه ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه" (10/ 437) فقال:

(19628)

أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت: يا رسول الله، إن بني أبي سلمة في حِجْري، وليس لهم إلا ما أنفقت عليهم، ولست بتاركتهم كذا ولا كذا، أفلي أجر ما أنفقت عليهم؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أثفقي عليهم، فإن لك أجر ما أنفقت عليهم". انتهى.

وأما رواية عليّ بن مسهر، عن هشام، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 295

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2322]

(1002) - (حَدَّثَنَا

(1)

عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أنفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَة").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) بن زيد بن حُصين الأنصاريّ الْخَطْميّ، صحابيّ صغير، ولي الكوفة لابن الزبير رضي الله عنهما (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 456.

6 -

(أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني بالكوفيين.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 296

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، عند من يقول: إن عبد الله بن يزيد تابعيّ، ورواية صحابيّ عن صحابيّ عند من يقول بصحبته، وهو الأصح، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيٍّ، وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ) لم يقل: "ابن ثابت"، بل زاد لفظة "وهو"؛ لكون شيخه لم ينسبه إلى أبيه، وإنما نسبه من عنده، فميّز بين ما رواه، وبين ما زاده من عنده، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى في "شرح المقدّمة"، فراجعه تزدد علمًا (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ) وفي رواية البخاريّ في "الإيمان" من طريق حجاج بن منهال، قال: حدّثنا شعبة، قال: أخبرني عديّ بن ثابت، قال سمعت عبد الله بن يزيد، وقد صرّح عبد الله بن يزيد بسماعه من أبي مسعود عند البخاريّ في "المغازي"(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ) اختُلف في سبب نسبته إلى بدر، فقيل: لسكناه بها، لا لشهوده وقعتها، وقيل: لكونه شهد وقعتها، وهذا هو الذي قاله البخاريّ، ومسلم، وهو الصحيح، وقد تقدّم بيان ذلك في "شرحِ المقدّمة"

(1)

. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ) قال صاحب "المغرب": أهل الرجل امرأته، وولده، والذي في عياله ونفقته، وكذا كلُّ أخ، أو أخت، أو عمّ، أو ابن عمّ، أو صبيّ أجنبي يقوته في منزلة.

وعن الأزهريّ: أهلُ الرجل أخصّ الناس به، ويُجْمَع على أَهْلِينَ، والأهالي على غير قياس، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": "الأهل" يَحْتَمِل أن يَشْمَل الزوجة، والأقارب، وَيحْتَمِل أن يخُصّ الزوجة، ويُلْحَق بها من عداها بطريق الأولى؛ لأنّ الثواب إذا ثبتٌ فيما هو واجب، فثبوته فيما ليس بواجبٍ أولى.

وقال الطبريّ رحمه الله ما مُلخصه: الإنفاق على الأهل واجبٌ، والذي يُعطيه

(1)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 2/ 458 - 459.

(2)

"عمدة القاري" 21/ 13 "كتاب النفقات" رقم الحديث (5351).

ص: 297

يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوّع.

وقال المهلّب رحمه الله: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سمّاها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عَرَفُوا ما في الصدقة من الأجر، فعزفهم أنها لهم صدقةٌ، حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يَكْفُوهم؛ ترغيبأ لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوّع.

وقال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: تسمية النفقة صدقةً، من جنس تسمية الصداق نِحْلَة، فلما كان احتياج المرأة إلى الرجل كاحتياجه إليها -في اللذّة والتأنيس، والتحصين، وطلب الولد- كان الأصل أن لا يجب لها عليه شيء، إلا أنّ الله خصّ الرجل بالفضل على المرأة بالقيام عليها، ورَفَعَه عليها بذلك درجة، فمن ثَمَّ جاز إطلاق النحلة على الصداق، والصدقة على النفقة. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا) أي: يريد أجرها من الله تعالى بحسن نيّته، وهو أن ينوي أداء ما أوجب الله تعالى عليه من الإنفاق عليهم، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل.

قال بعضهم: أفاد الحديث بمنطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يَحصُل بقصد القربة، سواءٌ كانت واجبة، أو مباحة، وأفاد بمفهومه أن من لم يقصد القربة لم يُؤجر، لكن تبرأ ذمّته من النفقة الواجبة؛ لأنها معقولة المعنى. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه بيان أن المراد بالصدقة، والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها، ومعناه أراد بها وجه الله عز وجل، فلا يدخل فيه من أنفق عليها ذاهلًا، ولكن يدخل المحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكّر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة، وأطفال أولاده، والمملوك، وغيرهم، ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم، واختلاف العلماء فيهم، وأنّ غيرهم ممن يُنفَقُ عليه مندوبٌ إلى الإنفاق عليهم، فينفق بنيّة أداء ما أُمر به، وقد أُمر

(1)

راجع: الفتح 10/ 624 - 625.

ص: 298

بالإحسان إليهم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً") جواب "إذا"، ثم إن "كان" هنا يَحْتَمِل أن تكون ناقصةً، واسمها ضمير يعود إلى "نفقةً"، و"صدقةً" خبرها: أي: كانت النفقة صدقةً له، ويَحْتَمِل أن تكون تامّةً، و"صدقةٌ" بالرفع فاعلها؛ أي: حصلت له صدقةٌ.

قال في "الفتح": المراد بالصدقة الثواب، وإطلاقها عليه مجازٌ، وقرينته الإجماع على جواز الإنفاق على الزوجة الهاشميّة مثلًا، وهو من مجاز التشبيه، والمراد به أصل الثواب، لا في كمّيّته، ولا في كيفيّته، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلا مقروناً بالنيّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2322 و 2323](1002)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(53)، وفي "المغازي"(4006)، وفي "النفقات"(5351)، وفي "الأدب المفرد"(749)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1965)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2545)، وفي "الكبرى"(2325)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 120 و 122 و 5/ 273)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 284 - 285)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 84)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4238 و 4239)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 522 - 523)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 178)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل النفقة على الأهل محتسبًا.

2 -

(ومنها): أن النفقة على الأهل، وإن كانت واجبةً تسمّى صدقةً، وقد

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 88 - 89.

ص: 299

أخرج النسائي بإسناد صحيح، عن سلمان بن عامر الضبيّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة".

3 -

(ومنها): أن الأعمال لا يوجد ثوابها إلا بإخلاص النيّة لله تعالى.

4 -

(ومنها): أن ثواب الصدقة يحصل بالنفقة الواجبة، فمن أنفق على أهله من غير احتساب، لم يحصل له ثواب الصدقة، وإن سقط عنه الوجوب، قال في "العمدة":

[فإن قلت]: كيف يكون إطعام الرجل أهله صدقةً، وهو فرض عليه؟.

[قلت]: جعل الله الصدقة فرضًا وتطوعًا، ويُجْزَى العبدُ على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة، وبين تسميتها صدقة.

وقيل: إنما أطلق الشارع صدقة على نفقة الفرض؛ لئلا يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم.

وقال المهلّب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بالإجماع.

وقال الطبريّ: النفقة على الأولاد ما داموا صغارًا فَرْضٌ عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وأبدأ بمن تعُول"؛ لأن الولد ما دام صغيرًا فهو عيال.

وقال ابن المنذر: واختلفوا فيمن بلغ من الأبناء، ولا مال له، ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن يُنفق على ولد صلبه الذكور حتى يحتلموا، والبنات حتى يُزَوَّجْنَ، فإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها، هان طلقها بعد البناء، أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها، ولا نفقة لولد الولد على الجدّ، هذا قول مالك، ونفقة الإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات واجية بشرط العجز، مع قيام الحاجة، وأما نفقة بني الأعمام، وأولاد العمات، فلا تجب عند عامة العلماء، خلافًا لابن أبي ليلى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"عمدة القاري" 21/ 13 "كتاب النفقات".

ص: 300

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2323]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثنَاه أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) غُندر، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(وَكيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شعبة هذه ساقها النسائيّ في "المجتبى"، فقال:

(2545)

- أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا محمد، قال: حدّثنا شعبة، عن عديّ بن ثابت، قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاريّ، يحدّث عن أبي مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أنفق الرجل على أهله، وهو يحتسبها، كانت له صدقةً". انتهى.

وأما رواية وكيع، عن شعبة، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2324]

(1003) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَي قَدِمَتْ عَلَيَّ، وَهِيَ رَاغِبَة، أَوْ رَاهِبَةٌ، أفَأَصِلُهَا؟ قَالَ:"نَعَمْ").

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 301

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الله بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، اْبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقية عابذ [8](ت 192) عن بضع و (70) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(أَسْمَاءٌ) بنت أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنها، ماتت سنة (3 أو 74) عن مائة سنة (ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.

والباقيان ذُكرا قبل حديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته من رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، من هشام، والباقيان كوفيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن أمه، وتابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن عروة أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة.

6 -

(ومنها): أن صحابيّته ذات مناقب جمّة، فهي من السابقات إلى الإسلام، وكانت تسمّى ذات النطاقين؛ لما شقّت نطاقها نصفين، فربطت بأحدهما زاد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبيها حين هاجرا، والقصّة مشهورة.

شرح الحديث:

(عَنْ هِشَام بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ) وفي رواية البخاريّ من طريق ابن عيينة، قال: أخبرني أبَي " (عَنْ أَسْمَاءَ) بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما، وفي رواية ابن عيينة المذكورة: "أخبرتني أسماء"، قال في "الفتح": كذا قال أكثر أصحاب هشام، وقال بعض أصحاب ابن عيينة: عنه، عن هشام، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، قال الدارقطنيّ: وهو خطأ.

قال الحافظ: قلت: حَكَى أبو نعيم أن عُمَر بن عليّ المقدميّ، ويعقوب القارئ روياه عن هشام كذلك، فَيَحْتَمِل أن يكونا محفوظين، ورواه أبو معاوية، وعبد الحميد بن جعفر، عن هشام، فقالا: عن عروة، عن عائشة، وكذا

ص: 302

أخرجه ابن حبان من طريق الثوريّ، عن هشام، والأول أشهر، قال الْبَرْقانيّ: وهو أثبت. انتهى.

قال الحافظ: ولا يبعد أن يكون عند عروة عن أمه وخالته، فقد أخرجه ابن سعد، وأبو داود الطيالسيّ، والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير، قال: قدمت قُتَيْلَةُ -بالقاف والمثناة، مصغرةً- بنت عبد العزى بن سعد من بني مالك بن حِسْل- بكسر الحاء وسكون السين المهملتين- على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في الْهُدْنة، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية، بهدايا زبيب، وسَمْن، وقَرَظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لتدخلها

" الحديث، وعُرِف منه تسمية أم أسماء، وأنها أمها حقيقة، وأن من قال: إنها أمها من الرضاعة فقد وَهِمَ.

ووقع عند الزبير بن بكار أن اسمها قَيْلَة، قال الحافظ: ورأيته في نسخة مجردة منه بسكون التحتانية، وضبطه ابن ماكولا بسكون المثناة، فعلى هذا فمن قال قُتَيلة صَغّرها، قال الزبير: أم أسماء وعبد الله ابني أبي بكر قَيْلة بنت عبد العزى، وساق نسبها إلى حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ، وأما قول الداوديّ: إن اسمها أم بكر، فقد قال ابن التين: لعله كنيتها. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيِّ) زاد في رواية البخاريّ من طريق الليث، عن هشام:"مع ابنها"، وكذا في رواية حاتم بن إسماعيل، عن هشام، وذكر الزبير أن اسم ابنها المذكور الحارث بن مُدرك بن عبيد بن عُمَر بن مخزوم، قال الحافظ: ولم أر له ذكرأ في الصحابة، فكأنه مات مشركًا، وذكر بعض شيوخنا أنه وقع في بعض النسخ مع أبيها بموحدة ثم تحتانية، وهو تصحيف. انتهى.

وفي الرواية التالية: "عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه، قالت: قَدِمت عليّ أمي، وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله قَدِمَت عليّ أمّي، وهي راغبةٌ، أفأصل أمي؟ قال: "نعم، صلي أمك".

(1)

"الفتح" 6/ 471 - 472 "كتاب الهبة" رقم (2620).

ص: 303

ووقع في رواية حاتم بن إسماعيل عند البخاريّ بلفظ: "في عهد قريش؛ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأرادت بذلك ما بين الحديبية والفتح.

(وَهِيَ رَاغِبَة) جملة حاليّة (أَوْ رَاهِبَةٌ) هكذا بالشك في رواية عبد الله بن إدريس، عن هشام، وللطبرانيّ من طريق عبد الله بن إدريس المذكور:"راغبةٌ، وراهبةٌ" بالواو، وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان:"جاءتني راغبةً وراهبةً" بالواوأيضًا، وهو يؤيد رواية الطبرانيّ.

والمعنى أنها قَدِمَت طالبة في بِرّ ابنتها لها، خائفةً من رَدّها إياها خائبةً، هكذا فسره الجمهور، ونقل المستغفريّ أن بعضهم أوّله فقال: وهي راغبة في الإسلام، فذكرها لذلك في الصحابة، وردّه أبو موسى بانه لم يقع في شيء من الروايات ما يدلّ على إسلامها، وقولها: أراغبةٌ" أي: في شيء تأخذه، وهي على شركها، ولهذا استأذنت أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن تصلها، ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن. انتهى.

وقيل: معناه راغبةٌ عن ديني، أو راغبة في القرب مني، ومجاورتي، والتودُّد إليّ؛ لأنها ابتدأت أسماء بالهدية التي أحضرتها، ورَغِبت منها في المكافأة، ولو حُمِل قوله:"راغبة" أي: في الإسلام لم يستلزم إسلامها.

ووقع في رواية عيسى بن يونس، عن هشام، عند أبي داود، والإسماعيليّ:"راغمة" بالميم؛ أي: كارهة للإسلام، ولم تَقْدُم مهاجرةً.

وقال ابن بطال: قيل: معناه هاربة من قومها، وردّه بأنه أَبُو كان كذلك لكان مراغمةً، قال: وكان أبو عمرو بن العلاء يفسِّر قوله: "مُرَاغَمًا" بالخروج عن العدوّ على رغم أنفه، فَيَحْتَمِل أن يكون هذا كذلك، قال: وراغبة بالموحدة أظهر في معنى الحديث. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" في موضع آخر: قولها: "راغبةٌ" هل هو بالميم، أو الموحدة؛ قال الطيبيّ: الذي تحرر أن قولها: "راغبة" إن كان بلا قيد، فالمراد راغبة في الإسلام لا غير، هاذا قرنت بقولها:"مشركة"، أو "في عهد قريش"، فالمراد راغبة في صلتي، وإن كانت الرواية "راغمة" بالميم فمعناه: كارهةٌ للإسلام.

(1)

"الفتح" 6/ 472 "كتاب الهبة" رقم (2620).

ص: 304

قال الحافظ: أما التي بالموحدة فيتعين حمل المطلق فيه على المقيد، فإنه حديث واحد في قصة واحدة، ويتعين القيد من جهة أخرى، وهي أنها أَبُو جاءت راغبة في الإسلام لم تحتج أسماء أن تستأذن في صلتها؛ لشيوع التألف على الإسلام من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمره فلا يحتاج إلى استئذانه في ذلك. انتهى

(1)

.

(أفَأَصِلُهَا؟) أي: أحسن إليها بإعطاء ما طلبت من المال (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") وفي الرواية التالية: "نعم صلي أمك"، زاد في رواية البخاريّ في "كتاب الأدب " عقب حديثه عن الحميديّ، عن ابن عيينة:"قال ابن عيينة: فأنزل الله فيها، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] "، وكذا وقع في آخر حديث عبد الله بن الزبير، ولعل ابن عيينة تلقاه منه.

ورَوَى ابن أبي حاتم، عن السُّدّيّ أنها نزلت في ناس من المشركين، كانوا ألين شيء جانباً للمسلمين، وأحسنه أخلاقًا، ولا منافاة بينهما، فإن السبب خاصّ، واللفظ عامّ، فيتناول كلَّ من كان في معنى والدة أسماء.

وقيل: نَسَخَ ذلك آيةُ الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: القول بالنسخ مما لا يخفى بعده؛ لأن قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [النساء: 89] خاصّ بالمحاربين، لا يتناول المسالمين، بدليل قوله عز وجل:{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية [النساء: 90]، وقوله:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ} الآية [التوبة: 4]، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2324 و 2325](1003)، و (البخاريّ) في

(1)

"الفتح" 10/ 413 "كتاب الأدب".

ص: 305

"الهبة"(2620)، و"الجزية"(3183)، و"الأدب"(5979)، و (أبو داود) في (1668)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 38 و 10/ 353)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 228)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 344 و 347 و 355)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(24/ 78 - 79)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 84)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 191 و 129/ 9)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز صلة القريب المشرك، قال الخطابيّ رحمه الله: فيه أن الزَحِمَ الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة.

2 -

(ومنها): أن فيه مستدلًّا لمن رأى وجوب النفقة للأب الكافر، والأم الكافرة على الولد المسلم، ويؤيّده قوله عز وجل:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} الآية [لقمان: 15].

3 -

(ومنها): بيان جواز موادعة أهل الحرب، ومعاملتهم في زمن الهدنة والسفر في زيارة القريب.

4 -

(ومنها): بيان فضل أسماء رضي الله عنها حيث تحرّت في أمر دينها، وكيف لا وهي بنت الصديق، وزوج الزبير رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج: رحمه الله المذكور أولَ الكلتاب قال:

[2325]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أو"مي، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْش، إِذْ عَاهَدَهُمْ، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي، وَهِيَ رَاغِبَة، أفَاَصِلُ أُمِّي؛ قَالَ: "نَعَمْ صلِي أمِّكِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَهِيَ رَاِغِبَة

إلخ) وقع في هذه الرواية "راغبة" بلا شكّ، قال القاضي عياض رحمه الله: الصحيح "راغبة" بلا شكّ، قال: قيل: معناه راغبة عن

ص: 306

الإسلام، وكارهة له، وقيل: معناه طامعةٌ فيما أعطيتها، حريصةٌ عليه، وفي رواية أبي داود:"قَدِمت عليّ أمي، راغبةَ في عهد قريش، وهي راغمةٌ مشركةٌ"، فالأول "راغبة" بالباء: أي: طامعة طالبة صلتي، والثانية بالميم، معناه: كارهة للإسلام، ساخطته، وفيه جواز صلة القريب المشرك، وأم أسماء اسمها قَيْلة، وقيل: قُتَيلة بالقاف وتاء مثناة من فوقُ، وهي قَيلة بنت عبد العُزَّى القرشية العامرية، واختَلَف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها؟ والأكثرون على موتها مشركة، قاله النوويّ رحمه الله، للهُ

(1)

، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابُ بَيَانِ وُصُولِ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ عَنِ الْمَيْتِ إِلَيْهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2326]

(1004) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا أتَى النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْدي، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

3 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

(1)

"شرح النووي" 7/ 89.

ص: 307

والباقيان تقدّما في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فكوفيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّ رَجُلًا) هو سعد بن عبادة رضي الله عنه؛ لما أخرجه النسائيّ من طريق مالك، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جدّه، قال: خرج سعد بن عبادة، مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وحضرت أمه الوفاةُ بالمدينة، فقيل لها: أوصي، فقالت: فيم أوصي؟ المال مال سعد، فتُوفيت قبل أن يَقْدَم سعد، فلما قَدِمَ سعد ذُكِر ذلك له، فقال: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نعم"، فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها، لحائط سماه.

(أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّيَ) هي: عمرة بنت سعد بن عمرو بن زيد مناة، وقيل: بنت سعد بن قيس، وقيل: بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النجّار، ماتت رضي الله عنها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سنة خمس، وقال ابن سعد: ماتت والنبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة دُومة الجندل، في شهر ربيع الأول، فلما جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبرها، فصلّى عليها.

(افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا) -بضمّ المثناة، وكسر اللام-: أي: سُلِبَت، على ما لم يُسمّ فاعله، و"نفسها" بالرفع نائب الفاعل، يقال: افْتُلِتَ فلانٌ: أي: مات فجأةً، وافتُلتت نفسه كذلك، وضبطه بعضهم بفتح السين، إما على التمييز، وإما على أنه مفعول ثان، والفَلْتَةُ، والإفلات: ما وقع بغتة، من غير رويّة، وذكر ابن قُتيبة بالقاف، وتقديم المثنّاة، وقال: هي كلمة تقال لمن قتله الحبّ، ولمن مات فَجْاةً، والمشهور في الرواية بالفاء.

ص: 308

وقال في "النهاية": "افتُلتت نفسها": أي: ماتت فَجأةً، وأُخذت نفسُها فَلْتَةً، يقال: افتلته: إذا استلبه، وافتُلت فلان بكذا: إذا فُوجئ قبل أن يستعدّ له، ويُروى بنصب "النفس"، ورفعها، فمعنى النصب: افتلتها الله نفسها، مُعدّى إلى مفعولين، كما تقول: اختلسه الشيءَ، واستلبه إياه، ثم بُني الفعل لما لم يُسمّ فاعلُهُ، فتحوّل المفعول الأول مُضمراً، وبقي الثاني منصوبًا، وتكون التاء الأخيرة ضمير الأمّ: أي: افتُلِتت هي نفسَهَا. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "افتُلِتَتْ نفسُها" ضبطناه "نفسَها"، و"نفسُها" بنصب السين ورفعها، فالرفع على أنه مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والنصب على أنه مفعولٌ ثالغ، قال القاضي عياضٌ: أكثر روايتنا فيه بالنصب، وقوله:"افتُلِتت" بالفاء، هذا هو الصواب الذي رواه أهل الحديث وغيرهم، ورواه ابن قتيبة:"اقتُتِلت نفسها" بالقاف، قال: وهي كلمة تقال لمن مات فَجْأَةً، ويقال أيضًا لمن قتلته الجنّ والعشق، والصواب الفاء، قالوا: ومعناه: ماتت فَجْأَةً، وكلُّ شيء فُعِل بلا تَمَكّث، فقد افْتَلَتَ، ويقال: افْتَلَتَ الكلامَ، واقترحه، واقتضبه: إذا ارتجله. انتهى

(1)

.

(وَلَمْ تُوصِ) قد سبق في رواية النسائيّ المذكورة سبب عدم وصيّتها، وهو أنه لا مال لها، وإنما المال لولدها سعد (وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ) أي: أَبُو اتسّع وقت مرضها، ولم يَفْجأها الموت (تَصَدَّقَتْ) أي: أوصت بالصدقة، وهذا لا ينافي ما سبق آَنفًا؛ لأنه يمكن أن يكون المعنى لأمرَته أن يتصدّق عنها، والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ في "الوصايا" عن عبد الله بن يوسف، عن مالك:"وأُراها أَبُو تكلّمت تصدّقت"، وهو بضمّ همزة "أُراها".

قال في "الفتح": وهو يُشعر بأن رواية ابن القاسم عن مالك، عند النسائيّ، بلفظ:"وإنها أَبُو تكلّمت" تصحيفٌ، وظاهره أنها لم تتكلّم، فلم تتصدّق، لكن في "الموطّأ" عن سعيد بن عمرو بن شُرَحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جذه، قال: "خرج سعد بن عبادة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 89 - 90.

ص: 309

مغازيه، وحضرت أمه الوفاة بالمدينة، قيل لها: أوصي، فقالت: فيم أوصي؟ المال مال سعد، فتُوفّيت قبل أن يقدم سعد"، فذكر الحديث، فإن أمكن تأويل رواية الباب بان المراد أنها لم تتكلّم؛ أي: بالصدقة، "ولو تكلّمت لتصدّقت"؛ أي: فكيف أُمْضِي ذلك؟، أو يُحْمَل على أن سعدًا ما عَرَف بما وقع منها، فإن الذي روى هذا الكلام في "الموطّأ" هو سعيد بن سعد بن عبادة، أو ولده شُرَحبيل مرسلًا، فعلى التقديرين لم يتّحد راوي الإثبات، وراوي النفي، فيمكن الجمع بينهما بذلك، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية "الموطّأ" التي ذكرها هي رواية النسائيّ أيضًا.

وحاصل الجواب أن المراد أنها لم تتكلّم بصدقة شيء معيّن، وإنها لما قيل لها: أوصي، قالت: الوصيّة تعتمد على المال الموصى به، وليس لي ذلك، وإنما هو لسعد، فلما جاء سعد صلى الله عليه وسلم بعد موتها، وأُخبر بما قالت: أراد أن يتصدّق عنها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمره به.

والحاصل أن دعوى التصحيف في رواية النسائيّ المذكورة غير صحيحة؛ للجمع بين الروايتين بما ذكر، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(أفَلَهَا أَجْز اِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية الصحيحة بكسر الهمزة من "إِنْ " على الشرطيّة، ولا يصحّ قولُ مَن فتحها؛ لأنه إنما سأل عمّا لم يفعله. انتهى

(1)

.

وفي الرواية الآتية في "الوصايا" من طريق يحيى القطّان، عن هشام:"فَلِي أَجْر أَنْ أَتَصَدقَ عنها؟ "، وفي رواية النسائيّ:"هل ينفعها أن أتصدّق عنها؟ "، ووقع في بعض الروايات بلفظ:"أتصدّق عليها، أو أصرفه على مصلحتها؟ "(قَالَ) صلى الله عليه وسلم "نَعَمْ") زاد في رواية النسائيّ: "فَتَصَدَّقَ عَنْهَا"، وفي رواية له:"فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها، لحائط سمّاه"، وفي رواية ابن عبّاس رضي الله عنهما عنده:"قال: فإن لي مَخْرَفًا، فأُشهدك أني قد تصدّقت به عنها"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المفهم" 3/ 49.

ص: 310

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 2326 و 2327](1004)، وفي "الوصايا"(3650)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1388)، و"الوصايا"(2760)، و (أبو دا ود) في "الوصايا"(2881)، و (النسائيّ) في "الوصايا"(3676)، وفي "الكبرى"(6476)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2717)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه "(7/ 71 و 9/ 60)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 58)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 51)، و (مالك) في "الموطأ" في "الأقضية"(2/ 760)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 119)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 410)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 250)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2499)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 84)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 217)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 420)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 278)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب الصدقة لمن مات فَجْأة.

2 -

(ومنها): جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه، ولا سيّما إن كان من الولد، وهو مخصّص لعموم قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، ويلتحق بالصدقة العتق عنه.

وقال في "العمدة": دل الحديث على أن تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، على الخصوص.

قال ابن المنذر: أما العتق عن الميت فلا أعلم فيه خبرًا ثبتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبتٌ عن عائشة رضي الله عنها أنها أعتقت عبدًا عن أخيها عبد الرحمن، وكان مات ولم يوص، وأجاز ذلك الشافعي، قال بعض أصحابه: لمّا جاز أن يتطوع بالنفقة، وهي مال، فكذا العتق، وفَرَّق غيره بينهما، فقال: إنما أجزناها للأخبار الثابتة، والعتق لا خير فيه، بل في

ص: 311

قوله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق" دلالة على منعه؛ لأن الحيّ هو المعتق بغير أمر الميت، فله الولاء؛ إذا ثبتٌ له الولاء فليس للميت منه شيء.

وتعُقّب قوله: "والعتق لا خير فيه" بأنه ليس بصحيح؛ لأنه قد روي في حديث سعد بن عبادة أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أُعتق عنها؛ قال: "نعم لما، فدل على أن العتق ينفع الميت، ويشهد لذلك فعل عائشة رضي الله عنها الذي سبق. انتهى

(1)

، وهو بحث جيّد، وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة مستوفى في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

3 -

(ومنها): أن ترك الوصيّة جائزٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذُمّ أم سعد على ترك الوصيّة، قاله ابن المنذر.

وتُعُقّب بأن الإنكار عليها قد تعذّر لموتها، وسقط عنها التكليف.

وأجيب بأن فائدة إنكار ذلك أَبُو كان منكرًا ليتّعظ غيرها ممن سمعه، فلما أقز على ذلك دلّ على الجواز.

4 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من استشارة النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدين.

5 -

(ومنها): العمل بالظنّ الغالب؛ لقوله: "وأظنّها أَبُو تكلّمت تصدّقت".

6 -

(ومنها): مشروعيّة الجهاد في حياة الأمّ، وهو محمول على أنه استأذنها؛ لأن أم سعد ماتت وهو مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، كما سبق قريبًا.

7 -

(ومنها): السؤال عن التحمّل، والمسارعة إلى عمل البرّ، والمبادرة إلى برّ الوالدين.

8 -

(ومنها): أن إظهار الصدقة قد يكون خيرًا من إخفائها، وهو عند اغتنام صدق النيّة فيه.

9 -

(ومنها): أن للحاكم تحمّل الشهادة في غير مجلس الحكم، نبّه على ذلك أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله، ونقله الحافظ في "الفتح"، وقال: وفي بعضه نظرٌ لا يخفى، وكلامه على أصل الحديث، وهو في حديث ابن

(1)

"عمدة القاري" 14/ 55 - 56.

ص: 312

عباس

(1)

أبسط من حديث عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في وصول ثواب الصدقة وغيرها إلى الميت:

قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: وهذا الحديث مُجْمَع على القول بمعناه، ولا خلاف بين العلماء أن صدقة الحي عن الميت جائزة، مَرْجُوٌّ نفعُها وقبولها؛ إذا كانت من طَيِّب، فإن الله لا يقبل إلا الطيب، وليس الصدقة عندهم من باب عمل البدن في شيء، فلا يجوز لأحد أن يصلي عن أحد، وجائز له أن يتصدق عن وليّه، وعن غيره، وهذا مما ثبتت به السنة، ولم تختلف فيه الأمة. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت، ويصله ثوابها، وهو كذلك بإجماع العلماء، وكذا أجمعوا على وصول الدعاء، وقضاء الدَّين بالنصوص الواردة في الجميع، ويصحّ الحج عن الميت إذا كان حج الإسلام، وكذا إذا وصّى بحجّ التطوع على الأصح عندنا، واختَلَف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم، فالراجح جوازه عنه؛ للأحاديث الصحيحة فيه، والمشهور في مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها، وقال جماعة من أصحابنا: يصله ثوابها، وبه قال أحمد بن حنبل. وأما الصلاة، وسائر الطاعات، فلا تصله عندنا، ولا عند الجمهور، وقال أحمد: يصله ثواب الجميع، كالحج. انتهى

(3)

.

(1)

حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو ما أخرجه النسائيّ بسند صحيح من طريق مالك، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جدّه، قال: خرج سعد بن عبادة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، وحضرت أمه الوفاة بالمدينة، فقيل لها: أوصى، فقالت: فيم أُوصِي؟، المال مال سعد، فتُوُفِّيت قبل أن يقدم سعد، فلما قدم سعد ذُكِر ذلك له، فقال: يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها، لحائط سماه. انتهى.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البر رحمه الله 22/ 153 - 154.

(3)

"شرح النووي" 7/ 90.

ص: 313

وقال الشوكانيّ رحمه الله: وأحاديث الباب تدلّ على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها، فيُخَصَّص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد، وقد ثبتٌ أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها.

وقد اختُلِف في غير الصدقة من أعمال البرّ، هل يصل إلى الميت؟ فذهبت المعتزلة إلى أنه لا يصل إليه شيء، واستدلوا بعموم الآية، وقال في "شرح الكنز": إن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة كان، أو صومًا، أو حجًّا، أو صدقة، أو قراءةَ قرآن، أو غير ذلك من جميع أنواع البرّ، وَيصِلُ ذلك إلى الميت، وينفعه عند أهل السنة. انتهى.

والمشهور من مذهب الشافعي وجماعة من أصحابه أنه لا يصل إلى الميت ثواب قراءة القرآن، وذهب أحمد بن حنبل، وجماعة من العلماء، وجماعة من أصحاب الشافعيّ إلى أنه يصل، كذا ذكره النوويّ في "الأذكار".

وفي "شرح المنهاج " لابن النحويّ: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور، والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغي الجزم به؛ لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعي، فلأن يجوز بما هو له أولى، ويبقى الأمر فيه موقوفًا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يختص بالقراءة، بل يجري في سائر الأعمال، والظاهر أن الدعاء مُتَفق عليه أنه ينفع الميت والحي القريب والبعيد، بوصية وغيرها، وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء أن يدعو لأخيه بظهر الغيب. انتهى.

وقد حَكَى النوويّ في "شرح مسلم" الإجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حَكَى أيضًا الإجماع على أن الصدقة تقع عن الميت، ويصل ثوابها، ولم يقيد ذلك بالولد، وحَكَى أيضًا الإجماع على لحوق قضاء الدين.

قال الشوكانيّ رحمه الله: والحق أنه يُخَصَّص عموم الآية بالصدقة من الولد، كما في أحاديث الباب، وبالحج من الولد، كما في خبر الخثعمية، ومن غير

ص: 314

الولد أيضًا، كما في حديث المحرم عن أخيه شُبْرُمة، ولم يستفصله صلى الله عليه وسلم، هل أوصى شُبْرُمةُ أم لا؟، وبالعتق من الولد، كما وقع في البخاريّ في حديث سعد، خلافًا للمالكية على المشهور عندهم، وبالصلاة من الولد أيضًا؛ لما رَوَى الدارقطنيّ أن رجلًا قال: يا رسول الله إنه كان لي أبوان أبرّهما في حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك".

قال الجامع عفا الله عنه: حديث: "إن من البرّ

إلخ " ضعيف؛ لانقطاع سنده، كما تقدّم تحقيقه في "شرح المقدّمة"، فتنبّه.

قال: وبالصيام من الولد؛ لهذا الحديث

(1)

، ولحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

(2)

.

ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاريّ ومسلم: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت، وعليها صوم نذر؟، فقال:"أرأيت أَبُو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدِّي ذلك عنها؟ " قالت: نعم، قال:"فصومي عن أمك".

وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذيّ من حديث بُريدة رضي الله عنه أن امرأة قالت: إنه كان على أمي صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال:"صومي عنها".

ومن غير الولد أيضا؛ لحديث: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه"، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.

وبقراءة {يس (1)} من الولد وغيره؛ لحديث: "اقرؤوا على موتاكم يس".

قال الجامع عفا الله عنه: حديث "اقرؤوا على موتاكم يس" أخرجه

(1)

أي: حديث: "إن من البرّ بعد البرّ إلخ".

(2)

هو ما أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"(6665)، وأبو داود في "سننه"(2883) بإسناد صحيح، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يَنْحَر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنةَ، وأن عمرًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك".

ص: 315

أحمد، وأبو داود، وهو ضعيفٌ؛ لأن في سنده أبا عثمان رجل مجهول، كما قال ابن المدينيّ وغيره، فتنبّه.

قال: وبالدعاء من الولد؛ لحديث: "أو ولد صالح يدعو له"، ومن غيره؛ لحديث:"استغفروا لأخيكم، وسَلُوا له التثبيت، فإنه الَان يسأل"، أخرجه أبو داود بإسناد حسن، ولحديث فضل الدعاء للأخ بظهر الغيب، ولقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية [الحشر: 10]، ولما ثبتٌ من الدعاء للميت عند الزيارة، كحديث بُريدة عند مسلم، وأحمد، وابن ماجه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، هانا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".

وبجميع ما يفعله الولد لوالديه، من أعمال البر؛ لحديث:"ولدُ الإنسان من كسبه"، أخرجه أحمد، وأصحاب "السنن" بإسناد صحيح.

وكما تُخَصِّص هذه الأحاديث الآية المتقدمة، كذلك يُخَصَّصُ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم، وأهل "السنن" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فإنه ظاهره أنه ينقطع عنه ما عدا هذه الثلاثة كائنًا ما كان.

وقد قيل: إنه يقاس على هذه المواضع التي وردت بها الأدلة غيرُها، فَيَلْحَق الميت كلُّ شيء فعله غيره.

وقال في "شرح الكنز": إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية [الطور: 21].

وقيل: الإنسان أريد به الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى إخوانه.

وقيل: ليس له من طريق العدل، وهو له من طريق الفضل، وقيل: اللام بمعنى "على" كما في قوله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} الآية [غافر: 52]؛ أي: وعليهم. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله بزيادة

(1)

.

(1)

راجع: "نيل الواطار" 4/ 142 - 143.

ص: 316

وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في تحقيق هذه المسألة، ودونك نصّ البحث في "مجموع الفتاوى":

وسئل رحمه الله عن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فهل يقتضي ذلك إذا مات لا يصلُ إليه شيء من أفعال البر؟.

فأجاب: الحمد لله رب العالمين، ليس في الآية، ولا في الحديث أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له، وبما يُعمَل عنه من البرّ، بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك، وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دَلَّ عليه الكتاب، والسنة، والإجماع، فمَن خالف ذلك كان من أهل البدع.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} الآية [غافر: 7].

فقد أخبر سبحانه أن الملائكة يدعون للمؤمنين بالمغفرة، ووقاية العذاب، ودخول الجنة، ودعاء الملائكة ليس عملًا للعبد.

وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، وقال الخليل عليه السلام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 41]، وقال نوح عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [نوح: 28]، فقد ذكر استغفار الرسل للمؤمنين أمرًا بذلك، وإخبارًا عنهم بذلك.

ومن السنن المتواترة التي من جحدها كَفَرَ صلاة المسلمين على الميت، ودعاؤهم له في الصلاة، وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإن السنن فيها متواترةٌ، بل لم ينكر شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر إلا أهل البدع، بل قد ثبتٌ أنه يشفع لأهل الكبائر، وشفاعته دعاؤه، وسؤاله الله تبارك وتعالى، فهذا وأمثاله من القرآن، والسنن المتواترة، وجاحد مثل ذلك كافرٌ بعد قيام الحجة عليه.

والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرةٌ، مثل ما في الصحاح عن ابن

ص: 317

عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال:"نعم"، قال: إن لي مَخْرَفًا -أي: بستانًا- أشهدكم أني تصدقت به عنها.

وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتُلِتت نفسُها، ولم توص، وأظنها أَبُو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقت عنها؟ قال:"نعم".

وفي "صحيح مسلم" عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات، ولم يوص أينفعه إن تصدقت عنه؟ قال:"نعم".

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نَحَر حصته خمسين، وأن عمرًا سال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"أما أبوك فلو أقرّ بالتوحيد، فصمت عنه، أو تصدقت عنه، نفعه ذلك"

(1)

.

وفي "سنن الدارقطنيّ" أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه كان لي أبوان، وكنت أبرّهما حال حياتهما، فكيف لي ببرّهما بعد موتهما؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن من البرّ بعد البرّ أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدّق لهما مع صدقتك".

وقد ذكر مسلم في أول كتابه، عن أبي إسحاق الطالقانيّ، قال: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: ة إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك "؟

(2)

قال عبد الله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قلت له: هذا من حديث شهاب بن خِرَاش، قال: ثقةٌ، قال: عمن؟ قالت: عن الحجاج بن دينار، فقال: ثقةٌ، قال: عمن؟ قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تقطع فيها أعناق المطيّ، ولكن ليس في الصدقة اختلاف، والأمر كما ذكره عبد الله بن المبارك، فمان هذا الحديث مرسل.

والأئمة اتفقوا على أن الصدقة تَصِلُ إلى الميت، وكذلك العبادات المالية، كالعتق، صوانما تنازعوا في العبادات البدنية، كالصلاة، والصيام،

(1)

تقدّم أنه حديث صحيح.

(2)

تقدّم أنه ضعيف؛ للانقطاع.

ص: 318

والقراءة، ومع هذا ففي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من مات وعليه صيام، صام عنه وليّه".

وفي "الصحيحين"، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر؟، قال:"أرأيتِ إن كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدِّي ذلك عنها؟ " قالت: نعم، قال:"فصومي عن أمك".

وفي "الصحيح" عنه أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين؟، قال:"أرأيتِ أَبُو كان على أختك دين، أكنت تقضيه؟ " قالت: نعم، قال:"فحقُّ الله أحقّ".

وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن بُريدة بن حصيب، عن أبيه أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفيجزي عنها أن أصوم عنها؟ قال:"نعم".

فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أنه يصام عن الميت ما نَذَر، وأنه شَبَّهَ ذلك بقضاء الدين، والأئمة تنازعوا في ذلك، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة مَن بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه، وقد تقدَّم حديث عمرو رضي الله عنه بأنهم إذا صاموا عن المسلم نفعه، وأما الحج فيجزي عند عامتهم، ليس فيه إلا اختلاف شاذّ.

وفي "الصحيحين" عنِ ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نَذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال:"حجي عنها، أرأيت أَبُو كان على أمك دين، أكنت قاضيته عنها؟، اقضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء".

وفى رواية البخاريّ: "إن أختي نذرت أن تحج"، وفى "صحيح مسلم" عن بُرَيدة رضي الله عنه أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت، ولم تحج، أفيجزي أو يقضي أن أحج عنها" قال:"نعم".

ففي هذه الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بحج الفرض عن الميت، وبحج النذر، كما أمر بالصيام، وأن المأمور تارة يكون ولدًا، وتارة يكون أخًا، وشَئه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك بالذين يكون على الميت، والدَّين يصح قضاؤه من

ص: 319

كل أحد، فدلّ على أنه يجوز أن يُفعل ذلك من كل أحد، لا يختص ذلك بالولد، كما جاء مصرحاً به في الأخ.

فهذا الذي ثبتٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع عِلْمٌ مُفَصَّل مُبَيَّن، فعُلم أن ذلك لا ينافي قوله:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث

"، بل هذا حقّ، وهذا حق.

أما الحديث فإنه قال: "انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علم يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له"، فذكر الولد ودعاؤه له خاصين؛ لأن الولد من كسبه، كما قال:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد: 2]، قالوا: إنه ولده، وكما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"

(1)

، فلما كان هو الساعي في وجود الولد، كان عمله من كسبه، بخلاف الأخ، والعم، والأب، ونحوهم، فإنه ينتفع أيضًا بدعائهم، بل بدعاء الأجانب، لكن ليس ذلك من عمله، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"انقطع عمله إلا من ثلاث"، لم يقل: إنه لم ينتفع بعمل غيره، فإذا دعا له ولده كان هذا من عمله الذي لم ينقطع، وإذا دعا له غيره لم يكن من عمله، لكنه ينتفع به.

وأما الآية فللناس عنها أجوبة متعددةٌ، كما قيل: إنها تختص بشرع من قبلنا، وقيل: إنها مخصوصة، وقيل: إنها منسوخةٌ، وقيل: إنها تنال السعي مباشرة وسببًا، والإيمان من سعيه الذي تسبب فيه، ولا يحتاج إلى شيء من ذلك، بل ظاهر الآية حقّ، لا يخالف بقية النصوص، فإنه قال:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وهذا حق، فإنه إنما يستحق سعيه، فهو الذي يملكه وششحقه، كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو، وأما سعي غيره فهو حقّ وملك لذلك الغير لا له، لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره، كما ينتفع الرجل بكسب غيره.

فـ"من صلى على جنازة فله قيراط"، فيثاب المصلي على سعيه الذي هو صلاته، والميتُ أيضًا يُرْحَم بصلاة الحيّ عليه، كما قال:"ما من مسلم يموت، فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة"، وُيرْوَى

(1)

تقدّم أنه صحيح.

ص: 320

"أربعين"، ويُروى "ثلاثة صفوف، ويشفعون فيه إلا شفّعوا فيه"، أو قال:"إلا غُفِر له"، فالله تعالى يثيب هذا الساعي على سعيه الذي هو له، ويرحم ذلك الميت بسعي هذا الحيّ لدعائه له، وصدقته عنه، وصيامه عنه، وحجه عنه.

وقد ثبتٌ في "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من جل يدعو لأخيه دعوةً إلا وكل الله به ملكًا كلما دعا لأخيه دعوةً قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله"، فهذا من السعي الذي ينفع به المؤمن أخاه، يثيب الله هذا، ويرحم هذا، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وليس كل ما ينتفع به الميت أو الحيّ أو يرحم به يكون من سعيه، بل أطفال المؤمنين يدخلون الجنة مع آبائهم بلا سعي، فالذي لم يجز إلا به أخصّ من كل انتفاع؛ لئلا يطلب الإنسان الثواب على غير عمله، وهو كالدَّين يوفيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، لكن ليس له ما وفى به الدَّين، وينبغي له أن يكون هو الموفي له، والله أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيش جدًّا.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي ظهر لي بعد النظر فيما سبق من أقوال أهل العلم وأدلّتهم أن ما جاء النصّ بمشروعيّته، كالصدقة، والعتق، والحجّ، والصوم، والدعاء فالحقّ أنه يصل إلى الميت؛ عملًا بالنصوص الكثيرة الواردة بذلك، وأما ما لم يرد النصّ بمشروعيّته، كقراءة القرآن، ونحو ذلك، فلا ينبغي قياسه على المشروع؛ لعدم ثبوته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، ومع ذلك فلم يُنقل عنهم، فتبصّر بالإنصاف، وقد تقدّم هذا التحقيق في "شرح المقدّمة"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2327]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا أَبو أسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَني عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ

(1)

"مجموع الفتاوى" 24/ 306 - 313.

(2)

راجع: "قرّة عين المحتاج" 2/ 88 - 89.

ص: 321

مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثنا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ، كلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أسَامَةَ:"وَلَمْ تُوصِ"، كَمَا قَالَ ابْنُ بِشْرٍ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْبَاقُونَ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يَحْيى بْنُ سَعِيًدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 2.

4 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير البغداديّ، أبو صالح الْقَنْطريّ، ثقةٌ [10](ت 232) خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

5 -

(شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن عبد الرحمن الأمويّ مولاهم البصريّ، ثم الدمشقيّ، ثقةٌ، رُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 189)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1418.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإسنادِ) الضمير ليحيى القطّان، وأبي أسامة، وعليّ بن مُسهر، وشُعيب بن إسحاق، كلّ هؤلاء الأربعة رووا عن هشام بن عروة بسنده الماضي.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان، عن هشام، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(23730)

- حدّثنا يحيى، قال: أخبرنا هشام، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرتني عائشة، أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن أمي افتُلِتَتْ نفسُها، وأظنها أَبُو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن أتصدق عنها؟ قال:"نعم". انتهى.

وأما رواية أبي أسامة، عن هشام، فساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2717)

- حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمي افتُلِتَتْ

ص: 322

نفسُها، ولم توص، وإني أظنها أَبُو تكلمت لتصدقت، فلها أجر إن تصدقت عنها؟ ولي أجر؟ قال:"نعم". انتهى.

وأما رواية عليّ بن مسهر، عن هشام، فلم أر من ساقها، فليُنظر.

وأما رواية شعيب بن إسحاق، عن هشام، فساقها أبو نعيم في "مستخرجه" متابعةً، فقال (3/ 84):

(2254)

- حدّثنا جعفر بن محمد، ثنا أبو حصين الوادعيّ، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا عبد العزيز، عن هشام بن عروة، عن أبيه (ح) وثنا أبو بكر بن مالك، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا هشام، أخبرني أبي، أخبرتني عائشة، أن رجلًا قال (ح) وثنا محمد بن إبراهيم، ثنا سعيد بن هشام، ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم، ثنا شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أمي افتُلِتَت، وأظنها أَبُو تكلمت لتصدقت، فهل من أجر أن أتصدق عنها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نعم"، قال: لفظ عبد العزيز

(1)

. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(16) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَة)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2328]

(1005) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، فِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ قَالَ: قَالَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَة").

(1)

أي: هذا السياق سياق عبد العزيز، عن هشام، وأما الباقون فرووه بالمعنى.

ص: 323

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

4 -

(عَبَّاد بْنُ الْعَوَّامِ) بن عمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقةٌ [8](ت 185) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 439.

5 -

(أَبُو مَالِكٍ الْأَشجَعِيُّ) سعد بن طارق الكوفيّ، ثقةٌ [4] مات في حدود (140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

6 -

(رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ) -بكسر الحاء المهملة- العبسيّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مخضرم [2](ت 100) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

7 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حُسيل، أو حِسْل العبسيّ، حليف الأنصار الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه، مات سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 2 ص 457.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأبو مالك علّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن السند الثاني مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، كما صحّ ذلك في "صحيح مسلم".

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) بن اليمان رضي الله عنهما (فِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ) بن سعيد شيخه الأول

ص: 324

(قَالَ) أي: حذيفة رضي الله عنه (قَالَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْيَةَ) شيخه الثاني (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) غرض المصنّف رحمه الله بهذا بيان اختلاف شيخيه في صيغتي الأداء، فقتيبة قال في روايته:"عن حذيفة قال: قال نبيّكم صلى الله عليه وسلم" وأما أبو بكر بن أبي شيبة فقال في روايته: "عن حُذيفة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم" أنه (قَالَ: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ") مبتدأ وخبره؛ أي: كلّ شيء عُرِف شرعًا بأنه من أعمال البرّ، فله حكم الصدقة بالمال في الثواب، فلا ينبغي أن يحتقر الإنسان شيئًا من المعروف، ولا أن يبخل به.

وقال ابن بطال رحمه الله: دل هذا الحديث على أن كل شيء يفعله المرء، أو يقوله من الخير، يكتب له به صدقة، وقد فُسِّر ذلك في حديث أبي موسى المذكور في الباب بعد أربعة أحاديث، وزاد عليه أن الإمساك عن الشر صدقة.

وقال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: المعروف اسم كُلِّ فعل يُعْرَف حسنهُ بالشرع والعقل معًا، ويُطْلَق على الاقتصاد؛ لثبوت النهي عن السَّرَف.

وقال ابن أبي جمرة: يُطْلَق اسم المعروف على ما عُرِف بأدلة الشرع أنه من أعمال البرّ، سوا: جرت به العادة أم لا؟، قال: والمراد بالصدقة الثواب، فإن قارنته النية أُجِر صاحبه جزمًا، وإلا ففيه احتمالٌ، قال: وفي هذا الكلام إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الأمر المحسوس منه، فلا تختص بأهل اليسار مثلًا، بل كل واحد قادرٌ على أن يفعلها في أكثر الأحوال بغير مشقة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد أخرجه البخاريّ من حديث جابر رضي الله عنه، فقال في "كتاب الأدب" من "صحيحه":

(5675)

- حدّثنا عَلِيُّ بن عَيَّاشٍ، حدّثنا أبو غَسَّانَ، قال: حدّثني

(1)

راجع: "الفتح" 10/ 447.

ص: 325

محمد بن الْمُنْكَدِرِ، عن جَابِرِ بن عبد اللهِ رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كُلُّ مَعْرُوفِ صَدَقَةٌ". انتهى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2328](1005)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(233)، و (أبو داود) في "الأدب"(4947)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 548)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 383 و 397 و 398 و 405)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3378)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 85)، وفي "الحلية"(7/ 194)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 188)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2329]

(1006) - (حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي ذَّرٍّ، أَن نَاسًا

(1)

مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلَي، ويَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ:"أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِن بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُل تَكْبِيرةٍ صَدَقَةً، وَكُل تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَة، وَنَهْيٌّ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَة، وَفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَة"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أيأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا: في الْحَلَالِ، كانَ لَهُ أَجْرًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

(1)

وفي نسخة: "أناسًا".

ص: 326

2 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَليّ، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

3 -

(وَاصِلٌ، مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ) البصريّ، صدوقٌ عابدٌ [6](بخ م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 13/ 1237.

4 -

(يَحْيى بْنُ عُقَيْلٍ) -بالتصغير- البصريّ، نزيل مَرْوَ، صدوقٌ [3](بخ م في س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 13/ 1237.

5 -

(يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ) البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ فصيحٌ، يرسل [3] مات قبل المائة، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

6 -

(أَبُو الْأَسْوَدِ الدِّيلِيُّ) ويقال: الدُّؤَليّ البصريّ، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، وقيل: غير ذلك، ثقةٌ مخضرم فاضلٌ [2](ت 69)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

7 -

(أَبُو ذَرٍّ) الغفاريّ جُنْدُب بن جُنادة على الأصحّ الصحابيّ الشهير، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، مات رضي الله عنه سنة (32) في خلافة عثمان رضي الله عنه (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين، روى بعضهم، عن بعض: يحيى بن عُقيل، عن يحعى بن يعمر، عن أبي الأسود، ورواية الأوَّلَين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الثالثة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي ذَزّ) جُندُب بن جُنادة الغفاريّ رضي الله عنه (أَنَّ نَاسًا) وفي نسخة: "أناسًا"(مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ)"الدُّثُور" بضمّ الدال: جمع دَثْر بفتحها، وهو المال الكثير (يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَبَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالهِمْ، قَالَ: "أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟) قال النوويّ رحمه الله: الرواية فيه بتشديد الصاد

ص: 327

والدال جميعًا، ويجوز في اللغة تخفيف الصاد. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: يَحْتَمِل تسمية هذه الأشياء صدقةً أن لها أجرًا كما للصدقة أجرٌ، وأن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجور، وسماها صدقةً على طريق المقابلة، وتجنيس الكلام، أو يكون سمّاها من معناها؛ إذ في اسم الصدقة ما يدلُّ على صدق إيمان العبد وصحّته، وقيل: معناه أنها صدقة على نفسه؛ أي: بهذه الحسنات. انتهى

(2)

. وقال القرطبيّ رحمه الله: مقصود هذا الحديث أن أعمال الخير إذا حسُنت النيّات فيها تنزلت منزلة الصدقات في الأجور، ولا سيّما في حقّ من لا يقدر على الصدقة، ويُفهَم منه أن الصدقة في حقّ القادر عليها أفضل له من سائر الأعمال القاصرة على فاعلها. انتهى

(3)

.

(إِن بِكُل تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً) قال النوويّ رحمه الله: رويناه بوجهين: رفع "صدقة"، ونصبه، فالرفع على الاستئناف، والنصب عطف على "إنَّ بكل تسبيحة صدقةً". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما يوجّه به النصب أن يكون قوله: "وكلِّ تكبيرةٍ" مجرورًا عطفًا على "بكلّ تسبيحة"، و"صدقةً" منصوب عطفًا على "صدقةً" الأولى، فيكون من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين؛ لأن الواو نائب مَنَابَ "إِنَّ"، والباءِ، وفيه الخلاف بين النحاة، كما هو معلوم في محلّه، وقد لخّص اختلافهم شيخنا المناسيّ رحمه الله في "نظم المغني"، حيث قال:

وَإِنْ عَلَى مَعْمُولَي الْعَامِلِ جَا

عَطْفٌ فَجَائِزٌ لَدَى ذَوِي الْحَجَا

وَإِنْ لِعَامِلَيْنِ فَالنَّاسُ اخْتَلَفْ

قَالَ ابْنُ مَالِكٍ نَهَى كُلُّ السَّلَفْ

إِنْ لَمْ يَكُ الْمَجْرُورُ فِي الْمَعْطُوفِ جَا

وَالْفَارِسِيْ جَوَازَهُ قَدْ أَخْرَجَا

أَيْ مُطْلَقًا عَنْ أُمَّةٍ مِنْهُمْ يُعَدْ

أَخْفَشُهُمْ بِقِيلَ مَرْوِيًّا وَرَدْ

وَإِنْ يَكُ الْمَجْرُورُ مَعْ تَأَخُّرِ

فَمَنْعُهُ أَشْهَرُ عِنْدَ الأَكْثَرِ

وَإِنْ يَكُنْ مُقَدَّمًا

فَالأَشْهَرُ لِسِيبَوَيْهِ مَنْعُهُ مُقَرَّرُ

كَذَا الْمُبَرِّدُ مَعَ السَّرَّاجِ

هِشَامُهُمْ أَيْضًا بِذَا الْمِنْهَاجِ

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 91.

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 3/ 526.

(3)

"المفهم" 3/ 51.

ص: 328

وَالأَخْفَشُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ

كَذَا الْكِسَائِي بِالْجَوَازِ حَاجُوا

(1)

وَاشْتَرَطَ الأَعْلَمُ مَعْ جَمَاعَةِ

أَنْ يَلِيَ الْمَجْرُورُ لِلْعَاطِفَةِ

وَالْعَطْفُ مَمْنُوعٌ بِغَيْرِ مَيْنِ

مَعْ عَامِل أَكْثَرَ مِنْ اِثْنَيْنِ

(2)

وإن أردت تفصيل معاني الأبيات، وتحقيق المسألة، فارجع إلى شرحي المسمّى "فتح القريب المجيب في شرح مُدْني الحبيب"

(3)

، تزدد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.

وإعراب قوله: (وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً) كإعراب ما قبله.

(وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَة، وَنَهْيٌّ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَة) قال الطيبيّ رحمه الله: أسقط المضاف هنا إما اعتمادًا على السابق، ويدلّ عليه رواية الجرّ، أو قطعًا له عن ذلك الحكم، وأن قليلًا من هذا النوع يقوم مقام تلك الأمور السابقة، فكيف بالكثير؟. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولهذا نَكَّره، والثواب في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل؛ لأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد يتعين، ولا يُتَصَوَّرُ وقوعه نفلًا، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل، ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل؛ لقوله عز وجل في الحديث القدسيّ:"وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ من أداء ما افترضت عليه"، رواه البخاريّ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ونقل إمام الحرمين عن بعضهم أن ثواب الفرض يزيد على ثواب النافلة بسبعين درجة. انتهى

(5)

.

(وَفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ")"البُضْعُ" بضمّ الموحّدة: الجماع، وأصله الفرج، قال الأصمعيّ: يقال: ملك فلان بُضع فلانة: إذا ملك عَقْدَ نكاحها،

(1)

بتخفيف الجيم للوزن.

(2)

بقطع الهمزة للوزن.

(3)

راجع: 2/ 177 - 181.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1546.

(5)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 92.

ص: 329

وهو كناية عن موضع الْغَشَيان، والمباضعة: المباشرة، والاسم الْبُضع، وفيه دليلٌ على أن النيّات الصادقات تَصْرِف المباحات إلى الطاعات، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الْبُضْعُ" بضم الباء، يطلق على الجماع، ويطلق على الفرج نفسِهِ، وكلاهما تصحّ إرادته هنا، وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقّ الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسِهِ، أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعًا من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهمّ به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة. انتهى

(2)

.

وقال في "المرعاة": في إدخال "في" في قوله: "وفي بُضع أحدكم" إشارة إلى أن ذاته ليست صدقةً، بل ما تضمّنه من التحصين، وأداء حقّ الزوجة، وطلب الولد الصالح، وأما الأمور المذكورة قبله فذواتها صدقة؛ لأنها أذكار وقربات. انتهى بتصرّف

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الباء في قوله: "إن بكلّ تسبيحة صدقةً" بمعنى "في"، وإنما أعيدت في قوله:"وفي بضع أحدكم"؛ لأن هذا النوع من الصدقة أغرب من الكلّ، حيث جُعل قضاء الشهوة بهذا الطريق مكانًا للصدقة، ومقرّها. انتهى بتصرّف

(4)

.

(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أيأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا استفهام من استَبْعَدَ حصولَ أجرٍ بفعل مُستلذّ يحُثّ الطبع عليه، وكأن هذا الاستبعاد إنما وقع من تصفّح الأكثر من الشريعة، وهو أن الأجور إنما تحصُل في العبادات الشاقّة على النفوس المخالفة لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أجابهم على هذا بقياس العكس، فقال: "أرأيتم لو وضعها في حرام

إلخ"، ونظمه: كما يأثم في ارتكاب الحرام يؤجر في فعل الحلال، وحاصله راجع إلى إعطاء كل واحد من المتقابلين ما يُقابَل به الآخرُ من الذوات والأحكام،

(1)

"المفهم 3/ 52.

(2)

"شرح النووي" 7/ 92.

(3)

راجع: "المرعاة" 6/ 333.

(4)

راجع: "الكاشف" 5/ 1547.

ص: 330

وقد اختَلَف الأصوليّون في هذا النوع من القياس، هل يُعمل به أم لا؟ على قولين، وهذا الحديث حجة لصحّة العمل بهذا النوع. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (أَرَأَيْتُمْ) أي: أخبروني (لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَام، أكانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟) قال الطيبيّ رحمه الله: أقحم همزة الاستفهام على سبيل التقرير بين "لو" وجوابها تأكيدًا للاستخبار في قوله: "أرأيتم". انتهى

(2)

. (فَكَذَلِكَ اِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرًا") قال النوويّ رحمه الله: ضبطنا "أجرًا" بالنصب والرفع، وهما ظاهران. انتهى.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2329](1006) وقد تقدّم بسياق آخر مختصرًا في "كتاب صلاة المسافرين وقصرها" برقم [1671]، (720)، و (أبو داود) في "الأدب"(5243 و 5244)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 167 و 168)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(838)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2121)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1627)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن كلّ نوع من المعروف صدقةٌ.

2 -

(ومنها): بيان فضيلة التسبيح، وسائر الأذكار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحضار النية في المباحات.

3 -

(ومنها): ذكر العالم دليلًا لبعض المسائل التي تَخْفَى.

4 -

(ومنها): تنبيه المفتي على مختصر الأدلة.

(1)

"المفهم" 3/ 52.

(2)

"المفهم" 3/ 1547.

ص: 331

5 -

(ومنها): جواز سؤال المستفتي عن بعض ما يَخْفَى من الدليل؛ إذا عَلِم من حال المسئول أنه لا يَكْرَه ذلك، ولم يكن فيه سوء أدب.

6 -

(ومنها): جواز القياس، وهو مذهب العلماء كافّةً، ولم يخالف فيه إلا أهل الظاهر، وذكر ابن تيميّة رحمه الله أن هذا من بِدَعهم، قال النوويّ رحمه الله: وأما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذمّ القياس فليس المراد به القياس الذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختَلَف الأصوليون في العمل به وهذا الحديث دليل لمن عمل به، وهو الأصح. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكناب قال:

[2330]

(1007) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِي، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدٍ، أنَهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ يَقُولُ: حَدّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرُّوخَ، أنَهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكةً، أَوْ عَظْمًا، عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِ مِائَةِ السُّلَامَى، فَإنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ"، قَالَ أَبو تَوْبَةَ: وَرُبَّمَا قَالَ

(1)

: "يُمْسِي").

رجال الإسناد: سبعة:

1 -

(حَسَنُ بْنُ عَلِي الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ) الحلبيّ، نزيل طَرَسُوس، ثقةٌ حجةٌ عابدٌ [10](ت 241)(خ م د س ق) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

(1)

وفي نسخة: "وربما قالت".

ص: 332

3 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ سَلَّامٍ) بتشديد اللام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حِمْصَ، ثقةَ [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

4 -

(زَيْدُ) بن سلّام بن أبي سلّام الدمشقيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

5 -

(أَبُو سَلَّام) ممطور الأسود الْحَبَشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ يرسل [3](بخ م 4) تقدم في "الطهارة 1/ 540.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرُّوخَ) القُرشيّ التيميّ مولى عائشة رضي الله عنهما المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3].

رَوَى عن عائشة، وأبي هريرة، وروى عنه شداد بن عمار، وأبو سلام الحبشيّ، ومبارك بن أبي حمزة الزبيريّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: مجهول، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ، ثقةٌ. روى له مسلم حديثين وأخرج أبو داود أحدهما وهو أنا سيد ولد آدم والآخر في الذكر بعدد المفاصل أخرج له المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1007)، وحديث (2278): "أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة

".

7 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالدمشقيين، سوى شيخه، فحلوانيّ، ثم مكيّ، وأبي توبة، فحلبيّ، ثم طَرَسُوسيّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع، إلا في موضع.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن أخيه، عن أبيهما.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبو سلّام، عن ابن فرّوخ، وهو من رواية الأقران.

شرح الحديث:

عن عَبْدِ اللهِ بْنِ فَرُّوخَ (أنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: إن الأمر والشأن (خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ) ببناء الفعل

ص: 333

للمفعول (مِنْ بَنِي آدَمَ) بيان لإفادة التعميم (عَلَى سِتَينَ وَثَلَاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ) بالإضافة، وهو بفتح الميم، وكسر الصاد: مُلتقى العظمين في البدن، وقال الفيّوميّ-رحمه الله: الْمَفْصِلُ وزانُ مسجد أحد مفاصل الأعضاء. انتهى. وقال القرطبيّ رحمه الله: المفاصل هي العظام التي ينفصل بعضها من بعض. انتهى

(1)

. (فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ) أي: عظّمه، أو قال: الله أكبر، قاله القاري (وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ) أي: وحّده، أو قال: لا إله إلا الله (وَسَبّحَ اللهَ) أي: نزّهه عما لا يليق به من الصفات، أو قال: سبحان الله (وَاستَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا) من باب ضرب: أي: نحّاه، وأزاله (عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً، أَوْ عَظْمًا)"أو" للتنويع (عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ) بصيغة الماضي، وكذا ما بعده (بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَددَ تِلْكَ السِّتِّينَ) أي: بعددها، فهو منصوب بنزع الخافض كتعلّق بالأذكار وما بعدها، أو بفعل مقدّر؛ يعني: من فعل الخيرات المذكورة ونحوها عدد تلك الستين (وَالثَّلَاثِ مِائَةِ) بإضافة "ثلاث" إلى "مائة" مع تعريف الأول، وتنكير الثاني، والمعروف لأهل العربيّة عكسه، وهو تنكير الأول، وتعريف الثاني.

وأجيب بأن الألف واللام زائدتان، فلا اعتداد بدخولهما، قال الطيبيّ رحمه الله: ولو ذُهب إلى أن التعريف بعد الإضافة كما في الخمسة عشر بعد التركيب لكان وجهًا حسنًا، وقيل:"مائةً" منصوب على التمييز على قول بعض أهل العربيّة

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والثلاثمائةٍ السُّلامَى" كذا وقعت الرواية، وصوابه في العربيّة "ثلاثمائةٍ السُّلامَى"؛ لأنه لا يُجمع بين الألف واللام والإضافة إلا في الإضافة غير المحضة بشرط دخول الألف واللام على المضاف والمضاف إليه. انتهى

(3)

.

وقوله: (السُّلَامَى) بدل من "الثلاثمائة والستّين"، وهو بضمّ السين

(1)

"المفهم" 3/ 53.

(2)

"الكاشف" 5/ 1545 - 1546.

(3)

"المفهم" 3/ 53.

ص: 334

المهملة، وتخفيف اللام، وهو المفصل، وجمعه سُلامَيات بفتح الميم، وتخفيف الياء، قال النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: السُّلامَى أُنثى، قال الخليل: هي عظام الأصابع، وزاد الزجّاج على ذلك، فقال: وتُسمَّى الْقَصَبَ أيضًا، وقال قُطْرُبٌ: السُّلامَيَاتُ: عروقُ ظاهر الكفّ والقدم. انتهى

(2)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: السُّلامَى: جمع سُلاميةٍ، وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل: واحدة وجمعه سواءٌ، ويُجمع على سُلامَيَاتٍ، وهي التي بين كل مَفْصِلين من أصابع الإنسان، وقيل: السلامَى كلُّ عظم مُجَوَّفٍ من صغار العظام، والمعنى: على كلّ عظم من عظام ابن آدم صدقٌ، وقيل: إن آخر ما يبقى فيه المخّ من البعير إذا عَجفَ السُّلامَى والعينُ، قال أبو عُبيد: هو عظمٌ يكون في فِرْسِنِ البعير. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ومقصود هذا الحديث أن العظام التي في الإنسان هي أصل وجوده، وبها حصول منافعه؛ إذ لا تتأتّى الحركاتُ والسكناتُ إلا بها، والأعصابُ رباطات، واللحوم والجلود حافظاتٌ وممكِّناتٌ، فهي إذاً أعظم نِعَمِ الله تعالى على الإنسان، وحقُّ الْمُنْعَم عليه أن يقابل كلَّ نعمة منها بشكر يخصّها، وهو أن يُعطي صدقةً كما أعطي منفعةً، لكن الله تعالى لَطَفَ وخَفَّفَ بأن جعل التسبيحة الواحدة كالعطيّة، وكذلك التحميدةُ، وغيرها من أعمال البرّ وأقواله، وإن قلّ مقدارها، وأَتَمَّ تَمَامَ الفضل أن اكتَفَى من ذلك كلّه بركعتين في الضحى، على ما مرّ، وقد نبّهنا على سرّ ذلك في "باب صلاة الضحى". انتهى

(4)

.

قمال الجامع عفا الله عنه: أشار بقوله: "بركعتين في الضحى" إلى ما تقدّم للمصنّف في "باب صلاة الضحى"

(5)

، عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 93.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 287.

(3)

"النهاية" 2/ 396.

(4)

"المفهم" 3/ 53.

(5)

تقدّم برقم [15/ 1671](720).

ص: 335

"يُصْبِح على كل سُلامَى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحة صدقةٌ، وكل تحميدة صدقةٌ، وكل تهليلة صدقةٌ، وكل تكبيرة صدقةٌ، وأمر بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".

(فإنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ) أي: وقتَ إذ فَعَلَ ذلك (وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ) أي: باعدها، ونَحّاها (عَنِ النَّارِ"، قَالَ أَبُو تَوْبَةَ) الربيع بن نافع شيخه الثاني في روايته: (وَرُبَّمَا قَالَ) وفي نسخة: "قالت" والضمير لعائشة رضي الله عنها (يُمْسِي) غرض المصنّف رحمه الله بهذا بيان اختلاف شيخيه في كلمة "يمشي"، فقال الحسن الحلوانيّ:"يمشي" بفتح أوله، وبالشين المعجمة، من المشي، وهو الذهاب، وقال أبو توبة:"يُمسي" بضمّ أوله، وبالسين المهملة، من الإمساء، وهو الدخول في وقت المساء.

وقال النوويّ رحمه الله: ووقع لأكثر رواة "كتاب مسلم" الأول "يَمْشِي" بفتح الياء، وبالشين المعجمة، والثاني بضمها، وبالسين المهملة، ولبعضهم عكسه، وكلاهما صحيح، وأما قوله بعده في رواية الدارميّ، وقال:"إنه يُمْسِي" فبالمهملة لا غير. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2330 و 2331 و 2332](1007)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 86)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 209)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 188)، وأما فوائده فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 93 - 94.

ص: 336

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2331]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَني مُعَاوِيَةُ، أَخْبَرَنِي أَخِي زيدٌ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ"، وَقَالَ: "فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

أ- (عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنْديّ الحافظ الثقةٌ الفاضل المتقن [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) البصريّ، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208)(خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن حسّان، عن معاوية بن سلّام هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2332]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّئَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثنَا عَلِيُّ، يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ، حَدَّثنا يَحْيَى، عَنْ زيدِ بْنِ سَلَّام، عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرُّوخَ، أنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَ كُل إِنْسَانٍ

"، بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ زَيْدٍ، وَقَالَ: "فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أبو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ كَثِيرِ) بن دِرْهَم الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو غسّان البصريّ، خراسانيّ الأصل، ثقةٌ [9].

ص: 337

رَوَى عن عثمان بن سعد الكاتب، ومعاذ وعمر ابني العلاء، وسَلْم بن جعفر البكري، وإسماعيل بن سليمان الكحال، وشعبة وعبد الله بن أبي كثير، وعلي بن المبارك الْهُنَائيّ، وجماعة.

وروى عنه ابنه الحسن، وعمرو بن عليّ، وأبو موسى، وبُنْدارٌ، ومحمد بن مَعْمَر الْبَحْرانيّ، وعبد الله بن الهيثم العبديّ، وعباس العنبريّ، وأبو بكر بن نافع العبديّ، وغيرهم.

قال عباس العنبريّ: كان ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائيّ: ليس به باس، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاريّ: مات بعد المائتين، وقال ابن أبي عاصم: مات سنة ست ومائتين.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1007)، وحديث (1240): "من شاء أن يجعلها عمرةً، فليجعلها

"، و (1977): "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي

".

3 -

(عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقةٌ، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسالٌ، فحديث الكوفيين عنه فيه شيءٌ، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.

4 -

(يَحْيَى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليمامي، بصريّ الأصل، ثقة ثبت، يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَإنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ) هنا "يَمشي" بفتح أوله، وبالشين المعجمة، لا غير، كما أسلفنا تحقيقه.

[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلّام هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 338

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2333]

(1008) - (حَدثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"عَلَى كُلِّ مُسْلِم صَدَقَةٌ"، قِيلَ: أَرَأيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: "يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدّقُ"، قَالَ: قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: "يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ"، قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: "يَأمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوِ الْخَيْرِ"، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: "يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإنَّهَا صَدَقَةٌ

(1)

").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر في أول الباب.

2 -

(أَبُو أسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل باب.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5].

رَوَى عن أبيه، وأنس بن مالك، وأبي وائل، وأبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد، ورِبْعيّ بن حِرَاش.

وروى عنه قتادة، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وشعبة، وزيد بن أبي أُنيسة، وزكرياء بن أبي زائدة، ومسعر، وأبو عوانة، وغيرهم.

قال الميمونيّ، عن أحمد بن حنبل: بَخٍ ثبتٌ في الحديث، وقال ابن معين، والنسائيّ، والعجليّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوق ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": لم يسمع ابنُ أبي بردة من ابن عمر شيئًا، إنما يروي عن أبيه، عنه، وروايته عن جدِّه منقطعةٌ، لم يسمع منه شيئًا.

وقال الصَّرِيفِينيّ: مات سنة (168)، قال الحافظ: كذا بخط مُغْلطاي، ولعلّه وثلاثين بدل وستين. انتهى.

(1)

وفي نسخة: "فإنها له صدقةٌ".

ص: 339

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (1008) و (1733) وكرّره أربع مرات، و (2309) و (2531) و (2734) و (2767).

5 -

(أَبُوهُ) أبو بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

6 -

(جَدُّهُ) أبو موسى الأشعريّ، عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شعبة، فبصريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي، عن تابعي، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أبي بردة (عَنْ جَدِّهِ) أبي موسى الأشعريّ رحمه الله (عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ") جملة من مبتدأ مؤخّر، وخبر مقدّم، والمعنى أن الصدقة كائنة على كلّ مسلم، ومثله المسلمة؛ لأن النساء شقائق الرجل، والمراد على سبيل الاستحباب المتأكّد، أو على ما هو أعمّ من ذلك، والعبارة صالحة للإيجاب، والاستحباب، كقوله: "على المسلم ستّ خصال

"، فذكر منها ما هو مستحبّ اتفاقًا، وزاد أبو هريرة في حديثه تقييد ذلك بكلّ يوم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "على كلّ مسلم صدقةٌ" هو هنا مطلقٌ، وقد قيّده في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بقوله:"في كلّ يوم"، وظاهر هذا اللفظ الوجوب، لكن خفّفه الله تعالى، حيث جَعَل ما خفّ من المندوبات مُسقطًا له؛

ص: 340

لُطْفًا منه وتفضّلًا. انتهى

(1)

.

(قِيلَ: أَرَأَيتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟) أي: ما يتصدّق به، وفي رواية البخاريّ:"قالوا: يا نبيّ الله، فمن لم يجد"، قال في "الفتح": كأنهم فَهِمُوا من لفظ الصدقة العطيّة، فسألوا عمن ليس عنده شيء من المال، فبيّن لهم أن المراد بالصدقة ما هوأعمّ من ذلك، ولو بإغاثة الملهوف، والأمر بالمعروف، وهل تلتحق هذه الصدقة بصدقة التطوّع التي تُحْسَب يوم القيامة من الفرض الذي أخلّ به؟ فيه نظر، الذي يظهر أنها غيرها؛ لما تبيّن من حديث عائشة رضي الله عنها الماضي أنها شُرعت بسبب عتق المفاصل، حيث قال في آخر هذا الحديث:"فإنه يُمسي يومئذ، وقد زَحْزَح نفسه عن النار". انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ) افتعال من العمل، للمبالغة، وفي رواية البخاريّ:"فيعمل"(فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ) أي: بما يكتسبه من صناعة، وتجارة، ونحوهما بإنفاقه عليها، ومن تلزمه نفقته، ويستغني بذلك عن ذلّ السؤال لغيره (وَيَتَصَدَّقُ") أي: ينفع غيره بإعطاء الصدقة، ويكتسب الأجر.

قال القسطلّانيّ: وقوله: "فيعتملُ، فينفعُ، ويتصدّقُ" برفع الثلاثة خبر بمعنى الأمر، قاله ابن مالك.

(قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (قِيلَ) أي: قال قائل للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف من هو؟ (أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟) أي: الاعتمال بيديه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يُعِينُ) أي: بالفعل، أو بالقول، أو بهما (ذَا الْحَاجَه) أي: صاحب الاحتياج إلى المعونة (الْمَلْهُوفَ") بالنصب نعت و"ذا الملهوف". أي: المستغيثَ، وهو أعمّ من أن يكون مظلومًا، أو عاجزًا، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ رحمه الله: الملهوف عند أهل اللغة يُطلق على المتحسّر، وعلى المضطرّ، وعلى المظلوم، وقولهم: يا لَهْفَ نفسي على كذا كلمة يُتحسّر بها على ما فات، ويقال: لَهِفَ -بكسر الهاء- يَلْهَفُ -بفتحها- لَهْفًا -بإسكانها-: أي: حَزِن، وتحسّر، وكذلك التلهّف. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 3/ 54.

(2)

راجع: الفتح 4/ 63.

(3)

شرح مسلم 7/ 95 - 96.

ص: 341

وقال القرطبيّ رحمه الله: "ذو الحاجة الملهوف" أي: صاحب الحاجة المضطز إليها الذي قد شغله همّه بحاجته عن كلّ ما سواها، ولا شكّ في أن قضاء حاجة من كانت هذه حاله يتعدّد فيها الأجر، ويكفُر بحسب ما كَشَفَ من كربة صاحبها.

قال: ومقصود هذه الأحاديث الترغيبُ في أعمال البرّ والخير بطريق إظهار وجه الاستحقاق واللطف، والحمد لله. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو موسى رضي الله عنه (قِيلَ لَهُ) أي: للنبيّ صلى الله عليه وسلم (أَرَأَيْتَ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟) ما ذُكر من إعانة ذي الحاجة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَأمُرُ بِالْمَعْرُوفِ)(أَوِ) للشكّ (الْخَيْرِ") يَشْمَلُ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإفادة العلميّة، والإفادة العمليّة، والنصيحة العمليّة، وللبخاريّ:"فليعمل بالمعروف"(قَالَ) الراوي (أَرَأَيْتَ اِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟) أي: لم يتيسّر له ذلك (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإنَّهَا صَدَقَةٌ") وفي نسخة: ("فإنها له صدقةٌ"، قال في "الفتح": كذا وقع بضمير المؤنّث، وهو باعتبار الخصلة من الخير، وهو الإمساك، ووقع في رواية "الأدب":"فإنه" أي: الإمساك "له" أي: للممسك.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "تمسك عن الشرّ، فإنها صدقةٌ" معناه: صدقةٌ على نفسه، كما في غير هذه الرواية، والمراد أنه إذا أمسك عن الشرّ لله تعالى كان له أجرٌ على ذلك كما أن للمتصدّق بالمال أجرًا. انتهى

(2)

.

وقال الزين ابن المنيّر؛ إنما يَحْصُل ذلك للممسك عن الشرّ؛ إذا نوى بالإمساك القربة، بخلاف محض الترك، والإمساك أعمّ من أن يكون عن غيره، فكأنه تصدّق عليه بالسلامة منه، فإن كان شرّه لا يتعدَّى نفسه، فقد تصدّق على نفسه بأن منعها من الإثم، قال: وليس ما تضمّنه الخبر من قوله: "فإن لم يجد" ترتيبًا، وإنما هو للإيضاح لما يفعله مَنْ عجز عن خصلة من الخصال المذكورة، فإنه يمكنه خصلة أخرى، فمن أمكنه أن يعمل بيده، فيتصدّق، وأن يُغيث الملهوف، وأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويمسك عن الشرّ، فليفعل الجميع.

(1)

"المفهم" 3/ 54.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 94.

ص: 342

ومحصّل ما ذُكر في حديث الباب أنه لا بدّ من الشفقة على خلق الله تعالى، وهي إما بالمال، أو غيره، والمال إما حاصل، أو مكتسبٌ، وغير المال إما فعلٌ، وهو الإغاثة، وإما تركٌ، وهو الإمساك.

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: ترتيب هذا الحديث أنه نَدَبَ إلى الصدقة، وعند العجز عنها ندب إلى ما يقرُب منها، أو يقوم مقامها، وهو العمل، والانتفاع، وعند العجز عن ذلك ندب إلى ما يقوم مقامه، وهو الإغاثة، وعند عدم ذلك ندب إلى فعل المعروف؛ أي: مِن سوى ما تقدّم كإماطة الأذى، وعند عدم ذلك ندب إلى الصلاة، فإن لم يُطِق، فترك الشرّ، وذلك آخر المراتب، قال: ومعنى الشرّ هنا ما منعه الشرع، ففيه تسلية للعاجز عن فعل المندوبات؛ إذا كان عجزه عن ذلك من غير اختيار. انتهى.

قال الحافظ: وأشار بالصلاة إلى ما وقع في آخر حديث أبي ذرّ عند مسلم: "ويُجزئ عن ذلك كفه ركعتا الضّحى"، وهو يؤيّد ما قدّمناه أن هذه الصدقة لا يكمّل منها ما يختل من الفرض؛ لأن الزكاة لا تكمّل بالصلاة، ولا العكس، فدل على افتراق الصدقتين.

واستُشْكِل الحديث مع تقدّم ذكر الأمر بالمعروف، وهو من فروض الكفاية، فكيف تجزئ عنه صلاة الضّحى، وهي من التطوّعات؟.

وأجيب بحمل الأمر هنا على ما إذا حصل من غيره، فسقط به الفرض، وكان في كلامه هو زيادة في تأكيد ذلك، فلو تركه أجزأت عنه صلاة الضّحى.

قال الحافظ: كذا قيل. وفيه نظرٌ، والذي يظهر أن المراد أن صلاة الضحى تقوم مقام الثلاثمائة وستّين حسنة التي يُستحبّ للمرء أن يسعى في تحصيلها كلّ يوم؟ لِيُعتق مفاصله التي هي بعددها، لا أنّ المراد أن صلاة الضحى تغني عن الأمر بالمعروف، وما ذُكر معه، وإنما كان كذلك؛ لأن الصلاة عملٌ بجميع الجسد، فتتحرّك المفاصل كلّها فيها بالعبادة.

وَيحْتَمِل أن يكون ذلك لكون الركعتين تشتملان على ثلاثمائة وستين ما بين قول وفعل؛ إذا جعلت كلّ حرف من القراءة مثلًا صدقة، وكانّ صلاة الضحى خُصّت بالذكر؛ لكونها أوّل تطوّعات النهار بعد الفرض، وراتبته، وقد أشار في حديث أبي ذرّ إلى أن صدقة السُّلامَى نهاريّة؛ لقوله: "يصبح على كلّ

ص: 343

سُلامَى من أحدكم"، وفي حديث أبي هريرة: "كلّ يوم تطلع فيه الشمس"، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "فيمسي، وقد زحزح نفسه عن النار". انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2333](1008)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1445)، و"الأدب"(6022)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2538)، وفي "الكبرى"(2318)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 67)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 336)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 395 و 411)، و (الدارميّ) في "سننه"(2747)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 102)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 197)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 87)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 188 و 10/ 94)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن أنواع الصدقة لا يُقتصر فيها على الأموال فقط، بل كل ما كان فيه نفعٌ يُعَدّ صدقة.

2 -

(ومنها): أن الأحكام تجري على الغالب؛ لأن في المسلمين من يأخذ الصدقة المأمور بصرفها، وقد قال:"على كلّ مسلم صدقة".

3 -

(ومنها): أن فيه مراجعة العالم في تفسير المجمل، وتخصيص العامّ.

4 -

(ومئها): أن فيه فضل التكسب؛ لما فيه من الإعانة.

5 -

(ومنها): أن فيه التنبيهَ على العمل، والتكسّب؛ ليجد المرء ما ينفق على نفسه، ويتصدّق به، ويُغنيه عن ذلّ السؤال.

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 64.

ص: 344

6 -

(ومنها): أنّ فيه الحثَّ على فعل الخير، مهما أمكن، وأنّ من قصد شيئًا منها، فتعسّر عليه، انتقل إلى غيره، مما يسهل عليه.

7 -

(ومنها): أن فيه تقديم النفس على الغير في الإحسان، والمراد بالنفس ذات الشخص، وما يلزمه.

8 -

(ومنها): بيان جواز صدقة العبد؛ لقوله: "على كلّ مسلم صدقة"، ووجه ذلك أن العبد داخل في عموم "كل مسلم"، فهو مأمور بأن يتصدّق، كما أُمر غيره من عموم المسلمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2334]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ البصريّ الزَّمِن، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252) (عأ تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) البصريّ الإمام الحجة الناقد البصير [9](ت 198) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(19037)

- حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جدّه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"على كل مسلم صدقةٌ"، قال: أفرأيت إن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده، فينفع نفسه، ويتصدق"، قال: أفرأيت إن لم يستطع أن يفعل؟ قال: "يُعِين ذا الحاجة الملهوفَ"، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: لا يأمر بالخير، أو بالعدل"، قال: أفرأيت إن لم يستطع أن يفعل؟ قال: "يُمسك عن الشرّ، فإنه له صدقة". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 345

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2335]

(1009) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمّدٍ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلَامَى مِنَ النّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَة، كُل يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، قَالَ: تَعْدِلُ

(1)

بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَة، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، قَالَ: وَالْكَلِمَةُ الطَيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُل خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ) الصنعانيّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهٍ) تقدّم قريبًا أيضًا.

5 -

(أَبُو هُرَيْرة) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا أيضًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ باليمنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل اليمن.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

(1)

وفي نسخة: "يعدل" بالياء، وكذا الأفعال الباقية.

ص: 346

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمّدٍ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ سُلَامَى) مبتدأ أول خبره جملة "عليه صدقة"، وهو -بضم السين المهملة، وتخفيف اللام، وفتح الميم، مقصورًا-: جمع سُلامية، وقيل: واحدة وجمعه سواءٌ، ويُجْمَع على سُلامَيَات، واختُلِف في معناها، فقيل السُّلامية الأَنْمَلة من أنامل الأصابع، وقيل: السُّلامَى كلُّ عظم مُجَوَّف من صغار العظام، وقال أبو عبيد: هو عظم يكون في فِرْسِن البعير.

قال في "الطرح": والصواب أن السُّلامَى هي المفاصل، وأنها ثلاثمائة وستون مَفْصِلًا، كما ثبت ذلك مبينًا في "صحيح مسلم" من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنه خُلِقَ كلُّ إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل

" الحديث المذكور قبل حديث. انتهى

(1)

، وقد مرّ البحث فيه قريبًا.

وقوله: (مِنَ النَّاسِ) أي: من كلّ واحد منهم، وهو متعلّق بصفة و"سُلامى"(عَلَيْهِ صَدَقَةٌ) جملة من مبتدأ وخبر خبرٌ للمبتدأ الأول، والراجع إلى المبتدأ الضمير المجرور في الخبر.

وقال في "الفتح": قوله: "عليه" مُشكِلٌ، قال ابن مالك رحمه الله: المعهود في "كُلّ" إذا أضيفت إلى نكرة، من خبر، وتمييز، وغيرهما، أن تجيء على وفق المضاف، نحو قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الآية [الأنبياء: 35]، وقوله:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4]، وهنا جاء على وفق "كلّ" في قوله:"كل سلامى عليه صدقة"، وكان القياس أن يقول: عليها صدقة؛ لأن السُّلامَى مؤنثة، لكن دلّ مجيئها في هذا الحديث على الجواز، ويَحْتَمِل أن يكون ضَمَّنَ "السُّلامَى" معنى العظم، أو الْمَفْصِل، فأعاد الضمير عليه كذلك.

والمعنى: على كل مسلم مكلّف بعدد كل مفصل من عظامه صدقة لله تعالى على سبيل الشكر له، بأن جعل عظامه مفاصل يتمكن بها من القبض

(1)

"طرح التثريب" 2/ 267.

ص: 347

والبسط، وخُصَّت بالذكر؛ لما في التصرف بها من دقائق الصنائع التي اختص بها الآدمي.

وقال في "الطرح": معنى هذا الحديث أن كل عظم، أو مَفْصِل من ابن آدم عليه صدقةٌ، وإذا كان كذلك، فظاهر التعبير بقوله:"عليه" أن ذلك من الواجبات؛ لأن السنن لا توصف بأنها على المكلف.

والجواب أن هذا قد يُطْلَق في الفعل المتأكد، وإن لم يكن واجبًا، كقوله صلى الله عليه وسلم: "للمسلم على المسلم ستُّ خصال، يسلم عليه إذا لقيه

" الحديث، ومعلوم أن البداءة بالسلام سنةٌ، وإنما لم يُجعَل مجموع هذه الخصال واجبة، وإن كان بعضها من فروض الكفايات؛ لما ورد في "صحيح مسلم" من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا: "يصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحة صدقةٌ

"، فذكر الحديث، وقال في آخره: "وُيجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى"، ومعلوم أن النوافل لا تُجزي عن الواجبات، مع الاتفاق على عدم وجوب صلاة الضحى على عموم الناس، والله أعلم.

على أنه يمكن أن تؤول هذه الأفعال المذكورة في الباب على الوجوب، كما سيأتي. انتهى

(1)

.

(كُلُّ يَوْمٍ) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "صدقةٌ"، وقوله:(تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "يوم"، وهي صفة تخصّص اليوم عن مطلق الوقت بمعنى النهار، وقال السنديّ وصف اليوم بذلك؛ لإفادة التنصيص، كما قالوا في قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية [الأنعام: 38].

والحاصل أن الشيء إذا وُصف بوصف يعمّ جميع أفراده يصير نصًّا في التعميم. انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (تَعْدِلُ) وفي بعض النسخ "يعدل" بالياء التحتانيّة، وكذا باقي الأفعال؛ أي: تصلح (بَيْنَ الِاثْنَيْنِ) متحاكمين، أو متخاصمين، أو متهاجرين (صَدَقَةٌ) أي: أجره كأجر الصدقة، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تعدل إلخ" أي:

(1)

"طرح التثريب" 2/ 268.

(2)

راجع: "المرعاة" 6/ 331.

ص: 348

تُصلح بين المتخاصمين، وتدفع ظلم الظالم، وهو مبتدأ خبره "صدقةٌ" على تأويل "أن تعدل"، فحُذف "أن" فارتفع الفعل، كما في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، ونحو:"تَسْمَعُ بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه"، ويؤيّده عطف قوله:"والكلمة الطيّبة صدقةٌ" عليه، وكذا:"وكلُّ خطوة إلخ"

(1)

.

وقال في "الطرح": قوله: "تَعْدِل بين اثنين" يَحْتَمِل أن يراد به العدل في الأحكام من القضاة والأمراء، ويَحْتَمِل أن يراد به الإصلاح بين الناس، وإن كان من غير من له ولاية على ذلك، ولا تسليط، وهو الظاهر؛ لأن عدل القضاة والأمراء واجب لا تطوُّع، وقد أدخله البخاريّ في "صحيحه" في "باب الإصلاح بين الناس"، وإن أريد حمله على الواجب حقيقةً، فيُحْمَل على عدل الحكام. انتهى.

(وَتُعِينُ الرَّجُلَ) أي: تساعده (فِي دَابَّتِهِ) أي: دابّة الرجل، أو دابّة المعين (فَتَحْمِلُهُ) بفتح حرف المضارعة، وسكون السين المهملة، وكسر الميم؛ أي: تحمل الرجل (عَلَيْهَا) أي: على الدابّة بأن تعينه في الركوب، أو تَحْمِله كما هو، وقوله:(أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ)"أو" هنا للتنويع، وذكر في "الفتح" احتمال كونها للشكّ، والأول هو الظاهر، والله تعالى أعلم (صَدَقَةٌ) أي: له أجر الصدقة بالمال.

وقال في "الطرح": قوله: "وتعين الرجل في دابته، تحمله عليها" هو أن تُرْكِب العاجز عن الركوب على دابته، وهكذا أن تَحْمِل معه على دابته متاعه، وبَوَّب عليه البخاريّ في "صحيحه":"باب فضل من حَمَلَ متاع صاحبه في السفر"، ويمكن أن يُجعل على الوجوب في المكاري، فإنه يجب عليه إركاب الشيخ؛ لعجزه عن الركوب وحده، ويجب عليه إبراك الجمل للمرأة؛ لعجزها أو المشقة عليها في ركوب البعير قائمًا، والله أعلم. انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَالْكَلِمَةُ الطَّيَّبَةُ صَدَقَةٌ) يَحْتَمِل أن يراد بها المخاطبة للناس، كأن يجيب السائل بكلمة طيبة من غير إفحاش، ونحو ذلك، وهو الظاهر، كما

(1)

راجع: "الكاشف" 5/ 1545.

ص: 349

قال في حديث آخر: "تَبَسُّمُك في وجه أخيك صدقة"، وفي حديث آخر:"ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه"، وَيحْتَمِل أن يراد بها الكلمة من الأذكار، كالتهليل، والتسبيح، والتحميد، كما هو مصرح به في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم في ذكر السُّلامَى: "فمن كبّر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله

" الحديث، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية [إبراهيم: 24] أن المراد "لا إله إلا الله"، وكذا قيل في قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الآية [فاطر: 10]. انتهى

(1)

.

(وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا)"الخَطْوَة" بفتح الخاء المعجمة: المرّة الواحدة من الْخَطْو، وهو المشيُ، مثل ضَرْب وضرَبة، والْخُطوة بالضمّ: ما بين الرجلين، وجمع المفتوح خَطَوَاتٌ على لفظه، مثلُ شَهْوة وشَهَوَات، وجمع المضموم خُطًى، وخُطُوَات، مثلُ غُرَفٍ وغُرُفات في وجوهها

(2)

.

وقال في "الطرح": في قوله: "كلُّ خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، ما يقتضي أن ثواب الْخُطَا إنما هو الذهاب إلى المسجد دون الرجوع، وهو مُحْتَمِل، لكن قد ورد التصريح في مسند أحمد بقوله: "ذاهبًا وراجعًا"، قال: وإن حملناه على الوجوب فيُمْكِن أن يُحْمَل على السعي الواجب، كالسعي للجمعة، إلا أنه يَرُدُّه قوله: "كل يوم تطلع الشمس"، فإنما يجب السعي مرة في الجمعة، نعم يُحْمَل على قول من أوجب الجماعة في كل صلاة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في أبواب الجماعة أن الصحيح قول من أوجب صلاة الجماعة على الرجال البالغين دون عذر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(إِلَى الصّلَاةِ) يَحْتَمِل أن تكون الألف واللام للعهد، وهو الظاهر، فيكون المراد منه الصلوات المكتوبة، وَيحْتَمِل أن تكون للجنس، وعليه يدخل فيه كل صلاة يُشْرَع المشي إليها، كالعيد، والجنازة، واستبعد هذا الاحتمال في "الطرح"

(3)

. (صَدَقَةٌ) أي: أجر صدقة المال.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 268.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 174.

(3)

راجع: "طرح التثريب" 2/ 268.

ص: 350

(وَتُمِيطُ) بضمّ أوله، من الإماطة، والإزالة، والتنحية، قال الفيّوميّ رحمه الله: ماط مَيْطًا، من باب باع: تباعد، ويتعدّى بالهمزة، والحرف، فيقال: أماطه غيرُهُ إماطةً، ومنه إماطة الأذى عن الطريق، وهي التنحية؛ لأنها إبعاد، وماط به مثلُ ذَهَبَ به، وأذهبته، وذهبتُ به، ومنهم من يقول: الثلاثيّ والرباعيّ يُستعمَلان لازمين، ومتعدّيين، وأنكره الأصمعيّ، وقال: الكلام ما تقدّم. انتهى

(1)

.

(الْأذَى) بفتحتين مقصورًا؛ أي: كل ما يؤذي المارّة (عَنِ الطَّرِيقِ) متعلّق بـ "تُميط"(صَدَقَةٌ") أي: له أجر صدقة.

والمعنى: أن إزالة كلّ ما يؤذي المارّة، من نحو شوك، أو عظم، أو حجر، وكذا قطع الأحجار من الأماكن الْوَعْرَة، كما يُفْعَل في طريق، وكذا كنس الطريق من التراب الذي يتأذى به المارُّ، ورَدْمُ ما فيه من حُفْرة، أو وهَدَّة، وقطع شجرة تكون في الطريق له أجر صدقة المال.

وفي معنى ما ذُكر توسيعُ الطرق التي تضيق على المارة، وإقامة مَن يبيع، أو يشتري في وسط الطرق العامّة، كمحل السعي بين الصفا والمروة، ونحو ذلك، فكله من باب إماطة الأذى عن الطريق.

ومن ذلك ما يرتفع إلى درجة الوجوب، كالبئر التي في وسط الطريق التي يُخْشَى أن يسقط فيها الأعمى، والصغير، والدابة، فإنه يجب طَمُّها، أو التحويط عليها، إن لم يضر ذلك بالمارّة، قاله في "الطرح"

(2)

.

[تنبيه]: وحَكَى ابن بطال عن بعض من تقدمه أن قوله: "وتميط الأذى عن الطريق" من قول أبي هريرة رضي الله عنه موقوف، وتعقّبه بأن الفضائل لا تُدرك بالقياس، وإنما تؤخذ توقيفًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله في "الفتح"

(3)

.

[تنبيه آخر]: وزاد البخاريّ رحمه الله في هذا الحديث: "ودَلُّ الطريقِ صدقةٌ"، وهو أن يدل مَن لا يَعْرِف الطريق عليها، قاله في "الطرح"

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 587.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 268.

(3)

" الفتح" 6/ 133.

(4)

"طرح التثريب" 2/ 268.

ص: 351

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2335](1009)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2707 و 2891 و 2989)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 312 و 316)، و (ابن خُزيمة) في "صحيحه"(1494)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3381)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 87)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 187 و 188)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1645)، وأما فوائده فقد سبقت في المسائل المذكورة في الأحاديث الماضية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(17) - (بَابٌ فِي الْمُنْفِقِ وَالْمُمْسِكِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2336]

(1010) - (وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ، حَدّثَني مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلا مَلَكانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّا) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ البجليّ مولاهم، أبو الْهَيْثم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

ص: 352

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

4 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ) -بضمّ الميم، وفتح الزاي، وتشديد الراء المكسورة- واسمه عبد الرحمن بن يسار، مولى بني هاشم المدنيّ، ليس به بأسٌ [6].

رَوَى عن أبيه، وعمة سعيد بن يسار أبي الْحُباب، ويزيد بن رُومان، وعبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، وزياد بن أبي زياد المخزوميّ، وجماعة.

ورَوى عنه يزيد بن الهاد، وهو من أقرانه، وسليمان بن بلال، وابن المبارك، وحاتم بن إسماعيل، ووكيع، وجعفر بن عون، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: صالحٌ، قال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1010)، وحديث (2554): "أما ترضين أن أصل من وصلك؟

"، و (2555): "الرحم معلّقةٌ بالعرش

".

5 -

(سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ) أبو الْحُبَاب المدنيّ، ثقةٌ مُتقن [3](ت 117) أو قبلها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 5/ 1614.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وخالد، فكوفيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى

(5374)

حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ) وهو عم معاوية بن مُزَرِّد الراوي عنه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ يَوْمٍ) يعني: ليس من يوم،

ص: 353

وكلمة "مِنْ" زائدة؛ لتأكيد الاستغراق، و"يوم اسم "ما" الحجازيّة، وقوله: (يُصْبحُ الْعِبَادُ فِيهِ) صفة و"يوم".

وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "ما من يوم طَلَعَتْ فيه الشمسُ إلا وبجنبتيها ملكان يناديان، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هَلُمُّوا إلى ربكم، إن ما قَلَّ وكَفَى خيرٌ مما كَثُر وألهى، ولا غربت شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان: اللهم أَعْطِ منفقًا خَلَفًا، وأعط ممسكًا مالًا تلفًا"، رواه أحمد.

(إِلا مَلَكَانِ) مبتدأ، خبره قوله:(يَنْزِلَانِ) أي: فيه، وهذه الجملة مع ما يتعلّق بها في محلّ الخبر لـ"ما".

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ملكان" مُسْتَثْنًى من متعلّق محذوف، هو خبر "ما"، والمعنى ليس يومٌ موصوف بهذا الوصف، ينزل فيه أحدٌ، إلَّا ملكان يقولان: كيت وكيت، فحُذِف المستثنى منه، ودُل عليه بوصف الملكين، وهو "ينزلان"، ونظيره في مجيء الموصوف مع الصفة بعد "إلَّا" في الاستثناء المفرَّغ قولك: ما اخترتُ إلا رفيقًا منكم، التقدير: ما اخترتُ منكم أحدًا إلَّا رفيقًا. انتهى

(1)

.

وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "إلا وبجنبتيها ملكان"، والجنبة بسكون النون: الناحيةُ (فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا) قال السنديّ رحمه الله: لا يقال: لا فائدة في هذا القول على تقدير عدم سماع الناس له؛ إذ لا يحصل به ترغيب، ولا ترهيبٌ بدون السماع؛ لأنا نقول تبليغ الصادق يقوم مقام السماع، فينبغي للعاقل أن يلاحظ كلّ يوم هذا الدعاء كأنه يسمعه من الملكين، فيفعل بسبب ذلك ما لو سمع من الملكين لفعل، وهذه فائدة إخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، على أن المقصود بالذات الدعاء لهذا، وعلى هذا، سواءٌ عَلِموا به أم لا؟. انتهى

(2)

.

(اللَّهُمَّ أَعْطِ) بقطع الهمزة، من الإعطاء رباعيًّا (مُنْفِقًا) أي: منفق مال (خَلَفًا) -بفتح اللام- أي: عِوَضًا عظيمًا، وهو العوض الصالح، أو عِوَضًا في

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1523.

(2)

راجع: "المرعاة" 6/ 283.

ص: 354

الدنيا، وبدلًا في العقبى، قيل: أبهم الخلف؛ ليتناول المال والثواب وغيرهما، فكم من منفق مات قبل أن يقع له الخلف الماليّ، فيكون خلفه الثواب المعدّ له في الآخرة، أو يُدفَع عنه من السوء ما يقابل ذلك

(1)

.

قال الطيبيّ رحمه الله: يقال: خَلَف الله لك خَلَفًا بخير، وأخلف عليك خيرًا؛ أي: أبدلك بما ذهب منك، وعوّضك منه

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأخلف عليك بالألف: رَدّ عليك مثل ما ذَهَبَ منك، وأخلف الله عليك مالك، وأخلف لك مالك، وأخلف لك بخير، وقد يُحذف الحرف، فيقال: أخلف الله عليك، ولك خيرًا، قاله الأصمعيّ، والاسم الْخَلَفُ بفتحتين، قال أبو زيد: وتقول العرب أيضًا: خَلَف الله لك بخير، وخَلَفَ عليك بخير يَخْلُفُ بغير ألف. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن خَلَف ثلاثيًّا، وأخلف رباعيًّا يُستعملان لمعنى عوّض، وأبدل، ولكن أخلف أكثرُ استعمالًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(ويقُولُ الآخَرُ: اللَهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا) أي: من يُمسك خيره عن غيره (تَلَفًا") بفتح اللام: أي: هلاكًا وضياعًا.

قال في "الفتح": التعبير بالعطية في هذا للمشاكلة؛ لأن التلف ليس بعطيّة، وأفاد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الكلام المذكور مُوَزَّع بينهما، فنسب إليهما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه نسبة المجموع إلى المجموع، وتضمنت الآية -يعني: قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} الآية [الليل: 5]- الوعد بالتيسير لمن يُنفق في وجوه البرّ، والوعيد بالتعسير لعكسه، والتيسير المذكور أعمّ من أن يكون لأحوال الدنيا، أو لأحوال الآخرة، وكذا دعاء الملك بالخَلَف يَحْتَمِل الأمرين، وأما الدعاء بالتَّلَف فيَحْتَمِل تَلَف ذلك المال بعينه، أو تلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البرّ بالتشاغل بغيرها.

(1)

"المرعاة" 6/ 283.

(2)

"الكاشف" 5/ 1523.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 179.

ص: 355

قال النوويّ رحمه الله: الإنفاق الممدوح ما كان في الطاعات، وعلى العيال، والضيفان، والتطوعات.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وهو يعمّ الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحقّ هذا الدعاء، إلا أن يَغْلِب عليه البخل المذموم، بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحقّ الذي عليه ولو أخرجه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قوله في حديث أبي موسى:"طَيِّبَةً بها نفسه". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2336](1010)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1442)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1657)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(9178)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 305)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 88)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه موافق لقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} الآية [سبأ: 39]، ولقوله:"ابن آدم أَنْفِق أُنْفِق عليك"، وهذا يعم الواجب والمندوب.

2 -

(ومنها): بيان أن الممسك يستحقّ تَلَفَ ماله، ويراد به الإمساك عن الواجبات دون المندوبات، فإنه قد لا يستحقّ هذا الدعاء، اللهم إلَّا أن يغلب عليه البخل بها، وان قَلّت في نفسها، كالحبة واللقمة، ونحوهما، فهذا قد يتناوله هذا الدعاء؛ لأنه إنما يكون كذلك لغلبة صفة البخل المذمومة عليه، وقلّما يكون كذلك إلا ويبخل بكثير من الواجبات، أو لا يطيبُ نفسًا بها، قاله القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"الفتح" 4/ 269 - 267، و"عمدة القاري" 8/ 307.

(2)

"المفهم" 3/ 55.

ص: 356

3 -

(ومنها): أن فيه الحضَّ على الإنفاق في الواجبات، كالنفقة على الأهل، وصلة الرحم، ويدخل فيه صدقة التطوع والفرض.

4 -

(ومنها): أن فيه دعاء الملائكة، ومعلوم أنه مجاب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه"، قاله في "العمدة"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابُ الْمُبَادَرةِ بِالصَّدَقَةِ قَبْلَ أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ يَقْبَلُهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2337]

(1011) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْب يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَصَدَّقُوا، فَيُوشِكُ الرّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا: لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالْأَمْسِ قَبِلْتُهَا

(2)

، فَأمَّا الْآنَ

(3)

فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا، فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل بابين.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(مَعْبَدُ بْنُ خَالِدِ) بن مُزَين، ويقال: ابن مُرَي -مصغّرًا- ابن حارثة بن ناصرة بن عمرو بن سعيد بن علي بن رُهْم بن رَبَاح بن يَشْكُر بن عدوان بن عَمرو بن قيس عَيْلان بن مُضر بن نِزار الْجَدَليّ -بجيم، ومهملة مفتوحتين-

(1)

"عمدة القاري" 8/ 307.

(2)

وفي نسخة: "قبلتها منك".

(3)

وفي نسخة: "وأما الآن".

ص: 357

الْقَيْسيّ العابد، أبو القاسم الكوفيّ القاصّ، وجَدِيلة هي أم يَشْكُر، وهي بنت مُرّ بن أُدّ بن طابخة، ثقةٌ عابدٌ [3].

رَوَى عن أبيه، ويقال: له صحبة، وحارثة بن وهب الخزاعيّ، والمستورد بن شَدّاد الفِهْريّ، وزيد بن عقبة الفزاري، ومسروق، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وغيرهم.

وروى عنه الأعمش، وعاصم بن بَهْدلة، ومغيرة بن مقسم، ومسعر، وشعبة، والثوريّ، وأبو شيبة، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة، وقال: قالوا: كان ثقةً إن شاء الله تعالى، قليل الحديث، وقال إسحاق بن منصور وغيره، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن عديّ، والعجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره يعقوب بن سفيان مع جماعة، وقال: وكل هؤلاء كوفيون ثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان عابدًا صابرًا على التهجد، يصلي الغداة والعشاء بوضوء واحد، وقال ابن معين: هو من أقدم شيخ لقيه سفيان، وقد ذكروا أن عبد الملك بن مروان لَمّا قَدِم الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير، جلس يَعْرِض أحياء العرب، فقام إليه معبد بن خالد الجَدَليّ، وكان قصيرًا دميمًا، فذكر قصة له مع عبد الملك دالّةً على معرفته وفهمه.

قال محمد بن سعد، وأحمد بن حنبل، عن طلق بن غَنّام: مات في ولاية خالد على العراق، زاد ابن سعد: سنة ثمان عشرة ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1011) و (2195) وأعاده بعده، و (2298) و (2853) وأعاده بعده.

5 -

(حَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ) الْخُزَاعيّ الصحابيّ، نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 3/ 1598.

والباقون تقدّموا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

ص: 358

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن أبي شيبة، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنهم كوفيّون سوى ابن المثنّى، وابن جعفر، وشعبة.

4 -

(ومنها): أن صحابيه من المقلِّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا خمسة أحاديث فقط، انظر:"تحفة الأشراف"(3/ 10/ 12)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ) الْجَدَليّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَصَدّقُوا) أَمرٌ بالصدقة، ثم عَلّل الأمر بها بالفاء التعليليّة، فقال (فَيُوشِكُ) مضارع أوشك، قال الفيّوفي رحمه الله: يُوشك أن يكون كذا من أفعال المقاربة، والمعنى الدنوّ من الشيء، قال الفارابيّ: الإيشاك: الإسراع، وفي "التهذيب" في "باب الحاء": وقال قتادة: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن لنا يومًا أوشك أن نستريح فيه، ونَنْعَمَ، لكن قال النحاةُ: استعمال المضارع أكثر من الماضي، واستعمال اسم الفاعل منها قليلٌ، وقال بعضهم: وقد استعملوا ماضيًا ثلاثيًّا، فقالوا: وَشُكَ، مثلُ قَرُبَ وُشْكًا. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": وَشُكَ الأمر، ككَرُمَ: سَرُعَ، كوَشَّكَ، وأوشك: أسرع السير، كواشك، ويوشِكُ الأمر أن يكون، وأن يكون الأمر، ولا تُفْتَحُ شِينه، أو لغة رديّة. انتهى

(2)

.

(يُوشكُ الرّجُلُ) أي: يَقْرُب (يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ) أي: طالبًا للمحتاج حتى يدفعها إليه، وفي رواية النسائيّ:"فَإِنَّهُ سَيَأتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ، يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ"(فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا) أي: عُرضت عليه، وهو بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير الموصول، والمنصوب يعود إلى الصدقة، والمعنى: يقول الذي يُراد أن يُعطَى الصدقة؛ أي: يريد المتصدّق إعطاءه إيّاها (لَوْ جِئْتَنَا

(1)

"المصباح المنير" 2/ 661.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 323.

ص: 359

بِهَا بِالْأَمْسِ قَبِلْتُهَا) وفي نسخة: "قبلتها منك"؛ أي: لاحتياجي إليها فيه (فَأمّا) وفي نسخة: "وأما"(الآنَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنه قد استغنى عنها بما أخرجت الأرض، كما قال في الحديث الآتي:"تقيء الأرض أفلاذ كَبِدها أمثال الأسطوانة من الذهب"، وهذا كناية عما تُخرج الأرض من الكنوز والنَّدَرَات

(1)

، وهذا معنى قوله تعالى:{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} [الزلزلة: 2] أي: كنوزها على أحد التفسيرين، وقيل: موتاها. انتهى

(2)

.

(فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا") والظاهر أنّ ذلك يقع في آخر الزمان، حين يَفيض المال، كثرةً، عند قرب الساعة، ومن ثمّ أورده البخاريّ رحمه الله في "كتاب الفتن"؛ لأن كثرة المال من الفتن، ويدلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فَيَفِيضَ، حتى يُهِتم ربَّ المال، من يقبل صدقته، وحتى يَعرِضَه، فيقول الذي يَعرِضه عليه: لا أرب لي"، متّفق عليه.

وحديثُ أبي موسى رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ليأتينّ على الناس زمان، يطوف الرجل فيه بالصدقة، من الذهب، ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه، ويُرَى الرجلُ الواحد، يتبعه أربعون امرأة، يَلُذْنَ به، من قِلَّةِ الرجال، وكثرة النساء". متّفق عليه.

وقال ابن التين رحمه الله: إنما يقع ذلك بعد نزول عيسى عليه السلام، حين تُخرِجُ الأرض بركاتها، حتّى تُشبع الرُّمّانةُ أهلَ البيت، ولا يبقى في الأرض كافر. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن التين رحمه الله محتمل، وَيحْتَمِل أن يكون قبل ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(1)

جمع نَدْرة بفتح فسكون، وهي القطعة من الذهب توجد في المعدن.

(2)

راجع: "المفهم" 3/ 56.

ص: 360

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [18/ 2337](1011)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1411 و 1424)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2555)، وفي "الكبرى"(2336)، و (أبو داود الطيالسي) في "مسنده"(1/ 174)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 306)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 88)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على الصدقة، والمبادرة بأدائها إلى مستحقّها قبل أن لا يوجد من يقبلها، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث، والأحاديث بعده مما ورد في كثرة المال في آخر الزمان، وأن الإنسان لا يجد من يقبل صدقته الحثُّ على المبادرة بالصدقة، واغتنام إمكانها قبل تعذُّرها، وقد صَرَّح بهذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم في أول الحديث: "تصدقوا، فيوشك الرجل

" إلى آخره، وسبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان كثرة الأموال، وظهور كنوز الأرض، ووضع البركات فيها، كما ثبت في "الصحيح" بعد هلاك يأجوج ومأجوج، وقلة آمالهم، وقرب الساعة، وعدم ادّخارهم المال، وكثرة الصدقات، والله أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): استحباب المبادرة إلى الخير قبل فوات وقته.

3 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع في آخر الزمان.

4 -

(ومنها): أن فيه دلالةً على أن فتح الدنيا لا خير فيه؛ لأنه لو كان فيه خير لكان زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزمان أصحابه، والتابعين تُفتح فيه الدنيا أكثر من آخر الزمان، فدلّ على أنه من جملة الفِتَن التي تقع عند قرب الساعة، نسأل الله تعالى أن يجنّبنا الفتن، ما ظهر منها، وما بطن، إنه سميع قريبٌ مجيب الدعوات، وغافر السيّئات آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 96.

ص: 361

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2338]

(1012) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَاس زَمَانٌ، يَطُوفُ الرّجُلُ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ، ثُمَّ لَا يَجدُ أَحَدًا يَأخُذُهَا مِنْهُ، ويُرَى الرّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأةً يَلُذْنَ بِهِ، مِنْ قِلّةِ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ"، وَفي رِوَايَةِ ابْنِ بَرَّادٍ: "وَتَرَى الرَّجُلَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ برّادٍ الْأَشْعَرِيُّ) أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قبل بابين.

3 -

(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقة [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

والباقون تقدّموا قبل باب، وأبو أسامة اسمه حمّاد بن اسامة.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما؛ لاتحادهما في كيفيّة التحمل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه عبد الله بن بزاد، فانفرد به هو، وعلّق له البخاريّ، وأما شيخه أبو كريب، فمن التسعة الذين اتّفق الجماعة في الرواية عنهم بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أنه لا يوجد في "الصحيحين" من اسمه بُريد إلا المذكور في هذا السند، وكنيته أبو بُردة مثل جدّه.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن جدّه، عن أبيه، فأبو بردة جدّ لبريد بن عبد الله، وأبو موسى أبوه.

ص: 362

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) -بضم الباء الموحدة، مصغّرًا- اسمه عامر، وقيل: الحارث (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "لَيَأتِيَنَّ) اللام هي الموطّئة للقسم، و"يأتيَنّ" مؤكّد بالنون الثقيلة، جواب للقسم المقدّر؛ أي: والله ليأتينّ (عَلَى النّاسِ زَمَانٌ، يَطُوفُ) أي: يدور (الرَّجُلُ فِيهِ) أي: في ذلك الزمان (بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذهَبِ) خصّه بالذكر؛ مبالغةً في عدم مَن يَقْبَل الصدقة؛ لأن الذهب أعزّ المعدنيات، وأشرف الأموال، فإذا لم يوجد من يأخذ هذا، ففي غيره بالطريق الأولى.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "يطوف الرجل بصدقته من الذهب" إنما هذا يتضمن التنبيه على ما سواه؛ لأنه إذا كان الذهب لا يقبله أحدٌ، فكيف الظن بغيره؟.

قال: وقوله: "يطوف" إشارة إلى أنه يتردد بها بين الناس، فلا يجد من يقبلها، فتحصل المبالغة والتنبيه على عدم قبول الصدقة بثلاثة أشياء: كونه يَعْرِضُها، ويطوف بها، وهي ذَهَبٌ. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ لَا يَجِدُ أَحَدًا يَأخُذُهَا) أي: الصدقة (مِنْهُ، ويُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ) ببناء الفعل للمفعول، وقوله:(يَتْبَعُهُ) جملة في محل النصب على الحال (أَرْبَعُونَ امْرَأةً) قال الكرمانيّ رحمه الله: التخصيص بعدد الأربعين لا يدلّ على نفي الزائد؛ أي: فلا ينافي رواية "خمسين امرأة"(يَلُذْنَ بِهِ) أي: يَلتجئن إليه، ويرغبن فيه، وهو بضم اللام، وسكون الذال المعجمة: من لاذ يلوذ لَوْذًا، كقال يقول قولًا

(2)

: إذا التجأ به، وانضمّ إليه، واستغاث به، وذلك إما لكونهن نساءه وسراريّه، وقيل: من البنات والأخوات، وشِبْهِهِنّ من القرابات.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "يَلُذْن" يستترن ويتحرّزن به، من الملاذِ الذي هو السترة، لا من اللذّة، وذلك إنما يكون لكثرة قتل الرجال في الملاحم، كما

(1)

"شرح النووي" 7/ 96.

(2)

قال في "القاموس"(1/ 358): اللَّوْذُ بالشيءِ: الاستتار، والاحتصانُ به، كاللواذ مثلّثةً، واللياذِ، والْمُلاوذة، والإحاطةُ، كالإلاذة. انتهى.

ص: 363

سيأتي في "كتاب الفتن". انتهى

(1)

.

(مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ") وتكون قلة الرجال من اشتداد الفتن، وترادف الْمِحَن، فيقلّ الرجال.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى "يَلُذْنَ به": أي: ينتمين إليه؛ ليقوم بحوائجهن، وَيذُبّ عنهن، كقبيلة بقي من رجالها واحد فقط، وبقيت نساؤها، فَيَلُذْن بذلك الرجل؛ لِيَذُبّ عنهنّ، ويقوم بحوائجهنّ، ولا يطمع فيهنّ أحد بسببه، وأما سبب قلة الرجال وكثرة النساء، فهو الحروب والقتال الذي يقع في آخر الزمان، وتراكم الملاحم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ويكثُر الْهَرْج": أي: القتل. انتهى

(2)

.

(وَفي رِوَايَةِ) عبد الله (ابْنِ بَرَّادٍ) شيخه الأول ("وَتَرَى الرَّجُلَ") بتاء الخطاب، والبناء للفاعل، ونصب "الرجل" على المفعوليّة، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "وُيرَى الرجل الواحدُ" ثم قال: وفي رواية ابن براد: "وتَرَى"، هكذا هو في جميع النسخ: الأول "يُرَى" بضم الياء المثناة تحتُ، والثاني بفتح المثناة فوقُ. انتهى.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2338](1012)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1414)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 88)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 284)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على الاهتمام بالمبادرة في أداء الصدقة إلى مستحقّها، واغتنام إمكانها قبل تعذرها، وفي "الصحيحين" عن حارثة بن

(1)

"المفهم" 3/ 56 - 57.

(2)

"شرح النووي" 7/ 96 - 97.

ص: 364

وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تصدقوا، فيوشك الرجل يمشي بصدقته، فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بها بالأمس قبلتها، فأما الآن فلا حاجة لي بها، فلا يجد من يقبلها".

2 -

(ومنها): أن فيه الإخبارَ بكثرة المال في آخر الزمان، وأن الإنسان لا يجد من يقبل صدقته، حتى يحصل له من ذلك همّ، قال النوويّ: وسبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان كثرة الأموال، وظهور كنوز الأرض، ووضع البركات فيها، كما ثبت في "الصحيح" بعد هلاك يأجوج ومأجوج، وقلة الناس وقلة آمالهم، وقرب الساعة، وعدم ادّخارهم المال، وكثرة الصدقات.

3 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يكون في آخر الزمان، وسيقع ذلك لا محالة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم؛ لأن خبره صلى الله عليه وسلم صدق مطابق للواقع، لا يتخلّف بوجه من الوجوه.

4 -

(ومنها): الإعلام بما يكون بعده صلى الله عليه وسلم من كثرة الأموال، حتى لا يجد صاحب الصدقة من يقبلها، والظاهر أن ذلك بعد قتل عيسى عليه السلام الدجال وهلاك الكفّار، فإنه إذا نزل لا يجد أحد من الكفّار نفَسه إلا مات، ونفَسه ينتهي حيث ينتهي طَرْفه، كما سيأتي عند المصنّف في "كتاب الفتن" -إن شاء الله تعالى-، ففي ذلك الوقت لا يبقى بأرض الإسلام كافر، وتنزل إذ ذاك بركات السماء إلى الأرض، والناس إذ ذاك قليلون، لا يدّخرون شيئًا؛ لعلمهم بقرب الساعة، وتردّ الأرض إذ ذاك بركاتها، حتى تكفي الجماعة الرُّمانة الواحدة، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها، وهو ما دفنته ملوك العجم، كسرى وغيره، أو ما خلقه الله تعالى في الأرض، ويكثر المال، حتى لا يتنافس فيه الناس.

5 -

(ومنها): أنه استنبط منه بعضهم أنه إذا لم يجد من يقبل صدقته فلا حرج عليه، وهو واضح الحكم والتعليلِ؛ إذ لم يقع منه تقصير، ولا منع، لكن في استنباط ذلك من الحديث نظر؛ لأن غاية ما فيه الإخبار بان هذا سيقع، أما كونه إذا وقع يكون صاحب المال مأثومًا أو غير مأثوم، فليس فيه تعرّض له، قاله في "الطرح"

(1)

.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 26.

ص: 365

6 -

(ومنها): بيان أن الرجال سيقلّون، وتكثر النساء، حتى يكون لأربعين امرأة، أو لخمسين القيّم الواحد، وسبب ذلك كثرة الفتن، فيكثر القتل في الرجال؛ لأنهم أهل الحرب دون النساء، قال في "الفتح": وقال أبو عبد الملك: هو إشارة إلى كثرة الفتوح، فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل الواحد عدّة موطوءات.

وتعقّبه الحافظ: فقال: وفيه نظر؛ لأنه صرّح بالقلة في حديث أبي موسى رضي الله عنه-يعني: المذكور في الباب- فقال: "من قلة الرجال، وكثرة النساء"، والظاهر أنها علامة محضةٌ، لا لسبب آخر، بل يُقَدِّر الله في آخر الزمان أن يَقِلّ من يولد من الذكور، ويكثر من يولد من الإناث، وكون كثرة النساء من العلامات مناسبة لظهور الجهل، ورفع العلم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2339]

(

) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يَكْثُرَ الْمَالُ، ويفِيضَ، حَتى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ، فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ، وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأنهَارًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) -بتشديد التحتانيّة

(2)

- المدنيّ نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8] [ت 181) (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

3 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(2)

بتشديد الياء التحتانيّة: منسوب إلى القارَة القبيلة المعروفة بجودة الرمي.

ص: 366

4 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى يعقوب، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فبَغْلانيّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رفع الفعل بعدها (تَقُومُ السَّاعَةُ) أي: القيامة، قال ابن الأثير رحمه الله: الساعة في الأصل تُطلَق على معنيين:

[أحدهما]: أن تكون عبارةً عن جزء من أربعة وعشرين جزءًا، هي مجموع اليوم والليلة.

[والثاني]: أن تكون عبارةً عن جزء قليل من النهار أو الليل، يقال: جلست عندك ساعةً من النهار؛ أي: وقتًا قليلًا منه، ثم استعير لاسم يوم القيامة، قال الزجاج: معنى الساعة في كل القرآن: الوقتُ الذي تقوم فيه القيامة، يريد أنها ساعةٌ خفيفةٌ يَحدُث فيها أمرٌ عظيمٌ، فلقلة الوقت الذي تقوم فيه سماها ساعةً، والله أعلم. انتهى كلام ابن الأثير رحمه الله

(1)

.

(حَتى يَكْثُرَ الْمَالُ، ويفِيضَ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من فاض، من باب ضرب: أي: يكثر، يقال: فاض السيل يَفِيض فيضًا: كثُر وسال من شَفَة

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 422.

ص: 367

الوادي، وأفاض بالألف لغة، وفاض الإناء فَيْضًا: امتلأ، وأفاضه صاحبه، وفاض الماء والدم: قَطَرَا، وفاض كلُّ سائل: جَرَى، وفاض الخير كَثُر، وأفاضه الله كثَّره، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الطرح": قوله: "ويفيض" بفتح أوله، فسره أهل اللغة بأن معناه يكثر، وحينئذ فيشكل عطفه عليه في قوله:"حتى يكثر فيكم المال، فيفيض"، والذي يظهر لي أن في الفيض زيادةً على الكثرة، ولذلك قال في "المشارق" في قوله:"يفيض المال" أي: يكثر حتى يَفْضُل منه بأيدي مُلاكه ما لا حاجة لهم به. انتهى

(2)

.

(حَتى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ) أي: ليدفعها لمستحقّها (فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهَا مِنْهُ) لاستغنائهم عنها (وَحَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: تنصرف دواعي العرب عن مقتضَى عاداتهم من انتجاع الغيث، والارتحال في المواطن للحروب والغارات، ومن نخوة النفوس العربيّة الكريمة الأبيّة إلى أن يتقاعدوا عن ذلك، فينشغلوا بغراسة الأرض، وعمارتها، وإجراء مياهها، كما شُوهد في كثير من بلادهم وأحوالهم. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه -والله أعلم- أنهم يتركونها، ويُعْرِضون عنها، فتبقى مُهْمَلة لا تُزْرَع ولا تُسْقَى من مياهها، وذلك لقلة الرجال، وكثرة الحروب، وتراكم الفتن، وقرب الساعة، وقلة الآمال، وعدم الفراغ لذلك، والاهتمام به. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما فسّر به النوويّ هذا الحديث من أن المراد به تعطيل الأراضي، وعدم عمارتها مما لا يخفى بعده، بل الظاهر ما فسّر به القرطبيّ في كلامه المذكور آنفًا؛ لأنه الذي يقتضيه ظاهر سياق الحديث.

وحاصله أن المراد إقبال العرب على استثمار أراضيها، وإحيائها، بإجراء الأنهار، وغرس الأشجار، وزرع الحبوب، وتركها ارتحالها وتنقّلاتها من مكان إلى مكان؛ طلبًا للكلأ، على ما هو المعتاد لها، فإن هذا هو المطابق للواقع،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 485.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 26.

(3)

"المفهم" 3/ 57.

(4)

"شرح مسلم" 7/ 97.

ص: 368

كما هو مشاهدٌ اليومَ في المملكة العربيّة السعوديّة، وغيرها من البلاد العربيّة، ففيه عَلَم من أعلام النبوّة حيث وقع ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أخبر، والله تعالى أعلم.

(مُرُوجًا) بضمّ الميم: جمع مَرْج بفتح فسكون، كفلس وفُلُوس: وهي أرض ذات نبات ومَرْعًى، قاله الفيّوميّ، وقال ابن الأثير:"الْمَرْج": الأرض الواسعة ذات نبات كثير، تَمْرُج فيه الدوابّ؛ أي: تُخلّى تَسْرَحُ مُختلطةً، كيف شاءت. انتهى

(1)

.

(وَأنهَارًا") بالفتح: جمعِ نَهَر بفتحتين، كسَبَب وأسباب، وهو الماء الجاري المتّسع، ويقال فيه: نهْرٌ بفتح، فسكون، فعلى هذا يُجمَع على نُهُر بضمّتين، وأنْهُر، قاله الفيّوميّ

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2339 و 2340](1012)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 370 و 417)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6681 و 6700)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 89)، و"الحلية"(7/ 141)، وفوائده تعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2340]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ، فَيَفِيضَ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ صَدَقَةً، وَيُدْعَى إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا أَرَبَ لِي فِيهِ").

(1)

"النهاية" 4/ 315.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 627.

ص: 369

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقة [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبت حافظ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بْنِ يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(أَبُو يُونُسَ) سُليم بن جُبير الدوسيّ المصريّ، مولى أبي هريرة، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.

"أبو هريرة" ذُكر قبله.

وقوله: (حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ إلخ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين: أجودهما، وأشهرهما "يُهِمّ" بضم الياء، وكسر الهاء، ويكون "ربَّ المال" منصوبًا مفعولًا، والفاعلُ "مَنْ"، وتقديره: يُحْزنُه، وَيهْتَمّ له.

والثاني: "يَهُمّ" بفتح الياء، وضم الهاء، ويكون "ربَّ المال" مرفوعًا فاعلًا، وتقديره: يَهُمّ ربُّ المال من يقبل صدقته؛ أي: يقصده، قال أهل اللغة: يقال: أهمه: إذا أحزنه، وهَمَّهُ: إذا أذابه، ومنه قولهم: هَمَّكَ ما أَهمَّك؛ أي: أذابك الشيءُ الذي أحزنك، فأذهب شحمك، وعلى الوجه الثاني هو من هَمَّ به إذا قَصَدَهُ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام النوويّ أن همّ ثلاثيًّا لا يأتي بمعنى "أحزن"، وإنما هو بمعنى "قصد" فقط، وليس كذلك، فقد ذكر أهل اللغة أنه يأتي بمعنى أحزن، قال الفيّوميّ رحمه الله: والْهَمّ الحزن، وأهمّني الأمر بالألف: أقلقني، وهَمّني هَمًّا، من باب قَتَل مثلُهُ. انتهى

(2)

.

وقال المجدّ رحمه الله: "الْهَمّ": الْحُزن، جمعه هُمُومٌ، وما هَمَّ به في نفسه، وهَمَّهُ الأمر هَمًّا: ومَهَمَّةً: حَزَنَهُ، كأهمّه، فاهتمّ. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 97.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 641.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 192.

ص: 370

وقوله: (وَيُدْعَى إِلَيْه الرَّجُلُ) ببناء الفعل للمفعول، والضمير المجرور للصدقة، بتأويل المال.

وقوله: (لَا أَرَبَ لِي فِيهِ) بفتحتين، ويقال فيه: الإِرْبةُ بالكسر، والْمَأرُبةُ بفتح الراء، وضمّها: الحاجة، والجمع المآرب، والأَرَبُ في الأصل مصدر، من باب تَعِبَ، يقال: أَرِبَ الرجلُ إلى الشيء: إذا احتاج إليه، فهو آربٌ، على فاعلٍ، والإِرْبُ بالكسر يُستعمل في الحاجة، وفي العضو، والجمعُ آرابٌ، مثلُ حِمْل وأحمال، وفي الحديث:"وكان أملككم لإِرْبِهِ"؛ أي: لنفسه عن الوقوع في الشهوة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وذكر في "القاموس" من معنى الإِرْب بالكسر الحاجةَ، كالإرْبة بالكسر، والضمّ، والأَرَب محرّكةً، والْمَأرِبة مثلّثة الراء

(2)

.

وقوله: (لا أَرَبَ لي فِيهِ) أي: لا حاجة لي في المال بمعنى الصدقة.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2341]

(1513) - (وَحَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ، وَاللَّفْظُ لِوَاصِلٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (تَقِيءُ الْأَرْضُ أفلَاذَ كَبِدِهَا، أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ، فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيجِيءُ الْقَاطِعُ، فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِق، فَيَقُولُ: في هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ، فَلَا يَأخُدُونَ مِنْهُ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقة [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 587.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 11.

(2)

راجع: "القاموس" 1/ 36.

ص: 371

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ) هو: محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رِفَاعة بن سَمَاعة العِجْليّ، أبو هشام الرِّفاعيّ الكوفيّ، قاضي المدائن، ليس بالقويّ، من صغار [10].

روى عن عبد الله بن إدريس، وعبد الله بن نمير، وحفص بن غياث، وأبي أسامة، ومحمد بن فضيل، وأبي بكر بن عياش، ومعاذ بن هشام، وسعيد بن عامر الضبعيّ، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، والترمذيّ، وابن ماجه، وعثمان بن خُرّزاذ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وابن أبي خيثمة، وأحمد بن عليّ الأَبّار، وابن أبي الدنيا، وابن خزيمة، وغيرهم.

وذكر ابن عديّ أن البخاريّ روى عنه

(1)

، قال ابن محرز: سألت ابن معين، فقال: ما أرى به بأسً، وقال العجليّ: كوفيّ لا بأس به، صاحب قرآن، قرأ على سُلَيم، وولي قضاء المدائن، وقال البخاريّ: رأيتهم مجتمعين على ضعفه، وقال النسائيّ: ضعيف، وقال الحسين بن إدريس: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: أبو هشام الرفاعيّ رجل حسن الخلق، قارئ للقرآن، قال: ثم سألت عثمان وحدي عن أبي هشام الرفاعيّ، فقال: لا تخبر هؤلاء، إنه يَسْرِق حديث غيره فيرويه، قلت: أعَلى وجه التدليس، أو على وجه الكذب؟، فقال: كيف يكون تدليسًا، وهو يقول: حدَّثنا؟، وقال ابن عقدة، عن محمد بن عبد الله الحضرميّ: أَلْقَيتُ على ابن نُمير حديثًا، فقال: أَلْقِه على أهل الكوفة كلِّهم، ولا تُلْقِه على أبي هشام فيسرقه، وقال أبو حاتم الرازيّ: سألت ابن نمير عنه، فقال: كان أضعفنا طلبًا، وأكثرنا غرائب، وقال ابن عديّ: سمعت عبدان يقول: كنا مع أبي بكر بن أبي شيبة في جنازة، فأقبل أبو هشام، فقلت: يا أبا بكر ما تقول فيه؟ فقال: انظر إليه، ما أحسن خضابه؟

(1)

قال في "تهذيب التهذيب"(3/ 735): وما نقله المزيّ عن ابن عديّ أنه ذكره في شيوخ البخاريّ، هو كما قال، لكن ابن عديّ قال: استشهد به البخاريّ، وقد بَيَّن المزيّ بعدُ أنه غلظٌ من ابن عديّ، وأن الذي روى عنه البخاريّ إنما هو محمد بن يزيد الحزاميّ الكوفيّ، وقد فرّق البخاري وغيره بينه وبين أبي هشام، فالله تعالى أعلم. انتهى.

ص: 372

وقال أحمد بن عليّ الآبار: سألوا عبد الله بن عمر؛ يعني: ابن أبان، عن أبي هشام، فلم يعجبه، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: ضعيف، يتكلمون فيه، هو مثل مسروق بن المرزبان، وقال طلحة بن محمد بن جعفر: استُقضي أبو هشام الرفاعي في سنة اثنتين وأربعين، وهو رجل من أهل القرآن والعلم والفقه والحديث، قرأ علينا ابن صاعد أكثر كتابه في القراءات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ ويخالف، وقال الْبَرْقانيّ: ثقة، أمرني الدارقطنيّ أن أخرج حديثه في الصحيح.

قلت: وقال أبو عمرو الدانيّ: أخذ القراءات عن جماعة، وله عنهم شذوذ كثير، فارق فيه أصحابه، قال ابن عديّ: أُنكِر على أبي هشام أحاديثُ عن ابن إدريس، وأبي بكر، وغيرهما مما يطول ذكره، وقال الدارقطنيّ: تكلم فيه أهل بلده، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقويّ عندهم، وقال مسلمة: لا بأس به. قال ابن حبان: مات سنة ثمان وأربعين ومائتين في سلخ شعبان، وقال طلحة بن محمد: مات سنة تسع، وقال الخطيب: الأول أصحّ.

روى عنه المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1013)، وحديث (157): "لا تذهب الدنيا حتى يمرّ الرجل على القبر، فيتمرغّ عليه

".

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأكثرين على تضعيف أبي هاشم الرفاعي، فيُعتذر عن المصنّف في روايته عنه بأنه إنما روى عنه حديثين فقط متابعة، فقد روى عنه هنا مع واصل بن عبد الأعلى، وأبي كريب، وروى عنه (157) حديث: "لا تذهب الدنيا حتى يمرّ الرجل على القبر، فيتمرغّ عليه

" مع عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح مُشكدانة، فتنبّه.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غزوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

4 -

(أَبُوهُ) فُضَيل بن غَزْوان بن جرير الضّبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

5 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

ص: 373

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتفاقهم في التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: واصل، والرفاعيّ، كما أسلفت آنفًا، وأما أبو كُريب فمن شيوخ الجماعة بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَقِيءُ) مضارع قاء؛ أي: تلقي (الأَرْضُ أفلَاذَ كَبِدِهَا) -بفتح الهمز-: جمع الْفِلْذة، وهي القطعة المقطوعة طولًا، وسُمِّي ما في الأرض كَبِدًا تشبيهًا بالكبد التي في بطن البعير؛ لأنها أحبّ ما هو مُخَبَّأ فيها، كما أن الكبد أطيب ما في بطن الجزور، وأحبه إلى العرب، وإنما قلنا في بطن البعير؛ لأن ابن الأعرابيّ قال: الْفِلْذ لا يكون إلا للبعير، فالمعنى تُظْهِر كنوزها وتخرجها من بطونها إلى ظهورها، قاله في "المرقاة"

(1)

.

وقال في "المشارق": قيل: معادنها، وقيل: كنوزها، وما خُبِئ فيها، وكَبِدها بطونها، وعَبَّر عمّا تُخرجه من ذلك بفِلْذَة الكَبِد، وهي القطعة منه. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: الْفِلْذة: بالذال المعجمة: القِطعة من الشيء، والجمع فِلَذٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَر، وفَلَذْتُ له من الشيء فَلْذاً، من باب ضرب: قطعتُ. انتهى

(3)

.

وقال ابن السِّكِّيت: الْفِلْذ: القطعة من كَبِد البعير، وقال غيره: هي القطعة من اللحم، ومعنى الحديث التشبيه: أي: تُخْرِج ما في جوفها من الْقِطَع

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 80.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 333.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 481.

ص: 374

المدفونة فيها

(1)

.

وقال الطيبيّ: قوله: "أفلاذ كبدها" استعارة مكنيّة مستلزمة للتخييليّة، شَبَّهَ الأرضَ بالحيوان، ثم خيّل لها ما يُلازم الحيوان من الكبد، فأضاف إليها الكبد على التخييليّة؛ لتكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقية، ثم فرعّ على الاستعارة القيء ترشيحًا. انتهى

(2)

.

(أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ) بضم الهمزة والطاء، وهو جمع أُسْطوانة، وهي السارية، والعمود، وشَبّهَهُ بالأسطوان؛ لِعِظِمه وكثرته

(3)

. وقال القاري: وفي نسخة صحيحة -يعني: نسخة "المشكاة"- "الأسطوانة"، فهي واحدة، والأوّل جنس، وهو الأنسب بجمع الأمثال. انتهى.

وقوله: (مِنَ الذَّهَب وَالْفِضَّةِ) بيان لـ "أفلاذ كبدها"، وقال القاضي البيضاويّ: معناه: أن الأَرضَ تُلقي من بطنها ما فيه من الكنوز، وقيل: ما رسخ فيها من العروق المعدنيّة، ويدلّ عليه قوله:"أمثال الأسطوان"، وشبّهها بأفلاذ الكبد؛ لأنها أحبّ ما هو مخبّأ فيها، كما أن الكبد أطيب ما في بطن الجزور، وأحبّه إلى العرب، وشبّهها بأفلاذ الكبد هيئةً وشكلًا، كأنها قطعة الكبد المقطوعة طولًا. انتهى

(4)

.

قال القاريّ: ولعل الحديث فيه إشارة إلى قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} [الزلزلة: 1، 2]

(5)

.

(فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ) أي: قاتل النفس ظلمًا (فَيَقُولُ: فِي هَذَا) أي: في طلب هذا الغرض، ولأجل تحصيل هذا المقصود، قال الطيبيّ رحمه الله: المشار إليه ليس عين ما قيل فيه، بل هو من جنسه، فيكون في الكلام تشبيهٌ، نحو قوله تعالى:{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} الآية [البقرة: 25]

(6)

.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 98.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3439.

(3)

"شرح النووي" 7/ 98.

(4)

راجع: "الكاشف" 11/ 3438 - 3439.

(5)

"المرقاة" 10/ 80.

(6)

"الكاشف" 11/ 3439.

ص: 375

(قَتَلْتُ) أي: من قلت من النفس (وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ) أي: قاطع الرحم (فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ) بالبناء للفاعل (رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ، فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي) بصيغة المجهول، قال القاري رحمه الله: ولو رُوِيَ معلومًا لكان له وجهٌ؛ أي: تسببتُ لقطع يدي (ثُمَّ يَدَعُونَهُ) بفتح أوله وثانيه: أي: يتركون ما قاءت الأرض، من الكنز، أو المعدن (فَلَا يأخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا") أي: لعدم رغبتهم في جمع المال، حيث إن الساعة اقتربت، وانقطعت الآمال في البقاء في الدنيا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2341](1013)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2208)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 32)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 89)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6697)، وفوائد الحديث تُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) -) بَابُ بَيَانِ قَبُول اللهِ سبحانه وتعالى الصَّدَقَةَ مِنَ الْكَسْبِ الطَيِّبِ، وَتَرْبِيَتِهِ لَهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2342]

(1014) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، أنَّهُ سَمِعَ إبا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطيِّبَ، إِلا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً، فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أَوْ فَصِيلَهُ").

ص: 376

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْن سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175 (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان الْمَقْبريّ، أبو سعد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ) أبو الْحُبَاب المدنيّ، ثقةٌ متقنٌ [3](ت 117) أو قبلها بسنة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 5/ 1614.

5 -

(؟ لو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه فبغلانيّ، والليث فمصريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين من الرواية، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ، أنَّهُ سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا) نافيةٌ (تَصَدَّقَ أَحَدٌ) قال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: الصدقة ما يُخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوَّع به، والزكاة للواجب، وقيل: يُسمّى الواجب صدقة إذا تحرّى صاحبه الصدق في فعله. انتهى

(1)

.

(بِصَدَقَةٍ) الباء يكثر زيادتها بعد "ما" النافية، و"ليس"، و"كان" المنفيّة بـ "لم"، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

(1)

"مفردات ألفاظ القرآن" ص 480.

ص: 377

وَبَعْدَ "مَا" وَ "لَيْسَ" جّرَّ الْبَا الْخَبَرْ

وَبَعْدَ "لَا" وَنَفْي "كَان" قَدْ يُجَرْ وقوله: (مِنْ طَيِّبٍ) أي: حلالٍ، وقد يطلق الطيّب عَلى المستلَذّ بالطبع، والمراد هنا هو الحلال.

وفي رواية الشيخين: "مَن تصدّق بِعَدْل تمرة من كسب طيّب": أي: بقيمتها؛ لأنه بالفتح: المثل، وبالكسر: الِحْمل بكسر المهملة، هذا قول الجمهور، وقال الفرّاء: بالفتح: المثل من غير جنسه، وبالكسر من جنسه، وقيل: بالفتح مثله في القيمة، وبالكسر في النظر، وأنكر البصريّون هذه التفرقة، وقال الكسائيّ: هما بمعنى، كما أنّ لفظ المثل لا يختلف، وضُبط في هذه الرواية للأكثر بالفتح. انتهى

(1)

.

وقوله: "من كسب طيّب" أي: صناعة، أو تجارة، أو زراعة، أو غيرها، ولو إرثًا، أو هبة، قال الحافظ رحمه الله: معنى الكسب: المكسوبُ، والمراد به ما هوأعمّ من تعاطي التكسّب، أو حصول المكسوب بغير تعاط، كالميراث، وكأنه ذكر الكسب؛ لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطيّب الحلال؛ لأنه صفة الكسب.

وقال القرطبيّ رحمه الله: والكسب الطيّب في هذا الحديث الحلال، وهذا كقوله تعالى:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وغيره، وأصل الطيّب المستلَذّ بالطبع، ثمّ أُطلق على المطلق بالشرع. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من كسب طيّب" صفة مميّزة لـ"عدل تمرة"؛ ليمتاز الكسب الخبيث الحرام. انتهى

(3)

.

(وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ) جملة معترضةٌ بين الشرط والجزاء لتقرير ما قبله، وفيه دليل على أن الحلال مقبول. وقال الطيبيّ رحمه الله: هذه الجملة معترضة واردة على سبيل الحصر بين الشرط والجزاء تأكيدًا، وتقريرًا للمطلوب من النفقة، ولَمّا قيّد الكسب بالطيّب أتبعه اليمين؛ لمناسبةٍ بينهما في الشرف،

(1)

"الفتح" 4/ 26.

(2)

"المفهم" 3/ 58 - 59.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1540.

ص: 378

ومن ثَمَّ كانت يده صلى الله عليه وسلم لطهوره. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: هذه الجملة معترضة لبيان أنه لا ثواب في غير الطيّب، لا أن ثوابه دون هذا الثواب؛ إذ قد يتوهّم من التقييد أنه شرط لهذا الثواب بخصوصه، لا لمطلق الثواب، فمطلق الثواب يكون بدونه أيضًا، فذُكِرَت هذه الجملة دفعًا لهذا التوهّم. ومعنى عَدَم قبوله أنه لا يُثيب عليه، ولا يرضى به. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ومعنى عدم القبول إلخ" فيه نظر؛ لأن هذا لازم لمعنى القبول، لا أنه مَعنَى القبول، والصواب أن القبول على ظاهر معناه على الوجه اللائق بالله عز وجل، كما يدلّ عليه قوله:"إلا أخذها الرحمن إلخ"، كما سيأتي بيانه قريبًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وإنما لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام؛ لأنه غير مملوك للمتصدّق، وهو ممنوعٌ من التصرّف فيه، والتصدّق به تصرّف فيه، فلو قُبلت منه لزم أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنه من وجه واحد، وهو محال، ولأن أكل الحرام يفسد القلوب، فتُحرَم الرّقّة، والإخلاص، فلا تقبل الأعمال، وإشارة الحديث إلى أنه لم يُقبل؛ لأنه ليس بطيّب، فانتفت المناسبة بينه وبين الطيّب بذاته. انتهى.

(إِلأ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بيَمِينِهِ) فيه إثبات اليمين لله عز وجل، على ما يليق بجلاله، وهذا المذهب الحقَّ الذي عليه سلف هذه الأمة، وسيأتي تمام الكلام عليه في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

(وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً) قال السنديّ رحمه الله: و"إن" وصليّةٌ؛ أي: ولو كانت الصدقة شيئًا حقيرًا. انتهى. (فَتَرْبُو) أي: تزيد تلك الصدقة (فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ) فيه إثبات الكفّ لله تعالى أيضًا على ما يليق بجلاله عز وجل (حَتَّى تَكُونَ) تلك الصدقة القليلة (أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ) أي: في الثقل، وفي الرواية التالية:"حتى تكون مثل الجبل أوأعظم"، وفي رواية ابن جرير: "حتى يُوَافَى بها يوم

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1540.

(2)

"شرح السنديّ" 5/ 57.

ص: 379

القيامة، وهي أعظم من أحد"؛ يعني: التمرة، ولفظ الترمذيّ:"حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد"، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} الآية [التوبة: 104]، وقوله:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} الآية [التوبة: 104]، وقوله:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية [البقرة: 276]، وفي رواية ابن جرير التصريح بأن تلاوة الآية من كلام أبي هريرة، وزاد في رواية عبد الرزّاق:"فتصدّقوا".

قال الحافظ رحمه الله: والظاهر أن المراد بعِظَمها أن عينها تعظم لتَثقُلَ في الميزان، وَيحْتَمِل أن يكون ذلك مُعَبَّرًا به عن ثوابها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأول هو الصواب، وأما الثاني، فيُبعِده سياق الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ) هذا التشبيه متعلّق بمحذوف: أي: يربيها الرحمن تربية، مثلَ تربية أحدكم إلخ، ويدلّ عليه رواية الشيخين، وغيرهما بلفظ:"ثم يُرتيها لصاحبها، كما يربّي أحدكم إلخ"(فَلُوَّهُ) - بفتح الفاء، وضمّ اللام، وفتح الواو المشدّدة-: أي: مُهْرَهُ، وهو بضمّ، فسكون: وَلَدُ الفرس، حين يُفلَى؛ أي: يُفْطَم، وقيل: هو كلّ فَطِيم، من ذوات حافر، والجمع أفلاء، كعدُوّ وأعداء، والأنثى فَلُوّةٌ بالهاء، والْفِلْوُ وزان حِمْل لغة فيه، وقال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شدّدت الواو، وإذا كسرتها سكّنت اللام، كجِرْوٍ.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وضَرَبَ المثل بالفُلُوّ الذي هو من كرائم النتاج، وأنه يُفتلى؛ أي: يُفطَم، وأنه أقبل للتربية من سائر النتاج؛ لأن الكسب الطيّب من أفضل أكساب الإنسان، وأنه أقبل للمزيد والمضاعفة، والخبيث الذي هو الحرام على عكسه، قال الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية [البقرة: 276]. انتهى

(2)

.

وقال في "المرعاة": وضرب المثلَ بالفُلُوّ؛ لأنه يزيد زيادة بيّنة، فإن صاحب النتاج لا يزال يتعاهده، ويتولّى تربيته، ولأن الصدقة نتاج عمله،

(1)

"الفتح" 4/ 27 - 28.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1540.

ص: 380

وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيمًا، فإذا أحسن القيام، والعناية به انتهى إلى حدّ الكمال، وكذلك عمل ابن آدم، لا سيّما الصدقة التي يُجاذبها الشحّ، ويتشبّث بها الهوى، ويقتفيها الرياء، ويكذرها الطبع، فلا تكاد تخلص إلى الله تعالى إلا موسومة بنقائص، لا يجبرها إلا نظر الرحمن، فإذا تصدّق العبد من كسب طيّب، مستعدًّا للقبول، فُتِحَ دونها بابُ الرحمة، فلا يزال نظر الله يُكسبها نعت الكمال، ويوفيها حصّة الثواب حتى ينتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبةُ بينه وبين ما قَدّم من العمل وقوعَ المناسبة بين التمرة والجبل، كذا قال التوربشتيّ

(1)

.

(أَوْ فَصِيلَهُ")"أو" هنا للشكّ من الراوي، و"الفصيل"-بالفتح-: ولد الناقة، سُمّي به؛ لأنه يُفصَل عن أمّه، فهو فعيل بمعنى مفعول، والجمع فُصلان، بضمّ الفاء، وكسرها، وقد يُجمع على فِصال، بالكسر، قاله في "المصباح".

ووقع في الرواية التالية: "فَلُوّه، أو قَلُوصه"، وهي التاقة الفتيّة، وللترمذيّ:"فلوّه، أو مُهْره"، ولعبد الرزاق:"مُهره، أو فَصيله"، وفي رواية البزّار:، مهره، أو رَضيعه، أو فَصيله"، ولابن خزيمة: "فلوّه، أو قال: فصيله"، وهذا يشعر بأن "أو" للشكّ، أفاده في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [19/ 2342 و 2343 و 2344 و 2345](1014)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1410)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(661 و 662)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2525)، وفي "الكبرى"(2304)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1842)، و"مالك" في "الموطّأ"(2/ 995) و (الشافعيّ) في "مسنده"

(1)

"المرعاة" 6/ 321.

(2)

"الفتح" 4/ 27.

ص: 381

(1/ 221 - 222)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1154)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 331 و 418 و 431 و 538)، و (الدارميّ) في "سننه"(1675)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2425)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(270)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 90)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 226)، (البيهقيّ) في "الكبرى" 4/ 190 - 191)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1631 و 1632)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): بيان الحثّ على الصدقة من الطيّب، وهو الحلال؛ لأن الله تعالى طيّب، لا يتقبل إلا طيّبا.

2 -

(ومنها): إثبات الوصف لله تعالى بأنه طيّب، قال القرطبيّ رحمه الله: أي: منَزّه عن النقائص، والخبائث، فيكون بمعنى القدّوس، وقيل: طيّب الثناء، ومُستَلَذّ الأسماء عند العارفين بها، وعلى هذا فطيّبٌ من أسمائه الحسنى، ومعدود في جملتها المأخوذة من السنّة، كالجميل، والنظيف، على قول من رواه، ورآه. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): فضل الصدقة من المال الحلال، حيث إن الرحمن يتقبَّلها بقبول حسنٍ.

4 -

(ومنها): إثبات صفة القبول لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه، ولا يقال: إنه بمعنى الرضا والمثوبة؛ لأن هذا تفسير باللازم، ولا حاجة إلى العدول إلى التأويل؛ إذ ليس نصّ يدلّ عليه، بل القبول على ظاهره، ولا يلزم من إثباته تشبيه بالمخلوق؛ إذ القبول الثابت له تعالى غير القبول الثابت للمخلوق، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

5 -

(ومنها): إثبات صفة اليمين لله تعالى على ما يليق بجلاله أيضًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

6 -

(ومنها): إثبات الكفّ لله تعالى كذلك.

7 -

(ومنها): بيان فضل الله تعالى للمتصدّق من مال طيّب، حيث يربّيها

(1)

"المفهم" 3/ 58.

ص: 382

له حتى تكون التمرة الواحدة من عِظَمِها مثل الجبل، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في آيات الصفات، وأحاديثها:

(اعلم): أنّ الحق الذي دَرَجَ عليه الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون، ومن تبعهم بإحسان هو إثبات ما دلّت عليه آيات الصفات، وأحاديثها الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظاهرها من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل ولا تأويل، بل على ما يليق بجلاله، كما قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

قال الإمام الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بعد أن أورد حديث الباب ما نصّه: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الربّ تبارك وتعالى، كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويُؤمَن بها، ولا يُتَوَهَّم، ولا يقال: كيفَ. هكذا رُوي عن مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوها بلا "كيف"، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنّة والجماعة.

وأما الجهميّة، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله تبارك تعالى في غير موضع من كتابه اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهميّة هذه الآيات، وفسّروها على غير ما فسّر به أهلُ العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إنما معنى اليد القوّة.

وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه؛ إذا قال: يدٌ كيدٍ، أو مثلُ يدٍ، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمعٌ كسمع، أو مثلُ سمعٍ، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يدٌ، وسمعٌ، وبصرٌ، ولا يقول: كيفَ، ولا يقول: مثلُ سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال تبارك وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله

(1)

، وهو كلام منوَّر، وبحثٌ محرَّر.

(1)

"الجامع" 3/ 331 - 332.

ص: 383

وأخرج الإمام البيهقيّ رحمه الله في "السنن الكبرى" -بعد أن أخرج حديث: "ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا

" الحديث- عن الوليد بن مسلم، أنه قال: سُئل الأوزاعيّ، ومالكٌ، وسفيان الثوريّ، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه؟ فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيفيّة.

وأخرج أيضًا عن أبي داود الطيالسيّ، أنه قال: كان سفيان الثوري، وشعبة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وشريك، وأبو عوانة لا يَحِدُّون، ولا يُشبّهون، ولا يمثّلون، يَرْوُون الحديث، ولا يقولون: كيفَ، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر.

قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزنيّ، يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدّقه، وهو قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، والنزول، والمجيء صفتان منفيّتان عن الله تعالى من طريق الحركة، والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله تعالى، بلا تشبيه، جلّ الله تعالى عمّا تقول المعطّلة لصفاته، والمشبّهة بها علوًّا كبيرًا. انتهى كلام البيهقيّ رحمه الله

(1)

، وهو كلام منقّح، وبحثٌ مصحَّح.

وقال الإمام المفسّر المحدّث البغويّ رحمه الله-في "شرح السنّة" بعد أن أخرج حديث النار، وفيه:"حتى يضع ربّ العزّة قدمه"، وفي لفظ:"رجله"، ما نصّه: قلت: والقدم، والرجل المذكوران في هذا الحديث من صفات الله عز وجل المنزّه عن التكييف والتشبيه، وكذلك كلّ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب والسنّة، كاليد، والإصبع، والعين، والمجيء، والإتيان، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها وأجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغٌ، والمنكر معطّلٌ، والمكيّفُ مشبِّهٌ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. انتهى كلام البغويّ رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحرير أنيسٌ.

وقال الحافظ الذهبيّ-رحمه الله في كتابه العلوّ للعليّ الغفّار" بعد أن ذكر عدّة

(1)

"السنن الكبرى" 2، 3/ 3.

(2)

"شرح السنّة" 16/ 257 - 258.

ص: 384

آيات من آيات الاستواء والعلوّ، ما نصّه: فإن أحببت يا عبد الله الإنصاف، فَقِفْ مع نصوص القرآن والسنّة، ثم انظر ما قاله الصحابة، والتابعون، وأئمّة التفسير في هذه الآيات، وما حكوه من مذاهب السلف

إلى أن قال: فإننا على اعتقادٍ صحيحٍ، وعقدٍ متينٍ من أن الله تعالى، تقدّس اسمه، لا مثل له، وأن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدّسة؛ إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، ونميّز ذاته المقدّسة عن الأشباه، من غير أن نعقل الماهيّة، فكذلك القول في صفاته، نؤمن بها، ونتعقل وجودها، ونعلمها في الجملة من غير أن نتعقلها، أو نكيّفها، أو نمثّلها بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. انتهى المقصود من كلام الحافظ الذهبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث محرّر، وتحقيق محبّر.

وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح": قال شهاب الدين السهرورديّ في كتاب العقيدة له: أخبر الله في كتابه، وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم الاستواء، والنزول، والنفس، واليد، والعين، فلا يُتصرّف فيها بتشبيه، ولا تعطيل؛ إذ لولا إخبار الله، ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى.

قال الطيبيّ: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح.

وقال غيره: لم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أُنزل إليه من ربّه، ويُنْزِل عليه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]، ثم يترك هذا الباب، فلا يميّز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز، مع حضّه على التبليغ عنه بقوله:"ليبلّغ الشاهد الغائب"، حتى نقلوا أقواله، وأفعاله، وأحواله، وصفاته، وما فُعل بحضرته، فدلّ على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله منها، ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم، فقد خالف سبيلهم، وبالله تعالى التوفيق. انتهى ما ذكره الحافظ في "الفتح"

(2)

، وهو كلام في غاية

(1)

راجع: "تحفة الأحوذيّ" 3/ 331.

(2)

"الفتح" 4/ 345.

ص: 385

التحقيق، والإنصاف، ولا تلتفت إلى ما سواه من التأويل والانحراف.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من نصوص هؤلاء الأئمة الأعلام أن الحقّ هو إثبات صفات الله عز وجل على ما جاءت به نصوص الكتاب، والسنّة الصحيحة، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، بل على ما يليق بجلاله عز وجل، وهذا هو الذي أجمع عليه السلف، ومن سار على طريقتهم، وسلك سبيلهم، من أهل العلم بالكتاب والسنّة.

وأما ما نقله في "الفتح" عن المازريّ، والقاضي عياض، والزين ابن المنيّر، وغيرهم من تأويلهم حديث الباب بالتأويلات التي ياباها ظاهر النصّ، وتخالف ما كان عليه السلف، مما تقدم من إثباتهم الصفات كما وردت على المعنى اللائق به عز وجل، وعدم الخوض بالتأويل فأقوال لا يلتفت إليها؛ لكونها مما أحدثه المتأخّرون، مخالفين لهدي سلفهم الذي هو الحقّ الحقيق بالقبول والاتباع {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، ولقد أحسن من قال:

وَكُلُّ خَيْبرٍ فِي اتِّبَاع مَنْ سَلَفْ

وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهمّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم آمين، آمين، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2343]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ

(1)

، مِنْ كَسْب طيِّبٍ، إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أَوْ قَلُوصَهُ، حَتَّى تكُون مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ").

هذا الإسناد بعينه تقدّم في الباب الماضي.

(1)

وفي نسخة: "تمرةً".

ص: 386

وقوله: (أَوْ قَلُوصهُ)"أو" للشكّ من الراوي، و"الْقَلُوصُ" بفتح اللام، وضمّ اللام، وهي الناقة الْفَييّة، ولا يُطلق على الذكر، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: القَلُوص من الإبل بمنزلة الجارية من النساء، وهي الشابّة، والجمع قُلُصٌ بضمّتين، وقِلَاصٌ بالكسر، وقَلَائِصُ. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2344]

(

) - (وحَدَّثَنِي أمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثنَا يَزِيدُ، يَعْنى ابْنَ زُريعٍ، حَدَّثنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ (ح) وَحَدّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ الْأَوْديُّ، حَدَّثنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدّثَنى سُلَيْمَانُ، يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، فِي حَدِيثِ رَوْحٍ:"مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ، فَيَضَعُهَا: في حقِّهَا"، وَفي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ:"فَيَضَعُهَا: في مَوْضِعِهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) الْعَيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(يَزِيدُ بْنَ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ العَنبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

4 -

(أَحْمَدُ بنُ عُثْمَانَ الْأَوْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [11]. روى عن أبيه وعمّه علي بن حكيم، وخالد بن مخلد، وغيرهم.

وروى عنه البخاري، والمصنف، والنسائي، وابن ماجه وأبو حاتم، وابن خزيمة في "صحيحه".

قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ثقة، وقال ابن خراش: كان ثقة عدلًا. وقال العقيلي والبزار: ثقة.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 99 - 100.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 513.

ص: 387

قال مطيّن وغيره: مات في المحرم سنة (261)، وقيل غير ذلك.

5 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ، أبو الهيثم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

6 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقة [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

و"سهيلٌ" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية رَوْحِ بن القاسم، عن سُهيل هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله: في "مستخرجه"(3/ 90) فقال:

(2269)

- وثناه محمد بن إسحاق، ثنا الحسين بن محمد الحرانيّ، ثنا الحسين بن يحيى الأرزيّ، ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زُريع، ثنا روح بن القاسم، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد لا يتصدق بالتمرة من الكسب الطيب، فيضعها في حقها، فيقبلها الله بيمينه، ثم لا يبرح يربيها أحسن ما ربى أحدكم فَلُوّه، حتى يكون مثل الجبل العظيم".

وأما رواية سليمان بن بلال، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2345]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أبو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ، عَنْ سُهَيْلٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب) تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ المدنيّ، صدوق له أوهام، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7] (ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.

4 -

(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

ص: 388

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية زيد بن أسلم، عن أبي صالح هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 91) فقال:

(2271)

- حدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا أحمد بن عيسى، ثنا ابن وهب، ثنا هشام بن سعد، حدّثني زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة (ح) وثنا أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن كريب، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا أحمد بن سعيد، ثنا ابن وهب، أنبأ هشام بن سعد، حدّثني زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما يَصَّدَّق أحد بصدقة، من كسب طيب، إلا يقبلها الله منه بيمينه، فَغَذَاها كما يَغْذُو أحدكم فَلوّه، أو فَصِيله، حتى تكون التمرة مثل الجبل". انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2346]

(1015) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو كرَيْبٍ محَمَّد بْن الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبو أسَامَةَ، حَدَّثنا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزوقٍ، حَدَّثَني عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ، لَا يَقْبَلُ

(1)

إِلَّا طَيبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ، أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ) الأغرّ الرّقَاشيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالتشيّع [7] مات في حدود (160)(ي م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1430.

(1)

وفي نسخة: "ولا يقبل".

ص: 389

2 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [4](116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"أبو أسامة": هو حماد بن أسامة، وأبو حازم: هو سلمان الأشجعيّ.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى فُضيل بن مرزوق، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، إلا الصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّهَا) بحذف حرف النداء؛ أي: يا أيها (النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ) أي: منزه عن النقائص والعيوب، ومُتَّصِفٌ بالكمالات من النعوت.

وقال الإمام ابن رجب رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيِّبٌ" هذا قد جاء أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله طيّب يحب الطيب، نظيفٌ يحب النظافة، جوادٌ يحبّ الجود"، أخرجه الترمذيّ، وفي إسناده مقال

(1)

، والطيِّب هنا معناه: الطاهر، والمعنى أن الله عز وجل مُقَدَّسٌ منزهٌ عن النقائص والعيوب كلها، وهذا كما في قوله تعالى:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} الآية [النور: 26]، والمراد المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها. انتهى

(2)

.

(1)

أخرجه الترمذي (2799) وفي إسناده خالد بن إلياس ضعّفوه.

(2)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 258 - 259.

ص: 390

(لَا يَقْبَلُ) وفي نسخة: "ولا يقبل" بواو العطف (إِلَّا طَيِّبًا) أي: لا يقبل من الصدقات ونحوها من الأعمال إلا طيبًا أي: منزهًا عن العيوب الشرعية، والأغراض الفاسدة في النيّة.

قال القاضي البيضاويّ رحمه الله: الطيِّب ضد الخبيث، فإذا وُصف به الله تعالى أُريد به أنه مُنَزَّه عن النقائص، مُقَدَّس عن الآفات والعيوب، وإذا وُصف به العبد مطلقًا أُريد به أنه المتَعَرِّي عن رذائل الأخلاق، وقبائح الأعمال، والمتحلِّي بأضداد ذلك، وإذا وُصف به الأموال أُريد به كونه حلالًا، من خيار الأموال.

ومعنى الحديث أنه تعالى مُنَزَّه عن العيوب، فلا يَقْبَل، ولا ينبغي أن يُتَقَرَّب إليه إلا بما يناسبه في هذا المعنى، وهو خيار أموالكم الحلال، كما قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} الآية [آل عمران: 92]. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله: "لا يقبل إلا طيبًا" قد ورد معناه في حديث الصدقة، ولفظه:"لا يتصدق أحدٌ بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبًا"، متّفقٌ عليه، والمراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبًا حلالًا.

وقد قيل: إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله: "لا يقبل إلا طيبًا" أعمّ من ذلك، وهو أنه لا يَقْبَل من الأعمال إلا ما كان طيبًا طاهرًا من المفسدات كلها، كالرياء، والعجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبًا حلالًا، فإن الطيب يوصف به الأعمال، والأقوال، والاعتقادات، وكل هذه تنقسم إلى طيب وخبيث.

وقد قيل: إنه يدخل في قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} الآية [المائدة: 100]، هذا كله، وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} الآية [إبراهيم: 24]، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم: 26]، وقال تعالى:

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2095 - 2096.

ص: 391

{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الآية [فاطر: 10]، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث.

وقد قيل: إنه يدخل في ذلك الأقوال، والأعمال، والاعتقادات أيضًا، ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب، بقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} الآية [النحل: 32]، وإن الملائكة تقول عند الموت:"اخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب"، وإن الملائكة تسلم عليهم عند دخولهم الجنة، يقولون لهم:{طِبْتُمْ} [الزمر: 73]، وقد ورد في الحديث أن المؤمن إذا زار أخاه في الله، تقول له الملائكة:"طِبْتَ وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا"

(1)

. فالمؤمن كله طيّبٌ، قلبه، ولسانه، وجسده، بما يسكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان، وداخلة في اسمه، فهذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل.

ومن أعظم ما يحصل به طيبةُ الأعمال للمؤمن طِيبُ مطعمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله.

قال: وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنه لا يُقبَلُ العملُ، ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله، فإنه قال بعد تقريره:"إن الله لا يقبل إلا طيبًا": "وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الآية [المؤمنون: 51]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172] ".

والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما كان الأكل حلالًا، فالعمل الصالح مقبول، فإذا كان الأكل غير حلال، فكيف يكون العمل مقبولًا؟ وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع

(1)

رواه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، وابن حبّان، وفي إسناده عيسى بن سِنان القسمليّ، وهو ضعيف.

ص: 392

التغذية بالحرام. انتهى

(1)

.

(وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ)"ما" موصولة، والمراد بها أكل الحلال، وتحسين الأموال (فَقَالَ) ابتداءً بما خَتَمَ به؛ رعايةً لتقديم المرسلين، وتقدمهم على المؤمنين وجودًا ورتبةً {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]) قال القاري رحمه الله: هذا النداء خطاب لجميع الأنبياء، لا على أنهم خوطبوا بذلك دَفْعَةً واحدةً؛ لأنهم أُرسلوا في أزمنة مختلفة، على أن كلًّا منهم خوطب به في زمانه، ويمكن أن يكون هذا النداء يوم الميثاق؛ لخصوص الأنبياء، أو باعتبار أنه تعالى ليس عنده صباح ولا مساء، وفيه تنبيهٌ نبيهٌ على أن إباحة الطيبات شرع قديم، واعتراض على الرّهبانية في رفضهم اللذات، وإماءٌ إلى أن أكل الطيب مُورث للعمل الصالح، وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ) عز وجل ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا}) الأمر للإباحة، أو للوجوب، كما لوأشرف على الهلاك، أو للندب، كموافقة الضيف، والاستعانة به على الطاعة ({مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}) أي: حلالاته، أو مستلذاته، وتتمته:{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

وفيه إشارة إلى أن الله تعالى خَلَق الأشياء كلها لعبيده، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية [البقرة: 29]، وأنه خلق عبيدة لمعرفته وعبادته، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56، 57].

(ثُمَّ ذَكَرَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (الرَّجُلَ) بالنصب على المفعولية، قال القاريّ رحمه الله: وفي نسخة

(3)

بالرفع على أنه مبتدأ، وما بعده خبره، والجملة في محل النصب على المفعولية.

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ثم ذَكَرَ الرجلَ" يريد الراوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَّب كلامه بذكر الرجل الموصوف؛ استبعادًا أن الله تعالى يقبل دعاء آكل

(1)

"جامع العلوم" 1/ 259 - 260.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 6/ 6.

(3)

يعني: نسخة "المشكاة".

ص: 393

الحرام؛ لبغضه الحرام، وبُعد مناسبته عن جنابه الأقدس، فأوقع فعله على "الرجل" ونصبه، ولو حَكَى لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم رفع "الرجل" بالابتداء والخبرُ "يُطِيل"، ونحوه أنشد في "الكشّاف":

وَجَدْنَا فِي كِتَابِ بَنِي تَمِيمٍ

أَحَقَّ الْخَيْلِ بِالرَّكْضِ الْمُعَارِ

فإن قوله: "أحقَّ الخيل" إن رُفِع كان على الحكاية، وإن نُصب كان مفعولًا لـ "وَجَدَ".

قال: وقوله: "أشعث، وأغبر" حالان مترادفان من فاعل "يَمُدّ" أي: يمد يديه قائلًا: يا رب، وقوله:"ومطعمه، ومشربه، وملبسه، وغُذِي" حال من فاعل "قائلًا"، وكلُّ هذه الحالات دالّة على غاية استحقاق الداعي للإجابة، ودلّت تلك الخيبة على أن الصارف قويّ، والحاجز مانع شديدٌ. انتهى

(1)

.

وتعقّبه القاري في قوله: "وكل هذه الحالات

إلخ " بأنه توسع؛ لخروج مطعمه إلخ، فإنها حالات دالة على استحقاق الداعي عدم الإجابة، كما قال: "فَأنَّى يُستجاب له"

(2)

.

(يُطِيلُ السَّفَرَ) أي: زمانه، ويُكثر مباشرته، في العبادات، كالحجّ، والعمرة، والجهاد، وتعلم العلم، وسائر وجوه الخيرات.

فجملة: "يُطيل السفر" محلها نصب صفة لـ "الرجل"؛ لأن المعرّف بـ "أل" الجنسيّة بمنزلة النكرة، كقوله تعالى:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وكقوله [من الوافر]:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي

وقوله: (أَشْعَثَ أَغْبَرَ) حالان متداخلان، أو مترادفان من فاعل "يُطيل"، وما يتلوهما من الأحوال كلّها متداخلات، فقوله:(يَمُدُّ) بفتح أوله، وضم ثالثه، من المذ ثلاثيًّا حال من ضمير "أشعث" (يَدَيْهِ) أي: حال كونه مادًّا يديه، رافعًا لهما (إِلَى السَّمَاءِ) وقوله:(يَا رَبِّ، يَا رَبِّ) مكرّرًا، حال من فاعل "يمُدّ"؛ أي: يمُدّ يديه قائلًا: يا ربّ يا ربّ.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2096.

(2)

"المرقاة" 6/ 6.

ص: 394

وفيه إشارة إلى أن الدعاء بلفظ الرب مؤثِّر في الإجابة؛ لإيذانه بالاعتراف بأن وجوده فائض عن تربيته، وإحسانه، وجوده، وامتنانه ولذا حُكي عن بعضهم أنه قال: مَن حَزَبَهُ أمر، فقال خمس مرات: ربنا، نجّاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد؛ لأن الله تعالى حَكَى في "آل عمران" عن أولي الألباب أنهم قالوا: ربنا خمس مرَّات، فقال تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} الآية [آل عمران: 195]

(1)

.

(وَمَطْعَمُهُ) مصدر ميميّ بمعنى مفعول، أو اسم مكان، أو زمان طعامه، وهو مبتدأ خبره قوله:(حَرَامٌ) والجملة حالٌ من فاعل "قائلًا"، وكذا قوله:(وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ) -بضم الغين، وكسر الذال المعجمة المخففة- كذا ضبطه النوويّ رحمه الله، قال القاري رحمه الله: وفي نسخ "المصابيح" وقعت مُقَيَّدةً بالتشديد، كذا ذكره الطيبيّ رحمه الله، وهو كذلك في بعض نسخ "المشكاة".

والمعنى رُبِّي بالحرام؛ أي: من صغره إلى كبره، قال الأشرف رحمه الله: ذكر قوله: "وغُذِيَ بالحرام" بعد قوله: "ومطعمه حرام"، إما لأنه لا يلزم من كون المطعم حرامًا التغذية به، وإما تنبيهًا به على استواء حالتيه، أعني كونه منفِقًا في حال كبره، ومنفَقًا عليه في حال صغره، في وصول الحرام إلى باطنه، فأشار بقوله:"ومطعمه حرام" إلى حال كبره، وبقوله:"وغُذِي بالحرام" إلى حال صغره، وهذا دالّ على أن لا ترتيب في الواو.

وذهب المظهر رحمه الله إلى الوجه الثاني، ورجح الطيبيّ رحمه الله الوجه الأوّل، قال القاري: ولا مانع من الجمع، فيكون إشارةً إلى أن عدم إجابة الدعوة إنما هو لكونه مُصِرًّا على تلبّس الحرام، والله تعالى أعلم.

(فَأنَّى) أي: فكيف، أو فمن أين (يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ") والاستفهام لاستبعاد

الاستجابة، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لذلك" يحتمل أن تكون الإشارة إلى

الرجل، كما قال تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} الآية [الأنبياء: 84]، والمعنى كيف

يستجاب لذلك الرجل المتلبّس بتلك المحرّمات؟ ويحتَمِل أن تكون إلى كون

(1)

راجع: "المرقاة" 6/ 6.

ص: 395

مطعمه ومشربه وملبسه وغذائه حرامًا، والمعنى أنى يُستجاب له لما ذُكر من تلبّسه بالمحرّمات.

وقال الأشرف رحمه الله: وفيه إيذان بأن حِلّ المطعم والمشرب مما تتوقف عليه إجابة الدعاء، ولذا قيل: إن للدعاء جناحين: أكل الحلال، وصدق المقال

(1)

.

وقال ابن رجب رحمه الله: معنى "فأَنَّى يُستجاب لذلك": كيف يستجاب له؟ فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابة، ومنعها بالكلية

(2)

.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: أراد بالرجل الحاجّ الذي أثّر فيه السفر، وأخذ منه الجهد، وأصابه الشعث، وعلاه الغبرة، فطَفِقَ يدعو الله على هذه الحالة، وعنده أنهما من مظانّ الإجابة، فلا يستجاب له، ولا يعبأ ببؤسه وشَقَائه؛ لأنه متلبِّس بالحرام، صارف النفقة من غير حلها.

قال الطيبيّ رحمه الله: فإذا كان حال الحاجّ الذي هو في سبيل الله هذا، فما بال غيره؟ وفي معناه أمر المجاهد في سبيل الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"طوبى لعبد أخذ بعِنَان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه". انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه] هذا الحديث صحيح، كما هو صنيع المصنّف رحمه الله، ورجاله ثقات، رجال الشيخين، غير فضيل بن مرزوق، فإنه من رجال مسلم، والأكثرون على توثيقه، فقد وثّقه سفيان الثوريّ، وابن معين، في أصحّ الروايات عنه، والعجليّ، ويعقوب بن سُفيان، وابن خراش، وقال أحمد: لا أعلم إلا خيرًا، وقال البخاريّ: مقارب الحديث، ووثّقه مسلم، حيث احتجّ به

(1)

راجع: "الكاشف" 7/ 2097.

(2)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 275.

(3)

"الكاشف" 7/ 2097.

ص: 396

في "صحيحه"، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وقال ابن رجب: وفضيل بن مرزوق ثقةٌ وسطٌ، خرَّج له مسلم دون البخاريّ

(1)

.

وإنما ضعّفه النسائيّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وفي "المجروحين"، وقال أبو حاتم: صدوقٌ صالح الحديث يَهِمُ كثيرًا، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأكثرين على توثيق فضيل بن مرزوق، ومن أغرب ما يُرى أن بعض من كتب في هامش "صحيح مسلم"

(2)

أشار إلى الطعن في صحّة هذا الحديث، حيث قال: أخرجه مسلم، والبخاريّ في "جزء رفع اليدين"، والترمذيّ، وأحمد، من طريق فُضيل بن مرزوق، وهو ضعيف، ثم ذكر قول من ضعّفه، فقط، ولم يذكر أحدًا ممن وثّقه، وهذا عجيب، وجراءة على "صحيح مسلم".

والحقّ أن الحديث صحيحٌ، كما هو رأي المصنّف؛ لأن الأكثرين على توثيق فضيل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2346](1015)، و (البخاريّ) في "جزء رفع اليدين"(91)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2989)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 20)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 328)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 241)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 389)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 91)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 346)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قبول الصدقة من الكسب الطيّب.

2 -

(ومنها): بيان الحثّ على كسب الحلال، واجتناب الحرام.

3 -

(ومنها): بيان أن الصدقة من المال الحرام غير مقبولة، وكذا الصلاة في الثوب المغصوب أو المسروق، والحجّ بالمال الحرام، وغير ذلك من

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 258.

(2)

هو الشيخ مسلّم بن محمود بن عثمان الأثريّ. انظر تخريجه لـ: "صحيح مسلم" 2/ 159.

ص: 397

العبادات التي تؤدّى بالمال الحرام، وسيأتي تفصيل ذلك في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.

4 -

(ومنها): بيان أنه لا يُقبل العمل، ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله.

5 -

(ومنها): بيان أن الله تعالى فضّل المؤمنين، ورفع قدرهم حيث خاطبهم بما خاطب به المرسلين، وأمرهم بما أمرهم به، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الآية [المؤمنون: 51]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172].

6 -

(ومنها): بيان أن الدعاء محجوب عمن يأكل الحرام.

7 -

(ومنها): الإشارة إلى أهمّ آداب الدعاء، حيث قال:"ثم ذكر الرجل يطيل السفر إلخ" على ما يأتي بيانه في المسألة السادسة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الحجّ بالمال الحرام، وكذا الصلاة، والصدقة، ونحوها:

قال الإمام ابن رجب رحمه الله: قد اختَلَف العلماء في حَجّ مَن حج بمال حرام، ومن صلى في ثوب حرام، هل يسقط عنه فرض الصلاة والحج بذلك؟ وفيه عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان، وهذه الأحاديث المذكورة تدلّ على أنه لا يتقبل العمل مع مباشرة الحرام، لكن القبول قد يراد به الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة، والمباهاة به، وقد يراد به حصول الثواب، والأجر عليه، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة، فإن كان المراد هاهنا القبول بالمعنى الأول، أو الثاني لم يمنع ذلك من سقوط الفرض به من الذمة، كما ورد أنه لا تُقْبَل صلاة الآبق، ولا المرأة التي زوجها عليها ساخطٌ، ولا من أتى كاهنًا، ولا من شرب خمرًا أربعين يومًا، والمراد -والله أعلم- نفي القبول بالمعنى الأول، أو الثاني، وهو المراد -والله أعلم- من قوله عز وجل:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، ولهذا كانت هذه الآية يشتد منها خوف السلف على نفوسهم، فخافوا أن لا يكونوا من المتقين الذين يتقبل الله منهم.

ص: 398

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "نفي القبول إلخ" وعندي أن نفي القبول بمعنى سقوط الفرض هو الأقرب؛ لأنه الموافق لظواهر النصوص، ولا يعدل عن ظواهرها إلا لدليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: وسئل أحمد عن معنى {الْمُتَّقِينَ} فيها، فقال: يتقي الأشياء فلا يقع فيما لا يحل.

وقال أبو عبد الله النباجيّ الزاهد رحمه الله: خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحقّ، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل، وذلك إذا عرفت الله عز وجل، ولم تعرف الحقّ لم تنتفع، وإذا عرفت الحقّ ولم تعرف الله لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحقّ، ولم تخلص العمل لم تنتفع، وإن عرفت الله، وعرفت الحقّ، وأخلصت العمل، ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمّت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع

(1)

.

وقال وهب بن الورد: لو قمت مقام هذه السارية، لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك، حلال أم حرام؟

(2)

.

وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة، كما في "صحيح مسلم" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل الله صلاةً بغير طُهُور، ولا صدقةً من غُلول"، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما تصدق عبد بصدقة من مال طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه

"، وذكر الحديث.

وفي "مسند الإمام أحمد" رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يكتسب عبد مالًا من حرام، فينفق منه، فيبارَك فيه، ولا يتصدق به فيتقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث"

(3)

.

ويروى من حديث دَرّاج، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن

(1)

رواه أبو نعيم في "الحلية" 9/ 310.

(2)

"الحلية" 8/ 154.

(3)

في سنده الصبّاح بن محمد ضعيف.

ص: 399

النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من كسب مالًا حرامًا، فتصدق به، لم يكن له فيه أجرٌ، وكان إصرُهُ عليه"، خرَّجه ابن حبان في "صحيحه"

(1)

، ورواه بعضهم موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي مراسيل القاسم بن مُخَيمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أصاب مالًا من مأثم، فوصل به رحمه، وتصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع الله ذلك جميعًا، ثم قذف به في نار جهنم".

ورُوي عن أبي الدرداء، ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مَثَلَ من أصاب مالًا من غير حِلِّه، فتصدق به مثلَ من أخذ مال يتيم، وكسا به أرملةً.

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل، فكان يظلم، ويأخذ الحرام، ثم تاب، فهو يحجّ، وُيعتق، ويتصدق منه، فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث، وقال الحسن: أيها المتصدق على المسكين ترحمه ارحم من قد ظلمت. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من أقوال أهل العلم وأدلّتهم أن الطاعة التي أدّيت بمال الحرام لا تُقبل، وأن الذي يظهر ترجيح القول بأنها لا تُسقط الفرض؛ لظواهر النصوص، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم فيمن تصدّق بالمال الحرام:

قال الإمام ابن رجب رحمه الله: (اعلم): أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين:

[أحدهما]: أن يتصدق به الخائن، أو الغاصب، ونحوهما عن نفسه، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه؛ يعني: أنه لا يؤجر عليه، بل يأثم بتصرفاته في مال غيره بغير إذنه، ولا يحصل للمالك بذلك أجر؛ لعدم قصده ونيّته، كذا قال جماعة من العلماء، منهم ابن عقيل من الحنابلة.

وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي، أنه سأل

(1)

برقم (3368) وإسناده حسن.

ص: 400

سعيد بن المسيب، قال: وجدت لقطة، أفأتصدق بها؟ قال: لا تؤجر أنت، ولا صاحبها، ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب.

ولوأخذ السلطان، أو بعض نوابه من بيت المال مالًا يستحقه، فتصدق منه، أو أعتق، أو بنى به مسجدًا، أو غيره، مما ينتفع به الناس، فالمنقول عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كالغاصب؛ إذا تصدق بما غصبه، كذلك قال لعبد الله بن عامر أمير البصرة، وكان الناس قد اجتمعوا عنده في حال موته، وهم يُثنون عليه ببره وإحسانه، وابن عمر ساكت، فطلب منه أن يتكلم، فروى له حديث:"لا يقبل الله صدقة من غُلُول"، ثم قال له: وكنت على البصرة.

وقال أسد بن موسى في "كتاب الورع": حدثنا الفضيل بن عياض، عن منصور، عن تميم بن سلمة، قال: قال ابن عامر لعبد الله بن عمر: أرأيت هذا العقاب التي نُسَهِّلها، والعيون التي نُفَجِّرها، ألنا فيها أجر؟ فقال ابن عمر: أما علمتَ أن خبيثًا لا يكفر خبيثًا قط.

حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن أبي مليح، عن ميمون بن مِهْران، قال: قال ابن عمر لابن عامر، وقد سأله عن العتق، فقال: مَثَلُك مَثَلُ رجل سَرَق إبل حاجّ، ثم جاهد بها في سبيل الله، فانظر هل يقبل منه؟.

وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع، كطاوس، ووهيب بن الورد يَتَوَقَّون الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك.

وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه رَخّص فيما فعلوه من المنافع العامة، كالمساجد، والقناطر، والمصانع، فإن هذه يُنفَق عليها من مال الفيء، اللهم إلا أن يُتَيَقَّن أنهم فعلوا أشياء من ذلك بمال حرام، كالمكوس، والغصوب، ونحوهما، فحينئذ يُتَوَقَّى الانتفاع بما عُمِل بالمال الحرام، ولعل ابن عمر رضي الله عنهما إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم، ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك فهو صدقة منهم، فإن هذا شبيه بالمغصوب، وعلى مثل هذا يُحْمَل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد.

قال أبو الفرج ابن الجوزيّ رحمه الله: رأيت بعض المتقدمين يسأل عمن كَسَبَ حلالًا أو حرامًا من السلاطين والأمراء، ثم بَنَى الأربطة والمساجد، هل له ثواب؟ فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق، وأن له في إيقاف ما لا يملكه

ص: 401

نوع سَمْسَرَة؛ لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين، فيردَّ عليهم، قال: فقلت: واعجبًا من متصدرين للفتوى، لا يعرفون أصول الشريعة، ينبغي أن يُنْظَر في حال هذا المنفق أوّلًا، فإن كان سلطانًا، فما يخرج من بيت المال فقد عُرِفت وجوه مصارفه، فكيف يَمنع مستحقيه، ويَشغله بما لا يفيد، من بناء مدرسة، أو رباط؟، وإن كان من الأمراء، أو نواب السلاطين، فيجب أن يَرُدّ ما يجب رده إلى بيت المال، وإن كان حرامًا، أو غصبًا، فكل تصرّف فيه حرام، والواجب ردُّه على من أُخذ منه، أو ورثته، فإن لم يُعْرَف رَدّه إلى بيت المال، يُصْرَف في المصالح، أو في الصدقة، ولم يَحْظَ آخذه بغير الإثم. انتهى.

وإنما كلامه في السلاطين الذين عهِدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم، ويتصرفون فيه لأنفسهم تصرف الملّاك ببناء ما يبنونه إليهم من المدارس، والأربطة، ونحوهما، مما قد لا يحتاج إليه، ويَخصّ به قومًا دون قوم، فأما لو فُرض إمام عادل، يعطي الناس حقوقهم من الفيء، ثم يبني لهم ما يَحتاجون إليه من مسجد، أو مدرسة، أو مارستان، ونحو ذلك، كان ذلك جائزًا، فلو كان بعض من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بَنَى بما أخذ منه بناءً محتاجًا إليه في حال، فيجوز البناء فيه من بيت المال، لكنه ينسبه إلى نفسه، فقد يتخرج على الخلاف في الغاصب إذا ردّ المال إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة، هل يبرأ بذلك أم لا؟.

وهذا كله إذا بنى على قدر الحاجة، من غير سرف، ولا زخرفة، وقد أمر عمر بن عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من بيت المال، ونهاهم أن يتجاوزوا ما تصدَّع منه، وقال: إني لم أجد للبنيان في مال الله حقًّا.

ورُوي عنه أنه قال: لا حاجة للمسلمين فيما أضرّ ببيت مالهم.

(واعلم): أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفًا على إجازة مالكه، فإن أجاز تصرفه فيه جاز، وقد حَكَى بعض أصحاب أحمد رحمه الله عنه أن من أخرج زكاته من مال مغصوب، ثم أجازه المالك جاز، وسقطت عنه الزكاة، وكذلك خرَّج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبدَ غيره عن نفسه ملتزمًا ضمانه في ماله، ثم أجازه المالك جاز، ونفذ عتقه، وهو خلاف نّصّ أحمد.

ص: 402

وحُكِي عن الحنفية أنه لو غصب شاةً، فذبحها لمتعته وقرانه، ثم أجازه المالك أجزأت عنه.

[الوجه الثاني] من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدق به عن صاحبه؛ إذا عجز عن ردّه إليه، وإلى ورثته، فهذا جائز عند أكثر العلماء، منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم.

قال ابن عبد البرّ: ذهب الزهريّ، ومالك، والثوريّ، والأوزاعيّ، والليث، إلى أن الغالّ إذا تفرق أهل العسكر، ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خُمُسهُ، ويتصدق بالباقي، رُوي ذلك عن عبادة بن الصامت، ومعاوية، والحسن البصريّ، وهو يُشبه مذهب ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يَعْرِف صاحبه، قال: قد أجمعوا في اللُّقَطَة على جواز الصدقة بها بعد التعريف، وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيَّرًا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب. انتهى.

ورُوي عن مالك بن دينار، قال: سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام، ولا يَعْرِف أربابه، ويريد الخروج منه، قال: يتصدق به، ولا أقول: إن ذلك يجزي عنه، قال مالك: كان هذا القول من عطاء أحب إليّ من وزنة ذهب.

وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئًا مغصوبًا: يردُّه إليهم، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كفه، ولا يأخذ رأس ماله، وكذا قال فيمن باع شيئًا ممن تكره معاملته لشبهة ماله، قال: يتصدق بالثمن، وخالفه ابن المبارك، وقال: يتصدق بالربح خاصّة، وقال أحمد: يتصدق بالربح، وكذا قال فيمن ورث مالًا من أبيه، وكان أبوه يبيع ممن يكره معاملته، أنه يتصدق منه بمقدار الربح، ويأخذ الباقي.

وقد رُوِي عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم نحو ذلك، منهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن يزيد الأنصاريّ رضي الله عنه، والمشهور عن الشافعيّ رضي الله عنه في الأموال الحرام أنها تُحْفَظ، ولا يُتَصَدَّق بها حتى يظهر مستحقها، وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يُعرَف أربابه أنه يُتلفه، ويُلقيه في البحر، ولا يَتصدق به، وقال: لا يُتقرَّب إلى الله إلا بالطيب، والصحيح

ص: 403

الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهيّ عنه، وإرصاده أبدًا تعريض له للإتلاف، واستيلاء الظلمة عليه، والصدقةُ به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربًا منه بالخبيث، وإنما هي صدقة عن مالكه؛ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر أقوال أهل العلم وأدلّتهم أن الأرجح قول من قال: إن من كان عنده مالٌ حرام، ولم يعرف مالكه، ولا ورثته يتصدّق به عنه؛ تخلّصًا منه، لا طمعًا في ثوابه، ولا يتركه عنده حتى يَتلَف، ويفسُد؛ لأن الله تعالى نهَى عن إضاعة المال، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قوله: "ثم ذَكَرَ الرجل، يُطيل السفرَ، أشعث، أغبر، يَمُدّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأَنَّى يُستجاب لذلك؟ ".

قال الإمام ابن رجب رحمه الله: هذا الكلام أشار فيه صلى الله عليه وسلم إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته، وإلى ما يَمنَع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعةً:

[أحدها]: إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثُ دعوات مستجابات، لا شك فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده"، خرّجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذيّ

(2)

، وعنده:"دعوة الوالد على ولده"، ورُوي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه من قوله.

ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحمل المشاقّ، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء.

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 264 - 269.

(2)

حديث صححه ابن حبّان، وله شاهد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عند أحمد في "مسنده"(4/ 154).

ص: 404

[والثاني]: حصول التبذّل في اللباس، والهيئة، بالشعث والإغبار، وهو أيضًا من المقتضيات لإجابة الدعاء، كما في الحديث المشهور، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرين، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرّه"

(1)

.

ولما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم للاستسقاء خرج متبذّلًا متواضعًا متضرّعًا

(2)

، وكان مطرِّف بن عبد الله قد حُبس له ابن أخ فلبس خُلْقان ثيابه، وأخذ عُكّازًا بيده، فقيل له: ما هذا؟ قال: أَستكين لربي، لعله أن يُشَفِّعني في ابن أخي.

[الثالث]: مَدُّ يديه إلى السماء، وهو من آداب الدعاء التي يُرْجَى بسببها إجابته، وفي حديث سلمان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى حَييٌّ كَرِيم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفْرًا خائبتين"، خرّجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه

(3)

، وروي نحوه من حديث أنس، وجابر، وغيرهما.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الاستسقاء، حتى يُرَى بياض إبطيه

(4)

، ورفع يديه يوم بدر، يستنصر الله على المشركين، حتى سقط رداؤه عن منكبيه

(5)

.

وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في صفة رفع يديه في الدعاء أنواعٌ متعددةٌ، فمنها أنه كان يشير بأصبعه السبابة فقط، وروي عنه أنه كان يفعل ذلك على المنبر

(6)

، وفَعَله لَمّا رَكِب راحلته

(7)

.

وذهب جماعة من العلماء إلى أن دعاء القنوت في الصلاة يشير فيه بإصبعه، منهم الأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز، وإسحاق ابن راهويه، وقال

(1)

رواه مسلم، وابن حبّان في "صحيحه".

(2)

أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائئ، وابن ماجه، وأبو داود، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، وصححه ابن حبّان.

(3)

صححه ابن حبّان (876 و 880)، والحاكم (1/ 497)، ووافقه الذهبيّ، وجوّد إسناده الحافظ في "الفتح" 11/ 143.

(4)

متّفقٌ عليه.

(5)

رواه مسلم.

(6)

رواه مسلم.

(7)

رواه مسلم في حديث جابر الطويل.

ص: 405

ابن عباس وغيره: هذا هو الإخلاص في الدعاء، وقال ابن سيرين: إذا أثنيت على الله فأشر بإصبع واحدة.

ومنها أنه عفيم رفع يديه، وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة، وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلي وجهه، وقد رُويت هذه الصفة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في عاء الاستسقاء

(1)

، واستحب بعضهم الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة، منهم الجوزجانيّ، وقال بعض السلف: الرفع على هذا الوجه تضرُّع.

ومنها: عكس ذلك، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أيضًا

(2)

، وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يدعون كذلك، وقال بعضهم: الرفع على هذا الوجه استجارة بالله، واستعاذة به، منهم ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة رضي الله عنهم.

ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استعاذ رفع يديه على هذا الوجه

(3)

.

ومنها: رفع يديه، وجعل كفيه إلى السماء، وظهورهما إلى الأرض، وقد ورد الأمر بذلك في سؤال الله عز وجل في غير حديثٍ، وعن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن سيرين، أن هذا هو الدعاء، والسؤال لله عز وجل.

ومنها: عكس ذلك، وهو قَلْبُ كفيه، وجَعْلُ ظهورهما إلى السماء، وبطونهما إلى ما يلي الأرض، وفي "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء"، وخرّجه الإمام أحمد رحمه الله، ولفظه:"فبسط يديه، وجعل ظاهرهما مما يلي السماء"، وخرّجه أبو داود، ولفظه:"استسقى هكذا" يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم مَدّ يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض.

وخرّج الإمام أحمد، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: كان

(1)

راجع: حديث أنس رضي الله عنه في البخاريّ (1031)، ومسلم (895).

(2)

في "سنن أبي داود"(1171) من حديث أنس رضي الله عنه: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستسقي هكذا، ومدّ يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه، وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أحمد في "مسنده"، وفي سنده ابن لَهِيعة، وهو متكلّم فيه.

ص: 406

النبيّ صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة يدعو هكذا، ورفع يديه حيال ثُنْدويه

(1)

، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض، وهكذا وصف حماد بن سلمة رفع النبيّ رضي الله عنهم يديه بعرفة، وروي عن ابن سيرين أن هذا هو الاستجارة، وقال الحميديّ: هذا هو الابتهال.

[والرابع]: الإلحاح على الله عز وجل بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يُطلب به إجابة الدعاء، وخرّج البزار من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما مرفوعًا:"إذا قال العبد يا رب أربعًا، قال الله: لبيك عبدي سل تعطه"

(2)

.

وخرّج الطبرانيّ وغيره من حديث سعد بن خارجة: أن قومًا شكوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قُحُوط المطر، فقال:"اجثُوا على الرُّكَب، وقولوا: يا رب يا رب، وارفعوا السبابة إلى السماء"، فسُقُوا حتى أحبوا أن يُكْشَف عنهم

(3)

.

وفي "المسند" وغيره عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة مثنى مثنى، وتَشَهَّدُ في كل ركعتين، وتَضَرَّع، وتَخشع، وتمسكن، وتُقْنِع يديك -يقول: ترفعهما- إلى ربك، مستقبلًا بهما وجهك، وتقول: يا رب يا رب، فمن لم يفعل ذلك فهي خداج"

(4)

.

وقال يزيد الرَّقَاشيّ، عن أنس، مرفوعًا:"ما من عبد يقول: يا رب يا رب يا رب، إلا قال له ربه: لبيك لبيك".

ورُوي عن أبي الدرداء، وابن عباس رضي الله عنهما كانا يقولان: اسم الله الأكبر: رب رب.

وعن عطاء قال: ما قال عبد: يا رب يا رب ثلاث مرات، إلا نظر الله إليه، فذُكر ذلك للحسن، فقال: أما تقرءون القرآن، ثم تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ

(1)

"الثَنْدُوَةُ" بضمّ أوله، ويُفتح: لحم الثَّدْي، أوأصله، أفاده في "القاموس"1/ 280.

(2)

رواه البزّار برقم (3145). قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 10/ 15: فيه الحكم بن سعيد الأمويّ، ضعيفٌ.

(3)

في سنده عامر بن خارجة، قال البخاريّ: في إسناده نظرٌ، وقال أبو حاتم: إسناده منكر.

(4)

رواه أحمد، والترمذيّ، وفي سنده عبد الله بن نافع بن العمياء، مجهول.

ص: 407

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} [آل عمران: 191 - 195]

ومن تأمل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالبًا تُفتتح باسم الرب، كقوله تعالى:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، وقوله:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، ومثل هذا في القرآن كثير.

وسئل مالك، وسفيان عمن يقول في الدعاء: يا سيدي، فقال: ألا يقول: يا رب، زاد مالك: كما قالت الأنبياء في دعائهم.

وأما ما يمنع إجابة الدعاء، فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه التوسع في الحرام أكلًا وشربًا ولبسًا وتغذيةً، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لسعد:"أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة"

(1)

.

فأكلُ الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لعدم إجابة الدعاء.

وروى عكرمة بن عمار، حدثنا الأصفر، قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما رفعت إلى فمي لقمة، إلا وأنا عالم من أين مجيئها؟ ومن أين خرجت؟.

وعن وهب بن منبه قال: من سره أن يستجيب الله دعوته، فليطيب

(1)

ضعيف جدًا. انظر: "السلسلة الضعيفة" 4/ 292.

ص: 408

طعمته، وعن سهل بن عبد الله قال: من أكل الحلال أربعين صباحًا أجيبت دعوته، وعن يوسف بن أسباط قال: بلغنا أن دعاء العبد يُحبَس عن السماوات بسوء المطعم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فأَنَّى يُستجاب لذلك؟ " معناه كيف يستجاب له؟ فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابة، ومنعها بالكلية، فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام، والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعًا من الإجابة أيضًا، وكذلك ترك الواجبات، كما في الحديث أن ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يمنع استجابة دعاء الأخيار، وفعل الطاعات يكون موجبًا لاستجابة الدعاء، ولهذا لَمّا توسل الذين دخلوا الغار، وانطبقت الصخرة عليهم بأعمالهم الصالحة التي أخلصوا فيها لله تعالى، ودعوا الله بها أجيبت دعوتهم.

وقال وهب بن منبه: مثل الذي يدعو بغير عمل، كمثل الذي يرمي بغير وَتَر، وعنه قال: العمل الصالح يبلغ الدعاء، ثم تلا قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بالورع عما حرّم الله يُقبَل الله الدعاء والتسبيح.

وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: يكفي مع البر من الدعاء مثل ما يكفي مع الطعام من الملح.

وقال محمد بن وأسع: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير، وقيل لسفيان: لو دعوت الله؟ قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء.

وقال الليث: رأى موسى عليه الصلاة والسلام رجلًا رافعًا يديه، وهو يسأل الله مجتهدًا، فقال موسى عليه السلام: أي رب عبدك دعاك حتى رحمتُهُ، وأنت أرحم الراحمين، فما صنعت في حاجته؟ فقال: يا موسى لو رفع يديه حتى ينقطع ما نظرت في حاجته، حتى ينظر في حقي.

وخرّج الطبراني بإسناد ضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا معناه.

وقال مالك بن دينار: أصاب بني إسرائيل بلاءٌ، فخرجوا مخرجًا،

ص: 409

فأوحى الله تعالى إلى نبيّه أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليّ أَكُفًّا قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتدّ غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بُعْدًا.

وقال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سَدَدتَ طرقها بالمعاصي، وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى، فقال [من الخفيف]:

نَحْنُ نَدْعُو الإِلَهَ فِي كُلِّ كَرْبٍ

ثُمَّ نَنْسَاهُ عِنْدَ كَشْفِ الْكُرُوب

كَيْفَ نَرْجُو إِجَابَةً لِدُعَاءٍ

قَدْ سَدَدْنَا طَرِيقَهَا بِالذُّنُوبِ

(1)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(20) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الصَّدَقَةَ وِقَايَة مِنَ النَّارِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2347]

(1016) - (حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ الْكُوفِيُّ) الهاشميّ مولاهم، أبو جعفر الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيُّ) أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه من أبي إسحاق بآخرة [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السبيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ اختلط بآخرة [3](ت 129) تقدم في "المقدمة"(ع) 3/ 11.

(1)

"جامع العلوم والحكم" 1/ 258 - 277.

ص: 410

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْقِلِ)

(1)

بن مُقَرِّن المزنيّ، أبو الوليد الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3].

رَوَى عن أبيه، وعليّ، وابن مسعود، وثابت بن الضحاك، وكعب بن عُجْرة، وعديّ بن حاتم، وسالم مولى أبي حذيفة.

وروى عنه أبو إسحاق السَّبِيعيّ، وعبد الملك بن عُمير، ويزيد بن أبي زياد، وعبد الرحمن بن الأصبهانيّ، وعبد الله بن السائب الكنديّ، وزياد بن أبي مريم، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وغيرهم.

قال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقةٌ، من خيار التابعين، وقال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة بضع وثمانين بالبصرة، وقال البخاريّ في "تاريخه": قال لي أحمد: أنا عبد الله، أنا يونس، عن أبي إسحاق، قال: خرجنا سنة (88)، فجعل عبد الله بن مَعْقِل في ذلك البعث، ثم إن الحجاج أخرجهم مع عتبة بن أبي عقيل، فمات ابن معقل بأنقرة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1016)، وحديث (1210) وأعاده بعده، و (1549) وأعاده بعده.

5 -

(عَدِيُّ بْنُ حَاتِم) بن عبد الله بن سعد الْحَشْرج الطائيّ، أبو طَرِيف الصحابيّ الشهير، وكانَ رضي الله عنه ممن ثبت على الإسلام في الردّة، وحضر فتوح العراق، وحروب عليّ رضي الله عنه، ومات سنة (68) وهو ابن (120) سنة، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فإنه من أفراده.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

(1)

بفتح أوله، وسكون العين المهملة، بعدها قاف.

ص: 411

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ بِشِق تَمْرَةٍ) -بكسر المعجمة-: أي: نصفها، أو جانبها؛ أي: ولو كان الاتّقاء بالتصدّق بشِقّ تمرة واحدة، فإنه يفيد (فَلْيَفْعَلْ) أي: ليتصدّق بها حتى يستر نفسه من النار، وفيه الحثّ على الصدقة، وأنه لا يمتنع منها لقلّتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "اتقوا النار، ولو بشقّ تمرة"، وفي رواية الطبرانيّ من حديث فضالة بن عُبيد رضي الله عنه، مرفوعًا:"اجعلوا بينكم وبين النار حجابًا، ولو بشِقّ تمرة"، ولأحمد من حديث أبن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا أيضًا، بإسناد صحيح:"ليَتَّقِ أحدكم وجهه النار، ولو بشقّ تمرة"، وله من حديث عائشة رضي الله عنها، بإسناد حسن:"يا عائشة استتري من النار، ولو بشقّ تمرة، فإنها تَسُدُّ من الجائع مَسدَّها من الشبعان"، ولأبي يعلى من حديث أبي بكر رضي الله عنه نحوه، وأتمّ منه، بلفظ:"تقع من الجائع موقعها من الشبعان"، وكأنّ الجامع بينهما في ذلك حلاوتها، قاله في "الفتح"

(2)

.

[تنبيه]: هذا الحديث مختصر من حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه الطويل، وقد ساقه البخاريّ رحمه الله في "كتاب المناقب" من "صحيحه" بطوله، فقال:

3595 -

حدثني محمد بن الحكم، أخبرنا النضر، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا سعد الطائي، أخبرنا مُحِلّ بن خليفة، عن عدي بن حاتم، قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر، فشكا إليه قطع السبيل، فقال:"يا عدي هل رأيت الْحِيرَة؟ " قلت: لم أرها، وقد أُنبئت عنها، قال:"فإن طالت بك حياة، لَتَرَيَنَّ الظعينةَ ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله" -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّار طَيِّئٍ الذين قد سَعّرُوا البلاد- "ولئن طالت بك حياة، لتُفتَحَنّ كنوز كسرى"، قلت:

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 101.

(2)

راجع: "الفتح" 4/ 32 - 33.

ص: 412

كسرى بن هُرْمُز؟، قال:"كسرى بن هُرْمُز، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يُخرِج مِلْءَ كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدًا يقبله منه، ولَيَلْقَيَنَّ الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولنّ له: ألم أَبْعَث إليك رسولًا، فيبلغك؟، فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالًا، وأُفْضِل عليك؟، فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلا جهنم"، قال عديّ: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول:"اتقوا النار ولو بشقة تمرة، فمن لم يجد شقة تمرة، فبكلمة طيبة"، قال عديّ: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هُرْمُز، ولئن طالت بكم حياة، لَتَرَوُنَّ ما قال النبيّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:"يخرج ملء كفه". انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث متفق عليه، والمسائل المتعلّقة به ستأتي في الحديث التالي، إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2348]

(

) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدَّثنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"، زَادَ ابْنُ حُجْرٍ: قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ، وَزَادَ فِيهِ: "وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"، وقَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ الْأَعْمَشُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

ص: 413

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ إمام مشهور [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(عَلِي بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

4 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي عيسى الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظ ورع، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

والباقيان ذُكرا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف-رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة تحمّله منهم، وهو السماع من لفظهم مع غيره، ولذا قال:"حدثنا"، ثم فرّق بينهم؛ لاختلافهم في كيفيّة تحمّلهم، فابن حجر سمع من عيسى بن يونس مع غيره، ولذا قال:"حدّثنا"، والآخران سمعا قارئًا يقرأ على عيسى، ولذا قالا:"أخبرنا".

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيوخه، كما أسلفته آنفًا في تراجمهم.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيوخه، فإنهم مروزيّون.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ خَيْثَمَةَ) -بفتح المعجمة، وسكون التحتانية، بعدها مثلثة- ابن عبد الرحمن الجعفيّ (عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم) الطائيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْكُمْ) ظاهر الخطاب للصحابة رضي الله عنهم، وَيلتحق بهم المؤمنون كلهم، سابقهم ومُقصِّرهم، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة رحمه الله

(1)

. (مِنْ أَحَدٍ)

(1)

"الفتح" 11/ 404.

ص: 414

"من" زائدة لتفيد استغراق النفي (إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ) في رواية وكيع، عن الأعمش، عند ابن ماجه:"سيكلمه ربه"(لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ) أي: بين الله تعالى وبين الأحد (تُرْجُمَان) قال في "القاموس": الترجمان بضمّ التاء والجيم، وبفتحهما، وبفتح التاء، وضمّ الجيم: هو المفسّر للسان، وقد ترجمه، وعنه، والفعل يدلّ على أصالة التاء. انتهى

(1)

.

وقال في "المصباح": وتَرْجَم فلانٌ كلامه: إذا بيّنه، وأوضحه، وترجم كلام غيره: إذا عَبَّر عنه بلغةٍ غيرِ لغة المتكلم، واسم الفاعل تَرْجُمان، وفيه لغات: أجودها فتح التاء، وضم الجيم، والثانية ضمهما معًا بجعل التاء تابعةً للجيم، والثالثة فتحهما بجعل الجيم تابعةً للتاء، والجمع: تَرَاجِم، والتاء والميم أصليتان، فوزن ترجم فَعْلَلَ، مثل دحرج، وجعل الجوهري التاء زائدة، وأورده في تركيب رَجَمَ، ويوافقه ما في نسخة من "التهذيب" من باب رَجَمَ أيضًا، قال اللِّحيانيّ: وهو التَّرْجُمَانُ، والتُّرْجُمَانُ، لكنه ذكر الفعل في الرباعيّ، وله وجه، فإنه يقال: لسانٌ مِرْجَمٌ: إذا كان فصيحًا قوّالًا، لكن الأكثر على أصالة التاء. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: لم يُذْكَر في هذه الرواية ما يقول، وبَيَّنه في رواية البخاريّ في "الزكاة" من طريق مُحِلّ بن خَلِيفة، عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه بلفظ:"ثم لَيَقِفَنّ أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجابٌ، ولا ترجمان يُترجِم له، ثم ليقولنّ له: "ألم أوتك مالًا؟، فيقولنّ: بلى، ثم ليقولنّ: ألم أرسل إليك رسولًا؟، فليقولنّ بلى

" الحديث، وفي رواية له في "المناقب": "وليلقينّ الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولًا، فيبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أُعطك مالًا، وأُفضل عليك؟ فيقول: بلى

"

(3)

.

(فَيَنْظُرُ) ذلك الأحد (أَيْمَنَ مِنْهُ) أي: في الجانب الذي على يمينه (فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ) أي: من أعماله الصالحات، وللترمذيّ من رواية أبي معاوية

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 83.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 74.

(3)

"الفتح" 4/ 233 و 8/ 272.

ص: 415

بلفظ: "فلا يرى شيئًا إلا شيئًا قدمه"، وفي رواية مُحِلّ بن خليفة:"فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا النار، وينظر عن شماله، فلا يرى إلا النار"، قال في "الفتح": وهذه الرواية مختصرةٌ، ورواية خيثمة مفسَّرة، فهي المعتمدة في ذلك. انتهى.

وقوله: "أيمن"، و"أشأم" بالنصب فيهما على الظرفية، والمراد بهما اليمين والشمال، قال ابن هبيرة رحمه الله: نظر اليمين والشمال هنا كالمثل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمر أن يلتفت يمينًا وشمالًا، يطلب الغوث.

قال الحافظ رحمه الله: وَيحْتَمِل أن يكون سبب الالتفات أنه يَتَرَجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها؛ ليحصل له النجاة من النار، فلا يرى إلا ما يُفضي به إلى النار، كما وقع في رواية مُحِلّ بن خليفة. انتهى.

(وينْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ) أي: من أعماله السيّئات (وينْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ) أي: في محاذاته، ومقابل وجهه، وفي رواية البخاريّ:"ثم ينظر بين يديه، فتستقبله النار"، وفي رواية له:"ينظر تلقاء وجهه، فتستقبله النار".

قال ابن هبيرة رحمه الله: والسبب في ذلك أن النار تكون في مَمَرِّه، فلا يمكنه أن يحيد عنها؛ إذ لا بدّ له من المرور على الصراط. انتهى.

(فَاتَّقُوا النَّارَ) أي: احترزوا منها بالتقوى التي هي تجنّب المخالفات؛ لئلا يصيبكم، ويواقعكم عذابها (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ") أي: اجعلوا بينكم وبينها وقاية من الصدقة، وعمل البرّ، ولو بشيء يسير.

وقال الطيبيّ رحمه الله: المعنى: إذا عرفتم أنه لا ينفعكم في ذلك اليوم شيء إلا الأعمال الصالحة، وأن أمامكم النار، فاجعلوا الصدقة جُنّةً بينكم وبينها، ولو بشقّ تمرة.

ونقل الطيبيّ قبل ذلك عن المظهر أن المعنى: إذا عرفتم ذلك، فاحذروا من النار، ولا تظلموا أحدًا، ولو بشقّ تمرة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد ما قاله المظهر، بل الظاهر ما قاله الطيبيّ.

وقوله: (زَادَ ابْنُ حُجْرٍ) أي عليّ بن حُجر شيخه الأول؛ أي: فهو

ص: 416

موصول بالسند الماضي (قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ مِثْلَهُ) غرض المصنّف رحمه الله بيان أن شيخه عليّ بن حجر قال في روايته عن عيسى بن يونس قال: قال الأعمش: وحدّثني عمرو بن مرّة، وقد صرّح بالتحديث، عن خيثمة بن عبد الرحمن، مثل الحديث الماضي.

وحاصل المعنى: أن الأعمش رحمه الله روى هذا الحديث عن خيثمة بن عبد الرحمن بلا واسطة، ورواه أيضًا عنه بواسطة عمرو بن مرّة، وكلا الطريقين صحيح.

قال الإمام ابن حبّان في "صحيحه": سمع هذا الخبرَ الأعمشُ عن خيثمة، وسمعه عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، رَوَى هذا الخبر أبو معاوية، وهو من أعلم الناس بحديث الأعمش بعد الثوريّ، وكذلك وكيع في وصله عن الأعمش، عن خيثمة، وروى قطبة بن عبد العزيز، وجرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، فالطريقان جميعًا صحيحان. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَزَادَ فِيهِ) أي في الحديث؛ يعني: أن الأعمش زاد في روايته عن عمرو بن مرّة قوله: (وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيبَةٍ) أي التي فيها تطييب قلب إنسان إذا كانت مباحةً، أو طاعةً، وفيه أن الكلمة الطيّبة سبب للنجاة من النار، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال المناويّ-رحمه الله: قوله: "فبكلمة طيّبة": أي: فاتقوا النار بكلمة طيبة، تُطَيِّب قلب السائل، مما يُتَلَطَّف به في القول والفعل، فإن ذلك سبب للنجاة من النار، وقيل: الكلمة الطيبة ما يدلّ على هُدًى، أو يَرُدّ عن رَدى، أو يصلح بين اثنين، أو يفصل بين متنازعين، أو يَحُلّ مشكلًا، أو يكشف غامضًا، أو يدفع تأثيرًا، أو يُسَكِّن غضبًا.

قال: واستدلّ الشافعية بهذا الخبر على أنه لو قال: لزيد عندي شيءٌ، وفسّره بما لا يُتَمَوَّل، كحبة بُرّ، وشِقّ تمرة قُبِلَ. انتهى

(3)

.

(1)

"صحيح ابن حبان" 16/ 373.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 101.

(3)

"فيض القدير" 1/ 138.

ص: 417

وقوله: (قَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ الْأَعْمَشُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ) غرضه منه بيان أن شيخه إسحاق ابن راهويه قال في روايته عن عيسى بن يونس، قال: قال الأعمش: عن عمرو بن مرّة، عن خيثمة؛ يعني: أنه عنعنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 2348 و 2349 و 2350](1016)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1413 و 1417)، و"المناقب"(3595)، و"الأدب"(6023)، و"الرقاق"(6539 و 7513) و"التوحيد"(7512)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2552 و 2553)، وفي "الكبرى"(2333 و 2334)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1036 و 1037 و 1039)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 110)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 256 و 258 و 259 و 377)، و (الدارميّ) في "سننه"(1657)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 92 - 93)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(473 و 3300 و 7373)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 220)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(322)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على الصدقة، ولو بالقليل.

2 -

(ومنها): أن الصدقة تُقبَل، ولو قلّت، لكن بشرط أن تكون طيّبة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " "أيها الناس، إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبًا

" الحديث تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(ومنها): عدم احتقار القليل من الصدقة، وغيرها؛ لأنها تربو عند الله حتى تكون كالجبل، كما دلّ عليه حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق بعدل تمرة، من كسبِ طيِّبٍ

" الحديث المذكور في الباب الماضي أيضًا.

ص: 418

4 -

(ومنها): أن الكلمة الطيّبة تكون وِقايةً عن النار كصدقة المال، وقد ثبت كونها صدقة، فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ سُلامَى من الناس، عليه صدقة، كلَّ يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، وُيعين الرجل على دابته، فيحمله عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويُمِيط الأذى عن الطريق صدقة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2349]

(

) - (حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ، فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ:"اتّقُوا النَّارَ"، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، حَتَّى ظنَنَّا أنَّهُ كَأنّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:"اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طيِّبَةٍ"، وَلَمْ يَذْكُرْ

(2)

أَبُو كُرَيْبٍ: كَأنَّمَا، وَقَالَ: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدثنَا الْأَعْمَشُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الايمان" 4/ 117.

4 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابد، رُمي بالإرجاء [5](118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

(2)

وفي نسخة: "لم يذكر".

ص: 419

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحادهما في التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما أبو كريب، فمن مشايخ الجماعة، بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمرو، عن خيثمة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطائيّ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ، فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ) -بشين معجمة، وحاء مهملة-: أي: أظهر الْحَذَر منها، قال الخليل: أشاح بوجهه عن الشيء: نَحَّاه عنه، وقال الفرّاء: الْمُشِيح: الْحَذِرُ، والْجادّ في الأمر، والْمُقبِلُ في خطابه، المانع لما وراء ظهره، فيجوز أن يكون أشاح أحد هذه المعاني: أي: حَذِرَ النارَ، كأنه ينظر إليها، أو جَدَّ على الوصيّة باتّقائها، أو أقبل على أصحابه في خطابه بعد أن أعرض عن النار لَمَّا ذكرها. انتهى

(1)

.

وحكى ابن التين: أنّ معنى "أشاح" صَدّ، وانكمش، وقيل: صرف وجهه كالخائف أن تناله. انتهى.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اتقُوا النَّارَ"، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، حَتَّى ظنَنَّا أَنَّهُ كَأنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا) وفي رواية شعبة التالية: "أنه ذكر النار، فتعوّذ منها، وأشاح بوجهه ثلاث مرار"(ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقَ تَمْرَةٍ) أي: اجعلوا بينكم وبين النار وِقَاية، من الصدقة، وعَمَلِ البرّ، ولو بشيء يسير (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي: ما يتصدّق به من المال اليسير (فَبِكَلِمَةٍ طيبَةٍ") أي: فتصدّقوا بكلمة طيّبة، وهي الكلمة التي تُطيّب قلب سامعها؛ لكونها موافقة لغرضه، مع كونها طاعة، أو مباحةً.

(1)

راجع: "النهاية في غريب الحديث" 2/ 5 بزيادة من "فتح الباري 13/ 221 - 222.

ص: 420

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ) وفي نسخة: "لم يذكر" بحذف العاطف (أَبُو كُرَيْب: كَأنَّمَا) يعني: أنه قال: (حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها).

وقوله: (وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ) يعني: أن أبا كريب قال في روايته: "حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش"، فصرّح بالتحديث في الموضعين، بخلاف أبي بكر بن أبي شيبة، فرواه بالعنعنة، والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم بيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2350]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ النَّارَ، فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ، ثَلَاثَ مِرَارٍ

(1)

، ثُمَّ قَالَ:"اتقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طيِّبةٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

كلهم تقدّموا قبل باب، سوى خيثمة، والصحابيّ، فقد ذُكرا في السند الماضي، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ حَثِّ الإمَام النّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2351]

(1017) - (حَدَّثَنِي

(2)

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ،

(1)

وفي نسخة: "ثلاث مرَّات".

(2)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 421

عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ، عُرَاةٌ، مُجْتَابِي النِّمَارِ، أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ، وَأقَامَ، فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وَالْآيةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ

(1)

وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، "تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِه، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأنصَارِ بِصُرَّةٍ، كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تتابَعَ النّاسُ، حَتَّى رَأيتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجهَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ، كأنّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى الزمِنُ البصريّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت الناقد [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

4 -

(عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ) السُّوائيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 48/ 1124.

(1)

وفي نسخة: "يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله".

ص: 422

5 -

(الْمُنْذِرُ بْنُ جَرِيرٍ) بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، ثقة

(1)

[3].

روى عن أبيه، وعنه عبد الملك بن عُمير، وعون بن أبي جُحَيفة، وأبو إسحاق السبيعيّ، والضحّاك بن المنذر، وأبو حيّان التيميّ، على خلاف فيه.

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، روى له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.

6 -

(أَبُوهُ) جرير بن عبد الله بن جابر البجليّ الصحابي المشهور رضي الله عنه المتوفّى سنة (51 هـ) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى المنذر، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي، عن تابعي، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ) وفي رواية أبي أسامة، ومعاذ العنبري الآتية قالا: "حدّثنا شعبة، حدّثني عون بن أبي جُحيفة، قال: سمعت المنذر بن جرير

" (عَنْ أَبِيهِ) جرير بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عبد الملك بن عُمير، عن المنذر الآتية: "كنت جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه قوم

" (فِي صَدْرِ النَّهَارِ) أي: في أوله (قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ) وفي الرواية

(1)

هذا أولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثّقه المصنّف حيث أخرج له هنا في الأصول، وابن حبّان، والذهبيّ في "الكاشف"، ولم يتكلّم فيه أحد، فتنبّه.

ص: 423

الآتية من طريق عبد الرحمن بن هلال العبسيّ، عن جرير بن عبد الله قال: "جاء ناسٌ من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم الصوف

".

(حُفَاةٌ) بالضمّ صفة لـ "قومٌ"، وهو: جمع حَافٍ، اسم فاعل، من حَفِي الرجلُ يَحْفَى، من باب تَعِبَ حَفَاءً، مثل سَلَامٍ: إذا مَشَى بغير نَعْلٍ، ولا خُفٍّ.

(عُرَاةٌ) بالضمّ، صفة لـ "قوم" بعد صفة، وهو: جمع عَارٍ، والمراد أنهم لم يلبسوا الثيابَ المعتادَ لبسُهَا، وإنما أوّلناه بهذا؛ لأن في رواية عبد الرحمن بن هلال الآتية: أنّ عليهم الصوفَ، فهم لابسو الصوفِ، ولقوله أيضًا:(مُجْتَابِي النِّمَارِ) اسم فاعل من اجتابَ الشيءَ: إذا خَرَقه، ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]. أي: خَرَقوا النِّمَار، وقَوَّرُوا وسطها، و"النمار" -بكسر النون -جمع نَمِرَة- بفتح النون: وهي ثياب من صوف، فيها تنمير.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "مجتابي النمار" هو بالجيم، وبعد الألف باء موحّدة، و"النمار": جمع نَمِرة، وهي كساء من صوف مُخطّط، ومعنى مُجتابيها: لابسوها، وقد خرقوها في رؤوسهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوِ الْعَبَاءِ)"أو" للشكّ من الراوي، و"العباء" بفتح العين، والمدّ، جمع عَبَاءة، وعَبَاية، لغتان، وهي أكسيةٌ غِلَاظٌ مُخَطَّطة

(2)

.

(مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ) بالإضافة: أي: معلّقي السيوف على أعناقهم، ووقع في نسخة من النسائيّ:"متقلّدين السيوف"، بلا إضافة، وعليه فـ "السيوف" منصوبٌ على المفعوليّة (عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ) أي: غالبهم من قبيلة مضر -وهو بضمّ الميم، وفتح الضاد المعجمة، آخره راء- ابن نزار، وهو الشعب المعروف الذي تُنسب إليه قريش وغيرها، وهو وربيعة بن نِزَار صريح ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- لا خلاف في ذلك، قاله في "اللباب"

(3)

.

وقوله: (بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ) هذا إضرابٌ إلى التحقيق، فقوله:"عامّتهم"

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 669.

(2)

راجع: "شرح النوويّ على صحيح مسلم" 7/ 104، و"المفهم" للقرطبيّ 3/ 62.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 338.

ص: 424

كان عن عدم تحقيق، واحتمال أن يكون بعضهم من غير مضر، أوّلَ الوَهْلَة، ثمّ تبيّن له أنّ كلهم من مضر، فأخبر به، فـ "بل" للإضراب الانتقاليّ، تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه، وتنقل الحكم إلى ما بعدها، كما هو مقرّرٌ في محلّه من كتب النحاة.

وقال الطيبيّ رحمه الله: والعطف في "بل كلّهم" للحصر، وهو من قصر الموصوف على الصفة؛ أي: لا يتجاوزون عن مضر إلى غيرهم، وكذا العطف في "بل قد عَجَزَت"، وفائدته التأكيد، ورفع توهّم التجوّز. انتهى

(1)

.

(فَتَمَعَرَ) بالعين المهملة: أي: تغيّر، قال ابن الأثير رحمه الله: أصل التمعّر قلّة النضارة، وعدم إشراق اللون، من قولهم: مكان أمعر، وهو الْجَدْبُ الذي لا خِصْب فيه. انتهى

(2)

. (وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى) بكسر اللام، و"ما" مصدريّة؛ أي: لرؤيته، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح اللام، وتشديد الميم، وهي "لَمَّا" الحينيّة؛ أي: حين رأى (بِهِمْ) أي: بهؤلاء القوم الذين جاءوه (مِنَ الْفَاقَةِ) أي: الفقر والحاجة (فَدَخَلَ) أي: دخل صلى الله عليه وسلم بيته، ولعلّه لاحتمال أن يجد ما يدفع به فاقتهم (ثُمَّ خَرَجَ) لعله لم يجد في البيت شيئًا (فَأَمَرَ بِلَالًا) رضي الله عنه ومفعوله محذف؛ أي: بالأذان (فَأَذنَ) أي: لصلاة الظهر، كما سيأتي في رواية عبد الملك بن عمير الآتية (وَأقَامَ، فَصَلَّى) النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر إمامًا للناس (ثُمَّ خَطَبَ) وفي رواية عبد الملك بن عمير الآتية: "فصلّى الظهر، ثم صَعِد منبرًا صغيرًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله تعالى أنزل في كتابه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} الآية".

وإنما قرأ صلى الله عليه وسلم في خطبته أول سورة النساء؛ تذكيرًا لهم أنهم كلَّهم من أصل واحد، فينبغي لهم أن يَعطِف بعضُهم على بعض (فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ) أمر الله تعالى خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده، لا شريك له، ونبههم على قدرته التي خلقهم بها {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ) وهي آدم عليه السلام.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] أراد بالتلاوة من هذه الآية قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]؛

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 669.

(2)

"النهاية" 4/ 342.

ص: 425

أي: اتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الله الذي تتناشدون به، واتّقوا الأرحام، فلا تقطعوها، وقد آذن الله تعالى حيث قرن الأرحام باسمه إلى أن صلتها منه بمكان، ومنزلة عظيمة. انتهى.

وقولى: (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) أي: قرأ الآية إلى آخرها، ونصّ تمام الآية:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

فقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهي حوّاء عليه السلام خُلقت من ضِلْعه الأيسر من خلفه، وهو نائمٌ، فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه.

وفي الحديث الصحيح: "إن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمعت بها، وفيها عوج"{وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أي: وذَرَأَ من آدم وحوّاء رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: اتقوه بطاعتكم إياه {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} حيث تقولون: أسألك بالله {وَالْأَرْحَامَ} بالنصب أي: واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها، بل برّوها، وصِلُوها، وقرأ بعضهم:{وَالْأَرْحَامَ} بالجرّ عطفًا على الضمير في {بِهِ} ؛ أي: تساءلون بالله، وبالأرحام.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] بدل من "الآية" محكيّ لقصد لفظه، ومعناه: مراقب لجميع أحوالكم، وأعمالكم، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]. وفي الحديث الصحيح: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، وهذا إرشاد، وأمر بمراقبة الرقيب، ولهذا ذكر تعالى أنّ أصل الخلق من أَبٍ واحدٍ، وأمّ واحدة؛ لِيُعَطِّفَ بعضَهُم على بعض، ويحثّهم على ضعفائهم

(1)

، وهذا هو سبب قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم لهذه الآية في هذه المناسبة، حيث إنها أبلغ في تثبيت الأخوّة بين المؤمنين، وقوّة ترابطهم جنسًا، وعقيدةً، المقتضي لعطف بعضهم على بعض، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَالآيةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ) بنصب "الآيةَ" عطفًا على قوله: {يَاأَيُّهَا

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" رحمه الله تعالى أول سورة النساء.

ص: 426

النَّاسُ اتَّقُوا} من حيث المعنى، على تأويل "قال" بـ "قرأ"؛ أي: قرأ هذه الآية، والآيةَ التي في سورة الحشر، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا} من حيث المعنى، على تأويل "قال" بـ "قرأ"؛ أي: قرأ هذه الآية، والآيةَ التي في سورة الحشر، وقوله:({وَاتَّقُوا اللَّهَ}) يَحْتَمل أن يكون منصوبًا على البدليّة من "الآيةَ"، محكيًّا، ويَحْتَمل أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هي.

ووقع في بعض النسخ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أَمْرٌ من الله تعالى للمؤمنين بتقواه، وهو يَشْمَل فعل ما به أَمَر، وترك ما عنه زَجَر {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]) زاد في رواية الطبرانيّ: "إلى قوله: {هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20].

والمعنى: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعَرْضكم على ربّكم.

وسبب قراءته صلى الله عليه وسلم هذه الآية كونها أبلغ في الحثّ على الصدقة، كما أن الآية المتقدّمة أبلغ في الترابط بين أجناس بني آدم، والله تعالى أعلم.

("تَصَدَّقَ رَجُل مِنْ دِينَارِهِ) أي: ليتصدّق رجل من ديناره، فهو خبر بمعنى الأمر، وفي رواية الطبرانيّ: "تَصَدَّقُوا قبل أَنْ لا تَصَدَّقُوا، تَصَدَّقَ رَجُل من دِينَارِهِ، تَصَدَّقَ رَجُل من دِرْهَمِهِ، تَصَدَّقَ رَجُل من بُرِّهِ، تَصَدَّقَ رَجُلٌ من تَمْرِهِ، من شَعِيرِهِ، لا تَحْقِرَنَ شيئًا مِنَ الصَّدَقَةِ، وَلَوْ بشِقِّ تَمْرَةٍ

".

[تنبيه]: قال أبو البقاء الْعُكبَريّ رحمه الله في "إعراب الحديث": قوله: "تصدّق رجل" يَحْتَمِلُ وجهين:

[أحدهما]: أن يكون أراد الشرط؛ أي: إن تصدّق رجلٌ، ولو بشيء حقير من ماله أُثيب، وحُذف حرف الشرط وجوابه للعلم به، كما قال تعالى:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 - 119] تقديره: إن أقمتَ على الطاعة.

[والوجه الثاني]: أن يكون الكلام محمولًا على الدعاء، فكانّه قال: رَحِم الله امرءأ تصدّق، كما قالوا: امرءًا اتَّقَى اللهَ؛ أي: رَحِمَ اللهُ، وجعل الفاعل، وهو قوله:"رجلٌ" مفسّرًا للمنصوب المحذوف.

ويَحْتَمِل وجهًا ثالثًا: وهو أن يكون على الخبر؛ أي: تصدّق رجلٌ من

ص: 427

غيركم بكذا وكذا، فأُثيب، والغرض منه حثّهم على الصدقة، وأنّ غيرهم تصدّق بمثل ذلك، فأُثيب، فحكمهم كحكمه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأوجه الثلاثة التي ذكرها العكبريّ فيها بعذ، وتكلّفٌ لا يخفى.

وقيل: هو مجزومٌ بلام أمر مقدّرة، أصله ليتصدّق، وهذا الحذف مما جوّزه بعض النحاة.

وفيه أنّ حقّه حينئذ أن يكون يتصدّق -بياء تحتيّة، بعدها تاء فوقيّةٌ - ولا وجه لحذفها.

فالصواب عندي أنّ صيغته صيغة خبرٍ ومعناه الأمر، ولا يقال: إن كونه خبرًا لا يساعده قوله: "ولو بشقّ تمرة"؛ لأنّنا نقول: إنّما يتوجّه ذلك لو كان خبرًا معنًى أيضًا، وأما إذا كان أمرًا معنًى فلا يتوجّه هذا الاستشكال.

والحاصل أنّ هذا خبر بمعنى الأمر؛ أي: ليتصدّق، وإنما عبّر بصيغة الخبر؛ حثًّا للمخاطبين على امتثاله، وترغيبًا لهم في حصوله منهم، وكونه بصيغة الماضي أبلغ في ذلك، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ذكر ابن مالك رحمه الله نحو هذا الإعراب في كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" في أَثَرِ عمر بن الخطّاب-رضي الله عنه: "إذا وسّع الله، فأوسعوا، صَلّى رجلٌ في إزارٍ ورداء، في إزارٍ وقميصٍ، في إزارٍ وقباء"، قال: تضمّن هذا الحديث فائدتين:

[إحداهما]: ورود الفعل الماضي بمعنى الأمر، وهو "صَلّى رجلٌ"، والمعنى: ليصلّ رجلٌ، ومثله في كلام العرب: اتّقى الله امرؤٌ فعل خيرًا يُثبْ عليه. والمعنى: ليتّق، وليفعل. ولكونه بمعنى الأمر جيء بعده بجواب مجزوم، كما يُجاء بعد الأمر الصريح، وأكثر مجيء الماضي بمعنى الطلب في الدعاء، نحو: نصر الله من والاك، وخَذَل من عاداك.

[والفائدة الثانية]: حذف حرف العطف، فإن الأصل: صَلَّى رجلٌ في

(1)

راجع: "إعراب الحديث النبويّ" للعكبريّ ص 158 - 159.

ص: 428

إزار ورداء، أو في إزار وقميص، أو في إزار وقباء، فحذف حرف العطف مرّتين؛ لصحّة المعنى بحذفه.

ونظير هذا الحديث في تضمّن الفائدتين قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تصدّق امرؤٌ من ديناره، من درهمه، من صاع برّه، من صاع تمره". انتهى كلام ابن مالك رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أنكر ابن القيّم رحمه الله كتابه "بدائع الفوائد" كون الكلام المذكور ونحوه مما حُذف منه حرف العطف

(2)

، وعندي أن ما ذهب إليه ابن مالك رحمه الله هو الأظهر والأقرب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "رجلٌ" نكرة وُضعت موضع الجمع المعرّف، فأفاد الاستغراق في أفراده، وإن لم يكن في سياق النفي، كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27]، فإن {شَجَرَةٍ} وقعت موقع الأشجار، فأفادت الاستغراق، ومن ثَمَّ كَرّر "من" في الحديث مرارًا، ولم يعطف. انتهى

(3)

.

وقوله: (مِنْ دِرْهَمِهِ) معطوفٌ بحرف عطف مقدّر، كما بيّنه ابن مالك رحمه الله في كلامه المذكور آنفًا، وكذا ما بعده.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من درهمه""من" يَحْتَمل أن تكون تبعيضيّة منصوبة المحلّ، و"ديناره"، و"درهمه" جنس؛ أي: ليتصدّق ببعض ما عنده من هذا الجنس، ويَحْتَمِل أن تكون ابتدائيّةً متعلّقة بالفعل، فالإضافة في "ديناره"، و"درهمه" بمعنى اللام؛ أي: ليتصدّق بما هو مختصّ به، وهو مفتقر إليه، على نحو قوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية [الحشر: 9]. انتهى

(4)

.

(مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ") أي: ليتصدّق، ولو كانت صدقته قليلةً، كشِقّ تمرة؛ أي: نصفها.

(1)

راجع: "شواهد التوضيح، والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 62 - 63.

(2)

"بدائع الفوائد" 1/ 216.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 670.

(4)

"الكاشف" 2/ 670.

ص: 429

(فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأنصَارِ) لا يُعرف اسمه، كما قاله صاحب "التنبيه"

(1)

. (بِصُرَّةٍ) بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الراء: وِعَاءُ الدراهم، والدنانير، جمعها صُرَرٌ، مثلُ غُرْفَة وغُرَفِ (كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا) بكسر الجيم، من باب ضَرَب، وعَجِزَ -بكسر الجيم- يَعْجَز -بفتحها- عَجَزًا- بفتحتين- من باب تَعِبَ، لغةٌ لبعض قَيسِ عَيْلَانَ، ذكرها أبو زيدٍ، وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وقد رَوَى ابن فارس بسنده إلى ابن الأعرابيّ أنه لا يُقال: عَجِزَ الإنسان -بالكسر- إلا إذا عَظُمت عَجِيزَته، ذكره في "المصباح"

(2)

. (بَلْ قَدْ عَجَزَتْ)"بل" في مثل هذا للإضراب الإبطاليّ، أَخْبَرَ أوّلًا بأنّ كفّ الرجل قاربت العجز، ثم تبيّن له أنها عجزت حقيقةً، فأخبر به، والمراد أن الرجل تصدّق بمال كثير.

(ثُمَّ تتَابَعَ النَّاسُ) أي: تبع بعضهم بعضًا في المجيء بالصدقة (حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ) بفتح الكاف، وضمّها، قال القاضي عياض-رحمه الله: ضبطه بعضهم بالفتح، وبعضهم بالضمّ، قال ابن السراج: هو بالضمّ اسم لما كُوِّمَ، وبالفتح المرّة الواحدة، قال: والكُومة -بالضمّ-: الصُّبْرة، والكُوم العظيم من كلّ شيء، والكوم المكان المرتفع، كالرابية، قال القاضي: فالفتح هنا أولى؛ لأنّ مقصوده الكثرة، والتشبيه بالرابية. انتهى

(3)

. (مِنْ طَعَام وَثيَاب) بيان للكوم (حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم-يتَهَلَّلُ) أي: يَستنير فرَحًا وسُرورًا.

وقوله: (كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين:

[أحدهما]: وهو المشهور، وبه جزم القاضي، والجمهور "مُذْهَبة" بذال معجمة، وفتح الهاء، وبعدها باءٌ موحّدة.

[والثاني]: - ولم يذكر الحُمَيديّ في "الجمع بين الصحيحين" غيره -"مُدْهُنَة"- بدال مهملة، وضم الهاء، وبعدها نون- وشرحه الحميديّ في كتابه "غريب الجمع بين الصحيحين"، فقال: هو وغيره ممن فسّر هذه الرواية، إن صحّت: الْمُدهُن: الإناء الذي يُدهَن فيه، وهو أيضًا اسمٌ للنُّقْرة في الجبل التي

(1)

"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم"(ص 191).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 393.

(3)

راجع: شرح مسلم للنوويّ 7/ 105.

ص: 430

يُستَنْقَع فيها ماءُ المطر، فشبّه صفاء وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم بإشراق السرور بصفاء هذا الماء الْمُستَنقع في الحجر، أو بصفاء الدُّهْن والْمُدْهُن.

وقال القاضي عياض في "المشارق" وغيره من الأئمّة: هذا تصحيفٌ، وهو بالذال المعجمة، والباء الموحّدة، وهو المعروف في الروايات، وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره:

[أحدهما]: معناه فضة مُذهبة، كما قال الشاعر:

كَأنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ

ويعني به: تشبيه إشراق وجهه وتنويره، فهو أبلغ في ذلك.

[والثاني]: شبّهه في حسنه، ونوره بالْمُذْهَبَة من الجلود، والسُّرُوج، والأقداح، وغير ذلك، وجمعها مذاهب، وهي شيءٌ كانت العرب تصنعه من جلود، وتَجعَل فيها خطوطًا مُذْهَبَة، يُرَى بعضها إثرَ بعض.

وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم، فهو الفرح بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذلِ أموالهم لله، وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البرّ والتقوى، فينبغي للإنسان إذا رأى شيئًا من هذا القبيل أن يفرح، ويُظهر سروره، ويكون فرحه لما ذكرناه. انتهى كلام النووي رحمه الله في "شرحه"، بزيادة من "المفهم"

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً) أي: مَن أَتَى بطريقة مرضيّة، يُقتَدَى به فيها، كما فعل هذا الأنصاريّ الذي أَتَى بصُرّة، يقال: سنّ الطريقةَ: إذا سار فيها، كاستسنّها، قاله في "القاموس".

والسنة الحسنة هي: الطريقة المحمودة، التي يدلّ عليها الكتاب والسنّة (فَلَهُ أَجْرُهَا) قال الطيبئ رحمه الله: الضمير للسنّة، والإضافة يكفي في استقامتها أدنى ملابسة، فإن السنّة الحسنة لَمّا كانت سببًا في ثبوت أجر عاملها أضيف الأجر إليها بهذا، كما إذا رأيت بناءً رفيعًا، فقلت: هذا بناء الأمير، أو أن المضاف محذوف؛ أي: فله أجر عملها، فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح مسلم للنوويّ" 7/ 105، و"المفهم" للقرطبيّ 3/ 62 - 63.

(2)

"الكاشف" 2/ 671.

ص: 431

(وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ) ظاهره أنّه يَحْصُل له الأجر، ولو لم ينو المبتدئ أن يُتّبع فيها، ففيه ثبوت الأجر مع عدم نيّة الفاعل، فيكون مُخَصِّصًا لحديث "إنما الأعمال بالنيّات"، والله تعالى أعلم. (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْءٌ)"نقص" يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، يقال: نَقَصَ المالُ نَقْصًا، وانتقَصَ: إذا ذهب منه شيء بعد تمامه، فهو لازم، ويقال: نقصته، فهو متعدٍّ، وهذه هي اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} الآية [الرعد: 41]، وقوله:{غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعذى بالهمزة والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدّى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نقصت زيدًا حقّه، وانتقصته مثله، أفاده الفيّوميّ.

قال الجامع عفا الله عنه: إذا عرفت هذا، فما هنا من اللازم، ولهذا رُفع قوله:"شئٌ" على الفاعليّة، ووقع في رواية النسائيّ بنصب "شيئًا"، فيكون من المتعدّي، فتنبّه، والله تعالى أعلى أعلم.

(وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً) أي: مَن فَعَل فعلًا قبيحًا، فاقتُدِي به.

والسنّة السيّئة هي الطريقة المذمومة، وهي التي تُبتدَع بعد تمام الدين على أنها منه، وهي الْمَعْنِيّة بقوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"(كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا) -بكسر، فسكون-: الإثم، والثِّقَل، يقال: وَزَرَ يَزِرُ، من باب وَعَدَة إذا حَمَلَ الإثمَ، وفي التنزيل:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية [الإسراء: 15]. والجمع أوزارٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمالِ. أي: عليه إثم فعلها (وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ) أي: ومثل وزر مَن عَمِل بها، وهذا لا يعارض قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] لأنّ هذا فعله، لا فعل غيره، وذلك لأنه ابتدأ هذه السنّة السيّئة، وتبعه عليها غيره، فصار سببًا في الشرّ، فالإثم جاءه من تسبّبه، والله تعالى أعلم.

(مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ") يعني: أنهم يتحمّلون أوزار عملهم السيّئ كاملة، وهو يتحمّل وزر تسبّبه في ذلك.

قال النوويّ رحمه الله: وسبب هذا الكلام في هذا الحديث، أنه قال في أوّله:"فجاء رجل بِصُرَّة، كادت كفّه تَعْجِزُ عنها، ثمّ تتابع الناس"، وكان

ص: 432

الفضل العظيم للبادئ بهذا الخير، والفاتحِ لباب هذا الإحسان.

وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ مُحْدَثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة، والبدع المذمومة، قال: والبدع خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرّمة، ومكروهة، ومباحة. انتهى كلامه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام النوويّ هذا فيه نظرٌ من وجهين:

[الأول]: دعواه التخصيص المذكور، فإنه غير صحيح، بل قوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ محدثة بدعة إلخ" باق على عمومه، فإن المراد بالبدعة هي البدعة الشرعيّة، وهي التى ابتُدِعت بعد إكمال الله تعالى الدينَ بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، فلا يَشْهَد لها كتابٌ، ولا سنّة، كما بيّن ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان، بقوله:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه" الحديث، فقد بيّن أن إحداث ما دلّ عليه الكتاب والسنّة ليس من البدعة شرعًا، وإن كان يسمّى بها لغة.

والحاصل أن البدعة اللغويّة أعمّ من البدعة الشرعيّة، حيث إنها تُطْلَق على ما يدلّ عليه النصّ، وما لا يدلّ عليه، بخلاف الشرعيّة، فإنها لا تطلق إلا على ما لا يدلّ عليه دليل، فكلّ بدعة شرعيّة بدعة لغويّة، ولا عكس، فقوله:"كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة" لا يُخَصّ منه شيء، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف.

[والثاني]: أن تقسيمه لمطلق البدعة إلى خمسة أقسام غير صحيح، فإن هذا التقسيم للبدعة اللغويّة، لا للشرعيّة، فإنها قسم واحد مذموم.

والحاصل أن الذي يقبل التقسيم المذكور هو اللغويّ، ومنه قول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: نعمت البدعة لصلاة التراويح، فإنه محمول على المعنى اللغويّ، وكذلك ما نُقل عن الشافعيّ رحمه الله، وغيره من تقسيمهم البدعة إلى محمودة ومذمومة، أو بدعة حسنة، وبدعة غير حسنة محمول على هذا المعنى، فتبصّر، ولا تتحيّر، وقد بسطت الكلام على هذا في "شرح سنن ابن ماجه"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 433

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2351 و 2352 و 2353 و 2354](1017)، و (الترمذيّ) في "العلم"(2675)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2554)، وفي "الكبرى"(2335)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(203)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 92)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 358)، و (الدارميّ) في "سننه"(512)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 93 - 94)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 330)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة تحريض الإمام الناس على الصدقة إذا دعت الحاجة لذلك.

2 -

(ومنها): بيان كمال رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمته، وشدة رأفته بهم، كما وصفه الله تعالى بذلك في كتابه بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

3 -

(ومنها): استحباب جمع الناس للأمور المهمّة، ووعظهم، وحثّهم على مصالحهم، وتحذيرهم من القبائح.

4 -

(ومنها): الحثّ على الابتداء بالخيرات، وسَنّ السنن الحسنات.

5 -

(ومنها): التحذير من البِاَع والخرافات التي لا يؤيّدها دليلٌ شرعيّ، بل يردّها، ولبطلها.

6 -

(ومنها): أن بعض الأفعال لا ينقطع ثوابها، وكذا لا ينتهي وزرها، وهي التي تكون سببًا للاقتداء بفاعلها، فيجب على العاقل أن يكون مفتاحًا للخير، لا مفتاحًا للشرّ، جعلنا الله تعالى من عباده الذين جعلهم مفتاحًا للخيرات، ومِغْلاقًا للشرّ والسيّئات، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

ص: 434

وبالسند المئصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2352]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثنا أَبِي، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُنْذِرَ بْنَ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَ النَّهَارِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ، وَفي حَدِيثِ ابْنِ مُعَاذٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: قَالَ: ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ خَطَبَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 7/ 3.

3 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية أبي أسامة، ومعاذ بن معاذ، كلاهما عن شعبة هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2353]

(

) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَبُو كامِلٍ، وَمُحَمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُموِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَاهُ قَوْمٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ، وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِقِصَتِهِ، وَفيهِ: فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ صَعِدَ مِنْبَرًا صَغِيرًا، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثنَى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: "أما بَعْدُ فَإِنَّ اللهَ أنزَلَ فِي كِتَابِهِ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} الآية [النساء: 1] ").

ص: 435

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [10](ت 235)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن الحسين الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافط [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأُمَوِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارب، واسمه عبد الله بن أبي عثمان البصريّ، صدوقٌ، من كبار [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.

4 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، ثقة ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

5 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ الفَرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقية تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَسَاقُوأ الْحَدِيثَ) الضمير لشيوخه الثلاثة: عبيد الله بن معاذ، وأبي كامل، ومحمد بن عبد الملك.

وقوله: (ثُمَّ صَعِدَ مِنْبَرًا صَغِيرًا) الظاهر أن هذا المنبر غير المنبر النبويّ المعروف.

[تنبيه]: رواية عبد الملك بن عُمير، عن المنذر بن جرير هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (4/ 176) فقال:

(7531)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو بن أبي جعفر، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عُمير، عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتاه قوم مُجتابي النِّمَار، متقلدي السيوف، وليس عليهم أُزُرٌ، ولا شيءٌ غيرها، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بهم من الْجَهْد والْعُرْي والجوع، تغير وجهه، ثم قام، فدخل بيته، ثم راح إلى المسجد، فصلى الظَهر، ثم صَعِدَ منبره منبرًا صغيرًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإن الله عز وجل أنزل في كتابه: {يَاأَيُّهَا

ص: 436

النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى قوله: {رَقِيبًا} [النساء: 1]، {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} إلى قوله:{هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20]، تَصَدَّقوا قبل أن لا تَصَّدّقوا، تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة، تَصَدَّق امرؤ من ديناره، من درهمه، من بُرّه، من شعيره، ولا يحقرن أحدكم شيئًا من الصدقة، ولو بشق تمرة، فقام رجل من الأنصار بِصُرَّة في كفه، فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على منبره، فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَف السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: مَن سَنَّ سنةً حسنةً، فعُمِل بها، كان له أجرها، ومثل أجر مَن عَمِل بها، لا يَنْقُص من أجورهم شيءٌ، ومَن سَنَّ سنةً سيئة، فعُمِل بها كان عليه وزرها، ومثل وزر مَن عَمِلَ بها، لا يَنقُص من أوزارهم شيءٌ"، فقام الناس، فتفرقوا، فمِنْ ذي دينار، ومن ذي درهم، ومن ذي، ومن ذي، قال: فاجتمع، فقسمه بينهم. انتهى.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2354]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي الضُّحَىً، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَيْهِمُ الصُّوفُ، فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ، قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَة، فَذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبت [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ) الأنصاريّ الْخَطْميّ -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة- الكوفيّ، ثقة [4].

رَوَى عن أبيه، وأمه بنت حذيفة، وأبي حُميد الساعديّ، وعن امرأة من بني عبد الأشهل، لها صحبةٌ، وعن عبد الرحمن بن هلال العبسيّ،

ص: 437

وعبد الرحمن بن أبي قتادة، وعبد الرحمن بن بشير بن مسعود الأنصاريّ، وعن امرأة من بني أسد، ورَوَى أيضًا عن سليمان بن صُرَدٍ أنه رآه يتكلم في أذانه، وقد عَلَّق البخاريّ هذه القصة، ووصلها ابن أبي شيبة وغيره.

ورَوَى عنه ابنه عمر، والأعمش، ومنصور، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، ومِسْعَر بن كِدَام، ومعتمر بن سليمان، وغيرهم.

قال ابن معين، والعجليّ، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

علّق له البخاريّ الأثر المذكور، وأخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده في "كتاب العلم".

5 -

(أَبُو الضُّحَى) مُسلم بن صُبيح -بالتصغير- الْهَمْدانيّ الكوفيّ العطّار، مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضل [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

6 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِلَالٍ الْعَبْسِي) -بالموحّدة- الكوفيّ، ثقةٌ [3](بخ م د س ق) تقدم في "الزكاة" 8/ 2298.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن هلال، عن جرير رضي الله عنه هذه ساقها المصنّف في "كتاب العلم"، فقال:

(1017)

- حدّثني زهير بن حرب، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، وأبي الضُّحَى، عن عبد الرحمن بن هلال الْعَبْسيّ، عن جرير بن عبد الله، قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم، قد أصابتهم حاجة، فحَثّ الناس على الصدقة، فأبطئوا عنه، حتى رُئي ذلك في وجهه، قال: ثم إن رجلًا من الأنصار جاء بِصُرَّة من وَرِقٍ، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا، حتى عُرِف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنّ في الإسلام سنة حسنةً، فعُمِل بها بعده، كُتب له مثلُ أجر مَن عَمِل بها، ولا ينقص من أجورهم شيءٌ، ومَن سَنَّ في الإسلام سنة سيئةً، فعُمِل بها بعده، كُتب عليه مثلُ وِزْر مَن عَمِل بها، ولا

ص: 438

ينقص من أوزارهم شيءٌ. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(22) - (بَابُ الْحَمْلِ بِأُجْرةٍ يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَالنَّهْيِ الشَّدِيدِ عَنْ لَمْزِ الْمُتَصَدِّقِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2355]

(1018) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ، قَالَ: كُنَّا نُحَامِلُ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاع، قَالَ: وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذا، وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَرُ إِلَّا رِيَاءً، فَنَزَلَتْ:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]، وَلَمْ يَلْفِظْ بِشْرٌ بِالْمُطَوِّعِينَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ) بن عَوْن الْغَطَفَانيّ مولاهم، أبو زكريا البغداديّ، ثقةٌ حافظ مشهور، إمام الْجَرْح والتعديل [10](ت 233) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

2 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) الْعَسْكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْربُ [10](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

3 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرم ثقة [2](ت 82) عن مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

4 -

(أَبُو مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه قبل الأربعين، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458.

ص: 439

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"سليمان": هو الأعمش.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه بشر، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريّين، سوى ابن معين، فبغداديّ، ونصفه الثاني مسلسل بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو البدريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ) ولفظ البخاريّ في "الزكاة": "لما نزلت آية الصدقة، كنّا نُحامل

". قال في "الفتح": كأنه يشير إلى قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "لما نزلت آية الصدقة" هي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: 103]. قوله: (كنا نحامل) جواب: "لَمَّا"، ومعناه كنا نتكلف الحمل بالأجرة؛ لنكتسب ما نتصدق به، وفي رواية لمسلم:"كنا نحامل على ظهورنا"، ومعناه نحمل على ظهورنا بالأجرة، ونتصدق من تلك الأجرة، أو نتصدق بها كلِّها.

[فإن قلت]: "نُحَامِل" من باب المفاعلة، وهي لا تكون إلا بين اثنين.

[قلت]: قد يجيء هذا الباب بمعنى فَعَلَ، كما في قوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133]؛ أي: أسرعوا، ونحامل كذلك بمعنى نَحْمِل.

وقال صاحب "التلويح": قوله: "نُحامِل" قال ابن سِيدَهْ: تحامل في الأمر: تكلفه على مشقة وإعياء، وتحامل عليه كلّفه ما لا يطيق، وفيه نظر؛ لأن هذا المعنى لا يناسب هاهنا. انتهى

(1)

.

(1)

"عمدة القاري" 8/ 276.

ص: 440

قال الجامع عفا الله عنه: كون ما هنا مِن تحامَلَ في الأمر: إذا تكلّفه واضح، قال في "القاموس": وتحامل في الأمر وبه: تكلّفه على مشقّة، وعليه كلّفه ما لا يُطيق. انتهى

(1)

.

فقوله: "فيه نظرٌ"، فيه نظز لا يخفى، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو مسعود رضي الله عنه (كُنَّا نُحَامِلُ) وفي الرواية الثانية: "كنا نحامل على ظهورنا"، ومعناه: نَحْمِل على ظهورنا بالأجرة، ونتصدق من تلك الأجرة، أو نتصدق بها كلِّها، ففيه التحريض على الاعتناء بالصدقة، وأنه إذا لم يكن له مال يتوصل إلى تحصيل ما يَتَصَدَّق به، من حمل بالأجرة، أو غيره من الأسباب المباحة

(2)

.

(قَالَ) أبو مسعود رضي الله عنه (فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ) اسم أبي عَقِيل هذا -وهو بفتح أوّله- حَبْحَاب- بمهملتين، بينهما موحّدة ساكنة، وآخره مثلها- ذكر عبد بن حُميد، والطبريّ، وابن منده من طريق أبي عروبة، عن قتادة، قال في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 79]، قال: "جاء رجل من الأنصار، يقال له: الحبحاب، أبو عَقِيل، فقال: يا نبيّ الله بِتُّ أجُرُّ الجرير

(3)

على صاعين من تمر، فأما صاعٌ، فأمسكته لأهلي، وأما صاع فها هو ذا، فقال المنافقون: إن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عَقيل، فنزلت".

وهذا مرسل، ووصله الطبرانيّ، والباورديّ، والطبريّ من طريق موسى بن عُبيدة، عن خالد بن يسار، عن ابن أبي عَقيل، عن أبيه بهذا، ولكن لم يسمّوه، وذكر السهيليّ أنه رآه بخظ بعض الحفّاظ مضبوطًا بجيمين.

وروى الطبرانئ في "الأوسط"، وابن منده من طريق سعيد بن عثمان البلويّ، عن جدّته بنت عديّ، أن أمها عميرة بنت سهل بن رافع، صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون خرج بزكاته، صاع تمر، وبابنته عميرة إلى

(1)

"القاموس المحيط " 3/ 361.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 105.

(3)

الجرير بالفتح: حبل يُجعل في عنق الناقة. قاله في "المصباح".

ص: 441

النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا لهما بالبركة، وكذا ذكر ابن الكلبيّ أن سهل بن رافع، هو صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون.

وروى عبد بن حميد من طريق عكرمة، قال في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]: هو رفاعة بن سهل، ووقع عند ابن أبي حاتم: رفاعة بن سعد، فَيَحْتَمِل أن يكون تصحيفًا، وَيحْتَمِل أن يكون اسم أبي عَقيل سهل، ولقبه حبحاب، أو هما اثنان.

وفي الصحابة أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلويّ بدريّ، لم يسمّه موسى بن عقبة، ولا ابن إسحاق، وسماه الواقديّ: عبد الرحمن، قال: واستُشهِد باليمامة، وكلام الطبريّ يدلّ على أنه هو صاحب الصاع عنده، وتبعه بعض المتأخّرين، قال الحافظ: والأول أولى.

وقيل: هو عبد الرحمن بن سمحان

(1)

، وقد ثبت في حديث كعب بن مالك في قصّة توبته، قال:"وجاء رجل يزول به السراب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة"، فإذا هو أبو خيثمة"، وهو صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، واسم أبي خيثمة هذا عبد الله بن خيثمة، من بني سالم، من الأنصار.

قال الحافظ: فهذا يدلّ على تعدّد من جاء بالصاع، ويؤيّد ذلك أن أكثر الروايات فيها أنه جاء بصاع، وكذا وقع عند البخاريّ في "الزكاة":"فجاء رجل، فتصدّق بصاع"، وفي حديث الباب:"فجاء أبو عقيل بنصف صاع".

وجزم الواقديّ بأن الذي جاء بصدقة ماله هو زيد بن أسلم العجلانيّ، والذي جاء بالصاع هو عُلَيّة بن زيد المحاربيّ.

وسمّي من الذين قالوا: إن هذا مُرَاءٍ، وإن الله غنيّ عن صدقة هذا: مُعَتّب بن قُشَير، وعبد الله بن نَبْتَل، وأورده الخطيب في "المبهمات" من طريق الواقديّ، وفيه: عبد الرحمن بن نَبْتَل- وهو بنون، ثمّ موحّدة، ثمّ مثنّاة، ثم لام بوزن جعفر- وسيأتي أيضًا ما يدلّ على تعدّد من جاء بأكثر من ذلك.

(قَالَ) أبو مسعود (وَجَاءَ إِنْسَان بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ) أي: مما جاء به أبو

(1)

في هامش طبعة بولاق: كذا في بعض النسخ، وفي بعضها "سحان" بغير ميم.

ص: 442

عَقيل، وفي رواية البخاريّ في "الزكاة":"وجاء رجل بشيء كثير".

وروى البزّار من طريق عُمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدّقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا"، فجاء عبد الرحمن بن عوف، فقال: يا رسول الله عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربّي، وألفين أمسكهما لعيالي، فقال:"بارك الله لك فيما أعطيت، وفيما أمسكت"، قال: وبات رجل من الأنصار، فأصاب صاعين من تمر

الحديث. قال البزّار: لم يُسنده إلا طالوت بن عبّاد، عن أبي عوانة، عن عمر، قال: وحدّثناه أبو كامل، عن أبي عوانة، فلم يذكر أبا هريرة فيه، وكذلك أخرجه عبد بن حُميد، عن يونس بن محمد، عن أبي عوانة، وأخرجه ابن أبي حاتم، والطبريّ، وابن مردويه من طرق أخرى، عن أبي عوانة، مرسلًا، وذكره ابن إسحاق في "المغازي" بغير إسناد، وأخرجه الطبريّ من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد، عن قتادة، وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، والمعنى واحد، قال:"وحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة -يعني: في غزوة تبوك- فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها، فقال: "بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت"، وتصدّق يومئذ عاصم بن عديّ بمائة وسقٍ من تمر، وجاء أبو عَقِيل بصاع من تمر

" الحديث، وكذا أخرجه الطبريّ من طريق الْعَوْفيّ، عن ابن عبّاس نحوه، ومن طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، قال: "جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب" بمعناه، وعند عبد بن حميد، وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس، قال: "جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقيّة من ذهب، فقال: إن لي ثمانمائة أوقيّة من ذهب

" الحديث، وأخرجه عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة، فقال: "ثمانية آلاف دينار"، ومثله لابن أبي حاتم من طريق مجاهد. وحكى عياض في "الشفا" أنه جاء يومئذ بتسعمائة بعير.

وهذا اختلاف شديدٌ في القدر الذي أحضره عبد الرحمن بن عوف، وأصحّ الطرق فيه ثمانية آلاف درهم، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم من طريق حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أو غيره، والله أعلم.

ص: 443

ووقع في "معاني الفرّاء" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة، فجاء عمر بصدقة، وعثمان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم -يعني: عبد الرحمن بن عوف، ثم جاء أبو عَقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عَقِيل، فإنما جاء بصاعه ليذكّر بنفسه، فنزلت، ولابن مردويه من طريق أبي سعيد: "فجاء عبد الرحمن بن عوف بصدقته، وجاء المطّوّعون من المؤمنين

" الحديث، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا) أي: عن صدقة أبي عَقِيل (وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَرُ) بالرفع بدلًا من اسم الإشارة، وعَنَوا به الإنسان الذي جاء بمال كثير، وقد تقدّم الخلاف فيه آنفًا (إِلَّا رِيَاءً) أي: إلا إظهارًا لصدقته للناس، لِيَرَوه، ويَظُنّوا به خيرًا، ويحمدوه عليها.

(فنزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} أي: يعيبون {الْمُطَّوِّعِينَ} قرأ الجمهور بتشديد الطاء، والواو، وأصله المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، وهم الذين يغزون بغير استعانة برزق من سلطان، أو غيره ({مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}) بيان للمطّوعين ({فِي الصَّدَقَاتِ}) متعلق بيلمزون ({وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}) معطوف على "المطّوّعين"، وأخطأ من قال: إنه معطوف على {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} ؛ لاستلزامه فساد المعنى، وكذا من قال: معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ} ؛ لأنه يُفْهَم منه أن {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} ليسوا بمؤمنين؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، فكأنه قيل: الذين يلمزون المطّوّعين من هذين الصنفين: المؤمنين، والذين لا يجدون إلا جهدهم، فكأن الأولين مُطّوّعون مؤمنون، والثاني مطّوّعون غير مؤمنين، وليس بصحيح، فالحقّ أنه معطوف على {الْمُطَّوِّعِينَ} ، ويكون من عطف الخاصّ على العامّ، والنكتة فيه التنويه بالخاصّ؛ لأن السخريّة من المقلّ أشدّ من المكثر غالبًا، والله أعلم. قاله في "الفتح".

قال أهل اللغة: الْجُهْد بالضم: الطاقة، والْجَهْد بالفتح: المشقة، وقال الشعبيّ: الْجُهْد هو القدرة، والْجَهْد في العمل

(2)

.

(1)

"الفتح" 9/ 230 - 231.

(2)

"عمدة القاري" 8/ 277.

ص: 444

وقوله: (وَلَمْ يَلْفِظْ بِشْرٌ بِالْمُطَّوِّعِينَ) أشار به إلى أن شيخه بشر بن خالد خالف يحيى بن معين في ذكر لفظة "المطّوّعين"، هذا هو ظاهر ما دلّ عليه كلامه، ولكن لم يظهر لي وجهه، فإن الحديث أخرجه البخاريّ، والنسائيّ عن بشر، وفيه لفظ "المطوّعين"، ودونك نصّ البخاريّ في "كتاب التفسير"، قال رحمه الله:(4668) - حدّثني بشر بن خالد أبو محمد، أخبرنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود، قال: لما أُمِرنا بالصدقة، كنا نتحامل، فجاء أبو عَقِيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاءً، فنزلت:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية [التوبة: 79]. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 2355 و 2356](1018)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1415 و 1416)، و"الإجارة"(2273)، و"التفسير"(4668 و 4669)، و (النسائيّ) في الزكاة" (2530)، وفي "الكبرى" (2309)، و (ابن ماجه) في "الزهد" (4155)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (3/ 95)، و (ابن أبي حاتم) في "تفسيره" (6/ 1850)، و (ابن جرير الطبريّ) في "تفسيره" (8/ 215 و 10/ 196)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضلِ صدقةِ قليلِ المال.

2 -

(ومنها): مشروعيّة حثّ الإمام الناسَ على الصدقة لإزالة فاقة المحتاجين.

ص: 445

3 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من المسارعة إلى الخيرات، كل على حسب حاله، فالغنيّ يجود بالكثير، والفقير بقدر استطاعته.

4 -

(ومنها): بيان أخلاق المنافقين، وسوء طويّتهم، وأنهم لا يَسْلَم من لَمْزهم وغَمْزهم أحدٌ من المؤمنين في جميع الأحوال، لا الأغنياء، ولا المقلّون، فإن تصدّق أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُرَاءٍ، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغنيّ عن صدقة هذا.

وبالجملة فهم يتّهمون المؤمنين المخلصين بما هم بريئون منه، بل هو من صفات المنافقين أنفسِهِم، فإن الرياء والسمعة، وحُبّ المحمدة بما لم يفعلوا، ونحوها من الأخلاق المذمومة هي بضاعتهم، وفيها تجارتهم، ولقد جازاهم الله تعالى على هذا الخلُق الذميم، كما أخبر بذلك في قوله:{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2356]

(

) - (وَحَدَّثنَا

(1)

مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، كلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وفى حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ) العامريّ الْحَرَشيّ، أبو زيد الْهَرَويّ البصريّ، ثقة من صغار [9] أقدم شيخ للبخاريّ وفاةً (ت 211)(خ م ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 40/ 1450.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقة ثبث [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثناه".

ص: 446

4 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سعيد بن الربيع، عن شعبة هذه، ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (8/ 127) فقال:

(3338)

- أخبرنا عُمَرُ بن محمد بن بُجَير الْهَمْداني بالصُّغْد، حدّثنا محمد بن بشار، حدثنا سعيد بن الربيع، حدّثنا شعبة، عن سليمان، قال: سمعت أبا وائل، عن ابن مسعود، قال: كنا نتحامل على ظهورنا، فيجيء الرجل بالشيء، فيتصدق به، فجاء رجل بنصف صاع، وجاء آخر بشيء كثير، فقالوا: إن الله غَنِيّ عن صدقة هذا، وهذا مُرَاءٍ، فنزلت:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية [التوبة: 79]. انتهى.

وأما رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، فساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (4/ 177) فقال:

(7537)

- أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فُورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود (ح) وأخبرنا أبو صالح ابن بنت يحيى بن منصور القاضي، أنبأ جَدِّي، ثنا أحمد بن سلمة، أنبأ إسحاق بن منصور، أنبأ أبو داود، ثنا شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت أبا وائل يحدِّث عن أبي مسعود، قال: كنا نتحامل، فيتصدق الرجل بالصدقة العظيمة، فيقال: هذا مرائي، ويتصدق الرجل بنصف صاع، فيقال: إن الله لغني عن هذا، فنزلت:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلي {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90]، لفظ حديث أبي صالح، وفي رواية أبي بكر قال: عن أبي مسعود البدريّ قال: كنا نتحامل، فيجيء الرجل بالصدقة العظيمة. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 447

(23) - (بَابُ فَضْلِ الْمَنِيحَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2357]

(1019) - (حَدَّثَنَا

(1)

زُهَيْرٌ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ:"ألَا رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً، تَغْدُو بِعُسٍّ، وَتَرُوحُ بِعُسٍّ، إِن أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) تقدّم قبل باب.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ) الإمام الكوفيّ، ثم المكيّ الحافظ الحجة الثبت، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(أَبُو الزنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقية [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقة ثبت فقية [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، ثم بغداديّ، وسفيان، فكوفيّ، ثمّ مكيّ.

4 -

(ومنها): أنه فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثنا".

ص: 448

5 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وقوله:(يَبْلُغُ بِهِ) معناه: يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يمنح"، ولا فرق بين هاتين الصيغتين باتفاق العلماء، قاله النوويّ رحمه الله، وقد مضى البحث في هذا مستوفًى غير مرّة.

("أَلَا رَجُلٌ) مبتدأ خبره جملة "إن أجرها لعظيم"(يَمْنَحُ) أي: يُعطي، يقال: مَنَحته الشيء مَنْحًا، من بابي نَفَعَ، وضَرَبَ: إذا أعطيته، والاسم المنيحة بفتح الميم، وكسر النون، والْمِنْحَةُ بكسر الميم، وسكون النون، والْمِنْحة في الأصل: هي الشاة، أو الناقة يُعطيها صاحبها رجلًا يشرب لبنها، ثمّ يرُدّها إذا انقطع اللبن، ثم كثُر استعماله حتى أُطلق على كلّ عطاء، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يَمْنَحُ" بفتح النون: أي: يعطيهم ناقةً يأكلون لبنها مُدّةً، ثم يردُّونها إليه، وقد تكون المنيحة عَطِيَّةً للرقبة بمنافعها مؤبَّدةً، مثل الهبة. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَهْلَ بَيْتٍ) مفعول أول، وقوله:(نَاقَةً) مفعول ثانٍ، والجملة في محلّ رفع صفة لـ"رجلٌ"، و"الناقةُ": هي الأنثى من الإبل، قال أبو عُبيدة: ولا تُسمّى ناقةً حتى تُجْذِعَ

(3)

، والجمع أَيْنُقٌ، ففيه القلب المكانيّ، حيث قُدّمت عين الكلمة على فائها

(4)

، وقوله:(تَغْدُو بِعُسٍّ) صفة لـ"ناقةً"، ومعنى "تغدو" أي: تأتي وقت الغدوّ، يقال: غدا غُدُوًّا، من باب قعد: ذهب غُدْوَةً، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وجمع الْغُدْوة غُدى، مثلُ مُدْيةٍ ومُدى، هذا أصله، ثمّ كثُرَ، حتى استُعْمِل في الذهاب والانطلاق أيَّ وقت كان، ومنه

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 580.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 106.

(3)

تُجذع الإبل في السنة الخامسة، والْجَذَع محرّكة ما قبل الثَّنِيّ.

(4)

راجع: "المصباح" مع هامشه 2/ 631.

ص: 449

حديث: "واغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"

(1)

، قاله الفيّوميّ

(2)

.

و"الْعُسّ" -بضم العين، وتشديد السين المهملة-: هو الْقَدَحُ الكبير، قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، ورُوي "بعشاء" بشين معجمة ممدودة، قال القاضي: وهذه رواية أكثر رواة مسلم، قال: والذي سمعناه من متقني شيوخنا: "بِعُسٍّ"، وهو القَدَحُ الضَّخْم، قال: وهذا هو الصواب المعروف، قال: ورُوي من رواية الحميديّ في غير مسلم: "بعساء" بالسين المهملة، وفسَّره الحميديّ بالْعُسّ الكبير، وهو من أهل اللسان، قال: وضبطنا عن أبي مروان بن سراج بكسر العين وفتحها معًا، ولم يقيده الجيانيّ، وأبو الحسن بن أبي مروان عنه، إلا بالكسر وحده، هذا كلام القاضي.

قال النوويّ: ووقع في كثير من نسخ بلادنا، أو أكثرها، من "صحيح مسلم":"بِعَسَاء" بسين مهملة ممدودة، والعين مفتوحة. انتهى

(3)

.

(وَتَرُوحُ) أي: ترجع، يقال: راح يَرُوح رَوَاحًا، وتَرَوَّحَ مثله، يكون بمعنى الغُدو، وبمعنى الرجوع، وقد طابق بينهما في قوله تعالى:{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]؛ أي: ذهابها ورجوعها، وقد يَتَوَهَّم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار، وليس كذلك، بل الرواح، والْغُدُوّ عند العرب يستعملان في المسير أَيَّ وقت كان من ليل أو نهار، قاله الأزهري وغيره

(4)

. (بِعُسٍّ) متعلّق بـ "تروح"، وقوله:(إِنَّ أَجْرَهَما لَعَظِيمٌ") بكسر همزة "إنّ" لوقوعها في الابتداء، والجملة خبر المبتدأ، كما أسلفته.

[تنبيه]: هذا الحديث لفظه عند البخاريّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الصدقة اللّقْحَة الصَّفِيّ مِنْحَةً، والشاةُ الصَّفِيّ مِنحةً، تغدو بإناء، وتروح بآخر".

قال في "الفتح": والمنيحة بالنون والمهملة، وزن عظيمة، هي في الأصل العَطِيّة، قال أبو عبيد: المنيحة عند العرب على وجهين: أحدهما: أن يعطي الرجلُ صاحبه صِلَةً، فتكون له، والأخر أن يعطيه ناقةً، أو شاة ينتفع بحلبها،

(1)

متّفقٌ عليه.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 106.

(4)

"المصباح" 2/ 443.

ص: 450

ووبرها زمنًا ثم يَرُدّها، وقال القزاز: قيل: لا تكون المنيحة إلا ناقةً أو شاةً، والأول أعرف.

وقوله: "نعم المنيحة اللَّقْحَة الصَّفِيَ مِنْحَةً"، اللقحة: الناقةُ ذات اللبن القريبة العهد بالولادة، وهي مكسورة اللام، ويجوز فتحها، والمعروف أن اللقحة -بفتح اللام- المرة الواحدة من الْحَلْب، والصَّفِيّ بفتح الصاد، وكسر الفاء: أي: الكريمة الغزيرة اللبن، ويقال لها: الصفية أيضًا، كذا رواه يحيى بن بكير.

وذكر البخاريّ بعده أن عبد الله بن يوسف، وإسماعيل بن أبي أويس روياه بلفظ:"نعم الصدقة اللقحة الصفي منحةً"، وهذا هو المشهور عن مالك، وكذا رواه شعيب، عن أبي الزناد.

قال ابن التين: من روى "نعم الصدقة" روى أحدهما بالمعنى؛ لأن المنحة العطية، والصدقة أيضًا عطية.

فتعقّبه الحافظ بان لا تلازم بينهما، فكل صدقة عطية، وليس كل عطية صدقة، وإطلاق الصدقة على المنحة مجاز، ولو كانت المنحة صدقةً لَمَا حَلَّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم، بل هي من جنس الهبة والهدية.

وقوله: "منحةً" منصوب على التمييز، قال ابن مالك: فيه وقوع التمييز بعد فاعل "نِعْمَ" ظاهرًا، وقد منعه سيبويه إلا مع الإضمار، مثل:{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] وجوَّزه المبرد، وهو الصحيح.

وقال أبو البقاء: "اللقحة" هي المخصوصة بالمدح، و"منحةً" منصوب على التمييز توكيدًا، وهو كقول الشاعر:

فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أَبِيكَ زَادَا

وقوله: "تغدو بإناء، وتروح بإناء"؛ أي: من اللبن؛ أي: تُحْلَب إناءً بالغداة، وإناءً بالعشيّ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 6/ 487 "كتاب الهبة" رقم (2629).

ص: 451

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 2357](1019)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2629) و"الأشربة"(5608)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 457)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 96)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 178)، و (الطبرانئ) في "مسند الشاميين"(4/ 284)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 184)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل المنيحة، وهي أن تكون له ناقة، أو بقرةٌ، أو شاة ذات لبن، فيدفعها إلى مَن يَشْرَب لبنها مدةً، ثم يردها إليه.

2 -

(ومنها): الحثّ على إيصال النفع إلى المسلمين بأيّ وجه وبأيّ طريق كان.

3 -

(ومنها): مشروعيّة هبة المنافع دون تمليك الرقبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2358]

(1020) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو، عَنْ زيدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ نَهَى، فَذَكَرَ خِصَالًا، وَقَالَ: "مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً

(1)

، غَدَتْ بِصَدَقَةٍ، وَرَاحَتْ بِصَدَقَةٍ، صَبُوحَهَا وَغَبُوقَهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السّلميّ، أبو عبد الله البغداديّ الْقَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

(1)

وفي نسخة: "مِنْحَةً".

ص: 452

2 -

(زَكَرِياءُ بْنُ عَدِيِّ) بن الصَّلْت التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدمة" 6/ 88.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الجَزَريّ الرقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيه ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (79) سنةً (ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 96.

4 -

(زيدُ) بن أبي انيسة، أبو أسامة الْجزريّ، كوفيّ الأصل، ثم سكن الرُّها، ثقةٌ له أفراد [6](ت 119) أو (124)(ع) تقدّم في "المقدمة" 6/ 96.

5 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ، رُمي بالتشيّع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

6 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 124.

و"أبو هريرة" ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ نَهَى) يَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، وضمير "أنه" للشأن؛ أي: أن الأمر والشأن نُهِي عن أشياء كثيرةً، كما أشار إليه بقوله:(فَذَكَرَ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون الضمير لأبي هريرة رضي الله عنه، والأول أشبه، ويؤيّده عطف قوله:"وقال: من منح إلخ"؛ إذ فاعل "قال" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم (خِصَالًا) أي: أمورًا عديدة من المنهيّات.

ص: 453

[تنبيه]: الخصال التي أبهمها المصنّف رحمه الله هنا قد ذكرها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(3/ 261) فقال:

(4897)

- حدّثني هلال بن العلاء، حدثنا أبي (ح) وحدثنا الصغانيّ، حدثنا زكريا بن عديّ، قالا: ثنا عبيد الله بن عَمْرو، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن عديّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُتَلَقَّى الْجَلَبُ، وأن يَستام الرجل على سوم أخيه، ونَهَى عن التصرية، ونَهَى عن أن يُتناجَش، ونَهَى أن يتلقى الجلب، ونَهَى أن تسأل المرأة طلاق أختها، ونَهَى أن يُباع الماءُ مخافةَ أن يُرْعَى الكلأ، ونَهَى أن يبيع حاضر لباد، وقال:"ومن منح منيحةً غَدَت وراحت بصدقة، صَبوحها وغَبُوقها". انتهى.

وأخرجه أيضًا أبو يعلى في "مسنده"(11/ 47) فقال:

(6187)

- حدّثنا هاشم بن الحارث، حدّثنا عبيد الله بن عَمْرو، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن عديّ بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُساوم الرجل على سوم أخيه، ونَهَى عن التناجش، ونَهَى أن يُتَلَقَّى الجلَبُ، ونَهَى أن تسأل المرأة طلاق أختها، ونَهى أن يُمنَع الماءُ مخافةَ أن يُرْعَى الكلأ، وَنَهَى أن يبيع حاضر لباد، ومَن منح منحةً غَدَت بصدقة، وراحت بصدقة، صَبُوحها وغَبُوقها. انتهى.

(وَقَالَ: "مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً) قال النوويّ رحمه الله: وقع في بعض النسخ "مَنِيحة"، وبعضها "مِنْحَةً" بحذف الياء، قال أهل اللغة: المنحة بكسر الميم، والمنيحة بفتحها مع زيادة الياء: هي العطية، وتكون في الحيوان، وفي الثمار، وغيرهما، وفي "الصحيح":"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَنَحَ أُمَّ أيمن عِذاقًا" أي: نخيلًا، ثم قد تكون المنيحة عطيةً للرقبة بمنافعها، وهي الهبة، وقد تكون عطية اللبن، أو الثمرة مُدّةً، وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها، ويردُّها إليه إذا انقضى اللبن، أو الثمر المأذون فيه.

فقوله: "مَنْ مَنَحَ مَنِيحةً""من" موصولة، أو شرطيّة مبتدأ، خبرها جملة "غدت بصدقة"، والضمير الراجع إلى الموصول محذوف، تقديره: غدت له بصدقة؛ أي: غدت تلك المنيحة له ملتبسة بصدقة، وقيل:"غَدَت" صفة لمنيحة، والخبر محذوف: أي: جمع أجرًا جزيلًا، والوجه الأول أقرب.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "من" شرطيّة في موضع رفع بالابتداء، جوابه:

ص: 454

"غدت بصدقة، وراحت بصدقة"، وهو خبر المبتدأ على قول، والصحيح أن خبرها ما بعدها؛ لأن "مَن" الشرطيّة لا تحتاج إلى صلة، بل هي اسم تامّ، وإنما لم يتمّ الكلام بما بعدها لما تضمّنته من معنى الشرط، فتدبّره، فإنه الصحيح.

قال: والمَنِيحة، والْمِنْحة: عطيّة ذوات الألبان؛ لينتفع المعطَى له باللبن، ثم يردّ المحلوب.

ومعنى الكلام: أن مَن مَنَحَ مَنِيحةً كان للمانح صدقةً كلّما غدت أو راحت؛ لأجل ما ينال منها في الصباح والمساء، والغُدُوّ: البُكْرة، والرواح: العشيّ. انتهى

(1)

.

(كَدَتْ) أي: تلك المنيحة لمانحها (بِصَدَقَةٍ) أي: بثواب صدقة عظيمة، فالتنوين للتعظيم، كما دلّ عليه الحديث الماضي:"إن أجرها لعظيم"(وَرَاحَتْ بِصَدَقَةٍ) وقوله: (صَبُوحَهَا وَغَبُوقَهَا") منصوبان على الظرفيّة، أو مجروران على البدليّة من قوله:"صدقةٍ"، و"الصبوح" بفتح الصاد: الشرب أول النهار، و"الغبوق" بفتح الغين: الشرب أول الليل، قاله القاضي عياض رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الصَّبُوح: شرب الصباح، والْغَبُوق: شرب العشيّ، والجاشريّة: شرب نصف النهار. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 2358](1020)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 262)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 96)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 26)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 47)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 184)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 3/ 65.

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 3/ 543.

(3)

"المفهم" 3/ 65.

ص: 455

(24) - (بَابُ بَيَانِ مَثَلِ الْمُنْفِقِ، وَالْبَخِيلِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2359]

(1021) - (حَدَّثنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مًثَلُ الْمُنْفِقِ، وَالْمُتَصَدَّقِ، كمَثَلِ رَجُل، عَلَيْهِ جُبّتَانِ، أَوْ جُنَّتَانِ، مِنْ لَدُنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ -وَقَالَ الْآخَرُ-: فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَتَصَدَّقَ، سَبَغَتْ عَلَيْهِ، أَوْ مَرَّتْ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ، قَلَصَتْ عَلَيْهِ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا، حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أثَرَهُ"، قَالَ: فَقَالَ أَبو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ: يُوَسَّعُهَا فَلَا

(1)

تَتَّسِعُ).

رجال هذا الإسناد: ثماينة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقة حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، أبو الوليد، وأبو خالد الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضل، يُدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

3 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمِ) بن يَنّاق

(2)

المكيّ، ثقة [5] مات بعد المائة بقليل (خ م د س ق) تقدم في "صلاة العيدين" 1/ 2044.

4 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيَريّ مولاهم الفارسيّ، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبه، ثقة ثبت فقيه فاضلٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

وفي نسخة: "ولا".

(2)

بفتح الياء التحتانيّة، وتشديد النون، وآخره قاف.

ص: 456

والباقون تقدّموا قبل حديث.

لطائف هذا الإسناد:

منها: أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، بالنسبة للإسناد الأول، ومن سداسيّاته بالنسبة للثاني.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والحسن بن مسلم، فما أخرج له الترمذيّ.

(ومنها): أن الأول مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فبغداديّ، وسفيان فمكيّ، والثاني مسلسل بالمكيين غير شيخه أيضًا، وطاوس فيمني، وأبي هريرة فمدنيّ، والله تعالى أعلم.

(ومنها): أن فيه رواية تابعي، عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

[تنبيه]: قوله: "قال عمرو" من كلام المصنّف رحمه الله؛ يعني به: شيخه عمر الناقد، وقوله:"قال: وقال ابن جريج" فاعل "قال" الأول ضمير ابن عيينة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ: "وقال ابن جريج" بالواو، وهي صحيحة مَلِيحة، وإنما أتى بالواو؛ لأن ابن عيينة قال لعمرو: قال ابن جريج كذا، فإذا رَوَى عمرٌ والثانيَ من تلك الأحاديث أتى بالواو؛ لأن ابن عيينة قال في الثاني: وقال ابن جريج كذا، وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات في أول الكتاب. انتهى

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة: حدّثنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن حدّثه، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ: عن طاوس، قال: سمعت أبا هريرة، وقال البخاريّ تعليقًا:"وقال حنظلة: سمعت طاوسًا، سمعت أبا هريرة"(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَثَلُ الْمُنْفِقِ، وَالْمُتَصَدِّقِ) هكذا وقع هذا الحديث

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 107.

ص: 457

في جميع النسخ من رواية عَمْرو: "مثلُ المنفق والمتصدق"، قال القاضي عياضٌ وغيره: هذا وَهَمٌ، وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات:"مثل البخيل والمتصدق"، وتفسيرهما آخر الحديث يُبَيِّن هذا، وقد يَحْتَمِل أن صحة رواية عمرو هكذا أن تكون على وجهها، وفيها محذوف، تقديره: مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما، وهو البخيل، وحُذِف "البخيل"؛ لدلالة المنفق والمتصدّق عليه، كقول الله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ} الآية [النحل: 81]: أي: "والبرد"، وحُذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله: قد رواه الحميديّ، وأحمد، وابن أبي عمر، وغيرهم في "مسانيدهم" عن ابن عيينة، فقالوا في رواياتهم:"مثل المنفق، والبخيل"، كما في رواية شعيب، عن أبي الزناد، وهو الصواب. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "شرحه": وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة، وتصحيفٌ، وتحريفٌ، وتقديم وتأخيرٌ، ويُعرف صوابه من الأحاديث التي بعده، فمنه:"مثلُ المنفق والمتصدق"، وصوابه: المتصدق والبخيل، ومنه:"كمثل رجل"، وصوابه: رجلين عليهما جنتان، ومنه قوله:"جنتان أو جبتان" بالشك، وصوابه: جنتان بالنون بلا شك، كما في الحديث الآخر بالنون بلا شك، والجنة الدرع، ويدل عليه في الحديث نفسه قوله:"فأخذت كل حلقة موضعها"، وفي الحديث الآخر:"جنتان من حديد"، ومنه قوله:"سَبَغَت عليه، أو مَرّت"، كذا هو في النسخ "مَرَّت" بالراء، قيل: إن صوابه مُدَّت بالدال، بمعنى سَبَغَت، وكما قال في الحديث الآخر:"انبَسَطَت"، لكنه قد يَصِحّ "مَرَّت" على نحو هذا المعنى، والسابغُ: الكاملُ، وقد رواه البخاريّ:"مَادَتْ" بدال مخففة، من مَادَ: إذا مال، ورواه بعضهم "مَارَتْ"، ومعناه: سألت عليه، وامتدت، وقال الأزهريّ: معناه: تَرَدَّدت وذهبت وجاءت؛ يعني: لكمالها.

ومنه قوله: "وإذا أراد البخيل أن يُنفق قَلَصَت عليه، وأَخَذت كلُّ حَلْقة

(1)

راجع: "شرح مسلم" للنوويّ 7/ 107 - 108. طبعة دار الريّان للتراث.

(2)

راجع: "الفتح" 4/ 60.

ص: 458

موضعها، حتى تُجِنّ بنانه، وتَعْفُوَ أثره"، قال: فقال أبو هريرة: "يوسعها فلا تتسع"، وفي هذا الكلام اختلال كثيرٌ؛ لأن قوله: "حتى تُجِنّ بَنَانَهُ، وتَعْفُو أَثَرَه" إنما جاء في المتصدق، لا في البخيل، وهو على ضدّ ما هو وصف البخيل في قوله: "قَلَصَت كلُّ حلقة موضعها"، وقوله بعد هذا: "يوسعها فلا تتسع"، وهذا من وصف البخيل، فأدخله في وصف المتصدق، فاختلّ الكلام، وتناقض، وقد ذُكِر في الأحاديث على الصواب.

ومنه رواية بعضهم في موضع "تُجنّ": "تحزّ" بالحاء والزاي، وهو وهم، والصواب رواية الجمهور "تُجِنّ " بالجيم والنون؛ أي: تستتر.

ومنه رواية بعضهم: "ثيابه" بالثاء المثلثة، وهو وَهَمٌ، والصواب:"بنانه" بالنون، وهو رواية الجمهور، كما قال في الحديث الآخر:"أنامله".

ومعنى "تَقَلَّصت": انقبضت، ومجنى "تعفو أثره" أي: تمحو أثر مشيه بسبوغها وكمالها، وهو تمثيل لنماء المال بالصدقة والإنفاق، والبخل بضدّ ذلك، وقيل: هو تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء، وتَعَوَّدَ ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادةً له، وفي الحديث الترغيب في الصدقة وفضلها.

وقيل: معنى "تعفو أثره" أي: تذهب بخطاياه، وتمحوها، وقيل في البخيل:"قَلَصت ولَزِمَت كلُّ حلقة مكانها" أي: يُحْمَى عليه يوم القيامة، فيُكْوَى بها، والصواب الأول، والحديث جاء على التمثيل، لا على الخبر عن كائن، وقيل: ضُرِب المثل بهما؛ لأن المنفق يستره الله تعالى بنفقته، ويستر عوراته في الدنيا والآخرة، كستر هذه الْجُنَّة لابسها، والبخيل كمن لَبِس جُبّة إلى ثدييه، فيبقى مكشوفًا بادي العورة، مُفتضَحًا في الدنيا والآخرة. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله ببعض تصرّف، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا

(1)

.

وقوله: (كَمَثَلِ رَجُلٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في الأصول كلّها "كمثل رجل" بالإفراد، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة، وصوابه:"كمثل رجلين". انتهى.

(1)

راجع: "إكمال المعلم" 3/ 545 - 547.

ص: 459

(عَلَيْهِ جُبَّتَانِ) بضمّ الجيم، وتشديد الموحّدة، تثنية جُبّة، وهو ثوب مخصوص (أَوْ جُنَّتَانِ) بالنون بدل الباء الموحّدة، وهي الدرع، وهذا شكّ من الراوي، وصوّبوا النون؛ لقوله:"من حديد"، وقوله:"واتسعت عليه الدرع"، وغير ذلك، ذكره النوويّ. وأفاد في "الفتح" أن المحفوظ في هذه الرواية بالموحّدة، ومَن رواه فيها بالنون، فقد صحّف، قال: ورُجّحت رواية النون لقوله: "من حديد"، والجنّة في الأصل الحصن، وسمّيت بها الدرع؛ لأنها تُجِنّ صاحبها؛ أي: تحصنه، والجبّة -بالموحّدة- ثوب مخصوص، ولا مانع من إطلاقه على الدرع. انتهى

(1)

.

وقال السنديّ رحمه الله: نعم إطلاق الجبّة -بالباء- على الجنّة -بالنون- مجازًا غير بعيد، فينبغي أن تكون الجنّة -بالنون- هي المرادة في الروايتين. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن ما أشار إليه السنديّ رحمه الله من تصحيح الروايتين حسنٌ، والله تعالى أعلم.

(مِنْ لَدُنْ ثُدِيِّهِمَا)"من" ابتدائيّة متعلّق بحال محذوف؛ أي: حال كون الجبّتين، أو الجنّتين كائنتين من ثُديّهما.

قال النوويّ: رحمه الله: قوله: "من لدن ثُدِيّهما" هكذا هو في كثير من النسخ المعتمدة، أو أكثرها "ثُدِيّهما" بضم الثاء، وبياء واحدة مشددة على الجمع، وفي بعضها "ثَدْيَيْهِمَا" بالتثنية. انتهى

(3)

.

و"الثُّدِيُّ "-بضمّ المثلّثة، وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء - جمع ثَدْي - بفتح، فسكون- كفلس، وفُلُوس، وأصله ثُدُويٌ، اجتمعت الواو والياء في كلمة، وسبقت إحداهما بالسكون الأصليّ، فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيا

وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا

===

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 60.

(2)

"شرح السندي على النسائيّ" 5/ 71.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 108.

ص: 460

فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا

وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا

قال في "المصباح": الثَّدْيُ للمرأة، وقد يقال في الرجل أيضًا، قاله ابن السّكّيت. ويُذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو الثَّدْيُ، وهي الثَّديُ، والجمع أَثْدٍ، وثُدِيٌّ، وأصلهما أَفْعُل، وفُعُولٌ، مثل أفلُسٍ، وفُلُوسٍ، وربّما جُمع على ثِدَاءٍ، مثلُ سَهْمٍ وسِهَام. انتهى

(1)

.

وفي "القاموس": " الثَّدْيُ -أي: بالفتح -ويُكسر، وكالثَّرَى: خاصّ بالمرأة، أو عامّ، ويؤنّث، وجمعه أَثْدٍ، وثُدِيٌ، كَحُليٍّ. انتهى. قال الشارح المرتضى: قوله: "كحليّ" أي: بالضمّ على فُعُولٍ، كما في "الصحاح"، قال: و"ثِدِيّ" أيضًا بكسر الثاء إتباعًا. انتهى.

(إِلَى تَرَاقِيهِمَا) بفتح المثنّاة الفوقيّة، وقاف، جمع تَرْقُوة -بفتح المثنّاة، وسكون الراء، وفتح الواو-: هما العظمان المشرفان في أعلى الصدر.

قال في "المصباح": التَّرْقُوَة: وزنُهَا فَعْلُولَة -بفتح الفاء، وضمّ اللام- وهو العظم الذي بين ثُغْرَة النَّحْر والعاتق من الجانبين، والجمع: التَرَاقِي، قال بعضهم: ولا تكون التَّرْقُوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان. انتهى

(2)

.

وهذا إشارة إلى ما جُبل عليه الإنسان من الشحّ، ولذا جمع بين البخيل، والجواد فيه.

(فَإذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ) وقوله: (وَقَالَ الآخَرُ) أراد به أحد شيخي ابن عيينة: أبا الزناد، وابن جريج؛ يعني: أحدهما قال: "فإذا أراد المنفق"، وقال الآخر:(فَإذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّق أَنْ يَتَصَدَّقَ، سَبَغَتْ) أي: امتدّت، وغطّت (عَلَيْهِ) أي: المتصدّق، وفي رواية النسائيّ:"فإذا أراد المنفق أن يُنفق اتّسعت عليه الدرع"، وقوله:(أَوْ مَرَّتْ) أي: جازت ذلك المحلّ، و"أو" للشكّ من بعض الرواة.

(وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ، قَلَصَتْ عَلَيْهِ) -بفتح القاف، واللام، والصاد المهملة-: أي: انقبضت. يقال: قَلَصَتْ شَفَتُهُ تَقْلِصُ، من باب ضرب: انزَوَتْ، وتقلَّصَت مثله، وقَلَصَ الظلُّ: ارتفع، وقَلَصَ الثوبُ: انزوَى بعد غَسْلِهِ، قاله الفيّوميّ (وَأَخَذَتْ) وفي رواية البخاريّ:"إلا لَزِقت"، للنسائيّ:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 80.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 74.

ص: 461

"وَلَزِمَتْ"(كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا) يعني: اشتدّت، والتصقت الحلقة بعضها ببعض.

قال الفيّوميّ رحمه الله: حَلْقَةُ الباب بسكون اللام، من حديد وغيره، وحَلْقَةُ القوم الذين يجتمعون مستديرين، والحَلْقَة السّلاحُ كلُّهُ بالسكون، والجمعُ حَلَقٌ بفتحتين، على غير قياس، وقال الأصمعيّ: والجمع حِلَقٌ بكسر، ففتح، مثلُ قَصْعَة وقِصَعٍ، وبَدْرَةٍ وبِدَرٍ، وحَكَى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أنّ الحَلَقَة بفتح اللام لغة في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياسٌ، مثلُ قَصَبَة وقَصَبٍ، وجَمَعَ ابنُ السّرّاج بينهما، وقال: فقالوا: حَلَقٌ بفتحتين، ثمّ خفَّفُوا الواحد حين ألحقوه الزيادة، وغُيِّرَ المعنى، قال: وهذا لفظ سيبويه. انتهى كلام الفيّوميّ ببعض تصرّف

(1)

.

وقال المجد اللغويّ رحمه الله: وحَلْقَةُ الباب، والقومِ، وقد تُفتحُ لامهما، وتُكسرُ، أو ليس في الكلام حَلَقَةٌ، محرَّكَةً، إلّا جَمْعَ حالق، أو لغةٌ ضعيفة، جمعه حَلَقٌ، محرَّكَةً، وكَبِدَرٍ، وحَلَقَاتٌ، محرّكةً، وتكسر الحاء. انتهى

(2)

.

قمال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحصّل من مجموع ما ذُكر أن "الْحَلْقَة" يجوز في حائه الفتح، والكسر، وفي لامه السكون، وهو الأفصح، والفتح، وهو قليل، وذَكَرَ في "تاج العروس" عن "العُباب" كسر اللام، قال: نقله الفرّاء، والأمويّ، وقالا: هي لغة بلحرث بن كعب.

وأما جمعه فحَلَقٌ محرّكةً، وحِلَق، بكسر، ففتح، وحَلَقَات، محرّكةً، وتكسر حاؤه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ، وَتَعْفُوَ أثَرَهُ") قد تقدّم في كلام عياض رحمه الله أن هذا وَهَمٌ؛ لأنه من وصف المنفق، وليس من وصف البخيل، فتنبّه.

(حَتى تُحن) -بضمّ أوّله، وكسر الجيم، وتشديد النون- من أجنّ الشيءَ: إذا ستره؛ أي: تستر (بَنَانَهُ) بالنصب مفعول "تُجِنّ" وهو -بفتح الموحّدة، ونونين خفيفتين- قال الفيّوميّ رحمه الله: البَنَانُ: الأصابع. وقيل: أطرافها،

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 146 - 147.

(2)

راجع: "القاموس المحيط" 3/ 222.

ص: 462

الواحدة بَنَانَةٌ. قيل: سمّيت بَنَانًا؛ لأنّ بها صلاحَ الأحوال التي يستقرّ بها الإنسان؛ لأنه يقال: أَبَنَّ بالمكان: إذا استقرّ به. انتهى.

(وَتَعْفُوَ أثَرَهُ) أي: تمحوَ أثر مشيه بسبوغها، وكمالها، يقال: عفا المنزلُ عَفْوًا، وعَفَاءً -بالفتح، والمدّ-: دَرَسَ، وعَفَتْهُ الريحُ، يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، ومنه:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43]؛ أي: محا ذنوبك، وعفوتُ الحقّ: أسقطته، كأنّك محوته عن الذي هو عليه، وعافاه الله: محا عنه الأسقام، قاله الفيّوميّ.

والمناسب هنا المتعدّي، ولذا نَصَبَ "أثرَهَ". والمعنى: أن الصدقة تستر خطاياه، كما يغطّي الثوبُ الذي يُجَرُّ على الأرض أثرَ صاحبه؛ إذا مشى بمرور الذيل عليه، قاله في "الفتح".

(قَالَ) الراوي، وهو الأعرج، أو طاوس (فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَقَالَ) أي: أخذ صلى الله عليه وسلم، ففيه إطلاق القول على الفعل، وقد تقدّم غير مرّة (يُوَسِّعُهَا) أي: الْجُنّةَ (فَلَا) وفي نسخة بالواو (تَتَّسِعُ) وفي الرواية التالية: "قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبَعه في جيبه، فلو رأيته يوسّعها، ولا تتّسع"، ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق، عن أبي الزناد في الحديث:"وأما البخيل، فإنها لا تزداد عليه إلا استحكامًا".

وحاصل المعنى: أنه يحاول في توسيعها، ولكنّها لا تقبل التوسيع؛ لاستحكام تقلّصها، وثبوتها في مكانها.

قال التوربشتيّ رحمه الله: معنى الحديث أنّ الجواد الموفّق إذا همّ بالصدقة اتّسع لذلك صدره، وطاوعته نفسه، وانبسطت بالبذل والعطاء يداه، كالذي لبس درعًا، فاسترسلت عليه، وأخرج منها يديه، فانبسطت حتى خلصت إلى ظهور قدميه، فأجنّته، وحصنته، وأنّ البخيل إذا أراد الإنفاق حَرِجَ به صدره، واشمأزّت عنه نفسه، وانقبضت عنه يداه، كالذي أراد أن يستجنّ بالدرع، وقد غُلّت يداه إلى عنقه، فحال ما ابتُلي به بينه وبين ما يبتغيه، فلا يزيده لبسها إلا ثقلًا، ووبالًا، والتزامًا في العنق، والتواءً، وأَخْذًا بالترقوة. انتهى.

ص: 463

وقال في "الفتح": قال الخطّابيّ وغيره: وهذا مثلٌ ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدّق، فشبّههما برجلين أراد كلّ واحد منهما أن يلبس درعًا، يستتر به من سلاح عدوّه، فصبّها على رأسه ليلبسها، والدرعُ أول ما تقع على الصدر، والثديين إلى أن يُدخل الإنسان يديه في كمّيها، فجَعَلَ المنفقَ كمن لبس درعًا سابغةً، فاستَرسَلَت عليه، حتّى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله:"حتّى تعفوَ أثره": أي: تستر جميع بدنه. وجَعَلَ البخيلَ كمثل رجل غُلَّت يداه إلى عنقه، كلّما أراد لبسها، اجتمعت في عنقه، فلزمت ترقوتَهُ، وهذا معنى قوله:"قلَصَت": أي: تضامّت، واجتمعت.

والمراد أنّ الجواد إذا هَمَّ بالصدقة انفسح لها صدره، وطابت نفسه، فتوسّعت في الإنفاق -أي: وطاوعت يداه بالعطاء-. والبخيل إذا حدّث نفسه بالصدقة شحّت نفسه، فضاق صدره، وانقبضت يداه:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. انتهى.

وقال الطيبيّ: أوقع المتصدّق مقابل البخيل، والمقابل الحقيقيّ السخيّ، إيذانًا بأنّ السخاء ما أَمَرَ به الشرع، وندب إليه من الإنفاق، لا ما يتعاناه المبذّرون، وخصّ المشبّه بهما بلبس الجبّتين من الحديد، إعلامًا بأنّ الشّحّ، والقبض من جبلّة الإنسان، وخلقته، وأنّ السخاء من عطاء الله تعالى، وتوفيقه، يمنحه من يشاء من عباده المفلحين، وخصّ اليد بالذكر؛ لأنّ السخيّ، والبخيل يوصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل قيل: مغلولة يده إلى عنقه، وثديه، وتراقيه. وإنما عدل عن الغُلّ إلى الدرع لتصوّر معنى الانبساط والتقلّص. والأسلوبُ من التشبيه المفرّق، شبّه السخيّ الموفّق؛ إذا قصد التصدّق، يسهل عليه، ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع، ويده تحت الدرع، فإذا أراد أن يُخرجها منها، وينزعها يسهل عليه، والبخيل على عكسه. انتهى.

وقال المنذريّ: شبّه صلى الله عليه وسلم نِعَمَ الله تعالى، ورزقه بالْجُنَّة، وفي رواية بالْجُبَّة، فالمنفق كلّما أنفق اتّسعت عليه النعم، وسَبَغَت، ووَفَرَت حتّى تستره سَتْرًا كاملًا شاملًا، والبخيل كلّما أراد أن يُنفق منعه الشحّ، والحرص، وخوف النقص، فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وأن تتّسع عليه النعم، فلا تتّسع،

ص: 464

ولا تستر منه ما يروم ستره. والله سبحانه، وتعالى أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2359 و 2360 و 2361](1021)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1252) وفي "الجهاد والسير"(2701) وفي "اللباس"(5351)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2547 و 2548) وفي "الكبرى"(2327 و 2328)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1064 و 1065)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 256 و 522)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2437)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 96 - 97)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 186) و"المعرفة"(3/ 337)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): بيان صفة البخيل في الصدقة، فقد مثّله في الحديث بالمثل السَّوْء، والمراد منه التنفير عن البخل، وأنه صفة اللؤماء.

2 -

(ومنها): بيان صفة السخيّ في الصدقة، وأن السخاء من صفات الكرماء المفلحين الذين عناهم الله تعالى بقوله:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

3 -

(ومنها): مشروعيّة ضرب الأمثال؛ لتوضيح المقال، حتّى يتّضح للسامع أتمّ الاتضاح، فيحصُرَه، ويستقرّ في ذهنه غاية الاستقرار، فيستحضره.

4 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفي هذا دليل على لباس القميص، وكذا ترجم عليه البخاريّ: رحمه الله: "باب جيب القميص من عند الصدر"؛ لأنه المفهوم من لباس النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه القصّة، مع أحاديث أخرى صحيحة، وردت في ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "الترغيب والترهيب" 4/ 39، و"مرعاة المفاتيح" 6/ 287 - 288.

(2)

شرح مسلم 7/ 110.

ص: 465

قال ابن بطّال رحمه الله: وموضع الدلالة منه أنّ البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع الذي ضاق عليها، وهو الثدي، والتراقي، وذلك في الصدر، قال: فبان أنّ جيبه صلى الله عليه وسلم كان في صدره؛ لأنه لو كان في يده لم تضطرّ يداه إلى ثدييه، وتراقيه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2360]

(

) - (حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ، حَدَّثنَا أَبُو عَامِرٍ، يَعْنِي الْعَقَدِيَّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِم، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصّدِّقِ، كمَثَلِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطُرَّتْ

(1)

أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيهِمَا، وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ، حَتَّى تُغَشِّيَ أنَامِلَهُ، وَتَعْفُوَ أثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ، وَأَخَدَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، قَالَ: فَأَنا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِإصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَوَسَّعُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ أَبُو أيُّوبَ الْغَيْلَانيُّ) المازنيّ البصريّ، ثقةٌ [11](ت 6 أو 247)(م س) تقدم في "الإيمان" 42/ 277.

2 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) عبد الملك بن عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ) المخزوميّ، أبو إسحاق المكيّ، ثقة حافظ [7](ع).

رَوَى عن الحسن بن مسلم بن يَنّاق، وابن أبي نَجِيح، وكثير بن كثير، وعطاء بن أبي رَبَاح، وعدّة.

(1)

وفي نسخة: "قَدِ اضْطَرَّتْ" بالبناء للفاعل.

ص: 466

وروى عنه ابن المبارك، وابن مهديّ، وأبو عامر العَقَديّ، وأبو نعيم، وخلاد بن يحعص، ويحيي بن أبي بُكَير.

قال ابن عيينة: كان حافظًا، وقال ابن مهديّ: كان أوثق شيخ بمكة، وقال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وفي "مسند يعقوب بن شيبة": قال وكيع: كان إبراهيم يقول بالقدر، وقال يعقوب: وكان أحمد يُطْريه، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1021) و (1211) و (2077) و (2085) و (2123).

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (جُنَّتَانِ) هنا وفي الرواية التالية بالنون بلا شكّ ولا خلاف.

وقوله: (قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا) بالبناء للمفعول، ووقع في بعض النسخ بالبناء للفاعل، قال القسطلّانيّ رحمه الله في "شرح البخاريّ": قوله: "اضطرّت أيديهما" بفتح الطاء، ونصب التحتانيّة الثانية، من "أيديهما" عند أبي ذرّ على المفعوليّة، ولغيره بضمّ الطاء، وسكون التحتيّة، مرفوعٌ نائبٌ عن الفاعل.

وقال القاري: بضمّ الطاء: أي: شُدّت، وضُمّت، والتَصَقَت. وفي نسخة بفتح الطاء، ونصب "أيديهما" على أنّ ضمير الفعل إلى جنس الْجُنّة المفهوم من التثنية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أنّ في اضطرّ ضبطين: أحدهما: البناء للفاعل، وعليه فالفاعل ضمير يعود إلى الجنّة المفهومة من ذكر الجنتين، و"أيديَهُما" منصوب على المفعوليّة، والثاني البناء للمفعول، وعليه و"أيديهما" نائب عن الفاعل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (انْبَسَطَتْ عَنْهُ) الفاعل ضمير الجنّة.

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 287.

ص: 467

وقوله: (حَتى تُغَشَّيَ) بضمّ أوله، من التغشية، وهو التغطية.

وقوله: (وَجَعَلَ الْبَخِيلُ) أي: طفِق، وشرع.

وقوله: (كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ) أي: قصد أن يتصدّق.

وقوله: (يَقُولُ) فيه إطلاق القول على الفعل.

وقوله: (وَلَا تَوَسَّعُ) أصله تتوسّع بتاءين، فحُذفت إحداهما؛ للتخفيف، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2361]

(

) - (وَحَدّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدَّقِ، مَثَلُ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، إِذَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ، اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى تُعَفيَ

(1)

أثَرَهُ، وَإِذَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ، تَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ، وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ، وَانْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا"، قَالَ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فَيَجْهَدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ) أبو إسحاق البصريّ، ثقة حافظ [9](ت 211)(م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين" 4/ 1609.

(1)

وفي نسخة: "حتى تُعْفِيَ" بضم أوله، وسكون ثانية، وكسر ثالثه.

ص: 468

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت [7](ت 165)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُسٍ) أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمَة" 4/ 18.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَيَجْهَدُ) بفتح أوله، وثالثه، مضارع جَهَدَ، يقال: جَهَدَ في الأمر، من باب نَفَعَ: إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب

(1)

، والفاعل ضمير البخيل.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(25) - (بَابُ ثبوتِ أَجْرِ الْمُتَصَدِّقِ، وَإِنْ وَقَعَتِ الصَّدَقَةُ في يَدِ فَاسِقٍ وَنَحْوِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2362]

(1022) - (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: لَأتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِي، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ، لأتصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، أمّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَل الْغَنيَّ يَعْتَبِرُ، فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ").

(1)

"المصباح" 1/ 112.

ص: 469

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثَانيّ، أبو محمد صدوقٌ، لكنه عَمِي، فتلقّن [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

3 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيةٌ إمام في المغازي [5](ت 141)، أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"أبو الزناد": هو عبد الله بن ذكوان، و"الأعرج": هو عبد الرحمن بن هُرمُز.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، وشيخ شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه؛ أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبيِ هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ووقع عند النسائيّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، قال:"حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ مِمَّا حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ مِمَّا ذَكَر أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة، عن الأعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل. انتهى؛ أي قال في نفسه، أو قال لبعض أصحابه، أو في ندائه حال دعائه، قاله القاري

(1)

. (لأتَصَدَّقَنَّ) اللام فيه هي الْمُوَطّئة للقسم، والقسم فيه مقدّر؛ أي والله لأتصدّقن، وهو من باب الالتزام كالنذر، فصارت الصدقة واجبة، فصحّ

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 328.

ص: 470

الاستدلال به في صدقة الفرض، وهذا الاستدلال مبنيّ على أنّ شرع من قبلنا شَرْع لنا، ما لم يظهر نسخه، وإنكاره في شرعنا، وهو المذهب الحقّ، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

(اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بما قبله (بِصَدَقَةٍ) قال القاري رحمه الله: أي بصدقة عظيمة واقعة موقعها؛ ليتعلق بها قبول عظيم. انتهى.

(فَخَرَجَ) أي من بيته (بِصَدَقَتهِ) أي التي نَوَى أن يَضَعَها في يد مستحقّها (فَوَضَعَهَا فِي يَدِ) امرأة (زَانِيَةٍ) أي لعدم علمه بكونها زانيةً (فَأَصْبَحُوا) أي القوم الذين كان فيهم ذلك المتصدّق، وقوله:(يَتَحَدَّثُونَ) في موضع نصب خبر "أصبحوا"؛ أي يُحدّث بعضهم بعضًا؛ تعجّبًا واستنكارًا (تُصُدِّقَ اللّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بما قبله (عَلَى زَانِيَةٍ) ببناء الفعل للمفعول، وهو إخبارٌ بمعنى التعجّب، أو الإنكار، قاله السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ".

(قَالَ) ذلك المتصدّق (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ) أي على تصدّقي على امرأة زانية؛ يعني أنه ليس في ذلك اختيار؛ حيث وقعت صدقتي بيد من لا يستحقّها، فلك الحمد؛ إذ كان ذلك بإرادتك، لا بإرادتي، فإن إرادتك كلها جميلة، ولا يُحمَد على المكروه سواك، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله:"لك الحمد" لإفادة الحصر.

وقال الطيبيّ: لما جَزَمَ بوضعها في موضعها بدلالة التنكير في "بصدقةٍ"، وأبرز كلامه في معرض القسم تأكيدًا، أو قطعًا للقبول بها، جُوزي بوضعها في يد سارق، فحمد الله، وشكره على أنه لم يقدر أن يتصدّق على من هوأسوأ حالًا منه؛ أي لك الحمد لأجل وقوع الصدقة في يده دون من هو أشدّ حالًا منه، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يُتعجّب منه تعظيمًا لله؛ يعني أنه ذَكَرَ الحمد في موضع التعجّب، كما يُذكر التسبيح في موضعه، فلما تعجّبوا من فعله تعجّب هوأيضًا، فقال: اللهم لك الحمد على سارق. انتهى.

قال الحافظ: لا يخفى بُعْدُ هذا الوجه، وأما الذي قبله، فأبعد منه، والذي يظهر الأول، وأنه سَلّم، وفوّض، ورَضِي بقضاء الله، فحمد الله على تلك الحال؛ لأنه المحمود على جميع الحال، لا يُحمد على المكروه سواه.

ص: 471

وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يُعجبه، قال:"اللهمّ لك الحمد على كل حال". انتهى

(1)

.

(لأَتصَدَّقَن بِصَدَقَةٍ) أي صدقة أخرى على مستحقّها (فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ) رجل (غَنِيٍّ، فَاَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ) بالبناء للمفعول أيضًا (عَلَى غَنِىٍّ، قَالَ) ذلك المتصدّق (اللَهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ) أي على تصدّقي على رجل غنيّ حيث كان بإرادتك، لا بإرادتي، قال المتصدّق أيضًا:(لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ) رجل (سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ، تُصُدِّقَ) بالبناء للمفعول أيضًا (عَلَى سَارِقٍ) وفي رواية أبي أُميّة: "تصدّق الليلةَ على سارق"، وفي رواية ابن لهيعة:"تُصُدّق الليلة على فلان السارق"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصَدَّق عليهم

(2)

.

(فَقَالَ: اللَهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ) أي حيث كان كله بإرادتك، فأنت المحمود في جميع أفعالك؛ حيث كان كلّها جميلًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول المتصدّق: "اللهم لك الحمد على زانية" إشعار بألم قلبه؛ إذ ظنّ أن صدقته لم توافق محلّها، وأن ذلك لم ينفعه، ولذلك كرّر الصدقة، فلما علم الله صحّة نيّته تقبّلها منه، وأعلمه بفوائد صدقاته. انتهى.

(فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول؛ أي أتاه آتٍ في منامه، ففي رواية الطبرانيّ في "مسند الشاميين" عن أحمد بن عبد الوهّاب، عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة بهذا الإسناد:"فساءه ذلك، فأُتي في منامه". وأخرجه أبو نُعيم في "المستخرج" عنه، وكذا الإسماعيليّ من طريق عليّ بن عيّاش، عن شعيب، وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره، قال الكرمانيّ: قوله: "أُتي" أي أُرِي في المنام، أو سمع هاتفًا، أو غيره، أو أخبره نبيّ، أو أفتاه عالم، وقال غيره: أوأتاه ملك، فكلّمه، فقد كانت الملائكة تكلّم بعضهم في بعض الأمور.

(1)

الفتح 4/ 41.

(2)

راجع: "الفتح" 4/ 40.

ص: 472

قال الحافظ رحمه الله: وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلّها لم تقع، إلا النقل الأول. انتهى.

وقال السنديّ رحمه الله: ورؤيا غير الأنبياء، وإن كان لا حجة فيها، لكن هذه الرؤيا قد قرّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحصل الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(فَقِيلَ لَهُ: أمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ) بالبناء للمفعول، وفي رواية الطبرانيّ:"إن الله قد قَبِلَ صدقتك"(أمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ) أي تمتنع، يقال: عفّ عن الشيء يَعِفُّ، من باب ضَرَبَ عِفَّة بالكسر وعَفًّا بالفتح: امتَنَعَ عنه، فهو عَفِيفٌ، واستَعَفَّ عن المسألة مثلُ عَفَّ، ورجل عَفّ، وامرأةٌ عَفّة بفتح العين فيهما، وتعفّف كذلك، ويتعدّى بالألف، فيقال: أعفّه الله إعفافًا، وجمعُ العفيف أَعِفة، وأَعِفاءُ، قاله الفيّوميّ

(2)

.

(بِهَا) أي بسبب صدقتك (عَنْ زِنَاهَا) بالقصر، ويجوز مدّه عند بعضهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: زَنَى يَزْنِي زِنًا، مقصورٌ، فهو زانٍ، والجمع زُناةٌ، مثل قاضٍ وقضاةٍ، وزاناها مُزاناةً، وزِناءً، مثلُ قاتل مُقاتلةً، وقتالًا، ومنهم من يَجعل المقصور والممدود لغتين في الثلاثيّ، ويقول: المقصور لغة الحجاز، والممدود لغة نجد. انتهى

(3)

.

(وَلَعَلَّ الْغَنيَّ يَعْتَبِرُ) أي يتّعِظ، ويتذكّر (فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ) فيه أن بعض الناس يترك فعل الخير غفلةً، وذُهُولًا، فينبغي أن يُذَكَّر بذلك، كي يتنبّه، ويفعله.

(وَلَعَل السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ) أي يمتنع (بِهَا) أي بسبب صدقتك (عَنْ سَرِقَتِهِ) فيه إيماء إلى أنّ الغالب في السارق، ومثله الزانية أنهما يرتكبان المعصية للحاجة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

شرح السنديّ 5/ 56.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 418.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 257.

ص: 473

مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 2362](1022)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1421)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2523) وفي " الكبرى"(2302)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 322 و 350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 143)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 192 و 7/ 34)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أنه إذا دفع الزكاة إلى غير مستحقّها، ظانًّا استحقاقه سقطت عنه، قال القرطبيّ رحمه الله: يستفاد من الحديث صحّة الصدقة، وإن لم توافق محلًّا، مرضيًّا؛ إذا حسنت نيّة المتصدّق، فأما لو عَلِم المتصدّق أن المتصدَّق عليه يستعين بتلك الصدقة على معصية الله لحرم عليه ذلك، فإنه من باب التعاون على الإثم والعدوان. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ولا دلالة في الحديث على الإجزاء، ولا على المنع، ومن ثمّ ترجم البخاريّ على هذا الحديث بلفظ الاستفهام، فقال:"باب إذا تصدّق على غنيّ، وهو لا يعلم"، ولم يجزم بالحكم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيما قاله نظر من وجهين:

(الأول): أن قوله: "بلفظ الاستفهام" غير صحيح، بل إنما هو بلفظ الشكّ، ولم يذكر جوابه اتكالًا على كونه معلومًا من نصّ الحديث، حيث قال:"أما صدقتك، فقد تقبّلت"، كما في رواية مسلم، وغيره.

(الثاني): قد تقدّم أن وجه الاستدلال به على الإجزاء في الصدقة الواجبة أن قوله: "لأتصدّقنّ" من باب الالتزام، كالنذر، فصارت الصدقة واجبة عليه، وقد قرّر النبيّ صلى الله عليه وسلم رؤيا المتصدّق في قبول صدقته، فصحّ الاستدلال به في إجزاء زكاة الفرض، والله تعالى أعلم.

قال في "الفتح": [فإن قيل]: إن الخبر إنما تضمّن قصّة خاصّة، وقع

(1)

راجع: "المفهم" 3/ 67.

ص: 474

الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقيّة، فمن أين يقع تعميم الحكم؟.

[فالجواب]: أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف، هو الدّالّ على تعدية الحكم، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان أن شريعة من قبلنا شريعة لنا؛ إذا لم يأت في شرعنا ما يخالفه، وهذا هو القول الحقّ، وهو مذهب البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، حيث أوردوا حديث الباب للاحتجاج على إجزاء الزكاة إذا دُفعت لغير مستحقّها جهلًا، وسيأتي تمام البحث في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.

3 -

(ومنها): استحباب إعادة الصدقة إذا لم يقع موقعها، وإن أجزأت.

4 -

(ومنها): أن الحكم للظاهر حتى يتبيّن سواه.

5 -

(ومنها): بركة التسليم والرضا، وذمّ التضجّر والتسخّط بالقضاء، كما قال بعض السلف: لا تقطع الخدمة، ولو ظهر لك عدم القبول.

6 -

(ومنها): فضل صدقة السرّ، وفضل الإخلاص، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم دفع الزكاة لغنيّ، أو نحوه، ممن لا يستحقّها على ظنّ أنه يستحقّها:

قال العلّامة ابن قُدامة رحمه الله: إذا أعطى من يظنّه فقيرًا، فبان غنيًّا، فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما: يجزئه؛ أي تسقط عنه الزكاة، ولا تجب عليه الإعادة، واختارها أبو بكر، وهذا قول الحسن، وأبي عُبيد، وأبي حنيفة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الْجَلْدَين، وقال:"إن شئتما أعطيتكما، ولا حظّ فيها لغنيّ، ولا لقويّ مكتسب"، وقال للرجل الذي سأله الصدقة:"إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك". ولو اعتَبَر حقيقةً لما اكتَفَى لقولهم، ثم ذكر ابن قُدامة حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في هذا الباب.

قال: والرواية الثانية: لا يجزئه، وعليه الإعادة؛ لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقّه، فلم يخرج من عهدته، كما لو دفعها إلى كافر، وهذا قول

(1)

"الفتح" 4/ 41.

ص: 475

الثوريّ، والحسن بن صالح، وأبي يوسف، وابن المنذر، وللشافعيّ قولان كالروايتين. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول من قولي الإمام أحمد رحمه الله هو الأرجح عندي؛ لظهور أدلته التي تقدمت آنفًا.

والحاصل أن من دفع زكاته إلى غنيّ، أو نحوه ممن لا يستحقّها، ظانًّا أنه مستحقّها، ثم ظهر بخلافه، سقطت عنه، ولا يلزمه إعادتها، ولكن لو أعادها، كما أعاد الرجل المذكور في حديث الباب، كان حسنًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان مسألة مهمّة تُستفاد من حديث الباب، وهي مسألة "هل شَرْعُ مَن قبلنا شرع لنا، أم لا؟ "، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، والحقّ- وهو الذي عليه الجمهور، ومنهم الإمام البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ حيث استدلوا بحديث الباب على حكم المسألة- أنه شرع لنا بشرط أن يُنصّ عليه في شرعنا، وأن لا يأتي في شرعنا ما يخالفه.

وقد ذكر العلامة الزركشيّ رحمه الله في كتابه "البحر المحيط" في أصول الفقه، الخلاف في ذلك، وهاك ملخّصه:

قال رحمه الله ما مختصره-: هل تُعُبّد النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد النبوّة بشرع من قبله، أم كان منهيًّا عنه؟ فيه أربعة مذاهب:

(الأول): أنه لم يكن متعبَّدًا، بل كان منهيًّا عنها، وعليه أكثر المتكلّمين، وجماعة من الشافعيّة، والحنفيّة، واختاره الغزاليّ، وصححه ابن السمعانيّ، والنوويّ، وابن حزم، وغيرهم.

(الثاني): أنه كان مُتعبّدًا باتباعها، إلا ما نُسخ منها، ونقله ابن السمعانيّ عن أكثر الشافعتة، والحنفيّة، وطائفة من المتكلّمين. وقال ابن القشيريّ: هو الذي صار إليه الفقهاء. وقال سُليم: إنه قول أكثر أصحابنا -الشافعيّة-، واختاره الشيخ أبو إسحاق أوّلًا في "التبصرة"، واختاره ابن بَرْهان، وقال: إنه قول أصحابنا، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن، قال: ولذلك استدلّ بقصّة صالح النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقومه في شِرْب الناقة على إجازة المهايأة، وقال الخفّاف في "شرح الخصال": شرائع من قبلنا واجبة علينا إلا في

ص: 476

خصلتين: أن يكون شرعنا ناسخًا لها، أو يكون في شرعنا ذكر لها، فعلينا اتباع ما كان من شرعنا، وإن كان في شرعهم مقدّمًا، واختاره ابن الحاجب، وقال ابن الرفعة في "المطلب": إن الشافعيّ نصّ عليه في "الأمّ" في "كتاب الإجارة"، وأنه أظهر القولين في "الحاوي"، وقال إمام الحرمين: للشافعيّ ميلٌ إلى هذا، وبَنَى عليه أصلًا من أصوله في "كتاب الأطعمة"، وتابعه معظم الأصحاب، وقال في "النهاية": وقد استأنس الشافعيّ لصحّة الضمان بقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، فكان الْحِمْلُ في معنى الجعالة لمن ينادي في العير بالصواع، ولعلّه كان معلومًا عندهم، وتعلّق الضمان به، وقال أيضًا في "كتاب الضمان" فيمن حلف لَيَضربنّ عبده مائة سوط، فضربه بالْعِثْكَال

(1)

: إنه يبرأ؛ لقصّه أيوب-عليه السلام، واتفق العلماء على أن هذه الآية معمول بها في ملّتنا، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ، وفيما يقع بِرًّا وحنثًا، وثبت عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنه سجد في "سورة ص"، وقرأ قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فاستنبط التشريع من هذه الآية. رواه البخاريّ، وأحمد، وسعيد بن منصور

(2)

.

وقال أبو بكر عبد الوهاب: إنه الذي تقتضيه أصول مالك، وكذا قال القرطبيّ: ذهب إليه معظم أصحابنا، وقال ابن العربيّ في "القبس": نصّ عليه مالك في "كتاب الديات" من "الموطأ"، ولا خلاف عنده فيه.

(الثالث): أنه لم يتعبّد فيها بأمر، ولا نهي، حكاه ابن السمعانيّ.

(الرابع): الوقف. حكاه ابن القشيريّ. انتهى كلام الزركشيّ رحمه الله باختصار

(3)

.

وقد ذكر الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطيّ رحمه الله في كتابه "نثر الورود، شرح مراقي السعود" عند قول الناظم:

وَلَمْ يَكُنْ مُكَلّفًا بِشَرْعِ

صلي عليه الله قَبْلَ الْوَضْعِ

(4)

(1)

بالكسر، كقرطاس: الْعِذْق. اهـ. ق.

(2)

أخرجه البخاريّ في "الصحيح" في الجمعة، والأنبياء، والتفسير.

(3)

البحر المحيط 6/ 41 - 44.

(4)

أي قبل نزول الوحي عليه.

ص: 477

وَهُوَ وَالأمَّةُ بَعْدُ كلِّفَا

إِلَّا إِذَا التَّكْلِيفُ بِالنَّصِّ انْتَفَى

وَقِيلَ لَا وَالْخُلْفُ فِيمَا شُرِعَا

وَلَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَيْهِ سُمِعَا

ما حاصله: يعني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمته بعد نزول الوحي مكلّفون بشرع من قبلهم، خلافًا للشافعيّ، ومحلّ الخلاف فيما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ولم يثبت في شرعنا أنه شرع لنا.

قال: وهذه المسألة هي مسألة: هل شرعُ من قبلنا شرعٌ لنا؟. وتحقيق المقام فيها أن لها ثلاث حالات:

(الأولى): يكون شرع من قبلنا فيها شرعًا لنا بلا خلاف، وهي ما إذا ثبت في شرعنا أنه كان شرعًا لمن كان قبلنا، ثمّ نصّ لنا في شرعنا أنه شرع لنا، كالقصاص؛ لأن الله بَيّن أنه كان شرعًا لمن قبلنا بقوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة: 45]، ونصّ على أنه شرع لنا أيضًا في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الآية [البقرة: 178].

(الثانية): ليس شرعًا لنا فيها بلا خلاف، وهي في صورتين:

(إحداهما): ما لم يثبت بشرعنا أصلًا، ولو زعموا أنه من شرعهم.

(والأخرى): ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم، ونُصّ لنا على أنه ليس شرعًا لنا، كالآصار، والأثقال التي شُرعت على من قبلنا، كإيجابه على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم توبةً من عبادة العجل المنصوص في قوله:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 54]، فإن هذه الآصار رُفعت عنّا، كما قال تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وثبت في "صحيح مسلم":"أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، قال الله: قد فعلت".

(الثالثة): هي محلّ الخلاف، وهي ما إذا ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ولم ينصّ في شرعنا على أنه مشروع لنا، ولا غير مشروع، والجمهور على أنه شرعٌ لنا؛ خلافًا للشافعيّ

(1)

.

(1)

وقد تقدّم في كلام الزركشيّ أن الشافعيّ نصّ في كتابه "الأمّ" بما قال الجمهور، فالظاهر أن له قولين في المسألة، فتنبّه.

ص: 478

وحجة الجمهور أنه ما ذُكر لنا في شرعنا إلا للاعتبار، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] وثمرة الاعتبار العمل، وقد حضّ تعالى في آيات كثيرة على الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.

ومما استدلّ به الجمهور أن الله لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام، قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، والأصحّ أن الأمر للوجوب، وأنّ الأمّة تدخل تحت الخطاب الخاصّ به صلى الله عليه وسلم.

واستدلّوا أيضًا بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13] وبقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [النساء: 26].

واحتجّ الإمام الشافعيّ على أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية [المائدة: 48]، وقال: إن الْهُدَى في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، والدينَ في قوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} المراد بهما العقائد، دون الفروع العمليّة، بدليل الآية المذكورة.

والحقّ أنه لا يختصّ بذلك؛ لما في "صحيح البخاريّ" عن مجاهد أنه سأل ابن عبّاس رضي الله عنه من أين سجدتَّ؟ -يعني في {ص} - فقال: أوَ ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فكان داود ممن أُمر نبيّكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا نصّ صريحٌ مرفوعٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في "صحيح البخاريّ" على أنّ سجود التلاوة داخل في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وهو ليس من العقائد بالإجماع، فظهر عدم الاختصاص بالعقائد.

وأجاب الجمهور عن احتجاج الشافعيّ بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} بأن المراد بها نسخ بعض ما كان مشروعًا، أو زيادةُ ما لم يكن مشروعًا، وكلاهما ليس من محلّ النزاع.

ولم يزل العلماء يستدلّون على الأحكام بالقصص الماضية، كاستدلال المالكيّة، وغيرهم على أن القرينة الجازمة ربما تكفي عن البينة بجعل شاهد يوسف قرينةَ شقّ القميص من دبر مقتضية صدقَ يوسف عليه السلام، وكذب امرأة العزيز المنصوص في قوله:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} إلى قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} الآية [يوسف: 28] ولذا صارت القرينة

ص: 479

تكفي عن البيّنة في أمور كثيرة، كقول مالك: إن مَن استُنكِهَ، فَشُمّ من نكهته رائحة الخمر أنه يُجلد جلدَ شارب الخمر. وكمسيس الزوجة التي زُفّت إليه مع نساء لا تُثبت شهادتهنّ عينَ الزوجة؛ اعتمادًا على القرينة. وكالضيف يأتيه الصبيّ، أو الوليدة بالطعام، فيباح له أكله من غير بيّنة؛ اعتمادًا على القرينة. وكأخذ المالكيّة، وغيرهم أيضًا أن القرينة تُبطلها قرينة أقوى منها، من قصة يعقوب، وأولاده حيث جعلوا دم السخلة على قميص يوسف؛ ليكون الدم قرينة لهم على صدقهم في أنّ يوسف أكله الذئب، فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها، وهي عدم شقّ القميص، فقال: سبحان الله، متى كان الذئب حليمًا كيّسًا، يقتل يوسف، ولا يشقّ قميصه

(1)

. كما ذكر الله عنهم في قوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} الآية [يوسف: 18].

وكأخذ المالكيّة وغيرهم جوازَ ضمان الغُرْم من قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} .

وكأخذ بعض الشافعية جواز ضمان الوجه المعروف عندهم بالكفالة، من قصّة يعقوب وأولاده المنصوص في قوله:{لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} الآية [يوسف: 66].

وكاخذ الحنابلة جواز طول مدّة الإجارة من قوله في قصّة موسى وشُعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية إلى قوله: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27].

وكأخذ المالكيّة وجوب الإعذار للخصم بـ "أَبَقِيَ لَكَ حُجّةٌ؟ " من قوله في قصّة سليمان في الهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} [النمل: 21].

وكأخذهم أيضًا أن التلوّم للخصم بعد انقضاء الآجال ثلاثةُ أيّام، من قوله تعالى في قصّة صالح عليه السلام وقومه:{فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} الآية [هود: 65].

وكأخذ العلماء جواز وقوع كرامات الأولياء من قوله تعالى في قصّة مريم: {قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 37].

(1)

ذكره القرطبيّ في تفسيره هذه الآية.

ص: 480

وأمثال هذا كثيرة جدًّا. انتهى ما كتبه الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله تعالى في كتابه المذكور

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

إذا علمت ما سبق من التحقيق، فقد تبيّن لك أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو أيضًا منصوص للإمام الشافعيّ، من أنّ شرع من قبلنا؛ إذا قصّه الله تعالى في كتابه، أو قصّه النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه، ولم يَرِد في شرعنا ما يخالفه، فإنه يكون شرعًا لنا.

ومن الأدلة القوية لذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله في "الصحيح" من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يَلْهَث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال:"نعم في كل ذات كبد رطبة أجر".

ومحل الشاهد قول الصحابة رضي الله عنهم: "وإن لنا

إلخ" حيث فهموا من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القصّة أنهم لو عملوا بمثل عمله يؤجرون مثل أجره، فاستثبتوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فأقرّهم على فهمهم، وأوضح لهم بأن لهم في كل حيوان ذات كبد رطبة أجرًا، وإلا لقال لهم: إن هذه الحكاية ليست لكم، وإنما هي لمن كان قبلكم فقط، فليُتنبه، والله تعالى أعلم.

وقد نظمت ما سبق من التحقيق في "التحفة المرضيّة" بقولي:

اعْلَمْ بِأَنَ دِينَ الَانْبِيَاءِ

مُتَّفِقٌ لِيْسَ بِهِ تَنَاءِ

دِينُهُمُ التَّوْحِيدُ وَالْعِبَادَةُ

لِلَّهِ وَحْدَهُ لَهُ الْعِنَايَةُ

وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الشَّرَائِعُ

بِحِكْمَةِ الْمَوْلَى يَكُونُ الْوَاقِعُ

وَلَمْ يَكُنْ نَبِيُّنَا مُتَّبِعَا

دِينَ قُرَيْشٍ قَبْلَ بَعْثٍ فَاقْطَعَا

بَلْ يَعْبُدُ اللهَ وَلَكِنْ مَا ثَبَتْ

نَوْعُ الْعِبَادَةِ فَصَوِّبْ مَنْ سَكَت

وَشَرْعُ مَنْ قَبْلُ ثَلَاثَةً يُرَى

شَرْعٌ لَنَا بِلَا خِلَافٍ قَدْ جَرَى

(1)

"نثر الورود في شرح مراقي السعود" 1/ 373 - 376.

ص: 481

وَهُوَ مَا صَحَّ لَدَيْنَا شَرْعَا

وَعِنْدَهُمْ كَالصَّوْم خُذْهُ قَطْعَا

وَالثَّانِ مَا لَيْسَ لَنَا بِشَرْعِ

بِلَا خَلَافٍ بَيْنِ أَهْلِ الْقَطْعِ

وَهُوَ مَا لَيْسَ لَدَيْنَا مُثْبَتَا

كَوْنُهُ شَرْعَهُمْ بِنَقْلٍ ثَبَتَا

مِثْلُ الَّذِي نُقِلَ مِمَّا سَلَفَا

مِنْ كُتُبٍ تَحْرِيفُهُمْ لَهَا وَفَا

أَوْ هُوَ ثَابِتٌ وَلَكِنْ وُضِعَا

كَالإِصْرِ وَالأَغْلَالِ إِذْ قَدْ رُفِعَا

ثَالِثُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ مَا اشْتَمَلْ

عَلَى ثَلَاثَةِ ضَوَابِطَ اكْتَمَلْ

أَوَّلُهَا كَوْنُهُ شَرْعَ مَنْ سَبَقْ

ثَبَتَ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ فَاتَّسَقْ

وَثَانِهَا أَنْ لَا يَجِي فِي شَرْعِنَا

مُؤَيِّدٌ لَهُ وَإِلَّا شَرْعُنَا

ثَالِثُهَا أَنْ لَا يَجِي مَا يُبْطِلُهْ

فِي شَرْعِنَا فَإِنْ يَجِي لَا نَقْبَلُهْ

فَذِي الضَّوَابِطُ إِذَا تَوَفَّرَتْ

بِهْ احْتِجَاجُ الأَكْثَرِينَ قَدْ ثَبَتْ

وَهْوَ الصَّوَابُ إِذْ إِلَاهُنَا عَلَا

مَا قَصَّ الاخْبَارَ سِوَى أَنْ نَعْمَلَا

كَذَلِكَ الرَّسُولُ لَمَّا أَخْبَرَا

عَنْ رَجُلٍ بِسَقْي كَلْبٍ أُجِرَا

سُئِلَ هَلْ نُؤْجَرُ فِي الْبَهَائِمِ

قَالَ نَعَمْ مُقَرِّرًا لِلْهَائِمِ

وَرَدُّ ذَا الْخِلَافِ لِلَّفْظِ لِمَنْ

أَمْعَنَ فِي النَّظَرِ تَوْجِيهٌ حَسَنْ

وإن أردت تحقيق معاني الأبيات، فلتُراجع الشرح "المنحة الرضيّة" تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(26) - (بَابُ أَجْرِ الْخَازِنِ الأَمِينِ، وَالْمَرْأَةِ إِذَا تَصَدَّقَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ بِإذْنِهِ الصَّرِيحِ، أَوِ الْعُرْفِيِّ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2363]

(1023) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ أبُو عَامِرٍ: حَدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثنَا بُرَيْدٌ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْخَازِنَ

ص: 482

الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُنْفِذُ

(1)

، وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ، فَيُعْطِيهِ كَامِلًا، مُوَفرًا، طيِّبةً بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَى الّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(ابْنُ نُمّيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

5 -

(أَبُو أسَامَةَ) حمّاد بن اسامة بن زيد القرشيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

6 -

(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقة [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

7 -

(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

8 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه-سنة (50) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، وأبي عامر، كما أسلفته آنفًا.

(1)

وفي نسخة "يُنَفِّذُ".

ص: 483

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي، عن جدّه، عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنه، وقد أثنى النبيّ صلى الله عليه وسلم على حسن قراءته، وقال له:"يا أبا موسى، لقد أُوتيت مِزمارًا من مزامير آل داود"، أخرجه الشيخان، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ الْخَازِنَ) لفظ هذا الحديث عند النسائيّ، من طريق الثوريّ، عن بُريد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يَشُدّ بعضه بعضًا، وقال: الخازن الأمين الذي يُعطي ما أُمر به طيبًا بها نفسُهُ أحد المتصدقين".

والمراد بالخادم هنا الذي يَخدُم غيره، أعمّ من أن يكون مملوكًا، أوأجيرًا، أو متبرعًا بالخدمة، قاله في "العمدة"

(1)

.

(الْمُسْلِمَ) قيّده به لإخراج الكافر؛ لأنه لا نيّة له (الْأَمِينَ) قيَّده به لإخراج الخائن؛ لأنه مأزور، لا مأجور (الّذِي يُنْفِذُ) بالذال المعجمة، وهو بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإنفاذ، فيكون من باب الإفْعال، وفي بعض النسخ:"يُنَفذ" بتشديد الفاء، فيكون من باب التفعيل، وهو الإمضاء؛ أي يُمضي ما أَمَرَه به الآمر (وَرُبَّمَا قَالَ) يَحْتَمِل أن يكون القائل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وَيحْتَمِل أن يكون مَن دونه، والله تعالى أعلم (يُعْطِي مَا أمِرَ بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي ما أمره به صاحب المال (فَيُعْطِيهِ) الضمير المنصوب لـ "ما أمر به"؛ أي يُعطي الشيء الذي أُمر بإعطائه لمستحقّه (كَامِلًا، مُوَفَّرًا) المراد أنه يعطي من غير نقص شيء منه بهواه، وإنما رتّب الأجر على إعطائه ما أمر به غير ناقص؛ لأنه إذا خالف شيئًا من ذلك يكون خائنًا، فلا يستحقّ الأجر، وقوله:(طَيبَةً) بتاء التأنيث؛ لأنه مسند إلى "نفس"، وهي مؤنّثة، ووقع في رواية النسائيّ:"طيّبًا" بالتذكير،

(1)

"عمدة القاري" 8/ 290.

ص: 484

ويوجَّه بأن تأنيثها مجازيّ، ولأنه مفصول بالجارّ والمجرور، وهو منصوب على الحاليّة من "الخازن"(بِهِ) أي بالشيء المعطَى، وفي رواية النسائيّ:"بها" أي بالصدقة، وقوله:(نَفْسُهُ) مرفوع على الفاعليّة بـ "طيّبة"؛ يعني أن نفسه تكون راضيةً بذلك، وإنما قيّده به تنبيهًا على تحقّق النيّة؛ لأنّ بعض الناس، من أصحاب النفوس المريضة بالبخل لا يَرْضَى بخروج شيء من يده، وإن كان ملكًا لغيره، فربما يُخرِجها كارهًا بلا نيّة، فيفقد الأجر.

وقوله: (فَيَدْفَعُهُ إِلَى الّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ) تأكيدٌ لما سبق، وإنما أكّد به إشارة إلى أن هذه الأوصاف لا بدّ من اعتبارها كلّها في تحصيل أجر الصدقة للخازن، فإنه إن لم يكن مسلمأ لم يصحّ منه التقرّب، وإن لم يكن أمينًا كان عليه وزر الخيانة، فكيف يحصل له أجر الصدقة؟، وإن لم يَطِب بذلك نفسًا لم يكن له نيّةٌ، فلا يؤجر، أفاده القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال المظهر رحمه الله: شَرَط في الحديث أربعة أشياء

(2)

: الإذن، وعدم نقصان ما أُمر به، وطيب النفس بإعطاء ما أُمِر به، فإن البخيل كلَّ البخيل مَن بَخِل بمال الغير، وأن يُعطي مَن أُمر بالدفع إليه، لا إلى غيره. انتهى

(3)

.

وقوله: (أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ،) خبر "الخازن"؛ يعني أنه يشارك صاحبَ المال في الصدقة، فيصيران متصدّقَين، ويكون هوأحَدَهُما، وهذا على أن الرواية بفتح القاف، وهو الذي صرّحوا به، قال في "العمدة": هو بلفظ التثنية كما يقال: "القلمُ أحدُ اللسانين"، و"الخالُ أحد الأبوين"؛ مبالغةً؛ أي الخادم والمتصدق بنفسه متصدقان، لا ترجيح لأحدهما على الآخر في أصل الأجر، قالوا: ولا يلزم منه أن يكون مقدار ثوابهما سواءً؛ لأن الأجر فضل من الله يؤتيه من يشاء. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": ضُبِطَ في جميع الروايات بفتح القاف. انتهى. وقال

(1)

راجع: المفهم 3/ 68. وراجع: الفتح أيضًا 4/ 56.

(2)

سيأتي في المسألة الثالثة أنها ستة أشياء، فتنبّه.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1569.

(4)

"عمدة القاري" 8/ 290.

ص: 485

القرطبيّ رحمه الله: لم نَرْوِهِ إلا بالتثنية، ومعناه أنه بما فَعَلَ متصدّق، والذي أخرج الصدقة بما أخرج متصدّقٌ آخر، فهما متصدّقان. ويصحّ أن يقال على الجمع، ويكون معناه: أنه متصدّقٌ من جملة المتصدّقين. انتهى

(1)

.

والحاصل أن الروايات صحّت بضبط "المتصدِّقَين" بالتثنية، فتتعيّن، وإن كان المعنى يستقيم على الجمع أيضًا بالمعنى المذكور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 2363](1023)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(481) و"الزكاة"(1438) و"الإجارة"(2260) و"الوكالة"(2319) و"المظالم"(2446) و"الأدب"(6027)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1684)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1928)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2560) وفي "الكبرى"(2341)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 430)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 631)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 394 و 404 و 409)، و (الحميديّ) في "مسنده"(769)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3359)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 99)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 192)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أجر الخازن إذا تصدّق بإذن المالك.

2 -

(ومنها): بيان أن حصول الأجر للخازن مشروط بهذه الأوصاف المذكورة في هذا الحديث، فمهما اختلّ منها شرط لا يحصل له الأجر، فينبغي أن يَعتَنِي بها، ويُحافِظ عليها.

قال في "العمدة": قَيَّدَ فيه قيودًا:

(1)

المفهم 3/ 68.

ص: 486

[الأول]: أن يكون خازنًا؛ لأنه إذا لم يكن خازنًا لا يجوز له أن يتصدق من مال الغير.

[الثاني]: أن يكون مسلمًا، فأخرج به الكافر؛ لأنه لا نية له.

[الثالث]: أن يكون أمينًا، فأخرج به الخائن؛ لأنه مأزورٌ.

[الرابع]: أن يكون مُنَفِّذًا؛ أي مُنَفِّذًا صدقةَ الآمر، وهو معنى قوله:"الذي ينفذ".

[الخامس]: أن تكون نفسه بذلك طَيِّبةً؛ لئلا يَعْدَم النية، فيفقدَ الأجر، وهو معنى قوله:"طيبة به نفسه".

[السادس]: أن يكون دفعه الصدقة إلى الذي امِر له به؛ أي إلى الشخص الذي أَمَر الآمر بالدفع له، فإن دفع إلى غيره يكون مخالفًا، فيَخْرُج عن الأمانة، وهذه القيود شرط لحصول هذا الثواب، فينبغي أن يُعْتَنَى بها، ويُحافَظَ عليها. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان أن ثواب الصدقة لا يقتصر على المالك فقط، بل كلّ من تسبب في إيصالها إلى مستحقّها بنيّة خالصة مع بقيّة الشروط حصل له ثوابها، وهذا من فضل الله تعالى على من لا يجد مالًا للتصدّق به، فينبغي للمسلم أن يحرص على هذا الفضل العظيم.

4 -

(ومنها): بيان فضل الأمانة، وسخاوة النفس، وطيب النفس في فعل الخير، والإعانة على فعل الخير.

5 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: معنى هذه الأحاديث أن المشارِكَ في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجرًا كما لصاحبه أجرٌ، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، والمراد المشاركة في أصل الثواب، فيكون لهذا ثواب، ولهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواءً، بل قد يكون ثواب هذا أكثر، وقد يكون عكسه، فإذا أَعْطَى المالكُ لخازنه، أو امرأته، أو غيرهما مائة درهم، أو نحوها؛ ليوصلها إلى مستحق الصدقة على باب داره، أو نحوه، فأجر المالك أكثر، وإن أعطاه

(1)

راجع: "عمدة القاري" 8/ 305.

ص: 487

رُمّانةً، أو رغيفًا، ونحوهما، مما ليس له كثيرُ قيمةٍ ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة، بحيث يقابل مشي الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمانة والرغيف، فأجر الوكيل أكثر، وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلًا، فيكون مقدار الأجر سواءً. انتهى

(1)

، وهو بحث نفيسٌ.

6 -

(ومنها): حثّ الإسلام على تحقّق التناصح، والتناصر، والتعاضد في المسلمين، حتى يكون المجتمع مجتمع خير، وبركة، يسوده الإخاء والمحبّة، ويكونَ يدًا واحدةً على أعدائه، فشبّهه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في تلك الحالة بالبنيان الذي يقوّي بعض أجزائه بعضه، كما شبّهه في حديثه الآخر بالجسد الواحد، فقد أخرج الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادّهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد؛ إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى".

وأخرجا أيضًا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسْلِمُهُ، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فَرّج عن مسلم كربة، فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".

وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يَخذُلُه، ولا يحقره، التقوى ها هنا" -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- "بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2364]

(1024) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ،

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 111 - 112.

ص: 488

عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أنفَقَتِ الْمَرْأةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أنفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كسَبَ، وَللْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تّقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المروزيّ الإمام، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

6 -

(شَقِيقُ) بن سَلَمَة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

7 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع الْهَمْدانيّ الوادعيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ خضرمٌ [2](ت 6 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

8 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنه، ماتت (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنه أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أنفَقَتِ) أي تصدّقت، كما في رواية أخرى، ففي رواية للترمذيّ:"إذا تصدقت المرأة"، وفي رواية أخرى له:"إذا أعطت المرأة من بيت زوجها" (الْمَرْأةُ مِنْ طَعَامِ

ص: 489

بَيْتِهَا) أي من طعام زوجها الذي في بيتها المتصرّفة هي فيه، وإنما خصّ الطعام بالذكر؛ لغلبة المسامحة به عادة، وإلا فغيره مثله؛ إذ الغرض أن المالك أذن لها في ذلك صريحًا أو دلالة

(1)

.

وقال في "العمدة": قيّد بالطعام؛ لأنه يُسْمَح به عادةٌ، بخلاف الدراهم والدنانير، فإن إنفاقها منها لا يجوز إلَّا بالإذن. انتهى

(2)

.

وقوله: (غَيْرَ مُفْسِدَةٍ) منصوب على الحال من "المرأة"؛ أي غير مسرفة في التصدّق بأن لا تتعدّى إلى الكثرة المؤدّية إلى النقص الظاهر، وهذا محمول على إذن الزوج لها بذلك صريحًا، أو دلالة، وقيل: هذا جارٍ على عادة أهل الحجاز، فإن عادتهم أن يأذنوا لزوجاتهم وخَدَمهم بأن يُضيفوا الأضياف، ويُطعموا السائل والمسكين والجيران، فحرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته على هذه العادة الحسنة، والخصال المستحسنة، وهذا الحديث ليس فيه دلالة صريحة على جواز تصدّق المرأة من مال الزوج بغير إذنه، قال البغويّ رحمه الله: عامّة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدّق من مال زوجها بغير إذنه، وكذا الخادم، والحديث الدالّ على الجواز أُخرج على عادة أهل الحجاز؛ لأنهم يُطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدّق والإنفاق مما حَضَر في البيت عند حضور السائل، ونزول الضيف، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا توعي، فيوعي الله عليك". انتهى

(3)

.

وقال الخطّابيّ رحمه الله في "المعالم": هذا الكلام خارج على عادة الناس بالحجاز، وبغيرها من البلدان في أنّ ربّ البيت قد يأذن لأهله، ولعياله، وللخادم، مما يكون في البيت، من طعام، وإدام، ونحوه، ويطلق أمرهم في الصدقة منه؛ إذا حضرهم السائل، ونزل بهم الضيف، فحضّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على لزوم هذه العادة، واستدامة ذلك الصنيع، ووعدهم الأجر والثواب عليه، وأفرد كلّ واحد منهم باسمه، ليتسارعوا إليه، ولا يتقاعدوا عنه. انتهى كلام الخطّابيّ رحمه الله

(4)

.

(1)

"المرعاة" 6/ 378.

(2)

"عمدة القاري" 8/ 291.

(3)

راجع: "المرعاة" 6/ 386.

(4)

راجع: "معالم السنن" 2/ 256 - 257.

ص: 490

(كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أنفَقَتْ) أي بسبب إنفاقها غير مفسدة، فالباء سببئة (وَلزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ) أي بسبب كسبه وتحصيله (وَللْخَازِنِ) أي الشخص الذي يكون بيده حفظ الطعام المتصدّق منه، من خادم، وقَهْرمان، وقيّم لأهل المنزل، والمراد به المسلم، كما تقدّم تقييده في حديث أبي موسى الماضي، حيث قال: "إن الخازن المسلم

" (مِثْلُ ذَلِكَ) أي مثل أجرها.

وقال في "الفتح": قوله: "وللخازن مثل ذلك" أي بالشروط المذكورة في حديث أبي موسى رضي الله عنه، وظاهره يقتضي تساويهم في الأجر، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالمثل حصول الأجر في الجملة، وإن كان أجر الكاسب أوفر، لكن التعبير في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بقوله:"فلها نصف أجره"

(1)

، يشعر بالتساوي، قال: والمراد بقوله: "لا ينقص بعضهم أجر بعض" عدم المساهمة، والمزاحمة في الأجر، وَيحْتَمِل أن يراد مساواة بعضهم بعضًا والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": المعنى أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشارك أن له أجرًا كما لصاحبه أجرٌ، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، أو المراد المشاركة في أصل الثواب، فيكون لهذا ثواب، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواءً، بل يكون ثواب هذا أكثر، وقد يكون بعكسه. انتهى

(3)

.

(لَا يَنْقُصُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر (بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ) أي من أجر بعضهم، فهو منصوب بنزع الخافض، وقوله:(شَيْئًا") منصوب على أنه مفعول "يَنقُص"، وَيحْتَمل أن يكون "أجرَ" مفعولًا أول و"ينقص"، و"شيئًا" مفعوله الثاني، وذلك لأن نقص ضدّ زاد، وهو يتعدّى إلى مفعولين، كقوله تعالى:{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10].

قال القاري رحمه الله: قوله: "شيئًا" أي من النقص، أو من الأجر، والمراد

(1)

سيأتي في الباب التالي -إن شاء الله تعالى-.

(2)

"الفتح" 3/ 304.

(3)

"عمدة القاري" 8/ 292.

ص: 491

أنهم في أصل الأجر سواء، وإن اختَلَف قدره. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 2364 و 2365 و 2366 و 2367](1024)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1425 و 1437 و 1439 و 1440 و 1441) و "البيوع"(2065)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1685)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(672)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2539) و"الكبرى"(5/ 379)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(7275 و 16619)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 455)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 133)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 44 و 99)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 187 و 998)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3358)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 99)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 192)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1692)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز صدقة المرأة من بيت زوجها، وهذا محمول على ما إذا أذن لها الزوج، إما صريحًا، أو دلالةً.

2 -

(ومنها): ترغيب المرأة في التصدّق مما في بيتها؛ إذا أذن لها أو بما جرى به العرف.

3 -

(ومنها): ترغيب الخادم في التصدّق من مال سيّده إذا أذن له، أو بما جرى به العرف أيضًا.

4 -

(ومنها): حَثُّ الرجل على أن يَسْمَح لأهل بيته بالتصدّق على الفقراء والمساكين، وأن له بذلك الأجر والثواب، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تصدّق المرأة من بيت زوجها:

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 387.

ص: 492

قال الإمام البغويّ رحمه الله: العمل على هذا عند عامّة العلماء أن المرأة ليس لها أن تتصدّق بشيء من مال الزوج دون إذنه، وكذلك الخادم، ويأثمان، إن فعلا ذلك، وحديث عائشة رضي الله عنها خارج على عادة أهل الحجاز أنهم يُطلقون الأمر للأهل، والخادم في الإنفاق، والتصدّق، مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل، أو نزل بهم الضيف، فحضّهم على لزوم تلك العادة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأسماء رضي الله عنها:"لا توعي، فيوعي الله عليك"، وعلى هذا يُخرّج ما روي عن عُمير مولى آبي اللحم، قال: كنت مملوكًا، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصدّق من مال مواليّ بشيء؟، قال:"نعم، والأجر بينهما نصفان"

(1)

. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال ابن العربيّ: اختَلَفَ السلفُ فيما إذا تصدّقت المرأة من بيت زوجها، فمنهم من أجازه، لكن في الشيء اليسير الذي لا يؤبه له، ولا يظهر به النقصان.

ومنهم من حمله على ما إذا أذن الزوج، ولو بطريق الإجمال، وهو اختيار البخاريّ، ولذا قيّد الترجمة بالأمر به، حيث قال:"باب أجر الخادم؛ إذا تصدّق بأمر صاحبه، غير مفسد"، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك محمولًا على العادة، وأما التقييد بغير الإفساد فمتّفقٌ عليه.

ومنهم من قال: المراد بنفقة المرأة، والعبد، والخازن النفقة على عيال صاحب المال في مصالحه، وليس ذلك بأن يفتئتوا على ربّ البيت بالإنفاق على الفقراء بغير إذن.

ومنهم من فرّق بين المرأة والخادم، فقال: المرأة لها حقّ في مال الزوج، والنظرِ في بيتها، فجاز لها أن تتصدّق، بخلاف الخادم، فليس له تصرّف في متاع مولاه، فيمثشرط الإذن فيه.

وهو متعقّبٌ بأن المرأة إذا استوفت حقّها، فتصدّقت منه، فقد تخصّصت به، وإن تصدّقت من غير حقّها رجعت المسألة كما كانت، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(1)

سيأتي للمصنّف في الباب التالي -إن شاء الله تعالى-.

(2)

راجع: "شرح السنّة" 6/ 205.

(3)

راجع: "الفتح" 4/ 56.

ص: 493

وذكر الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: "لا تُنفق امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها"، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال:"ذلك أفضل أموالنا"، رواه الترمذيّ، وابن ماجه.

وما رواه أبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه في المرأة تصدّق من بيت زوجها، قال:"لا، إلا من قوتها، والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدّق من مال زوجها إلا بإذنه".

وما رواه ابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: لَمَّا فَتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام خطيبًا، فقال في خطبته:"لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها".

وما رواه أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها، كان لها أجرٌ، ولزوجها مثل ذلك، وللخازن مثل ذلك، ولا ينقص كل واحد منهم من أجر صاحبه شيئًا، له بما كسب، ولها بما أنفقت".

وما رواه الأئمة الخمسة عن أسماء، أنها جاءت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله، ليس لي شيء إلا ما أدخل عليّ الزبيرُ فهل عليَّ جُنَاح أن أَرْضَخَ مما يُدْخِل عليّ؟ فقال:"ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك"، لفظ مسلم، وهو أتمّ.

وما رواه الأئمة الستة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أعطت المرأة من بيت زوجها، بطيب نفس، غير مفسدة، فإن لها مثل أجره، لها ما نوت حسنًا، وللخازن مثل ذلك"، لفظ الترمذيّ.

وما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها، غير مفسدة، عن غير أمره، فلها نصف أجره".

وما رواه أبو داود، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مُضَر، فقالت: يا نبيّ الله إنا كَلّ على آبائنا وأبنائنا- قال أبو داود: وأرى فيه: وأزواجنا-، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال:"الرّطب تأكلنه وتُهْدِينه".

ص: 494

قال أبو داود: الرَّطْبُ: الخبز، والْبَقْلُ، والرُّطَب

(1)

.

ثم قال العراقيّ رحمه الله: أحاديث الباب منها ما يدلّ على منع المرأة أن تُنفق من بيت زوجها إلا بإذنه، وهو حديث أبي أمامة، وحديث أبي هريرة الأول، وحديث عبد الله بن عمرو، ومنها ما يدل على الإباحة، وهو حديث عائشة الأول، وحديث أسماء، ومنها ما قُيِّد فيه الترغيب في الإنفاق بكونه بطيب نفس منه، وبكونها غير مفسدة، وهوأصحها، ومنها ما هو مقيد بكونها غير مفسدة، وإن كان من غير أمره، وهو حديث أبي هريرة الثاني، ومنها ما قُيِّد الْحِلّ فيه بكونه رَطْبًا، وهو حديث سعد بن أبي وقاص.

قال العراقيّ رحمه الله: وكيفية الجمع بينها أن ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد، وباختلاف حال الزوج في مسامحته بذلك، وكراهته له، وباختلاف الحال في الشيء الْمُنْفَق بين أن يكون شيئًا يسيرًا يتسامح به، وبين أن يكون له خَطَرٌ في النفس يُبْخَلُ بمثله، وبين أن يكون رَطْبًا يُخْشَى فساده إن تأخر، وبين أن يكون يُدَّخَر، ولا يخشى عليه الفساد.

فقال الخطابيّ في "المعالم" عقب حديث عائشة رضي الله عنها: هذا الكلام خارج على مذهب الناس بالحجاز وبغيرها من البلدان في أن رب البيت قد يأذن لأهله، وعياله، وللخادم في الإنفاق، مما يكون في البيت، من طعام، وإدام، ونحوه، وُيطْلِق أمرهم في الصدقة منه؛ إذا حضرهم السائل، ونزل بهم الضيف، فحَضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على لزوم هذه العادة، واستدامة ذلك الصنيع، ووعدهم الأجر والثواب عليه، وأَفْرَد كلَّ واحد منهم باسمه؛ ليتسارعوا إليه، ولا يتقاعدوا عنه، قال: وليس ذلك بأن تفتات المرأة، والخازن على رب البيت بشيء، لم يُؤذن لهما فيه، ولم يُطْلَق لهما الإنفاق منه، بل يخاف أن يكونا آثمين إذا فعلا ذلك، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من الأدلّة، وأقوال أهل العلم أن تصدّق المرأة، والخادم من مال الرجل جائز، لكن بشرطين:

(1)

"الرَّطْبُ" الأول بفتح الراء، والثاني بضمها، وهو رُطَبُ التمر، وكذلك العنب، وسائر الفواكه الرطبة دون اليابسة، قاله في "عمدة القاري".

ص: 495

(أحدهما): الإذن صريحًا، أو دلالة، وذلك بأن يجري العرف في التصدّق بمثله، فيجري ذلك مجرى الإذن الصريح.

(والثاني): عدم الإفساد، وهذا مجمعٌ عليه، وبهذا تجمع الأدلّة دون أن تتعارض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

[2365]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضِ) بن مسعود التيميّ، أبو عليّ الزاهد المشهور، أصله من خُراسان، وسكن مكة، ثقةٌ عابدٌ إمامٌ [8](ت 187) أو قبلها (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

و"منصورٌ"- وهو: ابن المعتمر- ذُكر قبله.

وقوله: ("مِنْ طَعَامِ زَوْجهَا") أي من طعام زوجها الذي هو في بيتها، كما صُرّح به في الرواية الأخرى

(1)

.

[تنبيه]: رواية فضيل عن منصور هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2366]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأةُ مِن بَيْتِ زوْجِهَا، غيْرَ مفسِدَةٍ، كانَ لَهَا أجْرُهَا، وَلهُ مِثْلهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أنفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا").

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 113.

ص: 496

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، ورُمي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْرَان، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في جميع النسخ "شيئًا" بالنصب، فيُقَدَّر له ناصبٌ، فيَحْتَمِل أن يكون تقديره: من غير أن ينقص الله من أجورهم شيئًا، ويَحْتَمِل أن يقدّر: من غير أن ينقص الزوجُ من أجر المرأة، والخازنُ شيئًا، وجَمَعَ ضميرهما مجازًا، على قول الأكثرين: إن أقل الجمع ثلاثة، أو حقيقةً، على قول من قال: أقل الجمع اثنان. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بأن أقل الجمع اثنان هو الحقّ، كما حقّقته بأدلّته في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2367]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير ذُكر في أول الباب.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، ساقها الإمام ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2294)

- حدّثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدّثنا أبي وأبو معاوية،

ص: 497

عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة -وقال أبي في حديثه: إذا أطعمت المرأة- من بيت زوجها، غير مفسدة، كان لها أجرها، وله مثله بما اكتسب، ولها بما أنفقت، وللخازن مثل ذلك، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا

(1)

". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(27) - (بَابُ مَا أنفَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، وَالْمَرْأةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2368]

(1025) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ ابْن نمَيْرٍ: حَدَّثنَا حَفْصٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ، قَالَ: كنْتُ مَمْلُوكًا، فَسَأَلتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالي بِشَيْءٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَالْأَجْز بَيْنكمَا نِصْفَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) بن طلق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيه تغيّر في الآخر قليلًا [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

2 -

(محَمَّد بْن زَيْدِ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

3 -

(عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ) الغفاريّ، صحابيّ شَهِدَ فتح خيبر مع مواليه، ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن مولاه، ورَوَى عنه محمد بن إبراهيم التيميّ، ومحمد بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ، ويزيد بن عبد الله بن الهاد، ويزيد بن أبي عُبَيد، وغيرهم، وعاش إلى نحو السبعين، أخرج له المصنّف والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

(1)

هكذا النسخة بنصب "شيئًا"، وقد تقدّم توجيهه في رواية الأعمش التي قبله، فتنبّه.

ص: 498

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (148) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، وزهير، فما أخرج لهما الترمذيّ، وعمير، فما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنهم كوفيّون، سوى الصحابيّ، ومحمد بن زيد، فمدنيّان.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة سوى ثلاثة أحاديث، هذا الحديث عند المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وحديث في الاستسقاء عند أبي داود، وحديث شهوده خيبر عند الأربعة، راجع:"تحفة الأشراف"(7/ 422 - 424)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عُمَيْرٍ) بالتصغير (مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ) بهمزة ممدودة، وكسر الباء، وإنما قيل له: آبي اللحم؛ لأنه كان لا يأكل اللحم، وقيل: لا يأكل ما ذُبِح للأصنام، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: خلف، وقيل: الحويرث الغفاريّ، وهو صحابيّ رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا في الاستسقاء، وروى عنه عمير مولاه، قيل: استُشْهِد يوم حنين

(1)

.

(قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا، فَسَأَلتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَأتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَاليَّ) بفتح الميم، وتشديد الياء: جمع مولى (بِشَيْءٍ؟) أي قليل، أو مأذون فيه عادةً (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ) أي لك أن تتصدّق به (وَالْأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ") قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على ما سَبَقَ أنه استأذن في الصدقة بقدر يَعْلَم رضا سيده به. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله فيه نظرٌ لا يخفى، فكيف يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن أذِن له مولاه بالصدقة؟ بل الظاهر أنه لم

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 114، و"تهذيب التهذيب" 1/ 165.

ص: 499

يستأذن، فسأل هل التصدّق بغير إذن الموالي جائزٌ أم لا؟، فتأمل.

والحاصل أن تصدّق العبد بما جرى به العرف من الأشياء الخفيفة، مما لا يكون تبذيرًا جائزٌ، وإن لم يأذن له سيّده، كما هو ظاهر حديث عمير الآتي بعد هذا، فتبصّر، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وسيأتي الكلام على مسائله في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى-.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "نصفان": قسمان، وإن كان أحدهما أكثر، كما قال الشاعر:

إِذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ شَامِتٌ

وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ

وأشار القاضي إلى أنه يَحْتَمِل أيضًا أن يكون سواء؛ لأن الأجر فضلٌ من الله تعالى، يؤتيه من يشاء، ولا يُدرك بقياس، ولا هو بحسب الأعمال، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال النوويّ: والمختار الأول. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله القاضي هو المختار؛ لما ذَكَره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2369]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ، قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلَايَ أَنْ أقَدِّدَ لَحْمًا

(2)

، فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ، فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلَايَ، فَضَرَبَنِي، فَأتيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ:"لِمَ ضَرَبْتَهُ؟ "، فَقَالَ: يُعْطي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمرَهُ، فَقَالَ:"الْأَجْرُ بَيْنكُمَا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 50.

(1)

شرح مسلم 7/ 113.

(2)

وفي نسخة: "أن أقدّد له لحمًا".

ص: 500

2 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يَهِمُ، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميّ مولى سلمة بن الأكوع المدنيّ، ثقةٌ [4] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

و"عمير" رضي الله عنه ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (149) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ، يَعْني ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ) الظاهر أن العناية هنا وفيما قبله من المصنّف رحمه الله (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ، قَالَ) جملة في محلّ نصب على الحال، أو مفعول ثانٍ على قول من يرى "سمع" من أخوات "ظنّ"(أَمَرَنِي مَوْلَايَ) بفتح الياء؛ لأن القاعدة أن ياء المتكلّم تُفتح إذا أُضيف إليها اسم مقصور، كعصاي، وفتاي، وهذا عند جمهور العرب، وفي لغة هُذيل تُقلب ألف المقصور ياء، وتُدغم في ياء المتكلّم، وتفتح ياء المتكلّم، ومنه قول الشاعر:

سَبَقُوا هَوَيَّ وَأَعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ

فَتُخُرِّمُوا وِلكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ

وإلى قاعدة إضافة الاسم إلى ياء المتكلّم عمومًا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

آخِرَ مَا أُضِيفَ لِلْيَا اكْسِرْ إِذَا

لَمْ يَكُ مُعْتَلًّا كَـ "رَامٍ" وَ"قَذَى"

أَوْ يَكُ كَـ "ابْنَيْنِ" و"زيدِينَ" فَذِي

جَمِيعُهَا الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِي

وَتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ وَالْوَاوُ وَإِنْ

مَا قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فَاكْسِرْهُ يَهُنْ

وَأَلِفًا سَلِّمْ وَفِي الْمَقْصُورِ عَنْ

هُذَيْلٍ انْقِلَابُهَا يَاءً حَسَنْ

ص: 501

(أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا) بضم الهمزة، وكسر الدال المشدّدة، من التقديد، وهو الشقّ طولًا، قال في "القاموس": القَدّ: القطع المستأصل، أو المستطيل، أو الشقّ طولًا، كالاقتداد، والتقديد في الكلّ. انتهى

(1)

.

ووقع في بعض النسخ: "أن أَقْدِر لحمًا"، بفتح أوله، وضمّ الدال المخفّفة وكسرها، قال ابن الأثير رحمه الله: أي أطبُخ قِدْرًا من لحم. انتهى

(2)

.

وقال في "اللسان": قَدَرَ القِدرَ يَقْدِرُها -أي من باب ضرب- ويَقْدُرُها- أي من باب نصر- قَدْرًا: طَبَخَهَا، واقتدر أيضًا بمعنى قَدَرَ، مثلُ طَبَخَ واطَّبَخَ، ومرَقٌ مقدورٌ، وقَدِيرٌ: أي مطبوخٌ، والقَدِيرُ: ما يُطبَخ في القِدْر. انتهى

(3)

.

(فَجَاءَنِي مِسْكِين، فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ) أي أعطيته من ذلك اللحم (فَعَلِمَ) بالبناء للفاعل (بِذَلِكَ) أي بإطعامي ذلك المسكين من ذلك اللحم (مَوْلَايَ) مرفوع على الفاعليّة بـ "عَلِمَ"(فَضَرَبَنى) أي تأديبًا حيث أساء بذلك الإطعام في نظره (فَأتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ) أي ضرب مولاه له لما ذُكر (فَدَعَاهُ) أي طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم آبي اللحم أن يحضر عنده حيث شكاه عبده (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لِمَ ضَرَبْتَهُ؟ "، فَقَالَ: يُعْطي طَعَامِي) أي إنما ضربته لإساءته بإعطائه طعامي للمسكين (بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ) أي بغير إذني له بذلك (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْأَجْرُ بَيْنَكُمَا") تعليل لمحذوف؛ أي لا تضربه بذلك؛ لأن الأجر الحاصل بتصدّقه بمالك كائن بينهما.

وقال في "المرعاة": أي إن رضيت بذلك يحلّ له إعطاء مثل هذا، مما يجري فيه المسامحة، وتؤجران معًا. قال الطيبيّ أخذًا عن التوربشتيّ: لم يرد به إطلاق يد العبد، بل كره صنيع مولاه في ضربه على أمر تبيّن رشده فيه، فحثّ السيّد على اغتنام الأجر، والصفح عنه، فهذا تعليم، وإرشاد لآبي اللحم، لا تقرير لفعل العبد. انتهى.

وقال النوويّ: هذا محمول على أن عميرًا تصدّق بشيء ظنّ أن مولاه يَرْضَى به، ولم يرض به مولاه، فلعمير أجرٌ؛ لأنه فعل شيئًا يعتقده طاعة بنيّة

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 325.

(2)

"النهاية" 4/ 23.

(3)

"لسان العرب" 5/ 80.

ص: 502

الطاعة، ولمولاه أجرٌ؛ لأن ماله أُتلف عليه، وقوله:"الأجر بينكما": أي لكلّ منكما أجرٌ، وليس المراد أنّ أجر نفس المال يتقاسمانه، فهذا الذي ذكرته من تأويله هو المعتمد، وقد وقع في كلام بعضهم ما لا يُرتضى من تفسيره.

وقال قبل ذلك: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الأجر بينكما": ليس معناه أن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه، بل معناه أن هذه الصدقة التي أخرجها الخازن، أو المرأة، أو المملوك، ونحوهم بإذن المالك يترتّب على جملتها ثوابٌ على قدر المال والعمل، فيكون ذلك مقسومًا بينهما، لهذا نصيبٌ بماله، ولهذا نصيبٌ بعمله، فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله، ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله.

(واعلم): أنه لا بدّ للعامل، وهو الخازن، وللزوجة، والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن أذن أصلًا، فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة، بل عليهم وزرٌ بتصرّفهم في مال غيرهم بغير إذنه، والإذن ضربان؛ أحدهما: الإذن الصريح في النفقة، والصدقة، والثاني: الإذن المفهوم من اطّراد العرف والعادة، كإعطاء السائل كسرة ونحوها، مما جرت العادة به، واطّرد العرف فيه، وعُلم رضاء الزوج، والمالك به، فإذنه في ذلك حاصلٌ، وإن لم يتكلّم، وهذا إذا عُلم رضاه لاطّراد العرف، وعُلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك، والرضا به، فإن اضطرب العرف، وشُكّ في رضاه، أو كان شخصًا يشحّ بذلك، وعُلم من حاله ذلك، أو شكّ فيه، لم يجز للمرأة، وغيرها التصدّق من ماله إلا بصريح إذنه. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمير مولى آبي اللحم رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 2368 و 2369](1025)، و (النسائيّ) في

(1)

شرح مسلم 7/ 114.

ص: 503

"الزكاة"(2537) وفي "الكبرى"(2317)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2297)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 100)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز تصدّق العبد من مال سيّده بغير إذنه، وهذا كما تقدم، محمول على ما جرى به العرف، من الطعام، ونحوه.

2 -

(ومنها): أن العبد والسيّد يؤجران به، السيد بماله، والعبد بعمله.

3 -

(ومنها): جواز تأديب السيّد عبده إذا أساء، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما لام مولى عُمير على ضربه مطلقًا، وإنما أرشده أن فعله هذا لا يستحقّ الضرب، حيث إنه مأذون له شرعًا؛ نظرًا لما جرى به العرف، وأنه يؤجر عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2370]

(1026) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَصُمِ الْمَرْأةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ، اِلَّا بِإذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاهِدٌ، إِلَّا بِإذْنِهِ، وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَإنَّ نِصْفَ أجْرِهِ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع) القُشَيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقة حافظٌ عابد [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنّف مشهور، عَمِيَ في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُرْوة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبت فاضل، من كبار [10](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

ص: 504

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ باليمنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل اليمن.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّام بْنِ مُنَبِّهٍ) بصيغة اسم الفاعل المضعَّف، أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى مجموع الأَحاديث التي ساقها همّام مساقًا واحدًا، وكلّها بإسناد واحد، وهو سند المصنّف هنا، فاسم الإشارة مبتدأ، خبره قوله:(مَا) موصولة؛ أي الذي (حَدَّثَنَا) حُذف منه العائد؛ أي حدّثناه (أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ على البدليّة (فَذَكَرَ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير همّام (أَحَادِيثَ) وقوله:(مِنْهَا) خبر مقدّم لقوله: (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فهو مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه ("لَا تَصُمِ الْمَرْأةُ) هكذا عند المصنّف بصيغة النهي، فـ "لا" ناهية، والفعل مجزوم بها، ووقع عند غيره بالرفع، قال وليّ الدين رحمه الله: لفظه خبر، ومعناه النهي، ووقع في "صحيح البخاريّ" بلفظ:"لا يحل للمرأة أن تصوم"، وهو صريح في تحريم ذلك، وبه صرّح الشافعية، كما حكاه النوويّ عنهم، قال: وقال بعض أصحابنا: يكره، والصحيح الأول، قال: فلو صامت بغير إذن زوجها صحّ باتفاق أصحابنا، وإن كان الصوم حرأمًا؛ لأن تحريمه لمعنى آخر، لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم، فهو كالصلاة في دار مغصوبة.

ص: 505

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تصحّ، كما هو مرويّ عن الإمام أحمد وغيره، فكذا هنا؛ لأن صيغة "لا يحلّ" واضحٌ في التحريم، وهو يقتضي الفساد، وقد استوفيت البحث في هذا في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فلتراجعه، والله تعالى أعلم.

قال: وقال صاحب "البيان": قبوله إلى الله تعالى، قال النوويّ: ومقتضى المذهب في نظائرها الجزم بعدم الثواب، كما في الصلاة في دار مغصوبة. انتهى.

ومن قال بالكراهة احتاج إلى تأويل قوله: "لا يحلّ " على أن معناه ليس حلالًا مستوي الطرفين، بل هو راجح الترك مكروه، وهو تأويل بعيدٌ مستنكرٌ، ولو لم يرد هذا اللفظ، فلفظ النهي الذي عند مسلم هنا بلفظ:"لا تصم المرأة" ظاهر في التحريم، وكذا لفظ رواية:"لا تصوم"؛ لأن استعمال لفظ الخبر يدلّ على تأكيد النهي، وتأكدُهُ يكون بحمله على التحريم، أفاده وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(وَبَعْلُهَا) بفتح، فسكون: أي زوجها، قال الفيّوميّ رحمه الله:"البَعْلُ": الزوج، يقال: بَعَلَ يَبْعَلُ، من باب قَتَلَ بُعُولةً: إذا تزوّج، والمرأة بَعْلٌ أيضًا، وقد يقال فيها: بَعْلَةٌ بالهاء، كما يقال: زوجةٌ؛ تحقيقًا للتأنيث، والجمع: الْبُعُولةُ، قال الله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": رواية "وبعلها" أفيد من رواية "وزوجها"؛ لأن ابن حزم نقل عن أهل اللغة أن البعل اسم للزوج والسيد، فإن ثبت، وإلا أُلْحِق السيد بالزوج؛ للاشتراك في المعنى. انتهى

(3)

.

(شَاهِدٌ) أي حاضر في البلد، قال وليّ الدين رحمه الله: قَيَّد النهي عن الصوم بأن يكون بعلها؛ أي زوجها شاهدًا؛ أي حاضرًا مقيمًا في البلد، ومفهومه أن لها صوم التطوع في غيبته، وهو كذلك بلا خلاف، كما ذكره النوويّ في "شرح المهذب"، وهو واضحٌ؛ لزوال معنى النهي.

قال: وما المراد بغيبته هنا؟ هل المراد الغيبة المعتبرة في أكثر المسائل

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 140 - 141.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 55.

(3)

"الفتح" 11/ 627 كتاب "النكاح" رقم (5195).

ص: 506

الشرعية، وهي أن يكون على مسافة القصر، أو المراد أن يكون فوق مسافة الْعَدْوَى، أو المراد مطلق الغيبة عن البلد، ولو قَلَّت المسافةُ، وقَصُرَت مدّتها؟ مقتضى إطلاق الحديث ترجيح هذا الاحتمال الثالث، لكن لو ظنت قدومه في بقية اليوم بسبب من الأسباب، فينبغي تحريم صوم ذلك اليوم، وهذا لا يختص بهذا الاحتمال، بل يجري على الاحتمالات كلها، فمتى ظنت قدومه في يوم حَرُم عليها صومه، ولو بعدت بلد الغيبة، وطالت مدتها، وَيحْتَمِل أن لا يحرم استصحابًا للغيبة، والأصل استمرارها. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وسبب هذا التحريم أن للزوج حقّ الاستمتاع بها في كل وقت، وحقه واجب على الفور، فلا يفوته بالتطوع، ولا واجب على التراخي.

[فإن قيل]: فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه، فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك، وُيفسد صومها.

[فالجواب]: أن صومها يمنعه من الاستمتاع بها في العادة؛ لأن المسلم يهاب انتهاك الصوم بالإفساد. انتهى

(2)

.

قال في "الفتح": لو كان مسافرًا فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد، يقتضي جواز التطوع لها؛ إذا كان زوجها مسافرًا، فلو صامت، وقَدِمَ في أثناء الصيام، فله إفساد صومها ذلك من غير كراهة، وفي معنى الْغَيْبة أن يكون مريضًا، بحيث لا يستطيع الجماع، وحَمَل المهلب النهي المذكور على التنزيه، فقال: هو من حسن المعاشرة، ولها أن تفعل من غير الفرائض بغير إذنه ما لا يضرّه، ولا يمنعه من واجباته، وليس له أن يبطل شيئًا من طاعة الله؛ إذا دخلت فيه بغير إذنه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله المهلّب مما لا يُلتفت إليه؛ لمصادمته ظاهر النصّ، وهو مخالفٌ لقول أكثر العلماء من أن النهي هنا للتحريم، كما سبق بيانه في كلام النوويّ رحمه الله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(إِلَّا بإِذْنِهِ) وهل المراد إذنه صريحًا، أو يكفي ما يقوم مقامه، من

(1)

"طرح التثريب" 4/ 141.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 115.

ص: 507

احتفاف قرائنَ، تدلّ على رضاه بذلك؟ الظاهر أن احتفاف القرائن، واطّراد العادة يقوم مقام الإذن الصريح، قاله وليّ الدين رحمه الله.

وقال في "الفتح": قوله: "إلا بإذنه" يعني في غير صيام أيام رمضان، وكذا في غير رمضان من الواجب إذا تضيّق الوقت. انتهى.

(وَلَا تَأْذَنْ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ، قال في "القاموس": أَذِنتُ له في الشيء، كسَمِعَ إِذْنًا بالكسر، وأَذِينًا: أباحه له، واستأذنه: طلب منه الإذن. انتهى

(1)

.

يعني أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن في بيت زوجها، لا لرجل، ولا لامرأة يكرهها زوجها؛ لأن ذلك يوجب سوء الظن، وَيبْعَث على الْغَيْرة التي هي سبب القطيعة

(2)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "ولا تأذن

إلخ" هو في روايتنا بالرفع، كقوله: "لا تصوم"، لفظه خبر، ومعناه النهي، وفي رواية مسلم بالجزم على النهي الصريح، كقوله في روايته: "لا تصم". انتهى

(3)

.

(فِي بَيْتِهِ) المراد ببيت زوجها سكنه، سواء كان ملكه أم لا

(4)

. (وَهُوَ شَاهِدٌ) أي حاضرٌ، قال في "الفتح": هذا القيد لا مفهوم له، بل خرج مخرج الغالب، وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع؛ لثبوت الأحاديث الواردة في النهي عن الدخول على الْمُغِيبات؛ أي مَن غاب عنها زوجها.

وَيحْتَمِل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حَضَر تيسر استئذانه، وإذا غاب تعذر، فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه؟ لتعذره.

ثم هذا كله فيما يتعلق بالدخول عليها، أما مطلق دخول البيت، بأن تأذن لشخص في دخول موضع من حقوق الدار التي هي فيها، أو إلى دار منفردة عن سكنها، فالذي يظهر أنه مُلتَحِق بالأول. انتهى

(5)

.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 195.

(2)

"عمدة القاري" 20/ 185.

(3)

"طرح التثريب" 4/ 142.

(4)

"الفتح" 11/ 627.

(5)

"الفتح" 11/ 628 - 629.

ص: 508

وقال في "العمدة" بعد ذكر ما تقدّم، ما نصّه: وأما عند الداعي للدخول عليها للضرورة، كالإذن لشخص في دخول موضع من حقوق الدار التي هي فيها، أو إلى دار منفردة عن مسكنها، أو الإذن لدخول موضع مُعَدّ للضيفان فلا حرج عليها في الإذن بذلك؛ لأن الضرورات مستثناة في الشرع. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه، وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك، فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعًا مُعَدًّا لهم، سواء كان حاضرًا أم غائبًا، فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاصّ لذلك، وحاصله أنه لا بُدّ من اعتبار إذنه تفصيلًا أو إجمالًا. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي الصريح، قال في "الفتح": وهل يقوم ما يقترن به علامةُ رضاه مقام التصريح بالرضا؟ فيه نظرٌ. انتهى.

(وَمَا) موصولة مبتدأ (أَنْفَقَتْ) حُذف منه العائد؛ أي الذي أنفقته المرأة (مِنْ كَسْبِهِ) أي مما كسبه الزوج (مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعيَّن، ولا ينفي ذلك وجود إذن سابق عامّ يتناول هذا القدر وغيره، إما بالصريح، وإما بالعرف، قال: ويتعيّن هذا التأويل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر بينهما نصفين، ومعلوم أنها إذا أنفقت من ماله بغير إذنه لا الصريح، ولا المأخوذ من العرف، لا يكون لها أجرٌ، بل عليها وزرٌ، فيتعين تأويله.

قال: واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يُعْلَم رضا المالك به عرفًا، فإن زاد على ذلك لم يجز، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها السابق: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة

"، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قدرٌ يُعْلَم رضا الزوج به في العادة، قال: ونبّه بالطعام أيضًا على ذلك؛ لأنه مما يُسْمَح به عادةً، بخلافّ النقدين في حقّ كثير من الناس، وكثير من الأحوال.

(1)

"عمدة القاري" 20/ 185.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 115.

ص: 509

قال: المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقةُ على عيال صاحب المال، وغلمانه، ومصالحه، وقاصديه من ضيف، وابن سبيل، ونحوهما، وكذلك صدقاتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَإِن نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ") أي والنصف الآخر لها، قال وليّ الدين رحمه الله: ويدلّ لذلك قوله في رواية أبي داود: "فلها نصف أجره"، فحَصَل من مجموع الروايتين أنه بينهما نصفين، ويوافق ذلك ما في "صحيح مسلم" عن عُمير مولى آبي اللحم رضي الله عنهما قال:"كنت مملوكًا، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصدق من مال مواقي بشيء؟ قال: "نعم، والأجر بينكما نصفان".

قال: وهذه المناصفة المذكورة في هذين الحديثين ليست على حقيقتها وظاهرها، بل المراد أن لهذا ثوابًا ولهذا ثوابًا، وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواءً، بل قد يكون ثواب هذا أكثر، وقد يكون عكسه، وقوله هنا:"نصفان" معناه قسمان، وإن كان أحدهما أكثر، كما قال الشاعر [من الطويل]:

إِذَا مُتُّ كَانَ النَاسُ نِصْفَانِ شَامِتٌ

وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ

فإذا أعطى المالك لخازنه، أو امرأته، أو غيرهما مائة درهم، أو نحوها ليوصلها إلى مستحقّ الصدقة على باب داره أو نحوه، فأجر المالك أكثر، وإن أعطاه رُمّانةً، أو رغيفًا، ونحوهما حيث ليس له كبير قيمة؛ ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة، بحيث يقابل مشي الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمانة والرغيف، فأجر الوكيل أكثر، وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلًا فيكون مقدار الأجر سواءً، ذكر ذلك النوويّ، ثم قال: وأشار القاضي إلى أنه يَحْتَمِل أيضًا أن يكونا سواءً؛ لأن الأجر فضل من الله تعالى، ولا يُدْرَك بقياس، ولا هو بحسب الأعمال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قال النوويّ: والمختار الأول.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن ما قاله عياض: رحمه الله وجيهٌ، حيث يدلّ له ظاهر النصّ، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 112 - 113.

ص: 510

وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: المعنى بالمناصفة هاهنا أنهما سواء في المثوبة، كل واحد منهما له أجر كاملٌ، وهما اثنان، فكأنهما نصفان. انتهى.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": ويدل عليه قوله في بقية حديث عائشة رضي الله عنها: "لا ينقص كلُّ واحد منهما من أجر صاحبه شيئًا". انتهى

(1)

.

قال الجامح عفا الله عنه: حمل المناصفة على حقيقة النصف هو الأظهر، فيكون حديث عائشة رضي الله عنها محمولًا على ما إذا أنفقت بإذن الزوج، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه على ما إذا أنفقت بدون إذنه، كما هو صريح قوله:"من أمره"، وتقدّم تقريره، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: وقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "فإنه يؤدَّى إليه شطره"؛ أي نصف الأجر، قال في "الفتح": وأغرب الخطابيّ، فحَمَل قوله:"يؤدى إليه شطره " على المال المنفَقِ، وأنه يلزم المرأة إذا أنفقت بغير أمر زوجها زيادةً على الواجب لها أن تَغْرَم القدر الزائد، وأن هذا هو المراد بالشطر في الخبر؛ لأن الشطر يُطْلَق على النصف، وعلى الجزء، قال: ونفقتها معاوضةٌ، فتقدَّر بما يوازيها من الفرض، وترُدُّ الفضل عن مقدار الواجب، وإنما جاز لها في قدر الواجب؛ لقصة هند:"خذي من ماله بالمعروف". انتهى.

ويرد عليه رواية المصنف بلفظ: "فإن نصف أجره له"، قال الحافظ: وقد استَشْعَر الإيرادَ، فحَمَل الحديث الآخر على معنى آخر، وجعلهما حديثين مختلفي الدلالة، والحقّ أنهما حديث واحدٌ رُوِيا بألفاظ مختلفة.

ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالتنصيف في حديث الباب الحملُ على المال الذي يُعطيه الرجل في نفقة المرأة، فإذا أنفقت منه بغير علمه، كان الأجر بينهما، للرجل لكونه الأصل في اكتسابه، ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله، كما ثبت من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره، وللمرأة؛ لكونه من النفقة التي تختص بها، قال الحافظ رحمه الله: ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه أبو داود عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا قال في المرأة تصدّق من بيت زوجها،

(1)

"طرح التثريب" 4/ 144 - 145.

ص: 511

قال: "لا، إلا من قوتها، والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدّق من مال زوجها إلا بإذنه"، قال أبو داود في رواية أبي الحسن بن العبد عقبه: هذا يُضَعِّف حديث همام.

انتهئ ومراده أنه يُضَعِّف حمله على التعميم، أما الجمع بينهما بما دَلّ عليه هذا الثاني فلا.

وأما ما أخرجه أبو داود، وابن خزيمة، من حديث سعد رضي الله عنه، قال: قالت امرأة: يا نبي الله إنّا كَلُّ على آبائنا، وأزواجنا، وأبنائنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال:"الرَّطْبُ، تأكلنه، وتهدينه".

وأخرج الترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي أُمامة رضي الله عنه رفعه:"لا تنفق امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذنه"، قيل: ولا الطعام؟ قال: "ذاك أفضل أموالنا"، وظاهرهما التعارض، ويمكن الجمع بأن المراد بالرَّطْب ما يتسارع إليه الفساد، فأَذِن فيه، بخلاف غيره، ولو كان طعامًا.

أنتهى، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 2370](1026)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2066) و"النكاح"(5192 و 5195 و 5360)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1687) و"الصوم"(2458)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1761)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 305)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 316)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 100)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 192 و 7/ 180 و 192)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن صوم المرأة التطوّع، وزوجها حاضر؛ لئلا يتضرّر بذلك.

2 -

(ومنها): أنه تقدّم أن في رواية أبي داود زيادة: "غير رمضان"، وهذا

ص: 512

لا بد من استثنائه، فلا يحتاج في صوم رمضان إلى إذنه، ولا يمتنع بمنعه، وفي معنى صوم رمضان كلُّ صوم واجب مُضَيَّق، كقضاء رمضان؛ إذا تعدَّت بالإفطار، أو كان الفطر بعذر، ولكن ضاق وقت القضاء بأن لم يبق من شعبان إلا قدر القضاء، أو نَذَرت قبل النكاح، أو بعده بإذنه صيام أيام بعينها، والموسّع كقضاء رمضان؛ إذا كان الفطر بعذر، ولم يضق الوقت، والكفارة، والنذر الذي ليس له وقت معين، فهو كالتطوع في أن له منعها منه، كما صرّح بذلك كله الشافعيّة، كما قاله وليّ الدين.

وقال النوويّ: هذا محمول على صوم التطوع والمنذور الذي ليس له زمن معيّن، قال وليّ الدين: وكذا صوم الكفارة، وقضاء رمضان إذا فات بعذر، ولم يَضِق الوقت كما تقدم.

وقال ابن حزم: تصوم الفروض كلها أَحَبَّ أم كَرِهَ، قال: وصيام قضاء رمضان والكفارات، وكلُّ نذر تقدم لها قبل نكاحها إياه مضموم إلى رمضان؛ لأن الله تعالى افترض كل ذلك كما افترض رمضان، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فأسقط الله-عز وجل الاختيار فيما قَضَى به، وإنما جَعَل النبيّ صلى الله عليه وسلم الاستئذان فيما فيه الخيار، والله أعلم

(1)

.

3 -

(ومنها): قال وليّ الدين رحمه الله هذا الحديث ورد في ابتداء الصوم، أما دوامه كما لو نكحها، وهي صائمة، فهل له حقٌّ في تفطيرها، هذه مسألة قَلّ مَن تعَرَّض لها، وقد ذكرها إبراهيم المروزيّ من أصحابنا، وقال: إنه ليس له إجبارها على الإفطار، قال: وفي نفقتها وجهان. انتهى.

4 -

(ومنها): أن في سنن أبي داود رحمه الله بيان سبب هذه الجملة الأولى من الحديث، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوان بن المعطّل يضربني إذا صليت، ويُفَطِّرني إذا صُمْتُ، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، فسأله عما قالت

فذكر الحديث، وفيه: وأما قولها:

(1)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 141 - 142.

ص: 513

يُفَطِّرني، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شابّ فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:"لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها"

(1)

.

5 -

(ومنها): أنه قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذب": الأمة المستباحة لسيدها في صوم التطوع كالزوجة، وأما الأمة التي لا تحل لسيدها بأن كانت مَحْرَمًا له، كأخته، أو كانت مجوسيًّة، أو غيرهما، والعبد فإن تضررا بصوم التطوع بضعف أو غيره، أو بنقص لم يجز بغير إذن السيد، بلا خلاف، وإن لم يتضررا ولم ينقصا جاز، وأطلق ابن حزم الظاهريّ أنه لا يجوز لذات السيد أن تصوم تطوعًا إلا بإذنه، وقال: البعل اسم للسيد، وللزوج في اللغة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: يؤيّد ما قاله ابن حزم من إطلاق البعل على الزوج والسيّد لغة قولُهُ في "القاموس" عند تعداد معاني البعل: وربُّ الشيءِ، ومالكه، والزوج. انتهى

(2)

.

6 -

(ومنها): بيان النهي عن إذن المرأة بالدخول لأيّ شخص في بيت زوجها بغير إذنه.

7 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه إشارةٌ إلى أنه لا يُفْتَاتُ على الزوج وغيره من مالكي البيوت وغيرها بالإذن في أملاكهم، إلا بإذنهم، وهذا

(1)

الحديث أخرجه أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح (2459) عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوان بن المعطِّل يضربني إذا صليت، ويُفَطِّرني إذا صمتُ، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله، أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين، وقد نهيتها، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس"، وأما قولها: يُفَطِّرني، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شابّ فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:"لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها"، وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت قد عُرِفَ لنا ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال:"فإذا استيقظت فصَلِّ". انتهى.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 335.

.

ص: 514

محمول على ما لا يُعْلَم رضا الزوج ونحوه، فإن علمت المرأة ونحوها رضاه به جاز. انتهى.

8 -

(ومنها): أنه يَحْتَمِل أن يكون المراد الإذن في الدخول عليها، ويَحْتَمِل أن يراد مطلق دخول البيت، وإن لم يكن فيه دخول عليها، بأن أَذِنت في دخول شخص في مكان ليست فيه، إما من حقوق الدار التي هي فيها، وإما في دار أخرى منفردة عن سكنها، وهذا الاحتمال الثاني هو مقتضى اللفظ، فإنه ليس فيه تقييد ذلك بكون الدخول عليها، والله أعلم

(1)

.

9 -

(ومنها): أن في رواية المصنّف تقييد المنع بكون الزوج شاهدًا؛ أي حاضرًا، ومقتضاه أن لها الإذنَ في غيبته من غير استئذانه، ولم يُذكَر هذا القيد في رواية البخاريّ، والأخذ بالإطلاق هنا أولى، فإن غيبته في ذلك كحضوره، بل أولى بالمنع، فقد يَسْمَح الإنسان بدخول الناس منزلة في حضوره، ولا يَسمَح بذلك في غيبته، وحينئذ فذكر القيد في رواية المصنف خرج مخرج الغالب في أن الإذن للضِّيفَان ونحوهم إنما يكون مع حضور صاحب المنزل، أما إذا كان مسافرًا، فالغالب أن لا يُطْرَق منزلُهُ أصلًا، ولو طُرِق لم تأذن المرأة في دخوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إياكم والدخول على المغيّبات"، وهُنّ اللاتي غاب عنهن أزواجهن، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، كما تقرَّر في علم الأصول.

وقد يقال: هذا القيد معمول به، فإنه إذا حضر يعسر استئذانه، وإذا غاب تعذر، وقد تدعو الضرورة إلى الدخول عليها، فيباح لها حينئذ ذلك؛ للاحتياج إليه مع عدم الاستئذان؛ لتعذره، والأول أقرب، والله أعلم

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كذا قال وفي الدين رحمه الله، وقال القرطبيّ رحمه الله: تخصيص المنع بحضور الزوج يدلّ على أن ذلك لحقّ الزوج في زوجته؛ إذ قد يكون المأذون له في تلك الحال ممن يشوّش على الزوج مقصوده، وخلوته بها، وعلى هذا تظهر المناسبة بين هذا النهي وبين النهي عن الصوم المتقدّم، وقال بعض الأئمة: إن ذلك مُعلَّلٌ بأن البيت ملك للزوج، وإذنها في دخوله

(1)

"طرح التثريب" 4/ 143.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 143.

ص: 515

تصرّفٌ فيما لا تملك، وهذا فيه بُعدٌ؛ إذ لو كان معلَّلًا بذلك لاستوى حضور الزوج وغيبته، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو أولى وأقرب مما قاله وليّ الدين، فتأمله بالإمعان.

والحاصل أن القيد بحضور الزوج معتبرٌ، وليس مما خرج مخرج الغالب كما قيل، فيكون المنع من الدخول؛ لئلا يتأذّى الزوج بذلك الشخص عند طلب حاجته من زوجته، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

10 -

(ومنها): بيان جواز تصدّق المرأة من بيت زوجها من غير أمره الصريح، بل بما جرى به العرف، وذلك مشروط بكونه بالمعروف، بأن يكون شيئًا يسيرًا، ولا يكون إسرافًا، ولا تبذيرًا، كما قيّده في الرواية الأخرى بقوله:"غير مفسدة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(28) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ مَنْ أَنْفَقَ شَيْئَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وبَيَانِ عِظَمِ مَنْزِلَةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ خِصَالٌ مِنَ الْخَيْرِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2371]

(1027) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي الطَّاهِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أنفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَاب الرَّيَّانِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ اَلْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تكُونَ مِنْهُمْ").

ص: 516

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقة ثبت عابدٌ فقية [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، ثقة ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَاب) محمد بن مسلم القرشيّ، أبو بكر المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه إمام، من كبار [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعئ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه. قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: اتَّفَقَ الرواةُ عن مالك على وصله، إلا يحيى بن بُكير، وعبد الله بن يوسف، فإنهما أرسلاه، ولم يقع عند القعنبيّ أصلًا. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: أخرجه الدارقطنيّ في "الموطآت" من طريق يحيى بن

ص: 517

بُكير، موصولًا، فلعله اختُلِف عليه فيه، وأخرجه أيضًا من طريق القعنبيّ، فلعله حدّث به خارج "الموطأ". انتهى.

(أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ) زاد إسماعيل القاضي عن أبي مصعب، عن مالك:"من ماله"، والمراد بالزوجين إنفاق شيئين، من أيّ صنف من أصناف المال، من نوع واحد، والزوج يُطْلَق على الواحد، وعلى الاثنين، وهو هنا على الواحد جزمًا.

وقد جاء توضيح معنى إنفاق الزوج فيما أخرجه الإمام أحمد، والنسائيّ، من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، من رواية صَعْصَعَةَ بنِ معاوية، قال: لقيت أبا ذرّ، قال: قلت: حَدِّثني، قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من عبد مسلم، ينفق من كلّ مالٍ له زوجين، في سبيل الله، إلا استقبلته حَجَبَة الجنّة كلّهم يدعوه إلى ما عنده"، قلت: وكيف ذلك؟ قال: "إن كانت إبلًا، فبعيرين، وإن كانت بقرأ، فبقرين".

وفي رواية أحمد: "قلت: وكيف ذاك؟ قال: إن كانت رجالا فرجلين، وإن كانت إبلًا فبعيرين، وإن كانت بقرًا فبقرتين".

وقال القاضي عياض: قال الهرويّ في تفسير هذا الحديث: قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان، أو عبدان، أو بعيران، وقال ابن عرفة: كلُّ شيء قُرِن بصاحبه فهو زوج، يقال: زَوَّجت بين الإبل: إذا قَرَنت بعيرًا ببعير، وقيل: درهم ودينار، أو درهم وثوب، قال: والزوج يقع على الاثنين، ويقع على الواحد، وقيل: إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر، ويقع الزوج أيضًا على المصنف، وفُسِّر به قوله تعالى:{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} [الواقعة: 7]، وقيل: يَحْتَمِل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر، من صلاتين، أو صيام يومين، والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى، والتنبيه على فضل الصدقة، والنفقة في الطاعة، والاستكثار منها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من أنفق زوجين في سبيل الله" هكذا وقع هذا اللفظ في كتاب مسلم، ووقع في البخاريّ: "من أنفق زوجين من شيء من

(1)

"إكمال المعلم" 3/ 555.

ص: 518

الأشياء في سبيل الله"، وهذا نصّ في عموم كلّ شيء يُخْرَج في سبيل الله، وقيل: يصحّ إلحاق جميع أعمال البرّ بالإنفاق، ويدلّ على صحّة هذا بقيّة الحديث؛ إذ قال فيه: "من كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة" إلى آخره. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من أنفق زوجين

إلخ" قال التوربشتيّ: فُسّر بدرهمين، أو دينارين، أو مُدّين من طعام، وما يُضاهي تلك الأشياء، وَيحْتَمِل أن يُراد به تكرار الإنفاق مرّةً بعد أخرى؛ أي يتعوّد ذلك، ويتّخذه دَأبًا، نحو قوله تعالى: {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]، وفي "الغريبين" عن أبي ذرّ رضي الله عنه قيل له: وما زوجان؟ قال: فرسان، أو عبدان، أو بعيران من إبله.

قال الطيبيّ: هذا هو الوجه إذا حُملت التثنية على التكرير؛ لأن القصد من الإنفاق التثبيت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال، والمواظبة عليه، كما قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِ} [البقرة: 265] أي ليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشقّ شيء على النفس من سائر العبادات الشاقّة. انتهى

(2)

.

(فِي سَبِيلِ اللهِ) عز وجل أي تصدّق في سبيل الخير مطلقًا، أو في الجهاد؛ كما هو المتبادر. قاله السنديّ

(3)

.

وقال القاضي عياضٌ: قيل: هو على العموم في جميع وجوه الخير، وقيل: هو مخصوص بالجهاد، والأول أصحّ وأظهر. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح" في "كتاب الصوم": اختُلف في المراد به، فقيل: أراد الجهاد.

وقيل: ما هوأعمّ. انتهى

(5)

وقال في مناقب الصدّيق رضي الله عنه: قوله: "في سبيل الله" أي في طلب ثواب الله، وهو أعمّ من الجهاد وغيره من العبادات. انتهى

(6)

.

(1)

"المفهم" 3/ 70 - 71.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1541.

(3)

"شرح السنديّ" 4/ 169.

(4)

"إكمال المعلم" 3/ 555.

(5)

"الفتح" 4/ 605.

(6)

"الفتح" 7/ 379.

ص: 519

(نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ)"في" بمعنى "من"، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ الْبَالِي

وَهْلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِي

وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أَحْدَثُ عَهْدِهِ

ثَلَاثِينَ شَهْرًا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ

أي من ثلاثة أحوال؛ أي سنين

(1)

.

والمعنى هنا أنه يُنادَى من أبواب الجنّة، يوضّح هذا المعنى ما في رواية النسائيّ، من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، بلفظ:"دعي من أبواب الجنّة".

قال في "الفتح": ومعنى الحديث أن كلّ عامل يُدعَى من باب ذلك العمل، وقد جاء ذلك صريحًا من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه-رضي الله عنه:"لكلّ عامل بابٌ من أبواب الجنّة، يُدعَى منه بذلك العمل"، أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة بإسناد صحيح. انتهى

(2)

.

وقد ثبت بيان صيغة دعاء الداعي في الرواية التالية بلفظ: "دعاه خَزَنة الجنّة، كلُّ خزنة بابٍ؛ أي فُلُ هَلُمَّ"، وفي رواية النسائيّ:"دَعَتْهُ خَزَنةُ الجنّة، من أبواب الجنّة، يا فلان هلمّ، فادخل".

(يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ) أي هذا العمل الذي عملته خيرٌ من الخيرات، والتنوين فيه للتعظيم؛ أي خير عظيمٌ، أو المراد: هذا الباب الذي تُدعَى إليه لِتَدْخُل منه خيرٌ؛ أي فيه خيرٌ كثيرٌ، وإنما قيل له هذا تعظيمًا له، وتشريفًا.

وقال في "الفتح": لفظ: "خير" بمعنى فاضل، لا بمعنى أفضل، وإن كان اللفظ قد يوهم ذلك، ففائدته زيادة ترغيب السامع في طلب الدخول من ذلك الباب. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قيل: معناه: لك هنا خيرٌ، وثوابٌ، وغِبْطَةٌ، وقيل: معناه: هذا الباب فيما نعتقده خير لك من غيره من الأبواب؛ لكثرة ثوابه ونعيمه، فتعالَ، فادخل منه، ولا بُدَّ من تقدير ما ذكرناه أَنّ كل منادٍ يعتقد ذلك الباب أفضل من غيره. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 169.

(2)

"الفتح" 7/ 379.

(3)

"الفتح" 7/ 379.

(4)

"شرح النوويّ" 7/ 116.

ص: 520

(فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصّلَاةِ) المراد تطوّعاتها؛ أي من كان الغالب من أعماله الصلاة النافلة، وهكذا في الجهاد، وما بعده.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أي من كان من المكثرين لصلاة التطوّع، وكذلك غيرها من أعمال البرّ المذكورة في هذا الحديث؛ لأن الواجبات لا بدّ منها لجميع المسلمين، ومن ترك شيئًا من الواجبات إنما يُخاف عليه أن ينادى من أبواب جهنّم، فيستوي في القيام بها المسلمون كلُّهم، وإنما يتفاضلون بكثرة التطوّعات التي بها تحصل تلك الأهليّة التي بها يُنادَون من تلك الأبواب، ولَمّا فَهِمَ أبو بكر رضي الله عنه هذا المعنى قال:"فهل يُدعَى أحدٌ من تلك الأبواب؟ "؛ أي هل يحصُل لأحد من أهل الإكثار من تطوّعات البرّ المختلفة ما يتأهّل به لأن يدعوه خزنةُ الجنّة من كلّ باب من أبوابها؟ فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نعم، وأرجو أن تكون منهم"، فإنه رضي الله عنه كان قد جمع خصال تلك الأبواب كلّها، ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي بعد هذا:"هل فيكم من أطعم اليوم مسكينًا؟ " قال أبو بكر: أنا، قال:"هل فيكم من عاد مريضًا؟ " فقال أبو بكر: أنا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق مفيدٌ.

(دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ) أي من كان يغلب على عمله الجهاد (دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ) أي من كان يغلب على عمله الصدقة (دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ) أي من كان الغالب على عمله الصيام (دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ") قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: سُمّي باب الريّان؛ تنبيهًا على أن العطشان بالصوم في الهواجر سَيَرْوَى، وعاقبته إليه، وهو مشتقّ من الريّ

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الرَّيّان فَعْلانُ من الريّ على جهة المبالغة، سُمّي بذلك على جهة مقابلة العطشان؛ لأنه جُوزي على عطشه بالريّ الدائم في الجنّة التي يدخل إليها من ذلك الباب. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": وزن رَيّان فَعْلانُ، وقد وقعت المناسبة فيه بين لفظه

(1)

"المفهم" 3/ 71 - 72.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 116 - 117.

(3)

"المفهم "71/ 3.

ص: 521

ومعناه؛ لأنه مشتق من الرّيّ الكثير الذي هو ضدّ العطش، وسُمِّي بذلك؛ لأنه جزاء الصائمين على عطشهم وجوعهم، واكتَفَى بذكر الريّ عن الشِّبَعِ؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه، وأُفرد لهم هذا الباب؛ إكرامًا لهم واختصاصًا، وليكون دخولهم الجنة غير متزاحمين، فإن الزحام قد يؤدي إلى العطش. انتهى

(1)

.

وقال القاري: أي من باب الصيام المسمى بباب الرّيّان ضدّ العطشان، قيل: وهو باب يُسْقَى الصائم فيه شرابًا طهورًا قبل وصوله إلى وسط الجنة؛ ليزول عطشه، وقال الطيبيّ: إن كان اسمًا للباب فلا كلام، وإلا فهو من الرُّواء بضم الراء، وهو الماء الذي يُرْوِي، يقال: رَوِيَ يَرْوَى فهو رَيّان؛ أي الصائم بتعطشه في الدنيا يدخل من باب الريّان؛ ليأمن العطش. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: وقع في هذا الحديث ذكر أربعة أبواب من أبواب الجنّة، وقد ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما أن أبواب الجنّة ثمانية، قال الحافظ رحمه الله: وبقي من الأركان الحجّ، فله باب بلا شكّ، وأما الثلاثة الأخرى:

(فمنها): "باب الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس"، رواه أحمد بن حنبل، عن رَوْح بن عُبادة، عن أشعث، عن الحسن، مرسلًا:"إن لله بابًا في الجنّة لا يدخله إلا من عفا عن مظلمة".

(ومنها): الباب الأيمن، وهو باب المتوكّلين، الذي يدخل منه من لا حساب عليه، ولا عذاب.

وأما الثالث، فلعلّه باب الذكر، فإن عند الترمذيّ ما يومئ إليه، وَيحْتَمِل أن يكون باب العلم، والله أعلم، وَيحْتَمِل أن يكون بالأبواب التي يُدعى منها أبوابٌ من داخل أبواب الجنّة الأصليّة؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عددًا من ثمانية، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب عندي، والله تعالى أعلم.

(قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدَيقُ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى أَحَدٍ)"ما" نافيةٌ،

(1)

"عمدة القاري" 10/ 262.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 342.

ص: 522

والجارّ والمجرور خبر مقدّم، وقوله:(يُدْعَى) بالبناء للمفعول (مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ) والجملة صفة لـ"أحد"، وقوله:(مِنْ ضَرُورةٍ)"من" زائدة، و"ضرورة" مبتدأ مؤخّز؛ يعني أنه ليس على الشخص الذي يُدعَى من أيّ باب من تلك الأبواب ضررٌ يلحقه أبدًا؛ لأن مآله الفوز بنعيم الجنّة.

وفي الرواية التالية من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه-رضي الله عنه:"فقال أبو بكر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذاك الذي لا تَوَى عليه"، والتّوَى الضَّيَاع، والخسارة.

وَيحْتَمِل أن يكون المعنى أن من دُعي من باب من تلك الأبواب ليست له حاجةٌ إلى أن يُدعَى من جميع الأبواب؛ إذ الباب الواحد يكفي لدخوله الجنّة، والله تعالى أعلم.

(فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟) لقيامه بالأعمال الموجبة لها (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ) أي نعم يُدعَى من جميع تلك الأبواب، وفي الحديث إشعار بقلّة من يُدعَى من تلك الأبواب كلها، وفيه أيضًا إشارة إلى أن المراد ما يتطوّع به من الأعمال المذكورة، لا واجباتها؛ لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها، بخلاف التطوّعات، فقلّ من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوّعات.

ثم من يجتمع له ذلك إنما يُدْعَى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد، قال الحافظ رحمه الله: ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه، والله أعلم.

- وأما ما أخرجه مسلم عن عمر رضي الله عنه: "من توضّأ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله

" الحديث، وفيه: "فُتحت له أبواب الجنّة، يدخل من أيها شاء"، فلا ينافي ما تقدّم، وإن كان ظاهره أنه يعارضه؛ لأنه يُحْمَل على أنها تفتح له على سبيل التكريم، ثم عند دخوله لا يدخل إلا من باب العمل الذي يكون أغلب عليه، كما تقدّم، والله أعلم

(1)

.

(وَأَرْجُوأَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ") قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 379 - 380.

ص: 523

إخراجه الحديث ما نصّه: قال أبو حاتم: "عَسَى" من الله واجب، و"أرجو" من النبيّ صلى الله عليه وسلم حقّ. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قال العلماء: الرجاء من الله تعالى، ومن نبيّه -صلى الله عليه - واقع، وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر.

ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنه عند ابن حبّان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر، ولفظه:"قال: أجل، وأنت هو يا أبا بكر". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه-رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 2371 و 2372 و 2373](1027)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1897) وفي "الجهاد"(2841) وفي "بدء الخلق"(3216) وفي "المناقب"، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3674)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2238 و 2439) وفي "الجهاد"(3135 و 3183 و 3184) وفي "الكبرى" في "الزكاة"(2546) وفي "الجهاد"(4392 و 4393)، و (مالك) في "الموطّأ"(1021)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 107)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 223)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 268 و 449)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 268)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2480)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(3419 و 3420)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 96)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 95 و 3/ 220 و 6/ 148)، و"أبو عوانة" في "مسنده"(4/ 501)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 101)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 349)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 171)، والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح ابن حبان" 8/ 208 رقم الحديث 3419.

(2)

"الفتح" 7/ 380.

ص: 524

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل من أنفق زوجين من ماله.

2 -

(ومنها): بيان فضل من جمع بين خصال الخير.

3 -

(ومنها): أن من أكثر من شيء عُرِف به.

4 -

(ومنها): أن أعمال البرّ لا تُفْتَح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وإن فتح له في شيء منها حُرِم غيرها في الأغلب، وأنه قد يفتح في جميعها للقليل من الناس، وإن الصدِّيق رضي الله عنه منهم.

5 -

(ومنها): أن الملائكة يحبّون صالحي بني آدم، ويفرحون بهم.

6 -

(ومنها): أن الإنفاق كلما كان أكثر كان أفضل.

7 -

(ومنها): أن تمنّي الخير في الدنيا والآخرة مطلوب.

8 -

(ومنها): بيان منقبة عظيمة لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، حيث اجتمعت له أنواع الخيرات، حتى استحقّ أن يُدعَى من أبواب الجنّة كلها.

9 -

(ومنها): بيان جواز مدح الإنسان في وجهه إذا لم يُخَف عليه فتنةٌ بإعجاب وغيره.

10 -

(ومنها): أن المهلّب رحمه الله قال: في هذا الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال؛ لأن المجاهد يُعطَى أجر المصلي، والصائم، والمتصدّق، وإن لم يفعل ذلك؛ لأن باب الريّان للصائمين، وقد ذكر في هذا الحديث أن المجاهد يُدْعَى من تلك الأبواب كلها بإنفاق قليل المال في سبيل الله. انتهى.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فأجاد حيث قال: وما جرى فيه على ظاهر الحديث يردّه ما في رواية أحمد من الزيادة في الحديث، قال فيه:"لكلّ عمل باب يُدعَون بذلك العمل"، وهذا يدلّ على أن المراد بسبيل الله ما هوأعمّ من الجهاد وغيره من الأعمال الصالحات. انتهى

(1)

، وهو تعقّب جيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 6/ 135 رقم 2841.

ص: 525

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2372]

(

) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بإِسْنَادِ يُونُسَ، وَمَعْنَى حَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ) ابن عليّ بن محمد، أبو عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م في ت ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

4 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

5 -

(أَبُوهُ) إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

6 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون ذُكروا في الباب وما قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) الضمير لصالح، ومعمر.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3135)

- أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، قال: حدّثنا عَمِّي، قال:

ص: 526

حدّثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره، أن أبا هريرة كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان"، فقال أبو بكر: يا نبي الله ما على الذي يدعى من تلك الأبواب كلِّها من ضرورة، هل يُدْعَى أحدٌ من تلك الأبواب كلِّها؟ قال:"نعم، وأرجو أن تكون منهم". انتهى.

وأما رواية معمر، عن الزهريّ، فأخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7577)

- حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة، وللجنة أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الرَّيّان"، فقال أبو بكر: والله يا رسول الله، ما على أحد من ضرورة من أيِّها دُعي، فهل يُدْعَى منها كلِّها أحد يا رسول الله؟ قال:"نعم، وإني أرجو أن تكون منهم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2373]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ، كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ، أَيْ فُلُ هَلُمَّ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَلِكَ الَّذِي لَا تَوَى عَلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ").

ص: 527

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن عُمَر بن درهم الأسديّ، أبو أحمد الزبيريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون السَّمِين البغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

4 -

(شَبَابَةُ) بن سوّار المدائنيّ، خُرَاسانيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

5 -

(شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) التميميّ مولاهم، أبو معاوية النحويّ البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

6 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل، أبو نصر الطائيّ مولاهم البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

7 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (أَيْ فُلُ هَلُمَّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه "أَيْ فُلُ" بضم اللام، وهو المشهور، ولم يذكر القاضي وآخرون غيره، وضبطه بعضهم بإسكان اللام، والأول أصوب، قال القاضي: معناه: أي فلان، فرُخِّم، ونُقِل إعراب الكلمة على إحدى اللغتين في الترخيم، قال: وقيل: فُلُ لغة في فلان في غير النداء والترخيم. انتهى.

ولفظة "فلُ" بالضمّ، مما يختصّ بالنداء، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَفُلُ بَعْضُ مَا يَخْتَصُّ بِالنِّدَا

لُؤْمَانُ نَوْمَانُ كَذَا وَاطَّرَدَا

فِي سَبِّ الانْثَى وَزْنُ يَا خَبَاثِ

وَالأَمْرُ هَكَذَا مِنَ الثُّلَاثِ

وقيل: إنها ترخيم فلان، وعلى هذا يجوز فتح اللام، وضمها.

وقوله: (لَا تَوَى عَلَيْهِ) بفتح التاء الفوقانيّة، مقصورًا: أي لا هلاك، ولا

ص: 528

خسارة عليه حيث نجا من النار، وأدخل الجنّة، ففاز فوزًا عظيمًا، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2374]

(1028) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، يَعْنِي الْفَزَارِيَّ، عَنْ يَزِيدَ، وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أنا، قَالَ: "فَمَنْ تَبعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) ابن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد الله الكوفيّ، ثم المكيّ، ثم الدمشقيّ، ثقةٌ حافظ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أوأبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

4 -

(أَبُو حَازِمٍ الأَشْجَعِيُّ) سلمان الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

و (أبو هُرَيْرَةَ) ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له

ص: 529

البخاريّ، وأبو داود، ويزيد بن كيسان، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه، فعدنيّ، ثم مكيّ، والصحابيّ، فمدنيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ ")"من" استفهاميّة، و"أصبح" بمعنى صار، وخبره "صائمًا"، أو بمعنى دَخَلَ في الصباح، فتكون تامّةً، و"صائمًا" حال من ضميره (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق (رضي الله عنه: أَنَا) قال القاري رحمه الله: يوقف عليه بالألف، وأما وقفه بالنون المفتوحة فلحنٌ عاميّ، قال الطيبيّ رحمه الله: ذكر "أنا" هنا للتعيين في الإخبار، لا للاعتداد بنفسه، كما يُذْكَر في مقام المفاخرة، وهذا هو الذي يُكرَه، وقد جاء قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، وقوله:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وقوله:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} [الكافرون: 4]، وقوله:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} [الزخرف: 81] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيّد ولد آدم"، وقال:"أنا أول من تنشقّ عنه الأرض"، وقال:"أنا أول شافع، وأول مشفّع"، وقال:"أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على قدمي، وأنا العاقب"، إلى غير ذلك من الأحاديث، وكلّها في الصحاح، وقد تلفّظ بها السابق بالخيرات، صدّيق هذه الأمة رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كرّة بعد كرّة، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، فدلّت هذه النصوص كلّها على جواز قول القائل: أنا، فمن كره ذلك فلا حجة له.

[فإن قلت]: أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال:"مَنْ ذا؟ " فقلت: أنا، فقال:"أنا أنا"، كأنه كرهها، فكيف يُجمع بينه وبين هذه النصوص؟.

[قلت]: يُجاب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما سأله ليُخبر عن نفسه، فيعرف مَن الوارد عليه، فيرتفع الإبهام، فلما قال جابر رضي الله عنه: أنا لم يأت بجواب يزيل الإبهام، ويفيد معرفة عينه، بل بقي الإبهام على حاله، فأنكر عليه ذلك؛ للمعنى

ص: 530

المذكور، لا لتلفّظه بتلك الكلمة، فلو قال جابرٌ: أنا جابرٌ، لم ينكر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: ومما يؤيّد ذلك ما وقع في قصّة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، في "الصحيحين" قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، فسلمت عليه، فقال:"من هذه؟ " فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: "مرحبا بأم هانئ

"، الحديث، فقد أقرّها صلى الله عليه وسلم على قولها: أنا حيث أزالت الإبهام بذكر أم هانئ بنت أبي طالب معه، فدلّ على أن إنكاره صلى الله عليه وسلم على جابر رضي الله عنه؛ لما مرّ آنفًا، فزال الإشكال، ولله الحمد.

والحاصل أن قول الإنسان: أنا، من حيث هو ليس بمذموم، وإنما هو يُذَمّ باعتبار إخباره بما يُفتَخَر به، كقول إبليس:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، ونحو ذلك من نحو: أنا العالم، وأنا الزاهد، وأنا العابد، بخلاف: أنا الفقير الحقير العبد المذنب، وأمثال ذلك، فتبصّر

(1)

، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَمَنْ تَبعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ) أي ما اجتمعت هذه الخصال الأربعة المذكورة على الترتيب المذكور في يوم واحد، قال القاري: كذا قال ابن الملك، وكأن الترتيب أخذه من الفاء التعقيبية، وهو غير لازم؛ إذ يمكن حمل التعقيب على السؤال، كما ذكروا في "ثُمّ" أنه قد يكون للتراخي في السؤال، أو التقدير: إذا ذكرتم هذا فمن فعل هذا.

والحاصل أن هذه الخصال ما وُجِدت وحَصَلت في يوم واحد في امرئ (إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ") أي بلا محاسبة، وإلا فمجرد الإيمان يكفي لمطلق الدخول، أو معناه: دخل الجنة من أيّ باب شاء، كما تقدم في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "المرقاة" 4/ 343.

ص: 531

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 2374](1028)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 36)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 304)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 102)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 189)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل المبادرة إلى فعل خصال الخير.

2 -

(ومنها): بيان فضل أبي بكر رضي الله عنه حيث خصّه الله تعالى بتوفيقه لتلك الخصال الحميدة، فنال بذلك فضل الجنّة.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من متابعة أصحابه، ومسألتهم عما يتسابقون فيه من خصال الخير، حتى يبيّن للناس السابقون، فيقتدوا بهم.

4 -

(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "وأرجو أن تكون منهم "قال العلماء: الرجاء من الله تعالى، ومن نبيه صلى الله عليه وسلم واقع، وبهذا التقرير يَدخُل الحديث في فضائل أبي بكر رضي الله عنه، ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنه عند أبن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر رضي الله عنه، ولفظه:"قال: أجل، وأنت هو يا أبا بكر".

5 -

(ومنها): أن مَن أكثر من شيء عُرِف به.

6 -

(ومنها): أن أعمال البرّ قَلّ أن تجتمع جميعها لشخص واحد على السواء.

7 -

(ومنها): أن الملائكة يحبون صالحي بني آدم ويفرحون بهم، فإن الإنفاق كلما كان أكثر كان أفضل.

8 -

(ومنها): أن تمني الخير في الدنيا والآخرة مطلوب.

9 -

(ومنها): بيان عظيم فضل الله تعالى على عباده، حيث ييسّر لبعضهم أنواعًا من أبواب الخير حتى ينالوا بذلك الدرجات العلى، ولذا يُثنون عليه في الآخرة بذلك حيث يقولون:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، اللهم اجعلنا ممن اهتدى بهداك، وعمل في رضاك آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 532

(29) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى الإِنْفَاقِ، وَكَرَاهَةِ الإِحْصَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2375]

(1029) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْفِقِي، أَوِ انْضِحِي، أَوِ انْضَحِي، وَلَا تُحْصِي، فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(حَفْصُ بْنَ غِيَاثٍ) تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

4 -

(فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ) بن الزبير بن الْعَوّام، زوج هشام بن عروة المدنيّة، ثقةٌ [3](ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.

5 -

(أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما) زوج الزبير بن العوّام، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة (3 أو 74)(ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وحفص، فكوفيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن زوجته، عن جدّتهما لأبويهما.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّة.

ص: 533

شرح الحديث:

(عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْفِقِي) بقطع الهمزة، أمر من الإنفاق (أَوِ انْضِحِي، أَوِ انْفَحِي)"أو" في الموضعين للشكّ من الراوي، قال النوويّ رحمه الله: أما "انفحي"، فبفتح الفاء، وبحاء مهملة، وأما "انضحي" فبكسر الضاد، ومعنى "انفحي"، و"انضحي": أعطي، والنفح والنضح: العطاءُ، ويُطْلق النضح أيضًا على الصبّ، فلعله المراد هنا، ويكون أبلغ من النفح. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فبكسر الضاد"، الذي في "المصباح المنير" أن نضح من بابي ضرب ونفع، فيكون بكسر الضاد وفتحها

(2)

، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "انفحي

إلخ" معناه: أعطي، وأصل النفح: الضرب بالعصا، أو بالسيف، وكأن الذي يُنفق يضرب المعطَى له بما يُعطيه، وَيحْتَمل أن يكون من نَفَحَ الطيب: إذا تحرّكت رائحته؛ إذ العطيّة تُستطاب كما تُستطاب الرائحة الطيِّبَةُ، أو من نفحت الريح: إذا هبّت باردةً، فكأنه أمر بعطيّة سهلة كثيرة، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: "ونَفَحَ به يمينًا وشمالًا"؛ أي أعطاه في كلّ وجه، وأصل النضح: الرشّ، وكأنه أمر بالصدقة بما تيسّر، وإن كان قليلًا. انتهى

(3)

.

(وَلَا تُحْصِي) من الإحصاء، وهو معرفة قدر الشيء، أو وزنه، أو عدده (فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ") بالنصب؛ لوقوعه بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

قيل: هذا من مقابلة اللفظ باللفظ، وتجنيس الكلام بمثله في جوابه، كقوله تعالى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]؛ أي يمنعك كما منعت، ويُقتّر عليك كما قتّرت، ويُمسك فضله عنك كما أمسكته، وقيل: معناه لا تُحصي ما تُعْطِي؛ أي لا تَعُدِّيه، فتستكثريه، فيكون سببًا لانقطاع إنفاقك

(4)

،

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 118.

(2)

راجع: "المصباح" 2/ 609.

(3)

"المفهم" 3/ 73.

(4)

"شرح النووي" 7/ 119.

ص: 534

وقيل: قد يراد بالإحصاء والوعي هنا عَدُّه؛ خوفَ أن تزول البركة منه، كما قالت عائشة رضي الله عنها:"حتى كِلْناه ففني"

(1)

، وقيل: إن عائشة رضي الله عنها عَدَّت ما أنفقته فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 2375 و 2376 و 2377، (1029)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1433 و 1434) و"الهبة"(2590 و 2591)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2550 و 2551) و"الكبرى"(2331 و 2332)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1699)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1960)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(16614)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 345 و 346 و 353)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 93)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 6 و 144)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 102 - 103)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 187 و 6/ 60)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1654)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على الإنفاق في وجوه الخير، والنهي عن الإمساك والبخل، وعن ادّخار المال في الوعاء.

(1)

أشار به إلى ما أخرجه الشيخان من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رَفٍّ لي، فأكلت منه، حتى طال عليّ، فكِلْته ففني"، زاد في رواية أحمد: "فليتني لم أكن كِلْته".

(2)

"عمدة القاري" 8/ 300، وأشار بهذا إلى ما أخرجه أبو داود بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عدّة من صدقة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطي، ولا تُحصي، فيُحصَى عليك".

ص: 535

2 -

(ومنها): كراهة إحصاء الصدقة؛ لئلا يكون سببًا للبخل، وانقطاع فضل الله تعالى.

3 -

(ومنها): بيان أن إحصاء الصدقة سبب لبخل؛ لأن النفس تستكثر ما تتصدّق به، فتبخل.

4 -

(ومنها): أن إحصاء الصدقة سبب لحبس الرزق، وقطع فضل الله تعالى.

5 -

(ومنها): بيان أن الجزاء من جنس العمل.

6 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابيّات من العناية بالسؤال عما يُشكل عليهنّ من أمور دينهنّ.

7 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من العناية بتعليم أمته السخاء والجود حتى يُفيض الله عز وجل عليهم بركاته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2376]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ، وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْفَحِي، أَوِ انْضَحِي، أَوْ أَنْفِقِي، وَلَا تُحْصِي، فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي، فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ) أبو معاوية الضرير تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(عَبَّادُ بْنُ حَمْزَة) بن عبد الله بن الزبير الأسديّ، أخو عبد الله بن حمزة، ثقةٌ [3].

رَوَى عن جدة أبيه أسماء بنت أبي بكر، وأختها عائشة أم المؤمنين، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ.

ص: 536

ورَوَى عنه ابن عم أبيه هشام بن عروة.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الزهريّ: كان سخيًّا سَرِيًّا، أحسن الناس وجهًا، له عند مسلم والنسائي حديث:"لا تحصي فيحصي الله عليك".

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ

(1)

، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (وَلَا تُوعِي، فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ) بعين مهملة، من أوعيت المتاعَ في الوعاء أُوعيه: إذا جعلته فيه، ووَعَيتُ الشيءَ: حفظته

(2)

، وفي رواية للبخاريّ بلفظ:"لا تُوكي، فيوكَى عليك"، من أوكى يوكي إيكاءً، يقال: أوكى ما في سقائه: إذا شدّه بالوكاء، وهو الخيط الذي يُشَدّ به رأس القِرْبة، وأوكى علينا: أي بَخِل.

وقوله: "فيوكَى عليك" بفتح الكاف على صيغة المجهول، والمعنى: لا توكي مالك عن الصدقة؛ خشيةَ نفاده، فيوكي الله عليك، أو يمنعك، ويقطع مادة الرزق عنك.

وقال المناويّ رحمه الله: الإيكاء شَدُّ رأس الوعاء بالوكاء، وهو هنا مجاز عن الإمساك، فالمعنى: لا تمسكي المال في الوعاء، وتوكي عليه، فيمسك الله فضله عنك، كما أمسكت فضل ما أعطاك الله، فإن الجزاء من جنس العمل، ومَن عَلِم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب، فحقه أن يعطي ولا يَحْسُب، وفيه النهي عن منع الصدقة خشية النفاد، وأنه أعظم الأسباب لقطع مادة البركة، وأنه تعالى يثيب على العطاء بغير حساب. انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

ليس في "المجتبى"، وإنما هو في "عشرة النساء" من "الكبرى" برقم (9195) فتنبّه.

(2)

"عمدة القاري" 8/ 299.

(3)

"فيض القدير" 1/ 563.

ص: 537

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2377]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثنا هِشَامٌ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن بشر، عن هشام بن عروة هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده" (6/ 346) فقال:

(26980)

- حدّثنا عبد اللهِ، حدّثني أَبِي، ثنا محمد بن بِشْرٍ، قال: ثنا هِشَامُ بن عُرْوَةَ، عن فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ مُحْصِيَةَ، وَعَنْ عَبَّادِ بن حَمْزَةَ، عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لها:"أنفقي، أَوِ انضحي، أَوِ انفحي، هَكَذَا وَهَكَذَا، وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكِ، وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ الله عَلَيْكِ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2378]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بنْتِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ، إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ

(1)

وفي نسخة: "جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم".

ص: 538

عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: "ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلَا تُوعِي، فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(محَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال البزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، يدلّس [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مليكة زُهير بن عبد الله التيميّ المكيّ، ثقة فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.

6 -

(عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام، كان قاضي مكة زمن أبيه، وخليفته إذا حجّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الجنائز" 32/ 2252.

و"أسماء" رضي الله عنه ذُكرت قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.

2 -

(ومنها): أن رواته رواة الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو وأبو داود، والثاني ما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين من ابن جريج.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن جدّته.

شرح الحديث:

(عَنْ أَسْمَاء بنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنها (أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بالنصب مفعولًا لـ"جاء"؛ لأَنه يتعدّى بنفسه، يقال: جئتُ زيدًا: إذا أتيت إليه، ويتعدّى بـ "إلى" أيضًا، فيقال: جئت إليه على معنى ذهبتُ إليه، أفاده في "المصباح"

ص: 539

(فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ، إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ) بن العوّام بن خُوَيلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كِلاب، أبو عبد الله القرشيّ الأسديّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، قُتل سنة (36) بعد مُنصَرَفه من وقعة الْجَمَل.

والمعنى: ليس لي مالٌ أتصدّق به على المساكين، إلا الذي أعطاني زوجي الزبير قوتًا، أو أعمّ من ذلك.

(فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ) بضمّ الجيم؛ أي إثمٌ (أَنْ أَرْضَخَ) بفتح الضاد المعجمة: أي أعطي قليلًا. يقال: رَضَختُ له رَضْخًا، من باب نَفَعَ، ورَضِيخًا: أعطيته شيئًا ليس بالكثير، والمال رَضْخٌ، تسميةً بالمصدر، أو فَعْلٌ بمعنى مفعول، مثلُ ضَرْبِ الأمير، وعنده رَضْخٌ من خيرٍ: أي شيءٌ منه، قاله الفيّوميّ. (مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟) أي من المال الذي يُدخِله الزبير عليّ، فحُذف عائد الموصول؛ لكونه فضلة، كما قال في "الخلاصة":

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ارْضَخِي) بفتح الضاد المعجمة، بعدها خاء معجمة أيضًا، والهمزة فيه همزة وصل؛ لكونه ثلاثيًّا، كما سبق آنفًا، وهذا محمولٌ على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها، أو مما هو ملك للزبير، ولا يَكرَه الصدقةَ منه، بل يرضى به على عادة غالب الناس، وقد سبق بيان المسألة قريبًا، أفاده النوويّ رحمه الله

(1)

. (مَا اسْتَطَعْتِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه مما يَرضَى به الزبير، وتقديره: إنّ لكِ في الرضخ مراتبَ مباحةً، بعضها فوق بعض، وكلّها يرضاها الزبير، فافعلي أعلاها، أو يكون معناه: ما استطعت مما هو ملك لك. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الأخير بعيدٌ، يردّه سياق الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَلَا تُوعِي) بالعين المهملة، يقال: أوعيتُ المتاع في الوعاء أُوعِيهِ: إذا

(1)

راجع: "شرح النوويّ على صحيح مسلم" 7/ 120.

ص: 540

جعلته فيه، وفي رواية النسائيّ:"وَلَا تُوكِي" بالكاف بدل العين، من الإيكاء، وهو شدّ رأس الوعاء بالوكاء، وهو الرباط الذي يُربط.

(فَيُوعِيَ اللهُ) عز وجل (عَلَيْكِ") أي يمنعك كما منعت، ويقتّر عليك كما قتّرت، ويمسك فضله عنك، كما أمسكت فضلك عن الفقراء والمساكين، ولفظ النسائيّ:"فيوكي الله عز وجل عليك" بالكاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 2378] و (البخاريّ) في "الزكاة"(1434) و"الهبة"(2590)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2551) و"عشرة النساء" من "الكبرى"(9193)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 354)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 103)، وفوائده تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(30) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَلَوْ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْقَلِيلِ لاحْتِقَارِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2379]

(1030) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:"يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ").

ص: 541

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الفهميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه حجة إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(أَبُوهُ) أبو سعيد كيسان المقبريّ، ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلافهما في صيغتي الأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ (عَنْ أَبِيهِ) وكذا هو عند معظم رواة "صحيح البخاريّ"، بإثبات "عن أبيه"، وسقط عند بعضهم، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وسقط "عن أبيه" من رواية الأصيليّ وكريمة، وضَبَّب عليه في رواية النسفيّ، والصواب إثباته، وكذا أخرجه الإسماعيليّ، عن محمد بن يحيى، وأبو نعيم، من طريق إسماعيل القاضي، وأبو عوانة عن إبراهيم الحربيّ، كلهم عن عاصم بن عليّ شيخ البخاريّ فيه، ومن طريق شبابة، وعثمان بن عمرو بن المبارك عند الإسماعيليّ، وأخرجه البخاري في "الأدب

ص: 542

المفرد" عن آدم، كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك، وكذلك رواه الليث، عن سعيد، كما سيأتي في "كتاب الأدب"، وأخرجه الترمذيّ من طريق أبي مَعْشَر، عن سعيد، عن أبي هريرة، لم يقل: "عن أبيه"، وزاد في أوله: "تَهَادَوْا، فإن الهدية تُذْهِب وَحَرَ الصدر

" الحديث، وقال: غريب، وأبو معشر يُضَعَّف، وقال الطرقيّ: إنه أخطأ فيه، حيث لم يقل فيه: "عن أبيه"، كذا قال، وقد تابعه محمد بن عجلان، عن سعيد، وأخرجه أبو عوانة، نعم مَن زاد فيه "عن أبيه" أحفظ وأضبط، فروايتهم أولى، والله أعلم

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ) ذكر القاضي عياض رحمه الله في إعرابه ثلاثة أوجه:

[أصحها وأشهرها]: نصب النساء، وجَرُّ المسلمات على الإضافة، قال الباجيّ: وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، والموصوفِ إلى صفته، والأعمِّ إلى الأخصّ، كمسجد الجامعِ، وجانب الغربيّ، وهو عند الكوفيين جائزٌ على ظاهره، وعند البصريين يقدّرون فيه محذوفًا؛ أي مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربيّ، ويقدَّر هنا: يا نساء الأنفس المسلمات، أو الجماعات المؤمنات، وقيل: تقديره يا فاضلات المسلمات، كما يقال: هؤلاء رجال القوم؛ أي ساداتهم وأفاضلهم.

[الوجه الثاني]: رفع النساء، ورفع المسلماتُ، على معنى النداء والصفة؛ أي: يا أيتها النساء المسلماتُ، قال الباجيّ: كذا يرويه أهل بلدنا.

[الوجه الثالث]: رفع النساء، وكسر التاء من المسلمات، على أنه منصوب على الصفة على الموضع، كما يقال: "يا زيدُ العاقلَ، برفع زيدُ، ونصب العاقلَ. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو ما تقدّم ما نصّه: وقال السهيليّ وغيره: جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفردٌ، ويجوز في المسلمات الرفع صفةً على اللفظ، على معنى: يا أيها النساء المسلمات، والنصب صفة على الموضع، وكسرة التاء علامة النصب.

(1)

"الفتح" 6/ 415 - 452 كتاب "الهبة" رقم (2566).

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 120.

ص: 543

ورُوِيَ بنصب الهمزة، على أنه منادى مضاف، وكسرة التاء للخفض بالإضافة، كقولهم: مسجد الجامع، وهو مما أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في اللفظ، فالبصريون يتأولونه على حذف الموصوف، وإقامة صفته مقامه، نحو يا نساء الأنفس المسلمات، أو يا نساء الطوائف المؤمنات؛ أي لا الكافرات، وقيل: تقديره يا فاضلات المسلمات، كما يقال: هؤلاء رجال القوم؛ أي أفاضلهم، والكوفيون يَدَّعُون أن لا حذف فيه، ويكتفون باختلاف الألفاظ في المغايرة.

وقال ابن رُشيد: توجيهه أنه خاطب نساءً بأعيانهنّ، فأقبل بندائه عليهنّ، فصحت الإضافة على معنى المدح لهنّ، فالمعنى يا خيرات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم.

وتُعُقِّب بأنه لم يخصصهنّ به؛ لأن غيرهن يشاركهن في الحكم.

وأجيب بأنهن يشاركنهن بطريق الإلحاق.

وأنكر ابن عبد البر رواية الإضافة، وردّه ابن السيد بأنها قد صَحَّت نقلًا، وساعدتها اللغة، فلا معنى للإنكار.

وقال ابن بطال: يمكن تخريج يا نساء المسلمات على تقدير بعيدٍ، وهو أن يُجْعَل نعتًا لشيء محذوف، كأنه قال: يا نساء الأنفس المسلمات، والمراد بالأنفس الرجال، ووجه بعده أنه يصير مدحًا للرجال، وهو صلى الله عليه وسلم إنما خاطب النساء، قال: إلا أن يراد بالأنفس الرجال والنساء معًا، وأطال في ذلك، وتعقبه ابن الْمُنَيِّر، وقد رواه الطبرانيّ من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "يا نساء المؤمنين

" الحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن أقرب الأوجه أنه من حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه؛ أي يا نساء الأنفس المسلمات، كما هو رأي البصريين، وإلى ترجيح مذهبهم أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ

مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ

(1)

"الفتح" 6/ 416 كتاب "الهبة" رقم (2566).

ص: 544

وأما ما ذكره ابن بطّال، فمما لا يخفى ما فيه من التكلّف والتعسّف، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتهَا) ووقع لأبي ذر في "صحيح البخاريّ" بلفظ: "لجارةٍ" بدون إضافة، والمتعلَّق محذوف، تقديره:"هديةً مُهداةً"(وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ") بكسر الفاء، والمهملة، بينهما راء ساكنة، وآخره نون: هو عظمٌ قليلُ اللحم، وهو للبعير موضع الحافر للفرس، ويُطْلَق على الشاة مجازًا، ونونه زائدة، وقيل: أصلية، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": "الفِرْسن" بكسر الفاء، وسكون الراء، وكسر السين المهملة، وفي آخره نون، قال ابن دريد: هو ظاهر الْخُفّ، والجمع فراسن، وفي "المحكم": هي طَرَف خفّ البعير. انتهى. حكاه سيبويه في الثلاثيّ، ولا يقال في جمعه: فِرْسِنات، كما قالوا: خَنَاصر، ولم يقولوا: خِنْصِرات، وفي "المخصص": هو عند سيبويه فِعْلِنٌ، ولم يَحْك في الأسماء غيره، وقال أبو عبيد: السُّلامَى عظام الْفِرْسِن كلُّها، وفي "الجامع": هو من البعير بمنزلة الظُّفُر من الإنسان، وفي "المغيث": هو عظمٌ قليلُ اللحم، وهو للشاة والبعير بمنزلة الحافر للدابة، وقيل: هو خُفّ البعير، وفي "الصحاح": ربما استعير للشاة، وقال ابن السرّاج: النون زائدة، وقال الأصمعيّ: الفرسن ما دون الرسغ من يد البعير، وهي مؤنثة. انتهى

(1)

.

قال في "الفتح": وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير، وقبوله، لا إلى حقيقة الفِرْسِن؛ لأنه لم تجر العادة بإهدائه؛ أي لا تمنع جارةٌ من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر، وإن كان قليلًا، فهو خير من العدم، وذَكَرَ الفِرْسِن على سبيل المبالغة.

وَيحْتَمِل أن يكون النهي إنما وقع لِلْمُهْدَى إليها، وأنها لا تحتقر ما يُهْدَى إليها، ولو كان قليلًا، وحمله على الأعم من ذلك أولى.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها المذكور: "يا نساء المؤمنين، تَهَادَوْا، ولو فِرْسِن شاة، فإنه يُنْبِت المودّة، ويُذْهِب الضغائن". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"عمدة القاري" 13/ 126.

(2)

"الفتح" 6/ 417.

ص: 545

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 2379](1030)، و (البخاريّ) في "الهبة"(3566) و"الأدب"(6017)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 449)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 264 و 307 و 432 و 493 و 506)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 103)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(24/ 221)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 177 و 6/ 60 و 168)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحضّ على التهادي، ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودّة، وإذهاب الشحناء، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة، والهديةُ إذا كانت يسيرة فهي أدلّ على المودة، وأَسْقَطُ للمؤنة، وأسهل على المهدي؛ لاطِّرَاح التكلّف، والكثيرُ قد لا يتيسر كلَّ وقت، والمواصلة باليسير تكون كالكثير.

2 -

(ومنها): استحباب جلب المودّة، وإسقاط التكلّف.

3 -

(ومنها): شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم في توجيه أمته رجالًا ونساءً، فليست توجيهاته قاصرةً على الرجال فقط.

4 -

(ومنها): بيان شدّة عناية الشارع على ما يجلب المودّة والمحبّة بين المجتمعات بحيث لا يوجد عندهم شحناء ولا بغضاء، بل يكونون يدًا واحدةً على من سواهم، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضهم بعضًا، ثم شبّك بين أصابعه"، متّفقٌ عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى"، متفق عليه، واللفظ لمسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 546

(31) - (بَابُ فَضْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2380]

(1031) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِن البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان البصريّ، الإمام الحافظ الناقد الحجة الثبت [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبت فقيه، قدّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم، عن عائشة على الزهري، عن عروة، عنها [5] مات سنة بضع (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

5 -

(خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة [4](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7، وهو خال عبيد الله الراوي عنه.

6 -

(حَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ) بن عمر بن الخطّاب العمريّ المدنيّ، ثقة [3](ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7، وهو جدّ عبيد الله المذكور لأبيه.

ص: 547

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فرّق.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه زهير، فما أخرج له الترمذيّ، وأما شيخه ابن المثنّى، فإنه من مشايخ الستة بلا واسطة، كما مرّ غير مرّة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من خبيب، وأما زهير فبغداديّ، والباقيان بصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ الراوي، عن خالة، عن جدّه.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عبيد الله، عن خُبيب، عن حفص.

6 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه، أكثر الصحابة رواية للحديث، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قال في "الفتح": لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك، ورواه مالك في "الموطأ" عن خُبيب، فقال: عن أبي سعيد، أو أبي هريرة على الشك، ورواه أبو قُرّة، عن مالك بواو العطف، فجعله عنهما، وتابعه مصعب الزبيري، وشَذّا في ذلك عن أصحاب مالك، والظاهر أن عبيد الله حفظه؛ لكونه لم يشك فيه، ولكونه من رواية خالة، وجدّه، والله أعلم. انتهى.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: لم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه، إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه، إلا ما وقع عند مالك من التردد هل هو عنه، أو عن أبي سعيد، كما قدمناه قبلُ، ولم نجده عن أبي هريرة، إلا من رواية حفص، ولا عن حفص إلا من رواية خبيب، نعم أخرجه البيهقي في "الشعب" من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، والراوي له عن سهيل

ص: 548

عبدُ الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف، لكنه ليس بمتروك، وحديثه حسن في المتابعات، ووافق في قوله:"تصدق بيمينه"، وكذا أخرجه سعيد بن منصور، من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه بإسناد حسن موقوفًا عليه، لكن حكمه الرفع، وفي "مسند أحمد" من حديث أنس رضي الله عنه بإسناد حسن مرفوعًا:"إن الملائكة قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشدُّ من الجبال؟ قال: نعم الحديد، قالت: فهل أشد من الحديد؟ قال: نعم النار، قالت: فهل أشد من النار؟ قال: نعم الماء، قالت: فهل أشد من الماء؟ قال: نعم الريح، قالت: فهل أشد من الريح؟ قال: نعم ابن آدم، يتصدق بيمينه، فيخفيها عن شماله". انتهى

(1)

.

(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ) ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجّهه الكرماني بما مُحَصَّله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب، أو بينه وبين الخلق، فالأولى باللسان، وهو الذكر، أو بالقلب، وهو المعلَّق بالمسجد، أو بالبدن، وهو الناشئ في العبادة، والثاني عام، وهو العادل، أو خاص بالقلب، وهو التحابّ، أو بالمال، وهو الصدقة، أو بالبدن، وهو العفة، قال الحافظ: وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل، فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذنًا، عن أبي الهدى أحمد ابن أبي شامة، عن أبيه سماعًا من لفظه، قال [من الطويل]:

وَقَالَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى إِنَّ سَبْعَةً

يُظِلُّهُمُ اللهُ الْكَرِيمُ بِظِلِّهِ

مُحِبٌّ عَفِيفٌ نَاشِئٌ مُتَصَدِّقٌ

وَبَاكٍ مُصَلٍّ وَالإِمَامُ بِعَدْلِهِ

ووقع في "صحيح مسلم"، من حديث أبي الْيَسَرِ مرفوعًا:"من أنظر معسرًا، أو وضع له، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية، فدل على أن العدد المذكور لا مفهوم له، قال الحافظ: وقد ألقيت هذه المسألة على العالم، شمس الدين بن عطاء الرازي، المعروف بالهرويّ، لَمّا قَدِمَ القاهرة، وادَّعَى أنه يحفظ "صحيح مسلم"، فسألته بحضرة الملك المؤيّد عن هذا، وعن غيره، فما استحضر في ذلك شيئًا، ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة، في مثل ذلك، فزادت على عشر خصال، وقد انتقيت

(1)

"الفتح" 2/ 365 - 366.

ص: 549

منها سبعة، وردت بأسانيد جياد، ونظمتها في بيتين، تذييلًا على بيتي أبي شامة، وهما:

وَزِدْ سَبْعَةً إِظْلَالَ غَازٍ وَعَوْنَهُ

وَإِنْظَارَ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفَ حَمْلِهِ

وَإِرْفَادَ ذِي غُرْمٍ وَعَوْنَ مُكَاتَبٍ

وَتَاجِرُ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ

فأما إظلال الغازي، فرواه ابن حِبّان وغيره، من حديث عمر رضي الله عنه، وأما عون المجاهد، فرواه أحمد، والحاكم، من حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه، وأما إنظار المعسر، والوضيعة عنه، ففي "صحيح مسلم" كما ذكرنا، وأما إرفاد الغارم، وعون المكاتب، فرواهما أحمد، والحاكم، من حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه المذكور، وأما التاجر الصدوق، فرواه البغويّ في "شرح السنة" من حديث سلمان رضي الله عنه، وأبو القاسم التيمي، من حديث أنس رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

قال الحافظ: ونظمته مرة أخرى، فقلت في السبعة الثانية:

وَتَحْسِينُ خُلْقٍ مَعْ إِعَانَةِ غَارِمٍ

خَفِيفُ يَدٍ حَتَّى مُكَاتَبُ أَهْلِهِ

وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد ضعيف، ثم تتبعت ذلك، فجمعت سبعة أخرى، ونظمتها في بيتين آخرين، وهما:

وَزِدْ سَبْعَةً حُزْنٌ وَمَشْيٌ لِمَسْجِدِ

وَكُرْهُ وُضُوءٍ ثُمَّ مُطْعِمُ فَضْلِهِ

وَآخِذُ حَقٍّ بَاذِلٌ ثُمَّ كَافِلُ

وَتَاجِرُ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ

ثم تتبعت ذلك، فجمعت سبعة أخرى، ولكن أحاديثها ضعيفة، وقلت في آخر البيت:

تَرْبَعُ بِهِ السَّبْعَاتِ مِنْ فَيْضِ فَضْلِهِ

وقد أوردت الجميع في "الأمالي"، وقد أفردته في جزء سميته "معرفة الخصال، الموصلة إلى الظلال". انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

[تنبيه]: ذِكْرُ الرجال في هذا الحديث، لا مفهوم له، بل يشترك النساء

(1)

"الفتح" 2/ 361 - 362.

ص: 550

معهم فيما ذُكر، إلا إن كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال، فتعدل فيهم، وتخرج خصلة ملازمة المسجد؛ لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهنّ، حتى الرجل الذي دعته المرأة، فإنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلًا، فامتنعت خوفًا من الله تعالى، مع حاجتها، أو شابّ جميل دعاه ملك إلى أن يزوجه ابنته مثلًا، فخشي أن يرتكب منه الفاحشة، فامتنع مع حاجته إليه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(يُظِلُّهُمُ) بضمّ أوله، من الإظلال (اللهُ) عز وجل (فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ) وفي رواية النسائيّ

(2)

: "يظلهم الله في ظلّه يوم القيامة، يوم لا ظلّ إلا ظلّه"، فـ"يوم" الثاني بدل من الأول.

وقوله: "في ظلّه" قال عياض: إضافة الظلّ إلى الله تعالى إضافة ملك، وكلّ ظلّ فهو ملكه، كذا قال، وكان حقّه أن يقول: إضافة تشريف؛ ليحصل امتياز هذا على غيره، كما قيل للكعبة: بيت الله، مع أن المساجد كلها ملكه، وقيل: المراد بظله كرامته، وحمايته، كما يقال: فلان في ظل الملك، وهو قول عيسى بن دينار، وقَوّاه عياض، وقيل: المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان رضي الله عنه عند سعيد بن منصور، بإسناد حسن: "سبعة يظلهم الله في ظل عرشه

" فذكر الحديث، وإذا كان المراد ظل العرش، استلزم ما ذُكر من كونهم في كنف الله، وكرامته، من غير عكس، فهو أرجح، وبه جزم القرطبيّ.

قال الحافظ: ويؤيده أيضًا تقييد ذلك بيوم القيامة، كما صرح به ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر، وهو عند البخاريّ في "كتاب الحدود"، وبهذا يندفع قول من قال: المراد ظل طوبى، أو ظل الجنة؛ لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة، ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن

(1)

راجع: "الفتح" 2/ 366 - 367.

(2)

وهو أيضًا عند البخاريّ في كتاب "الحدود".

ص: 551

المراد ظل العرش، وروى الترمذي وحسّنه، من حديث أبي سعيد، مرفوعًا:"أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأقربهم منه مجلسًا، إمام عادل".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الصحيح كون المراد بقوله: "إلا ظلّه" ظل العرش؛ لأن خير ما فُسّر به الوارد هو الوارد، كما أشار إليه السيوطيّ في "ألفية الحديث" بقوله:

وَخَيْرُهُ مَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أوْ

عَنِ الصَحَابِيِّ وَرَاوٍ قَدْ حَكَوْا

الأول: (الْإمَامُ الْعَادِلُ) وهو اسم فاعل من العدل، وذكر ابن عبد البرّ، أن بعض الرواة عن مالك، رواه بلفظ:"العدل"، قال: وهو أبلغ؛ لأنه جعل المسمى نفسه عدلًا، والمراد به صاحب الولاية العظمى، وَيلتحق به كل من وَليَ شيئًا من أمور المسلمين، فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، رفعه:"إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا"، وأحسن ما فُسّر به العادل: أنه الذي يَتَّبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط، ولا تفريط، وقدّمه في الذكر؛ لعموم النفع به.

(وَ) الثاني (شَابٌّ) خَصَّ الشاب؛ لكونه مظنة غلبة الشهوة؛ لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فإن ملازمة العبادة، مع ذلك أشدُّ، وأدل على غلبة التقوى (نَشَأَ) أي نبت، وابتدأ؛ أي لم يكن له صبوة، وهو الذي قال فيه في الحديث الآخر:"يَعْجَبُ ربّك من صبيّ، ليست له صَبْوة"

(1)

، رواه أحمد، وإنما كان ذلك لغلبة التقوى التي بسببها ارتفعت الصبوة

(2)

. (بعِبَادَةِ اللهِ) عز وجل، ولفظ البخاريّ:"في عبادة ربه"، زاد حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر:"حتى تُوُفّي على ذلك"، أخرجه الجوزقي، وفي حديث سلمان رضي الله عنه:"أفنى شبابه، ونشاطه في عبادة الله".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وشابّ نشأ بعبادة الله" كذا الرواية بالباء، وهذه الباء هي باء المصاحبة، كما تقول: جاء زيد بسلاحه؛ أي مصاحبًا له،

(1)

رواه أحمد في "مسنده" 4/ 151 وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.

(2)

"المفهم" 3/ 75.

ص: 552

وَيحْتَمِلُ أن تكون بمعنى "في"، كما قد تكون "في" بمعنى الباء في مثل قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. انتهى

(1)

.

(وَ) الثالث (رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ) أي يحبّ الكون فيها للصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، وهذا إنما يكون ممن استغرقه حبّ الصلاة، والمحافظة عليها، وشُغِف بها

(2)

.

قال في "الفتح": وظاهره أنه من التعليق، كأنه شبّهه بالشيء المعلَّق في المسجد، كالقنديل مثلا؛ إشارةً إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجًا عنه، ويدل عليه رواية الجوزقي:"كأنما قلبه معلق في المسجد"، وَيحْتَمِل أن يكون من العَلاقة، وهي شدّة الحب، ويدل عليه رواية أحمد:"معلق بالمساجد"، وكذا رواية سلمان:"من حبها"، ولفظ الحموي والمستملي:"مُتَعَلِّق" بزيادة مثناة بعد الميم، وكسر اللام، زاد سلمان:"من حبها"، وزاد مالك في روايته التالية:"إذا خرج منه حتى يعود إليه".

(وَ) الرابع (رَجُلَانِ تَحَابَّا) بتشديد الباء، وأصله تحاببا: أي اشتركا في جنس المحبة، وأحبّ كل منهما الآخر حقيقةً، لا إظهارًا فقط، ووقع في رواية حماد بن زيد:"ورجلان قال كل منهما للآخر: إني أحبك في الله، فصدرا على ذلك"، ونحوه في حديث سلمان.

(فِي اللهِ) أي لأجل الله عز وجل، لا لغرض دنيويّ، وكلمة "في" سببيّة.

(اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) أي على الحب المذكور، والمراد أنهما داما على المحبة الدينية، ولم يقطعاها بعارض دنيويّ، سواءٌ اجتمعا حقيقةً، أم لا، حتى فرّق بينهما الموت، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ: أي داما على المحبّة الصادقة الدينيّة المبرّأة عن الأغراض الدنيويّة، ولم يقطعاها بعارض في حال اجتماعهما، ولا حال افتراقهما. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 3/ 75.

(2)

"المفهم" 3/ 76.

(3)

"المفهم" 3/ 76.

ص: 553

ووقع في الجمع للحميديّ: "اجتمعا على خير"، قال الحافظ: ولم أر ذلك في شيء من نسخ "الصحيحين"، ولا غيرهما من "المستخرجات"، وهي عندي تحريف.

[تنبيه]: عُدّت هذه الخصلة واحدة، مع أن متعاطيها اثنان؛ لأن المحبة لا تتم إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحد، كان عدّ أحدهما مغنيًا عن عدّ الآخر؛ لأن الغرض عدّ الخصال، لا عدّ جميع من اتصف بها.

(وَ) الخامس (رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ) أي عَرَضت نفسها عليه للفاحشة بها، و"المنصب" -بكسر الصاد المُهملة-: الأصل، أو الشرف، وفي رواية مالك:"دعته ذات حسب"، وهو يطلق على الأصل، وعلى المال أيضًا، وقد وصفها بأكمل الأوصاف، التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه، وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال مع الجمال، وقلّ من يجتمع ذلك فيها من النساء، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ: وخصّ ذات الجمال؛ لكثرة الرغبة فيها، وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيما وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاقّ التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى، وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب، وأعظم الطاعات، فرتّب الله تعالى عليه أن يُظلّه، وذات المنصب هي ذات الحسب، والنسب الشريف. انتهى

(1)

.

ومُتعلَّق "دعته" محذوف في رواية المصنّف، وقد ذكره في رواية النسائيّ بقوله:"إِلَى نَفْسِهَا"، وفي رواية البيهقي في "الشعب"، من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة:"فعرضت نفسها عليه"، والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة، وبه جزم القرطبي، ولم يحك غيره، وقال بعضهم: يَحْتَمِل أن تكون دعته إلى التزوج بها، فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها؛ لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها، والأول أظهر، ويؤيده وجود الكناية في قوله:"إلى نفسها"، ولو كان المراد التزويج لصرّح به، والصبر عن الموصوفة بما ذُكر من أكمل المراتب؛ لكثرة الرغبة في مثلها، وعسر تحصيلها،

(1)

"شرح مسلم" 7/ 122.

ص: 554

لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ: ومعنى قوله: "دعته": أي دعته إلى الزنا بها، هذا هو الصواب في معناه، وذكر القاضي فيه احتمالين: أصحّهما هذا، والثاني: أنه يَحْتَمِل أنها دعته لنكاحها، فخاف العجز عن القيام بحقّها، أو أن الخوف من الله تعالى شغله عن لذّات الدنيا، وشهواتها. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ) عز وجل، زاد في رواية كريمة للبخاريّ:"فقال: إني أخاف الله رب العالمين"، والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه، إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها، ويَحْتَمِل أن يقوله بقلبه.

قال القرطبي رحمه الله: وقول المدعوّ في مثل هذا: "إني أخاف الله"، وامتناعه لذلك دليل على عظيم معرفته بالله تعالى، وشدّة خوفه من عقابه، ومتين تقواه، وحيائه من الله تعالى، وهذا هو المقام اليوسفيّ. انتهى

(2)

.

(وَ) السادس (رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ) نَكّرها ليشمل كل ما يُتصدق به من قليل، وكثير، وظاهره أيضًا يشمل المندوبة والمفروضة، لكن نقل النوويّ عن العلماء، أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ: هذه صدقة التطوّع في قول ابن عبّاس، وأكثر العلماء، وهو حضّ على الإخلاص في الأعمال، والتستّر بها، ويستوي في ذلك جميع أعمال البرّ التطوّعيّة، فأما الفرائض، فالأولى إشاعتها، وإظهارها؛ لتنحفظ قواعد الدين، ويجتمع الناس على العمل بها، فلا يضيع منها شيء، ويظهر بإظهارها جمال دين الإسلام، وتُعْلَم حدوده، وأحكامه، والإخلاص واجبٌ في جميع القُرَب، والرياء مفسدٌ لها. انتهى

(3)

.

(فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ) يجوز فيه الرفع، والنصب، على تقدير كونه حالًا، أو مستقبلًا؛ لأن "حتى" إذا وقع المضارع بعدها، فإن كان مستقبلًا، كقولك: سرتُ حتى أدخلُ البلد، وكان قولك قبل الدخول وجب رفعه، وإن قلته، وأنت داخل، أو بعد الدخول، وقصدت به حكاية تلك الحال وجب نصبه، وإلى ذلك أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 122.

(2)

"المفهم" 3/ 76.

(3)

"المفهم" 3/ 76.

ص: 555

وَتِلْوَ "حَتَّى" حَالًا اوْ مُؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

و"تعلم" يَحْتَمِل الوجهين، فلذا جاز فيه وجهان.

(يَمِينُهُ مَما تُنْفِقُ شِمَالُهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات نسخ مسلم:"لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، والصحيح المعروف:"حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، هكذا رواه مالك في "الموطأ"، والبخاري في "صحيحه"، وغيرهما من الأئمة، وهو وجه الكلام؟ لأن المعروف في النفقة فعلها باليمين، قال القاضي: ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم، لا من مسلم بدليل إدخاله بعده حديث مالك رحمه الله، وقال: بمثل حديث عبيد الله، وبَيَّن الخلاف في قوله:"وقال: رجل مُعَلَّق بالمسجد؛ إذا خرج منه حتى يعود"، فلو كان ما رواه مخالفًا لرواية مالك لَنَبَّهَ عليه، كما نَبَّه على هذا. انتهى

(1)

، وسيأتي الكلام في البحث في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

وفي رواية البخاريّ: "ورجل تصدّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه".

وقوله: (فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ) مرفوع على الفاعليّة، وقوله:(مَا تُنفق يَمِينُهُ) منصوب على المفعوليّة، وإنما ذكر اليمين، والشمال؛ للمبالغة في الإخفاء والإسرار بالصدقة، وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال، ولملازمتهما، ومعناه: لو قُدّرت الشمال رجلًا متيقّظًا لَمَا عَلِمَ صدقة اليمين لمبالغته في الإخفاء. وقيل: المراد مَن على شماله من الناس، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا مبالغة في إخفاء الصدقة، وقد سمعنا من بعض المشايخ أن ذلك أن يتصدّق على الضعيف في صورة المشتري منه، فيدفع له درهمًا مثلًا في شيء يُساوي نصف درهم، فالصورة مبايعة، والحقيقة صدقة، وهو اعتبارٌ حسن. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 122.

(2)

"عمدة القاري" 4/ 353.

(3)

"المفهم" 3/ 77.

ص: 556

وقال في "الفتح": المقصود منه المبالغة في إخفاء الصدقة، بحيث إن شماله مع قربها من يمينه، وتلازمهما لو تُصُوِّر أنها تعلم لَمَا عَلِمَت ما فَعَلت اليمين؛ لشدة إخفائها، فهو على هذا من مجاز التشبيه، ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزقي:"تصدق بصدقة، كأنما أخفى يمينه من شماله".

ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف، والتقدير: حتى لا يعلم ملك شماله، وأَبعَدَ من زَعَمَ أن المراد بشماله نفسه، وأنه من تسمية الكل باسم الجزء، فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه.

وقيل: هو من مجاز الحذف، والمراد بشماله مَنْ على شماله من الناس، كأنه قال: مجاور شماله.

وقيل: المراد أنه لا يرائي بصدقته، فلا يكتبها كاتب الشمال.

وحَكَى القرطبيّ عن بعض مشايخه أن معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه، وفيه نظر، إن كان أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة، وإن أراد أن هذا من صور الصدقة المخفية فمسلّم، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(وَ) السابعِ (رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ) أي بقلبه من التذكر، أو بلسانه من الذكر، حال كونه (خَالِيًا) أي من الخلق؛ لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء، أو المراد: خاليًا من الالتفات إلى غير الله تعالى، ولو كان في ملأ، ويؤيّده رواية البيهقيّ:"ذكر الله بين يديه"، ويؤيّد الأول رواية ابن المبارك، وحماد بن زيد:"ذكر الله في خلاء": أي في موضع خال، وهي أصحّ، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ") أي فاضت الدموع من عينيه، وأسند الفيض إلى العين مبالغةً، كأنها هي التي فاضت، قال القرطبيّ رحمه الله: وفيض العين بكاؤها وهو على حَسَب حال الذاكر، وبحسب ما يُكْشَف له، من أوصافه تعالى، فإن انكشف له غضبه، فبكاؤه عن خوف، وإن انكشف له جماله وجلاله، فبكاؤه عن محبّة وشوق، وهكذا يتلوّن الذاكرون بتلوّن ما يُذْكَر من الأسماء والصفات. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 2/ 366.

(2)

"الفتح" 2/ 508.

(3)

"المفهم" 3/ 77.

ص: 557

قال الحافظ: قد خص في بعض الروايات بالأول، ففي رواية حماد بن زيد عند الجوزقي:"ففاضت عيناه من خشية الله"، ونحوه في رواية البيهقي، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه، مرفوعًا:"من ذكر الله، ففاضت عيناه من خشية الله، حتى يصيب الأرض من دموعه، لم يُعَذَّب يوم القيامة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 2380 و 2381](1031)، و (البخاريّ) في "الأذان"(660) و"الزكاة"(1423) و"الرقاق"(6479) و"الحدود"(6806)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2391)، و (النسائيّ) في "آداب القضاة"(5382) و"الكبرى"(5921)، و (مالك) في "الموطّأ"(1777)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 323)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 439)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(358)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 103 - 104)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(10/ 338)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 65 و 4/ 190 و 10/ 87)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الإمام العادل.

2 -

(ومنها): فضل من سَلِمَ من الذنوب، واشتغل بطاعة ربّه طول عمره.

3 -

(ومنها): فضيلة ملازمة المسجد للصلاة فيها مع الجماعة؛ لأن المسجد بيت الله، وحقيق على المزور أن يكرم زائره، فكيف بأكرم الأكرمين.

4 -

(ومنها): الحثّ على التحابّ في الله عز وجل، وبيان عظيم فضله، وهو من المهمّات، فإن الحبّ في الله، والبغض في الله من الإيمان، وهو بحمد الله تعالى كثير، يوفّق له أكثر الناس، أو من وُفّق له، قاله النوويّ رحمه الله.

5 -

(ومنها): فضيلة الخوف من الله سبحانه وتعالى، ودفع شهوة النفس؛ خوفًا منه،

ص: 558

قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 - 41]، وقال عز وجل:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46].

6 -

(ومنها): فضل صدقة السرّ، قال الله عز وجل:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].

7 -

(ومنها): فضيلة البكاء من خشية الله سبحانه وتعالى، وفضل طاعة السرّ؛ لكمال الإخلاص فيها.

8 -

(ومنها): فضيلة ذكر الله عز وجل في الخلوات، مع فيضان الدمع من عينيه، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، والحاكم بإسناد صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنّم في منخري مسلم أبدًا".

وبالجملة فالحديث عظيم الفائدة، جسيم العائدة، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث جدير بأن يُنْعَم فيه النظر، ويُستخرَج ما فيه من اللطائف، والعِبَر، والله الموفّق الملهم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف الرواية في قوله: "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، كما هو عند الشيخين: قال في "الفتح": هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره، ووقع في "صحيح مسلم" مقلوبًا:"حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، وهو نوع من أنواع علوم الحديث، أغفله ابن الصلاح، وإن كان أفرد نوع المقلوب، لكنه قصره على ما يقع في الإسناد، ونبه عليه شيخنا -يعني البلقينيّ- في "محاسن الاصطلاح"، ومثّل له بحديث:"إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل"، وقد قدمنا الكلام عليه في "كتاب الأذان"، وقال شيخنا: ينبغي أن يسمى هذا النوع: المعكوس. انتهى.

(1)

"المفهم" 3/ 77.

ص: 559

قال الحافظ: والأولى تسميته مقلوبًا، فيكون المقلوب تارة في الإسناد، وتارة في المتن كما قالوه في المدرج سواء، وقد سمّاه بعض من تقدم مقلوبًا، قال عياض: هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من "صحيح مسلم"، وهو مقلوب، والصواب الأول، وهو وجه الكلام؛ لأن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين، وقد ترجم عليه البخاري في "الزكاة":"باب الصدقة باليمين"، قال: ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم، بدليل قوله في رواية مالك، لَمّا أوردها عقب رواية عبد الله بن عمر، فقال بمثل حديث عبيد الله، فلو كانت بينهما مخالفة لبيّنها، كما نبّه على الزيادة في قوله:"ورجل قلبه مُعَلَّق بالمسجد؛ إذا خرج منه حتى يعود إليه". انتهى.

قال الحافظ: وليس الوهم فيه ممن دون مسلم، ولا منه، بل هو من شيخه، أو من شيخ شيخه يحيى القطان، فإن مسلما أخرجه، عن زهير بن حرب، وابن نمير كلاهما عن يحيى، وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير، وكذا أخرجه أبو يعلى في "مسنده" عن زهير، وأخرجه الجوزقي في "مستخرجه" عن أبي حامد ابن الشرقي، عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، عن يحيى القطان كذلك، وعَقّبَه بأن قال: سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول: يحيى القطان عندنا واهم في هذا، إنما هو:"حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".

قال الحافظ: والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر؛ لأن الإمام أحمد، قد رواه عنه على الصواب، وكذلك أخرجه البخاري هنا، عن محمد بن بشار، وفي "الزكاة" عن مسدد، وكذا أخرجه الإسماعيلي، من طريق يعقوب الدَّوْرقي، وحفص بن عمر، وكلهم عن يحيى، وكأن أبا حامد لَمّا رأى عبد الرحمن، قد تابع زهيرًا، ترجح عنده أن الوهم من يحيى، وهو مُحْتَمِل بان يكون منه لَمّا حدَّث به هذين خاصة، مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه.

وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة، وليس بجيد؛ لأن المخرج مُتّحد، ولم يختلف فيه على عبيد الله بن عمر، شيخ يحيى فيه، ولا على شيخه خُبيب، ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه.

وأما استدلال عياض على أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية

ص: 560

مالك: مثل عبيد الله، فقد عكسه غيره، فواخذ مسلمًا بقوله: مثل عبيد الله؛ لكونهما ليستا متساويتين، والذي يظهر أن مسلمًا لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ والترتيب، بل هو في المعظم؛ إذا تساويا في المعنى، والمعنى المقصود من هذا الموضع، إنما هو إخفاء الصدقة، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر الحافظ رحمه الله، وحاصل ما قرّره أن القلب وقع من شيخ المصنّف، أو من شيخ شيخه، ولا يخفى بعده، والذي يظهر لي أن ما قاله القاضي عياضٌ رحمه الله هو الأقرب، بل الأولى أن تقول: إن القلب وقع من المصنّف سهوًا، أو ممن بعده، لا ممن قبله، كشيخه، وشيخ شيخه، وأقوى دليل على ذلك أن المصنّف أورد رواية مالك بعد هذا، ثم بيّن أنها مثلُ رواية عُبيد الله إلا في قوله:"ورجلٌ معلّق بالمسجد؛ إذا خرج منه حتى يعود إليه"، فلو كان هذا القلب واقعًا ممن فوقه لكان هوأشدّ حاجة إلى التنبيه عليه من قوله: "ورجل

إلخ"، وكيف ينبّه على ما لا اختلاف فيه في المعنى، ويترك التنبيه على الاختلاف الذي يتغيّر به المعنى؟ وهذا من البعد بمكان.

وأما تقوية الحافظ ما ذهب إليه بأن مسلمًا لا يقصر لفظ المثل على المساوي

إلخ، فمما لا يخفى تكلّفه، سلّمنا أنه لا يقصر ذلك على المساوي، ولكن لماذا يعدل عن التنبيه على الخطأ إلى التنبيه إلى ما لا خطأ فيه؟ وهذا أمر بعيد كلّ البعد، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2381]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَوْ عَنْ

(1)

"الفتح" 2/ 365، كتاب "الأذان" رقم (660).

ص: 561

أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ، وَقَالَ:"وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ، اِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة الحجة الفقيه المشهور [7](ت 179)(ت) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(أبو سعيد الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان رضي الله عنه، تقدّم في "شرح المقدّمة" 2/ 470.

والباقون ذُكرُوا قبله.

[تنبيه]: رواية مالك، عن خبيب هذه ساقها في "الموطّأ"، فقال:

(1501)

- وحدّثني عن مالك، عن خبيب بن عبد الرحمن الأنصاريّ، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد الخدريّ، أو عن أبي هريرة، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يُظِلّهم الله في ظلّه يوم لا ظِلّ إلا ظله: إمامٌ عادلٌ، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعَلَّق بالمسجد؛ إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا على ذلك، وتفرقا، ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه، ورجل دعته ذات حسب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(32) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ الصَّحِيحِ الشَّحِيحِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2382]

(1032) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: "أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ،

ص: 562

تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

2 -

(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

3 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، أو عمرو، أو غير ذلك، ثقة [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فبغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسميته، وَيحْتَمِل أن يكون أبا ذرّ رضي الله عنه، ففي "مسند أحمد" عنه، أنه سأل: أيّ الصدقة أفضل؟، لكن في الجواب:"جُهْدٌ من مُقِلّ، أو سرٌّ إلى فقير"، وكذا رواه الطبرانيّ من حديث أبي أُمامة، أنّ أبا ذرّ سأل، فأُجيب. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال مما لا يخفى بُعْده؛ لاختلاف الجوابين، فالظاهر أن السائل هنا غير أبي ذرّ رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟) مبتدأٌ وخبره، وفي رواية ابن فُضيل، عن عُمارة التالية:"أيُّ الصدقة أعظم أجرًا"، وفي رواية عبد الواحد، عن عُمارة الآتية:"أيُّ الصدقة أفضل".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن فُضيل:"أما وأبيك لتُنبّأنّه"("أَنْ تَصَدَّقَ) يَحْتَمِل أن يكون بتشديد الصاد المهملة، وأصله: تتصدّق، فأدغمت التاء بعد

ص: 563

قلبها في الصاد، وَيحْتَمِل أن يكون بتخفيف الصاد، وحذف إحدى التاءين، وأصله تتصدّق، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ

وهو في تأويل المصدر خبر لمحذوف؛ أي هي صدقتك، أو مبتدأ خبره محذوفٌ: أي صدقتك، وأنت صحيح

إلخ أفضل أنواع الصدقة، والله تعالى أعلم.

(وَأَنْتَ صَحِيحٌ) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال؛ أي والحال أنك صحيح، والمراد بالصحيح في هذا الحديث من لم يدخل في مرض مخوف، كذا قيل.

(شَحِيحٌ) صفة لـ"صحيحٌ"، أو خبر بعد الخبر؛ أي من شأنه الشّحّ للحاجة إلى المال، وقال ابن الملك: قوله: "شحيح" تأكيد، وبيانٌ لـ"صحيحٌ"؛ لأن الرجل في حال صحّته يكون شحيحًا، وفي رواية للبخاريّ في "الوصايا":"وأنت صحيحٌ حريصٌ".

قال في "القاموس": الشحّ -مثلّثة-: البخل والحرص. انتهى.

وقال في "اللسان": الشُّحُّ -أي بالضمّ- والشَّحّ -أي بالفتح-: البُخْلُ، والضمّ أعلى. وقيل: هو البخل مع الحرص، وفي الحديث:"إيّاكم والشّحّ"

(1)

، والشحّ أشدّ البخل، وهو أبلغ في المنع من البخل، وقيل: البخل في أفراد الأمور، وآحادها، والشحّ عامّ، وقيل: البخل بالمال، والشحّ بالمال

(1)

حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفُحْش، فإن الله لا يحب الفُحْش، ولا التفحش، وإياكم والشُّحّ فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقَطَعُوا، وبالبخل فبَخِلوا، وبالفجور ففَجَروا"، قال: فقام رجل، فقال: يا رسول الله أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: "أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك"، قال ذلك الرجل أو رجل آخر: يا رسول الله فأيُّ الهجرة أفضل؟ قال: "أن تهجر ما كَرِهَ الله، والهجرة هجرتان: هجرة الحاضر والبادي، فأما البادي فيطيع إذا أُمِر، ويجيب إذا دُعِي، وأما الحاضر فأعظمهما بليَّةً، وأعظمهما أجرًا"، هذا لفظ الإمام أحمد رحمه الله.

ص: 564

والمعروف. انتهى. وقال في "المصباح": شَحَّ يَشُحُّ، من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب، وتَعِبَ، فهو شَحِيحٌ، وقومٌ أشحّاءُ، وأشحّة. انتهى.

وقال في "الفتح": قال صاحب "المنتهى": الشّحّ: بُخلٌ مع حرص، وقال صاحب "المحكم":"الشّحّ " مثلّثٌ الشين، والضمّ أعلى، وقال صاحب "الجامع": كأنّ الفتح في المصدر، والضمّ في الاسم. انتهى

(1)

.

وقال الخطابيّ رحمه الله: الشحُّ أعمّ من البخل، وكأن الشحّ جنس، والبخل نوعٌ، وأكثر ما يقال البخل في أفراد الأمور، والشح عامّ، كالوصف اللازم، وما هو مِن قِبَل الطبع، قال: فمعنى الحديث: أن الشح غالب في حال الصحة، فإذا شَحَّ فيها، وتصدّق كان أصدق في نيته، وأعظم لأجره، بخلاف من أشرف على الموت، وأَيِسَ من الحياة، ورأى مصير المال لغيره، فإن صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة والشحّ رجاءَ البقاء، وخوف الفقر. انتهى

(2)

.

(تَخْشَى الْفَقْرَ) بإخراج المال من يدك، والجملة خبر بعد خبر، أو حالٌ بعد حال، أو مستأنفةٌ، سيقت لبيان حال الصحيح، والمراد أن تقول في نفسك: لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرًا، فتحتاج إلى الناس.

(وَتَأْمُلُ الْغِنَى) أي ترجوه، وتطمع فيه، وتقول: أترك مالي في بيتي؛ لأكون غنيًّا، ويكون لي عزّ عند الناس بسببه.

قال في "القاموس": الأَمَلُ، كجَبَلٍ، ونَجْمٍ، وشِبْرٍ: الرجاء، جمعه آمالٌ، وأَمَلَهُ أَمْلًا، وأَمَّلَه: رجاه. انتهى. وقال في "المصباح": أَمَل يأمُلُ أَمَلًا، من باب طَلَب: ترَقّبه، وأكثر ما يُستعمل الأمَلُ فيما يُستبعَدُ حصوله، قال كعب بن زُهَير بن أبي سُلْمَى [من البسيط]:

أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدَّتُهَا

وَمَا إِخَالُ لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ

ومَنْ عَزَمَ على السفر إلى بلد بعيدٍ يقول: أَمَلْتُ الوصولَ، ولا يقولُ: طَمِعْتُ إلا إذا قرب منها، فإن الطمع لا يكون إلا فيما قرُبَ حصوله، والرجاء بين الأمل والطمع، فإنّ الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله، ولهذا يُستعمل بمعنى الخوف، فإذا قوي الخوف استُعمل استعمالَ الأمل، وعليه بيت كعب بن

(1)

"الفتح" 4/ 239.

(2)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 123.

ص: 565

زُهير، وإلا استُعمل بمعنى الطمع، فأنا آمِلٌ، وهو مأمولٌ على فاعل ومفعول، وأَمّلته تأميلًا مبالغةٌ وتكثيرٌ، وهو أكثر من استعمال المخفّف. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المناسب هنا كون الأَمَل بمعنى الرجاء، والله تعالى أعلم.

وفي رواية النسائيّ: "تأمل العيش"، و"العيش" -بفتح، فسكون-: الحياة؛ أي ترجو الحياة.

وانما خصّ هاتين الحالتين، وهما أمل الغنى، وخشية الفقر؛ لأنّ الصدقة في هاتين الحالتين أشدّ مُراغمةً للنّفس.

(وَلَا تُمْهِلَ) يجوز فيه الجزم، على أنه نهيٌ عن الإمهال، والرفع على أنه نفي له، وهو بمعنى النهي الأكيد، ويجوز النصب عطفًا على "أن تصدّقَ".

(حَتَّى اِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) كلمة "حتّى" للغاية، والضمير في "بَلَغَت" يرجع إلى الروح، بدلالة سياق الكلام عليه، والمراد منه قارَبَتِ البلوغَ؛ إذ لو بلغته حقيقةً، لم تصحّ وصيّته، ولا شيءٌ من تصرّفاته.

و"الْحُلْقُوم": هو الحلق، وفي "المخصّص" عن أبي عُبيدة: هو مجرى النفس، والسعال من الجوف

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى إذا بلغت الحلقوم" أي النفس، ولم يَجْرِ لها ذكرٌ، لكن دلّ عليها الحال، كما قال تعالى:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} [الواقعة: 83] ومعناه: قاربت الحلقوم، فلو بلغته لم تأت منه وصيّة ولا غيرها، والحلقوم: الحلق. انتهى

(2)

.

(قُلْتَ لِفُلَانٍ) كناية عن الموصى له (كَذَا) كناية عن الموصى به، والجملة من المبتدأ والخبر مقول:"قلتَ" ومعنى قوله: (وَلِفُلَانٍ كَذَا) هو كسابقه (أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه (وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ") جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي وقد صار المال الذي تتصرّف فيه في هذه الحالة لفلان، وهو الوارث، فإن ثلثيه حقّ له، وأنت تتصدّق بجميعه، فكيف يُقبل منك؟ و"فلان" كناية عن الموصَى له.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 8/ 280.

(2)

"المفهم" 3/ 78.

ص: 566

وقال القسطلانيّ رحمه الله: أي وقد صار ما أوصى به للوارث، فيُبطله إن شاء إذا زاد على الثلث، أو أوصى به لوارث آخر.

وقيل: المعنى: أنه قد خرج عن تصرّفه، وكمال ملكه، واستقر له بما شاء من التصرّف، فليس له في وصيّته كبير ثواب، وكثير فضل بالنسبة إلى صدقة الصحيح الشحيح.

وحاصل معنى الحديث أنّ أفضل الصدقة أن تتصدّق في حال حياتك، وصحّتك، مع احتياجك إلى المال، واختصاصه بك، وشحّ نفسك به، بأن تقول لك: لا تُتلف مالك كيلا تصير فقيرًا، لا في حال سقمك، وسياقِ موتك؛ لأنّ المالَ حينئذٍ خرج عنك، وتعلّق بغيرك؛ يعني أن أعظم الصدقة أجرًا أن تصدّق حال حاجتك، فإن الصدقة في هذه الحالة أشدّ مراغمة للنفس؛ لأن فيه مجاهدة النفس على إخراج المال الذي هو شقيق الروح مع قيام مانع الشحّ، وليس هذا إلا من قوّة الرغبة في القربة إلى الله عز وجل، وصحّة العقد، فكان أفضل، وأعظم أجرًا من غيره.

وقال في "الفتح": قوله: "قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال، وقال الخطّابيّ رحمه الله: فلانٌ الأول، والثاني الموصَى له، وفلان الأخير الوارث؛ لأنه إن شاء أبطله، وإن شاء أجازه.

وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالجميع من يُوصَى له، وإنما أدخل "كان" في الثالث إشارةً إلى تقدير القدَرِ له بذلك.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون الأول الوارثَ، والثاني المورّث، والثالث الموصَى له.

قال الحافظ رحمه الله: وَيحْتَمِل أن يكون بعضها وصيّةً، وبعضها إقرارًا، وقد وقع في رواية ابن المبارك، عن سفيان، عند الإسماعيليّ:"قلتَ: اصنعوا لفلان كذا، وتصدّقوا بكذا".

ووقع في حديث بُسْر بن جِحَاش -بضمّ الموحّدة، وسكون المهملة، وأبوه بكسر الجيم، وتخفيف المهملة، وآخره شينٌ معجمةٌ- عند أحمد،

ص: 567

وابن ماجه، بإسناد صحيح، واللفظ لابن ماجه:"بزق النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفّه، ثمّ وضع إصبعه السبّابة، وقال: يقول الله: أنَّى تُعجِزني ابنَ آدم، وقد خلقتك من قبلُ، من مثل هذه، فإذا بلغت نفسك إلى هذه -وأشار إلى حلقه- قلت: أتصدّق، وأنّى أوانُ الصدقة؟ ". وزاد في رواية أحمد: "حتى إذا سوّيتك، وعدلتك، مشيت بين بُردين، وللأرض منك وئيدٌ

(1)

، وجمعتَ، ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: لفلان كذا، وتصدّقوا بكذا"، أفاده في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 2382 و 2383 و 2384](1032)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1419) و"الوصايا"(2748)، و (أبو داود) في "الوصايا"(2865)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2542) وفي "كتاب الوصايا"(2637) وفي "الكبرى"(2322 و 6438)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2706)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 54 و 55)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 106)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 231 و 250 و 415 و 447)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2454)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 104)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 105 و 125)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9/ 92)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 465 و 479)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 214)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 189 و 190)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1671)، والله تعالى أعلم.

(1)

الوئيد: صوت شدّة الوطء على الأرض.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 26. ونقلته بتصرّف.

ص: 568

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواب سؤال من سأل أيّ الصدقة أفضل؟، وهو أنه ما كان في حال الصحّة.

2 -

(ومنها): أنه يدلّ على أن المرض يَقْصُرُ يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سِمَةَ البخل، ولذلك شَرَطَ أن يكون صحيح البدن، شحيحًا بالمال، يجد له وقعًا في قلبه؛ لما يأمله من طول العمر، ويخاف من طول الفقر.

3 -

(ومنها): أن تنجيز الصدقة، ووفاء الدين في الحياة، وحال الصحّة أفضل منه بعد الموت، وفي المرض، كما أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله:"وأنت صحيحٌ، شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر"؛ لأنه في حال الصحّة يصعُب عليه إخراج المال غالبًا لما يخوّفه به الشيطان، وُيزيّن له، من إمكان طول العمر، والحاجة إلى المال، كما قال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية [البقرة: 268]. وأيضًا، فإن الشيطان ربّما زيّن له الْحَيْفَ في الوصيّة، أو الرجوع عن الوصيّة، فيتمحّض تفضيل الصدقة الناجزة.

قال بعض السلف عن بعض أهل التّرَف: يعصون الله في أموالهم مرّتين، يبخلون بها، وهي في أيديهم -يعني في الحياة- ويُسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم -يعني بعد الموت-

(1)

.

وأخرج الترمذيّ، بإسناد حسن، وصححه ابن حبّان، عن أبي الدرداء، مرفوعًا، قال:"مثلُ الذي يُعتقُ، ويتصدّق عند موته، مثلُ الذي يُهدي إذا شَبع"، وهو يرجع إلى معنى حديث الباب.

وروى أبو داود، وصححه ابن حبّان، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مرفوعًا: "لأن يتصدّق الرجل في حياته، وصحّته بدرهم، خيرٌ

(1)

وعبارة العينيّ في "عمدته" 8/ 281: ولَمّا بلغ ميمون بن مِهْرَان أنّ رقيّة امرأة هشام ماتت، وأعتقت كلّ مملوك لها، قال: يعصون الله في أموالهم مرّتين، يبخلون بما في أيديهم، فإذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها. انتهى.

ص: 569

له من أن يتصدّق عند موته بمائة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2383]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ: "أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ، أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَلَا تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوَان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أما" استفتاح للكلام، و"أبيك" قسمٌ، ومقسم به، وتقدّم الكلام على القسم بالأب في "كتاب الإيمان"، والمقسم عليه "لتُنبّأَنّه" مبنيًّا للمفعول؛ أي لتُخْبَرنّ به حتى تعلمه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قد يقال: حلف بأبيه، وقد نَهَى عن الحلف بغير الله، وعن الحلف بالآباء، والجواب أن النهي عن اليمين بغير الله لمن تعمَّده، وهذه اللفظه الواقعة في الحديث تجري على اللسان من غير تعمّد، فلا تكون يمينًا ولا منهيًّا عنها، كما سبق بيانه في "كتاب الإيمان". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المفهم" 3/ 78.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 124.

ص: 570

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2384]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ، غَيْرَ أنَهُ قَالَ: (أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقي ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الواحد بن زياد، عن عُمارة بن القعقاع هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(2865)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا عبد الواحد بن زياد، حدّثنا عُمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: "أن تصدّق وأنت صحيحٌ حريصٌ، تأمل البقاء، وتخشى الفقر، ولا تُمْهِل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(33) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَأَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ الآخِذَةُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2385]

(1033) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ عَلَى

ص: 571

الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ، وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ:"الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة الفقيه الحجة الثبت [7](ت 179)(ع) تقدّم "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عُمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما، مات (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (149) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فبَغْلانيّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2635) حديثًا.

5 -

(ومنها): أن هذا السند أصحّ الأسانيد على الإطلاق، على ما نقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ) الجملتان حاليّتان؛ أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم قائم، على المنبر النبويّ، وهو يذكر للناس الصدقة وفضلها، ويحضّ الأغنياء عليها (وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلةِ) بالنصب عطفًا على "الصدقة"؛ أي ويذكر للفقراء التعفّف عن مسألة الناس، والتعفف مصدر تعفّف بمعنى استعفّ، كتعجّل بمعنى استعجل، قال في "النهاية": الاستعفاف: طلب العفاف، والتعفّف: هو الكفّ عن الحرام،

ص: 572

والسؤال من الناس، وقيل: الاستعفاف: الصبر، والنزاهة عن الشيء. انتهى

(1)

.

وحاصل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فحَضّ في خطبته الأغنياء على أن يتصدّقوا على الفقراء، وحضّ الفقراء على يتعفّفوا عن مسألة الناس، أو يحضّهم على التعفّف، وذمّ مسألة الناس.

("الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) هذه الجملة هي مقول "قال". أي قال صلى الله عليه وسلم، والحال أنه على المنبر، وهو يذكر الصدقة، والتعفّف عن المسألة:"اليدُ العليا خير من اليد السفلى"، ثم فسّر معنى كلامه هذا بقوله:(وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ") قال أبو داود رحمه الله: قال الأكثر عن حماد بن زيد: "المنفقة"، وقال واحد عنه:"المتعفّفة"، وكذا قال عبد الوارث، عن أيوب. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: فأما الذي قال عن حماد: "المتعفّفة" -بالعين، وفاءين- فهو مسدّدٌ، كذلك رويناه في "مسنده"، رواية معاذ بن المثنّى عنه، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البرّ في "التمهيد"، وقد تابعه على ذلك أبو الرَّبِيع الزَّهْرانيّ، كما رويناه في "كتاب الزكاة" ليوسف بن يعقوب القاضي، حدثنا أبو الربيع.

وأما رواية عبد الوارث، فلم أقف عليها موصولة، وقد أخرجه أبو نُعيم في "المستخرج" من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بلفظ:"واليد العليا يد المعطي"، وهذا يدلّ على أن من رواه عن نافع بلفظ "المتعفّفة" فقد صحّف.

قال ابن عبد البرّ: ورواه موسى بن عقبة، عن نافع، فاختُلِف عليه أيضًا، فقال حفص بن ميسرة، عنه:"المنفقة"، كما قال مالك، قال الحافظ: وكذا قال فضيل بن سليمان، عنه، أخرجه ابن حبّان من طريقه، قال: ورواه إبراهيم بن طهمان، عن موسى، فقال:"المنفقة".

قال ابن عبد البرّ: رواية مالك أولى، وأشبه بالأصول، ويؤيّده حديث طارق المحاربيّ، عند النسائيّ، قال: قدمنا المدينة، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول:"يد المعطي العليا". انتهى.

(1)

"الكاشف" 5/ 1514.

ص: 573

ولابن أبي شيبة، والبزّار، من طريق ثعلبة بن زَهْدَم مثله، وللطبرانيّ بإسناد صحيح، عن حكيم بن حِزَام، مرفوعًا:"يد الله فوق يد المعطي، ويد المعطي فوق يد المعطَى، ويد المعطَى أسفل الأيدي"، وللطبرانيّ من حديث الجذاميّ، مرفوعًا مثله، ولأبي داود، وابن خزيمة، من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك، عن أبيه، مرفوعًا:"الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى"، ولأحمد، والبزّار، من حديث عطيّة السعديّ:"اليد المعطية هي العليا، والسائلة هي السفلى".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "واليد العليا المنفقة"، هكذا وقع في صحيح البخاريّ ومسلم:"العليا المنفقة"، من الإنفاق، وكذا ذكره أبو داود عن أكثر الرواة، قال: ورواه عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:"العليا المتعفِّفة" بالعين، من العِفّة، ورجح الخطابيّ هذه الرواية، قال: لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها، والصحيح الرواية الأولى، وَيحْتَمِل صحة الروايتين، فالمنفقة أعلى من السائلة، والمتعففة أعلى من السائلة، وفي هذا الحديث الحثّ على الإنفاق في وجوه الطاعات، وفيه دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة، وقال الخطابيّ: المتعففة كما سبق، وقال غيره: العليا الآخذة، والسفلى المانعة، حكاه القاضي، والمراد بالعلو علوّ الفضل والمجد، ونيل الثواب. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله بعد نقل كلام النووي المذكور: أقول: تحرير ترجيح الخطّابيّ رواية "اليد العليا هي المتعفّفة" أن يقال: إن قوله: "وهو يذكر الصدقة، والتعفّف عن المسألة" كلام مجملٌ في معنى العفّة عن السؤال، وقوله:"اليد العليا خير من اليد السفلى" بيان له، وهو أيضًا مبهم، فينبغي أن يفسّر بالعفّ؛ ليناسب المجمل، وتفسيره باليد المنفقة غير مناسب للمجمل.

وتحقيق الجواب: هذا إنما يتمّ إذا اقتصر على قوله: "اليد العليا هي المنفقة"، ولم يعقبه بقوله:"واليد السفلى هي السائلة"؛ لدلالتهما على علوّ المنفقة، وسفالة السائلة ورذالتها، وهي مما يُستنكف منها، ويُتعفّف عن

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 124 - 125.

ص: 574

الاتصاف بها، فظهر من هذا أن رواية الشيخين أرجح من إحدى روايتي أبي داود نقلًا ودرايةً؛ لأنها حينئذ من باب الكناية، وهي أبلغ من التصريح، فيكون أرجح. انتهى

(1)

.

(تنبيه): هذه الأحاديث كلها واضحة في أن التفسير المذكور مرفوع، قال القرطبيّ رحمه الله: وقع تفسير اليد العليا والسفلى في حديث ابن عمر هذا، وهو نصّ يرفع الخلاف، ويدفع تعسّف من تعسّف في تأويله. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: لكن ادعى أبو العبّاس الدانيّ في "أطراف الموطأ" أن التفسير المذكور مدرجٌ في الحديث، ولم يذكر مستنده لذلك، ثم وجدت في "كتاب العسكريّ في الصحابة" بإسناد له، فيه انقطاعٌ، عن ابن عمر أنه كتب إلى بشر بن مروان: إني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أحسب اليد السفلى إلا السائلة، ولا العليا إلا المعطية"، فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيّده ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:"كنا نتحدّث أن العليا هي المنفقة". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن دعوى الإدراج المذكور غير صحيحة؛ لأن الحديث اتَّفَقَ عليه الشيخان، مرفوعًا، وما ذكره الحافظ مما يؤيّد الدعوى المذكورة، فغير مقبول؛ لأن ما نقله من كتاب العسكري منقطع، كما اعترف هو به، وكذا ما نقله عن ابن أبي شيبة، ففي سنده سفيان الثوريّ، وهو وإن كان إمامًا، إلا أنه مدلّسٌ، وقد رواه بالعنعنة

(3)

، فكيف يُعارَض بمثل هذا ما اتَّفَقَ الشيخان على صحته مرفوعًا؟، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متفقٌ عليه.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1514 - 1515.

(2)

"الفتح" 4/ 49.

(3)

انظر: "مصنّف ابن أبي شيبة" 3/ 211.

ص: 575

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2385](1033)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1429)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1648)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2533) وفي "الكبرى"(2312)، و (مالك) في "الموطّأ"(1881)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 426 - 427)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 455 - 456)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 67 و 98)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 389)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 105 - 106)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 41 و 5/ 138 و 324)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3361 و 3364)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 192 و 201 و 8/ 139 و 18/ 149 و 19/ 280 و 22/ 278)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 97)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 266)، و (الضياء المقدسيّ) في "المختارة"(8/ 130)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 248)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 197 و 198)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1614)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن اليد العليا هي المعطية، كما أن اليد السفلى هي السائلة، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): إباحة الكلام للخطيب أثناء خطبته بكلّ ما يصلح من موعظة، وعلم، وقُرَبٍ.

3 -

(ومنها): الحثّ على الإنفاق في وجوه الطاعة.

4 -

(ومنها): تفضيل الغِنَى مع القيام بحقوقه على الفقر؛ لأن العطاء إنما يكون مع الغنى.

5 -

(ومنها): كراهة السؤال، والتنفير عنه، ومحلّه إذا لم تدع إليه ضرورةٌ، من خوف هلاك ونحوه، وقد روى الطبرانيّ من حديث ابن عمر بإسناد فيه مقالٌ، مرفوعًا:"ما المعطي من سَعَة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجًا"، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 4/ 51.

ص: 576

(المسألة الربعة): دلّت الأحاديث المتقدّمة المتضافرةُ على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية، وأن السفلى هي السائلة، وهذا هو المعتمد، وهو قول الجمهور.

وقيل: اليد السفلى الآخذة، سواء كان بسؤال، أم بغير سؤال، وهذا أباه قومٌ، واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قبل يد المتصَدَّق عليه، قال ابن العربيّ: التحقيق أن السفلى يد السائل، وأما يد الآخذ فلا؛ لأن يد الله هي المعطية، ويد الله هي الآخذة، وكلتاهما يمين. انتهى.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين، وأما يد الله تعالى، فباعتبار كونه مالك كلّ شيء نسبت يده إلى الإعطاء، وباعتبار قبوله للصدقة، ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ، ويده العليا على كلّ حال، وأما يد الآدميّ، فهي أربعة:

(أحدها): يد المعطي، وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا.

(ثانيها): يد السائل، وقد تضافرت الأخبار أيضًا بأنها سفلى، سواء أخذت، أم لا، وهذا موافق لكيفيّة الإعطاء والأخذ غالبًا، وللمقابلة بين العلو والسفل المشتقّ منهما.

(ثالثها): يد المتعفّف عن الأخذ، ولو بعد أن تَمُدّ إليه يد المعطي مثلًا، وهذه توصف بكونها عُلْيا علوًا معنويًّا.

(رابعها): يد الآخذ بغير سؤال، وهذه قد اختُلِف فيها، فذهب جمع إلى أنها سفلى، وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنويّ فلا يطّرد، فقد تكون عليا في بعض الصور، وعليه يُحمل كلام من أطلق كونها عليا.

قال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": عندي أن اليد المتصدّقة أفضل من السائلة، لا الآخذة دون السؤال؛ إذ محالٌ أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل باستعماله، دون

(1)

من فُرض عليه إتيان شيء، فأتى به، أو تقرّب إلى بارئه متنفّلًا فيه، وربما كان المعطي في إتيانه ذلك أقلّ تحصيلًا في الأسباب من الذي أتى بما أييح له، وربما كان هذا الآخذ لِمَا أُبيح له أفضل،

(1)

عبارة ابن حبان "أحسن" وما هنا من "الفتح"، وهو الظاهر.

ص: 577

وأورع من الذي يعطي، فلما استحال هذا على الإطلاق دون التحصيل بالتفضيل، صحّ أن معناه أن المتصدّق أفضل من الذي يسألها. انتهى

(1)

.

وعن الحسن البصريّ: اليد العليا المعطية، والسفلى المانعة، ولم يوافَق عليه.

وأطلق آخرون من المتصوّفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقًا، ونقل ابن قتيبة في "غريب الحديث" ذلك عن قوم، ثم قال: وما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجّون للدناءة، ولو جاز هذا لكان المولى مِن فوقُ هو الذي كان رقيقًا، فأُعتق، والمولى من أسفلُ هو السيّد الذي أعتقه. انتهى.

قال الحافظ: وقرأت في "مطلع الفوائد" للعلّامة جمال الدين ابن نُباتة في تأويل الحديث المذكور معنى آخر، فقال: اليد هنا هي النعمة، وكأنّ المعنى أن العطيّة الجزيلة خيرٌ من العطيّة القليلة، قال: وهذا حثّ على المكارم بأوجز لفظٍ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله:"ما أبقت غنى"؛ أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله، كمن أراد أن يتصدّق بألف، فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى، بخلاف ما لوأعطاها لرجل واحد، قال: وهو أولى من حمل اليد على الجارحة؛ لأن ذلك لا يستمرّ؛ إذ فيمن يأخذ من هو خيرٌ عند الله ممن يعطي.

قال الحافظ: التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على الإطلاق.

وقد روى إسحاق في "مسنده" من طريق عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير: أن حكيم بن حزام، قال: يا رسول الله، ما اليد العليا؟ قال:"التي تعطي، ولا تأخذ".

فقوله: "ولا تأخذ" صريحٌ في أن الآخذة ليست بعليا، والله أعلم.

قال: وكلّ هذه التأويلات المتعسّفة تَضمَحِلّ عند الأحاديث المتقدّمة المصرّحة بالمراد، فأولى ما فُسّر الحديث بالحديث.

(1)

صحيح ابن حبّان 8/ 150 - 151 بتحقيق شعيب الأرنؤوط.

ص: 578

ومُحصّل ما في الآثار المتقدّمة أن أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعفّفة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة، والمانعة، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله أخيرًا تحقيقٌ حسنٌ جدًّا.

والحاصل أن المذهب الحقّ في المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من أن اليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة؛ لوضوح دليله، وأما العكس فلا يؤيّده النقل، بل يدفعه، ويبطله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2386]

(1034) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، يُحَدِّثُ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ، أَوْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) الضبيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

4 -

(يَحْيى الْقَطَّانُ) تقدّم قبل باب.

5 -

(عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن موهَب التيميّ مولاهم، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ [6](خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

(1)

فتح 4/ 49 - 50.

ص: 579

6 -

(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيميّ، أبو عيسى، أو أبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 103) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

7 -

(حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ) بن خُويلد بن أسد بن عبد العُزَّى الأسديّ، أبو خالد المكيّ، ابن أخي خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، صحابيّ أسلم يوم الفتح، وصَحِبَ، وله (74) سنةً، ثم عاش إلى سنة (54) أو بعدها، وكان عالمًا بالنسب (ع) تقدم في "الإيمان" 58/ 330.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: محمد بن حاتم، فتفرّد به هو وأبو داود، وأحمد بن عبدة، فما أخرج له البخاريّ، وغير عمرو بن عثمان، فتفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين غير شيوخه، فالأول والثالث بصريّان، كيحيى، والثاني بغداديّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ممن عاش (120) سنة، نصفها في الجاهليّة، ونصفها في الإسلام، وقد ذكرهم السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:

وَعِدَّةٌ مِنَ الصِّحَابِ وَصَلُوا

عِشْرِينَ بَعْدَ مِائَةٍ تُكَمَّلُ

سِتُّونَ فِي الإِسْلَامِ حَسَّانٌ يَلِي

حُوَيْطِبٌ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ

ثُمَّ حَكِيمٌ حَمْنَنٌ سَعِيدُ

وآخَرُونَ مُطْلَقًا لَبِيدُ

عَاصِمُ سَعْدٌ نَوْفَلٌ مُنْتَجِعُ

لَجْلَاجُ أَوْسٌ وَعَدِيٌّ نَافِعُ

نَابِغَةٌ ثُمَّتَ حَسَّانَ انْفَرَدْ

أَنْ عَاشَ ذَا أَبٌ وَجَدُّهُ وَجَدْ

6 -

(ومنها): أنه أيضًا وُلِد في جوف الكعبة، ولا يُعرف هذا لغيره جاهليّةً ولا إسلامًا، كما قال السيوطيّ رحمه الله أيضًا في ألفيتّه المذكورة:

ثُمَّ حَكِيمٌ مُفْرَدٌ بِأَنْ وُلِدْ

بِكَعْبَةٍ وَمَا لِغَيْرِهِ عُهِدْ

وهذا كله قد سبق، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 580

شرح الحديث:

عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ التيميّ (أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ، أَوْ) للشكّ من الراوي، أي أو قال:(خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) جملة من مبتدأ وخبره؛ أي إن أفضل صدقة المرء ما وقع من غير حاجة إلى ما يتصدّق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته.

وقد جاء ما يوضّح المراد بقوله: "أفضل الصدقة عن ظهر غنى إلخ" -كما قال النسائيّ رحمه الله فيما أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبّان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدَّقُوا"، فقال رجل: يا رسول الله عندي دينارٌ، قال:"تصدق به على نفسك"، قال: عندي آخر، قال:"تصدق به على زوجتك"، قال: عندي آخر، قال:"تصدق به على ولدك"، قال: عندي آخر، قال:"تصدق به على خادمك"، قالى: عندي آخر، قال:"أنت أبصر".

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أفضل الصدقة ما بقي صاحبُها بعدها مستغنيًا بما بقي معه، وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يَعتمده صاحبها، ويَستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله؛ لأن من تصدق بالجميع يَندَم غالبًا، أو قد يندم إذا احتاج، وَيوَدّ أنه لم يتصدق، بخلاف من بقي بعدها مستغنيًا، فإنه لا يندم عليها، بل يُسَرّ بها.

قال: وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مستحبٌّ لمن لا دَينَ عليه، ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يَجْمَع هذه الشروط فهو مكروه.

وقال القاضي عياض رحمه الله: جَوّز جمهور العلماء، وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يُرَدُّ جميعها، وهو مرويّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: يُنَفَّذ في الثلث، هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف رُدّت الزيادة، وهو محكيّ عن مكحول، قال أبو جعفر الطبريّ: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله، وأن يقتصر على الثلث. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 125.

ص: 581

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في هذه المسألة في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.

(وَالْيَدُ الْعُلْيَا) تقدّم في الحديث الماضي أن الصحيح في تفسيرها أنها المنفقة (خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) تقدّم أيضًا أن الأصحّ أنها السائلة (وَابْدَأْ) في العطاء (بِمَنْ تَعُولُ") أي بمن تجب عليك نفقته، يقال: عال الرجلُ أهلَه عَوْلًا، من باب قال: إذا مانَهُم؛ أي قام بما يحتاجون إليه، من قوت، وكسوة، وفيه تقديم نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة فيه، بخلاف نفقة غيرهم.

وقد جاء تفسير من يعولهم فيما أخرجه النسائيّ من حديث طارق بن عبد الله المحاربيّ رضي الله عنه بإسناد حسن، عنه قال: قَدِمنا المدينة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول: "يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمَّك، وأباك

(1)

، وأختك، وأخاك، ثم أدناك أدناك". هكذا أورده النسائيّ مختصرًا.

وقد أخرجه الدارقطنيّ في "سننه"(3/ 44 - 45) مطوّلًا، فقال:

حدّثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل، نا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطّان، نا ابن نُمير، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، نا أبو صخرة، جامع بن شدّاد، عن طارق بن عبد الله المحاربيّ، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين، مرّة بسوق ذي المجاز، وأنا في تباعة لي هكذا، قال: أبيعها، فمرّ، وعليه حلّة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته:"يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجلٌ يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه، وعرقوبيه، وهو

(1)

هكذا الرواية "أباك"، فيَحْتَمِل أن يكون منصوبًا بفعل محذوف؛ أي أعني أمّك إلخ، أو منصوبًا على نزع الخافض؛ أي بأمّك إلخٍ، وَيحْتَمِل أن يكون مجرورًا بدلًا من قوله "من تعول"، ويحتمل أن يكون مرفوعًا بتقدير: وهم أمّك إلخ، فعلى الوجهين الأخيرين يكون قوله "وَأَبَاكَ" -ومثله "أخاك"- مقصورًا معربًا على الألف، على حدّ قول الشاعر:

إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا

قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا

وهي لغة مشهورة، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":

وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ

ص: 582

يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه، فإنه كذّابٌ، قلت: من هذا؟ فقالوا: هذا غلام بني عبد المطّلب، قلت: من هذا الذي يتبعه، يرميه؟ قالوا: هذا عمة عبد العزّى، وهو أبو لهب، فلما ظهر الإسلام، وقدم المدينة أقبلنا في ركبٍ من الرَّبَذَة، وجنوب الربذة، حتى نزلنا قريبًا من المدينة، ومعنا ظَعِينة لنا، قال: فبينا نحن قُعُودٌ؛ إذ أتانا رجلٌ عليه ثوبان أبيضان، فسلّم علينا، فرددنا عليه، فقال:"من أين أقبل القوم؟ "، قلنا: من الرَّبَذَة، وجنوب الربذة، قال: ومعنا جمل أحمر، قال:"تبيعوني جملكم؟ "، قلنا: نعم، قال:"بكم؟ "، قلنا: بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال: فما استوضعنا شيئًا، وقال:"قد أخذته"، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة، فتوارى عنّا، فتلاومنا بيننا، وقلنا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه، فقالت الظعينة: لا تَلَاوَمُوا، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليَحقِركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه، فلما كان العشاء أتانا رجلٌ، فقال: السلام عليكم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، وأنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا، وتكتالوا، حتى تستوفوا، قال: فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا حتى استوفينا، فلما كان من الغد دخلنا المدينة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، يخطب الناس، وهو يقول:"يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمّك، وأباك، وأختك، وأخاك، وأدناك، أدناك"، فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهليّة، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه، فقال:"ألا لا يجني والد على ولده" انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: اختُلِف في نفقة من بلغ من الأولاد، ولا مال له، ولا كسب، فأوجبت طائفة النفقة لجميع الأولاد أطفالًا كانوا، أو بالغين، إناثًا وذكرانًا إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها، وذهب الجمهور إلى أن الواجب أن ينفق عليهم حتى يبلغ الذكر، أو تتزوج الأنثى، ثم لا نفقة على الأب إلا إن كانوا زمنى، فإن كانت لهم أموال فلا وجوب على

(1)

"سنن الدارقطنيّ" 3/ 44 - 45.

ص: 583

الأب، وألحق الشافعيّ ولد الولد، وإن سفل بالولد في ذلك. انتهى

(1)

.

قمال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق المسألة في محله من "كتاب النفقات" -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2386](1034)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1427)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2543) و"الكبرى"(2323)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 402)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 477)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3120)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 105)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كون أفضل الصدقة إذا حصلت بعد كفاية النفس ومن تجب نفقته.

2 -

(ومنها): بيان كون اليد العليا -وهي المنفقة- خيرًا من اليد السفلى -وهي السائلة- كما سبق تمام البحث فيه.

3 -

(ومنها): أن فيه تقديم نفقة نفسه وعياله؛ لأنها منحصرة بخلاف نفقة غيرهم.

4 -

(ومنها): بيان الابتداء بالأهمّ، فالأهمّ في الأمور الشرعيّة.

5 -

(ومنها): أن فيه الأمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "عن ظهر غنى":

(1)

"الفتح" 12/ 255 كتاب "النفقات" رقم (5356).

ص: 584

قال في "الفتح": معنى الحديث: أفضل الصدقة ما وقع من غير محتاج إلى ما يتصدق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته.

قال الخطابيّ: لفظ الظهر يَرِدُ في مثل هذا إشباعًا للكلام، والمعنى: أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده:"وابدأ بمن تعول".

وقال البغويّ: المراد غِنًى يَستَظهِر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قولُهُم: رَكِبَ متن السلامة، والتنكير في قوله:"غِنًى" للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة.

وقيل: "عن" للسببية، والظهر زائد؛ أي خير الصدقة ما كان سببها غِنًى في المتصدق

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى": أي ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس، وحقوق العيال. وقال الخطّابيّ: أي متبرّعًا، أو عن غئًى يعتمده، ويستظهر به على النوائب. والتأويل الأول أولى، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى الله بها على الأنصار؛ إذ قال:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية [الحشر: 9]، وقد روي أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيفٌ، فنَوّمَ صبيانه، وأطفأ السّراج، وآثر الضيف بقوْتهم

(2)

، وكذلك قوله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية [الإنسان: 8]. أي على شدّة الحاجة إليه، والشهوة له، ولا شكّ أن صدقةَ مَن هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"أفضل الصدقة جهد مقلّ"

(3)

، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "سبق درهم مائة ألف

"

(4)

.

فقد أفاد مجموع ما ذكرنا أن صدقة المؤثر، والمقلّ أفضل، وحينئذ يثبت

(1)

"الفتح" 4/ 255 - 256.

(2)

أخرجه البخاريّ في "صحيحه" في تفسير سورة الحشر.

(3)

حديث صحيح أخرجه النسائيّ، بلفظ "فأيّ الصدقة أفضل؟ قال "جهد المقلّ".

(4)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ وغيره.

ص: 585

التعارض بين هذا المعنى، وبين قوله:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" على تأويل الخطّابيّ، فأما على ما أوّلنا به الغنى، فيرتفع التعارض. وبيانه أن الغِنَى يُعنى به في الحديث حصول ما تُدفع به الحاجة الضروريّة، كالأكل عند الجوع المشوّش، الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله، فهذا ونحوه مما لا يجوز الإيثار به، ولا التصدّق، بل يحرم، وذلك أنه إذا آثر غيره بذلك أدّى إلى هلاك نفسه، أو الإضرار بها، أو كشف عورته، فمراعاة حقّه أولى على كلّ حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صحّ الإيثار، وكانت صدقته هي الأفضلَ؛ لأجل ما يتحمّل من مضض الفقر، وشدّة مشقّته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي وجّه به القرطبيّ رحمه الله هذا الحديث حسنٌ جدًّا، حيث تجتمع به الأدلّة، ويندفع به التعارض بينها.

وحاصله أن المراد بالغنى في قوله: "ما كان عن ظهر غنى" الغنى الذي يقوم معه على حقوق نفسه، وحقوق العيال، من دفع الحاجات الضروريّة التي لا بدّ للإنسان، كالأكل من جوع، واللبس من عري، ونحوهما، فما كان بعد ذلك من الصدقة، فهو أفضل؛ للنصوص التي وردت في مدح الإيثار، وإن كان معه نوع احتياج، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم التصدّق مع الحاجة إلى المال:

قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": ومن تصدّق، وهو محتاجٌ، أو أهله محتاجٌ، أو عليه دين، فالدين أحقّ أن يُقضَى من الصدقة، والعتق، والهبة، وهو ردّ عليه، ليس له أن يُتلِفَ أموال الناس، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أخذ أموال الناس يُريد إتلافها أتلفه الله"، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، فيؤثر على نفسه، ولو كان به خصاصةٌ، كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدّق بماله. وكذلك آثر الأنصار المهاجرين. ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلّة الصدقة. وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: قلت: يا

(1)

"المفهم" 3/ 80 - 81.

ص: 586

رسول الله، إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال:"أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك"، قلت: أُمسِك سهمي الذي بخيبر. انتهى كلام البخاريّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مستحبٌّ لمن لا دَينَ عليه، ولا له عيال لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يَجْمَع هذه الشروط فهو مكروه.

وقال القاضي عياض رحمه الله: جَوّز جمهور العلماء، وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله، وقيل: يُرَدُّ جميعها، وهو مرويّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: يُنَفَّذ في الثلث، هو مذهب أهل الشام، وقيل: إن زاد على النصف رُدّت الزيادة، وهو محكيّ عن مكحول، قال أبو جعفر الطبريّ: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله، وأن يقتصر على الثلث. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قال الطبريّ وغيره: قال الجمهور: من تصدّق بماله كلّه في صحّة بدنه وعقله، حيث لا دينَ عليه، وكان صبورًا على الإضاقة، ولا عيال له، أو له عيالٌ يصبرون أيضًا، فهو جائزٌ، فإن فُقد شيء من هذه الشروط كُرِه، وقال بعضهم: هو مردودٌ. ورُوي عن عمر رضي الله عنه، حيث رَدّ على غيلان الثقفيّ قسمة ماله.

ويمكن أن يُحتجّ له بقصّة المدبّر، الذي أخرجه الشيخان، عن جابر رضي الله عنه، قال: أعتق رجل من بني عُذْرَة، عبدًا له، عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ألك مال غيره؟ "، فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي، بثمان مائة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعها إليه، ثم قال:"ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك، فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا، وهكذا، يقول: بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك". وفي لفظ للبخاريّ: "أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر، فاحتاج

" الحديث.

(1)

راجع: "صحيح البخاريّ" 4/ 45 بنسخة "الفتح".

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 125.

ص: 587

فهذا الحديث يدلّ على أن من تصدّق، وهو محتاج يردّ عليه، ولا تنفذ صدقته.

وقال آخرون: يجوز من الثلث، ويُردّ عليه الثلثان، وهو قول الأوزاعيّ، ومكحول. وعن مكحول أيضًا يُردّ ما زاد على النصف.

قال الطبريّ رحمه الله: والصواب عندنا الأول، من حيث الجواز، والمختار من حيث الاستحباب أن يجعل ذلك من الثلث، جمعًا بين قصّة أبي بكر، وحديث كعب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قال الإمام البخاريّ رحمه الله هو الأرجح، وحاصله أن من تصدّق بماله، وهو محتاجٌ، أو أهله، أو عليه دينٌ، بطلت صدقته، إلا أن يكون معروفًا بالصبر، كفعل أبي بكر رضي الله عنه، وبهذا تجتمع الأدلّة، من غير تعارض، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2387]

(1035) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الحجة الثبت الفقيه، رأس [8](ت 198) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

(1)

راجع "الفتح" 4/ 45 - 47.

ص: 588

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.

5 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [3](ت 49) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(سَعِيدُ) بن المسيِّب بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

و"حكيم بن حزام" رضي الله عنه ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما؛ لاتّحادهما في التحمل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين.

5 -

(ومنها): أن عروة وسعيدًا كلاهما من الفقهاء السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ: "عن الزهريّ، قال: أخبرني سعيد وعروة سمعا حكيم بن حزام يقول

"، وفي رواية البخاريّ عن عليّ ابن المدينيّ، قال: "حدّثنا سفيان، قال: سمعت الزهريّ يقول: أخبرني عروة وسعيد بن المسيب، عن حكيم بن حزام قال

" (قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أي المال (فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للنسائيّ: "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حكيم ("إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ) بفتح الخاء المعجمة، وكسر الضاد المعجمة، قال في "القاموس": والْخَضِرُ، كَكَتِفٍ: الْغُصْنُ، والزرع، والْبَقْلَةُ الْخَضْرَاء، كالْخَضِرَة، والْخَضِيرِ. انتهى. (حُلْوَةٌ) بضمّ، فسكون: ضدّ الْمُرّة.

قال الزركشيّ رحمه الله: تأنيث الخبر تنبيهٌ على أن المبتدأ مؤنّثٌ، والتقدير: أن صورة هذا المال، أو يكون التأنيث للمعنى؛ لأنه اسمٌ جامعٌ لأشياء كثيرة،

ص: 589

والمراد بالخَضِرَة الروضة الخضراء، أو الشجرة الناعمة، والحلوة المستحلاة الطعم. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": التأنيث: إما باعتبار الأنواع، أو الصورة، أو تقديرُهُ: كالفاكهة الخَضِرَة الحُلْوَة، شبّهَ المالَ في الرغبة فيه بها، فإن الأخضر مرغوب من حيث النظر، والحلو من حيث الذّوقُ، فإذا اجتمعا زادا في الرغبة.

حاصله أن التشبيه في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذّة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحلو كذلك على انفراده، فاجتماعهما أشدّ، وفيه إشارة إلى عدم بقائه؛ لأن الخضروات لا تبقى، ولا تراد للبقاء. انتهى

(2)

وقال النوويّ رحمه الله: شبّه المال في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذَّة؛ فمان الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحلو كذلك على انفراده، فاجتماعهما أشدّ، وفيه إشارة إلى عدم بقائه؛ لأن الخضروات لا تبقى، ولا تراد للبقاء. انتهى

(3)

.

(فَمَنْ أَخَذَهُ) أي من أخذ المال الذي يُبذل له (بِطِيبِ نَفْسٍ) أي مع طيب نفس، فالباء للمصاحبة؛ يعني أنه أخذه من غير شَرَهٍ، ولا إلحاح، وفي رواية للبخاريّ:"فمن أخذه بسخاوة نفس"، قال في "العمدة":

[فإن قلت]: السخاوة إنما هي في الإعطاء، لا في الأخذ.

[قلت]: السخاوة في الأصل السهولة والسعة، قال القاضي عياض: فيه احتمالان: أظهرهما أنه عائدٌ إلى الآخذ؛ أي من أخذه بغير حرصٍ، وطمع، وإشراف عليه، والثاني: إلى الدافع؛ أي من أخذه ممن يدفعه منشرحًا بدفعه، طيّب النفس. انتهى

(4)

.

(بُورِكَ لَهُ فِيهِ) أي جعل الله تعالى البركة له في ذلك المال (وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ)"الإشراف" على الشيء: الاطّلاع عليه، والتعرّض له، وقيل: معنى إشراف النفس أن المسؤول يُعطيه عن تكرّه، وقيل: يريد به شدّة حرص

(1)

"زهر الربى في شرح المجتبى" 5/ 60.

(2)

"عمدة القاري" 9/ 52.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 126.

(4)

عمدة القاري 9/ 52.

ص: 590

السائل، وإشرافه على المسألة (لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ) الضمير في "له" يرجع إلى الآخذ، وفي "فيه" إلى المال المأخوذ، وإنما لم يبارك له فيه؛ لأنه لم يمنع نفسه عن المسألة التي هي مذمومة شرعًا، ولم يصُنْ ماء وجهه، فعوقب بعدم البركة فيما أخذ.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: إشراف النفس تطلعها إليه، وتعرّضها له، وطمعها فيه، وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين: أظهرهما أنه عائد على الآخذ، ومعناه: من أخذه بغير سؤال، ولا إشراف وتطلّع بورك له فيه، والثاني أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع مُنْشَرِحًا بدفعه إليه طَيِّب النفس، لا بسؤال اضطَرَّه إليه أو نحوه، مما لا تطيب معه نفس الدافع. انتهى.

وقال الطيبيّ رحمه الله -بعد ذكر القاضي هذا-: لَمّا وَصَفَ المال بما تميل إليه النفس الإنسانيّة بجبلّتها، رَتّب عليها بالفاء أمرين:

[أحدهما]: تركها مع ما هي مجبولة عليه من الحرص والشَّرَه، والميل إلى الشهوات، وإليه أشار بقوله:"ومن أخذه بإشراف نفس".

[وثانيهما]: كفّها عن الرغبة فيها إلى ما عند الله من الثواب، وإليه أشار بقوله:"بسخاوة نفس"، فكَنَى في الحديث بالسخاوة عن كفّ النفس من الحرص والشّرَه، كما كَنَى في الآية بتوقي النفس من الشحّ والحرص المجبولة عليه عن السخاء؛ لأن من توقّى من الشحّ يكون سخيًّا مفلحًا في الدارين، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. انتهى

(1)

.

(وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) أي لا ينقطع اشتهاؤه، فيبقى في حيرة الطلب على الدوام، ولا يقضي شهواته التي لأجلها طلبُهُ، فكان كمن به الجوع الكاذب، المسمَّى بجوع الكَلْب، كلما ازداد أكلًا ازداد جوعًا؛ لأنه يأكل من سقم، وكلما أكل زاد سقمًا، ولا يجد شبعًا، ويزعم أهل الطبّ أن ذلك من غلبة السوداء، ويسمّونها الشهوة الكلبيّة، وهي صفة لمن يأكل، ولا يشبع، قاله في "العمدة"

(2)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1513.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 9/ 52.

ص: 591

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "كالذي يأكل ولا يشبع"، فقيل: هو الذي به داءٌ لا يَشْبَع بسببه، وقيل: يَحْتَمِل أن المراد التشبيه بالبهيمة الراعية. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى") تقدّم شرحه مستوفًى، وأن الصواب في معناه أن العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة.

زاد في رواية البخاريّ: "قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقّ لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقّه من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي".

وقوله: "لا أرزأ" بفتح الهمزة، وسكون الراء، وفتح الزاي، وبالهمزة، معناه: لا أَنْقُصُ ماله بالطلب، وفي "النهاية": ما رزأته: أي ما نقصته، وفي رواية لإسحاق:"قلت: فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يدٍ من أيدي العرب".

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لا أرزأ إلخ" أي لا أنقص بعدك مال أحد بالسؤال عنه، والأخذ منه، من الرزء، وهو النقصان، يقال: ما رزأته ماله: أي ما نقصته، ويُمكن أن يكون معناه: بعد سؤالك هذا، ويمكن أن يكون بمعنى غيرك. انتهى

(2)

.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: فإن قلت: لِمَ امتنع حكيم من الأخذ مطلقًا، وهو مبارك إذا كان بسعة الصدر، مع عدم الإشراف؟.

قلت: مبالغةً في الاحتراز؛ إذ مقتضى الجبِلَّة الإشراف والحرص، والنفس سراقة، والْعِرْق دَسّاس، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، قاله في "العمدة".

وقوله: "فأبى أن يقبل منه" أي فامتنع حكيم أن يقبل عطاءً من أبي بكر في الأول، ومن عمر في الثاني، وجه امتناعه من أخذ العطاء مع أنه حقه؛ لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئًا فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده،

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 126.

(2)

"الكاشف" 5/ 1514.

ص: 592

ففطمها عن ذلك، وترك ما يَرِيبه إلى ما لا يَرِيبه، ولأنه خاف أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال:"لا أرزأ أحدًا بعدك".

وقوله: "فقال عمر رضي الله عنه: إني أشهدكم إلخ" إنما أشهد عمر رضي الله عنه على حكيم؛ لأنه خشي سوء التأويل، فأراد تبرئة ساحته بالإشهاد عليه، وأن أحدًا لا يستحق شيئًا من بيت المال إلا بعد أن يعطيه الإمام إياه، وفي "التوضيح": وأما قبل ذلك فليس بمستحقّ له، ولو كان مستحقًّا له لقضى عمر على حكيم بأخذه، ذلك يدلّ عليه قول الله تعالى حين ذكر قسم الصدقات، وفي أيّ الأقسام يُقْسَم أيضًا:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر: 7]، فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره.

وإنما قال العلماء في إثبات الحقوق في بيت المال تشديدًا على غير المرضيّ من السلاطين؛ ليغلقوا باب الامتداد إلى أموال المسلمين، والتسبب إليها بالباطل، ويدلُّ على ذلك أن مَن سرق بيت المال يقطع، أو زنى بجارية من الفيء يُحَدّ، ولو استحَقَّ في بيت المال، أو في الفيء شيئًا عَلى الحقيقة قبل إعطاء السلطان له، لكانت شبهة تَدْرَأ الحدّ عنه.

قال العينيّ رحمه الله بعد نقله ما قاله في "التوضيح" ما نصّه: قلت: جمهور الأمة على أن للمسلمين حقًّا في بيت المال والفيء، ولكن الإمام يقسمه على اجتهاده، فعلى هذا لا يجب القطع ولا الحد للشبهة. انتهى

(1)

، وسيأتي تمام البحث في هذا في موضعه المناسب -إن شاء الله تعالى-.

وقوله: "حتى تُوُفّي" زاد إسحاق ابن راهويه في "مسنده" من طريق معمر بن عبد الله بن عروة مرسلًا: "أنه ما أخذ من أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا معاوية ديوانًا ولا غيره حتى مات لعشر سنين من إمارة معاوية"، وزاد إسحاق أيضًا في مسنده" من طريق معمر، عن الزهريّ: فمات حين مات، وإنه لمن أكثر قريش مالًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 9/ 53.

ص: 593

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه هذا متفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2387](1035)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1428 و 1472) و"الوصايا"(2750) و"فرض الخمس"(3143) و"الرقاق"(6441)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1676)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2463)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2531 و 2601 و 2602 و 2603) و"الكبرى"(2310 و 2382 و 2383 و 2384)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 85)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 253)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 434)، و (الدارميّ) في "سننه"(16502 و 750)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 105)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 197)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 189)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كون اليد العليا -وهى المنفقة خيرًا من اليد السفلى- وهي السائلة - كما سبق تمام البحث فيه قريبًا.

2 -

(ومنها): ما قاله المهلّب رحمه الله: إن سؤال السلطان الأكبر ليس بعار.

3 -

(ومنها): أن السائل إذا ألحف لا بأس بردّه، وموعظته، وأمره بالتعفف، وترك الحرص.

4 -

(ومنها): أن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة والضرورة؛ لأنه إذا كانت يده السفلى مع إباحة المسألة، فهوأحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الحاجة.

5 -

(ومنها): أن من كان له حقّ عند أحد، فإنه يأخذه إذا أتى، فإن كان مما لا يستحقّه إلا ببسط اليد فلا يجبر على أخذه.

6 -

(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول: سَخَتْ بكذا: أي جادت، وسَخت عن كذا: أي لم تلتفت إليه.

7 -

(ومنها): أن الأخذ مع سخاوة النفس يُحصِّل أجر الزهد، والبركة في الرزق، فظهر أن الزهد يُحَصِّل خيري الدنيا والآخرة.

ص: 594

8 -

(ومنها): ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة؛ لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبيّن بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالآكل إنما يأكل ليشبع، فإذا أكل، ولم يشبع، كان عَناءً في حقّه بغير فائدة، وكذلك المال، ليست الفائدة في عينه، وإنما هي لما يتحصّل به من المنافع، فإذا كثر المال عند المرء بغير تحصيل منفعة، كان وجوده كالعدم.

9 -

(ومنها): أنه ينبغي للإمام أن لا يبيّن للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته؛ لتقع موعظته له الموقع؛ لئلا يتخيّل أن ذلك سبب لمنعه حاجته.

10 -

(ومنها): جواز تكرار السؤال ثلاثًا، وجواز المنع في الرابعة.

11 -

(ومنها): أن ردّ السائل بعد ثلاث ليس بمكروه.

12 -

(ومنها): أن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة.

13 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث، وما قبله، وما بعده الحثُّ على التعفف، والقناعة، والرضا بما تيسر في عَفَاف، وان كان قليلًا، والإجمال في الكسب، وأنه لا يُغْتَرّ الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه، فإنه لا يبارك له فيه، وهو قريب من قول الله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية [البقرة: 276]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2388]

(1036) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى").

ص: 595

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

4 -

(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

5 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، إلا في روايته عن يحيى بن كثير، فمضطرب [5] مات قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

6 -

(شَدَّادُ) بن عبد الله القرشيّ، أبو عمّار الدمشقيّ، ثقةٌ يُرسل [4](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1337.

7 -

(أَبُو أُمَامَةَ) صُدَيّ بن عَجْلان الباهليّ الصحابيّ المشهور، سكن الشام، ومات بها سنة (86)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 43/ 1874.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتفاقهم في التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

3 -

(ومنها): أن شيخه نصر بن عليّ أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والسماع.

شرح الحديث:

عن شَدَّادِ أبي عمّار أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ) صُديّ بن عَجلان الباهليّ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ) أي إنفاق الزيادة على قدر الحاجة والكفاف، فـ "أن" مصدرية مع مدخولها مبتدأ، خبره قوله:(خَيْرٌ لَكَ) أي في الدنيا والآخرة.

ص: 596

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: إن بذلت الفاضل عن حاجتك، وحاجة عيالك فهو خير لك؛ لبقاء ثوابه. انتهى.

قيل: وفي التعبير بالفضل دون مطلق المال إشعار بأنه لا ينبغي له أن يبذل المال كلّه، وإنما يبذل ما فضل عنه؛ لئلا يضيّع من تجب عليه نفقته

(1)

، فقد أخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثمًا أن يَحبس عمن يملك قوته"، ولفظ أبي داود:"كفى بالمرء إثمًا أن يُضَيِّع من يقوت"

(2)

.

(وَأَنْ) بالفتح مصدريّة أيضًا (تُمْسِكَهُ)؛ أي فإمساكك الفضل (شَرٌّ لَكَ) وذلك لأنه إن أمسك عن الواجب استَحَقَّ العقاب عليه، هان أمسك عن المندوب فقد نَقَصَ ثوابه، وفَوَّت مصلحة نفسه في آخرته، وهذا كله شرّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أن تبذل الفضل إلخ" يعني به الفاضل عن الكفاية، ولا شكّ في أن إخراجه أفضل من إمساكه، فأما إمساكه عن الواجبات فشرّ على كلّ حال، وأما إمساكه عن المندوب إليه فقد يقال فيه: شرّ بالنسبة إلى ما فوّت الممسك على نفسه من الخير، وقد تقدّم بيان هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم:"وشرّ صفوف الرجال آخرها"، وأن معنى ذلك أنها أقلّ ثوابًا. انتهى

(3)

.

(وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ) بفتح الكاف: هو من الرزق القوت، وهو ما كَفّ عن الناس، وأغنى عنهم، والمعنى: لا تُذَمّ على حفظه وإمساكه، أو على تحصيله وكسبه، ومفهومه: إنك إن حفظت أكثر من ذلك، ولم تتصدق بما فضل عنك، فأنت مذموم وبخيل وملوم

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "ولا تلام على كَفَاف" أن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه، وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حقّ شرعيّ، كمن كان له نصاب زكويّ، ووجبت الزكاة بشروطها، وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه

(1)

راجع: "مرقاة المفاتيح" 4/ 319.

(2)

أخرجه أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح.

(3)

"المفهم" 3/ 82.

(4)

راجع: "مرقاة المفاتيح" 4/ 319.

ص: 597

وجب عليه إخراج الزكاة، ويُحَصِّل كفايته من جهة مباحة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولا تلام على كَفَاف" يُفهم منه بحكم دليل الخطاب أن ما زاد على الكفاف يتعرّض صاحبه للذّمّ. انتهى

(2)

.

(وَابْدَأْ) أي ابتدئ في إعطاء الزائد على قدر الكفاف (بِمَنْ تَعُولُ) أي بمن تمونه، وتلزمك نفقته، وقال النوويّ: معنى "ابدأ بمن تعول" أن العِيَال والقرابة أحقّ من الأجانب، وقد سبق. انتهى.

(وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى") تقدّم شرح هذه الجملة مستوفًى في الحديث الماضي أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2388](1036)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2343)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 40)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 262)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 182 و 198)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(2/ 366) و"تهذيب الآثار"(1/ 46 و 87)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 175)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 106)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أفضليّة بذل المال الفاضل عن حاجة الإنسان.

2 -

(ومنها): بيان ذمّ إمساك ما فضل عن الحاجة.

3 -

(ومنها): بيان أن الإنسان لا يُلام عن إمساكه كَفَافه؛ لأنه يكفّ به وجهه وعياله عن ذلّ السؤال.

4 -

(ومنها): وجوب بدء الإنسان في الصدقة بمن يعولهم.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 127.

(2)

"المفهم" 3/ 82.

ص: 598

5 -

(ومنها): بيان أن اليد العليا، وهي المنفقة خير من اليد السفلى، هي السائلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(34) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2389]

(1037) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيةَ يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَأَحَادِيثَ، إِلَّا حَدِيثًا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يُخِيفُ النَّاسَ فِي اللهِ عز وجل، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ، فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَشَرَهٍ، كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(زيدُ بْنُ الْحُبَابِ) الْعُكليّ، أبو الحسين الكوفيّ، خُرَاسانيّ الأصل، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

3 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الْحَضْرميّ، أبو عمر، أو أبو عبد الرحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له إفرادات [7](ت 158)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

4 -

(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ) أبو شعيب الإياديّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 أو 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

ص: 599

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيُّ) -بفتح الياء التحتانيّة، وسكون الحاء، وفتح الصاد المهملتين، بعدها موحّدة- هو: عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليَحْصَبيّ المقرئ الدمشقيّ، أبو عمران، وقيل: أبو عبيد الله، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو نعيم، وقيل: أبو عثمان، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو موسى، والأول أصحّ، ثقة [3].

قرأ القرآن على المغيرة بن أبي شهاب، وقرأ عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، وأبو عبيد الله مسلم بن مِشْكَم، ويحيى بن الحارث الذِّمَاريّ، ورَوَى عن معاوية، والنعمان بن بشير، وأبي أمامة، وفَضَالة بن عُبيد، وواثلة بن الأسقع، وأبي إدريس الخولانيّ، وقيس بن الحارث الغامديّ الْمَذْحِجيّ.

ورَوَى عنه أخوه عبد الرحمن، وربيعة بن يزيد، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وجعفر بن ربيعة، ومحمد بن الوليد الزُّبَيديّ، وغيرهم.

قال الهيثم بن عمران: كان عبد الله بن عامر رئيس أهل المسجد زمانَ الوليد بن عبد الملك، وكان يزعم أنه من حِمْيَر، وكان يُغْمَز في نسبه، وقال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: أحسبه الذي رَوَى عن أبي أيوب، وقال أبو عمرو الدانيّ: وَلي قضاء دمشق بعد بلال بن أبي الدرداء، ثم كان على مسجد دمشق، لا يَرَى فيه بدعة إلا غَيَّرها، وكان عالمًا قاضيًا صدوقًا، اتخذه أهل الشام إمامًا في قراءته واختياره.

وقال محمد بن سعد: مات سنة ثماني عشرة ومائة، وكان قليل الحديث، وقال يحيى بن الحارث الذِّمَاريّ: وُلد سنة (21) في أولها، ومات في أول عاشوراء من المحرم سنة (118) وفيها أَرَّخه غير واحد، ورُوي عن خالد بن يزيد بن صالح بن صبيح المزنيّ أنه قال: وُلد عبد الله بن عامر سنة (18) من الهجرة، وكان له يوم مات مائة وعشر سنين.

تفرّد به المصنّف وله عنده هذا الحديث فقط، والترمذيّ، وله عنده قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عثمان لعلّ الله يُقَمِّصك بقميص

" الحديث.

6 -

(مُعَاوِيةُ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أُميّة الأمويّ، أبو

ص: 600

عبد الرحمن الخليفة، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات في رجب سنة (60) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالشاميين من معاوية بن صالح.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وقد تولى الخلافة أربعين سنة، وكان قبلها أميرًا عشرين سنة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيِّ) بفتح الياء والصاد، هو أحد القرّاء السبعة، وقد ذكره الشاطبيّ رحمه الله بقوله:

وَأَمَّا دِمَشْقُ الشَّامِ دَارُ ابْنِ عَامِرٍ

فَتِلْكَ بِعَبْدِ اللهِ طَابَتْ مُحَلَّلَا

[تنبيه]: "الْيَحْصَبِيّ" بضمّ الصاد، وفتحها: منسوب إلى بني يحصب، هكذا قال النوويّ رحمه الله.

وقال في "اللباب": "الْيَحْصبيّ" بفتح الياء، وسكون الحاء، وكسر الصاد المهملة، وقيل: بضمّها، وكسر الموحّدة، هذه النسبة إلى يحصب، وهي قبيلة من حِمْيَر، وهو يحصب بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جُشَم بن عبد شمس بن وائل بن غوث، ويُنسب إليهم خلق كثير، وأكثرهم نزلوا الشام ومصر. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": وَيحْصُب مثلّثة الصاد: حيّ باليمن، والنسبة مثلّثة أيضًا، لا بالفتح فقط، كما زَعَم الجوهريّ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن اليحصبيّ مثلّث الصاد، وليس مقصورًا على الضمّ والفتح، كما صرّح به النوويّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 462.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 55.

ص: 601

(قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ) قال في "العمدة": فيه حذف المسموع؛ لأن المسموع هو الصوت، لا الشخص، قال الزمخشريّ: تقول: سمعت رجلًا يقول كذا، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يُسْمَع، أو جعلته حالًا عنه، فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف، أو الحال لم يكن منه بُدٌّ أن يقال: سمعت قول فلان. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "معاوية"(إِيَّاكُمْ وَأَحَادِيثَ) هكذا هو في أكثر النسخ "وأحاديث" بالتنكير، وفي بعضها:"والأحاديث" بالتعريف، وكلاهما صحيحان.

[تنبيه]: قوله: "إياكم وأحاديث" هو النوع المسمّى عند النحاة بالتحذير، وهو تنبيه المخاطب على أمر يجب الاحتراز منه، وهو منصوب بعامل محذوف وجوبًا، والتقدير: إياكم أُحَذّر، ودعوا أحاديث، وقيل في التقدير غير ذلك، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" حيث قال:

"إِيَّاكَ وَالشَّرَّ" وَنَحْوَهُ نَصَبْ

مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ

وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ وَمَا

سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا

إِلَّا مَعَ الْعَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ

كَـ "الضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي"

(إِلَّا حَدِيثًا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، ثمّ بيّن سبب استثنائه الحديث الذي كان في زمن عمر رضي الله عنه بقوله:(فَإِنَّ) الفاء للتعليل؛ أي لأن (عُمَرَ) رضي الله عنه (كَانَ يُخِيفُ) بضمّ أوله، من الإخافة (النَّاسَ) منصوب على المفعوليّة (فِي اللهِ عز وجل قال النوويّ رحمه الله: مراد معاوية رضي الله عنه النهي عن الإكثار من الأحاديث بغير تثبّت لَمّا شاع في زمنه من التحديث عن أهل الكتاب، وما وُجِد في كتبهم حين فُتِحَت بلدانهم، وأمرهم بالرجوع في الأحاديث إلى ما كان في زمن عمر رضي الله عنه؛ لضبطه الأمر، وشدّته فيه، وخوف الناس من سَطْوته، ومنعه الناس من المسارعة إلى الأحاديث، وطلبه الشهادة على ذلك حتى استقرّت الأحاديث، واشتهرت السنن. انتهى

(2)

.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ: "مَنْ) موصولة تضمنت معنى الشرط،

(1)

"عمدة القاري" 2/ 50.

(2)

"شرح النووي" 7/ 127 - 128.

ص: 602

فلذلك جزم بها "يُرِدْ"، و"يُفَقِّهْهُ"؛ لأنهما فعل الشرط والجزاء (يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا) أي منفعةً، وهو ضدُّ الشرّ، وهو هنا اسم، وليس بأفعل تفضيل، وإنما نكّره لإفادة التعميم؛ لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي، فالمعنى: مَن يرد الله به جميع الخيرات، ويجوز أن يكون التنوين للتعظيم، والمقام يقتضي ذلك، كما في قول الشاعر:

لَهُ حَاجِبٌ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَشِينُهُ

أي حاجبٌ عظيم، ومانعٌ قويّ.

(يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ") بجزم "يُفقّهه" على أنه جواب الشرط؛ أي يجعله فقيهًا في الدين، والفقه لغة الفهم، وعُرفًا العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، ولا يناسب هنا إلَّا المعنى اللغويّ؛ ليتناول فهم كل علم من علوم الدين.

وقال الحسن البصريّ: الفقيه هو الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، والبصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه.

وقال في "اللسان": الفقه: العلم بالشيء، والفهم له، وغَلَب على علم الدين؛ لسيادته، وشرفه، وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النَّجْم على الثُّرَيّا، والْعُود على الْمَنْدَل، قال ابن الأثير: واشتقاقه من الشِّقِّ والْفَتْح، وقد جعله العرف خاصًّا بعلم الشريعة -شرّفها الله تعالى- وتخصيصًا بعلم الفروع منها، وقال غيره: والفقه في الأصل: الفهم، يقال: أُوتي فلان فقهًا في الدين؛ أي فَهْمًا فيه، قال الله عز جل:{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]؛ أي ليكونوا علماء به. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "يُفَقِّهْهُ": أي يُفَهِّمه، وهي ساكنة الهاء؛ لأنها جواب الشرط، يقال: فَقُه بالضم: إذا صار الفقه له سجيةً، وفَقَهَ بالفتح: إذا سبق غيرَهُ إلى الفهم، وفَقِهَ بالكسر: إذا فَهِمَ، ونَكَّر "خيرًا"؛ ليشمل القليل والكثير، أو التنكير للتعظيم؛ لأن المقام يقتضيه، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين؛ أي يتعلم قواعد الإسلام، وما يتصل بها من الفروع، فقد حُرِمَ الخير، وقد أخرج أبو يعلى حديثَ معاوية رضي الله عنه من وجه آخر ضعيف، وزاد في

(1)

"لسان العرب" 13/ 522.

ص: 603

آخره: "ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به"، والمعنى صحيحٌ؛ لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهًا، ولا طالب فقه، فيصحُّ أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم. انتهى

(1)

.

قال معاوية رضي الله عنه: (وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا) من أدوات الحصر (أَنَا) مبتدأ، وخبره قوله:(خَازِنٌ) اسم فاعل، من خَزَنَ المال، من باب نصر: إذا أحرزه.

وفي الرواية الآتية: "وإنما أنا قاسم، والله يُعطي"، ومعناه: أن المعطي حقيقةً هو الله تعالى، ولست أنا معطيًا، وإنما أنا خازنٌ على ما عندي، ثم أَقْسِم ما أُمِرت بقسمته على حسب ما أُمرت به، فالأمور كلها بمشيئه الله تعالى وتقديره، والإنسان مُصَرَّفٌ مربوب، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "العمدة": فيه "إنما" التي تفيد الحصر، والمعنى: ما أنا إلَّا قاسمٌ.

[فإن قلت]: كيف يصحّ هذا، وله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى، مثل كونه رسولًا، ومبشرًا، ونذيرًا؟.

[أجيب]: بأن الحصر بالنسبة إلى اعتقاد السامع، وهذا ورد في مقامٍ كان السامع معتقدًا كونه معطيًا، وإن اعتقد أنه قاسمٌ، فلا ينفي إلَّا ما اعتقده السامع، لا كلَّ صفة من الصفات، وحينئذٍ إن اعتقد أنه معطٍ لا قاسمٌ، فيكون من باب قصر القلب؛ أي ما أنا إلَّا قاسمٌ؛ أي لا معطٍ، وإن اعتقد أنه قاسمٌ ومعطٍ أيضًا، فيكون من قصر الإفراد؛ أي لا شَرْكة في الوصفين؛ أي بل أنا قاسم فقط.

ومعناه: أنا أَقْسِم بينكم، فأُلقي إلى كل واحد ما يليق به، والله يُوَفِّق من يشاء منكم لفهمه، والتفكر في معناه.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: اعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلم أصحابه أنه لم يُفَضِّل في

(1)

"الفتح" 1/ 290 كتاب "العلم" رقم (71).

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 129.

ص: 604

قسمة ما أوحى الله إليه أحدًا من أمته على أحد، بل سوَّى في البلاغ، وعَدَلَ في القسمة، وإنما التفاوت في الفهم، وهو واقع من طريق العطاء، ولقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يسمع الحديث، فلا يفهم منه إلّا الظاهر الجليّ، ويسمعه آخر منهم، أو من بعدهم، فيستنبط منه مسائل كثيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقال الشيخ قطب الدين رحمه الله في "شرحه": قوله: "إنما أنا قاسم"؛ يعني أنه لم يستأثر بشيء من مال الله، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما لي بما أفاء الله عليكم إلَّا الخمس، وهو مردود عليكم"، وإنما قال:"أنا قاسم"؛ تطييبًا لنفوسهم؛ لمفاضلته في العطاء، فالمال لله، والعباد لله، وأَنا قاسم بإذن الله ماله بين عباده.

قال العينيّ رحمه الله: بين الكلامين بَوْنٌ؛ لأن الكلام الأول يُشْعِر القسمة في تبليغ الوحي، وبيان الشريعة، وهذا الكلام صريح في قسمة المال، ولكل منهما وجه.

أما الأول: فإن نَظَر صاحبه إلى سياق الكلام، فإنه أخبر فيه أن من أراد الله به خيرًا يفقهه في الدين؛ أي في دين الإسلام، قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقيل: الفقهُ في الدين: الفقهُ في القواعد الخمس، ويتصل الكلام عليها في الأحكام الشرعية، ثم لما كان فقههم متفاوتًا؛ لتفاوت الأفهام أشار إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنما أنا قاسم"؛ يعني أن هذا التفاوت ليس مني، وإنما الذي هو مني هو القسمة بينكم؛ يعني تبليغ الوحي إليهم، من غير تخصيص بأحد، والتفاوت في أفهامهم من الله تعالى؛ لأنه هو المعطي، يعطي الناس على قدر ما تعلقت به إرادته؛ لأن ذلك فضل منه يؤتيه من يشاء.

وأما الثاني: فإن نَظَر صاحبه إلى ظاهر الكلام؛ لأن القسمة حقيقةً تكون في الأموال، ولكن يتوجه هنا السؤال عن وجه مناسبة هذا الكلام لما قبله، ويمكن أن يجاب عنه بأن مَوْرِد الحديث كان وقت قسمة المال حين خصص صلى الله عليه وسلم بعضهم بالزيادة؛ لحكمة اقتضت ذلك، وخَفِيت عليهم، حتى تَعَرَّض بعضهم بأن هذه قسمة فيها تخصيص لناس، فرَدّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "من يرد الله

ص: 605

به

إلخ"؛ يعني من أراد الله به خيرًا يوفقه، ويزيد له في فهمه في أمور الشرع، ولا يعترض لأمر ليس على وفق خاطره؛ إذ الأمر كله لله، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يزيد وينقص، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قاسم، وليس بمعطٍ حتى يُنْسَب إليه الزيادة والنقصان، وعن هذا فَسَّر أصحاب الكلام الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "والله يعطي" بقولهم: أي مَن قسمت له كثيرًا فبقدر الله تعالى، وما سبق له في الكتاب، وكذا من قسمت له قليلًا فلا يزداد لأحد في رزقه، كما لا يزداد في أجله.

وقال الداوديّ رحمه الله: في قوله: "إنما أنا قاسم، والله يعطي" دليل على أنه إنما يعطي بالوحي، ثم قال في آخر كلامه: إن شأن أمته القيامُ على أمر الله إلى يوم القيامة، وهم الذين أراد الله بهم خيرًا حتى فَقِهُوا في الدين، ونصروا الحقّ، ولم يخافوا ممن خالفهم، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. انتهى

(1)

.

(فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ) بحذف المفعول الثاني؛ أي المالَ (عَنْ طِيبِ نَفْسٍ) أي طيب نفسه صلى الله عليه وسلم، وانشراح صدره لما أعطاه؛ يعني أنه لم يُعطه كارهًا (فَيُبَارَكُ) بالبناء للمفعول؛ أي يجعل الله تعالى البركة.

[تنبيه]: دخول الفاء على المضارع إذا وقع جواب شرط جائزٌ، كما في قوله تعالى:{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} [الجن: 13] ويكون الفعل مرفوعًا، بتقدير مبتدأ، والجملة جواب الشرط

(2)

؛ أي فهو يبارك له فيه، وفي رواية الطبرانيّ:"فإنه يبارك له فيه"(لَهُ) أي للشخص الْمُعْطَى (فِيهِ) أي في ذلك المال الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم له (وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ)"عن" هنا بمعنى "بَعْد"؛ أي بعد مسألته، كما في قوله تعالى:{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40]؛ أي بعد قليل، وقوله:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46 والمائدة: 13] أي بعد مواضعه، بدليل قوله في مكان آخر:{مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]، وقوله:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [الانشقاق: 19]؛ أي حالًا بعد حال، وقول الشاعر [من الرجز]:

(1)

راجع: "عمدة القاري" 2/ 51 - 52.

(2)

راجع: "حاشية الخضري على ابن عقيل" 2/ 190.

ص: 606

وَمَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ عَنْ مَنْهَلِ

قَفْرٍ بِهِ الأَعْطَانُ لَمْ تُسَهَّلِ

(1)

(وَشَرّهٍ) بفتحتين؛ أي شدّة حرص، يقال: شَرِهَ على الطعام وغيره شَرَهًا، من باب تَعِبَ، حَرَصَ أشدّ الحرص، فهو شَرِهٌ

(2)

. (كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ") قيل: هو الذي به داء لا يَشبع بسببه، وقيل: المراد تشبيهه بالبهيمة الراعية، والأول الأصحّ، وقد تقدّم بيانه.

زاد في رواية الطبرانيّ في آخر هذا الحديث: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تَزَالُ أُمَّةٌ من أُمَّتِي قَائِمَةً على أَمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ من خَالَفَهُمْ، وَلا من خَذَلَهُمْ، حتى يَأْتِيَ اللهُ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ على الناس"

(3)

، وقد تقدّم معنى هذه الزيادة للمصنّف في "كتاب الإيمان"، من حديث جابر رضي الله عنه، ومضى الكلام عليها، وستأتي أيضًا في "كتاب الإمارة" من حديث معاوية، وغيره، وسنتكلّم عليها هناك -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معاوية رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 2389](1037)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 97 و 99)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 193)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 106)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 370 و 371) و"مسند الشاميين"(3/ 129)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 340)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان شدّة معاوية رضي الله عنه حيث كان يُحذّر الناس من التحديث بالأحاديث التي لا يعتني بحفظها الناس، ولا يبالون ممن أخذوا؛ لئلا يقعوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثّهم على التحديث بما كان في أيام

(1)

راجع: "مغني اللبيب" 1/ 298.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 312.

(3)

"المعجم الكبير" 19/ 370.

ص: 607

عمر رضي الله عنه؛ لأن الناس كانوا معتنين بالحديث في أيامه؛ لأنه كان يخوّفهم بالله، ويشدّد عليهم في العناية بالحديث.

2 -

(ومنها): بيان فيه فضيلة العلم، والتفقه في الدين، والحثّ عليه؛ لأنه قائد إلى تقوى الله تعالى، والتزام طاعته، كما قال عز وجل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

3 -

(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم خازنٌ لما أوحي إليه من أمر الدين، وكذا لمال الله الذي آتاه له، وإنما المعطي هو الله تعالى، فتفاوت عطاياه للناس إنما كان بأمر الله عز وجل، لا من عند نفسه صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): بيان المال الذي أصابه الإنسان بالعطاء يكون مباركًا إذا كان عن طيب نفس المعطي.

5 -

(ومنها): بيان أن ما حصل للإنسان من المال عن مسألته، وشرهه، فلا يبارك له فيه، بل كان كالذي يأكل ولا يَشْبَع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا وتعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2390]

(1038) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ هَمَّام، عَنْ مُعَاوِيةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا، وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عَمْرُو) بن دينار الْجُمَحيّ، أبو محمد الأثرم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

4 -

(وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل بن سيح بن ذي كناز اليمانيّ الصنعانيّ الذِّمَاريّ، أبو عبد الله الأَبْنَاويّ، ثقةٌ [3].

ص: 608

رَوَى عن أبي هريرة، وأبى سعيد، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وأنس، وعمرو بن شعيب، وأبي خليفة البصريّ، وأخيه همام بن منبه، وغيرهم.

ورَوى عنه ابناه: عبد الله وعبد الرحمن، وابنا أخيه عبد الصمد وعقيل ابنا معقل بن منبه، وسبطه إدريس بن سنان، وعمرو بن دينار، وروى هو أيضًا عنه، وسماك بن الفضل، وإسرائيل أبو موسى، وآخرون.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: كان من أبناء فارس، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وكان على قضاء صنعاء، وقال أبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عمرو بن عليّ الفلاس: كان ضعيفًا

(1)

.

وقال أحمد بن محمد بن الأزهر: سمعت مسلمة بن هَمّام بن مسلمة بن هَمّام بن مُنَبِّه يذكر عن آبائه، قال: أصل منبه من خراسان، من أهل هَرَاة، أخرجه كسرى من هَرَاة؛ يعني إلى اليمن، فأسلم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحسن إسلامه، فسكن ولده باليمن، وكان وهب بن منبه يختلف إلى هراة، ويتفقد أمرها، وجاء من وجهين ضعيفين عن عبادة بن الصامت مرفوعًا:"سيكون رجلان في أمتي أحدهما يقال له: وهب يؤتيه الله تعالى الحكمة، والآخر يقال له: غيلان هو أضرّ على أمتي من إبليس".

قال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن الهرويّ: وُلد سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان، وقال ابن سعد وجماعة: مات سنة عشر ومائة، وقيل: مات سنة ثلاث عشرة، وقيل: سنة أربع عشرة، وقيل: سنة ست عشرة.

أخرج له البخاريّ

(2)

، والمصنّف وليس له عنده إلا هذا الحديث فقط، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه في "التفسير".

(1)

هكذا ذكر في "تهذيب التهذيب" ولم يذكر سبب ضعفه، وهو محلّ نظر، والله تعالى أعلم.

(2)

روى له البخاريّ حديثًا واحدًا من روايته عن أخيه، عن أبي هريرة:"ليس أحدٌ أكثر حديثًا مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب".

ص: 609

5 -

(هَمَّامُ) بن منبّه بن كامل، أبو عقبة الصنعانيّ، أخو وهب الراوي عنه، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

و"مُعَاوَيةُ" هو: ابن أبي سفيان رضي الله عنه ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى وهب، فأخرج له ابن ماجه في "التفسير".

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض، ورواية الراوي عن أخيه.

شرح الحديث:

(عَنْ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُلْحِفُوا) بضم حرف المضارعة، من ألحف رباعيًّا، وذكر السنديّ أنه من ألحف، أو لحّف بالتشديد، ولم أر في كتب اللغة التشديد، فليُنظر.

قال في "اللسان": الإلحاف: شدّة الإلحاح في المسألة، وألحف السائلُ: ألحّ، قال ابن بَرّيّ: ومنه قول بشّار بن بُرْد [من الرجز]:

الْحُرُّ يُلْحِي والْعَصَا لِلْعَبْدِ

وَلَيْسَ لِلْمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ

ونقل الأزهريّ، عن الزجّاج أن معنى ألحف شَمِلَ بالمسألة، وهو مستغنٍ عنها، قال: واللِّحَاف من هذا اشتقاقه؛ لأنه يَشمَل الإنسان في التغطية، قال: والمعنى في قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] أي ليس منهم سؤالٌ، فيكون إلحاح، كما قال امرؤ القيس [من الطويل]:

عَلَى لَا حِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

المعنى: ليس به منارٌ، فيُهتَدَى به. انتهى بتصرّف

(1)

، وسيأتي في الباب التالي معنى الآية المذكورة -إن شاء الله تعالى-.

(في الْمَسْأَلَةِ) مصدر بمعنى السؤال؛ أي لا تبالغوا، ولا تُلِحّوا في السؤال.

(1)

راجع: "لسان العرب" في مادة لحف.

ص: 610

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ولا تُلحفوا في المسألة" هكذا هو في بعض الأصول "في المسألة" بـ "في"، وفي بعضها بالباء، وكلاهما صحيح، والإلحاف: الإلحاح. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تلحفوا في المسألة" هكذا صحيح الرواية، ومعناه: لا تُنزلوا بي المسألة الملْحَفَ فيها؛ أي لا تُلحّوا عليّ في السؤال، والإلحاف: الإلحاح، وإنما نهى عن الإلحاح؛ لما يؤدّي إليه من الإبرام، واستثقال السائل، وإخجال المسؤول، حتى إنه إن أخرج شيئًا أخرجه عن غير طيب نفس، بل عن كراهة وتبرّم، وما استُخرج كذلك لم يُبارك فيه؛ لأنه مأخوذ على غير وجهه، ولذلك قال:"فتُخرِج له المسألة شيئًا، وأنا كارهٌ له"، ثم قد كان المنافقون يُكثرون سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليبخّلوه، فكان يُعطي العطايا الكثيرة بحسب ما يُسأل؛ لئلا يتمّ لهم غرضهم من نسبته إلى البخل، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنهم خيّروني بين أن يسألوني بالفحش، أو يُبَخّلوني، ولست بباخل"، رواه مسلم. انتهى

(2)

.

(فَوَاللهِ لَا يَسْأَلُنِي) أي بالإلحاف (أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا) أي من المال (فَتُخْرِجَ) قال القاري رحمه الله: بالتأنيث، والتذكير

(3)

، منصوبًا ومرفوعًا، وبالنسبة مجازيةً سببية في الإخراج. انتهى

(4)

.

(لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا، وَأَنَا لَهُ) أي لذلك الشيء؛ يعني لإعطائه، أو لذلك الإخراج الدالّ عليه "تخرج"(كَارِهٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَيُبَارَكَ لَهُ) بالبناء للمفعول، والنصب بـ "أن" مضمرة بعد الفاء السببيّة الواقعة في جواب النفي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ

وقال الأشرف رحمه الله: قوله: "فيبارك له" بالنصب بعد الفاء على معنى

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 129.

(2)

"المفهم" 3/ 83.

(3)

هذا بالنسبة لرواية "مشكاة المصابيح"، وأما بالنسبة لـ"صحيح مسلم" فليس فيه إلا التاء الفوقانيّة، فتنبّه.

(4)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 302.

ص: 611

الجمعية؛ أي لا يجتمع إعطائي أحدًا شيئًا، وأنا كارهٌ في ذلك الإعطاء، ويُباركَ الله في ذلك الذي أعطيته إياه، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد، فيلجَ النار

" الحديث

(1)

بنصب "يَلِجَ".

وقال القرطبيّ رحمه الله بعد كلام الأشرف هذا: هذا الحديث نظير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ} الآية [الأنعام: 52] في وجه الإعراب، لا في المعنى؛ لأن المعنى في الآية: الطرد المسبّب عن الحساب منفيّ عنك، فكيف تطردهم؟ فالمنفيّ الفعل المعلّل، وفي الحديث المعلّل هو المنفيّ؛ أي عدمُ السؤال الملحّ المخرج سببُ البركة، فيُفهم منه أن السؤال الملحّ سبب لعدم البركة، قال: ولو رُوي بالرفع لم يفتقر إلى هذا التكلّف، وجعله سببًا ومسبّبًا، بل يكون رفعًا على الاشتراك، فيكون كقوله تعالى:{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات: 36]. انتهى

(2)

.

(فِيمَا أَعْطَيْتُهُ") أي في المال الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم له، وهو كاره لعطائه، وفيه تحريم الإلحاح في السؤال؛ لأنه ورد بصيغة النهي، وهي للتحريم ما لم يصرفها صارف، ولا صارف هنا، وأن ما أُخذ عن إلحاح لا بركة فيه.

وقال الغزاليّ: من أخذ شيئًا مع العلم بأن باعث المعطي الحياء منه، أو من الحاضرين، ولولا ذلك لما أعطاه، فهو حرام إجماعًا، ويلزمه ردّه، أو رد بدله إليه أو إلى ورثته

(3)

.

وقال النوويّ: اتَّفَقَ العلماءُ على النهي عن السؤال لغير ضرورة، واختَلَف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين: أصحهما أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث، والثاني حلال مع الكراهة بثلاثة شروط: أن لا يُذِلّ نفسه، ولا يُلِحّ في السؤال، ولا يكلف بالمسؤول، فإن فُقِد أحد الشروط فحرام بالاتفاق. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

متّفقٌ عليه.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1512.

(3)

راجع: "المرقاة" 4/ 302.

ص: 612

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

حديث معاوية رضي الله عنه هذا أخرجه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 2390 و 2391](1038)، و (النسائيّ) في "الزكا ة"(2593) و"الكبرى"(2374)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 274)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 101)، و (الدارميّ) في "سننه"(1644)(4/ 98)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 71)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 106 - 107)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 183)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 348)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 196)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم الإلحاف، وهو النهي عنه، والظاهر أنه للتحريم؛ إذ لا صارف له.

2 -

(ومنها): بيان نزع البركة عما أُخِذ بالإلحاف.

3 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أن ما أُخذ بدون إلحاف يبارك الله تعالى فيه، وذلك كأن يسأل لحاجة، بدون إلحاح، أو يُعطَى بغير سؤال، ويوضّح ذلك حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه المتقدّم: "فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه

" الحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2391]

(

) - (حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ بِصَنْعَاءَ، فَأَطْعَمَنِي مِنْ جَوْزَةٍ فِي دَارِهِ

(1)

، عَنْ أَخِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوَيةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ).

(1)

وفي نسخة: "من جوزة كانت في داره".

ص: 613

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ) هذا كلام عمرو بن دينار، والجملة حاليّة من الفاعل، أو المفعول.

وقوله: (بِصَنْعَاءَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: صنعاء: بلدة من قواعد اليمن، والأكثر فيها المدّ، والنسبة إليها صَنْعانيّ بالنون، والقياس صنعاويّ بالواو. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِنْ جَوْزَةٍ فِي دَارِهِ)"الْجَوزة" بفتح الجيم، وسكون الواو: ثمر يؤكلٌ معربُ كَوْزة بالكاف

(2)

.

وقوله: (فَذَكَرَ مِثْلَهُ) الضمير لابن أبي عمر.

[تنبيه]: رواية ابن أبي عمر، عن سفيان هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(3/ 106) من رواية الحميديّ، عن سفيان، فقال:

(2314)

- حدّثنا أبو عليّ محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميديّ، ثنا سفيان بن عيينة، ثنا عمرو، سمعت وهب بن منبه، في داره بصنعاء، قال: وأطعمني من جَوْزَه

(3)

في داره، يحدّث عن أخيه، عن معاوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُلْحِفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا، فتخرجه له مني المسألة، فأعطيه إياه، وأنا كاره، فيبارك له في الذي أعطيته". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 348.

(2)

راجع: "المصباح" 1/ 115 و"المعجم الوسيط" 1/ 147.

(3)

وقع في النسخة: "من جودة" بالدال بدل الزاي، فأصلحته من مسلم وغيره.

ص: 614

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2392]

(1037) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يَخْطُبُ، يَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَيُعْطِي اللهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ الحافظ، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا أيضًا.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) تقدّم قريبًا.

و"معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنه، ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

وقوله: (وَهُوَ يَخْطُبُ) جملة حالية من المفعول.

وقوله: (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) في محلّ نصب مقول "يقول".

وقوله: (يَقُولُ) الثاني في محلّ نصب على الحال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (مَنْ) موصولة تضمنت معنى الشرط، فلذلك جُزِم بها "يَرِدْ"، و"يُفَقِّهْه"؛ لأنهما فعل الشرط والجزاء.

وقوله: (وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ)"إنما" من أدوات الحصر، و"أنا" مبتدأ، و"قاسم" خبره.

وقوله: "والله" أيضًا مبتدأ، و"يُعط" خبره، والجملة يصحّ أن تكون حالًا.

وقوله: "والله يُعطي" فيه تقديم لفظة "الله"؛ لإفادة التقوية عند السكاكيّ، ولا يَحْتَمِل التخصيص؛ أي الله يعطي لا محالةَ، وأما عند الزمخشريّ فيحتمله أيضًا، وحينئذٍ يكون معناه: الله يعطي لا غيره.

ص: 615

[فإن قلت]: إذا كانت جملة: "والله يعطي" حاليّةً، فما يكون معنى الحصر حينئذ؟.

[أجيب]: بأنّ الحصر بـ "إنما" دائمًا في الجزء الأخير، فيكون معناه: ما أنا بقاسم إلَّا في حال إعطاء الله، لا في حال غيره، وفيه حذف مفعول "يعطي"؛ لأنه جعله كاللازم إعلامًا بأن المقصود منه بيان هذه الحقيقة؛ أي حقيقة الإعطاء، لا بيان المفعول؛ أي الْمُعْطَى، أفاده في "العمدة"

(1)

، وتمام شرح الحديث قد سبق في شرح حديث معاوية رضي الله عنه المذكور أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 2392](1037)، و (البخاريّ) في "العلم"(71) و "فرض الخمس"(3119) و"الاعتصام"، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(221)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 101)، و (الدا رميّ) في "سننه"(1/ 73 - 74)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 238)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 408)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1/ 291)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 278 - 279)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 729 و 782 و 783 و 784 و 785)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 107)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(131)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "عمدة القاري" 2/ 52.

ص: 616

(35) - (بَابُ تَفْسِيرِ الْمِسْكِينِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2393]

(1039) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، يَعْنِي الْحِزَامِيَّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ"، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ، فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزَام المدنيّ، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.

ص: 617

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ) أي الكامل في المسكنة، قال القرطبيّ رحمه الله: مِفْعيل من السكون، فكأنّ مَنْ عَدِمَ المالَ سكنت حركاته، ووجوه مكاسبه، ولذلك قال تعالى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 16] أي لاصقًا بالتراب، وعند الأصمعيّ: أنه أسوأ حالًا من الفقير، وعند غيره عكس ذلك، وقيل: هما اسمان لمسمّى واحد. انتهى

(1)

، وسنكمّل الكلام في ضبط المسكين، واشتقاقه، وفي الفرق بينه والفقير في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحقّ بالصدقة، وأحوج إليها، ليس هو هذا الطّوّاف، بل هو الذي لا يَجِد غِنًى يُغنيه، ولا يُفْطَن له، ولا يَسأل الناس، وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطَوّاف، بل معناه نفي كمال المسكنة، كقوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية. انتهى

(2)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: قال العلماء: معنى الحديث أن المسكين الكامل المسكنة هو المتعفّف الذي لا يطوف على الناس، ولا يسألهم، ولا يُفْطَن لحاله، وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطَّوَّاف، وإنما معناه نفي كمالها، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من المفلس؟

" الحديث، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من الرَّقُوب؟

"، وكقوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} الآية.

واستَدَلّ ابن عبد البرّ على إطلاق اسم المسكنة على الطَّوّاف بحديث أم بجيد رضي الله عنها مرفوعًا: "رُدُّوا المسكين، ولو بظِلْف مُحْرَق"، وبقول عائشة رضي الله عنها: "إن المسكين ليقف على بابي

" الحديث، قال: وقد جعل الله تعالى الصدقات للفقراء والمساكين، وأجمعوا أن السائل الطَّوّاف المحتاج مسكين. انتهى

(3)

.

(1)

راجع: "المفهم" 3/ 84.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 129.

(3)

"طرح التثريب" 4/ 32 - 33.

ص: 618

(بِهَذَا الطَّوَّافِ) الباء زائدة في خبر "ليس"، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "مَا" وَ"لَيْسَ" جَرَّ الْبَا الْخَبَرْ

وَبَعْدَ "لَا" وَنَفْي "كَانَ" قَدْ يُجَرْ

و"الطَّوّاف" بفتح الطاء، وتشديد الواو صيغة مبالغة؛ أي من يُكثر الطواف، والإشارة يَحتمل أن تكون لحضوره ومشاهدته، وَيحْتَمل أن تكون لحقارته

(1)

.

(الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ) أي لسؤالهم (فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ) أي يُردّ على الأبواب لأجل اللقمة، أو أنه إذا أخذ اللقمة رجع إلى باب آخر، فكأن اللقمة ردّته من باب إلى باب.

قال في "اللسان": اللَّقْمَة -بالفتح- واللُّقْمة -بالضمّ-: ما تُهيّئه للَّقْم، قال: وفي "التهذيب": اللُّقْمة -بالضمّ- اسم لما يُهيّئه الإنسان للالتقام، واللَّقْمة -بالفتح- أكلها بمرّة، تقول: أكلتُ لُقْمةً بلَقْمَتين. انتهى.

وفي رواية للبخاريّ: "ليس المسكين الذي تردّه الأكلة، والأكلتان، ولكنّ المسكين الذي ليس له غنى، ويستحيي، أو لا يسأل الناس إلحافًا".

وقوله: "الأكلة، والأكلتان". قال أهل اللغة: الأُكلة -بالضمّ-: اللقمة، و-بالفتح-: المرّة من الغداء، والعشاء، والموافق هنا المضموم، بدليل رواية "اللقمة، واللقمتان".

قال السنديّ رحمه الله: المراد: ليس المسكين المعدود في مصارف الزكاة هذا المسكين، بل هذا داخل في الفقير، وإنما المسكين المستور الحال الذي لا يعرفه أحدٌ إلا بالتفتيش، وبه يتبيّن الفرق بين الفقير والمسكين في المصارف، وقيل: المراد: ليس المسكين الكامل الذي هوأحقّ بالصدقة، وأحوج إليها المردود على الأبواب لأجل اللقمة، ولكن الكامل الذي لا يجد

إلخ. انتهى.

(وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَمانِ") بالتاء المثناة الفوقيّة، هكذا في "الصحيحين" وغيرهما، ووقع في "السنن الكبرى" للنسائيّ بالثاء المثلّثة، والله تعالى أعلم.

(قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ؟) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في

(1)

"طرح التثريب" 4/ 33.

ص: 619

الأصول كلِّها: "فما المسكين؟ "، وهو صحيحٌ؛ لأن "ما" تأتي كثيرًا لصفات مَن يَعْقِل، كقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. انتهى

(1)

.

ووقع في رواية مالك بلفظ: "فمن المسكين"، وهي واضحة، قال في "الطرح": قوله: "فمن المسكين؟ "، كذا هو في روايتنا، من طريق أبي مصعب، عن مالك، وهو الوجه، وفي رواية يحيى بن يحيى، عن مالك:"فما المسكين؟ "، وتابعه عليه جماعة، كما ذكره ابن عبد البرّ، وكذا هو في "صحيح مسلم"، من طريق المغيرة بن عبد الرحمن الْحِزَاميّ، وله ثلاث توجيهات:

[أحدها]: أن يكون أراد: فما الحال التي يكون بها السائل مسكينًا؟.

[والثاني]: أن تكون "ما" هنا بمعنى "مَنْ"، كما قيل في قوله تعالى:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]، وقوله تعالى:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)} [الليل: 3]، ذكرهما ابن عبد البرّ رحمه الله.

[والثالث]: أن "ما" تأتي كثيرًا لصفات مَن يَعْقِل، كقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ؛ أي الطيب. انتهى

(2)

.

(قَالَ: "الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى) بكسر الغين مقصورًا: اليسار، وقوله (يُغْنِيه) صفة له، وهو قدر زائد على اليسار؛ إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يستغني به، بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، واللفظ مُحْتَمِلٌ لأن يكون المراد نفي أصل اليسار، ولأن يكون المراد نفي اليسار المقيَّد بأنه يُغنيه مع وجود أصل اليسار، وهذا كقوله تعالى:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، وكقول الشاعر:

عَلَى لَا حِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

وعلى الاحتمال الثاني ففيه أن المسكين هو الذي يملك ما يقع موقعًا من كفايته لا يكفيه، وهو حينئذ أحسن حالًا من الفقير، فإنه الذي لا يَملِك شيئًا أصلًا، أو يملك ما لا يقع موقعًا من كفايته، وبهذا قال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وفقهاء الكوفة، وقال به من أهل اللغة: الأصمعيّ، وأبو جعفر أحمد بن عُبيد،

(1)

"شرح النووي" 7/ 129 - 130.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 33.

ص: 620

واستُدِلَّ له أيضًا بقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]، فسماهم مساكين، مع أن لهم سفينةً؛ لكونها لا تقوم بجميع حاجتهم.

وعكس آخرون ذلك، فقالوا: الفقير أحسن حالًا من المسكين، حكاه ابن عبد البرّ، عن يونس بن حبيب، وابن السِّكِّيت، وابن قُتيبة، وقومٍ من أهل الفقه والحديث.

وقال آخرون: هما سواءٌ، ولا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، حكاه ابن عبد البرّ، عن ابن القاسم، وسائر أصحاب مالك، وحَكَى ابنُ بطال قولًا رابعًا، أن المسكين الذي يسأل، والفقير الذي لا يسأل

(1)

.

وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

(وَلَا يُفْطَنُ لَهُ) بالبناء للمفعول مخفّفًا، وهو مرفوعٌ عطفًا على "لا يجدُ"، وقوله:(فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ) منصوب بـ "أن" مضمرةً بعد الفاء السببيّة، كما مرّ نظيره قريبًا.

وقوله: (وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا") مرفوع عطفًا على "لا يجد" أيضًا، ووقع في رواية:"ولا يقوم، فيسأل الناس"، وعليها يكون قوله:"فيسألَ" منصوبًا مثل "فيُتصدَّق"، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 2393 و 2394 و 2395](1039)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1476) و"التفسير"(4539)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1631)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2571 و 2572 و 2573) و"الكبرى"(2352 و 2353 و 2354)، و (مالك) في "الموطّأ"(1713)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 96)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 456)، و (الطيالسيّ) في

(1)

"طرح التثريب" 4/ 33 - 34.

ص: 621

"مسنده"(1/ 312)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 260 و 316 و 395 و 469 و 493)، و (الدارميّ) في "سننه"(1615)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2363)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 92 و 139)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 107)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 30)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 220 و 265)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 195 و 7/ 11)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1603)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معنى المسكين الذي ذكره الله عز وجل بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60].

2 -

(ومنها): أن المسكنة إنما تُحمد مع العفّة عن السؤال، والصبر على الحاجة.

3 -

(ومنها): استحباب الحياء في كلّ الأحوال.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا لمن يقول: إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء، لكنه لا يكفيه، بخلاف الفقير فإنه الذي لا شيء له، كما سيأتي توجيهه، إن شاء الله تعالى.

5 -

(ومنها): حسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يُتحرّى وضعها فيمن صفته التعفّف، دون الإلحاح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين: قال العلّامة أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": واختلف علماء اللغة، وأهل الفقه في الفرق بين الفقير والمسكين على تسعة أقوال:

(الأول): ما ذهب إليه يعقوب بن السّكّيت، والْقُتَبيّ، ويونس بن حبيب من أنّ الفقير أحسن حالًا من المسكين، قالوا: الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه، ويُقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، واحتجّوا بقول الراعي [من البسيط]:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

ص: 622

وذهب إلى هذا قومٌ من أهل اللغة، والحديث، منهم أبو حنيفة، والقاضي عبد الوهّاب.

والوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام؛ يقال: حَلُوبته وفقَ عياله؛ أي لها لَبَنٌ قدرَ كفايتهم، لا فضل فيه، قاله الجوهريّ.

(الثاني): ذهب آخرون إلى أن المسكين أحسن حالًا من الفقير، واحتجّوا بقوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} الآية، فأخبر أنّ لهم سفينةً من سُفُن البحر، وربّما ساوت جملةً من المال، وعضدوه بما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تعوّذ من الفقر، وروي عنه أنه قال:"اللهمّ أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا"

(1)

، فلو كان المسكين أسوأ حالًا من الفقير لتناقض الخبران؛ إذ يستحيل أن يتعوّذ من الفقر، ثمّ يسأل ما هو أسوأ حالًا منه، وقد استجاب الله دعاءه، وقُبِض، وله مالٌ مما أفاء الله عليه، ولكن لم يكن معه تمام الكفاية؛ ولذلك رَهَنَ دِرْعَه، قالوا: وأمّا بيت الراعي، فلا حجّة فيه؛ لأنه إنما ذكر أن الفقير كانت له حَلُوبةٌ في حالٍ، قالوا: والفقير معناه في كلام العرب: المفقور الذي نُزِعت فِقَرُهُ

(2)

من ظهره من شدّة الفقر، فلا حال أشدّ من هذه، وقد أخبر الله بقوله:{لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 273]، واستشهدوا بقول الشاعر [من الكامل]:

لَمَّا رَأَى لُبَدُ

(3)

النُّسُورَ تَطَايَرَتْ

رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الأَعْزَلِ

أي لم يُطق الطيران، فصار بمنزلة من انقطع صلبه، ولَصِق بالأرض، ذهب إلى هذا الأصمعيّ، وغيره، وحكاه الطحاويّ عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعيّ، وأكثرِ أصحابه.

(1)

أخرجه الترمذيّ في جامعه، بسند ضعيف.

(2)

الفقرة -بالكسر- والفَقْرة، والفقارة -بالفتح-: ما انتضد من عظام الصلب، من لدن الكاهل إلى العجب.

(3)

لُبَد اسم آخر نِسورِ لقمان بن عاد، سماه بذلك لأنه لبد، فبقي لا يذهب، ولا يموت، والقوادم أربع ريشات في مقدّم الجناح، الواحدة قادمة. من هامش القرطبيّ 8/ 189.

ص: 623

(الثالث): أنّ الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، وإلى هذا ذهب الشافعيّ في أحد قوليه، وابن القاسم، وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.

قال القرطبيّ: ظاهر اللفظ يدلّ على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أنّ أحد الصنفين، أشدّ حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفًا واحدًا، ولا حجّة في قول من احتجّ بقوله:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} ؛ لأنه يَحْتَمِل أن تكون مستأجرة لهم؛ كما يقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنها، وإن كانت لغيره، وقد قال الله تعالى في وصف أهل النار:{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)} الحج: 21]، فأضافها إليهم، وقال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم:"من باع عبدًا، وله مالٌ"، وهو كثير جدًّا يُضاف الشيء إليه، وليس له، ومنه قولهم: باب الدار، وجُلُّ الدابّة، وسَرْجُ الفرس، وشبهه، ويجوز أن يُسمَّوا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف؛ كما يقال لمن امتُحِنَ بنكبة، أو دُفع إلى بليّة: مسكين، وفي الحديث:"مساكين أهل النار"، وقال الشاعر [من الطويل]:

مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ

عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ

وأمّا ما تأوّلوه من قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ أحيني مسكينًا" الحديث، رواه أنس، فليس كذلك؛ وإنما المعنى هاهنا التواضع لله الذي لا جبروت فيه، ولا نخوَة، ولا كِبْر، ولا بَطَرَ، ولا تكبّر، ولا أَشَرَ، ولقد أحسن أبو العَتَاهية، حيث قال [من البسيط]:

إِذَا أَرَدت شَرِيفَ الْقَوْمِ كُلِّهِمِ

فَانْظُرْ إِلَى مَلِكٍ فِي زِيِّ مِسْكِينِ

ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللهِ رَغْبَتُهُ

وَذَاكَ يَصْلُحُ لِلدُّنْيَا وَللدِّينِ

وليس بالسائل؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال، ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق:"دعوها، فإنها جبّارة"

(1)

. وأما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 273]، فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. والله أعلم.

(1)

لم أر من أخرجه.

ص: 624

وما ذهب إليه أصحاب مالك، والشافعيّ في أنهما سواء حسن.

(الرابع): ما ذكره ابن سُحنون عن مالك، أنه قال: الفقير المحتاج المتعفّف، والمسكين السائل، وروي عن ابن عبّاس، وقاله الزهريّ، واختاره ابن شعبان.

(الخامس): ما قاله محمد بن مسلمة: الفقير الذي له المسكن، والخادم، والمسكين الذي لا مال له.

قال القرطبيّ: وهذا القول عكس ما ثبت في "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو، وسأله رجلٌ، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإنّ لي خادمًا، قال: فأنت من الملوك.

(السادس): ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: الفقير من المهاجرين، والمساكين من الأعراب الذين لم يهاجروا. وقاله الضحّاك.

(السابع): أن المسكين الذي يخشع، ويستكنّ، وإن لم يسأل، والفقير: الذي يتحمّل، ويقبل الشيء سرًّا، ولا يخشع. قاله عبيد الله بن الحسن.

(الثامن): المساكين الطّوّافون، والفقراء فقراء المسلمين. قاله مجاهد، وعكرمة، والزهريّ.

(التاسع): الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. قاله عكرمة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله بتصرّف

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله في "النهاية": وقد تكرّر ذكر المسكين، والمساكين، والمسكنة، والتمسكن، قال: وكلّها يدور معناه على الخضوع والذلّة، وقلّة المال، والحال السيّئة، واستكان: إذا خَضَعَ، والمسكنة: فقر النفس، وتمسكن: إذا تشبّه بالمساكين، وهم جمع المسكين، وهو الذي لا شيء له. وقيل: هو الذي له بعض الشيء. وقد تقع المسكنة على الضعف. انتهى

(2)

.

وقال العلّامة اللغويّ ابن منظور: رحمه الله في كتابه "لسان العرب": والْمِسْكين

(1)

جامع الأحكام 8/ 168 - 171.

(2)

راجع: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 385.

ص: 625

أي بالكسر، والْمَسْكين أي بالفتح- الأخيرة نادرة؛ لأنه ليس في الكلام مَفْعِيل-: الذي لا شيء له، وقيل: الذي لا شيء له يكفي عياله، قال أبو إسحاق: المسكين الذي أسكنه الفقر؛ أي قلّل حركته، وهذا بعيد؛ لأن مسكيناً في معنى فاعل، وقوله: الذي أسكنه الفقر يُخرجه إلى معنى مفعول، وهو مِفْعيل من السكون، مثلُ الْمِنْطيق من النُّطْق، قال ابن الأنباريّ: قال يونس: الفقير أحسن حالًا من المسكين، والفقير الذي له بعض ما يُقيمه، والمسكين أسوأ حالًا من الفقير، وهو قول ابن السكيت؛ قال يونس: وقلت لأعرابيّ: أفقير أنت أم مسكين؟ فقال: لا والله، بل مسكين، فأعلم أنه أسوأ حالًا من الفقير؛ واحتجّوا على أن المسكين أسوأ حالًا من الفقير بقول الراعي [من البسيط]:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

فأثبت أن للفقير حَلوبةً، وجعلها وَفْقًا لعياله؛ قال: وقول مالك في هذا كقول يونس، وروي عن الأصمعيّ أنه قال: المسكين أحسن حالًا من الفقير، وإليه ذهب أحمد بن عُبيد، قال: وهو القول الصحيح عندنا؛ لأن الله تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فأخبر أنهم مساكين، وأن لهم سفينة، تساوي جملة، وقال:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، فهذه الحال التي أخبر بها عن الفقراء، هي دون الحال التي أخبر بها عن المساكين. قال ابن برّيّ: وإلى هذا القول ذهب عليّ بن حمزة الأصفهانيّ اللغويّ، ويرى أنه الصواب، وما سواه خطأٌ، واستدلّ على ذلك بقوله:{مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} ، فأكّد عز وجل سُوء حاله بصفة الفقر؛ لأنّ الْمَتْرَبة الفقر، ولا يؤكّد الشيء إلا بما هو أوكد منه، واستدلّ على ذلك بقوله عز وجل:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} ، فأثبت أنّ لهم سفينة يعملون عليها في البحر، واستدلّ أيضًا بقول الراجز:

هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤجَرُهُ

تُغِيثُ مِسْكِينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ

عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ

قَدْحَدَّثَ النَفْسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ

فأثبت أنّ له عشر شياه، وأراد بقوله: عسكره غنمه، وأنها قليلة، واستدلّ

ص: 626

أيضًا ببيت الراعي، وزعم أنه أعدل شاهد على صحّة ذلك، وهو قوله: أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ؛ لأنه قال: أما الفقير الذي كانت حَلُوبته، ولم يقل: الذي حلوبته، وقال: فلم يُترك له سَبَدٌ، فأعلمك أنه كانت له حلوبة تقوت عياله، ومن كانت هذه حاله، فليس بفقير، ولكن مسكين، ثم أعلمك أنها أُخذت منه، فصار إذ ذاك فقيرًا؛ يعني ابنُ حمزة بهذا القول أنّ الشاعر لم يُثبت أن للفقير حَلوبة؛ لأنه قال: الذي كانت حلوبته، ولم يقل: الذي حلوبته، وهذا كما تقول: أما الفقير الذي كان له مالى، وثَرْوَةٌ، فإنه لم يُترك له سَبَد، فلم يُثبت بهذا أن للفقير مالًا وثروة، وإنما أثبت سُوء حاله الذي به صار فقيرًا، بعد أن كان ذا مال وثروة، وكذلك يكون المعنى في قوله:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

أنه أثبت فقره لعدم حلوبته بعد أن كان مسكينًا قبل حلوبته، ولم يُرد أنه فقير مع وجودها، فإنّ ذلك لا يصحّ كما لا يصحّ أن يكون للفقير مالٌ وثروة في قولك: أما الفقير الذي كان له مالٌ وثروة؛ لأنه لا يكون فقيرًا مع ثروته وماله.

قال: فثبت بهذا أن المسكين أصلح حالًا من الفقير، قال عليّ بن حمزة: ولذلك بدأ الله تعالى بالفقير قبل من يستحقّ الصدقة من المسكين وغيره، وأنت إذا تأمّلت قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60]، وجدته سبحانه قد رتّبهم، فجعل الثاني أصلح حالًا من الأول، والثالثَ أصلح حالًا من الثاني، وكذلك الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن. قال: ومما يدلّك على أن المسكين أصلح حالًا من الفقير أن العرب قد تسمّت به، ولم تتسمّ بفقير لتناهي الفقر في سوء الحال، ألا ترى أنهم قالوا: تمسكن الرجل، فبنوا منه فعلًا على معنى التشبيه بالمسكين في زيّه، ولم يفعلوا ذلك في الفقير؛ إذ كانت حاله لا يَتزيّا بها أحد، قال: ولهذا رَغِبَ الأعرابيّ الذي سأله يونس عن اسم الفقير لتناهيه في سوء الحال، فآثر التسمية بالمسكنة، أو أراد أنه ذليلٌ لبعده عن قومه ووطنه، قال: ولا أظنّه أراد إلا ذلك، ووافق قولُ الأصمعيّ، وابنِ حمزة في هذا قولَ الشافعيّ.

وقال قتادة: الفقير الذي به زمانة، والمسكين الصحيح المحتاج، وقال

ص: 627

زيادة الله بن أحمد: الفقير القاعد في بيته، لا يسأل، والمسكين الذي يسأل. انتهى كلام ابن منظور رحمه الله باختصار

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تحرّر مما لْقدّم أن قول الجمهور، ومنهم الشافعيّ رحمه الله: إن الفقير أسوأ حالًا من المسكين هو الأرجح؛ لآية: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} الآية، ولحديث الباب، حيث وصفه بقوله:"الذي لا يجد غنى يُغنيه"، فإنه دالّ على أن له شيئًا من المال، لكنه لا يكفيه، ولآية الصدقة، حيث رتّبت المستحقّين لها بالترقّي من الأدنى إلى الأعلى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2394]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ

(2)

الْمُتَعَفِّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابد [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

3 -

(شَرِيكُ) بن عبد الله بن أبي نَمِر، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ يخطئ [5] مات في حدود (140)(خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ) الهلالي المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابد فاضلٌ، من صغار [2](ت 93)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 226.

(1)

راجع: "لسان العرب " 13/ 214 - 216. طبعة دار صادر- بيروت.

(2)

وفي نسخة: "إن المسكين".

ص: 628

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (إِنَّمَا الْمِسْكِينُ) وفي نسخة: "إِنَّ الْمِسْكِينَ"؛ أي إن الكامل في المسكنة.

وقوله: (الْمُتَعَففُ) أي الممتنع عن المسألة، بمعنى أنه لا يسأل الناس مع احتياجه تعفّفًا، ولذا أتبعه بقوله:"اقرأوا إن شئتم: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] " أي إن أردتم أن تعلموا معنى المسكين من كتاب الله تعالى، فاقرءوا هذه الآية.

قال السمين الحلبيّ رحمه الله: الإلحاف، والإلحاح، واللَّجَاج، والإحفاء، كلّه بمعنًى، يقال: ألحف، وألحّ في المسألة: إذا لجّ فيها، قال: واشتقاقه من اللِّحَاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته، ويعمّهم، كما يشتمل الفحاف مَنْ تحتَهُ ويُغطّيه، ومنه قول ابن أحمر يَصِفُ ذَكَر نَعَام يَحضُنُ بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف [من الكامل]:

يَظَلُّ يَحُفّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ

(1)

وَيُلْحِفُهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا

وقال آخر في المعنى [من الرمل]:

ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ الْمِسْكِ بِهِمْ

يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ

أي يُلبسونها الأرض كإلباس اللحاف للشيء، وقيل: بل اشتقاق اللفظة من لَحْفِ الجبلِ، وهو المكان الخَشِنُ، ومجازه أنّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته، وقيل: بل هي من لَحَفَني فلانٌ: أي أعطاني فضل ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأول.

قال: وفي نصب {إِلْحَافًا} ثلاثة أوجه:

(أحدها): نصبه على المصدر بفعل مقدّر؛ أي يُلحفون إلحافًا، والجملة المقدّرة حالٌ من فاعل {يَسْأَلُونَ} .

(الثاني): أن يكون مفعولًا من أجله: أي لا يسألون لأجل الإلحاف.

(الثالث): أن يكون مصدرًا في موضع الحال، تقديره: لا يسألون مُلحفين.

(1)

قفقفا الطائر: جناحاه.

ص: 629

وقال أبو عبيدة: انتصب إلحافًا على أنه مصدر في موضع الحال؛ أي لا يسألون الناس في حال الإلحاف، أو مفعولٌ لأجله؛ أي لا يسألون لأجل الإلحاف. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله: وهل المراد نفي المسألة؛ أي لا يسألون أصلًا، أو نفي السؤال بالإلحاف خاصّة، فلا ينتفي السؤال بغير إلحاف؟ فيه احتمال، والثاني أكثر في الاستعمال، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أَبُو سألوا لم يسألوا إلحافًا، فلا يستلزم الوقوع. انتهى

(2)

.

وقال السمين رحمه الله واعلم أن العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد، نحو: ما رأيت رجلًا صالحًا، الأكثر على أنك رأيت رجلًا، ولكن ليس بصالح، ويجوز أنك لم تر رجلًا البتّة، لا صالحًا، ولا طالحأ، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} المفهوم أنهم يسألون لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون، ولا يُلحفون، والمعنيان منقولان في التفسير، والأرجح الأوّل عندهم، ومثله في المعنى: ما تأتينا، فتحدّثنا، يجوز أنه يأتيهم، ولا يحدّثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم، ولا يُحدّثهم، انتفى السبب، وهو الإتيان، فانتفى السبب، وهو التحديث.

وقد شبّه الزجّاج رحمه الله معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس، وهو قوله [من الطويل]:

عَلَى لاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

إَذَا سَافَهُ الْعَوْدُ النَّبَاطيُّ جَرْجَرَا

(3)

قال أبو حيّان: تشبيه الزجّاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين؛ أي لا سؤال، ولا إلحاف، وكذلك هذا: لا منار، ولا هداية، لا أنه مثله في خصوصيّة النفي؛ إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف، فلا سؤال، وليس

(1)

راجع: "الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 1/ 657 - 658.

(2)

راجع: "الفتح" في كتاب "التفسير" 9/ 63.

(3)

"اللاحب": الطريق الواضح، و"سافه": شَمّه، و"الْعَوْد": الجمل المسنّ، و"جرجر": صوّت، وقوله:"لا يهتدى بمناره" يريد نفي المنار والاهتداء.

ص: 630

تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصحّ لا إلحاف فلا سؤال؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العائم، كما لَزِم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن أَبُو كان التركيب:"لا يلحفون الناس سؤالًا"؛ لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف؛ إذ نفي العامّ يدلّ على نفي الخاصّ، فتلخص من هذا كله أن نفي الشيئين تارةً تُدخِل حرفَ النفي على شيء، فتنتفي جميعُ عوارضه، وتُنَبِّه على بعضها بالذكر؛ لغرض فا، وتارة تُدخل حرفَ النفي على عارض من عوارضه، والمقصود نفيه، فينتفي لنفيه عوارضه

(1)

.

قال السمين رحمه الله: قد سبقه ابن عطيّة إلى هذا، فقال: تشبيهه ليس مثله في خصوصيّة النفي؛ لأن انتفاء المنار في البيت يدلّ على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال، وأطال ابن عطيّة في تقرير هذا، وجوابه ما تقذم، من أن المراد نفي الشيئين، لا بالطريق المذكور في البيت، وكان أبو حيان قد قال قبلُ ما حكيته عنه آنفًا: ونظير هذا ما تاتينا فَتُحَدِّثَنا، فعلى الوجه الأول -يعني نفيَ القيد وحده- ما تأتينا محدثًا، إنما تأتي ولا تُحَدِّث، وعلى الوجه الثاني -يعني نفي الحكم بقيده- ما يكون منك إتيان، فلا يكون حديث، وكذلك هذا: لا يقع منهم سؤال البتةَ، فلا يقع إلحاح، ونَبَّهَ على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي مثل هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول؛ لأنه نَفَى الأولَ على سبيل العموم، فتنتفي مترتباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان، فانتفى الحديثُ، انتفت جميع مترتبات الإتيان، من المجالسة، والمشاهدة، والكينونة في محل واحد، ولكنه نَبَّهَ بذكر مترتب واحد؛ لغرضبى مّا على ذكر سائر المترتبات.

قال: وطريقة أبي إسحاق الزجّاج هذه قد قبلها الناس، ونصروها، واستحسنوا تنظيرها بالبيت، كالفارسيّ، وأبي بكر الأنباريّ، قال أبو عليّ: لم

(1)

"تفسير البحر المحيط" 2/ 343.

ص: 631

يُثبت في قوله {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} مسألة فيهم؛ لأن المعنى: ليس منهم مسألة، فيكون منهم إلحافٌ، ومثل ذلك قول الشاعر:

لَا يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا

وَلَا تَرَى الضبَّ بِهَا يَنْحَجِرْ

أي ليس فيها أرنبٌ، فيَفْزَع لهولها، ولا ضبّ، فينحجر، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب، والانحجار عن الضبّ.

وقال أبو بكر: تأويل الآية: لا يسألون البتّة، فيُخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف، فجرى هذا مجرى قولك: فلانٌ لا يُرجَى خيره؛ أي لا خير عنده البتّة، فيُرجى، وأنشد قول امرئ القيس:

وَصُمٌّ صِلَابٌ مَا يَقِينَ مِنَ الْوَجَى

كَانَّ مَكَانَ الرِّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَأْلِ

(1)

أي ليس بهنّ وجى، فيشتكين من أجله، وقال الأعشى:

لَا يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلَا وَصَبٍ

وَلَا يَعَضُّ عنَى شُرْسوفِهِ الصَّفَرُ

(2)

معناه: ليس بساقه أينٌ، ولا وصبٌ، فيغمزها.

وقال الفرّاء قريبًا منه، فإنه قال: نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال، كما تقول في الكلام: قَلّما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلّك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه.

وجعل أبو بكر الآية عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وإن التقدير: لا يسالون الناس إلحافًا، ولا غير إلحاف، كقوله تعالى:{تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أي والبرد. انتهى كلام السمين رحمه الله

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره السمين رحمه الله من كلام أئمة اللغة تحقيقٌ حسن، وخلاصته ترجيح كون معنى الآية نفي الإلحاح والسؤال، فلا سؤال، ولا إلحاح، وهذا هو المعنى الموافق لتفسيره صلى الله عليه وسلم المسكين بالمتعفّف،

(1)

يصف حوافر الفرس، والوجى: أن تشتكي الحوافر من الحفا، والرأل: فرخ النعامة.

(2)

"الوصب": المرض، والشرسوف: واحد الشراسيف، وهي الأضلاع، والصَّفَرُ: الحيّة.

(3)

راجع: "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" 2/ 622 - 627.

ص: 632

أي الممتنع عن السؤال، وقال في الرواية الماضية:"ولا يسأل الناس شيئًا"؛ أي لا يسأل أصلًا.

والحديث متَّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[3295]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ، أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) محمد بن إسحاق الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 166.

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله (80) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل المذكور في السند الماضي، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ) الأنصاريّ النجّاريّ المدنيّ، ثقةٌ، من صغار [2](ع) تقدم فبم "المساجد ومواضع الصلاة" 47/ 1492.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ) يعني أن محمد بن جعفر حدث عن شريك بمثل حديث أخيه إسماعيل بن جعفر عنه.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر، عن شريك هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4539)

- حدّثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثني

ص: 633

شريك بن أبي نَمِر، أن عطاء بن يسار، وعبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاريّ قالا: سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (اليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، ولا اللقمة ولا اللقمتان، إنما المسكين الذي يتعَفَّف، واقرءوا إن شئتم؛ يعني قوله:{لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(36) - (بَابُ بَيَانِ ذَمِّ مَسْأَلةِ النَّاسِ إِلا مِنْ حَاجَةٍ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2396]

(1040) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِم أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَزَالُ المَسْأَلةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، ثزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ) هو: عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرَة الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، أخو الزهريّ الإمام، وكان هو الأكبر، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وحمزة بن عبد الله بن عمر، وحنظلة بن قيس الزرَقيّ، وعبد الله بن ثعلبة بن صُعَير، وأخيه محمد بن مسلم بن شهاب الزهريّ، ومولى لأسماء بنت أبي بكر، وغيرهم.

ص: 634

ورَوَى عنه أخوه، وابنه محمد بن عبد الله، وبُكير بن الأشج، والنعمان بن راشد، وجماعة.

قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ ثبتٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات لا، وقال أحمد بن صالح: يروي عن الزهريّ، ويروي عنه، وقال خليفة: تُوُفي قبل أخيه، وكذا قال الواقديّ، وزاد: وكان ثقةٌ كثير الحديث، وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث، وهو أشبه.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1040)، وحديث (1448):"إن حمزة أخي من الرضاعة".

5 -

(حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن الخطّاب المدنيّ، شقيق سالم، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 945.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وأخو الزهرفي علّق عنه البخاريّ، وأخرج له الباقون.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من أخي الزهريّ، وأبو بكر كوفيّ، والباقيان بصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا تَزَالُ الْمَسْاَلةُ) أي سؤال الناس المال، والمراد سؤال التكثّر، من غير حاجة، ولا ضرورة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من سأل الناس أموالهم تكثّرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقلّ، أو ليستكثر".

ص: 635

(بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى الله) أي حتى يموت، فيلقى الله عز وجل (وَلَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ") جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، و"الْمُزْعَةُ"- بضم الميم، وسكون الزاي، وبالعين المهملة-: القطعة، وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي، والذي أحفظه عن المحدثين الضمّ، وقال ابن فارس: بكسر الميم، واقتصر عليه القَزّاز في "جامعه"، وذكر ابن سِيدَهْ الضم فقط، وكذا الجوهريّ، قال: وبالكسر من الرِّيش، والقطن، يقال: مَزَعْتُ اللحمَ: قطعتُهُ قطعة قطعةً، ويقال: أطعمه مُزْعَةً من لحم: أي قطعةً منه.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مُزْعُة لحم": أي قطعة لحم، ومنه مَزَعَت المرأةُ الصوفَ: إذا قطّعته لتهيّئه للغزل، وتمزعّ أنفه: أي تشقّق. وهذا كما قيل في الحديث الآخر: "المسائل كُدُوحٌ، أو خُدُوشٌ، يَخدُشُ بها الرجل وجهه يوم القيامة".

وهذا محمولٌ على كلّ من سأل سؤالًا لا يجوز له. وخصّ الوجه بهذا النوع؛ لأنّ الجناية به وقعت؛ إذ قد بذل من وجهه ما أُمر بصونه عنه، وتصرّف به في غير ما سُوّغ له. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معناه يأتي يوم القيامة ذليلًا ساقطًا، لا وجه له عند الله، وقيل: هو على ظاهره، فيُحْشَر ووجهه عظم لا لحم عليه؛ عقوبةً له، وعلامة له بذنبه حين طلب، وسأل بوجهه، كما جاءت الأحاديث الأُخَر بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالًا منهيًّا عنه، وأكثر منه، كما في الرواية الأخرى:"من سأل تكثرًا"، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال الخطابيّ رحمه الله يَحْتَمِل أن يكودن المراد أنه يأتي ساقطًا، لا قَدْرَ له، ولا جاه، أو يُعَذَّب في وجهه حتى يسقط لحمه؛ لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء؛ لكونه أذلَّ وجهَهُ بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عَظْمٌ كله، فيكون ذلك شعاره الذي يُعْرَف به. انتهى.

(1)

"المفهم" 3/ 85.

(2)

راجع: "الإكمال" 3/ 574 - 575.

ص: 636

قال الحافظ رحمه الله: والأول صرف للحديث عن ظاهره، وقد يؤيده ما أخرجه الطبرانيّ والبزار من حديث مسعود بن عمرو مرفوعًا: دالا يزال العبد يسأل، وهو غنيّ حتى يَخْلُق وجهه، فلا يكون له عند الله وجهٌ".

وقال ابن أبي جمرة: معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء؛ لأن حسن الوجه هو مما فيه من اللحم. انتهى.

ومال المهلَّب رحمه الله إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السرّ فيه أن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره، قال: والمراد به من سال تكثرًا، وهو غنيّ لا تحل له الصدقة، وأما من سأل، وهو مضطرّ فذلك مباح له، فلا يعاقب عليه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حمل الحديث على ظاهره -كما رأى المهلّب رحمه الله هو الأولى، ولا ينافيه حديث الطبرانيّ والبزّار المذكور؛ لأن المعنى: أنه يأتي يوم القيامة وقد سقط لحم وجهه، ومع ذلك لا يكون له وجهٌ؛ أي شرحث عند الله تعالى، وقد أورد البخاريّ رحمه الله مؤيّدًا حمل الحديث على ظاهره بعد أن أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الشفاعة، فقال: وقال: "إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العَرَق نصف الأذن، فبينا هم كذلك، استغاثوا باَدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وزاد عبد الله بن صالح: حدثني الليث، حدثني ابن أبي جعفر:"فيشفع ليُقضَى بين الخلق، فيمشي، حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محموداً، يحمده أهل الجمع كلهم". انتهى.

ووجه ذلك أن الشمس إذا دنت يكون مَن لا لحم على وجهه أشدّ تأذّيًا بها من غيره.

والحاصل أن ظاهر الحديث هو المقصود، وبقيّة المعاني لا تنافيه، فيبعث لا لحم على وجهه، ويكون لا قدر له عند الله تعالى، ويعذّب بتساقط لحمه.

(1)

"الفتح" 4/ 321 - 322، و"عمدة القاري" 9/ 56.

ص: 637

وهذا كلّه فيمن سأل تكثّرًا، وهو غنيّ، لا تحلّ له الصدقة، وأما من سأل، وهو مضطرٌّ، فذلك مباحٌ له، فلا يناله الوعيد المذكور؛ للأدلّة الأخرى التي تدلّ على عدم دخوله فيه، كما أشرت إليه سابقًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما ذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2396 و 2397 و 2398](1040)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1475)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 50)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه "(11/ 92)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه "(424)، و (أحمد) في (أمسنده " (15/ 2 و 88)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 262)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 108 - 109)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط "(1/ 104 و 8/ 310)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ذمّ مسألة الناس تكثّرًا، دون ضرورة.

2 -

(ومنها): بيان عقوبة مَنْ أكثر من سؤال الناس، وهو أنه يأتي يوم القيامة، وليس على وجهه قطعة لحم.

3 -

(ومنها): أن يوم القيامة هو يوم وقوع الجزاء الأوفى، من ثواب، أو عقاب.

4 -

(ومنها): ما نَقَل ابن بطال عن المهلَّب، قال: فَهِم البخاريّ أن الذي يأتي يوم القيامة لا لحم في وجهه من كثرة السؤال أنه للسائل تكثُّراً لغير ضرورة إلى السؤال، ومن سأل تكثرًا فهو غنيّ، لا تحل له الصدقة، وإذا جاء يوم القيامة لا لحم على وجهه، فتؤذيه الشمس أكثر من غيره، ألا ترى قوله في الحديث: "الشمس تدنو حتى يبلغ الْعَرَق نصف الأذن

"، فَحَذَّر من الإلحاف في المسألة لغير حاجة إليها، وأما من سال مضطرًّا فمباح له ذلك،

ص: 638

إذا لم يجد عنها بُدًّا، ورَضِي بما قُسِم له، وُيرْجَى أن يؤجر عليها

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2397]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَخِي الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ"مُزْعَةُ ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد، تقدّم قبل بابين.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن عليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 2.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ "مُزْعَةُ") يعني إسماعيل لم يذكر في روايته لفظ "مُزْعة"، هكذا قال المصنّف رحمه الله، والظاهر أنه لم يقع في روايته، وإلا فالحديث عند الإمام أحمد رحمه الله فيه ذكر "مُزعة"، كما يأتي في التنبيه التالي، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عليّة، عن معمر هذه ساقها الإمام أحمد: رحمه الله، فقال في "مسنده":

(4624)

- حدّثني إسماعيل، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن مسلم أخي الزهريّ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تبارك وتعالى، وليس في وجهه مُزْعَة لحم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المنّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2398]

(

) - (حَدَّثَنِي

(2)

أَبُو الطاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ،

(1)

راجع: "عمدة القاري" 9/ 58.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 639

أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَ؛ أَبَاهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَل النَّاسَ، حَتى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ

(1)

في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) يسار أبو بكر الفقيه المصريّ، ثقةٌ عابد [5](ت 134) أو بعدها (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1306.

والباقيان ذُكرا قبلًا.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبلًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2399]

(1041) - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ، أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أوأبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 587.

(1)

وفي نسخة: "ليس".

ص: 640

3 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير، قيل: اسمه هَرِم، وقيل غيره، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاقهما في التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه واصل، فما أخرج له البخاريّ، وأما أبو كُريب فممن اتّفق الجماعة بالرواية عنه بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَل النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ) أي شيئًا من أموالهم، يقال: سألته الشيءَ، وسألته عن الشيء، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أموالهم" بدل اشتمال من "الناس"، وقوله:"تكثّرًا" مفعول له، وقد تقرّر عند العلماء أن البدل هو المقصود بالذات، وأن الكلام سيق لأجله، فيكون القصد من سؤال هذا السائل نفس المال، والإكثار منه، لا دفع الحاجة، فيكون مثل هذا المال كنزًا يترتّب عليه قوله:"فإنما يسأل جمرًا"، ونحوه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله {يُحْمَى عَلَيْهَا} الآية [التوبة: 34 - 35] سمّى التكثّر جمرًا؛ لأنه مسبّبٌ عنه، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الآية [النساء: 10]. انتهى

(1)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1511.

ص: 641

(تَكَثُّرًا) منصوب على أنه مفعول لأجله؛ أي لأجل أن يكثر به ماله، لا لاحتياجه إليه، وقيل: أي بطريق الإلحاح والمبالغة في السؤال (فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا) أي قطعة من نار جهنّم؛ يعني أن ما أخذه سبب للعقاب بالنار، وجعله جمرًا للمبالغة، فهو كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الآية؛ أي ما يوجب نارًا في العقبى، ويجوز أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرًا حقيقةً، ويُكوى به، كما ثبتٌ في مانعي الزكاة

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حمله على ظاهره هو الأشبه بظاهر النصّ، كما يشهد له قوله تعالى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} الآية [التوبة: 35]، والله تعالى أعلم.

(فَلْيَسْتَقِلَّ، أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ") أي فليستقلّ الجمر، أو ليستكثره، فيكون تهديدًا على سبيل التهكّم، أو فليستقلّ المسألة، فيكون تهديدًا محضًا، كقوله:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الآية [الكهف: 29]، قاله الطيبيّ.

وقال في "السبل": قوله: "فليستقلّ" أمر للتهكم، ومثله ما عُطف عليه، أو للتهديد، من باب {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وهو مشعر بتحريم السؤال للاستكثار". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2399، (1041)] و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1838)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 203 - 209)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 231)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(109)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 187)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 474)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 196)، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 254.

(2)

راجع: "المرعاة"6/ 254.

ص: 642

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ذمّ سؤال الناس أموالهم دون حاجة واضطرار.

2 -

(ومنها): بيان أن هذا الذمّ إنما يلحقه إذا سأل تكثّرًا، لا للضرورة.

3 -

(ومنها): التهديد بأن المال الذي أخذه بهذا السؤال يكون في الآخرة نارًا يُعذّب به.

4 -

(ومنها): بيان أن الأمر والنهي قد يخرجان من معنى الطلب إلى معنى التهديد، فليس في قوله:"فليستقلّ إلخ" إباحة للسؤال، وتخيير فيه، وإنما تهديد لفاعله، كما في قوله عز وجل:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} الآية، فإنه ليس تخييرًا، وإنما تهديد، ولذا قال بعده:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} الآية [الكهف: 29]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2400]

(1042) - (حَدَّثَنِي هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ بَيَانٍ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ

(1)

، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل رَجُلًا أَعْطَاهُ، أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أفضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هّنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) بن مُصعب، أبو السريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(بَيَان أَبُو بِشْرٍ) هو: بيان بن بِشْر الأحمسيّ، أبو بشر الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 47/ 1891.

(1)

وفي نسخة: "عن الناس".

ص: 643

4 -

(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات بعد (90) أو قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص هـ 47.

وإ أَبُو هُرَيْرَةَ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

5 -

(ومنها): أن قيسًا هو التابعيّ الوحيد الذي تفرّد بالرواية عن العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم، قال السيوطيّ: رحمه الله في "ألفيّة الحديث":

وَالتَّابِعُونَ طَبَقَاتٌ عَشَرَهْ

مَعْ خَمْسَةٍ أَوَّلُهُمْ ذُو الْعَشَرَهْ

وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ

وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِم كَثِيرُ

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَأَنْ) بفتح اللام، قال الكرمانيّ: هي إما ابتدائيّة، أو جواب قسم محذوف. انتهى، و"أن" مصدريّة (يَغْدُوَ) أي يذهب أول النهار، يقال: غدا غُاوًّا، من باب قعد: ذهب (أَحَدُكُمْ) بالرفع على الفاعليّة (فَيَحْطِبَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في الأصول "فيحطب" بغير تاء بين الحاء والطاء في الموضعين، وهو صحيحٌ، وهكذا أيضًا في النسخ:"ويستغني به من الناس" بالميم، وفي نادر منها: "عن الناس بالعين، وكلاهما صحيح، والأول محمول على الثاني. انتهى

(1)

.

قال الفيّوميّ رحمه الله: حَطَبْتُ الْحَطَبَ حَطْبًا، من باب ضَرَبَ: جمعته، واسم الفاعل حاطبٌ، قال: واحتطب مثل حَطَبَ. انتهى

(2)

.

(عَلَى ظَهْرِهِ) متعلّق بما قبله (فَيَتَصَدَّقَ بِهِ) أي بثمنه بعد بيعه، كما بيّنته

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 131.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 141.

ص: 644

الرواية التالية: "لأن يغدو أحدكم، فيحطبَ على ظهره، فيبيعه

" (وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ) وفي نسخة: "عن الناس"؛ أي عن سؤالهم، وقوله: (خَيْرٌ لَهُ) خبر قوله: "لأن يغدو"؛ لأنه في تأويل المصدر مبتدأ؛ أي غدُوُّه خيرٌ له.

وقال في "الفتح": ليست "خير" هنا بمعنى أفعل التفضيل؛ إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصحّ عند الشافعيّة أن سؤال مَن هذا حاله حرام.

ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل، وتسميتِهِ الذي يُعطاه خيرًا، وهو في الحقيقة شرّ. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: [فإن قلت]: لا خير في السؤال، فما وجه هذا الترجيح؟.

[قلت]: يَحْتَمِل وجهين:

[أحدهما]: أن ذلك حيث اضطرّ إلى السؤال بحيث لا يصير فيه ذمّ أصلًا، فتَرْكُه مع ذلك خير من فعله، وفي هذا الجواب نظرٌ؛ لأن من أمكنه الاحتطاب لم يضطرّ إلى السؤال.

[ثانيهما]: أن هذه الصيغة، وهي "خيرٌ" قد تستعمل في غير الترجيح، كما في قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} الآية [الفرقان: 24]. انتهى

(2)

.

وقال السنديّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": الكلام من قبيل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، والمراد أن ما يَلْحَق الإنسان بالاحتزام من التعب الدنيويّ خيرٌ له مما يلحقه بالسؤال من التعب الأخرويّ، فعند الحاجة ينبغى أن يختار الأول، ويترك الثاني. انتهى

(3)

.

وقال في "حاشيته على صحيح مسلم": قوله: "خير له

إلخ"؛ أي أَبُو فُرض في السؤال خيريّة لكان هذا خيرًا منه، والا فمعلومٌ أنه لا خيريّة في السؤال. انتهى

(4)

.

(مِنْ أَنْ يَسْأَل رَجُلًا) أي من سؤاله رجلًا، والمراد بالرجل الشخص،

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 98.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 83 - 84.

(3)

"شرح السندي" 5/ 94.

(4)

نقله في "المرعاة" 6/ 257.

ص: 645

فسؤال المرأة مثل سؤال الرجل (أَعْطَاهُ) جملة في محلّ نصب نعت و"رجلًا"؛ أي أعطاه مسؤوله، فحَمّله ثقل المنّة، ومذلّة المسألة (أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ) أي منعه ذلك الذي سأله، فاكتسب الذلّ والهوان، والخيبة، والحرمان؛ يعني أن الإعطاء، والمنع سيّان في كون الاحتطاب خيرًا له، ثمّ علّل ذلك بقوله:(فَإِنَّ) الفاء للتعليل؛ أي لأن (الْيَدَ الْعُلْيَا) هي المنفقة، أو هي المتعفّفة، والأول أصحّ، كما تقدّم بيانه (أفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) هي السائلة (وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ") أي ابدأ في الإنفاق بإعطاء الشخص الذي يلزمك إنفاقه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وهو متّفق عليه بالسياق الآتي بعد حديث.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2450 و 2401 و 2402](1401)، و (البخاريّ) في " البيوع "(2074) و"الشرب"(2374)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(680)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2485 و 2589) و"الكبرى"(2365)، و (مالك) في "الموطّأ"(1883)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1056)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 455)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 109)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ذمّ السؤال، وأنه من أقبح الخصال، ولولا قبحه في نظر الشرع لم يفضّل عليه امتهان المرء نفسه في طلب الرزق، وذلك لما يدخل على السائل من ذلّ السؤال، ومن ذلّ الردّ؛ إذا لم يُعط، ولمَا يدخل على المسؤول من الضيق في ماله، إن أَعطَى كلّ سائل.

وقد ذكرت في "شرح النسائيّ" حدّ الغنى الذي يمنع من أخذ الزكاة، ومن سؤال الناس، واختلاف العلماء فيه، فراجعه تستفد

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 23/ 190 - 195.

ص: 646

2 -

(ومنها): جواز الحلف لتقوية الأمر، وتأكيده

(1)

.

3 -

(ومنها): الحثّ على طلب الرزق، وارتكاب المشقّة في ذلك، ولو أدّى ذلك إلى امتهان المرء نفسه.

4 -

(ومنها): ترجيح الاكتساب على السؤال، ولو كان بعمل شاقّ كالاحتطاب، ولو لم يَقدِر على بهيمة يَحْمِل الحطب عليها، بل حمله على ظهره، وذكر ابن عبد البرّ، عن عمر رضي الله عنه، قال: مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس.

5 -

(ومنها): الحضّ على التعفّف عن المسألة، والتنزّه عنها.

قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وما زال ذوو الهمم والأخطار من الرجال، يتنزّهون عن السؤال، ولقد أحسن أبو الفضل أحمد بن المعذل بن غيلان العبديّ الفقيه المالكي حيث يقول:

الْتَمِسِ الأَرْزَاقَ عِنْدَ الَّذِي

مَا دُونَهُ إِنْ سِيلَ مِنْ حَاجِبِ

مَنْ يُبْغِضُ التَّارِكَ عَنْ سُؤلِهِ

جُودًا وَمَنْ يَرْضَى عَنِ الطَّالِبِ

وَمَنْ إِذَا قَالَ جَرَى قَوْلُهُ

بِغَيْرِ تَوْقِيع إِلَى كَاتِبِ

ومن أحسن ما قيل نظمأ في الرضى والقناعة، وذمّ السؤال قولُ بعض الأعراب [من الطويل]:

عَلَامَ سُؤَالُ النَّاسِ وَالرِّزْقُ وَاسِعُ

وَأَنْتَ صَحِيحٌ لَمْ تَخُنْكَ الأَصَابعُ

وَللْعَيْشِ أَوْكَارٌ وَفِي الأرْضِ مَذْهَبُ

عَرِيضٌ وَبَابُ الرِّزْقِ فِي الأَرْضِ وَاسِعُ

فَكُنْ طَالِبًا لِلرِّزْقِ مِنْ رَازِقِ الْغِنَى

وَخَلِّ سُؤَالَ النَّاسِ فَاللهُ صَانِعُ

وقال مسلم بن الوليد [من الطويل أيضًا]:

أَقُولُ لِمَأفُونِ

(2)

الْبَدِيهَةِ طَائِر

مَعَ الْحِرْصِ لَمْ يَغْنَمْ وَلَمْ يَتَمَوَّلِ

سَلِ النَّاسَ إِني سَائِلُ اللهِ وَحْدَهُ

وَصَائِنٌ عِرْضِي عَنْ فُلَانٍ وَعَنْ فُلِ

وقال عُبيد بن الأبرص:

مَنْ يَسْلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ

وَسَائِلُ اللهِ لَا يَخِيبُ

(1)

هذا على جعل اللام لام قسم، وقد تقدم أنها تحتمل أن تكون ابتدائية.

(2)

"المأفون": الضعيف العقل والرأي. قاله في "القاموس".

ص: 647

ومن قصيدة للحسين بن حميد:

وَسَائِلُ النَّاسِ إِنْ جَادُوا وَإِنْ بَخِلُوا

فَإِنَّهُ بِرِدَاءِ الذُّلِّ مُشْتَمِلُ

وقال أبو العتاهية، فأحسن [من الوافر]:

أَتَدْرِي أَيُّ ذُلٍّ فِي السُّؤَالِ

وَفِي بَذْلِ الْوُجُوهِ إِلَى الرِّجَالِ

يَعِزُّ عَلَى التَّنَزهِ مَنْ رَعَاهُ

وَيَسْتَغْنِي الْعَفِيفُ بِغَيْرِ مَالِ

تَعَالَى اللهُ يَا سَلْمُ بْنَ عَمْرٍ

أَذَلَّ الْحِرْصُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ

وَمَا دُنْيَاكَ إِلَّا مِثْلُ فَيءٍ

أَظَلَّكَ ثُمَّ آذَنَ بِالزَّوَالِ

إِذَا كَانَ النَّوَالُ بِبَذْلِ وَجْهِي

فَلَا قَرُبْتُ مِنْ ذَاكَ النَّوَالِ

مَعَاذَ اللهِ مِنْ خُلُقٍ دَنِيءٍ

يَكُونُ الْفَضْلُ فِيهِ عَلَيَّ لَا لِي

تَوَقَّ يَدًا تَكُونُ عَلَيْكَ فَضْلًا

فَصَانِعُهَا إِلَيْكَ عَلَيْكَ عَالِي

يَدٌ تَعْلُو بِجَمِيلِ فِعْلٍ

كَمَا عَلَتِ الْيَمِينُ عَلَى الشِّمَال

وُجُوهُ الْعَيْشِ مِنْ سَعَةٍ وَضِيقٍ

وَحَسْبُكَ وَالتَّوَسُّعُ فِي الْحَلَالِ

وَتُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ أَخَا نَعِيمَّ

وَأَنْتَ تُصِيفُ فِي فَيْءِ الظِّلَالِ

وَأَنْتَ تُصِيبُ قُوتَكَ فِي عَفَافٍ

وَرِيُّكَ إِنْ ظَمِئْتَ مِنَ الزُّلَالِ

مَتَى تُمْسِي وَتُصْبِحُ مُسْتَرِيحًا

وَأَنْتَ الدَّهْرَ لَا تْرْضَى بِحَالِ

تُكَابِدُ جَمْعَ شَيءٍ بَعْدَ شَيءٍ

وَتَبْغِي أَنْ تَكُونَ رَخِيَّ بَالِ

وَقَدْ يَجْزِي قَلِيلُ الْمَالِ مَجْزَى

كَثِيرِ الْمَالِ فِي سَدِّ الْخِلَالِ

إِذَا كَانَ الْقَلِيلُ يَسُدُّ فَقْرِي

وَلَمْ أَجِدِ الْكَثِيرَ فَلَا أُبَالِ

هِيَ الدُّنْيَا رَأَيْتُ الْحُبَّ فِيهَا

عَوَاقِبُهُ التَّفَرُّقُ عَنْ تَقَالِ

تُسَرُّ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى هِلَالٍ

وَنَقْصُكَ إِنْ نَظَرْتَ إِلَى الْهِلَالِ

(1)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في حديث الباب فضيلةُ الاكتساب بعمل اليد، وقد ذكر بعضهم أنه أفضل المكاسب، وقال الماورديّ رحمه الله: أصول المكاسب الزراعة، والتجارة، والصناعة، وأيها أطيب؟ فيه مذاهب للناس، أشبهها بمذهب الشافعيّ أن التجارة أطيب، قال: والأشبه عندي أن الزراعة أطيب؛ لأنها أقرب إلى التوكّل.

(1)

راجع: "التمهيد" 4/ 110 - 113.

ص: 648

قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": في "صحيح البخاريّ"، عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ما أكل أحد قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". قال النوويّ: فالصواب ما نصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عمل اليد، فإن كان زرّاعًا، فهوأطيب المكاسب، وأفضلها؛ لأنه عمل يده، ولأن فيه توكّلًا، كما ذكره الماورديّ؛ ولأن فيه نفعًا عامًّا للمسلمين، والدوابّ، وأنه لا بدّ في العادة أن يؤكل منه بغير عوض، فيحصل له أجره، وإن لم يكن ممن يعمل بيده، بل يعمل له غلمانه، وأجراؤه، فاكتسابه بالزراعة أفضل؛ لما ذكرناه.

وقال في "الروضة" -بعد ذكره الحديث المتقدّم-: فهذا صريحٌ في ترجيح الزراعة، والصناعة؛ لكونهما من عمل يده، ولكن الزراعة أفضلهما؛ لعموم النفع بها للآدميّ وغيره، وعموم الحاجة إليها، والله أعلم.

قال وليّ الدين رحمه الله: وغاية ما في حديث الباب تفضيل الاحتطاب على السؤال، وليمس فيه أنه أفضل المكاسب، فلعفه ذكره لتيسّره، ولا سيّما في بلاد الحجاز؛ لكثرة ذلك فيها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): حديث الباب يدلّ أيضًا على جواز الاكتساب بالمباحات، كالحطب، والحشيش النابتين في موات.

واستدلّ به المهلّب على جواز الاحتطاب، والاحتشاش من الأرض المملوكة، حتى يمنع من ذلك مالك الأرض، فترفع حينئذ الإباحة.

قال وليّ الدين: وهو مردود، فإن النبات في الأرض المملوكة ملك لمالكها، فلا يجوز التصرّف فيه بغير إذنه.

ثم حَكَى المهلّب عن ابن الموّاز أنه حَكَى عن ابن القاسم، عن مالك، قال: كانت له أرض يملكها، ليست بأرض خربة، فإن أراد أن يبيع ما ينبت فيها من المراعي بعد طيبهن أنه لا بأس به، وقال أشهب: لا يجوز ذلك؛ لأنه رزقٌ مِن رزقِ الله تعالى، ولا يحلّ لربّ الأرض أن يمنع منه أحدًا، لقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"طرح التثريب" 4/ 84.

ص: 649

"لا يُمنَع فضلُ الماء ليُمنَع به الكلأُ"، ولو كان النبات في حائط إنسان لما حلّ له أن يمنع منه أحدًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: لا حِمَى إلا لله، ولرسوله"، وقال الكوفيّون كقول أشهب. قاله في "طرح التثريب "

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله الإمام مالك رحمه الله هو الأرجح؛ لأن معنى الحديث: أنه لا يجوز لصاحب الماء الفاضل عن حاجته منعه عن أصحاب المواشي، حتى لا يترّتب على منعه منع الكلأ المباح؛ لأنهم إذا لم يجدوا ماء لا يمكنهم رعي مواشيهم في ذلك الكلأ، وليس المراد منع الكلأ المملوك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في الاكتساب فائدتان: الاستغناء عن السؤال، والتصدّق على المحتاج، وقد ذكرهما النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله في رواية مسلم:"فيتصدّق، ويستغني من الناس"، كذا في أكثر نسخ "صحيح مسلم" بالميم، وفي بعضها "عن الناس" بالعين. قال النوويّ: وكلاهما صحيح، والأول محمول على الثاني. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): أشار في رواية المصنّف هذه إلى العلّة في تفضيل الاكتساب على السؤال، وهي أن اليد العليا أفضل من اليد السفلى، والمكتسب يده عُلْيا، إن تصدّق، وكذا إن لم يتصدّق، وفسرنا العليا بالمتعفّفة عن السؤال، فقد يُستدلّ بهذا على ترجيح الرواية التي فيها "اليد العليا هي المتعفّفة"؛ لأنه لا يلزم من الاكتساب الصدقةُ، لكن تبيّن برواية المصنّف أن تفضيل الاكتساب هو للصدقة والاستغناء عن الناس، وكما أنه لا يلزم من الاكتساب الصدقة، لا يلزم من الاكتساب التعفّف عن السؤال، فربّ مكتسب مكتفِ، يسأل تكثّرًا، قاله وليّ الدين رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في حكم سؤال الناس:

ذكر الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" أن المسألة تنقسم إلى الأحكام الشرعيّة: التحريم، والكراهة، والوجوب، والندب، والإباحة، وقال

(1)

"الطرح" 4/ 84 - 85.

(2)

"الطرح" 4/ 84.

ص: 650

أبو بكر ابن العربيّ: وبالجملة فإن السؤال واجب في موضع جائز في آخر حرام في آخر مندوب على طريق، فأما وجوبه، فللمريدين في ابتداء الأمر، وظاهر حالهم، وللأولياء للاقتداء، وجرياً على عادة الله في خلقه، ألا ترى إلى سؤال موسى والخضر لأهل القرية طعامًا، وهما من الله تعالى بالمنزلة المعلومة، فالتعريف بالحاجة فرض على المحتاج، وإذا ارتفعت الضرورة جاز أن يسأل في الزائد عليها، مهما يحتاج إليه، ولا يقدر عليه، ثم أنشد لبعضهم:

لَمَالُ الْمَرْءَ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي

مَفَاقِرَهُ

(1)

أَعَفَّ مِنَ الْقُنُوعِ

قال: وإذا كملت للمرء مفاقره، وارتفعت حاجاته، لم يجز له أن يسَال تكثّرًا، ثم قال: وقد يكون السؤال واجبًا، أو مندوبًا، أما وجوبه، فللمحتاج، وأما المندوب فلمن يُعينه، وُيبيّن حاجته، إن استحيى هو من ذلك، أو رجا أن يكون بيانه أنفع، وأنجح من بيان حال السائل، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسأل لغيره. انتهى.

قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: فذكر أربعة أوجه من الأحكام الشرعيّة في المسألة، دون الخامس، وهو قسم المكروه، فأما تمثيله للواجب بسؤال المحتاج فواضخ، وأما قسم المكروه، فسؤاله للسلطان مع إمكان الاستغناء عنه، وقد جمعهما النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة رضي الله عنه بقوله:"إلا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمر لا بدّ منه"، فهذا الأخير هو السؤال الواجب، قال: وأما تمثيل القاضي أبي بكر السؤال الواجب بالمريدين في ابتداء الأمر، وبسؤال الأولياء للاقتداء، وتمثيله بسؤال موسى والخضر طعامًا من أهل القرية ففيه نظر، ولا يُطلق على سؤال المريدين في ابتدائهم اسم الوجوب، وإنما جرت عادة المشايخ الذين يهذّبون أخلاق المريدين بفعل ذلك لكسر أنفسهم إذا كان في ذلك صلاحهم، فأما الوجوب الشرعيّ فلا، وأما سؤال الخضر وموسى، فلا يلزم هذه الأمة الاقتداء بهما في ذلك، وإنما وقع ذلك من الخضر لحكمة أطلعه الله عليها ليبيّن لموسى عليه السلام ما ينتهي الحال إليه في المرّات الثلاث. انتهى كلام العراقيّ منقولًا من "طرح التثريب"

(2)

.

(1)

المفاقر: جمع فقر على غير قياس، أو جمع مُفْقِر مصدر أفقره. قاله في "للسان".

(2)

راجع: "طرح السّريب" 4/ 78 - 79.

ص: 651

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول أبي بكر ابن العربيّ: فأما وجوبه فللمريدين في ابتداء الأمر إلخ صدور مثل هذا الكلام من أمثاله عجيب، كيف يكون تهذيب الأخلاق بما هو من محظورات الشرع؟، فهل تهذّب النفوس إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة الهوى المضادّة لسنته؟. وهل جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتهذيب الأخلاق بالسؤال؛ وهل الأولياء يكونون قدوة في الشيء المذموم شرعًا؛ وما كانوا أولياء إلا بالتقوى، واتباع السنة، ومجانبة البدع والهوى، إن هذا لهو العجب العجاب، ومن الغريب أن العراقيّ اعترض عليه في قوله بالوجوب، ولم يعترض عليه في دعواه مشروعية تهذيب الأخلاق بالسؤال، بل وافقه في أصل المشروعية، حيث قال: وإنما جرت عادة المشايخ الذين يهذّبون أخلاق المريدين بفعل ذلك لكسر أنفسهم إذا كان في ذلك صلاحهم.

فهل هذا التهذيب من عمل الصحابة، والتابعين؟، لا، بل هذا مما ابتدعه الجهالة الذين لم يستضيئوا بنور الكتاب والسنّة، فالتهذيب الصحيح للأخلاق والنفوس، لا يكون إلا بما شرعه العليم الحكيم على لسان من أرسله مهذبًا للأخلاق، وهادي الخلق إلى الخلّاق.

وبالجملة فالنجاة كل النجاة في الدنيا والآخرة في اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى في حقّه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": ورد التخصيص في السؤال في أربعة أماكن: وهي أن يسأل سلطانًا، أو في أمر لا بدّ منه، أو ذا رحم في حاجة، أو الصالحين.

فأما السلطان فهو الذي بيده أموال المصالح، وأما الأمر الذي لا بدّ منه، فهو الحاجة التي لا بدّ منها، وأما ذو الرحم، فلِمَا ورد في الصدقة على ذي الرحم من الفضل، ولذهاب بعض العلماء إلى وجوب النفقة عليه مع وصف الفقر والعجز، فرُخّص في سؤاله، وأما سؤال الصالحين فهو في حديث ابن الفراسيّ الذي أخرجه النسائيّ رحمه الله.

ص: 652

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في تخصيص هذين القسمين نظر؛ إذ الأول يحتاج لدليل يخصّصه من عموم النهي عن السؤال كالقسمين الأولين، وما استدلّ به بعيد عن هذا، وأما الثاني فحديثه لا يصحّ

(1)

، كما بيّنته في "شرح النسائيّ"، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: وحيث جاز السؤال، فيجتنب فيه الإلحاف، والسؤال بوجه الله تعالى، لما في سنن أبي داود، من حديث جابر رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا يُسأل بوجه الله إلا الجنّة"

(2)

. قال: ومع ذلك فينبغي إعطاؤه، ما لم يسأل ممتنعًا؛ لما روى الطبرانيّ في "معجمه الكبير" من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه بماسناد حسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سُئل بوجه الله، فمنع سائله، ما لم يسأل هُجْرًا"

(3)

. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2401]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَذَثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: أتيْنَا أَنجا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ

(5)

عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهُ "، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِبثِ بَيَانٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله

(1)

لأن في سنده ابن الفراسيّ مجهول، ومسلم بن مخشيّ مجهول أيضًا، فتنبّه.

(2)

الحديث رواه أبو داود، وهو ضعيف، لتفرّد سليمان بن قَرْم به عن محمد بن المنكدر، والأكثرون على تضعيفه.

(3)

حديث حسنٌ، أخرجه الطبرانيّ.

(4)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 79 - 80.

(5)

وفي نسخة: "فيحتطب".

ص: 653

الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَاللهِ لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ) هكذا عند المصنّف لرواية إسماعيل بن أبي خالد بلفظ: "لأن يغدو

إلخ"، والذي في "مستخرج أبي نعيم": "لأن يَعْمِدَ أحدكم

إلخ"، وظاهر قول المصنّف رحمه الله: "بمثل حديث بيان" يدلّ على أن التفاوت بين النصّين في زيادة قوله: "فيبيعه" فقط، لا في لفظ "يغدو"، و"يعمد"، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بَيَانٍ) ببناء الفعل للفاعل، وفاعله ضمير إسماعيل بن أبي خالد.

[تنبيه]: رواية إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 109) فقال:

(2324)

- حدّثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جريرٌ، عن إسماعيل بن أبي خالد (ح) وحدّثنا مسلم بن محمد بن أحمد، ثنا مسلم الدهان، ثنا إسحاق بن خيرويه، ثنا محمد بن عبيد، ثنا أبو مالك عمرو بن هاشم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لأَنْ يَعْمِد أحدكم، فيحتطب على ظهره، فيبيعه، فيستغني خير من أن يأتي رجلًا يسأله، يمنعه أو يؤتيه، ذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". انتهى.

وقد ساقها الأمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، مطوّلة، فقال:

(9796)

- حدّثنا يحيى، عن إسماعيل؛ يعني ابن أبي خالد، قال: حدّثني قيس بن أبي حازم، قال: أتينا أبا هريرة نُسَلِّم عليه، قال: قلنا: حدِّثنا، فقال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، ما كنت سنوات قط أعقل مني فيهنّ، ولا أحب إلي أن أَعِي ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يهن، وإني رأيته يقول بيده: "قريب بين يدي الساعة، تقاتلون قومًا نعالهم الشعر، وتقاتلون قومًا صغار الأعين، حُمْر الوجوه، كانها الْمَجَانُّ الْمُطْرَقة، والله لأن يغدو أحدكم، فيحتطب على ظهره، فيبيعه، وششغني به، ويتصدق منه، خير له من أن يأتي رجلًا، فيسأله، يؤتيه أو يمنعه، وذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى،

ص: 654

وابدأ بمن تعول، وخلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2402]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، ويُونسَ بْن عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا

(1)

ابْن وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْن الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أنَّة سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدَّكمْ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ، فَيَحْمِلَهَا عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل رَجُلًا، يُعْطِيهِ أَوْ يَمْنَعُهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يُونسَ بْن عَبْدِ الْأَعْلَى) الصدفيّ، أبو موسى المصرقي، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) عن (96) سنةً (م ت س) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

2 -

(عَمْرُو بْن الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

3 -

(ابْن شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) ويقال: مولى عبد الرحمن بن أزهر، واسمه سعد بن عُبيد، المدنيّ، ثقةٌ [2](ع) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: "لَأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدَّكمْ) بفتح اللام، قال الكرمانيّ: هي إما ابتدائيّة، أو جواب قسمٍ محذوف. انتهى، و"يحتزم": أي يشدّ بالحبل، يقال: حَزَمتُ الدّابّةَ حَزْمًا، من باب ضرب: شددتها بالْحِزَام، قاله في "المصباح"، واحتزم الرجلُ، وتحزم بمعنًى، وذلك إذا شدّ وسطه بحبل، أفاده في "اللسان".

وقوله: (حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ) بالنصب مفعول "يحتزم"، و"الْحُزْمة" بضمّ،

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 655

فسكون، وجمعه حُزَم، كغُرْفَة، وغُرَف، ما يُشَدّ به الشيء، و"الْحَطَب" بفتح المهملتين: ما أُعدّ من الشجر شَبُوبًا -أي وَقُودًا- للنار، قاله في "اللسان".

وقوله: (فَيَبِيعَهَا) بالنصب عطفًا على "يحتزم".

وقوله: (يُعْطِيهِ أَوْ يَمْنَعُهُ) في محلّ نصب نعتٌ لـ"رجلًا".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2403]

(1043) - (حَدَّثَنِي

(1)

عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، قَالَ سَلَمَةُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثنَا سَعِيدٌ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ، أمَّا هُوَ فَحَبِيبٌ إِلَيَّ، وَأمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ، عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ:"ألَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ "وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ:"ألَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ "، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ:"ألَا تُبايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ "، قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا، وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبايِعُكَ؟ قَالَ:"عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا -وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً- وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا"، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ، يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إَيَّاهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقَنديّ، ثقةٌ حافظٌ إمامٌ، صاحب "المسند"[11](ت 255) عن (74) سنةً (م دت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 656

2 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

3 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ) الطّاطَرِيّ، ثقةٌ [9](ت 210)(م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) التَّنُوخِيُّ الدمشقي، ثقةٌ إمام، سَوَّاه أحمد بالأوزاعي، وقَدَّمَه أبو مسهر، لكنه اختلط في آخر عمره [7](ت 167) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

5 -

(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ) الدمشقيّ، أبو شُعَيبٍ الإياديّ القَصِيرُ، ثقةٌ عابد [4](ت 1 أو 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

6 -

(أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) عائذ الله بن عبد الله، ولد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنَين، وسمع من كبار الصحابة، كان عالم الثام بعد أبي الدرداء رضي الله عنه[2](ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

7 -

(أَبُو مُسْلِم الْخَوْلَانِيُّ) عبد الله بن ثُوَب -بضم المثلثة وفتح الواو بعدها موحدة- وقيلً: ابن ثَوَاب بفتح الثاء، وتخفيف الواو، وقيل: ابن أثْوَب -وزان أحْمَر- ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن عوف، أو ابن مِشْكَم، ويقال: اسمه يعقوب بن عوف الشامي الزاهد، ثقةٌ عابد [2].

رَحَلَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمات النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق، فلقي أبا بكر، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقال: كان ثقةٌ، توفي زمن يزيد بن معاوية، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقةٌ، وقال العجلي: شامي تابعي ثقةٌ من كبار التابعين.

وقال ابن عبد البر: أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو معدود في كبار التابعين، وكان ناسكًا عابدًا، له كرامات، ثقةٌ مخضرم [2].

ورَوَى ابن سعد في "الطبقات" عن شُرَحْبِيلَ بن مسلم، أن الأسود بن قيس ذا الحمار تَنَبَّا في اليمن، فبعث إلى أبي مسلم، فلما جاء قال: أتشهد أني رسول الله؛ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فردد ذلك مرارًا، فأمر بنار عظيمة، فأجّجَتْ، ثم ألقي فيها، فلم تضرّه، فأمره بالرحيل، فأتى المدينة، وقد مات النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستُخْلف أبو بكر

ص: 657

فذكر قصة الحديث في قول عمر لأبي بكر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَن فُعِل به كما فُعِل بإبراهيم عليه السلام. اهـ.

وقال النوويّ رحمه الله: هو مشهور بالزهد، والكرامات الظاهرة، والمحاسن الباهرة، أسلم في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وألقاه الأسود العنسيّ في النار، فلم يحترق، فتركه، فجاء مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو في الطريق، فجاء إلى المدينة، فلقي أبا بكر الصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم، هذا هو الصواب المعروف، ولا خلاف فيه بين العلماء، وأما قول السمعانيّ في "الأنساب": إنه أسلم في زمن معاوية، فغلط باتفاق أهل العلم، من المحدثين، وأصحاب التواريخ والمغازي والسير وغيرهم. انتهى

(1)

.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله عندهم هذا الحديث عن عوف بن مالك رضي الله عنه فقط، وعند الترمذي حديث آخر عن معاذ رضي الله عنه.

8 -

(عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ) أبو حَمَّاد، ويقال غير ذلك، صحابيّ مشهور، من مُسْلِمَةِ الفتح، وسكن دمشق، ومات سنة (73)(ع) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف اخنهُ.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالدمشقيين سوى شيخيه، فالأول سمرقنديّ، والثاني نيسابوريّ، نزيل مكة.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين رَوَى بعضهم عن بعض: ربيعة، عن أبي إدريس، عن أبي مسلم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ) عبد الله بن ثُوَب، وقيل غيره (الْخَوْلَانِيِّ) - بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو- نسبة إلى خَوْلان قبيلة نَزَلَتِ الشام، أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَبِيبُ الْأَمِينُ) فعيل بمعنى مفعول؛ أي: المحبوب المأمون، قال أبو مسلم رحمه الله:

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 132.

ص: 658

(أمَّا هُوَ) أي الشخص الموصوف بأنه الحبيب الأمين (فَحَبِيبٌ إِلَيَّ) أي محبوب عندي (وَأمَّا هُوَ عِنْدِي فَأَمِينٌ) أي مأمون في دينه، وأمانته، وقوله:(عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) بالرفع بدل من الحبيب، أو عطف بيان له (الْأَشْجَعِيُّ) نسبة إلى أشجع بن ريث بن غَطَفَان بن سعد بن قيس عَيْلان، قبيلة مشهورة، قاله في "اللباب"

(1)

.

وقول: (قَالَ) بدل من "حدّثني"، أو في محل نصب على الحال من "الحبيب"(كُنَّا عِنْدَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَة، فَقَالَ: "ألا تُبَايِعونَ)"ألا" هنا للعرض والتحضيص، ومعناهما طلب الشيء، لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحَث، وتختص "ألا" هذه بالجملة الفعلية، نحو:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13]. قاله ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله

(2)

.

ففيه الحثّ على مبايعة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(رَسُولَ الله؟ ") مفعول "تبايعون"، وإنما قال:"رسول الله" ولم يقل "تبايعوني" تنبيهًا على أن العلة الباعثة على المبايعة هي الرسالة.

زاد في رواية النسائيّ: لفظة " صلى الله عليه وسلم "، فقال السنديّ رحمه الله: جملة "صلى الله عليه وسلم" يَحْتَمِل أن تكون منه صلى الله عليه وسلم، وأن تكون من غيره. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر كونها من غيره صلى الله عليه وسلم؛ - ولذا لم تقع في رواية مسلم هنا، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(وَكُنَا حَدِيثَ عَهْدٍ ببَيْعَةٍ) أي قريب زمن بمبايعته صلى الله عليه وسلم (فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: "ألا تُبايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ "، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: "ألا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟ ") يعني أنه صلى الله عليه وسلم كرّر عليهم عرض المبايعة تأكيدًا (قَالَ) عوف رضي الله عنه (فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا) أي للمبايعة له صلى الله عليه وسلم؛ امتثالًا لأمره (وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ) وإنما قالوا ذلك لظنهم نسيانه صلى الله عليه وسلم كونهم مبايعين له، حيث إنهم كانوا قريبي عهد بالمبايعة، فأرادوا تذكيره بذلك، أو أنهم أرادوا أن يستوضحوا ما هي البيعة المطلوبة منهم الآن؟ كما يدل عليه

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64.

(2)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 66.

ص: 659

قولهم (فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟) أي على أيّ شيء نبايعك الآن؟، فـ "ما" استفهاميّة حُذفت ألفها؛ لدخول حرف الجرّ عليها، كما قال في "الخلاصة":

وَ "مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا

بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَا اقْتَضَى"

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ) متعلق بمحذوف دلّ عليه السؤال؛ أي تبايعوني على عبادة الله تعالى؛ أي طاعته (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) يَحْتَمِل أن يكون "شيئًا" مفعولًا به؛ أي لا تشركوا به شيئًا من الأشياء من غير فرق بين حيّ وميت وجَماد وحيوان، وَيحْتَمِل أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ أي لا تشركوا به شيئًا من الشرك الأكبر، والأصغر، والجليّ، والخَفِيّ (وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ) بالجرّ عطفًا على قوله "أن تعبدوا الله"؛ أي وعلى إقامة الصلوات الخمس (وَتُطِيعُوا) وفي رواية أبي داود:"وتسمعوا، وتطيعوا"؛ أي تسمعوا، وتطيعوا أمر وُلاة الأمور الذين ولاهم الله تعالى عليكم إذا أمروكم بغير معصية الله تعالى (وَأَسَرَّ) من الإسرار؛ أي أخفى النبيّ صلى الله عليه وسلم (كَلِمَةً خَفِيَّةً) أي لم يجهر بها كما جهر بما تقدم، ثم فسّر الكلمة الخفتة بقوله:(وَلَا تَسْأَلوا النَّاسَ شَيْئًا") وفي رواية النسائيّ: "وأن لا تسألوا الناس شيئًا"، وهو في تأويل المصدر بدل من "كلمة"، أو خبر لمحذوف؛ أي هي عدم سؤال الناس شيئًا.

والمراد بالسؤال: السؤال المتعلق بالأمور الدنيوية، فلا يتناول السؤال للعلم وأمور الدين، لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وقال في "المنهل": والحكمة في إسرار النهي عن السؤال أن يختص به بعضهم دون بعض؛ لأنَّ مِنَ الناس مَنْ لا بُدَّ له من السؤال لحاجته، ومنهم الغني عنه بماله، أو بالتعفف. انتهى

(1)

.

(فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أولَئِكَ النَّفَرِ، يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ) قال النوويّ رحمه الله: فيه التمسك بالعموم؛ لأنهم نُهُوا عن السؤال، فحَمَلُوه على عمومه، وفيه الحثّ على التّنَزُّه عن جميع ما يُسَمَّى سؤالًا، وإن

(1)

"المنهل العذب المورود" 9/ 280.

ص: 660

كان حقيرًا. انتهى، واللُّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عوف بن مالك الأشجعيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2403](1043)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1642)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(46) و"الكبرى"(320)(2/ 121)، و (ابن ماجه) في "الجهاد"(2/ 957)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 39)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 193)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 110)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 196)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 395)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان التحذير عن مسألة الناس، والتنفير عنه، ولو يسيرًا.

2 -

(ومنها): مشروعيّة تكرار مبايعة الإمام؛ تأكيدًا.

3 -

(ومنها): مشروعية المبايعة على عبادة الله تعالى، وعدم الإشراك به.

4 -

(ومنها): مشروعيّة المبايعة على أداء الصلوات الخمس.

5 -

(ومنها): وجوب طاعة ولاة الأمور، إلا إذا أمروا بالمعصية، فلا طاعة لهم؛ لما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكَرِهَ، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".

6 -

(ومنها): بيانُ ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الحرص على نشر الدعوة، وتبليغ الأحكام كُلَّمَا وَجَدَ إلى ذلك سبيلًا.

7 -

(ومنها): مشروعية التعاهد على البر والتقوى.

8 -

(ومنها): أن فيه الأخذَ بالعموم؛ لأنهم نُهُوا عن السؤال، فحملوه على العموم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 661

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة علي بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء التاسع عشر من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" والمؤذّن يؤذن لصلاة الفجر ليلة الثلاثاء المباركة (28/ 4/ 1428 هـ الموافق 16 مايو - أيار 2007 م).

أسال الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 183].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء العشرون مفتتحًا بـ (37) - (بَابُ بَيَانِ مَنْ تَحِلُّ لَهُ المَسْأَلَةُ) رقم الحديث [2404](1044).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 662