الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(13) - (بَابٌ ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِي بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا)
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[159]
(34) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، وَبِشْرُ بْنُ الْحَكَم، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ - الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَاد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا").
رَجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) الْعَدنيّ الأصل، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، صدوقٌ، صنّف "المسند"، وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم: فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ) بن حَبِيب بن مِهْرَان الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن النيسابوريّ، ثقةٌ زاهدٌ فقيهٌ [10](ت 7 أو 238)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 37.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ) أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ) هو يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مُكثرٌ [5].
رَوَى عن ثعلبة بن أبي مالك الْقُرَظيّ، وله رؤية، وعُمَير مولى آبي اللَّحْم، وله صحبة، والصحيح أن بينهما محمدَ بنَ إبراهيم التيميّ، ومعاذ بن رفاعة بن رافع الزُّرَقيّ، وعبد الله بن خَبّاب، وعبد الله بن دينار، وزياد بن أبي زياد، ومحمد بن كعب الْقُرَظيّ، وغيرهم.
وروى عنه شيخه، يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وإبراهيم بن سعد، ومالك، وعبد العزيز الدَّرَاوَرْدِيّ، والليث بن سعد، وعبد العزيز بن أبي حازم، وبَكْر بن مُضَر، ونافع بن يزيد، وحيوة بن شُريح، وابن عيينة، وأبو ضمرة، وآخرون.
قال الأثرم عن أحمد: لا أعلم به بأسًا، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن أبي حازم، عن أبيه: ابن الهاد أحبّ إليّ من عبد الرحمن بن الحارث، ومحمد بن عَمْرو بن علقمة، وهو ومحمد بن عجلان متساويان، وهو في نفسه ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: تُوُفِّي بالمدينة سنة تسع وثلاثين ومائة، وكان ثقةً، كثير الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: مدنيّ ثقةٌ، حسن الحديث، يروي عن الصغار والكبار، وقال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (34) حديثًا.
[تنبيه]: قوله: "ابن الهاد" هكذا يقوله المحدّثون "الهاد" من غير ياء، والمختار عند أهل العربيّة فيه، وفي نظائره بالياء، فيقال:"الهادي"، و"العاصي"، و"ابن أبي الموالي"، أفاده النوويّ
(1)
.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد بن صَخْر بن عامر بن كعب بن سَعْد بن تيم بن مُرّة القرشيّ التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، كان جدُّه الحارثُ من المهاجرين الأولين، ثقة له أفراد [4].
رأى سَعْدَ بن أبي وقاص، وروى عن أبي سعيد الخدريّ، وعُمير مولى آبي اللحم، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وقيس بن عمرو الأنصاري، ومحمود بن لبيد، وعائشة، وعلقمة بن وقاص، وغيرهم.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 2 - 3.
ورَوَى عنه ابنه موسى، ويحيى، وعبد ربه، وسعد بنو سعيد الأنصاري، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام بن عروة، ويزيد بن الهاد، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ، وابن خِرَاش: ثقة. وقال ابن سعد: قال محمد بن عمرو: كان محمد بن إبراهيم يُكنَى أبا عبد الله، تُوُفّي سنة عشرين ومائة، وكان ثقةً، كثير الحديث. وقال العقيليّ عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه: في حديثه شيءٌ، يروي أحاديث مناكير أو منكرة. وله رواية عن أبيه في "المعرفة" لابن منده، فزَعَم أبو نعيم أنه أراد بقوله: عن أبيه جدَّهُ، وعلى هذا فيكون أرسل عنه، فإن أباه وُلِد بأرض الحبشة، وتبعه ابنُ حِبّان في "الثقات" وقال: سمع من ابن عمر. وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقةً. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لم يسمع من جابر، ولا من أبي سعيد. انتهى. وحديثه عن عائشة عند مالك، والترمذيّ، وصححه، وعائشةُ ماتت قبل أبي سعيد وجابر.
وقال أبو حَسّان الزياديّ: كان عَرِيف قومه، مات سنة (19)، وقيل: عشرين، وفي سنة عشرين أرّخه غير واحد، وقال خليفة: مات سنة إحدى وعشرين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (22) حديثًا
(1)
.
6 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وعثمان، والعباس بن عبد المطلب، وأبي أيوب الأنصاريّ، وأسامة بن زيد، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عمر، وعائشة، وأم سلمة، وجابر بن سلمة، وأبان بن عثمان، وخَبّاب صاحب المقصورة.
وروى عنه ابنه داود، وأبناء إخوته: إسماعيل بن محمد، وأشعث بن إسحاق، وبجاد بن موسى، وابن أخته سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وابن أخته أيضًا محمد بن محمد بن الأسود الزهري، وابن ابن عمه، هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، وهو من أقرانه،
(1)
[فائدة]: أخرج كلّ من الإمامين: مسلم، وابن ماجه لمحمد بن إبراهيم التيميّ المترجم هنا (22) حديثًا، راجع برنامج الحديث.
ومجاهد، والزهري، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، وعطاء بن يسار، وعمرو بن دينار، وموسى بن عقبة، وغيرهم.
قال ابن سعد عن الواقديّ: مات سنة أربع ومائة، قال: وقال غيره: تُوُفّي بالمدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان ثقةً كثير الحديث، وقال ابن نمير، وعمرو بن عليّ: مات سنة (4)، وقيل في وفاته غيرُ ذلك، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأَرَّخ وفاته سنة أربع، وكذا أرَّخه علي ابن المديني، وأَرَّخه الهيثم بن عديّ في خلافة الوليد، حكاه عنه ابن سعد، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.
7 -
(الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشميّ، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الفضل، أمه نُتَيْلَةُ بنت جَنَاب بن كلب، وُلِد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين
(1)
، وضَاعَ وهو صغير، فنَذَرَت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك، وكان إليه في الجاهلية السِّقَاية والعِمَارة، وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يُسلِم، وشهد بدرًا مع المشركين مكرهًا، فأُسِر، فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكة، فيقال: إنه أسلم وكتم قومه ذلك، وصار يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشَهِد الفتح، وثبت يوم حنين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من آذى العباس فقد آذاني، فإنما عَمُّ الرجل صِنْوُ أبيه"، أخرجه الترمذي في قصة
(2)
.
(1)
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى في "المجتبى" ص 69 - 70: كان أسنّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكان له من الولد: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقُثَم، ومَعْبَد، كلهم من أم الفضل، وفيهم يقول الشاعر [من الرجز]:
مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْلِ
…
كَسِتَّةٍ مِنْ بَطْنِ أُمِّ الْفَضْلِ
أَكْرِمْ بِهَا مِنْ كَهْلَةٍ وَكَهْلِ
وله منها بنت يقال لها: أم حبيب، ومن غيرها جماعة. انتهى.
(2)
حديث ضعيف في سنده يزيد بن أبي زياد متكلّم فيه.
وقد حَدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث، رَوَى عنه أولاده، وعامر بن سعد، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم.
وقال ابن المسيب عن سعد: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل العباس، فقال:"هذا العباس أجود قريش كَفًّا، وأوصلها"، أخرجه النسائي
(1)
، وأخرج البغوي في ترجمة أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بسند له إلى الشعبي، عن أبي هَيّاج عن أبي سفيان بن الحارث، عن أبيه، قال: كان العباس أعظم الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة يعترفون للعباس بفضله، ويشاورونه، ويأخذون رأيه، ومات بالمدينة في رجب، أو رمضان سنة اثنتين وثلاثين، أو بعده، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وكان طويلًا جميلًا أبيض
(2)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط
(3)
، هذا الحديث برقم (34)، وحديث (209): "نعم هو في ضحضاح من نار
…
"، وأعاده بعده، و (491): "إذا سجد العبد، سجد معه سبعة
…
"، و (1757): "لا نورث ما تركنا صدقة
…
"، و (1775): "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات
…
"
(4)
.
[تنبيه]: "أل" في "العبّاس" للمح الصفة، وهي التي تدخل على الأسماء المنقولة مما يصلُح دخول "أل" عليه، كقولك في حسن: الحسن، وأكثر ما تدخل على المنقول من صفة، كقولك في حارث: الحارث، وقد تدخل على المنقول من مصدر، كقولك في فضل: الفضل، وعلى المنقول من اسم جنس، غيرِ مصدر، كقولك في نعمان: النعمان، وهو في الأصل من أسماء الدم، فيجوز دخول "أل" في هذه الثلاثة؛ نظرًا إلى الأصل، وحذفُها؛ نظرًا إلى الحال، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" بقوله:
وَبَعْضُ الأعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا
…
لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا
(1)
حديث صحيح.
(2)
راجع: "الإصابة" 3/ 511 - 512، و"التقريب" ص 164.
(3)
الذي ذكره ابن الجوزيّ في "المجتبى" أن له (35) حديثًا، اتّفق الشيخان على حديث، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بثلاثة أحاديث.
(4)
هذه الأرقام هي أرقام محمد فؤاد.
كَـ "الْفَضْلِ" و"الْحَارِثِ" وَ"النُّعْمَانِ"
…
فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيّانِ
(1)
والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول لم يُخرج له البخاريّ، وأبو داود، والثاني تفرّد به هو، والبخاريّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الدَّرَاوَرْديّ، وشيخه الأول عدنيّ، ثم مكيّ، والثاني نيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عامر، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأن كلًّا منهما من الطبقة الخامسة.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فإنه عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يُحبّه، وكان من أعظم الناس عنده، وكان يُثني عليه، وكان الصحابة يعترفون بفضله، ويشاورونه، ويأخذون رأيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بإثبات "أل" في "العبّاس"، وحذفها، كما سبق آنفًا (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ذَاقَ) أي وجد، وأدرك، قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: الذّوق: إدراك طَعْمِ الشيء بواسطة الرطوبة الْمُنْبَثَّة بالْعَصَب المفروش على عَضَل اللسان، يقال: ذُقتُ الطعامَ أَذُوقُهُ ذَوْقًا، وذَوَقَانًا، وذَوَاقًا، ومَذَاقًا: إذا عرفتَهُ بتلك الواسطة، ويتعدّى إلى ثانٍ بالهمزة، فيقال: أذقته الطعامَ، وذُقتُ الشيءَ: جرّبتُهُ، ومنه يقال: ذاق فلانٌ البأسَ: إذا عرفه بنزوله به، وذاق الرجل عُسَيلة المرأة، وذاقت عُسيلته: إذا حصل لهما حَلاوة الخِلاط، ولذّة المباشرة بالإيلاج. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "شرح ابن عقيل" على "الخلاصة" مع "حاشية الخضريّ" 1/ 120.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 211.
وقال الراغب الأصبهانيّ: الذَّوْقُ وجود الطعم في الفم، وأصله فيما يَقِلّ تناوله، فإذا كثُر يقال له: الأكلُ، فاستعمل في التنزيل بمعنى الإصابة، إما في الرحمة، كقوله تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} الآية [هود: 9]، وإما في العذاب، نحو قوله تعالى:{لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} الآية [النساء: 56]، وقال غيره: الذوق: ضُرِب مثلًا لما ينالون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير، قال أبو بكر الأنباريّ: أراد لا يتفرّقون إلا عن علم يتعلّمونه، يقوم لهم مقام الطعام والشراب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحفظ أرواحهم كما يَحفَظ الطعام أجسامهم.
(طَعْمَ الإِيمَانِ) بفتح الطاء، وسكون العين المهملة، قال الفيّوميّ:"الطَّعْمُ" بالفتح: ما يؤدّيه الذّوق، فيقال: طَعْمُهُ حُلْوٌ، أو حامضٌ، وتغيّر طَعْمُهُ: إذا خرج عن وصفه الْخِلْقِيّ، والطَّعْم: ما يُشتَهَى من الطعام، وليس للغَثّ طَعْمٌ، والطَّعَمُ بفتحتين لغةٌ كلابيّة. انتهى.
وقال الطيبيّ: مجاز قوله: "ذاق طعم الإيمان" مجاز قوله: "وَجَدَ حلاوة الإيمان"، وكذلك موقعه كموقعه؛ لأن من أحبّ أحدًا يتحرّى مراضيه، ويؤثر رضاه على رضاء نفسه، ومقام الرضى عند أهل العرفان مقام جليلٌ رفيع. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ذاق طعم الإيمان": أي وجد حلاوته، كما في حديث أنس رضي الله عنه:"ثلاثٌ من كنّ فيه وَجَدَ حلاوة الإيمان"، وهي عبارة عمّا يجده المؤمن المحقِّق في إيمانه المطمئنّ قلبه به، من انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة منّة الله تعالى عليه في أن أنعم عليه بالإسلام، ونَظَمَه في سلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام، وحَبَّبَ إليه الإيمان والمؤمنين، وبَغَّضَ إليه الكفر والكافرين، وأنجاه من قبيح أفعالهم، ورَكَاكة أحوالهم، وعند مطالعة هذه المنن، والوقوف على تفاصيل تلك النعم، تطير القلوب فَرَحًا وسُرُورًا، وتمتلئ إشراقًا ونورًا، فيا لها من حلاوة ما ألذّها! وحالة ما أشرفها!، فنسأل الله تعالى أن يمنّ بدوامها وكمالها، كما منّ بابتدائها وحُصُولها، فإن المؤمن عند تذكّر تلك النعم والمنن
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 445 - 446.
لا يخلو عن إدراك تلك الحلاوة، غير أن المؤمنين في تمكّنها ودوامها متفاوتون، وما منهم إلا وله منها شِرْبٌ معلوم، وذلك بحسب ما قُسِم لهم من هذه المجاهدة الرياضيّة، والْمِنَح الربّانيّة. انتهى
(1)
.
(مَنْ رَضِيَ) بكسر الضاد المعجمة، من باب تَعِب (بِاللهِ) تعالى (رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا") انتصاب "ربًّا"، و"دينًا"، و"رسولًا" على الحال، ويجوز كونه على التمييز.
قال صاحب "التحرير" رحمه الله تعالى: معنى رَضِيتُ بالشيء: قَنِعْتُ به، واكتفيتُ به، ولم أطلب معه غيرَه، فمعنى الحديث: لم يطلُب غير الله تعالى، ولم يَسْعَ في غير طريقِ الإسلام، ولم يَسْلُك إلا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شكّ في أن من كانت هذه صفته، فقد خَلَصَت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: معنى الحديث: صَحّ إيمانه، واطمأنّت به نفسه، وخامر باطنَهُ؛ لأن رضاه بالله عز وجل ربًّا، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وبالإسلام دينًا دليلٌ على ثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته بما رضي به من ذلك، ومخالطة بشاشته قلبَهُ، وذلك كالحديث الآخر: "وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسول الله أحبّ إليه مما سواهما
…
" الحديث، وذلك أن الإنسان إذا رَضِيَ أمرًا، واستحسنه، سَهُل عليه أمره، ولم يشقّ عليه شيء منه، فكذلك المؤمن إذا دَخَل قلبه الإيمان سَهُلت عليه طاعاتُ ربّه عز وجل، ولَذّت له، ولم يشُقّ عليه مُعاناتها. انتهى
(3)
.
وقال الأبيّ رحمه الله تعالى: فإن قلت: معرفة الله سبحانه وتعالى، واستحلاء الإيمان به هما الغاية، فلو أريدا في الحديث لم يُعبّر عنهما بالذّوْق؛ إذ لا يُعبّر عن غاية الشيء بمبدئه؛ لأن الذّوق مبدأ الفعل.
قلت: الذوق إنما هو مبدأ الفعل إذا استُعمل في المحسوسات، كذوق الطعام، أما إذا استُعمل في المعاني كما هنا، فإنما هو كناية عن كمال
(1)
"المفهم" 1/ 210.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 2.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 262 - 263.
الإدراك، وأنت تعرف أن الرضا بالله تعالى يستلزم الرضا عنه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "مَنْ رضي بالله ربًّا
…
" الحديث: الرضا بهذه الأمور الثلاثة على قسمين:
رضًا عامّ، وهو أن لا يتّخذ غير الله تعالى ربًّا، ولا غير دين الإسلام دينًا، ولا غير محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، وهذا الرضا لا يخلو عنه مسلم؛ إذ لا يصحّ التديّن بدين الإسلام إلا بهذا الرضا.
ورضًا خاصّ، وهو الذي تكلّم فيه أرباب القلوب، وهو ينقسم على قسمين: رضًا بهذه الأمور، ورضًا عن مجريها تعالى، كما قال أبو عبد الله بن خفيف
(2)
: الرضا قسمان: رضًا به، ورضًا عنه، فالرضا به مدبّرًا، والرضا عنه فيما قضى، وقال أيضًا: هو سكون القلب إلى أحكام الربّ، وموافقته على ما رضِيَ واختار، وقال الجنيد: الرضا دفع الاختيار، وقال المحاسبيّ: هو سكون القلب تحت مجاري الأحكام، وقال أبو عليّ الروذباريّ: ليس الرضا أن لا يُحسّ بالبلاء، إنما الرضا أن لا يعترض على الحكم.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وما ذكره هؤلاء المشايخ هو مبدأ الرضا عندهم، وقد ينتهي الرضا إلى ما قاله النوريّ: هو سرور القلب بمرّ القضاء، وسُئلت رابعة عن الرضا، فقالت: إذا سرّته المصيبة كما سرّته النعمة.
قال: وقد غلا بعضهم، وهو أبو سليمان الدارانيّ، فقال: أرجو أن أكون عرفتُ طرفًا من الرضا، لو أنه أدخلني النار لكنت به راضيًا، وقال رويم: الرضا هو لو جَعَل جهنم عن يمينه، ما سأل أن يحوّل عن شماله.
قال القرطبيّ: وهذا غلوّ، وفيه إشكال.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أحسن القرطبي في اعتراضه المذكور، فإن هذا مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم، وهو الذي حقّق مقام الرضا عن الله سبحانه وتعالى بكامل معناه، وكان من هديه أنه يستعيذ من النار، وما أكثر ما كان يستعيذ منها، ويسأل الله تعالى
(1)
"شرح الأبيّ" 1/ 129.
(2)
هو محمد بن خفيف الشيرازيّ، من مشايخ الصوفيّة، توفي سنة (295 هـ).
أن يبعده عنها، وُيدخله الجنّة، وأمر أمته بذلك، فقال:"إذا تشهّد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال"، متّفقٌ عليه، وعلَّم النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة، لما سألته عن الجوامع الكوامل من الدعاء، فقال لها:"قولي: اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك من خير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وأستعيذك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشدًا"
(1)
.
فهذا الذي قاله هؤلاء في معنى الرضا مخالف لهذا الهدي الذي لا هدي فوقه، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فعليك بالسنّة، ودع المحدثات، تَنْجُ في الدنيا والآخرة، وتَسْعَد في المحيا والممات.
وبالجملة فالرضا بالله تعالى لا ينافي الاستعاذة من النار، والخوف من عذاب الله تعالى، فلا تلتفت إلى ما يُخالف هذا، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وعلى الجملة فالرضا باب الله الأعظم، وفيه جماع الخير كلّه، كما قال عمر لأبي موسى رضي الله عنهما: أما بعد؛ فإن الخير كلّه في الرضا، فإن استطعت أن ترضى، وإلا فاصبر. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قوله: "وبالإسلام دينًا" فيه عطف معمولين على معمولي عامل واحد، وذلك أن قوله:"وبالإسلام" معطوف على "بالله"، و"دينًا" معطوف على "ربًّا"، وكذا ما بعده، وهذا العطف جائزٌ بلا خلاف؛ لاتحاد العامل، وهو "رَضِيَ"، وإنما الخلاف فيما إذا وقع العطف على معمولي عاملين مختلفين،
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده" رقم (23984) بإسناد صحيح.
(2)
"المفهم" 1/ 210 - 211.
كقولك: كان آكلًا طعامَكَ عمرٌو، وتَمْرَك بكرٌ، واتّفقوا على منع العطف على معمولات أكثر من عاملين، نحو: إن زيدًا ضاربٌ أبوه لعمرو، وأخاك غلامُهُ بَكْرٍ، وإلى هذا أشار شيخنا عبد الباسط المناسيّ رحمه الله تعالى في "نظم المغني"، حيث قال:
وَإِنْ عَلَى مَعْمُولَي الْعَامِلِ جَا
…
عَطْفٌ فَجَائِزٌ لَدَى ذَوِي الْحَجَا
وَإِنْ لِعَامِلَيْنِ فَالنَّاسُ اخْتَلَفْ
…
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ نَهَى كُلُّ السَّلَفْ
إِنْ لَمْ يَكُ الْمَجْرُورُ فِي الْمَعْطُوفِ جَا
…
وَالْفَارِسِيْ جَوَازَهُ قَدْ أَخْرَجَا
أَيْ مُطْلَقًا عَنْ أُمَّةٍ مِنْهُمْ يُعَدْ
…
أَخْفَشُهُمْ بِقِيلَ مَرْوِيًّا وَرَدْ
وَإِنْ يَكُ الْمَجْرُورُ مَعْ تَأَخُّرِ
…
فَمَنْعُهُ أَشْهَرُ عِنْدَ الأَكْثَرِ
وَإِنْ يَكُنْ مُقَدَّمًا فَالأَشْهَرُ
…
لِسِيبَوَيْهِ مَنْعُهُ مُقَرَّرُ
كَذَا الْمُبَرِّدُ مَعَ السَّرَّاجِ
…
هِشَامُهُمْ أَيْضًا بِذَا الْمِنْهَاجِ
وَالأَخْفَشُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ
…
كَذَا الْكِسَائِي بِالْجَوَازِ حَاجُوا
(1)
وَاشْتَرَطَ الأَعْلَمُ مَعْ جَمَاعَةِ
…
أَنْ يَلِيَ الْمَجْرُورُ لِلْعَاطِفَةِ
وَالْعَطْفُ مَمْنُوعٌ بِغَيْرِ مَيْنِ
…
مَعْ عَامِلٍ أَكْثَرَ مِنْ اِثْنَيْنِ
(2)
وإن أردت تحقيق المسألة بالتفصيل، فراجع شرحي المسمّى "فتح القريب" على النظم المذكور، تُشْفَ غُلّتك، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث العباس بن عبد المطّلب رضي الله عنه هذا مما انفرد به المصنّف عن البخاريّ رحمهما الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(13/ 159)(34) عن محمد بن يحيى بن أبي عمر، وبشر بن الحكم، كلاهما عن عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْديّ، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن عامر بن سعد، عنه.
(1)
بتخفيف الجيم للوزن.
(2)
بقطع الهمزة للوزن.
و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2623) عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن ابن الهاد به، وقال: حسنٌ صحيح.
و (أحمد) في "مسنده" 1/ 208، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على الرضا بهذه الأمور الثلاثة، وأن من رضي بها وجد طعم الإيمان.
2 -
(ومنها): بيان تفاوت أهل الإيمان فيه، فإن منهم من وصل غايته، ووجده حلاوته، ونسي كدر الدنيا، واستأنس بذكر الله تعالى، واطمأنّ قلبه به، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .
3 -
(ومنها): أن تعبيره بالذوق دون الشبع، ونحوه، يدلّ على أن هذا القدر من الاستحلاء، وإن كان في نفسه رفيعًا، إلا أنه ليس غاية المقصود الذي يجب أن يقف عنده، بل هو يزداد، فكلما ازداد إقباله على ربّه، واشتدّ شوقه إليه، ازدادت العطيّات، وتكاثرت الهبات، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(14) - (بَابُ بَيَانِ عَدَدِ شُعَبِ الإِيمَان، وَأَفْضَلِهَا، وَأَدْنَاهَا، وَكَوْنِ الْحَيَاءِ مِنَ الإِيمَانِ)
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[160]
(35) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن يحيى اليشكُريّ، أبو قُدَامة السَّرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سنّيٌّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقة حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) - بفتحتين - هو: عبد الملك بن عَمْرو الْقَيسي البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 25)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
4 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ القرشيّ مولاهم، أبو محمد، ويقال: أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8].
رَوَى عن زيد بن أسلم، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كيسان، وحميد الطويل، وشريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، وربيعة، وابن عجلان، وموسى بن أنس، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو عامر الْعَقَديّ، وعبد الله بن المبارك، ومعلى بن منصور الرازيّ، وأبو سلمة الخزاعي، ويحيى بن حسان التِّنِّيسيّ، وعبد الله بن وهب، وبشر بن عمر الزهرانيّ، وخالد بن مخلد، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وإسماعيل بن أبي أويس، وأخوه أبو بكر بن أبي أويس، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسيّ، والقعنبيّ، ومحمد بن سليمان لُوَين، وغيرهم
(1)
.
قال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به، ثقةٌ، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ صالحٌ، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: سليمان أحب إليك، أو الدراورديّ؟ فقال: سليمان، وكلاهما ثقةٌ، وقال الذُّهْليّ: ما ظننت أن عند سليمان بن بلال من الحديث ما عنده، حتى نظرت في كتاب ابن أبي أويس، فإذا هو قد تبحّر حديث المدنيين، وقال أبو زرعة: سليمان بن بلال أحبّ إليّ من هشام بن سعد، وقال الخليليّ: ثقةٌ، ليس بمكثر، لقي الزهريّ، ولكنه يروي كثيرَ حديثه عن قدماء أصحابه، وأثنى عليه مالك، وآخرُ مَنْ حَدَّثَ عنه
(1)
قال الحافظ رحمه الله تعالى: ورأيت رواية مالك عنه في كتاب مكة للفاكهيّ. انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 87.
لُوَين، وقال ابن الجنيد عن ابن معين: إنما وَضَعَهُ عند أهل المدينة أنه كان على السُّوق، وكان أروى الناس عن يحيى بن سعيد، وقال عبد الرحمن بن مهديّ: نَدِمْتُ أن لا أكون أكثرت عنه، وقال ابن شاهين في "كتاب الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: لا بأس به، وليس ممن يُعْتَمَد على حديثه، وقال ابن عديّ: ثقة.
وقال ابن سعد: كان بربريًّا جميلًا عاقلًا، حسن الهيئة، وكان يُفتي بالبلد، وولي خراج المدينة، وكان ثقةً، كثير الحديث، مات بالمدينة سنة (172)، وقال البخاريّ عن هارون بن محمد المزنيّ: مات سنة سبع وسبعين ومائة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحكى القولين في وفاته.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (76) حديثًا.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العَدَويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة [4].
رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر، وأبي صالح السمان، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الرحمن، ومالك، وسليمان بن بلال، وشعبة، وصفوان بن سليم، وعبد العزيز بن الماجشون، وابن عجلان، وموسى بن عقبة، وسهيل بن أبي صالح، والسفيانان، وجماعة.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة مستقيم الحديث. وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي: ثقة، زاد ابن سعد: كثير الحديث، وقال العجلي: ثقة. وقال ابن عيينة: لم يكن بذاك ثم صار. وقال الليث عن ربيعة: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من صالحي التابعين، صدوقًا ديّنًا. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الساجي: سئل عنه أحمد، فقال: نافع أكبر منه، وهو ثبت في نفسه، ولكن نافع أقوى منه. وقال الْعُقيليّ: في رواية المشايخ عنه اضطراب. وفي "العلل" للخلال: أن أحمد سئل عن عبد الله بن دينار الذي رَوَى عنه موسى بن عُبيدة النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، فقال: ما هو الذي رَوَى عنه الثوري، قيل: فمن هو؟ قال: لا أدري. وجزم الْعُقيليّ بأنه هو، فقال في ترجمته: رَوَى عنه موسى بن عُبيدة، ونظراؤه أحاديث مناكير، الحمل فيها عليهم، ورَوَى عنه الأثبات حديثه عن ابن عمر في
النهي عن بيع الولاء وعن هبته، ومما انفرد به حديثُ شعب الإيمان، رواه عنه ابنه، وسهيل، وابن عجلان، وابن الهاد، ولم يروه شعبة، ولا الثوريّ، ولا غيرهما من الأثبات. وفي "رجال الموطأ" لابن الْحَذَّاء: قيل: لا نعلم له رواية عن أحد إلا عن ابن عمر. انتهى. وهذا قصور شديد ممن قاله، فقد سبق آنفًا أنه روى عن غيره.
قال ابن سعد، وعمرو بن علي: مات سنة سبع وعشرين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (45) حديثًا.
6 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السّمّان الزّيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمَة" 2/ 4.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول تفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ، والثاني تفرّد به هو، والترمذيّ، وعلّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من سليمان، وعبيد الله سَرَخْسيّ، ثم نيسابوريّ، وعبد بن حميد كِسّيّ - بكسر الكاف، وتشديد السين المهملة، ويَنطِقُ بها الناس بشين معجمة مفتوحةٍ، - نسبة إلى كِسٍّ: مدينة بما وراء النهر، وأبو عامر الْعَقَديّ بصريّ.
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، وهي من رواية الأقران، فإن وُجدت رواية أبي صالح عن عبد الله صار من المدبّج. قاله في "الفتح"
(1)
.
(ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره، فقد روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 69.
وأما شرح الحديث، فسيأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى - وإنما أخرّته إليه؛ لكونه أتمّ سياقًا من هذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[161]
(
…
) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً - فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيق، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد الْحَرَشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ، أكثر عنه المصنّف [10](ت 234)، وهو ابن (74)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب، قيل: كان في آخره يَهِم من حفظه [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(سُهَيْل) بْنُ أَبِي صَالِحٍ، ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ تغيّر حفظه بآخره، روى له البخاريّ مقرونًا وتعليقًا [6].
رَوَى عن أبيه، وسعيد بن المسيب، والحارث بن مخلد الأنصاري، وأبي الحباب سعيد بن يسار، وعبد الله بن دينار، وعطاء بن يزيد الليثي، وخلق كثير.
وروى عنه ربيعة، والأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصار، وموسى بن عقبة، ويزيد بن الهاد، ومالك، وشعبة، وابن جريج، والسفيانان، وخلق كثير.
قال ابن عيينة: كنا نَعُدّ سهلًا ثبتًا في الحديث. وقال حرب عن أحمد: ما أصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد: محمد - يعني ابن عمرو - أحب إلينا، وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم. وقال
الدُّوري عن ابن معين: سهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء، وليس حديثهما بحجة. وقال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر - يعني من العلاء -. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إليّ من العلاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لسهيل نُسَخ، وقد رَوَى عنه الأئمة، وحدّث عن أبيه، وعن جماعة عن أبيه، وهذا يدل على تمييزه، كونُهُ مَيَّزَ ما سمع من أبيه، وما سمع من غير أبيه، وهو عندي ثبت، لا بأس به، مقبول الأخبار. روى له البخاري مقرونًا بغيره. وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السُّلَمي: سألت الدارقطني: لِمَ ترك البخاري حديث سهيل في كتاب "الصحيح"؟ فقال: لا أعرف له فيه عذرًا، فقد كان النسائي إذا مَرّ بحديث سهيل، قال: سهيل والله خير من أبي اليمان، ويحيى بن بكير، وغيرهما.
وذكر البخاري في "تاريخه" قال: كان لسهيل أخ، فمات فوَجَد عليه، فنسي كثيرًا من الحديث. وذكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن يحيى قال: لم يزل أهل الحديث يتّقون حديثه. وذكر العُقيليّ عن يحيى أنه قال: هو صويلح، وفيه لين. وقال الحاكم في باب من عِيبَ على مسلم إخراج حديثه: سهيل أحد أركان الحديث. وقد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد، إلا أن غالبها في الشواهد، وقد رَوَى عنه مالك، وهو الْحَكَم في شيوخ أهل المدينة الناقد لهم، ثم قيل في حديثه بالعراق: إنه نسي الكثير منه، وساء حفظه في آخر عمره. وقال أبو الفتح الأزدي: صدوق إلا أنه أصابه بِرْسَام
(1)
في آخر عمره، فذهب بعض حديثه.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، مات في ولاية أبي جعفر، وكذا أرّخه ابن سعد، وقال: كان سهيل ثقة كثير الحديث. وأرّخه ابن قانع سنة (138).
أخرج له البخاريّ مقرونًا بغيره، وتعليقًا، والباقون، وله في هذا الكتاب (113) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
(1)
"الْبِرْسامُ" بالكسر: علّةٌ يُهْذَى فيها. اهـ. "القاموس" ص 974.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْإِيمَانُ) مبتدأ خبره (بضعٌ
…
) إلخ.
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الإيمان في هذا الحديث يُراد به الأعمال، بدليل أنه ذكر فيه أعلى الأعمال، وهو قول:"لا إله إلا الله"، وأدناها: أي أقربها، وهو "إماطة الأذى"، وهما عملان، فما بينهما من قبيل الأعمال، وقد قدّمنا القول في حقيقة الإيمان شرعًا ولغةً، وأن الأعمال الشرعيّة تسمّى إيمانا مجازًا، وتوسّعًا؛ لأنها عن الإيمان تكون غالبًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "مجازًا" فيه نظر؛ بل الحقّ أنها تسمّى إيمانًا حقيقة، لا مجازًا؛ حيث إن الشرع سمّى الكلّ إيمانًا، فلا حاجة لدعوى المجاز، فتبصّر. والله تعالى أعلم.
(بِضْعٌ) قال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى: "البِضع"، و"البضعة" واحدٌ، بكسر الباء، ويقال بفتحها أيضًا فيهما، وأما اللحم فالبَضْعَةُ بالفتح لا غيرُ، وهو القطعة من الشيء، والفِرْقة منه، واستَعْمَلت العرب الْبِضْعَ فيما بين الثلاث إلى العشر، وقيل: من ثلاث إلى تسع، وقال الخليل: البضعُ سبعٌ، وقيل: هو ما بين اثنين إلى عشرة، وما بين اثني عشر إلى عشرين، ولا يقال في أحد عشر، ولا اثني عشر، وقال أبو عبيدة: هو ما بين نصف العِقْد، يريد من واحد إلى أربع. انتهى
(2)
.
وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: "البِضع" بكسر الباء، ويقال أيضًا بفتحها، وكذا البضعة، واختَلَف في ذلك أهل اللغة، وفي بعض تفسيرهم له إشكالٌ أنا أُوَضِّحُه، فقيل: هو من ثلاث إلى تسع، وهذا هو الأشهر، وقيل: ما بين اثنين إلى عشر، والظاهر أن هذا تفسير للأول، فيكون البضع مستعملًا في الثلاث، دون ما قبله، غير مستعمل في العشر، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، والظاهر أن هذا هو ما حكاه أبو عمر الزاهد اللغويّ أنه
(1)
"المفهم" 1/ 216.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 264.
من أربع إلى تسع، وكذا قول الفرّاء: إنه ما بين الثلاث إلى ما دون العشرة، فعلى هذا لا يُستعمل في الثلاث، ولا في العشر أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال العينيّ في "عمدته": ذكر البنانيّ في "الموعب" عن الأصمعيّ: البضع مثالُ عِلْمٍ: ما بين اثنين إلى عشرة، واثنتي عشرة إلى عشرين فما فوق ذلك، يقال: بضعة عشر في جمع المذكر، وبضع عشرة في جمع المؤنّث، قال تعالى:{فِي بِضْعِ سِنِينَ} ، ولا يقال: في أحد عشر، ولا اثني عشر، إنما البضع من الثلاث إلى العشر، وقال صاحب "العين": البِضْعُ: سبعة، وقال قطرُب: أخبرنا الثقة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {فِي بِضْعِ سِنِينَ} ما بين خمس إلى سبع"، وقالوا: ما بين الثلاث إلى الخمس، وقال الفرّاء: البضع نيّفُ ما بين الثلاث إلى التسع، كذلك رأيتُ العرب تفعل، ولا يقولون: بضعٌ ومائة، ولا بضعٌ وألف، ولا يُذكر مع عشر، ومع العشرين إلى التسعين، وقال الزجّاج: معناه القطعة من العدد، تُجعَلُ لما دون العشرة من الثلاث إلى التسع، وهو الصحيح، وهو قول الأصمعيّ، وقال غيره: البضع من الثلاث إلى التسع، وقال أبو عُبيدة: هو ما بين نصف العشر، يريد ما بين الواحد إلى الأربعة، وقال يعقوب عن أبي زيد: بِضْعٌ، وبَضْعٌ، مثالُ عِلْمٍ، وصَقْرٍ، وفي "المحكم": البضع ما بين الثلاث إلى العشر، وبالهاء من الثلاثة إلى العشرة، يضاف إلى ما يُضاف إليه الآحاد، ويُبنى مع العشرة، كما يُبنى سائر الآحاد، ولم يمتنع عشرة، وفي "الجامع" للقزّاز:{بِضْعِ سِنِينَ} : قطعة من السنين، وهو يَجري في العدد مجرى ما دون العشرة، وقال قوم: قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} يدلّ على أن البضع سبع سنين؛ لأن يوسف عليه السلام إنما لَبِثَ في السجن سبع سنين، وقال أبو عبيدة: ليس البضع العقدَ، ولا نصف العقد، يذهب إلى أنه من الواحد إلى الأربعة، وفي "الصحاح": لا تقول: بضع وعشرون، وقال الْمُطَرّزيّ في "شرحه": البضع من أربعة إلى تسعة، هذا الذي حصّلناه من العلماء البصريين والكوفيين، وفيه خلافٌ، إلا أن هذا هو الاختيار.
(1)
"الصيانة" ص 195 - 197.
والنيّفُ: من واحد إلى ثلاثة، وقال ابن السيد في "المثلّث": البضع بالفتح والكسر: ما بين واحد إلى خمسة في قول أبي عبيدة، وقال غيره: ما بين واحد إلى عشرة، وهو الصحيح، وفي "الغريبين" للهَرَويّ: البضع، والبضعة واحد، ومعناهما: القطعة من العدد، زاد عياض: بكسر الباء فيهما، وبفتحها، وفي "العباب": قال أبو زيد: أقمتُ بَضْع سنين بالفتح، وجلستُ في بَقْعَة طيّبة، وأقمت بَرْهَة كلّها بالفتح
(1)
، وهو ما بين الثلاث إلى التسع، وروى الأثرم عن أبي عُبيدة أن البضع ما بين الثلاث إلى الخمس، وتقول: بضع سنين، وبضعة عشر رجلًا، وبضع عشرة امرأةً، فإذا جاوزت لفظ العشر ذهب لفظ البضع، لا تقول: بضع وعشرون، وقيل: هذا غلط، بل يقال ذلك، وقال أبو زيد: يقال: له بضعة وعشرون رجلًا، وبضع وعشرون امرأةً، والبضع من العدد في الأصل غير محدود، وإنما صار مبهمًا؛ لأنه بمعنى القطعة، والقِطعةُ غير محدودة
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر من أقوال المحقّقين من أهل اللغة أن "البضع" - بكسر الباء، وفتحها - عدد مبهم، مقيدٌ بما بين الثلاث إلى التسع؛ لأن هذا هو الذي يؤيّده ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى:{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]، وما رواه الترمذي بسند صحيح
(3)
: أن قريشًا قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبريّ مرفوعًا، قاله في
(1)
أي بفتح كلّ من بضعة، وبَقعة، وبَرهة، لكن جوّز غيره من اللغويين، ضم الباء في بُقعة، وبُرهة، راجع:"المصباح"، و"القاموس".
(2)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 125 - 126.
(3)
أخرج الترمذيّ بسند صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} قال: غُلِبَت، وغَلَبَت، كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أما إنهم سيغلبون"، فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلًا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فَجَعَل أجلًا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: "ألا جعلته إلى =
"الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
(وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ) هكذا رواية سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار بالشكّ، وفي رواية سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار السابقة:"بضع وسبعون شُعبة" بدون شكّ، ووقع في رواية البخاريّ:"بضع وستّون"، بدون شكّ أيضًا.
قال في "الفتح": لم تختلف الطرق عن أبي عامر، شيخ شيخ البخاريّ في ذلك، وتابعه يحيى الْحِمّاني - بكسر المهملة، وتشديد الميم - عن سليمان بن بلال، أخرجه أبو عوانة، من طريق بشر بن عُمَر، عن سليمان بن بلال، فقال:"بضع وستون، أو بضع وسبعون"، وكذا وقع التردد في رواية مسلم، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة
(2)
، من طريقه، فقالوا:"بضع وسبعون"، من غير شك، ولأبي عوانة في "صحيحه" من طريق:"ست وسبعون، أو سبع وسبعون"، ورجّح البيهقي رواية البخاري؛ لأن سليمان لم يَشُكّ، وفيه نظر؛ لما ذكرنا من رواية بشر بن عُمَرَ عنه، فقد تردد أيضًا، لكن يرجح بأنه الْمُتَيَقَّنُ، وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذيّ بلفظ:"أربع وستون"، فمعلولة، وعلى صحتها لا
= دون" قال: أراه العشر، قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر، قال: ثم ظهرت الروم بعدُ، قال: فذلك قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} - إلى قوله -: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة.
وأخرج الترمذيّ أيضًا بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَةِ {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} : "ألا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس. انتهى، لكن في سنده عبد الله بن عبد الرحمن الْجُمَحيّ مجهول.
(1)
"الفتح" 1/ 67.
(2)
هم: أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ.
تخالف رواية البخاريّ، وترجيحُ روايةِ:"بضع وسبعون"؛ لكونها زيادةَ ثقة؛ كما ذكره الْحَلِيمِيّ، ثم عياض، لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمرّ على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد الْمَخرَج، وبهذا يتبين شفوف نظر البخاريّ، وقد رجّح ابن الصلاح الأقل؛ لكونه الْمُتَيَقَّنَ. انتهى ما ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (شُعْبَةً) - بضمّ الشين المعجمة، وسكون العين المهملة - منصوب على التمييز، أي خصلةً، يعني أن الإيمان ذو خصال متعدّدة.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "الشُّعبة" أصلها القِطعة من الشيء، والفِرقة منه، ومنه شَعْبُ الإناء، وشُعُوب القبائل، وشُعَبُها الأربع، وواحد شُعُوب القبائل شَعْبٌ بالفتح، وقيل: بالكسر، وهم القبائل العظام، وشَعْبُ الإناء: صَدْعه بالفتح، ومنه قوله في حديث أنسّ رضي الله عنه عند البخاريّ:"أن قدح النبيّ صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتّخذ مكان الشَّعْب سِلْسِلَة من فضّة"، وقال الخليل: الشَّعْبُ: الاجتماع، والشَّعْبُ: الافتراق، قال الهرويّ: هو من الأضداد، وقال ابن دُريد: ليس كذلك، ولكنّها لغة لقوم. انتهى
(2)
.
ووقع عند الترمذيّ، وابن ماجه بلفظ "بَابًا" بدل "شُعْبةً"، أي نوعًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: مقصود هذا الحديث أن الأعمال الشرعيّة تُسمّى إيمانًا على ما ذكرناه آنفًا، وأنها منحصرة في ذلك العدد، غير أن الشرع لم يُعيّن ذلك العدد لنا، ولا فصّله، وقد تكلّف بعض المتأخّرين تعديد ذلك، فتصفّح خصال الشريعة، وعدّدها، حتى انتهى بها في زعمه إلى ذلك العدد، ولا يصحّ له ذلك؛ لأنه يمكن الزيادة على ما ذكر، والنقصان مما ذكر ببيان التداخل، والصحيح ما صار إليه أبو سليمان الخطّابيّ وغيره: أنها منحصرة في علم الله تعالى، وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم، وموجودةٌ في الشريعة مفصّلةٌ فيها، غير أن الشرع لم يوقفنا على أشخاص تلك الأبواب، ولا عَيَّنَ لنا عَدَدَها، ولا كيفيّة انقسامها، وذلك لا يضرّنا في علمنا بتفاصيل ما كُلّفنا به من شريعتنا، ولا في عملنا، إذ كلّ ذلك مفصّلٌ مبيّنٌ في جملة الشريعة، فما أُمرنا بالعمل به عملناه، وما نُهينا عنه انتهينا، وإن لم نُحط بحصر أعداد ذلك. والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 75.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 264 - 265.
قول القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي البحث في أقوال أهل العلم في عدد الشعب مستوفًى في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى -.
(فَأَفْضَلُهَا) أي أفضل تلك الشُّعَب قدرًا، ودرجةً عند الله تعالى، والفاء فصيحيّة، سمّيت بذلك لكونها أفصحت عن جواب شرط مقدّر، كأنه قيل: إذا كان الإيمان ذا شُعَبٍ كثيرة، يلزم منه ثبوت الفاضل والمفضول، فما أفضلها، وأدناها؟ (قَوْلُ لَا إِلَهً إِلَّا اللهُ) فيه أن كلمة التوحيد أفضل أنواع الإيمان، كما أن الإيمان أفضل أنواع العمل، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أي العمل أفضل؟، فقال: "إيمان بالله ورسوله
…
" الحديث، متّفق عليه.
فـ "أفضلها" مبتدأ، خبره "قول
…
إلخ".
(وَأَدْنَاهَا) أي أقرب هذه الشُّعَبِ البضع والستين، أو البضع والسبعين منزلةً، وأدونها مقدارًا، من الدنوّ بمعنى القرب، يقال: فلانٌ أدنى القدر، وقريب المنزلة، كما يُعبّر بالبعيد عن ضدّ ذلك، فيقال: فلانٌ بعيد الْهِمّة، وبعيد المنزلة، بمعنى الرفيع العالي، ولذلك استعمله في مقابلة الأعلى، قاله الطيبيّ
(2)
.
وفي رواية النسائيّ: "وأوضعها" وهي بمعنى "أدناها"(إِمَاطَةُ الْأَذَى) أي إزالة الأذى، و"الإماطة" - بكسر الهمزة -: مصدر أماط الشيء: إذا أزاله، وأذهبه، قال في "القاموس": ماطَ يَمِيط مَيْطًا - أي من باب باع -: جارَ، وزَجَرَ، وَمَاطَ عنّي مَيْطًا وميَطانًا: تنحّى، وبَعُدَ، ونَحّى، وأبعد، كأماط فيهما. انتهى.
فأفاد أن ماط يتعدّى ويلزم كأماط.
و"الأذى": بالفتح: مصدر أَذِيَ به، كبَقِي بالكسر، وتأذّى، والاسم الأذِيّةُ، والأَذَاةُ، وهي المكروه اليسير. قاله في "القاموس".
(1)
راجع: "المفهم" 1/ 216 - 217.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 438.
والمراد هنا: تنحيةُ ما يؤذي المسلمين، كالشوك، والحجر، والشجر، والنجاسة، ونحوها عن طريقهم؛ رفقًا بهم، وعطفًا عليهم.
(عَنِ الطَّرِيقِ) متعلّق بـ "إماطة"، وهو يُذكر في لغة نجد، وبه جاء القرآن في قوله تعالى:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77]، ويؤنّث في لغة الحجاز، والجمع طُرُقٌ - بضمّتين - وجمع الطُّرُق طُرُقَات، وقد جُمع الطَّريقُ على لغة التذكير أَطْرِقَة، قاله الفيّوميّ
(1)
.
(وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ) مبتدأ وخبره، وقوله:(مِنَ الْإِيمَانِ) متعلّق بمحذوف، صفة لـ "شُعْبة".
ووقع في رواية ابن عمر الآتية: "الحياء من الإيمان"، وفي حديث عمران رضي الله عنه الآتي:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي حديث آخر:"الحياء خيرٌ كلُّه" أو قال: "كلّهُ خيرٌ".
و"الحياء" - بالمد - في اللغة: تغير، وانكسار، يَعتَرِي الإنسانَ من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع: خُلُقٌ يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر:"الحياء خير كله". انتهى
(2)
.
قيل: الحياء مأخوذ من الحياة، وكأن الحييّ صار لما يَعتريه من التغيّر والانكسار مَؤُوف
(3)
الحياة، منكسر الْقُوَى، ولذلك قيل: مات حياءً، وجَمَد في مكانه خَجَلًا
(4)
.
وقال الواحديّ رحمه الله تعالى: قال أهل اللغة: الاستحياء من الحياة، واستحيا الرجل من قُوّة الحياة فيه؛ لشدّة علمه بمواقع الغيب، قال: فالحياء من قُوّة الْحِسّ ولطفِهِ وقوّة الحياة
(5)
.
وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى: الحياء حالةٌ تتولّد من رؤية الآلاء، ورؤية التقصير
(6)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 372.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 76.
(3)
بوزن رَسُول: أي أصابته الآفة.
(4)
"الكاشف" 2/ 438.
(5)
"شرح النووي" 2/ 5.
(6)
"الكاشف" 2/ 440.
وقال المازريّ رحمه الله تعالى: إنما كان الحياء - وهو في الأكثر غريزة - من الإيمان الذي هو اكتساب؛ لأن الحياء يمنع من المعصية كما يَمنَع الإيمان منها، والحياء هنا ممدود من الاستحياء. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: الحياء: انقباض، وحِشْمَة يجدها الإنسان من نفسه عندما يُطّلع منه على ما يُستقبح، ويُذمّ عليه، وأصله غَرِيزيّ في الفطرة، ومنه مكتسبٌ للإنسان، كما قال بعض الحكماء في العقل:
رَأَيْتُ الْعَقْلَ عَقْلَيْنِ
…
فَمَطْبُوعٌ وَمَصْنُوعُ
وَلَا يَنْفَعُ مَصْنُوعٌ
…
إِذَا لَمْ يَكُ مَطْبُوعُ
كَمَا لَا تَنْفَعُ الْعَيْنُ
…
وَضَوْءُ الشَّمْسِ مَمْنُوعُ
وهذا المكتسب هو الذي جعله الشرع من الإيمان، وهو الذي يُكلّف به، وأما الغريزيّ، فلا يُكلّف به، إذ ليس ذلك من كسبنا، ولا في وُسعنا، ولم يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، غير أن هذا الغريزيّ يَحمل على المكتسب، ويُعين عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، و"الحياء خير كلّه". وأول الحياء، وأولاه: الحياء من الله تعالى، وهو أن لا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومراقبة له حاصلة، وهي المعبّر عنها بقوله صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". وقد روى الترمذيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله حقَّ الحياء"، فقالوا: إنا نستحيي، والحمد لله، فقال:"ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حقّ الحياء أن تحفظ الرأس، وما حوى، والبطن وما وعى، وتذكر الموت والبِلَى، فمن فعل ذلك، فقد استحيى من الله حقّ الحياء"
(2)
.
قال: وأهل المعرفة في هذا الحياء منقسمون، كما أنهم في أحوالهم متفاوتون، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم جُمع له كمال نوعي الحياء، فكان في الحياء الغريزيّ أشدّ حياء من العذراء في خِدرها، وفي حيائه الكسبيّ في ذِرْوتها.
(1)
"المعلم" 1/ 292.
(2)
حديث حسن أخرجه أحمد 1/ 387، والترمذيّ 2460.
انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
[فإن قيل]: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟.
[أجيب]: بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقًا واكتسابًا، ولكن استعماله على وفق الشرع، يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثًا على فعل الطاعة، وحاجزًا عن فعل المعصية، ولا يقال: رُبَّ حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير؛ لأن ذاك ليس شرعيًّا.
وقال القاضي عياض وغيره من الشُّرّاح: إنما جُعِل الحياء من الإيمان، وإن كان غَرِيزةً؛ لأنه قد يكون تخلُّقًا، واكتسابًا، كسائر أعمال البرّ، وقد يكون غريزةً، ولكن استعماله على قانون الشرع يَحتاج إلى اكتسابٍ، ونِيّة، وعِلْمٍ، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثًا على أفعال البرّ، ومانعًا من المعاصي.
وأما كون الحياء خيرًا كلّه، ولا يأتي إلا بخير، فقد يُشْكِل على بعض الناس من حيثُ إنّ صاحب الحياء قد يَستحيي أن يواجه بالحق مَن يُجِلّه، فيترك أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وقد يَحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك، مما هو معروف في العادة.
والجواب عن هذا ما قاله جماعة من الأئمة منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: إن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقةً، بل هو عَجْزٌ وخَوَرٌ، ومَهَانَةٌ، وإنما تَسميتُهُ حياءً من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازًا؛ لمشابهته الحياءَ الحقيقيَّ، وإنما حقيقةُ الحياء خُلُقٌ يَبْعَث على ترك القبيح، وَيمْنَع من التقصير في حق ذي الحقّ، ونحو هذا، ويدل عليه ما سبق عن الجنيد رحمه الله تعالى
(2)
.
[فإن قيل]: لِمَ أفرده بالذكر هنا؟.
[أجيب]: بأنه كالداعي والباعث إلى باقي الشُّعَب، إذ الْحَيِيُّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر، وينزجر. ذكره في "الفتح"
(3)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع: "المفهم" 1/ 217 - 219.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 5.
(3)
راجع: "الفتح" 1/ 68.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[14/ 160](35) عن عبيد الله بن سعيد، وعبد بن حُميد، كلاهما عن أبي عامر الْعَقَديّ، عن سليمان بن بلال، و [14/ 161] عن زُهير بن حرب، عن جرير بن عبد الحميد، عن سُهيل، كلاهما عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عنه.
و (البخاريّ) في "الإيمان"(9) عن عبد الله بن محمد الْجُعْفيّ، عن أبي عامر الْعَقَديّ به، وأخرجه أيضًا في "الأدب المفرد"(598) عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن سُهيل به.
و (أبو داود) في "السنّة"(4676) عن موسى بن إسماعيل، عن حمّاد، عن سُهيل به.
و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2614) عن أبي كُريب، عن وكيع، عن سفيان الثوريّ، عن سُهيل به، وقال: حسنٌ صحيح.
و (النسائيّ) في "الإيمان"(8/ 110) عن محمد بن عبد الله الْمُخَرِّميّ، عن أبي عامر الْعَقَديّ به، وعن أحمد بن سليمان، عن أبي داود الْحَفَريّ، وأبي نُعيم، كلاهما عن سفيان به، وعن يحيى بن حبيب بن عربيّ، عن خالد بن الحارث، عن ابن عَجْلان، عن عبد الله بن دينار ببعضه:"الحياء من الإيمان".
و (ابن ماجه) في "السنّة"(57) عن عليّ بن محمد الطَّنَافسيّ، عن وكيع به، وعن عَمْرو بن رافع، عن جَرِير به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن ابن عجلان نحوه.
و (أحمد) في "مسنده" 2/ 379 و 2/ 442 و 445، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(146) و 147، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(167) و (190)، و (ابن منده) في "الإيمان"(144)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الإيمان له شعب كثيرة.
2 -
(ومنها): أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهو الحقّ الذي
عليه أهل السنة والجماعة، وخالف فيه بعضهم، ولا اعتداد به، كما تقدّم بيانه مفصّلًا أول كتاب الإيمان.
3 -
(ومنها): بيان عظم شأن الحياء، وأنه من أفضل الشعب إذ يدعو إلى بقية الشعب، فمن كان حييًّا فإن حياءه يدعوه إلى أن يعمل بمقتضى إيمانه، ويتجنب ما يناقضه.
4 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: في قوله: "أعلاها قول لا إله إلا الله": ما يَستدلّ به من يقول: إن هذه الكلمة أفضل الكلام مطلقًا، وإنها أفضل من كلمة الحمد، وفي ذلك اختلاف، ذكره ابن عبد البرّ، وغيره. انتهى.
5 -
(ومنها): أن في قوله: "أعلاها لا إله الا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق": إشارةً إلى أن مراتبها متفاوتة.
6 -
(ومنها): أن تعريف المسند إليه - أعني "الإيمان" - إنما يُقصد لإتمام الفائدة للسامع؛ لأن فائدته من الخبر إمّا الحكم، أو لازمه، كما بُيّن في موضعه، وفيه الفصل بين الجملتين بالواو؛ لأنه قُصد التشريك، وتعيين الواو؛ لدلالتها على الجمع، وفيه تشبيه الإيمان بشجرة ذات أغصان وشُعَب، كما شُبّه في حديث "بُني الإسلام على خمس" بخباء ذات أعمدة وأَطْناب.
7 -
(ومنها): ما قيل في وجه الحكمة في تخصيص الستين في رواية البخاريّ، والسبعين في رواية المصنّف، وأصحاب "السنن".
فأما الحكمة في تعيين الستيّن وتخصيصها، فهي أنّ العدد إما زائد، وهو ما أجزاؤه أكثر منه، كالاثني عشر، فإن لها نصفًا، وثلثًا، وربعًا، وسدسًا، ونصف سدس
(1)
، ومجموع هذه الأجزاء أكثر من اثني عشر، فإنه ستة عشر، وإما ناقص، وهو ما أجزاؤه أقلّ منه، كالأربعة، فإن لها الربع، والنصف فقط، وإمّا تامّ، وهو ما أجزاؤه مثله، كالستّة، فإن أجزاءها النصف، والثلث،
(1)
الظاهر أنه لا حاجة إليه؛ لأن أجزاءه الحقيقيّة هي السابقة، وإلا فيلزمنا أن نذكر أيضًا نصف النصف، ونصف الربع، وهكذا، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
والسدس، وهي مساوية للستّة، والفضل من بين الأنواع الثلاثة للتامّ، فلما أُريد المبالغة فيه جُعلت آحادها أعشارًا، وهي الستّون.
وأما الحكمة في تعيين السبعين فهي أن السبعة تشتمل على جملة أقسام العدد، فإنه ينقسم إلى فرد وزوج، وكلّ منهما إلى أول ومركّب، والفرد الأول ثلاثةٌ، والمركّب خمسة، والزوج الأول اثنان، والمركّب أربعةٌ، وينقسم أيضًا إلى مُنطق، كالأربعة، وأصمّ، كالستّة، والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام، فلما أريد المبالغة فيه جُعلت آحادها أعشارًا، وهي السبعون.
وأما زيادة البِضْع على النوعين، فقد عُلم أنه يُطلق على الستّ، وعلى السبع؛ لأنه ما بين اثنين إلى عشرة وما فوقها، كما نصّ عليه صاحب "الموعب"، ففي الأول الستة أصل الستين، وفي الثاني السبعة أصل السبعين، كما ذكرناه، فهذا وجه تعيين أحد هذين العددين
(1)
.
8 -
(ومنها): أن المراد من هذين العددين، هل هو حقيقة أم ذُكرا على سبيل المبالغة؟ فقال بعضهم: أريد به التكثير دون التعديد، كما في قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] الآية، قال الطيبيّ: الأظهر معنى التكثير، ويكون ذكر البضع للترقّي، يعني أن شُعَب الإيمان أعداد مبهمة، ولا نهاية لكثرتها؛ إذ لو أريد التحديد لم يُبهَم، وقال بعضهم: العرب تستعمل السبعين كثيرًا في باب المبالغة، وزيادةُ السبع عليها التي عبّر عنها بالبضع لأجل أن السبعة أكمل الأعداد؛ لأن الستة أول عدد تامّ، وهي مع الواحد سبعة، فكانت كاملة؛ إذ ليس بعد التمام سوى الكمال، وسُمّي الأسد سبعًا؛ لكمال قوّته، والسبعون غاية الغاية؛ إذ الآحاد غايتها العشرات.
9 -
(ومنها): ما وقع من الاختلاف في الترجيح بين الروايتين، فقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الصواب ما وقع في سائر الأحاديث، ولسائر الرواة:"بضع وسبعون"، ومنهم من رجّح رواية:"بضع وستّين"؛ لأنها الْمُتيَقَّن.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: الصواب ترجيح: "بضع وسبعين"؛ لأنها
(1)
"عمدة القاري" 1/ 127.
زيادة من ثقات، وزيادة الثقات مقبولة مقدّمة، وليس في رواية:"بضع وستين" ما يمنع الزيادة
(1)
.
قال الكرمانيّ رحمه الله تعالى: ويحتمل أن تكون رواية الستين مقدّمة على رواية السبعين، وكان شُعَب الإيمان عند صدوره من النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا القدر، ثم قال مرّة أخرى عند زيادة الشُّعَب بلفظ:"سبعون"، فيكون كلاهما صوابًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال سيأتي تعقّب الحافظ ابن رجب له، فتنبّه.
وقال الخطابيّ رحمه الله تعالى: الإيمان اسم يتشعّب إلى أمور ذوات عدد، جِمَاعها الطاعة، ولذا صار من صار من العلماء إلى أن الناس متفاضلون في درج الإيمان، وإن كانوا متساوين في اسمه، وكان بدء الإيمان كلمة الشهادة، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيّة عمره يدعو الناس إليها، وسَمَّى من أجابه إلى ذلك مؤمنًا إلى أن نزلت الفرائض، وبهذا الاسم خوطبوا عند إيجابها عليهم، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] الآية، وهذا الحكم مستمرّ في كلّ اسم يقع على أمر ذي شُعَب؛ كالصلاة، فإن رجلًا لو مرّ على مسجد، وفيه قومٌ، منهم من يستفتح الصلاة، ومنهم من هو راكع، أو ساجد، فقال: رأيتهم يصلّون كان صادقًا، مع اختلاف أحوالهم في الصلاة، وتفاضل أفعالهم فيها.
[فإن قيل]: إذا كان الإيمان بضعًا وسبعين شُعبةً، فهل يمكنكم أن تسمّوها بأسمائها، وإن عجزتم عن تفصيلها، فهل يصحّ إيمانكم بما هو مجهول عندكم؟.
[قلنا]: إيماننا بما كُلّفناه صحيحٌ، والعلم به حاصل، وذلك من وجهين:
الأول: أنه قد نَصَّ على أعلى الإيمان وأدناه باسم أعلى الطاعات وأدناها، فدخل فيه جميع ما يقع بينهما، من جنس الطاعات كلّها، وجنس الطاعات معلوم.
(1)
هكذا عزا الكرمانيّ هذا الترجيح للنوويّ، ولم أجده بهذا النصّ في شرح مسلم، فالله أعلم.
والثاني: أنه لم يوجِبْ علينا معرفة هذه الأشياء بخواصّ أسمائها حتى يلزمنا تسميتها في عقد الإيمان، وإنما كَلّفَنا التصديق بجملتها، كما كَلّفنا الإيمان بملائكته، وإن كنّا لا نعرف أسماء أكثرهم، ولا أعيانهم.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلى شُعَب الإيمان وأدناها، كما ثبت في "الصحيح" من قوله صلى الله عليه وسلم:"أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، فبيّن أن أعلاها التوحيد المتعيّن على كلّ مكلّف، والذي لا يصحّ غيره من الشعب إلا بعد صحّته، وأن أدناها دفع ما يُتوقّع به ضرر المسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بينهما إتمام العدد، فيجب علينا الإيمان به، وإن لم نعرف أعيان جميع أفراده، كما نؤمن بالملائكة، وإن لم نعرف أعيانهم وأسماءهم. ذكره الكرمانيّ
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف الحفّاظ في إسناد هذا الحديث:
(اعلم): أن هذا الحديث وقع عند المصنّف بلفظ: "الإيمان بضع وسبعون شعبة"، هكذا رواه أبو عامر الْعَقَديّ، عن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية زُهير بن حرب، عن جرير بن عبد الحميد، عن سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"بضع وسبعون - أو بضع وستون -" على الشكّ، ورواه البخاري في أول الكتاب من رواية الْعَقَديّ:"بضع وستون"، بلا شكّ، ورواه أبو داود، والترمذيّ، وغيرهما من رواية سهيل:"بضع وسبعون" بلا شك، ورواه الترمذيّ من طريق آخر، وقال فيه:"أربعة وستون بابًا".
وقد اختَلَفَ العلماء في الترجيح بين الروايتين، فقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الصواب ما وقع في سائر الأحاديث، ولسائر الرواة:"بضع وستون"
(2)
، وقال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: هذا الشك الواقع في رواية
(1)
"شرح الكرمانيّ" 1/ 82 - 83.
(2)
هكذا في شرح النووي: "ستون"، والذي في "الإكمال":"سبعون"، والظاهر أنه الصواب، والله تعالى أعلم.
سهيل هو من سهيل، كذا قاله الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله تعالى، وقد رُوي عن سهيل:"بضع وسبعون" من غير شكّ، وأما سليمان بن بلال، فإنه رواه عن عمرو بن دينار على القطع، من غير شكّ، وهي الرواية الصحيحة، أخرجاها في "الصحيحين"، غير أنها فيما عندنا من كتاب مسلم:"بضع وسبعون"، قطعًا بالأكثر، وفيما عندنا من كتاب البخاريّ:"بضع وستون"، قطعًا بالأقلّ، وقد نقلت كل واحدة عن كل واحد من الكتابين، ولا إشكال في أن كل واحدة منهما رواية معروفة في طُرُق روايات هذا الحديث، واختلفوا في الترجيح بينهما، والأشبه بالإتقان، والاحتياط ترجيح رواية الأقلّ، ومنهم من رَجَّح رواية الأكثر، وإياها اختار أبو عبد الله الْحَلِيميّ، فإن الحكم لمن حَفِظَ الزيادة، جازمًا بها.
قال: ثم إن الكلام في تعيين هذه الشُّعَب المطلوب، وقد صُنِّفَت في ذلك مصنفات، ومن أغزرها فوائد كتاب "المنهاج" لأبي عبد الله الْحَلِيميّ
(1)
إمام الشافعيين ببخارى، وكان من رُفَعاء أئمة المسلمين، وحَذَا حَذْوه الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله تعالى في كتابه الجليل الحفيل، كتاب "شُعَب الإيمان". انتهى كلام ابن الصلاح
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بعد أن أورد رواية البخاريّ بلفظ: "الإيمان بضع وستون شعبة" ما نصّه: وخرّجه مسلم من هذا الوجه، ولفظه:"بضع وسبعون". وخرّجه مسلم أيضًا من رواية جرير، عن سُهيل، عن عبد الله بن دينار به، وقال في حديثه:"بضع وسبعون - أو بضع وستون - " بالشكّ، وهذا الشكّ من سُهيل، كذا جاء مصرّحًا به في "صحيح ابن حبّان"، وغيره.
وخرّجه مسلم أيضًا من حديث ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار به، وقال في حديثه:"الإيمان سبعون - أو اثنان وسبعون - بابًا"
(3)
.
(1)
هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاريّ الشافعيّ، المولود سنة (338 هـ) في شهر ربيع الأول، والمتوفّى سنة (403 هـ).
(2)
"الصيانة" ص 196 - 197.
(3)
هكذا عزا ابن رجب، هذه الرواية إلى "صحيح مسلم"، والظاهر أنه وَهَمٌ منه، فإن =
ورواه ابن عجلان، عن عبد الله بن دينار، وقال:"ستّون، - أو سبعون - ". ورُوي عنه أنه قال في حديثه: "ستون"، أو "سبعون"، أو "بضع" وأحد من العددين، أخرجه ابن أبي شيبة في "الإيمان"(67) ومن طريقه ابن ماجه "57".
ورُوي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه بهذا اللفظ أيضًا. أخرجه ابن منده في "الإيمان" 1/ 296.
وروي عنه بلفظ آخر، وهو:"الإيمان تسعة - أو سبعة - وسبعون شعبة".
وخرّجه الترمذيّ من رواية عُمارة بن غَزِيّة، وقال فيه:"الإيمان أربعة وسبعون بابًا".
وقد رُوي عن عمارة بن غزيّة، عن سُهيل، عن أبيه، وسهيل لم يسمعه من أبيه، إنما رواه عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح. فمدار الحديث على عبد الله بن دينار، لا يصحّ عن غيره.
وقد ذكر العُقيليّ أن أصحاب عبد الله بن دينار على ثلاث طبقات: أثبات؛ كمالك، وشعبة، وسفيان بن عيينة. ومشايخ: كسهيل، ويزيد بن الهاد، وابن عجلان. قال: وفي رواياتهم عن عبد الله بن دينار اضطراب، وقال: إن هذا الحديث لم يُتابع هؤلاء المشايخ عليه أحد من الأثبات عن عبد الله بن دينار، ولا تابع عبد الله بن دينار، عن أبي صالح عليه أحد. والطبقة الثالثة: الضعفاء، فيروون عن عبد الله بن دينار المناكير، إلا أن الحمل فيها عليهم.
قال ابن رجب: قد رواه عن عبد الله بن دينار سليمان بن بلال، وهو ثقة ثبتٌ، قد خُرّج حديثه في "الصحيحين". انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في الاختلاف الواقع في لفظ الحديث، واختلاف أهل العلم في تعداد شُعب الإيمان:
= هذه الرواية لا توجد فيه، كما هو واضح، وإنما أخرجها بهذا الطريق الحافظ ابن منده رحمه الله تعالى في كتاب "الإيمان" 1/ 296، ولفظه:"الإيمان بضعٌ وسبعون - أو بضعٌ وستّون - شعبة"، فراجعه تستفد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"شرح البخاري" 1/ 30 - 32.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما الاختلاف في لفظ الحديث فالأظهر أنه من الرواة، كما جاء التصريح في بعضه بأنه شكّ من سُهيل بن أبي صالح، وزعم بعض الناس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان، فكلما نزلت خصلة منها ضمّها إلى ما تقدّم، وزادها عليها، وفي ذلك نظر، وقد ورد في بعض روايات "صحيح مسلم" عدد بعض هذه الخصال، ولفظه:"أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
فأشار إلى أن خصال الإيمان منها ما هو قولٌ باللسان، ومنها ما هو عملٌ بالجوارح، ومنها ما هو قائم بالقلب، ولم يزد في شيء من هذه الروايات على هذه الخصال.
وقد انتدب لعدّها طائفة من العلماء
(1)
؛ كالْحَلِيميّ، والبيهقيّ، وابن شاهين، وغيرهم، فذكروا كلّ ما ورد تسميته إيمانًا في الكتاب والسنّة من الأقوال والأعمال، وبلغ بها بعضهم سبعًا وسبعين، وبعضهم تسعًا وسبعين.
وفي القطع على أن ذلك هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الخصال عسر، كذا قاله ابن الصلاح، وهو كما قال. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال الإمام أبو حاتم بن حِبّان البستيّ رحمه الله تعالى في "كتاب وصف الإيمان وشُعَبه":
تتبّعتُ معنى هذا الحديث مدّةً، وعددت الطاعات، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئًا كثيرًا، فرجحت إلى السنن، فعددتُ كلّ طاعة عدّها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فرجعت إلى كتاب الله تعالى،
(1)
منهم أبو عبد الله الحليميّ، صنّف فيها كتابًا سمّاه "فوائد المنهاج"، والحافظ أبو بكر البيهقيّ، وسمّاه "شُعب الإيمان"، والشيخ عبد الجليل أيضًا سمّاه "شُعَب الإيمان"، وإسحاق ابن القرطبيّ، وسمّاه "كتاب النصائح"، وأبو حاتم البستيّ، وسمّاه "وصف الإيمان، وشعبه"، ذكره في "عمدة القاري" 1/ 128.
(2)
"شرح البخاريّ" 1/ 32 - 34.
فعددت كلّ طاعة عدّها الله من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممتُ إلى الكتاب السننَ، وأسقطتُ المعاد، فإذا كلّ شيء عدّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الإيمان بضع وسبعون، لا يزيد عليها، ولا ينقص، فعلمتُ أن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذا العدد في الكتاب والسنّة. انتهى.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "بضع وسبعون" يحتمل أن يكون المراد بقوله: "بضع وسبعون" التكثيرَ، دون التعديد، كما في قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} الآية [التوبة: 80].
واستعمال لفظة السبعة والسبعين للتكثير كثير، وذلك لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فإنه ينقسم إلى فرد وزوج، وكلّ منهما إلى أول، ومركّب، والفرد الأول ثلاثة، والمركّب خمسة، والزوج الأول اثنان، والمركّب أربعةٌ، وينقسم أيضًا إلى مُنْطَقٍ؛ كالأربعة، وأصمّ؛ كالستة، والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام، ثم إن أريد مبالغة جُعلت آحادها أعشارًا.
ويحتمل أن يكون المراد تعداد الخصال وحصرها، فيقال: إن شُعَب الإيمان، وإن كانت متعدّدةً متبدّدةً إلا أن حاصلها يرجع إلى أصل واحد، وهو تكميل النفس على وجه به يصلح معاشه، ويحسُن معاده.
وذلك بأن يعتقد الحقّ، ويستقيم في العمل، وإليه أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال لسفيان بن عبد الله الثقفيّ رضي الله عنه حين سأله في الإسلام قولًا جامعًا:"قُل: آمنت بالله، ثم استقم"، رواه مسلم.
قال: وفنون اعتقاد الحقّ يتشعب ست عشرة شُعبةً:
طلب العلم، ومعرفة الصانع، وتنزيهه عن النقائص، وما يتداعى إليها، والإيمان بصفات الإكرام، مثل الحياة، والعلم، والقدرة، والإقرار بالوحدانيّة، والاعتراف بأن ما عداه صنعه لا يوجد، ولا يُعدم إلا بقضائه وقدره، والإيمان بالملائكة المتطهّرة عن الرجس، وتصديق رسله المؤيّدين بالآيات في دعوى النبوّة، وحسن الاعتقاد فيهم، والعلم بحدوث العالم، واعتقاد فنائه على ما ورد به التنزيل، والجزم بالنشأة الثانية، وإعادة الأرواح إلى الأجساد، والإقرار باليوم الآخر، أعني بما فيه من الصراط والحساب، وموازنة الأعمال، وسائر ما تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والوثوق على وعد الجنّة وثوابها، واليقين بوعيد النار وعقابها.
وفنّ العمل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
[أحدها]: يتعلّق بالمرء نفسه، وهو ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما يتعلّق بالباطن، وحاصله تزكية النفس عن الرذائل، وأمهاتها عشرة: شَرَهُ الطعام، وشَرَهُ الكلام، والبخل، والكبر، وحبّ المال، وحبّ الجاه، وحبّ الدنيا، والحقد، والْحَسَدُ، والرياء، والْعُجب.
وتحليةُ النفس بالكمالات، وأمهاتها ثلاث عشرة: التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والحياءُ، والشكر، والوفاء، والصبر، والإخلاص، والصدق، والمحبّةُ، والتوكّلُ، والرضا بالقضاء.
وثانيهما: ما يتعلّق بالظاهر، وتسمّى بالعبادات، وشُعبها ثلاث عشرة: طهارة البدن عن الحدث والخبَث، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والقيام بأمر الجنائز، وصيام رمضان، والاعتكاف، وقراءة القرآن، وحجّ البيت والعمرة، وذبح الضحايا، والوفاء بالنذر، وتعظيم الأيمان، وأداء الكفّارات.
[وثانيها]: ما يتعلّق به وبخواصّه، وأهل منزلته، وشُعبها ثمان: التعفّف عن الزنا، والنكاح، والقيام بحقوقه، والبرّ بالوالدين، وصلة الرحم، وطاعة السادة، والإحسان إلى المماليك، والعتق.
[وثالثها]: ما يعمّ الناس، وينوط به إصلاح العباد، وشُعَبها سبع عشرة: القيام بإمارة المسلمين، واتباع الجماعة، ومطاوعة أولي الأمر، ومعاونتهم على البرّ، وإحياء معالم الدين ونشرها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحفظ الدين بالزجر عن الكفر، ومجاهدة الكفّار، والمرابطة في سبيل الله، وحفظ النفس بالكفّ عن الجنايات، وإقامة حقوقها من القصاص والديات، وحفظ أموال الناس بطلب الحلال، وأداء الحقوق، والتجافي عن المظالم، وحفظ الأنساب، وأعراض الناس بإقامة حدود الزنا والقذف، وصيانة العقل بالمنع عن تناول المسكرات، والمخبثات بالتهديد، والتأديب عليه، ودفع الضرر عن المسلمين، ومن هذا القبيل إماطة الأذى.
وأقول - والعلم عند الله -: الأظهر أن يُذهَب إلى معنى التكثير، ويكون ذكر البضع للترقي، يعني أن شُعب الإيمان أعداد مبهمة، ولا نهاية لكثرتها؛ إذ لو أريد التحديد لم يُبهمه، ولعمري إنه كذلك، وبيانه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيّن
ابتداءها، وانتهاءها، ووسطها، فلو أُخذت من الابتداء إلى الانتهاء كان على وزان قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآية [فصّلت: 30]، معناه من رضي بالله ربًّا، وعَمِل بمقتضاه، لم يَدَعْ ما يجب عليه أن يأتي ويذر، فإنك إن تنزّلت من حديث خالق الموجودات إلى حديث الشوكة وإماطتها، هل تجد شيئًا مما يُحَسِّنه الشرع والعقل من الأخلاق، ومراضي الأعمال خارجًا من ذلك؟، وكذا لو عكست، وترقّيت من إماطة الشوكة إلى الأعلى، ولو شرعت في معنى الحياء، وفسّرته بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استحيوا من الله حقَّ الحياء"، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي، والحمد لله، قال:"ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس، وما وَعَى، والبطن وما حَوَى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء"
(1)
.
لقد حاولتَ أمرًا عظيمًا، وفيه إشارة إلى منازل السائرين إلى الله، والسالكين لطريق الآخرة.
وقال الشيخ العارف أبو القاسم الجنيد رحمه الله: الحياء حالة تتولّد من رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، ثم ليذق من مُنِح الفضل الإلهي، ورُزق الطبع السليم معنى إفراد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب، كأنه يقول: هذه شعبةٌ واحدةٌ من شُعَبه، فهل تُحصى وتُعَدّ شُعبها؟ هيهات، إن البحر لا ينزف.
وكفى بهذا الحديث شاهدًا على أن الإيمان جامع للتصديق، والإقرار، والأعمال، ومن ردّه كابر عقله، وظهر من هذا معنى التكثير في سبعين.
ولخّص بعض المفسّرين قول عليّ بن عيسى النحويّ في ذلك، وقال: السبعة أكمل الأعداد؛ لجمعها معاني الأعداد؛ لأن الستّة أوّل عدد تامّ؛ لأنها تعادل أجزاءها، فإن نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجملتها ستة سواء، وهي مع الواحد سبعة، وكانت كاملة؛ إذ ليست بعد التمام سوى الكمال، ولعلّ واضع اللغة يسمّي الأسد سبعًا؛ لكمال قوّته، كما أنه أسدٌ
(1)
ضعيف أخرجه الترمذيّ رقم (2382)، وفي سنده الصبّاح بن محمد البجليّ الأحمسيّ ضعيف.
لإساده في السير، ثم السبعون غاية الغاية؛ إذ الآحاد غايتها العشرات، انظر أيها المتأمل في هذه الألفاظ القليلة المستقلّة بالمعاني الجمّة الجليلة، واشهد له أنه صلى الله عليه وسلم أوتي كنوز الحكمة، وفصل الخطاب. انتهى كلام الطيبيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأولى عدم الخوض في تفاصيل معنى الشعب المذكورة في هذا الحديث؛ لعدم ورود نصّ مفصّل لها، قال القاضي عياض: تَكَلَّف جماعة حصر هذه الشُّعَب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المرادَ صعوبة، ولا يَقْدَح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان. انتهى.
والحاصل أن التصدّي لبيان تفاصيلها، تكلّف ظاهرٌ، فلا ينبغي التعويل عليه، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:
[فإن قيل]: فأهل الحديث والسنة عندهم أن كلّ طاعة، فهي داخلة في الإيمان، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو القلوب، أو من الأقوال، وسواء في ذلك الفرائض، والنوافل، هذا قول الجمهور الأعظم منهم، وحينئذ، فهذا لا ينحصر في بضع وسبعين، بل يزيد على ذلك زيادة كثيرةً، بل هي غير منحصرة.
[قيل]: يمكن أن يجاب عن هذا بأجوبة:
[أحدها]: أن يقال: إن عدد خصال الإيمان عند قول النبيّ صلى الله عليه وسلم كان منحصرًا في هذا العدد، ثم حدثت الزيادة فيه بعد ذلك، حتى كملت خصال الإيمان في آخر حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي هذا نظر.
[والثاني]: أن تكون خصال الإيمان كلّها تنحصر في بضع وسبعين نوعًا، وإن كانت أفراد كل نوع تتعدّد تعدّدًا كثيرًا، وربّما كان بعضها لا ينحصر، وهذا أشبه، وإن كان الوقوف على ذلك يعسر، أو يتعذّر.
[والثالث]: أن ذكر السبعين على وجه التكثير للعدد، لا على وجه الحصر، كما في قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 439 - 441.
والمراد تكثير التعداد من غير حصوله هذا في العدد
(1)
، ويكون ذكره للبضع يُشعر بذلك، كأنه يقول: هو يزيد على السبعين المقتضية لتكثير العدد، وتضعيفه، وهذا ذكره بعض أهل الحديث من المتقدّمين، وفيه نظر.
[والرابع]: أن هذه البضع وسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها، وهو الذي تدعو إليه الحاجة منها، قاله ابن حامد من الحنابلة. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الثاني أظهر الأقوال، وأقربها إلى الفهم، كما سبق ميل ابن رجب رحمه الله تعالى إليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[162]
(36) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيه، سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاء، فَقَالَ: "الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَاَنِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ الحافظ تقدّم قريبًا.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو عمرو بن محمد بن بُكير، أبو بكر البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقة حافظ، وَهِمَ في حديث [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة الحافظ المذكور قريبًا.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عِمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقة حافظ فقيهٌ حجة، من رؤوس [8](ت 198)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 383.
(1)
هكذا النسخة، ولعل الصواب: من غير حصره في هذا العدد، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(2)
"شرح صحيح البخاريّ" لابن رجب 1/ 34 - 35.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشيّ، أبو بكر المدنيّ الفقيه الحافظ المتّفق على جلالته وإتقانه، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.
6 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، ثقة ثبت عابد فاضلٌ، كان يُشبّه بأبيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3].
رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وأبي رافع، وأبي أيوب، وعن زيد بن الخطاب
(1)
، وأبي لبابة على خلاف فيه، وغيرهم.
وروى عنه ابنه أبو بكر، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، والزهري، وصالح بن كيسان، وحنظلة بن أبي سفيان، وعبيد الله بن عمر بن حفص، وغيرهم.
قال ابن المسيب: كان عبد الله أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به. وقال مالك: لم يكن أحد في زمان سالم بن عبد الله أشبه من مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه. وقال الأصمعي عن ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يَكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى نشأ فيهم القراء السادة: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علمًا وتُقًى وعبادةً وورعًا، فَرَغِبَ الناس حينئذ في السراري. وقال علي بن الحسن العسقلاني عن ابن المبارك: كان فقهاء أهل المدينة سبعة، فذكره فيهم، قال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعًا، فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يُرفع إليهم، فينظرون فيها، فيَصْدُرون. وقال مالك: كان ابن عمر يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل زمانه. وقال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: أصح الأسانيد: الزهري، عن سالم، عن أبيه.
وقال الدُّوري عن ابن معين: سالم، والقاسم، حديثهما قريب من السواء، وسعيد بن المسيب قريب منهما، وإبراهيم أعجب إلي مرسلًا منهم. وقال البخاري:
(1)
قال الحافظ: رواية سالم عن عم أبيه زيد بن الخطاب منقطعة قطعًا. والله أعلم. انتهى. "تهذيب التهذيب" 1/ 677.
لم يسمع من عائشة. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، عاليًا من الرجال. وقال ابن حبان في "الثقات": كان يشبه أباه في السَّمْت والْهَدْي. وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا أدري سالم عن أبي رافع صحيح أم لا؟. وقال غيره: لَمّا قَدِمَ سبي فارس على عمر، كان فيه بنات يَزْدَجْردَ، فَقُوِّمن، فأخذهن علي، فأعطى واحدة لابن عمر، فولدت له سالمًا، وأعطى أختها لولده الحسين، فولدت له عليًّا، وأعطى أختها لمحمد بن أبي بكر، فولدت له القاسم. وقال أبو نعيم وجماعة: مات سنة ست ومائة، في ذي القعدة، أو ذي الحجة. وقال خليفة: سنة (7)، وقال الهيثم بن عدي: سنة (8)، وقال الأصمعي: سنة (5)، والأول أصح. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (112) حديثًا.
7 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة إلا مشايخه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثالث ما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، وابن عيينة كوفيّ، فمكيّ، وأبو بكر كوفي، وعمرو بغداديّ، وزهير نسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
6 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنه، وقد تقدّم هذا كلّه، وإنما أعدته تذكيرًا. والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاء، فَقَالَ: "الْحَيَاءُ مِنَ الْإيمَانِ").
(عَنْ سَالِمٍ) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قَالَ:(سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا) وفي الرواية التالية: "مر برجل"، وفي رواية البخاريّ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَرَّ عَلَى رَجُلٍ".
و"مرَّ" بمعنى: اجتاز يُعَدى بـ "على"، وبالباء، قال الحافظ: ولم أعرف اسم هذين الرجلين: الواعظ، وأخيه (يَعِظُ أَخَاهُ) من الوعظ: وهو النُّصح، والتذكير بالعواقب، وقال ابن فارس: هو التخويف، والإنذار. وقال الخليل بن أحمد: هو التذكير بالخير فيما يُرِقّ القلب. ذكره العينيّ
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: أي ينهاه عنه، ويُقبّح له فعله، ويزجره عن كثرته
(2)
.
وقال في "الفتح": أي يَنصح، أو يُخَوِّف، أو يُذَكِّر، كذا شرحوه، والأولى أن يُشرَح بما جاء عند البخاريّ في "الأدب" من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن ابن شهاب، ولفظه:"يُعاتِب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي، حتى كأنه يقول: قد أضَرّ بك". انتهى.
ويحتمل أن يكون جمع له العِتاب، والوعظ، فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن الْمَخْرَجُ مُتَّحِد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي، بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر. انتهى
(3)
.
وجملة "يعظ أخاه" في محلّ جرّ صفة لـ "رجل".
وقوله: (فِي الْحَيَاءِ) متعلّق بـ "يعِظ"، و"في" سببية، فكأن الرجل كان كثير الحياء، فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك.
(فَقَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم للرجل الواعظ ("الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ") أي جزء من أجزاء الإيمان، ولفظ البخاريّ:"دَعْهُ، فإن الحياء من الإيمان": أي اتركه على هذا الخلق السَّنِيّ، ثم علّل أمره بالترك بما ذكره بالفاء التعليليّة، فقال: "فإن الحياء
…
إلخ". أي وإذا كان الحياء، يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه، جَرّ له ذلك تحصيلَ أجر ذلك الحقّ، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقًا.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 200 - 201.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 6.
(3)
"الفتح" 1/ 105.
وقال ابن قتيبة: معناه إن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسُمّي إيمانًا، كما يُسَمَّى الشيءُ باسم ما قام مقامه.
وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز
(1)
، والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية في نفسها مما يهتم به، وإن لم يكن هناك منكر.
قال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يَشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركب من جُبن وعفة، فلذلك لا يكون المستحي فاسقًا، وقَلَّما يكون الشجاع مُسْتَحِيًا، وقد يكون لمطلق الانقباض، كما في بعض الصبيان. انتهى ملخصًا.
وقال غيره: هو انقباض النفس، خشية ارتكاب ما يُكرَه، أعم من أن يكون شرعيًّا، أو عقليًّا، أو عرفيًّا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أَبْلَهُ، قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان": أي أثر من آثار الإيمان.
وقال الْحَلِيميّ: حقيقة الحياء: خوف الذم بنسبة الشر إليه. وقال غيره: إن كان في مُحَرَّم فهو واجب، وإن كان في مكروه، فهو مندوب، وإن كان في مباح، فهو العرفي، وهو المراد بقوله:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع، إثباتًا ونفيًا. وحُكِي عن بعض السلف: رأيت المعاصي مَذَلَّةً، فتركتها مروءة، فصارت ديانةً. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته.
وقد قال بعض السلف: خَفِ اللهَ على قَدْرِ قُدْرَته عليك، واستحي منه على قَدْر قُرْبه منك. قاله في "الفتح"
(2)
.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
كونه مجازًا فيه نظر؛ لأنه جزء من أجزاء الإيمان، وجزء الشيء لا يسمى مجازًا، وإنما هو جزء حقيقة، فتنبّه.
(2)
راجع: "الفتح" 105 - 106.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف رحمه الله هنا في "الإيمان"[14/ 162](36) عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، ثلاثتهم، عن ابن عيينة، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، و [14/ 163] عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ به، و (البخاريّ) 1/ 12 عن عبد الله بن يوسف عن مالك، عن الزهريّ به، و 8/ 35 عن أحمد بن يونس، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهريّ به، و (أبو داود)(4795) عن القعنبيّ، عن مالك به، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2615) عن ابن أبي عمر، وأحمد بن منيع، كلاهما عن ابن عيينة به، و (النسائيّ) 8/ 121 عن هارون بن عبد الله، عن معن بن عيسى (ح) والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك به، و (ابن ماجه)(58) عن سهل بن أبي سهل، ومحمد بن عبد الله بن يزيد، كلاهما عن ابن عيينة به، و (مالك) في "الموطأ"(565)، و (أحمد) 2/ 9 و 2/ 56 و 2/ 147، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(602)، و (عبد الرزاق)(20146)، و (ابن منده) في "الإيمان"(174)، و (عبد بن حميد)(725)، و (ابن حبّان)(610)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(148 و 149)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون الحياء شعبة من شعب الإيمان.
2 -
(ومنها): أن فيه بيان عظم شأن الحياء، وأنه من أعلى الصفات الحميدة التي يتحلّى بها المؤمن، وقد ورد في مدحه أحاديث كثيرة، منها هذا الحديث، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي:"والحياء شعبة من الإيمان"، وحديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الآتي:"الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي رواية عنه:"الحياء خير كلّه".
3 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: والحياء نوعان:
[أحدهما]: غريزيّ، وهو خُلُقٌ يمنحه الله تعالى العبد، ويَجبُلُهُ عليه، فيكُفّه عن ارتكاب القبائح، والرذائل، ويحثّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله تعالى للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثّر ما يؤثّره الإيمان من فعل الجميل، والكفّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان، فهو وسيلة إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: من استحيى اختفَى، ومن اختفى اتّقَى، ومن اتّقى وُقي. وقال بعض التابعين: تركت الذنوب حياءً أربعين سنةً، ثم أدركني الورع. وقال ابن سَمْعُون: رأيت المعاصي نَذَالةً، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانةً.
[والنوع الثاني]: أن يكون مُكتسبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدي الله تعالى يوم القيامة، فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطّلاع الله تعالى عليه، وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان. وفي حديث مرسل:"استحي من الله، كما تستحيي من رجلين من صالحي عشيرتك، لا يفارقانك"، ورُوي موصولًا
(1)
.
وسُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليًا؟ فقال: "الله أحقّ أن يُستحيى منه من الناس"
(2)
.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه المرفوع: "الاستحياء من الله: أن تحفظ الرأس، وما وعَى، والبطن، وما حوى، وأن تذكر الموت، والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حقّ الحياء". رواه الترمذيّ، وغيره
(3)
.
(1)
رواه الطبرانيّ في "الكبير" 8/ 229 من طريق أبي عبد الملك علي بن يزيد الألهانيّ، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه عليّ بن يزيد ضعيف.
(2)
علّقه البخاريّ في "كتاب الغسل"(278)، وأخرجه أحمد 5/ 4، وأبو داود (4017)، والترمذيّ (2794)، والحاكم 4/ 179.
(3)
رواه الترمذي (2458)، وأحمد 1/ 387 من طريق الصباح بن محمد، عن مرة الهمدانيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه، والصباح ضعيف، واستنكروا عليه هذا الحديث، وصوّبوا وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه، ولكن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى حسّنه، انظر:"صحيح الجامع الصغير" 1/ 222 رقم (935).
وأخرج البخاريّ في "التفسير" عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} الآية [هود: 5]: إنها نزلت في قوم كانوا يُجامعون نساءهم، ويتخلّون، فيستحيون من الله، فنزلت الآية.
وكان الصّدّيق رضي الله عنه يقول: استحيوا من الله، فإني أذهب إلى الغائط، فأظلّ متقنّعًا بثوبي حياء من ربّي عز وجل.
وكان موسى عليه السلام إذا اغتسل في بيت مظلم لا يُقيم صلبه حياء من الله عز وجل.
قال بعض السلف: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك.
وقد يتولّد الحياء من الله من مطالعة النِّعَم، فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى في "شرح البخاري"
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[163]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ: مَرَّ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَعِظُ أَخَاهُ
…
).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، أبو محمد، ثقة حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحميريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظ مصنّفٌ يتشيّع، وتغير في آخره [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والزهريّ ذُكر في السند الماضي.
(1)
راجع: "شرح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 102 - 104.
وقوله: "بهذا الإسناد" أي بإسناد الزهري عن سالم، عن أبيه.
وقوله: "وقال" الضمير لشيخه "عبد بن حميد".
[تنبيه]: رواية عبد بن حميد هذه أخرجها في "مسنده"، فقال: أخبرنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ برجل من الأنصار، وهو يَعِظُ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُ فإنّ الحياء من الإيمان"
(1)
.
وأخرجها أيضًا أبو نعيم في "المستخرج" فقال: حدثناه أبو أحمد الغطريفيّ، ثنا عبد الله بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل من الأنصار، وهو يَعِظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُ فإن الحياء من الإيمان"
(2)
.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[164]
(37) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السَّوَّار، يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ"، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ وَقَارًا، وَمِنْهُ سَكِينَةً، فَقَالَ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ البصريّ الحافظ تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُنْدار، أبو بكر البصريّ الحافظ تقدّم قريبًا أيضًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر أبو عبد الله البصريّ تقدّم قريبًا أيضًا.
(1)
راجع: "المنتخب من مسند عبد بن حُميد" 2/ 7.
(2)
راجع: "المسند المستخرج" 1/ 128 رقم (149).
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الحجة المشهور، تقدّم قريبًا.
5 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السدوسيّ البصريّ تقدّم قريبًا أيضًا.
6 -
(أَبُو السَّوَّارِ) الْعَدَويّ البصريّ، قيل: اسمه حَسّان بن حُرَيث، وقيل: حُرَيث بن حسان، وقيل: حُرَيف - آخره فاء - وقيل: مُنْقِذ، وقيل: هو حُجَير بن الرَّبيع الْعَدَويُّ، ثقة [3].
رَوَى عن علي بن أبي طالب، والحسن بن عليّ، وعِمران بن حُصَين، وجندب بن عبد الله.
ورَوى عنه قتادة، وأبو التَّيّاح، والحضرميّ بن لاحِق، وقُرّة بن خالد، والأعمش، والْجُرَيريّ، وأبو نَعَامة العدويّ، وابن عون، وأشعث الْحُدّانيّ، وأبو خَلْدة خالد بن دينار.
قال ابن سعد: أبو السَّوّار العدويّ، من بني عَدِيّ بن عبد مناة، وكان ثقةً، وقال الآجريّ، عن أبي داود: من ثقات الناس، وقال النسائي في "الكنى": أبو السّوّار حَسّان بن حريث العدويّ ثقة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ
(1)
، وله عند الشيخين هذا الحديث فقط.
7 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد أسلم عام خيبر، وصَحِب، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، وأبوه صحابيّ رضي الله عنهما، ومات رضي الله عنه سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى أبي السوّار، فتفرّد به الشيخان، والنسائيّ على ما قيل.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات البصريين؛ كالإسناد التالي، قال النوويّ
(1)
هكذا رمز له في "التهذيبين"، و"التقريب" للنسائيّ، ولكن أصحاب برنامج الحديث لم يدخلوه في رجال النسائيّ، ولينظر، والله تعالى أعلم.
رحمه الله تعالى: وهذا من النفائس، اجتماع الإسنادين في الكتاب متلاصقين، جميعهم بصريّون، وشعبة، وإن كان واسطيًّا فهو بصريّ أيضًا، فكان واسطيًّا بصريًّا، فإنه انتقل من واسط إلى البصرة، واستوطنها.
4 -
(ومنها): أن شيخيه كانا فَرَسي رِهَان في الحفظ، وماتا في سنة واحدة سنة (252)، وهما من المشايخ الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستة بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة، عن أبي السوّار.
6 -
(ومنها): أن أبا السوّار هذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وهو من المقلّين من الرواية، فليس له عند الشيخين إلا هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) قال في "الفتح": كذا قال أكثر أصحاب شعبة، وخالفهم شَبَابة بن سَوّار، فقال:"عن شعبة، عن خالد بن رَبَاح"، بدل قتادة، أخرجه ابن منده، ووقع نظير هذه القصّة، عن عمران بن حُصين أيضًا للعلاء بن زياد، أخرجه ابن المبارك في "كتاب البرّ والصلة". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية شبابة بن سَوّار التي عزاها في "الفتح" إلى ابن منده لم أهتد إليها في "كتاب الإيمان" له، فإنه أخرج الحديث (1/ 336 - 334) من عدّة طرق، ومن جملتها طريق شبابة بن سَوّار، ولكنها كلها عن شعبة، عن قتادة، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) قتادة (سَمِعْتُ أَبَا السَّوَّارِ) بفتح السين المهملة، وتشديد الواو، وبعد الألف راء (يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما (يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ") وفي الرواية التالية: "الحياء خيرٌ كله"، وللطبراني من حديث قُرّة بن إياس: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء من الدين؟ فقال: "بل هو الدين كُلُّه"، وللطبراني من وجه آخر عن عمران بن حصين:"الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة".
(1)
"فتح" 10/ 640 "كتاب الأدب" الحديث (6117).
[تنبيه]: قال في "الفتح": وقع لابن دقيق العيد في "شرح العمدة": أن أصل الحياء الامتناع، ثم استعمل في الانقباض، قال: والحقّ أن الامتناع من لوازم الحياء، ولازم الشيء لا يكون أصله، ولَمّا كان الامتناع لازم الحياء، كان في التحريض على ملازمة الحياء حَضٌّ على الامتناع عن فعل ما يعاب، قال: والحيا - بالقصر -: المطر. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ) بالموحّدة، والمعجمة، مصغّرًا، تابعيّ جليلٌ، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 4/ 19.
[فائدة]: ليس في الكتب الستة من يُسمّى بُشيرًا مصغّرًا إلا ابن كعب هذا، وابن يسار الأنصاريّ الحارثيّ المدنيّ الفقيه، وقلت في هذا:
ابْنَ يَسَارٍ وَابْنَ كَعْبٍ قُلْ بُشَيْرْ
…
مُصَغِّرَا سِوَاهُ كَبِّرْ دُونَ ضَيْرْ
والله تعالى أعلم.
(إِنَّهُ) الضمير للشأن، أي إن الشأن والأمر (مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ) قال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله تعالى: الحكمة إصابة الحقّ بالعلم والعقل، فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء، وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات، وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وُصف به لقمان في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12]، ونَبّه على جملتها بما وصفه بها، فإذا قيل في الله تعالى: هو حكيم، فمعناه بخلاف معناه إذا وُصف غيره، ومن هذا الوجه قال الله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} [التين: 8]، وإذا وُصف به القرآن فلتضمّنه الحكمة، نحو:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} [يونس: 1]، وعلى ذلك قال:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 4 - 5]، وقيل: معنى الحكيم: الْمُحْكَم، نحو {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، وكلاهما صحيح، فإنه مُحْكَمٌ، ومُفيدٌ للحكم، ففيه المعنيان جميعًا، والْحُكْمُ أعمّ من الحكمة، فكلُّ حكمة حُكْمٌ، وليس كلّ حُكْم حِكْمةً، فإن الْحُكْم أن يُقضى بشيء على شيء، فيقول: هو كذا، أو ليس كذا، قال صلى الله عليه وسلم:"إن من الشعر لحكمةً"، رواه البخاريّ: أي قضيّةً صادقةً، وذلك نحو قول لبيد:
(1)
"الفتح" 10/ 640.
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ
…
وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وَعَجَلْ
انتهى كلام الراغب
(1)
.
(أَنَّ مِنْهُ) أي بعض الحياء (وَقَارًا، وَمِنْهُ سَكِينَةً) ولفظ البخاريّ: "إن من الحياء وقارًا، وإن من الحياء سكينةً"، وفي رواية الكشميهنيّ:"السكينة" بزيادة ألف ولام، وفي رواية أبي قتادة الْعَدَويّ الآتية:"أنّ منه سكينةً، ووقارًا لله، ومنه ضعف"، وهذه الزيادة متعينة، ومن أجلها غَضِبَ عمران رضي الله عنه، وإلا فليس في ذكر السكينة والوقار ما ينافي كونه خيرًا، أشار إلى ذلك ابن بطال، لكن يَحتَمِل أن يكون غَضِبَ من قوله:"منه"؛ لأن التبعيض يُفْهَمُ أن منه ما يُضَادّ ذلك، وهو قد رَوَى:"أنه كُلَّهُ خيرٌ".
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: معنى كلام بُشَيْر: أن من الحياء ما يَحْمِل صاحبه على الوقار، بأن يُوَقِّر غيره، ويتوقّر هو في نفسه، ومنه ما يَحْمِله على أن يَسْكُن عن كثير مما يتحرك الناس فيه، من الأمور التي لا تليق بذي المروءة، ولم يُنْكِر عمران رضي الله عنه عليه هذا القدر، من حيث معناه، وإنما أنكره عليه من حيث إنه ساقه في مَعْرِض من يُعَارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام غيره، وقيل: إنما أنكر عليه؛ لكونه خاف أن يَخْلِط السنة بغيرها
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: ولا يخفى حسن التوجيه السابق. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما وجّه به القرطبيّ رحمه الله تعالى هو الأقرب مما استحسنه الحافظ، فتأمله، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ عِمْرَانُ) رضي الله عنه (أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟)، وفي رواية أبي قتادة الآتية:"فغَضِب عمران حتى احمرّت عيناه، وقال: ألا أراني أُحَدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعارض فيه"، وفي رواية أحمد:"وتعرض فيه بحديث الكتب"، وقد تقدّم في "مقدمة الصحيح" لبُشَير بن كعب هذا قصةٌ مع ابن عباس رضي الله عنهما تُشْعِرُ بأنه كان يتساهل في الأخذ عن كل مَنْ لقيه، والله
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 249 - 250.
(2)
"المفهم" 1/ 220.
(3)
"فتح" 10/ 641.
تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[14/ 164](37) عن محمد بن المثنّى، ومحمد بن بشّار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي السّوّار، عنه رضي الله عنه، و [14/ 165] عن يحيى بن حبيب الحارثيّ، عن حمّاد بن زيد، عن إسحاق بن سُويد، عن أبي قتادة العدويّ، عنه رضي الله عنه، و [14/ 166] عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شُميل، عن أبي نَعَامة السعديّ، عن حُجَير بن الربيع العدويّ، عنه رضي الله عنه نحو حديث حماد بن زيد.
و (البخاريّ) في "كتاب الأدب" 8/ 35 (6117) عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة به، وفي "الأدب المفرد"(1312).
و (أبو داود) في "الأدب"(4796) عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد به.
و (أحمد) في "مسنده"(4/ 426 و 427 و 436 و 442 و 445 و 446).
و (أبو نعيم) في "المستخرج" 1/ 128 (150 و 151 و 152 و 153).
و (ابن منده) في "الإيمان"(177 و 178)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ساقه من أجله المصنّف رحمه الله تعالى، وهو بيان كون الحياء من شُعَب الإيمان.
2 -
(ومنها): أن الحياء كلّه خير، فلا يستثنى من الحياء شيء، وما يُظنّ من أن بعض أنواعه يظهر فيه الضعف، وأنه يمنع صاحبه من أن يواجه من يرتكب المنكرات بالإنكار عليه، ويحمله على الإخلال ببعض الحقوق، فليس حياءً شرعيًّا، والمراد في هذه الأحاديث هو ما يكون شرعيًّا، وأما الحياء الذي ينشأ منه الإخلال بالحقوق، فليس مقصودًا؛ إذ هو عجزٌ، ومَهَانةٌ، وإنما يُطلق عليه اسم الحياء لمشابهته للحياء الشرعيّ، وهو خُلُقٌ يبعث على ترك القبيح،
وقال الراغب: هو انقباض النفس عن القبائح، وتركه
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلّف به، دون الغريزيّ، غير أن من كان فيه غريزة منه، فإنها تُعينه على المكتسب، وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزيًّا، قال: وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جُمع له النوعان، فكان في الغريزيّ أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، وكان في الحياء المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الإنكار على من عارض السنّة بغيرها، أيًّا كان نوعه، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم شديد الغيرة عليها، فيعادي كلّ من يعارضها برأي رآه، أو مذهب قلّده، فإن السنّة حاكمة على كلّ رأي ومذهب، كما قال عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية، وقال عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] الآية، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين"، متّفقٌ عليه، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، وهو متكلّم في صحّته، لكن يشهد له الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[165]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ - وَهُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ، حَدَّثَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فِي رَهْطٍ مِنَّا، وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ"، قَالَ: أَوْ قَالَ: "الْحَيَاءُ كُلّهُ خَيْرٌ"، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُب، أَوْ الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً، وَوَقَارًا لله، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، قَالَ: فَغَضِبَ عِمْرَانُ، حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ، وَقَالَ: أَلَا
(1)
"المفردات" ص 270.
(2)
"المفهم" 1/ 218 - 219.
أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُعَارِضُ فِيهِ؟ قَالَ: فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَأَعَادَ بُشَيْرٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ، قَالَ: فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ، إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) وقيل: الشيبانيّ، أبو زكريّا البصريّ، ثقة [10].
رَوَى عن يزيد بن زُريع، وحماد بن زيد، وخالد بن الحارث، وعبد الوهاب الثقفي، ومعتمر بن سليمان وموسى بن إبراهيم بن كثير، وجماعة.
ورَوَى عنه الجماعة، سوى البخاري، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو بكر البزار، وزكرياء الساجي، ويوسف بن يعقوب القاضي، ومحمد بن إسحاق بن خُزيمة، وغيرهم.
قال أبو حاتم الرازي: صدوق. وقال النسائي: ثقة مأمون، قَلَّ شيخ رأيتُ بالبصرة مثلَه، وقال مسلمة بن قاسم ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو والسراج: مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، زاد ابن حبان: وقد قيل: مات بعد سنة خمسين.
وله في هذا الكتاب (83) حديثًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ) بن هُبيرة الْعَدويّ التّميميّ البصريّ، صدوقٌ تُكُلّم فيه للنَّصْب [3].
رَوَى عن ابن عمر، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، والعلاء بن زياد العَدَويّ، ومعاذة صاحبة عائشة، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، والحمادان، وابن علية، ومعتمر بن سليمان، وعلي بن عاصم، وجماعة.
قال أحمد: شيخ ثقة، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة - إن شاء الله - وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره العجليّ،
فقال: ثقة، وكان يحمل على عليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو العرب الصقليّ في "الضعفاء": كان يَحْمِل على عليّ تحاملًا شديدًا، وقال: لا أُحبّ عليًّا، وليس بكثير الحديث، ومن لم يُحِبّ الصحابة فليس بثقة، ولا كرامةَ.
وتُوُفِّي في الطاعون، في أول خلافة أبي العباس، سنة (131).
رَوَى له البخاري مقرونًا حديثًا واحدًا في "كتاب الصوم"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث (37)، و (1089) حديث: "شهرا عيد لا ينقصان
…
"، و (1995) حديث: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدبّاء، والحنتم، والنقير، والْمُزَفَّت".
4 -
(أَبُو قَتَادَةَ) الْعَدَوِيّ البصريّ، مختلف في صحبته، رَوَى عن عمر بن الخطاب، وهشام بن عامر الأنصاريّ، وعمران بن حُصين، ورجل من أهل البادية، له صحبة، وأُسَير بن جابر.
ورَوى عنه حُمَيد بن هلال، وإسحاق بن سُويد، وعباس بن عبد الله، وأبو قِلابة الْجَرْميّ.
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وقال ابن منده: له صحبة، وقال خليفة: اسمه نُذَير
(1)
بن قُنْفُذ، ويقال: تميم بن نُذَير، وقال ابن معين: اسمه تميم بن نذير، وقال غيره: ابن الزبير، ويقال: ابن يزيد بالزاي، ذكره الحاكم أبو أحمد، وذكره ابن حبان في "الثقات" في تميم، وبذلك جزم أبو نعيم في "المستخرج".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (37)، و (2899) حديث: "إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم
…
" الحديث الطويل.
5 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) رضي الله عنهما تقدم في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
(1)
بضمّ النون، وفتح الذال المعجمة.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى، فهو أعلى من السند الماضي.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ: إسحاق بن سُويد، عن أبي قتادة العدويّ.
4 -
(ومنها): أن إسحاق، وأبا قتادة هذا أول محلّ ذكرهما من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لإسحاق، ثلاثة أحاديث، ولأبي قتادة حديثان فقط، كما بيّنته آنفًا.
5 -
(ومنها): أن فيه قوله: "وَهُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ"، ولم يقل: إسحاق بن سُويد؛ إشارة إلى أن شيخه
(1)
لم ينسب إسحاق إلى أبيه، بل ذكره باسمه فقط، فلما أراد المصنّف أن يبيّنه من يُحدّثه، بنسبته إلى أبيه، فصل زيادته عما قاله شيخه، بكلمة "وهو"؛ لئلا يقول على شيخه ما لم يقله، وهذا من ورع المحدّثين، ومحافظتهم على ألفاظ شيوخهم، وإليه أشار السيوطيّ في ألفيّة الحديث بقوله:
وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوخ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ
بنَحْوِ "يَعْنِي" أَوْ بِـ "إِنَّ" أَوْ بِـ "هُو"
…
أَمَّا إِذَا أَتَمَّهُ أَوَّلَه
أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ
…
وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ إِسْحَاقَ - وَهُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ) تقدّم توجيه زيادة "وهو" آنفًا (أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ) تميم بن نُذير، أو غيره العدويّ (حَدَّثَ، قَالَ) تفسير و"حدّث" (كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ
(1)
إنما قلت: شيخه، ولم أقل: حماد؛ لأن حمّادًا نسبه إلى أبيه، فقد رواه عنه سليمان بن حرب عند أبي داود، فقال: عن إسحاق بن سُويد، فدلّ على أن الذي ترك نسبته هو شيخ المصنّف يحيى بن حبيب، ويحتمل أن يكون حماد حينما رواه ليحيى تركه، والله تعالى أعلم.
حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما، كان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم وفقهائهم، قال محمد بن سيرين: أفضل من نزل البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمران بن حُصين، وأبو بكرة، أسلم عمران، وأبو هريرة عام خيبر، وتُوُفّي بالبصرة رضي الله عنه سنة (52 هـ)
(1)
.
(في رَهْط) هو ما دون عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: الرهط من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نَفَرٌ، وقال أبو زيد: الرهطُ، والنفَرُ: ما دون العشرة من الرجال، وقال ثعلبٌ أيضًا: الرهطُ، والنفَرُ، والقومُ، والْمَعْشَرُ، والْعَشِيرةُ معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال دون النساء، وقال ابن السِّكِّيت: الرهطُ، والعَشِيرة: بمعنًى، ويقال: الرهطُ: ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا، ورهطُ الرجلِ قومه، وقبيلته الأقربون، ذكره الفيّوميّ
(2)
.
وقال المجد: الرَّهْط، ويُحرَّك: قوم الرجل، وقبيلته، ومن ثلاثة، أو سبعة إلى عشرة، أو ما دون العشرة، وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، جمعه: أَرْهُطٌ، وأَرَاهِطُ، وأَرْهاطٌ، وأَرَاهِيطُ. انتهى
(3)
.
وقوله: (مِنَّا) أي من عشيرتنا (وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ) تقدّم أنه بضم الباء، وفتح الشين، والجملة في محل نصب على الحال، والرابط الواو والضمير، كما قال في "الخلاصة":
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ اوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
(فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ) رضي الله عنه (يَوْمَئِذٍ، قَالَ) تفسير لـ"حدّثنا"، كما مرّ قريبًا (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الْحَيَاءُ خَيْر كُلُّهُ"، قَالَ) الظاهر أن القائل هو عمران رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون من دونه (أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ) صلى الله عليه وسلم، أو عمران رضي الله عنه ("الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ") قد تقدّم أن الحديث على ظاهره، وأن المراد منه الحياء الشرعيّ، فالحياء كلّه خير، ولا يُستثنى منه شيء، وما ذكره بُشير من بعض الكتب إنما هو الحياء اللغويّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الاستيعاب" 3/ 1208.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 241 - 242.
(3)
"القاموس المحيط " ص 601.
(فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُب، أَوْ) للشكّ من الراوي (الْحِكْمَةِ) تقدّم أن الحكمة هي إصابة الحقّ بالعلم (أَنَّ مِنْهُ) أي بعض أنواع الحياء (سَكِينَةً) بفتح، فكسر، قال أبو نُعيم: فَعِيلة من السكون، وهو الوقار، والسكون الهدوء. انتهى
(1)
. وقال ابن الأثير: "السكينة": الوقار، والتأني. انتهى
(2)
. وقال الفيّوميّ: "السكينة" بالتخفيف: الْمَهَابةُ، والرَّزَانةُ، والوَقَار، وحَكَى في "النوادر": تشديد الكاف، قال: ولا يُعرَفُ في كلام العرب فَعّيلةٌ مثقّل العين إلا هذا الحرف شاذًّا. انتهى
(3)
.
فتبيّن بما ذُكر أن قوله: (وَوَقَارًا للهِ) عطف تفسير لـ "السكينة"، وفسّروا الوقار بأنه الحلم والرَّزانة، فقال الفيّوميّ: الوقار: الحِلْم والرَّزَانةُ، وهو مصدرُ وَقُرَ بالضمّ، مثلُ جَمُل جَمَالًا، ويقال أيضًا: وَقَرَ يَقِرُ، من باب وَعَدَ، فهو وَقُورٌ، مثلُ رسُول، والمرأةُ وَقُورٌ أيضًا، فَعُول بمعنى فاعل، مثلُ صَبُور، وشَكُور، والوقارُ أيضًا الْعَظَمةُ. انتهى
(4)
.
(وَمِنْهُ) أي بعض أنواعه (ضَعْفٌ) بفتح الضاد، وضمّها لغتان مشهورتان، قرئ بهما في السبع، قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54]، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قرأ عاصم، وحمزة بفتح الضاد فيهنّ، والباقون بالضمّ، والضمّ لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ الْجَحْدريّ:"من ضعف، ثم جعل من بعد ضَعف" بالفتح فيهما، و"ضُعفًا" بالضمّ خاصّة، أراد أن يجمع بين اللغتين، قال الفرّاء: الضمّ لغة قريش، والفتح لغة تميم. انتهى
(5)
.
وقال الفيّوميّ: "الضَعْفُ" بفتح الضاد في لغة تميم، وبضمّها في لغة قريش: خلافُ القوّة، والصحّة، فالمضموم مصدر ضَعُفَ، مثالُ قَرُبَ قُرْبًا، والمفتوح مصدر ضَعَفَ ضَعْفًا، من باب قتل، ومنهم من يجعل المفتوح في الرأي، والمضموم في الجسد، وهو ضَعِيفٌ، والجمع ضُعَفاءُ، وضِعَافٌ أيضًا،
(1)
"المسند المستخرج" 1/ 129.
(2)
"النهاية" 2/ 385.
(3)
"المصباح" 1/ 283.
(4)
"المصباح" 2/ 668.
(5)
"تفسير القرطبيّ" 14/ 46.
وجاء ضَعَفَة، وضُعفى؛ لأن فعيلًا إذا كان صفةً، وهو بمعنى مفعولِ جُمِعَ على فَعْلَى، مثلُ قَتِيل وقَتْلَى، وجَرِيح وجَرْحَى، قال الخليل: قالوا: هَلْكَى، ومَوْتَى، ذَهَابًا إلى أن المعنى معنى مفعول، وقالوا: أحمق، وحَمْقَى، وأنوكُ ونَوْكَى
(1)
؛ لأنه عيبٌ أُصيبوا به، فكان بمعنى مفعول، وشذّ من ذلك سَقِيمٌ، فجُمِعَ على سِقَامٍ بالكسر، لا على سَقْمَى؛ ذَهَابًا إلى أن المعنى معنى فاعل، ولُوحظ في ضَعيف معنى فاعل، فجُمع على ضِعَاف، وضَعَفَة، مثلُ كافر، وكَفَرَة. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ من طريق فُضيل بن مرزوق، عن عطيّة الْعَوفيّ قال: قرأت على عبد الله بن عمر: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ}
(3)
فقال: {مِنْ ضَعْفٍ}
(4)
، قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتها عليّ، فأخذ عليّ كما أخذت عليك
(5)
.
هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عطية العوفي، وهو ضعيف، وأخرجه أيضًا أبو داود من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وفيه أيضًا عطية المذكور، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) أبو قتادة (فَغَضِبَ) بكسر الضاد، من باب تَعِبَ (عِمْرَانُ) رضي الله عنه وسبب غضبه رضي الله عنه وإنكاره عليه؛ لكونه قال:"ومنه ضعف" بعد سماعه قول النبيّ رضي الله عنه: "إنه خير كلّه"، وقيل: إنما أنكر عليه من حيث إنه ساقه في معرض من يُعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام غيره، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ) أي من شدّة غضبه عليه، قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى: كذا وقع، وكذا رويناه، وهو على لغة من قال:"أكلوني البراغيث"
(6)
، أو على البدل، كما قوله تعالى:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3].
(1)
"الأنوك" كالأحمق وزنًا ومعنًى.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 362.
(3)
أي بفتح الضاد.
(4)
أي بضمّ الضاد.
(5)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 58، وأبو داود في "سننه" رقم (3978)، والترمذيّ في "جامعه" رقم (2936).
(6)
وسمّاها ابن مالك في كتبه بلغة "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار" أخذًا من هذا الحديث.
قال الجامع عفا الله تعالى: لغة "أكلوني البراغيث" هي التي أشار إليها ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَقَدْ يَقَالُ سَعِدَا وَسَعِدُوا
…
وَالْفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ
وحملوا عليها قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} لكن هذا وجه ضعيف؛ لأن فيه حملَ الآية على لغة ضعيفة، والصحيح أن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الضمير الفاعل، وهو الواو، أو "الذين" مبتدأ مؤخَّر، خبره جملة:{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} ، فتنبّه، ومثله حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة
…
" الحديث، على بعض الروايات، وأشباه هذا كثيرة معروفة.
ووقع في رواية أبي داود في "سننه": "واحمرّت عيناه" من غير ألف، وهو ظاهر، والله تعالى أعلم.
(وَقَالَ) عمران رضي الله عنه (أَلا) أداة استفتاح، وتنبيه (أَرَاني) أي أرى نفسي.
[فائدة]: من خواصّ أفعال القلوب جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، كـ"ظَننتني قائمًا"، وقوله تعالى:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 7]، وأُلْحِقَ بها في ذلك "رأى" الْحُلميّة والبصريّة بكثرة، نحو {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، وقول الشاعر [من الكامل]:
وَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً
…
مِنْ عَنْ يَمِينِي تَارَةً وَأَمَامِي
و"عَدِمَ"، و"فَقَدَ"، و"وَجَدَ" بمعنى لَقِي بقلّة، دون باقي الأفعال، فلا يقال:"ضربتني" اتفاقًا؛ لئلا يكون الفاعل مفعولًا، بل ضربت نفسي، وظلمت نفسي؛ ليتغاير اللفظان، فإن ورد ما يوهمه قُدّر فيه النفس، نحو {وَهُزِّي إِلَيْكِ} [مريم: 25]، {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22]، و {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، أي إلى نفسك، وعلى نفسك، بخلاف أفعال القلوب، فإن مفعولها في الحقيقة مضمون الجملة، لا المنصوب بها، فلا ضرر في اتحاده مع الفاعل، ولا توضع النفس مكانه عند الجمهور، فلا يقال: ظننت نفسي عالمة، وجوّزه ابن كيسان، فإن كان أحد الضميرين منفصلًا جاز في كلّ فعل، نحو ما ضربتُ إلا إياي
(1)
، فافهمه، فإنه نفيس، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 221 - 222.
(أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُعَارِضُ فِيهِ) أي تقابله، وتأتي بما يناقضه (قَالَ) أبو قتادة (فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ) أي تأكيدًا له (قَالَ: فَأَعَادَ بُشَيْرٌ) أي كلامه السابق (فَغَضِبَ عِمْرَانُ) رضي الله عنه (قَالَ) أبو قتادة (فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ) أي شأن بُشير (إِنَّهُ مِنَّا) أي إن بُشيرًا من جماعتنا (يَا أَبَا نُجَيْدٍ) بضمّ النون، وفتح الجيم، مصغرًا كنية عمران رضي الله عنه، كُني بابنه نُجَيد (إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ) أي ليس ممن يُتّهَم بنفاق، أو زندقة، أو بدعة، أو غيرها، مما يُخالف به أهل الاستقامة.
وفي رواية أبي داود: "إنه إنه"، أي إنه صادق، وفي بعض النسخ:"إيه إيه"، قال في "القاموس":"إِيهْ" بكسر الهمزة، وإسكان الهاء: زجر بمعنى حسبك، و"إيهِ" مبنيّة على الكسر، فإذا وُصِلت نُوِّنت، و"أَيْهًا" بالفتح، والنصب: أمرٌ بالسكوت، والمعنى - والله أعلم - يا أبا نُجيد حسبك ما صدر منك من الغضب، والإنكار على بُشير، فإنه منّا، لا بأس به، فاسكت، ولا تزدد غضبًا
(1)
.
والمسائل المتعلّقة به تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[166]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ حُجَيْرَ بْنَ الرَّبِيعِ الْعَدَوِيَّ، يَقُولُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، أبو محمد المروزيّ، نزيل نيسابور، ثقة حافظ إمام حجة [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(النَّضْرُ) بن شُميل المازنيّ، أبو الحسن البصريّ، نزيل مرو، ثقة ثبت، من كبار [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
(1)
"عون المعبود" 13/ 152.
3 -
(أَبُو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ) - بفتح النون - هو: عمرو بن عيسى بن سُويد بن هُبيرة البصريّ، صدوقٌ، اختلط [7].
رَوَى عن خالد بن عُمير، وشُوَيس أبي الرَّقَّاد، وعبد العزيز بن بُشَير بن كعب، وحُجَير بن الرَّبِيع الْعَدَويّ، وحُمَيد بن هلال، وأبي السَّوّار الْعَدَويّ، وحفصة بنت سيرين، وغيرهم.
وروى عنه يزيد بن زُريع، ويحيى القطان، ووكيع، والنضر بن شُمَيل، وزُهير بن هُنَيد، وصفوان بن عيسى، وأبو عاصم، ومكي بن إبراهيم، وغيرهم.
قال الأثرم عن أحمد: ثقة، إلا أنه اختَلَطَ قبل موته، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه العجليّ، وقال ابن سعد في الطبقة الرابعة من البصريين: كان ضعيفًا.
قال الجامع عفا الله تعاهى عنه: لعلّ ابن سعد أراد ضعفه بسبب الاختلاط، وإلا فقد وثّقه الأئمة، كما سمعت، والله تعالى أعلم.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، في "القَدَر"، والترمذيّ، وابن ماجه، وله عند المصنّف هذا الحديث فقط، أخرجه متابعة، فلا يضرّ الكلام فيه بالاختلاط، فتنبّه.
4 -
(حُجَيْرَ بْنَ الرَّبِيعِ الْعَدَوِيَّ) البصريّ، يقال: إنه أبو السَوّار الْعَدَويّ، ثقة [3].
روى عن عمران بن حصين حديث الباب فقط، وروى عن عمر بن الخطاب أيضًا، وعنه أبو نَعَامة العَدَويّ، وإسحاق بن سُوَيد، وأَوْفَى بن دَلْهَم، وحُمَيد بن هلال.
قال ابن إسحاق: كان قليل الحديث، روى له المصنّف حديثه عن عمران رضي الله عنه هذا، قال العجليّ: بصريّ، تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقد اختُلِف فيه على أبي نَعَامة فرواه النضر بن شُميل، ويزيد بن زُريع عنه، عن حُجَير، ورواه رَوْح بن عُبَادة، ويوسف بن يعقوب الضُّبَعيّ، عن أبي السَّوّار الْعَدَويّ، ورواه أبو عاصم النَّبِيل، عن أبي نَعَامة، قال: حدثنا أبو
السَّوّار، واسمه حُجَير بن الرَّبِيع، كذلك رواه أبو عوانة في "صحيحه"، عن أبي أُمية الطَّرَسَوسِيّ عنه، وقد رواه قتادة، وقُرّة بن خالد، وخالد بن رَبَاح، عن أبي السوّار، فلم يسموه، وقد اختُلِف في اسم أبي السّوّار، فقيل: حسان بن حُرَيث، وقيل غير ذلك، والظاهر أنهما واحد، هكذا قال الحافظ المزّيّ رحمه الله تعالى في "تهذيب الكمال"
(1)
.
تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط.
وقوله: (نحو حديث حمّاد بن زيد) يعني أن حديث إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شُميل، نحو حديث يحيى بن حبيب، عن حماد بن زيد.
[تنبيه]: رواية النضر هذه أخرجها أبو نعيم في "المسند المستخرج" 1/ 128 فقال: حدثنا أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عليّ، وأبو بكر بن خَلاد، قالا: ثنا الحارث بن أبي أسامة، ثنا رَوْح بن عبادة
…
وحدثنا أبو أحمد الغطريفيّ، ثنا عبد الله بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا النضر بن شميل، قالا: ثنا أبو نعامة العَدَويّ، سمعت حُجَير بن الرَّبِيع العدوي، أبا السَّوّار العدويّ، يحدث عن عمران بن حصين: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "الحياء خيرٌ كله".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فيه تصريح بأن حُجير بن الربيع هو أبو السّوّار العدويّ المتقدّم، وهو يؤيّد ما رجحه الحافظ المزيّ من كونهما واحدًا، كما سبق في كلامه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(15) - (بَابُ جَامِعِ أَوْصَافِ الإِسْلَامِ)
وبسندنا المتّصل إلى الامام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[167]
(38) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا
(1)
راجع: "تهذيب الكمال" 5/ 477 - 481.
ابْنُ نُمَيْرٍ (ح) وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا، عَنْ جَرِيرٍ (ح) وحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قُلْ لِي فِي الاسْلَامِ قَوْلًا، لَا أَسْأَل عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ - وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: غَيْرَكَ - قَالَ: "قُلْ: آمَنْتُ بِالله، فَاسْتَقِمْ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ) هو: عبد الله بن محمد المذكور في الباب الماضي.
2 -
(وَأَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمَير الْهَمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقة صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [39](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغْلانيّ، ثقة ثبت [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه المذكور في السند الماضي.
6 -
(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبّيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، قيل: كان يهم في آخر عمره من حفظه [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
7 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبت، ربّما دلّس، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
8 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقة فقيه، ربّما دلّس [5](ت 145)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
9 -
(أَبُوهُ) هو: عروة بن الزبير بن العوّام، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
10 -
(سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ) هو: سفيان بن عبد الله بن رَبِيعة بن الحارث، ويقال: سفيان بن عبد الله بن حُطَيط، أبو عمرو، ويقال: أبو عمرة
الطائفيّ، له صحبة، وكان عامل عمر على الطائف، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعنه أبناؤه: عاصم، وعبد الله، وعلقمة، وعمرو، وأبو الحكم، وابن ابنه محمد، ويقال: محمود بن أبي سُويد بن سفيان، وعبد الرحمن، ويقال: محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، وهشام بن عروة، مرسل، وقال العسكريّ: سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جُشَم.
قال الحافظ: فكأنّ من قال: سفيان بن عبد الله بن حطيط، نَسَبَ عبد الله إلى جده الأعلى.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله عندهم هذا الحديث فقط، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه: أبي بكر، وإسحاق، فلم يُخرج للأول الترمذيّ، ولا للثاني ابن ماجه، وكذا الصحابيّ تفرّد به هو والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن صحابيه، من المقلّين من الرواية، فليس له غير هذا الحديث عند المذكورين، راجع "تحفة الأشراف" 3/ 531 - 533، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سُفْيَانَ) بتثليث السين، والضمّ أشهر (ابْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ) بفتحتين: نسبة إلى قبيلة ثَقِيف، أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ) أي فيما يكمُل به الإسلام، ويُراعَى به حقوقه، ويُستدلّ به على توابعه ولواحقه، وقيل: التقدير: في مبادئ الإسلام وغاياته (قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ) أي قولًا جامعًا لا أحتاج فيه إلى سؤال أحد بعد سؤلك هذا، كقوله تعالى:{وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد إمساكه، قاله القاري
(1)
.
(1)
"المرقاة شرح المشكاة" 1/ 161 - 162.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي علّمني قولًا جامعًا لمعاني الإسلام، واضحًا في نفسه، بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك، أعمل عليه، وأكتفي به، وهذا نحوٌ مما قال له الآخر: عَلِّمني شيئًا أعيش به في الناس، ولا تُكثر عليّ، فأنسى، فقال:"لا تَغْضب"
(1)
.
(وَفي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: غَيْرَكَ) يعني أنه وقع في رواية أبي أسامة بلفظ "غيرك" بدل "بعدك" أي لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال القاري رحمه الله تعالى: والأول مستلزم لهذا؛ لأنه إذا لم يسأل أحدًا بعد سؤاله لم يسأل غيره، وبهذا يظهر أولويّة الأول بجعله أصلًا، والثاني رواية، خلافًا لما فعل النوويّ في "أربعينه". انتهى كلام القاري
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قُلْ: آمنْتُ بِاللهِ) أي بجميع ما يجب الإيمان به، وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج":"قل: ربي الله، ثم استقم"، فالمراد بالإيمان هو الشرعيّ الذي هو التصديق بالجنان، والقول باللسان، والعمل بالأركان، فيكون معنى قوله:(فَاسْتَقِمْ ") وفي بعض النسخ: "ثم استقم"، أي ثمّ دم على ذلك الإيمان حتى تموت عليه، وهذا هو المعنى الراجح، كما يأتي تحقيقه عن الطيبيّ.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الاستقامةُ: هي سلوكُ الصراط المستقيم، وهو الدين القَيّم من غير تعريج عنه يمنةً، ولا يَسْرَةً، ويَشْمَلُ ذلك فعلَ الطاعات كلّها الظاهرةَ والباطنةَ، وتركَ المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعةً لخصال الدين كلها. انتهى
(3)
.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيريّ في "رسالته": الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حُصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيمًا في حالته ضاع سعيه، وخاب جهده، قال: وقيل: الاستقامة لا يُطيقها
(1)
رواه مالك في "الموطأ" 2/ 906، وأحمد في "مسنده" 2/ 362 و 466 و 5/ 34 و 372 و 373، والبخاريّ في "صحيحه"(6116)، والترمذيّ في "جامعه"(2021)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم.
(2)
"المرقاة" 1/ 162.
(3)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 510.
إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولذلك قال:"استقيموا، ولن تُحصوا"، وقال الواسطيّ: الْخَصْلة التي بها كَمُلَت المحاسن، وبفقدها قَبُحَت المحاسن. ذكره النوويّ في "شرحه"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تفسير القشيريّ، وكذا ابن رجب للاستقامة بما ذُكر، وإن كان صحيحًا في نفسه، إلا أن المراد هنا هو الثبات والدوام، كما حقّقه الطيبيّ رحمه الله تعالى، ودونك عبارته.
قال رحمه الله تعالى: قوله: "ثم استقم" قال الأشرف: لفظ "ثُمّ" موضوع للتراخي، دالّةٌ على أن الكفّار غير مكلّفين بفروع الإسلام، بل هم مكلّفون بأصوله فقط، فإذا آمنوا كُلّفوا بفروعه.
قال الجامع عفا الله تعالى: هذا استنباط بعيدٌ، والراجح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، كما حقّقته في "التحفة المرضيّة" و"شرحها"، فتنبّه.
قال الطيبيّ: وأقول: اتَّفَقَ علماء البيان على أن "ثُمَّ" في مثل قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] للتراخي في الرتبة، وأن الثبات والاستقامة على ذلك أفضل من قول:"آمنتُ بالله" ومقتضياته، وذلك أن هذا القول ادّعاءٌ من القائل بأنه رضي بالله ربًّا، والرضا بذلك إقرار بأن المعبود الخالق المنعِم على الإطلاق مالكه، ومدبّر أمره يوجب القيام بمقتضياته من الإيمان بملائكته، وكتبه، ورُسُله، واليوم الآخر، ومن الشكر باللسان، وتحقيق مراضيه بالقلب والجوارح، ثم الاستقامة على هذا، والثبات عليه، وأن لا يَرُوغ رَوَغَان الثعلب أفضل وأكمل.
[فإن قيل]: ما الفرق بين هذا وبين قول الشارحين؟
(2)
.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 9.
(2)
أشار بتفسير الشارحين إلى ما نقله قبلُ، وهو أنهم قالوا:"استقم" لفظ جامعٌ للإتيان بجميع الأوامر، والانتهاء عن جميع المناهي؛ لأنه لو ترك أمرًا لم يكن مستقيمًا على الطريق المستقيم، بل عدل عنه حتى يرجع إليه، ولو فعل منهيًّا، فقد =
[نقول]: إن قوله: "آمنتُ بالله" على هذا مستتبعٌ لما ذهب إليه الشارحون في تفسير قوله: "ثمّ استقم"، فيسلم على هذا معنى الاستقامة للثبات، والاستدامة على القول ومقتضياته، فيحسُنُ موقع "ثُمّ" المستدعية للتراخي في الرتبة، لا الزمان لفساده، وينصره قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15]، فإن قوله:{ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} يفسّر معنى قوله: ثم استقاموا بالثبات، وهو لتفسير الشارحين غير مطابق.
وأيضًا لَمّا تَقَرَّرَ من قبلُ أن مذهب الصحابة والتابعين، والمحدّثين على أن الإيمان مشتمل على التصديق بالجنان، والقول باللسان، والعمل بالأركان وجب حملُ معنى قوله:"آمنتُ" على المجموع، وقوله:"ثم استقم" على الثبات على ذلك.
قال: ثم إني - بعد لطف الله وتوفيقه - عَثَرتُ على نقل من جانب الشيخ محيي الدين النوويّ، عن القاضي عياض أنه قال: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابقٌ لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، أي وحّدوا الله تعالى، وآمنوا به، ثم استقاموا، فلم يَحِيدوا عن توحيدهم، والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن تُوُفّوا على ذلك، وعلى ما ذكرناه أكثر المفسّرين من الصحابة، فمن بعدهم، وهو معنى الحديث. هذا كلام القاضي عياض، قال: والحمد لله على توارد الخواطر. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.
وسيأتي تمام البحث في أقوال أهل العلم في هذا الحديث في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سفيان بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، لم يُخرجه البخاريّ.
= عَدَل عن الصراط المستقيم أيضًا حتى يتوب. قال: وهذا ما عليه كلام الشارحين. انتهى. "الكاشف" 2/ 457.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 457 - 458.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنِّف هنا في "الإيمان"[15/ 167](38) عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كُريب، كلاهما عن عبد الله بن نُمير، وعن قتيبة، وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن جرير، وعن أبي كُريب، عن أبي أسامة، ثلاثتهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنه رضي الله عنه.
و (الترمذيّ) في "الزهد" عن سُويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن ماعز، عنه نحوه، وقال: حسنٌ صحيحٌ.
و (النسائيّ) في "التفسير (11490) عن بندار، عن غندر، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن سفيان الثقفيّ، عن أبيه به، و (11489) عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضّل، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن سفيان بن عبد الله، عن أبيه به، كذا قال، وفي "الرقائق" عن سويد بن نصر به، وعن محمد بن المثنّى، عن أبي داود، وعن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن
(1)
، كلاهما عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، عنه نحوه.
و (ابن ماجه) في "الفتن"(3972) عن أبي مروان محمد بن عثمان العثمانيّ، عن إبراهيم بن سعد.
وحديث بشر خطأٌ، والصواب كما قال غندر، عن شعبة، وكذلك رواه هُشيم بن بشير، عن يعلى بن عطاء.
و (أحمد) 3/ 413 و 4/ 384، و (الدارميّ)(2713 و 2714)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(154)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6396)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(942)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: هذا الحديث خرَّجه مسلم من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان، وسفيان هو ابن عبد الله الثقفي الطائفيّ، له صحبة، وكان عاملًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الطائف، وقد رُوي عن سفيان بن عبد الله من وجوه أُخَر بزيادات، فخرَّجه
(1)
بياض بالأصل.
الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، من رواية الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، وعند الترمذيّ من رواية عبد الرحمن بن ماعز، عن سفيان بن عبد الله، قال: قلت: يا رسول الله حَدِّثنِي بأمر أَعْتَصِم به، قال:"قل: ربي الله، ثم استقم"، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه، قال:"هذا"، وقال الترمذيّ: حسن صحيح.
وأخرجه الإمام أحمد، والنسائيّ من رواية عبد الله بن سفيان الثقفيّ، عن أبيه، أن رجلًا قال: يا رسول الله، مُرْني بأمر في الإسلام، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال:"قل: آمنت بالله، ثم استقم"، قلت: فما أَتَّقِي؟ فأومأ إلى لسانه
(1)
. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ رحمه الله تعالى: اختُلف في هذا الحديث على الزهريّ، فقال إبراهيم بن سعد: عنه، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، كما تقدّم، وقال معمر وغير واحد: عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن ماعز، وقال الزُّبيديّ: عن الزهريّ، عن ماعز بن عبد الرحمن، ويقال: إن محمد بن عبد الرحمن كان لقبه ماعزًا، وقال يونس بن يزيد: عن الزهريّ، عن محمد بن أبي سُوَيد أن جدّه سفيان عبد الله الثقفيّ قال، وقال عبد الله بن زياد بن سمعان: عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن سعد الْمُقْعَد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتابعه رِشْدين بن سعد، عن عُقيل، عن الزهريّ، ولفظه: حَدَّثني بأمر أعتصم به، قال:"أمسك عليك هذا"، وأشار إلى لسانه، ولم يذكر القصّة الأولى. انتهى كلام الحافظ المزيّ رحمه الله تعالى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية المصنّف رحمه الله تعالى خالية من هذا الاضطراب كلّه، فإنه لم يُخرجه من طريق الزهريّ، ولم يُشر إليها؛ لهذا
(1)
أخرجه أحمد 3/ 413 و 4/ 384 و 385، والنسائيّ في "التفسير"(11490)، والطبرانيّ في "الكبير"(6398).
(2)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 506 - 507.
(3)
"تحفة الأشراف" 3/ 532 - 533.
الاضطراب، فما أيقظه، وأتقن عمله، وأشدّ انتقاءه، فلله درّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في استكمال ما قاله أهل العلم في تفسير هذا الحديث، وبيان فوائده التي اشتمل عليها:
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابق لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]، أي وحَّدوا الله، وآمنوا به، ثم استقاموا، فلم يَحِيدُوا عن التوحيد، والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن تُوُفُّوا على ذلك، وعلى ما ذكرناه أكثر المفسرين من الصحابة، فمن بعدهم، وهو معنى الحديث - إن شاء الله تعالى. - انتهى كلام القاضي رحمه الله تعالى.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشدَّ، ولا أشقَّ عليه من هذه الآية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قالوا: قد أَسْرَع إليك الشيب، فقال:"شيبتني هود وأخواتها"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وجوابه صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: "قل: آمنت بالله، ثم استقم"، وكذا جوابه للآخر بقوله:"لا تغضب" دليلٌ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُوتي جوامع الكلم، واختُصِر له القول اختصارًا، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم مخبِرًا بذلك عن نفسه
(2)
، فإنه صلى الله عليه وسلم جَمَعَ لهذا السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان كلّها، فإنه أمره أن يُجدّد إيمانه متذكّرًا بقلبه، وذاكرًا بلسانه، ويقتضي هذا استحضار تفصيل معاني الإيمان الشرعيّ بقلبه التي تقدّم ذكرها في حديث
(1)
وفي لفظ: "شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب"، وفي لفظ:"شيّبتني هود وأخواتها من المفصّل"، وفي لفظ:"شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كُوّرت"، وهو حديث صحيح، انظر:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى رقم (955)، و"صحيح الجامع" 1/ 692 رقم (3720).
(2)
رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوتيت جوامع الكلم
…
" الحديث، رواه أحمد 2/ 250 و 314 و 442 و 501، ومسلم رقم (523).
جبريل عليه السلام، وأمره بالاستقامة على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتّى الاستقامة مع شيء من الاعوجاج، فإنها ضدّه، وكأن هذا القول مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] أي آمنوا بالله، ووحّدوه، ثم استقاموا على ذلك، وعلى طاعته إلى أن تُوُفّوا عليها، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: استقاموا على طاعته، ولم يَرُوغُوا رَوَغَان الثعالب، ومُلخّصه: اعتدلوا على طاعة الله تعالى عقدًا وقولًا وفعلًا، وداموا على ذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: قول سفيان بن عبد الله رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك " طَلَبَ منه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِمَهُ كلامًا جامعًا لأمر الإسلام، كافيًا حتى لا يَحتاجُ بعده إلى غيره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"قل: آمنت بالله، ثم استقم"، وفي الرواية الأخرى:"قل: ربي الله، ثم استقم".
هذا مُنْتَزَعٌ من قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30]، وقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} [الأحقاف: 13، 14].
وخرّج النسائي في "تفسيره" من رواية سُهَيل بن أبي حزم: حدثنا ثابت، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، فقال:"قد قالها الناس، ثم كفروا، فمن مات عليها، فهو من أهل الاستقامة"، وخرَّجه الترمذيّ، ولفظه: فقال: "قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها، فهو ممن استقام"، وقال: حسنٌ غريبٌ، وسُهَيل تُكُلّم فيه من قِبَلِ حفظه.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تفسير: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: لم يشركوا بالله شيئًا، وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيره، وعنه قال:{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على
(1)
"المفهم" 1/ 221 - 222.
أن الله ربُّهم، وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: هذه أرخص آية في كتاب الله: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} على شهادة أن لا إله إلا الله، ورُوِي نحوه عن أنس، ومجاهد، والأسود بن هلال، وزيد بن أسلم، والسُّديُّ، وعكرمة، وغيرهم.
ورُوي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، فقال: لم يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعْلَب
(1)
.
ورَوَى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: استقاموا على أداء فرائضه، وعن أبي العالية قال: ثم أخلصوا له الدين والعمل، وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة.
ولعَلَّ من قال: إن المراد الاستقامة على التوحيد، إنما أراد التوحيد الكامل، الذي يُحَرِّم صاحبه على النار، وهو تحقيق معنى "لا إله إلا الله"، فإن الإله هو المعبود الذي يُطَاع، فلا يعصى؛ خشيةً وإجلالًا ومهابة ومحبّةً ورجاءً وتوكلًا ودعاءً، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التوحيد؛ لأنها إجابة لداعي الهوى، وهو الشيطان، قال الله عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، قال الحسن وغيره: هو الذي لا يَهْوَى شيئًا إلا رَكِبَهُ، فهذا ينافي الاستقامة على التوحيد.
وأما على رواية من روى: "قل: آمنت بالله"، فالمعنى أظهر؛ لأن الإيمان تَدْخُل فيه الأعمال الصالحة عند السلف، ومن تابعهم من أهل الحديث.
وقال الله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112]، فأمَرَه أن يستقيم، ومن تاب معه، وأن لا يُجاوزوا ما أُمروا به، وهو الطغيان، وأخبر أنه بَصِير بأعمالكم، مُطَّلِع عليها.
وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}
(1)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(325)، وأحمد في "الزهد" ص 115، ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا بين الزهريّ وبين عمر رضي الله عنه.
[الشورى: 15]، وقال قتادة: أُمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على أمر الله، وقال الثوريّ: على القرآن، وعن الحسن قال: لَمّا نَزَلت هذه الآية، شَمَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَمَا رُؤي ضاحكًا. خَرَّجه ابن أبي حاتم.
وذكر القُشَيريّ عن بعضهم أنه رَأَى النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: يا رسول الله قلت: "شيبتني هود وأخواتها"
(1)
، فما شَيَّبَكَ منها؟ قال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} .
وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6].
وقد أَمَرَ الله تعالى بإقامة الدين عمومًا، كما قال:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13]، وأمر بإقامة الصلاة في غير موضعٍ من كتابه، كما أَمر بالاستقامة على التوحيد في تينك الآيتين.
والاستقامةُ: هي سلوكُ الصراط المستقيم، وهو الدين القَيِّم من غير تعريج عنه يمنةً، ولا يَسْرَةً، ويَشْمَلُ ذلك فعلَ الطاعات كلّها الظاهرةِ والباطنة، وتركَ المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعةً لخصال الدين كلها.
وفي قوله عز وجل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} إشارة إلى أنه لا بُدَّ من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيُجْبَر ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة، والرجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"اتَّقِ اللهَ حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها"
(2)
.
وقد أَخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يستطيعوا الاستقامة حقَّ الاستقامة، كما خرّجه الإمام أحمد، وابن ماجه، من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "استقيموا، ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يُحافظ على
(1)
تقدّم أنه حديث صحيح.
(2)
حديث حسنٌ، أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ. راجع:"صحيح الجامع" 1/ 81 رقم (97).
الوضوء إلا مؤمن"، وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله: "سَدِّدُوا، وقاربوا، ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن"
(1)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"سَدِّدُوا، وقاربوا".
فالسَّدَاد هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال، والأعمال، والمقاصد، كالذي يرمي إلى غَرَضٍ، فيصيبه.
وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه أن يسأل الله عز وجل السَّدَادَ والهدى، وقال له:"اذكر بالسَّداد تسديدك السهم، وبالهدى هدايتك الطريق".
والمقاربةُ أن يصيب ما قَرُبَ من الْغَرَض إذا لم يُصب الغرض نفسه، ولكن بشرط أن يكون مُصَمِّمًا على قصد السداد، وإصابة الغرض، فتكون مقاربته عن غير عَمْدٍ، ويدل عليه قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الحكم بن حَزْن الْكُلَفيّ رضي الله عنه:"أيها الناس إنكم لن تعملوا - أو لن تُطِيقوا - كلَّ ما أَمرتكم، ولكن سَدِّدُوا، وأبشروا"
(2)
.
والمعنى: اقصِدُوا التسديد والإصابة والاستقامة، فإنهم لو سَدَّدُوا في العمل كله، لكانوا قد فَعَلُوا ما أُمروا به كله.
فأصلُ الاستقامة استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسّر أبو بكر الصديق وغيره رضي الله عنهم قوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره.
فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلُّها على طاعته، فإن القلب هو مَلِكُ الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الْمَلِك استقامت جنوده ورَعَاياه.
(1)
حديث صحيح.
(2)
حديث صحيحٌ، رواه أحمد 4/ 212، وأبو داود (1096)، وأبو يعلى (6826)، والطبرانيّ في "الكبير"(3165).
وكذلك فُسِّرَ قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] بإخلاص القصد لله، وإرادته وحده لا شريك له.
وأعظمُ ما يُرَاعَى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسانُ، فإنه تَرْجَمَانُ القلب، والْمُعَبِّر عنه، ولهذا لَمّا أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وصّاه بعد ذلك بحفظ لسانه، ففي مسند الإمام أحمد، عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"
(1)
.
وفي رواية الترمذيّ عن أبي سعيد مرفوعًا وموقوفًا: "إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا". انتهى ما كتبه ابن رجب، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(16) - (بَابُ بَيَانِ تَفَاضُلِ أَهْلِ الإسْلَامِ فِيه، وَأَيُّ أُمُورِهِ أفضَلُ؟)
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[168]
(39) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ
…
(ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلًا سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الاسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغْلانيّ، ثقة ثبت [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح.
(2)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 506 - 512.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) بن الْمُحَرّر بن سالم التُّجِيبيّ مولاهم، أبو عبد الله المصري الحافظ، ثقة ثبت [10].
رَوَى عن مسلمة بن علي الْخُشَنِيّ، وابن لَهِيعة، والليث، ومفضل بن فضالة، ونعيم بن حماد، وجماعة.
ورَوَى عنه مسلم، وابن ماجهْ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو الربيع سليمان بن داود الْمَهْري، وغيرهم.
قال ابن الجنيد: كان أوثق من ابن زُغْبَة. وقال أبو داود: ثقة ولم أكتب عنه شيئًا، وقال النسائي: ما أخطأ في حديث واحد، ولو كان كتب عن مالك لأثبته في الطبقة الأولى من أصحابه. وقال ابن ماكولا: كان ثقة مأمونًا، وقال ابن يونس: ثقة ثبت في الحديث، وكان أعلم الناس بأخبار البلد وَوَقْفِه، وكان إذا شهد في دار عَلِمَ أهلُ البلد أنها طيبة الأصل. وذكر ابن السمعاني في "الأنساب" أن البخاري روى عنه. وقال محمد بن وَضّاح: لقيته بمصر، وكان نِعْمَ الشيخُ. وقال مسلمة: أنا عنه غير واحد، وهو ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وكذا أرّخه ابن أبي عاصم. وقال البخاري وابن قُدَيد: مات في شوال سنة (42). تفرّد به المصنّف، وابن ماجه.
وفي "الزهرة": روى عنه مسلم مائة حديث، وإحدى وستين حديثًا. انتهى
(1)
.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت فقيهٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 412.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) واسمه سُوَيد الأزدي مولاهم، وقيل غير ذلك في ولائه، أبو رَجَاء المصريّ، ثقة فقيه، يُرسل [5].
رَوَى عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبيدي، وأبي الطفيل، وأسلم بن يزيد أبي عمران، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنين، وخَيْر بن نُعيم الحضرمي، وسويد بن قيس التجيبي، وعطاء بن أبي رباح، وعِراك بن مالك، وغيرهم.
(1)
هكذا في "تهذيب التهذيب"، والذي في برنامج الحديث أن مسلمًا له عنه (150) حديثًا، والظاهر أن الاختلاف بالتكرار وعدمه، والله تعالى أعلم.
ورَوَى عنه سليمانُ التيميّ، ومحمد بن إسحاق، وعمرو بن الحارث، وابنُ لَهيعة، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب، وآخرون.
قال ابن سعد: كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليمًا عاقلًا، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدّثون بالفتن والملاحم، وهو أحد الثلاثة الذين جعل إليهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله الفتيا بمصر، وقال الليث: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا، وقال الآجري عن أبي داود: لم يَسمع من الزهري، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن يزيد بن أبي حبيب وموسى الْجُهَنِيّ أيهما أحب إليك؟ فقال: يزيد، قال: وسئل أبو زرعة عن يزيد؟ فقال: مصريّ ثقة، وقال العجلي: مصري تابعي ثقة، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: يزيد بن أبي حبيب، عن عقبة بن عامر مرسل، وقال الليث: ثنا يزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، وهما جَوْهَرِيّا البلد، وقال ابن وهب: لو جُعلا في ميزان ما رَجَحَ أحدهما على الآخر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: كان يزيد نُوبيًّا من أهل دنقلة، فابتاعه شريك بن الطفيل العامريّ، فأعتقه، وُلد سنة ثلاث وخمسين.
وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقال غيره: بَلَغَ زيادةً على خمس وسبعين سنة، وفيها أَرّخه ابن يونس، وقال: رَوَى عنه الأكابر من أهل مصر، ثم رَوَى عن ابن لَهيعة أنه وُلد سنة ثلاث وخمسين. وقال البخاري: قال يحيى بن بكير: هو ابن قيس، ويقال: سُوَيد، وله أخ اسمه خَليفة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا.
5 -
(أَبُو الْخَيْرِ) هو: مرثد بن عبد الله الْيَزَنيّ - بفتح التحتانيّة، والزاي، بعدها نون -
(1)
المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3].
(1)
نسبة إلى ذي يزن، وهو عامر بن أسلم بن الحارث بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد بن سرد بن زرعة بن سبأ الأصغر، وإليه تُنسب الأسنّة اليَزَنيّة، وهو أول من عمل سنان حديد، وإنما كانت أسنتهم صياصي البقر، وقيل: يزن موضع، راجع:"عمدة القاري" 1/ 137 - 138.
رَوَى عن عقبة بن عامر الْجُهَنيّ، وكان لا يفارقه، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي أيوب الأنصاريّ، وأبي بَصْرَة الغفاري، وزيد بن ثابت، وغيرهم.
ورَوَى عنه يزيد بن أبي حبيب، وجعفر بن ربيعة، وكعب بن علقمة، وعبد الرحمن بن شِمَاسة، وعبيد الله بن أبي جعفر، وغيرهم.
قال ابنُ يونس: كان مُفتي أهل مصر في زمانه، وكان عبد العزيز بن مروان يُحضِره، فيُجْلِسه للفتيا، وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله فضل وعبادةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: كان عند أهل مصر مثل علقمة عند أهل الكوفة، وكان رجلَ صدقٍ، ووَثَّقَهُ يعقوب بن سفيان، وذكره ابنُ حبّان في "الثقات".
قال سعيد بن عُفَير؛ تُوُفّي سنة تسعين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو) بن العاص بن وائل السهميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، الصَّحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما تقدّم في "المقدمة" 4/ 18، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه محمد بن رُمح، فانفرد به هو وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات المصريين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا، إلا أنه دخل مصر طالِبًا للعلم، قال الكرمانيّ رحمه الله تعالى: وفي هذا الإسناد لطيفة، وهو أن رواته كلهم مصريّون، وهذا من الغرائب؛ لأنه في غاية القلّة، ويزداد قلّةً باعتبار جلالتهم؛ لأنهم كانوا كلّهم أئمة جلّة. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء.
(1)
"شرح الكرمانيّ على البخاريّ" 1/ 92.
5 -
(ومنها): أن فيه الإمامَ الفقيه المجتهد المشهور الليث بن سعد، كان الإمام الشافعي يراه أفقه من مالك رحمهم الله تعالى.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: يزيد، عن أبي الخير.
7 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) وقد تقدّم تمام البحث فيها غير مرّة.
8 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، ومن المشهورين بالفتوى، وهو صحابيّ ابن صحابيّ، وروى كثيرًا من الأحاديث (722) حديثًا.
(فائدة): "عمرو" يُكتب بالواو في الرفع والجرّ؛ تمييزًا بينه وبين "عُمَر"، ولم يُعكس؛ لخفّة "عمرو" بثلاثة أشياء: فتح أوله، وسكون ثانيه، وصرفه، وأما في حالة النصب فالتمييز بالألف، قاله الكرمانيّ
(1)
، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (أَنَّ رَجُلًا) قال في "الفتح": لم أعرف اسمه، وقيل: إنه أبو ذرّ رضي الله عنه، وفي رواية ابن حبّان أن هانئ بن يزيد، والد شُريح سأل عن معنى ذلك، فأُجيب بنحو ذلك. انتهى
(2)
. (سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ولفظ البخاريّ: سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَفُي الاسْلَام خَيْرٌ؟) مبتدأ وخبره، أي: أيّ خصال الإسلام خير؟ بدليل جوابه بقوله: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام
…
إلخ"، وأنه صلى الله عليه وسلم فَهِمَ من هذا السائل أنه يسأل عن أفضل خصال الإسلام المتعدّية النفع إلى الغير، فأجابه بأعمّ ذلك، وأنفعه في حقّه، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُجيب كلّ سائل على حسب ما يَفْهَمُ منه، وبما هو الأهمّ في حقّه، والأنفع له، قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى
(3)
.
وقال في "الفتح": التقدير: أي خصال الإسلام؟ قال: وإنما لم أَخْتَرْ تقدير "خصال" في الأول - يعني حديث "أي المسلمين أفضل؟ " -؛ فرارًا من كثرة الحذف، وأيضًا فتنويع التقدير، يتضمن جواب من سأل، فقال: السؤالان بمعنى واحد، والجواب مختلف؟، فيقال له: إذا لاحظت هذين التقديرين، بَانَ الفرقُ.
(1)
"شرح البخاريّ" 1/ 92.
(2)
"الفتح" 1/ 72.
(3)
"المفهم" 1/ 222.
ويمكن التوفيق بأنهما متلازمان، إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد، والسلامُ لسلامة اللسان، قاله الكرماني، وكأنه أراد في الغالب.
ويحتمل أن يكون الجواب اختَلَفَ لاختلاف السؤال عن الأفضلية، إن لُوحظ بين لفظ "أفضل"، ولفظ "خير" فرق.
وقال الكرماني: الفضل بمعنى كثرة الثواب في مقابلة القلّة، والخير بمعنى النفع في مقابلة الشرّ، فالأول من الكميّة، والثاني من الكيفيّة، فافترقا.
واعتُرِض بأن الفرق لا يتمّ، إلا إذا اختَصّ كلّ منهما بتلك المقولة، أما إذا كان كل منهما يُعقَل تأتيه في الأخرى فلا، وكأنه بَنَى على أن لفظ "خير" اسم، لا أفعلُ تفضيل، وعلى تقدير اتّحاد السؤالين جواب مشهور، وهو الحمل على اختلاف حال السائلين، أو السامعين، فيمكن أن يراد في الجواب الأول، تحذيرُ من خَشِيَ منه الايذاء بيد، أو لسان، فأَرشد إلى الكفّ، وفي الثاني ترغيبُ مَن رَجَى فيه النفع العام بالفعل والقول، فأَرشد إلى ذلك، وخَصّ هاتين الخصلتين بالذكر؛ لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت، لما كانوا فيه من الْجَهْد، ولمصلحة التأليف، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حَثّ عليهما أوّل ما دخل المدينة، كما رواه الترمذي وغيره، مُصَحّحًا من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تُطْعِمُ الطعَامَ) خبر لمحذوف بتقدير "أن" المصدريّة، أي هو أن تُطعم، أي إطعامك الطعام، فهو نظير قولهم:"تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه"، أي أن تسمع، أي سماعك، غير أن في هذا المؤوّلُ مبتدأ، وفي الحديث خبرٌ، وحَذْفُ "أن" ورفعُ الفعل جائز على الصحيح في سعة الكلام،
(1)
أراد به ما أخرجه الترمذيّ بإسناد صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لَمّا قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انَجَفل الناس، إليه: وقيل: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبَتُّ وجهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب، وكان أوّلُ شيء تكلم به أن قال:"أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصَلّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
وهو مذهب الأخفش من النحاة، وقوّاه ابن مالك في "التسهيل"، فقد جاء به في التنزيل العزيز قولُهُ تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] الآية، والتقدير: أن يُريكم، وأما نصب الفعل مع حذفها، فضرورة لا يقع في سعة الكلام، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
أَلَا أَيُّهَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى
…
وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
وإليه أشار ابن مالك في "الخلاصة"، حيث قال:
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
(وَتَقْرَأُ) بفتح التاء، وضمّ الهمزة؛ لأنه مضارع قرأ، بمعنى: تقول، قال أبو زيد: أقرئني خَبَرًا: أخبرني به، وقال أبو حاتم السِّجِسَتاني: يقال: اقْرَأ عليه السلام، وأَقْرِئْهُ الكتابَ، ولا يقال: أَقْرِئْهُ السلامَ، إلا أن يكون مكتوبًا في كتاب، ويقال: أقرئه إياه، ولا يقال: أقرئه السلام، إلا في لغة شنوءة، نقله ابنُ بَطّال في "شرح البخاريّ" 1/ 64.
وقال الفيّوميّ: وقرأت على زيد السلامَ أقرؤه عليه قراءةً، وإذا أمرت منه قلت: اقْرَأ عليه السلام، قال الأصمعيّ: وتعديته بنفسه خطأ، فلا يُقال: اقْرَاهُ السلامَ؛ لأنه بمعنى اتْلُ عليه، وحَكَى ابن القطّاع أنه يتعدّى بنفسه رُباعيًّا، فيقال: فلانٌ يُقْرِئك السلامَ. انتهى
(1)
.
وقوله: (السَّلَامَ) بالنصب على المفعوليّة (عَلَى مَنْ عَرَفْتَ) متعلّقٌ بـ "تقرأ"، و"مَنْ" موصولة، وعائد الموصول محذوف، أي عرفته (وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ") أي لا تَخُصَّ به أحدًا تكبّرًا، أو تصنّعًا، بل تعظيمًا لشِعَار الإسلام، ومراعاة لأُخُوّة المسلم، فهذا أفضل أنواع إفشاء السلام، ويخرج من عموم ذلك من لا يجوز ابتداؤه بالسلام، كأهل الكتاب، عند جمهور العلماء، قاله ابن رجب رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه": معنى: "تقرأ السلام على مَن عَرَفت ومن لم تعرف" أي تُسَلِّم على كل مَن لَقِيته عرفته أم لم تعرفه، ولا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 502.
(2)
انظر: "شرح البخاري" للحافظ ابن رجب 1/ 44.
تَخُصَّ به من تعرفه كما يفعله كثيرون من الناس، ثم إن هذا العموم مخصوص بالمسلمين، فلا يُسَلَّم ابتداءً على كافر. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: جَمَعَ له النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الإطعام وإفشاء السلام؛ لاجتماعهما في استلزام المحبّة الدينيّة، والأُلفة الإسلاميّة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ألا أدلّكم على شيء إذا فَعَلتموه تحاببتم؟ أفشُوا السلام بينكم"، رواه مسلم
(2)
، وفيه دليلٌ على أن السلام لا يُقْصَرُ على من يُعرف، بل على المسلمين كافّةً؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم:"السلام شعارٌ لملّتنا، وأمانٌ لذمّتنا"
(3)
، وردّ السلام أوكد من ابتدائه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(4)
.
وقال أيضًا: جَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خير الإسلام إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وفي "المسند" 4/ 385 عن عمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: "لِينُ الكلام، وإطعام الطعام"، ومراده الإسلام التامّ الكامل، وهذه الدرجة في الإسلام فضلٌ، وليست واجبةً، وإنما هي إحسان، وأما سلامة المسلمين من اللسان واليد، فواجبة، إذا كانت من غير حقّ، فإن كانت السلامة من حقّ كان أيضًا فضلًا.
وقد جمع الله تعالى بين الأَفْضَال بالنَّدَى
(5)
، وترك الأذى في وصف المتّقين في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
(1)
"شرح مسلم" 2/ 10.
(2)
رواه أحمد 2/ 391، ومسلم (54)، والترمذيّ (2512).
(3)
هكذا احتجّ القرطبيّ بهذا الحديث، وهو غير صالح للاحتجاج به، فقد رواه الطبرانيّ في "الصغير" 1/ 75 بلفظ "السلام تحيّة
…
"، وفي "الكبير" (7518)، والخطيب في "تاريخه" 4/ 396، والشهاب في "مسنده" (184)، وفي إسناده طلحة بن زيد، وهو متهم، قال ابن عديّ: روى بهذا الإسناد ستة أحاديث موضوعة، وأورده صاحب "الدرّ الملتقط" برقم (17)، وابن الجوزيّ في "الموضوعات" 3/ 79، لأن في سنده عصمة، وهو كذّاب.
(4)
"المفهم" 1/ 222 - 223.
(5)
وقع في النسخة بلفظ "بالنداء" والظاهر أنه "بالندى" بالفتح مقصورًا، وهو العطاء، وعليه يدلّ آخر كلامه. والله أعلم.
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134]، فهذا إحسان وفضل، وهو بذل النَّدَى، واحتمال الأذى. وجمع في الحديث بين إطعام الطعام، وإفشاء السلام؛ لأنه به يجتمع الإحسان بالقول والفعل، وهو أكمل الإحسان، وإنما كان هذا خير الإسلام بعد الإتيان بفرائض الإسلام، وواجباته، فمن أتى بفرائض الإسلام، ثم ارتقى إلى درجة الإحسان إلى الناس، كان خيرًا ممن لم يرتق إلى هذه الدرجة، وأفضل أيضًا، وليس المراد أن من اقتصر على هذه الدرجة، فهو خير من غيره مطلقًا، ولا أن إطعام الطعام، ولين الكلام خير من أركان الإسلام، ومبانيه الخمس، فإن إطعام الطعام، والسلام لا يكونان من الإسلام إلا بالنسبة إلى من آمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
وقد زعم الحكيميّ
(1)
وغيره أنه قال: خير الأشياء كذا، والمراد تفضيله من وجه دون وجه، وفي وقت دون وقت، أو لشخص دون شخص، ولا يراد تفضيله على الأشياء كلها، أو أن يكون المراد أنه من خير الأشياء، لا خيرها مطلقًا.
وهذا فيه نظرٌ، وهو مخالف للظاهر، ولو كان هذا حقًّا لما احتيج إلى تأويل قول النبيّ صلى الله عليه وسلم من قال له: يا خير البريّة، فقال:"ذاك إبراهيم عليه السلام"، وقد تأوله الأئمة، فقال الإمام أحمد: هو على وجه التواضع. ولكن هذا يقرب من قول من تأول "أفضل" بمعنى "فاضل"، وقال: إن "أفعل" لا تقتضي المشاركة، وهذا غير مطّرد عند البصريين، ويُتَأَوَّلُ ما ورد منه، وحكي عن الكوفيين أنه مطّردٌ، لا يحتاج إلى تأويل. انتهى كلام ابن رجب
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(1)
هكذا النسخة "الحكيميّ"، ولعله مصحّف من "الْحَلِيميّ"، والله أعلم.
(2)
"شرح البخاري" 1/ 42 - 44.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[16/ 168](39) عن قتيبة بن سعيد، ومحمد بن رُمْح بن المهاجر، كلاهما عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عنه.
و (البخاريّ) في "الإيمان" 1/ 10 (12) عن عمرو بن خالد، وقتيبة، فرّقهما، وفي "الاستئذان " 8/ 65 (6236) عن عبد الله بن يوسف، ثلاثتهم عن الليث به، وفي "الأدب المفرد"(1013) عن قتيبة به.
و (أبو داود) في "الأدب"(5194) عن قتيبة به.
و (النسائيّ) في "الإيمان" 12/ 5002، وفي "الكبرى" 12/ 11731 عن قتيبة به.
و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3253) عن محمد بن رُمح به.
و (ابن أبي شيبة) 9/ 64 - 65، و (أحمد) في "مسند المكثرين"(6545 و 6809)، و (أبو نعيم) في "المستخرج" 1/ 130 (155)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(400 و 505)، و (ابن منده) في "الإيمان"(316)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تفاضل الإسلام في خصاله.
2 -
(ومنها): بيان خير خصال الإسلام.
3 -
(ومنها): أن فيه حثًّا على إطعام الطعام، ومواساة المحتاجين، واستجلاب قلوب الناس به، وببذل السلام؛ لأنه ليس شيء أجلب للمحبة، وأثبت للمودّة منهما، وقد مَدَحَ الله عز وجل المطعم للطعام، فقال:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8]، ثم ذكر الله تعالى جزيل ما أثابهم عليه، فقال:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} [الإنسان: 11]، ووصف سبحانه وتعالى من لم يُطعم بقوله في وصف أهل النار:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} الآية [المدّثّر: 42 - 44]، وعاب من أراد أن يَحْرِم طعامه أهل الحاجة إليه، فذكر أهل الجنة:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} وإلى {كَالصَّرِيمِ} - يعني المقطوع - فأذهب الله تعالى ثمارهم،
وحَرَمَهُم إياها، حين قصدوا الاستئثار بها دون المساكين، أفاده ابن بطال
(1)
.
4 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على إفشاء السلام الذي هو دليل على خفض الجناح للمسلمين، والتواضع، والحثّ على تألّف قلوبهم، واجتماع كلمتهم، وتوادّهم، ومحبّتهم.
5 -
(ومنها): الإشارة إلى تعميم السلام، وهو أن لا يخصّ به أحدًا دون أحد، كما يفعله الجبابرة؛ لأن المؤمنين كلهم إخوة، وهم متساوون في رعاية الأخوة.
ثم إن هذا التعميم مخصوص بالمسلمين، فلا يسلّم ابتداء على كافر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبدءوا اليهود، ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتموهم في الطريق، فاضطرّوهم إلى أضيقه"، رواه البخاريّ، وكذلك خُصّ منه الفاسق بدليل آخر، وأما من شُكّ فيه، فالأصل فيه البقاء على العموم، حتى يثبت الخصوص.
ويمكن أن يقال: إن الحديث كان في ابتداء الإسلام لمصلحة التأليف، ثم وَرَدَ النهي
(2)
.
وقال النوويّ في "شرحه": وفي هذه الأحاديث جُمَلٌ من العلم، ففيها الحثّ على إطعام الطعام، والجود، والاعتناء بنفع المسلمين، والكفّ عما يؤذيهم بقول، أو فعل بمباشرة أو سبب، والإمساك عن احتقارهم، وفيها الحثّ على تألُّف قلوب المسلمين، واجتماع كلمتهم، وتوادّهم، واستجلاب ما يُحَصّل ذلك، قال القاضي رحمه الله تعالى: والأُلْفَة إحدى فرائض الدين، وأركان الشريعة، ونظَام شَمْلِ الإسلام، قال: وفيه بذل السلام من عَرَفت ولمن لم تعرف، وإخلاص العمل فيه لله تعالى، لا مصانعة، ولا مَلَقًا، وفيه مع ذلك استعمال خُلُق التواضع، وإفشاء شعار هذه الأمة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في الأسئلة والأجوبة التي ذكروها في هذا الحديث:
(1)
راجع: "شرح البخاريّ لابن بطال" 1/ 64.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 156 - 157.
فـ (منها): ما قيل: لم قال: "تطعم الطعام"، ولم يقل: تؤكل، ونحوه من الألفاظ الدالة عليه؟.
[أجيب]: بأن لفظ الإطعام عامّ يتناول الأكل، والشرب، والذوق، قال الشاعر:
وَإِنْ شِئتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ
…
وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدَا
فإنه عطف البرد الذي هو النوم، والنُّقاخ - بضم النون، وبالقاف، والخاء المعجمة -: الذي هو الماء العذب، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]: أي ومن لم يذقه، من طَعِم الشيءَ: إذا ذاقه، وبعمومه يتناول الضيافة، وسائر الولائم، وإطعام الفقراء، وغيرهم.
(ومنها): ما قيل: إن باب أطعم يقتضي مفعولين، يقال: أطعمته الطعام، فما هو المفعول الثاني هنا، ولم حذف؛.
[أجيب]: بأن المفعول الثاني مقدّر: أي تطعم الخلق الطعام، وإنما حُذف للإشارة إلى أن إطعام الطعام غير مختصّ بأحد، سواء كان المطعَم مسلمًا، أو كافرًا، أو حيوانًا آخر، وسواء كان الإطعام، فرضًا، أو سنةً، أو مستحبًّا.
(ومنها): ما قيل: لم قال: "وتقرأ السلام"، ولم يقل: وتسلّم؟.
[وأجيب]: بأنه يتناول سلام الباعث بالكتاب المتضمّن للسلام. وفيه إشارة أيضًا إلى أن تحيّة المسلمين بلفظ السلام، وزيدت لفظة القراءة تنبيهًا على تخصيص هذه اللفظة في التحيّات، مخالفة لتحايا أهل الجاهليّة بألفاظ وضعوها لذلك.
(ومنها): ما قيل: اللفظ عام، فيدخل الكافر، والمنافق، والفاسق.
[وأجيب]: بأنه خص بأدلة أخرى، أو أن النهي متأخّر، وكان هذا عامًا لمصلحة التأليف، وأما من شك فيه فالأصل البقاء على العموم، حتى يثبت الخصوص.
(ومنها): ما قيل: لم خصّ هاتين الخصلتين في هذا الحديث؟.
[وأجيب]: بأن المكارم لها نوعان:
[أحدهما]: ماليّة، أشار إليها بقوله:"تُطعم الطعام".
[والآخر]: بدنيّةٌ أشار إليها بقوله: "وتقرأ السلام". ويقال: وجه تخصيص هاتين الخصلتين هو مساس الحاجة إليهما في ذلك الوقت؛ لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدلّ على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم حثّ عليهما أول ما دخل المدينة، كما رواه الترمذيّ، مُصَحِّحًا، من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال: أوّلُ ما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس إليه، فكنت ممن جاءه، فلما تأمّلت وجهه، واشتبهته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصَلُّوا بالليل، والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: جعل صلى الله عليه وسلم أفضلها إطعام الطعام الذي هو قوام الأبدان، ثم جعل خير الأقوال في البرّ والإكرام إفشاءَ السلام الذي يعمّ، ولا يخصّ من عرف، ومن لم يعرف، حتى يكون خالصًا لله تعالى، بريئًا من حظّ النفس، والتصنّع؛ لأنه شعار الإسلام، فحق كلّ مسلم فيه شائعٌ.
وفي "مسند الإمام أحمد" 1/ 405 - 456: عن ابن مسعود رضي الله عنه، مرفوعًا:"إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة".
(ومنها): ما قيل: جاء في الجواب ههنا أن الخير أن تطعم الطعام، وفي الحديث الذي بعده أنه من سلم المسلمون من لسانه ويده، فما وجه التوفيق بينهما؟.
[وأجيب]: بأن الجوابين كانا في وقتين، فأجاب في كلّ وقت بما هو الأفضل في حقّ السامع، أو أهل المجلس، فقد يكون ظهر من أحدهما قلّة المراعاة ليده ولسانه، وإيذاء المسلمين، ومن الثاني إمساك الطعام، وتكبّر، فأجابهما على حسب حالهما، أو علم صلى الله عليه وسلم أن السائل الأول يسأل عن أفضل التروك، والثاني عن خير الأفعال، أو أن الأول يسأل عما يدفع المضارّ، والثاني عما يجلُب المسارّ، أو أنهما بالحقيقة متلازمان، إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد، والسلام لسلامة اللسان غالبًا. أفاد هذه الأسئلة والأجوبة في "عمدة القاري"
(1)
، وهي وإن كان بعضها تقدّم خلال شرح الحديث، إلا أن
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 157.
كونها مجموعة في محلّ واحد أتمّ فائدة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
[169]
(40) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِر، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحِ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِث، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيب، عَنْ أَبِي الْخَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ عَبدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِر، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ الْمِصْرِيُّ) ثقة فقيه [11](ت 250)(م دس ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْب): هو عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقة ثبت عابد [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب بن عبد الله الأنصاريّ، مولى قيس، أبو أمية المصريّ، أصله مدنيّ، ثقة فقيه حافظ [7].
رَوَى عن أبيه، وسالم، أبي النضر، والزهريّ، وعبد ربه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وأبي الأسود يتيم عروة، وربيعة، وحَبّان بن واسع، وعبد الرحمن بن القاسم، ويزيد بن أبي حبيب، ويونس بن يزيد الأيلي، وهو من أقرانه، وطائفة.
ورَوَى عنه مجاهد بن جَبْر، وصالح بن كيسان، وهما أكبر منه، وقتادة، وبكير بن الأشجّ، وهما من شيوخه، وأسامة بن زيد الليثيّ، وبكر بن مُضَر، وعبد الله بن وهب، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقة - إن شاء الله -. وقال أبو داود عن أحمد: ليس فيهم - يعني أهل مصر - أصحّ حديثًا من الليث، وعمرو بن الحارث يقاربه، وقال الأثرم عن أحمد: ما في هؤلاء المصريين أثبتُّ من الليث بن سعد، لا عمرو، ولا غيره وقد كان عمرو عندي، ثم رأيت له مناكير، وقال في موضع آخر: يروي عن قتادة أشياء يضطرب فيها ويخطئ، وقال يعقوب بن شيبة: كان
ابن معين يُوَثِّقه جِدًّا، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو زرعة، والنسائيّ، والعجليّ، وغير واحد، وقال النسائيّ: الذي يقول مالك في كتابه: الثقة عن بكير يشبه أن يكون عمرو بن الحارث، وقال ابن وهب: سمعت من ثلاثمائة وسبعين شيخًا، فما رأيت أحدًا أحفظ من عمرو بن الحارث، وقال ابن وهب: ثنا عبد الجبار بن عُمَرَ قال: قال ربيعة: لا يزال بذلك المصر علمٌ ما دام بها ذلك القصير، وقال أيضًا: لو بقي لنا عمرو ما احتجنا إلى مالك، قال: وقال لي ابن مهديّ: اكتب إليّ من حديث عمرو بن الحارث، فكتبت له من حديثه، وحَدَّثْتُهُ به، وقال أبو حاتم: كان أحفظ أهل زمانه، ولم يكن له نظير في الحفظ، وقال سعيد بن عُفَير: كان أخطب الناس، وأرواهم للشعر، وقال ابن يونس: كان فقيهًا أديبًا، وكان مؤدّبًا لولد صالح بن عليّ، وقال يحيى بن بكير، عن الليث: كنت أرى عمرو بن الحارث عليه أثواب بدينار، ثم لم تَمْضِ الليالي حتى رأيته يَجُرّ الوشي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقال أحمد بن صالح: الليث إمام، ولم يكن بالبلد بعد عمرو بن الحارث مثله، وقال ابن الأخرم: عمرو بن الحارث عزيز الحديث جِدًّا، مع علمه وثبته، وقَلَّمَا يخرج حديثه من مصر، وقال الخطيب: كان قارئًا مفتيًا ثقةً، وقال ابن ماكولا: كان قارئًا مفتيًا، أفتى في زمن يزيد بن أبي حبيب، وكان أديبًا فصيحًا، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من الحفاظ المتقنين، ومن أهل الورع في الدين، وقال الساجيّ: صدوقٌ ثقة.
وقال أحمد بن صالح: وُلد عمرو بن الحارث يقولون: سنة (90) وقيل: بعد ذلك، وقال ابن سعد، ويعقوب بن شيبة: مات سنة (7) أو ثمان وأربعين ومائة، وقال يحيى بن بكير، وغير واحد: مات سنة (8)، وقال الغلابي عن ابن معين: مات سنة (149)، وقال أبو داود: مات، وله (58) سنة، وقال الذهبيّ: مات كهلًا سنة (8) كذا قال، وكان عالم الديار المصرية، ومحدثها، ومفتيها مع الليث.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (119) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر النوويّ رحمه الله تعالى فوائد هذا السند والسند الماضي،
أحببت إيراده، وإن تقدّم معظمه، لكن كونه مجموعًا في محلّ واحد أولى، وأرسخ في الذهن، قال رحمه الله تعالى:
هذان الإسنادان كلهم مصريون، أئمة جِلّة، وهذا من عزيز الأسانيد في مسلم، بل في غيره، فإن اتّفاق جميع الرواة في كونهم مصريين، في غاية القِلّة، ويزداد قلّةً باعتبار الجلالة، فأما عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فجلالته وفقهه وكثرة حديثه، وشدّة ورعه، وزهادته، وإكثاره من الصلاة والصيام وسائر العبادات، وغير ذلك من أنواع الخير، فمعروفة مشهورة، لا يمكن استقصاؤها، فرضي الله عنه.
وأما أبو الخير - بالخاء المعجمة - واسمه مَرْثَد - بالمثلثة - ابن عبد الله الْيَزَنِيّ - بفتح المثنّاة تحتُ، والزاي - منسوب الى يَزَن بطن من حمير، قال أبو سعيد بن يونس: كان أبو الخير مفتيَ أهل مصر في زمانه، مات سنة سبعين من الهجرة.
وأما يزيد بن أبي حبيب، فكنيته أبو رَجَاء، وهو تابعيّ، قال ابن يونس: وكان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حَلِيمًا عاقلًا، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلامَ في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون بالفتن والملاحم، والترغيب في الخير، وقال الليث بن سعد: يزيد سيِّدُنا وعالمنا، واسم أبي حبيب سُوَيد.
وأما الليث بن سعد رضي الله عنه، فإمامته وجلالته وصيانته وبراعته، وشهادة أهل عصره بسخائه وسيادته، وغير ذلك من جميل حالاته أشهر من أن تُذْكَر، وأكثر من أن تُحْصَر، ويَكفِي في جلالته شهادة الإمامين الجليلين: الشافعيّ، وابن بُكَير رحمهما الله تعالى أن الليث أفقه من مالك رضي الله عنهم أجمعين، فهذان صاحبا مالك رحمه الله، وقد شَهِدا بما شهدا، وهما بالمنزلة المعروفة من الإتقان، والورع، وإجلال مالك، ومعرفتهما بأحواله، هذا كلّهُ مع ما قد عُلِمَ من جلالة مالك، وعظم فقهه، رضي الله عنه.
قال محمد بن رُمْح: كان دَخْلُ الليث ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله تعالى عليه زكاةً قط، وقال قتيبة: لَمّا قَدِمَ الليث أهدى له مالك من طُرَف المدينة، فبَعَثَ إليه الليث ألف دينار، وكان الليث مفتي أهل مصر في زمانه.
وأما محمد بن رُمْح، فقال ابنُ يونس: هو ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، وكان أعلم الناس بأخبار البلد ووقْفِه، وكان إذا شَهِدَ في كتاب دار عَلم أهل البلد أنها طيبة الأصل، وذكره النسائيّ، فقال: ما أخطأ في حديث، ولو كَتَبَ عن مالك لأثبته في الطبقة الأولى من أصحاب مالك، وأثنى عليه غيرهما، والله أعلم.
وأما عبد الله بن وهب، فعلمه وورعه وزهده وحفظه وإتقانه وكثرة حديثه، واعتماد أهل مصر عليه، وإخبارهم بأن حديث أهل مصر وما والاها يدور عليه، فكله أمر معروف مشهور في كتب أئمة هذا الفنّ، وقد بلغنا عن مالك بن أنس رضي الله عنه، أنه لم يكتب إلى أحد، وعَنْوَنَهُ بالفقه إلا إلى ابن وهب رحمه الله.
وأما عمرو بن الحارث، فهو مفتي أهل مصر في زمنه، وقارئهم، قال أبو زرعة رحمه الله: لم يكن له نظير في الحفظ في زمنه، وقال أبو حاتم: كان أحفظ الناس في زمانه، وقال مالك بن أنس: عمرو بن الحارث دُرَّةُ الغَوَّاص، وقال: هو مرتفع الشان، وقال ابن وهب: سمعت من ثلاثمائة وسبعين شيخًا، فما رأيت أحفظ من عمرو بن الحارث رحمه الله، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ، نقلته برمّته، وإن كان جلّه تقدّم قريبًا؛ لكونه مجموعًا في محلّ واحد، فيكون أفيد، وأزيد، وأرسخ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) مَرْثد بن عبد الله الْيَزَنيّ رحمه الله تعالى (أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله تعالى عنهما، وقد سبق في "شرح المقدّمة"
(1)
أن الأكثر في "العاص" أنه يأتي في كتب الحديث وغيرها بحذف الياء، وهي لغة قليلة، والفصيح كونه بإثباتها، ومثله "شدّاد بن الهاد"، و"ابن أبي الموال"، فتنبّه (يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا) تقدّم أنه لم يُعرف اسمه، ويقال: إنه أبو ذرّ رضي الله عنه (سَأَل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟) قال النوويّ رحمه الله تعالى: قال العلماء رحمهم الله تعالى: إنما وقع اختلاف الجواب في خيرِ
(1)
راجع: "شرح المقدّمة" 2/ 20.
المسلمين، لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهمّ؛ لما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما، ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر إلى الكفّ عن إيذاء المسلمين. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: وقع في هذه الرواية هنا بلفظ "خير"، ووقع في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه الآتي بلفظ:"أفضل"، فأجاب عن الفرق بينهما الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، وسنذكر جوابه في شرح حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه الآتي بعد حديث - إن شاء الله تعالى -.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ") "من": موصولة، خبرٌ لمحذوف: أي هو من سلم
…
إلخ، قال النوويّ: قال العلماء: معناه: مَن لم يؤذ مسلمًا بقول، ولا فعل، وخَصَّ اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها؛ لما ذكرناه.
وقالوا أيضًا: إن المراد بالمسلم هو المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عن مَن لم يكن بهذه الصفة، بل هذا كما يقال: العلم ما نَفَعَ، أو العالم زيد، أي الكامل، أو المحبوب، وكما يقال: الناس العرب، والمال الإبل، فكلُّه على التفضيل، لا للحصر. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "المسلم" قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو: زيدٌ الرجل: أي الكامل في الرجولية.
وتُعُقِّبَ بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملًا.
ويجاب بأن المراد بذلك مع مراعاة باقي الأركان.
وقال الخطابي: المراد أفضل المسلمين مَن جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين. انتهى.
وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يُبَيِّن علامة المسلم التي يُسْتَدَلُّ بها على
(1)
"شرح مسلم" 1/ 10.
(2)
"فتح الباري" 1/ 53.
إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذُكِر مثله في علامة المنافق.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحثّ على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يُحسن معاملة ربه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: [فإن قلت]: إذا سلم المسلمون منه يلزم أن يكون مسلمًا، وإن لم يأت بسائر الأركان؟.
[قلت]: هذا وارد على سبيل المبالغة تعظيمًا لترك الإيذاء، كأن ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، وهو محصور فيه على الادّعاء.
قال: وتحقيقه أن التعريف في "المسلم" للجنس، قال ابن جني: من عادتهم أن يوقعوا على الشيء الذي يخصّونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سمّوا الكعبة بالبيت؟ وكتاب سيبويه بالكتاب؟.
وقال الراغب الأصفهانيّ: كلّ اسم نوع، فإنه يُستعمل على وجهين:
[أحدهما]: دلالةً على المسمّى، وفصلًا بينه وبين غيره.
والثاني: لوجود المعنى المختصّ به، وذلك هو الذي يُمدح به، وذلك أن كلّ ما أوجده الله في هذا العالم جعله صالِحًا لفعل خاصّ، ولا يصلح لذلك الفعل سواه، كالفرس للعَدْوِ الشديد، والبعير يقطع الفلاة البعيدة، والإنسان ليعلم ويَعْمَل بحسبه، وكلُّ شيء لم يوجد كاملًا لِمَا خُلِق له لم يستحقّ اسمًا مطلَقًا، بل قد يُنفى عنه، كقولهم: فلانٌ ليس بإنسان، أي لا يوجد فيه المعنى الذي خُلِق لأجله من العلم والعمل، فعلى هذا إذا وجدت مسلمًا يؤذي المسلمين بلسانه ويده، فقلت له: لست مسلمًا، عنيت أنك لست بكامل فيما تحلّيت به من حلية الإسلام، وهذا معنى قول محيي السنة: إن الإسلام يُنفَى عمن ليس بصفته.
[فإن قيل]: ما معنى تخصيص "المسلم" بالذكر، ثم "المسلمين"، ثم "اللسان واليد"؟.
(1)
"فتح" 1/ 69.
[والجواب]: - والله أعلم - هو إظهار رأفته صلى الله عليه وسلم بالأمة، وإلحاقه بالكلّ من أصحابه رضي الله عنهم، كأنه قال: المسلم الكامل من تشبّه بهم، واتّصف بصفتهم التي وصفهم الله تعالى بها في قوله تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ، وكان شدّتهم على الكفار المجاهدة بالسنان واللسان، وترحّمهم على إخوانهم المسلمين بكفّ الأذى، والإيثار بالموجود، كما قال الله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فخصّ بما يُنبئ عن كفّ الأذى؛ ليؤذن بغاية التواضع والذّلّة، تلويحًا إلى معنى قوله تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، ولما كانت عزّتهم على الكفرة وقهرهم باليد واللسان، فينبغي أن ينتفي عنهم ما كانت العزّة له، وهو يستلزم الإيثار بطريق الأولى، وفي تقديم ذكر اللسان على اليد رمز إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم لحسّان رضي الله عنه:"اهج المشركين، فإنه أشقّ عليهم من رشق النبل"
(1)
، أو كما قال. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح":
[تنبيه]: ذِكْرُ المسلمين هنا خَرَج مَخْرَج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كفّ الأذى عن أخيه المسلم أشدُّ تأكيدًا، ولأن الكفار بصَدَد أن يقاتَلُوا، وإن كان فيهم من يَجِب الكفّ عنه، والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك، وخَصَّ اللسان بالذكر؛ لأنه المعبِّر عما في النفس، وهكذا اليد؛ لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عامّ بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعدُ، بخلاف اليد، نعم يُمكن أن تُشارِك اللسانَ في ذلك بالكتابة، وأن أثرها في ذلك لعظيم، ويُستَثْنَى من ذلك شرعًا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير، على المسلم المستحِقِّ لذلك.
وفي التعبير باللسان دون القول نكتةٌ، فيدخُل فيه مَن أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية، كالاستيلاء على حقّ الغير بغير حقّ.
(1)
أخرجه مسلم ولفظه: "اهجوا قريشًا، فإنه أشدّ عليها من رشق النبل".
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 441 - 442.
[فائدة]: فيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق، وهو كثير.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ من طريق الشعبيّ عن عبد الله بن عمرو من قوله: "والمهاجر من هاجر من نهى الله عنه".
والمهاجر بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ الْمُفَاعِل يقتضي وقوع فعل من اثنين، ولكنه هنا للواحد، كالمسافر.
ويحتمل أن يكون على بابه؛ لأن مِن لازم كونه هاجرًا وطنَهُ مثلًا أنه مهجور من وطنه.
وهذه الهجرة ضربان: ظاهرةٌ وباطنةٌ، فالباطنة تركُ ما تدعو إليه النفس الأمّارة بالسوء والشيطان، والظاهرة الفِرَار بالدين من الفتن، وكأنّ المهاجرين خوطبوا بذلك؛ لئلا يَتَّكِلوا على مجرد التحول من دارهم، حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه.
ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لَمّا فُتحت مكة؛ تطييبًا لقلوب مَن لم يُدرِك ذلك، بل حقيقة الهجرة تَحصُل من هجر ما نهى الله عنه.
فاشتملت هاتان الجملتان على جوامعَ من معاني الحكم والأحكام.
وزاد ابنُ حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" من حديث أنس رضي الله عنه:"والمؤمن من أَمِنَهُ الناس".
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" من طريق الشعبيّ أيضًا، قال: سمعت عبد الله بن عمرو، ورب هذه الْبَنِيَّة - يعني الكعبة - يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهاجر من هَجَرَ السيئات، والمسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده"
(1)
.
وأخرجه ابن منده من طريق الشعبي أيضًا قال: سمعت عبد الله بن عمرو، يقول: ورب هذه البنية لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المهاجر من هَجَرَ السيئات، والمسلم مَن سَلِمَ الناس من لسانه ويده"
(2)
.
قال في "الفتح": والمراد بالناس هنا المسلمون، فهم الناس حقيقةً عند
(1)
راجع: "صحيح ابن حبان" 1/ 424 - 425 رقم (196).
(2)
راجع: "الإيمان" لابن منده 1/ 451 رقم (313).
الإطلاق؛ لأن الإطلاق يُحْمَل على الكامل، ولا كمال في غير المسلمين، ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط، وهو إلا بحق، مع أن إرادة هذا الشرط متعينةٌ على كل حال؛ لما قدّمته من استثناء إقامة الحدود على المسلم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من هذا الوجه تفرّد به المصنّف، ولم يُخرجه البخاريّ.
[تنبيه]: قال الحافظ في "الفتح": أخرج مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، بهذا الإسناد نظير هذا السؤال، لكن جعل الجواب، كالذي في حديث أبي موسى، فادَّعَى ابنُ منده فيه الاضطراب.
[وأجيب]: بأنهما حديثان اتَّحد إسنادهما، وافق أحدهما حديث أبي موسى رضي الله عنه، ولثانيهما شاهد من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه، كما تقدم. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[16/ 169](40) عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عنه.
و (أحمد) في "مسنده" 2/ 187 و 191، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 9/ 64 و 65، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(400)، و (أبو نعيم) في "المسند المستخرج" 1/ 130 (156)(400)، و (ابن منده) في "الإيمان"(316).
وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 82.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[170]
(41) - (حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَنْبَانا أَبُو عَاصِمٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، أنَّهُ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْر، يَقُولُ: سَمِعْت جَابِرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(حَسَن الْحُلْوَانِيُّ) - بضمّ الحاء المهملة، وسكون اللام - هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذَليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيفُ [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وعبد لقبه، ثقةٌ حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلَد بن الضحّاك بن مسلم الشيبانيّ النَّبِيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 112)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو الوليد، وأبو خالد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضل، كان يدلّس، ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
5 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
6 -
(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، فالأول ما أخرج له النسائيّ، والثاني تفرّد به هو والترمذيّ، وعلّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكيين، غير شيخه عبد، فكسيّ، وأبي عاصم، فبصريّ، وجابر رضي الله عنه، وإن كان مدنيًّا، إلا أنه سكن مكة مدّةً.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
(مسألة): حديث جابر رضي الله عنه هذا مما انفرد به المصنّف عن البخاريّ، أخرجه هنا في "الإيمان"[16/ 170](41) بهذا الإسناد فقط، وأخرجه (الطيالسيّ) في "مسنده"(1777)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" 9/ 64، و (أحمد) في "مسنده" 3/ 372.
وأما شرحه، فسيأتي في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[171]
(42) - (وحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثنا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الاسْلَامِ أفضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ يسَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ) هو: سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، أبو عثمان البغداديّ، ثقة ربّما أخطأ [10].
رَوَى عن أبيه، وعمه محمد، وعيسى بن يونس، ووكيع، وابن المبارك، ومسلم بن خالد الزَّنْجِيّ، وعبد الله بن إدريس، وجماعة.
وروى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه، وروى النسائي في "مسند مالك" عن محمد بن عيسى بن شيبة عنه أيضًا، وعبد الله بن أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
قال عليّ بن المديني: هو أثبت من أبيه، وقال يعقوب بن سفيان: هما
ثبتان: الأب والابن، وقال النسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال صالح بن محمد: صدوق إلا أنه كان يَغْلَطُ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: رُبَّما أخطأ، وقال مسلمة: رَوَى عنه من أهل بلدنا بَقِيّ بن مَخْلَد.
قال محمد بن إسحاق السرّاج: مات للنصف من ذي القعدة، سنة تسع وأربعين ومائتين، وكذا أرَّخَه البخاري، وابن قانع، وغير واحد، ووهم أبو القاسم البغويّ، فأرّخه سنة (59)، وقد رَدّ ذلك الخطيب.
وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.
2 -
(أَبُوهُ) هو: يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ الحافظ، نزيل بغداد، لقبه الجَمَل، صدوقٌ يُغْرب، من كبار [9].
رَوَى عن أبيه، ويحيى بن سعيد، وسعيد بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وابن جريج، والأعمش، ومسعر، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه سعيد، وأحمد بن إسحاق، والحكم بن هشام الثقفي، وهو من أقرانه، ومَخْلَد بن مالك الجمال، وداود بن رُشيد، وسريج بن يونس، وآخرون.
قال الأثرم عن أحمد: ما كنت أظن عنده الحديث الكثير، وقد كتبنا عنه، وكان له أخ له قَدْر وعِلْم يقال له: عبد الله، ولم يبين أمر يحيى، كأنه يقول: كان يصدق، وليس بصاحب حديث، وقال الْمَرُّوذي عن أحمد: لم تكن له حركة في الحديث، وقال أبو داود عن أحمد: ليس به بأس، عنده عن الأعمش غرائب، وقال أبو داود: ليس به بأس ثقة، وقال يزيد بن الهيثم عن ابن معين: هو من أهل الصدق، ليس به بأس، وقال الدُّوريُّ وغيره عن ابن معين: ثقة، وكذا قال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، والدارقطني، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، أورده العُقَيليّ في "الضعفاء"، واستنكر له عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله:"لا يزال المسروق متغيظًا، حتى يكون أعظم إثمًا من السارق".
وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مات أبي سنة أربع وتسعين ومائة في النصف من شوال، وبلغ ثمانين سنة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
3 -
(أَبُو بُرْدَةَ
(1)
بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى) هو: بُرَيد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ يُخطئ قليلًا [6].
رَوَى عن جده، والحسن البصريّ، وعطاء، وأبي أيوب، صاحب أنس.
ورَوَى عنه السفيانان، وحفص بن غياث، وأبو معاوية، ويحيى بن سعيد الأمويّ، وابن إدريس، وابن المبارك، وأبو أسامة، وغيرهم.
قال ابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، يُكْتَب حديثه، وقال عمرو بن عليّ: لم أسمع يحيى، ولا عبد الرحمن يحدثان عن سفيان عنه بشيء قط، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن عديّ: روى عنه الأئمة، ولم يرو عنه أحد أكثر من أبي أسامة، وأحاديثه عندي مستقيمة، وهو صدوق، وأَنْكَر ما رَوَى حديث: "إذا أراد الله بأُمّة خيرًا قَبَضَ نبيها قبلها
…
"، قال: وهذا طريق حسنٌ، رُواته ثقات، وقد أدخله قوم في صحاحهم
(2)
، وأرجو أن لا يكون به بأس، وقال النسائي في "الضعفاء": ليس بذاك القويّ، وقال أحمد بن حنبل: يَروي مناكير، وطلحة بن يحيى أحب إلي منه، وقال الترمذي في "جامعه": وبُريد كوفي ثقة في الحديث، رَوَى عنه شعبة، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ، وقال ابن عديّ: سمعت ابن حماد يقول: بريد بن عبد الله ليس بذاك القوي، أظنه ذكره عن البخاريّ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.
(1)
بضم الموحّدة، وسكون الراء، واسمه بُريد بضم الموحّدة، وفتح الراء مصغّرًا.
(2)
أخرجه مسلم في "كتاب الفضائل" من "صحيحه"، فقال: قال مسلم: وحُدِّثت عن أبي أسامة، وممن رَوَى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثني بُريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله عز وجل إذا أراد رحمةَ أمةٍ من عباده قَبَضَ نبيّها قبلها، فجعله لها فَرَطًا، وسَلَفًا بين يديها، وإذا أراد هَلَكَةَ أمة عَذَّبها ونبيّها حيٌّ، فأهلكها، وهو ينظر، فأقرّ عينه بهلكتها، حين كذبوه، وعصوا أمره".
4 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعري الفقيه، اسمه الحارث، وقيل: عامر، وقيل: اسمه كنيته، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وعليّ، وحُذيفة، وعبد الله بن سلام، والأغر المزنيّ، والمغيرة، وعائشة، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، والأسود بن يزيد النخعيّ، وعروة بن الزبير، وهو من أقرانه، وغيرهم.
ورَوَى عنه أولاده: سعيد، وبلال، وعبد الله، وحفيده أبو بردة، والشعبيّ، وهو من أقرانه، وعاصم بن كليب، وإبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكيّ، وأبو صَخْرة جامع بن شدَاد، وثابت البنانيّ، وحميد بن هلال، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال العجليّ: كوفي تابعي ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوق، وقال مرةً: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة: قال عبد العزيز لأبي بردة: كم أتى عليك؟ قال: اثنتان وثمانون سنة، وقال العجليّ: كان على قضاء الكوفة بعد شُرَيح، وكان كاتبه سعيد بن جبير، ورَجَّحَ ابن حبان أن اسمه عامر، ولم يذكره البخاري في "تاريخه" وغيره، وقال النسائيّ في "الكنى": أنا أحمد بن عليّ بن سعيد، سمعت يحيى بن معين، يقول: اسم أبي بردة عامر، وذكر المدائنيّ أنه وُلد لأبي موسى لَمّا كان أميرًا للبصرة - يعني في خلافة عمر بن الخطاب، أو عثمان رضي الله عنهم.
قال الواقدي وغيره: مات سنة ثلاث، وقال خليفة، وابن حبان، وغيرهما: مات سنة أربع ومائة، زاد ابن حبان: وقد نَيَّفَ على الثمانين، وقيل: مات سنة سبع ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (66) حديثًا.
5 -
(أَبُو مُوسَى) الْأَشْعَرِيُّ
(1)
، عبد الله بن قيس بن سُلَيم - بضم السين، مصغّرًا - ابن حَضّار - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الضاد المعجمة، وقيل:
(1)
نسبة إلى الأشعر، وهو نبت بن أُدد، وقيل له: الأشعر؛ لأن أمه ولدته أشعر. "عمدة القاري" 1/ 135.
بكسر الحاء، وتخفيف الضاد - ابن حَرْب بن عامر بن غَنْم بن بكر بن عامر بن عَذر بن وائل بن ناجية بن الْجُماهر بن الأشعر، أبو موسى الأشعري، مشهور باسمه وكنيته معًا، وأمه ظَبْية بنت وهب بن عَك، أسلمت وماتت بالمدينة، وكان هو سكن الرَّمْلة، وحالف سعيد بن العاص، ثم أسلم وهاجر إلى الحبشة، وقيل: بل رجع إلى بلاد قومه، ولم يهاجر إلى الحبشة، وهذا قول الأكثر، فإن موسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي لم يذكروه في مهاجرة الحبشة، وقدم المدينة بعد فتح خيبر، صادفت سفينته سفينة جعفر بن أبي طالب، فقدموا جميعًا، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن، كزَبِيد وعَدَن وأعمالهما، واستعمله عمر على البصرة بعد المغيرة، فافتتح الأهواز، ثم أصبهان، ثم استعمله عثمان على الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصِفِّين، ثم اعتزل الفريقين.
وأخرج ابن سعد، والطبري من طريق عبد الله بن بُريدة أنه وصف أبا موسى، فقال: كان خفيف الجسم، قصيرًا، ثَطًّا
(1)
. وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الخلفاء الأربعة، ومعاذ، وابن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، وعَمَّار.
وروى عنه أولاده: موسى، وإبراهيم، وأبو بُرْدة، وأبو بكر، وامرأته أم عبد الله، ومن الصحابة: أبو سعيد، وأنس، وطارق بن شهاب، ومن كبار التابعين فمن بعدهم: زيد بن وهب، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ، وعُبيد بن عمير، وقيس بن أبي حازم، وأبو الأسود، وسعيد بن المسيب، وزِرّ بن حُبَيش، وأبو عثمان النَّهْدِيّ، وأبو رافع الصائغ، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، ورِبْعِيّ بن حِرَاش، وحِطّان الرَّقَاشيّ، وأبو وائل، وصفوان بن مُحرِز، وآخرون.
قال مجاهد عن الشعبي: كتب عمر في وصيّته: لا يُقَرّ لي عامل أكثر من سنة، وأقرّوا الأشعري أربع سنين، وكان حسن الصوت بالقرآن. وفي
(1)
"الثّطّ" بالفتح، وتشديد الطاء، والأثطّ: هو الكوسج الذي عَرِي وجهه من الشعر، إلا طاقات في أسفل حنكه. قاله في "النهاية" 1/ 211، بزيادة من "القاموس".
"الصحيح" المرفوع: "لقد أُوتي مِزْمارًا من مزامير آل داود"، وقال أبو عثمان النَّهْدي: ما صَنْجٌ، ولا بَرْبَط، ولا نايٌ أحسن من صوت أبي موسى بالقرآن. وكان عمر إذا رآه قال:"ذَكِّرنا ربنا يا أبا موسى"، وفي رواية:"شَوِّقْنا إلى ربنا"، فيقرأ عنده. وكان أبو موسى: هو الذي فَقَّهَ أهل البصرة، وأقرأهم. وقال الشعبي: انتهى العلم إلى ستة، فذكره فيهم، وذكره البخاري من طريق الشعبي بلفظ العلماء. وقال ابنُ المدائني: قضاة الأمة أربعة: عمر، وعلي، وأبو موسى، وزيد بن ثابت. وأخرج البخاري من طريق أبي التَّيّاح، عن الحسن قال: ما أتاها - يعني البصرة - راكب خير لأهلها منه - يعني من أبي موسى -، وقال البغوي: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: كان لأبي موسى سراويل يلبسه بالليل، مخافة أن ينكشف، صحيح
(1)
، وقال أصحاب الفتوح: كان عامل النبي صلى الله عليه وسلم على زَبِيد وعدن وغيرهما من اليمن وسواحلها، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة، وشَهِدَ فتوح الشام، ووفاة أبي عبيدة، واستعمله عمر على إمرة البصرة، بعد أن عزل المغيرة، وهو الذي افتتح الأهواز، وأصبهان، وأقرّه عثمان على عمله قليلًا، ثم صرفه، واستعمل عبد الله بن عامر، فسكن الكوفة، وتفقه به أهلها، حتى استعمله عثمان عليهم، بعد عزل سعيد بن العاص.
قال البغوي: بلغني أن أبا موسى مات سنة اثنتين، وقيل: أربع وأربعين، وهو ابن نَيِّفٍ وستين، وبالأول جزم ابن نمير وغيره، وبالثاني أبو نعيم وغيره. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: عاش ثلاثًا وستين. وقال الهيثم وغيره: مات سنة خمسين، زاد خليفة: ويقال: سنة إحدى. وقال المدائني: سنة ثلاث وخمسين. واختلفوا هل مات بالكوفة أو بمكة؟.
أخرج له الجماعة، وله من الأحاديث (360) حديثًا، اتفق الشيخان على (50) وانفرد البخاريّ بأربعة، ومسلم بـ (25)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا نسخة "الإصابة"، والظاهر أنه أراد أن هذا الأثر صحيح.
(2)
هكذا ذكر ابن الجوزيّ وغيره أنّ له في "صحيح مسلم"(75) حديثًا، والذي في برنامج الحديث أن له فيه (101) حديثًا، ولعله بالمكرّر، فليُحرّر.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، فلم يُخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن هذا الإسناد هو نفس السند الذي أخرج به البخاريّ هذا الحديث.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ، وأما أبوه، فكوفيّ، ثم بغداديّ.
[تنبيه]: قال في "الفتح": هذا الإسناد كلّه كوفيّون، ويحيى بن سعيد المذكور اسم جدّه أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أُميّة، يكنى أبا أيوب، وفي طبقته يحيى بن سعيد القطّان، وحديثه في هذا الكتاب - قلت: وكذا في "صحيح مسلم" - أكثر من حديث الأمويّ، وليس له ابن يروي عنه يُسمّى سعيدًا، فافترقا، وفي الكتاب ممن يقال له يحيى بن سعيد اثنان أيضًا، لكن من طبقة فوق طبقة هذين، وهما يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ويحيى بن سعيد التيميّ أبو حيّان، ويمتاز عن الأنصاريّ بالكنية. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ويزيد المصنّف ممن يسمّى يحيى بن سعيد على هؤلاء الأربعة خامسًا، وهو يحيى بن سعيد بن العاص، أخرج له حديث واحدًا: "إن عثمان رجلٌ حييّ
…
" الحديث، سيأتي في "كتاب فضائل الصحابة" برقم (2402) ترقيم محمد محيي الدين، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن ثلاثةً منهم اشتهروا بالكنى، اثنان منهم بكنية واحدة، أبو بردة، فأما الأول فمشهور باسمه أيضًا، وهو بُريد، وأما الثاني، فقد اشتهر بكنيته، وفي اسمه خلاف، وأما الثالث، فمشهور باسمه وكنيته، وهو أبو موسى رضي الله عنه.
6 -
(ومنها): أن هذا الباب أول محلّ ذكر جميعهم، وأن مجموع ما رواه المصنف لشيخه (10)، ولأبيه (11)، ولبريد (33)، ولأبي بردة (66)، ولأبي موسى رضي الله عنه (101)، كما هو المدوّن في برنامج الحديث.
(1)
"فتح" 1/ 71.
7 -
(ومنها): أنه ليس في الكتب الستة من اسمه بُريد إلا هذا، وفي السنن الأربعة اثنان آخران: أحدهما: بُرَيد بن أصرم، مجهول من الثالثة، وقيل: إنه يزيد بالياء والزاي، وقيل: تريد بالتاء والراء، والأول هو الصواب، والثاني: بُريد بن أبي مريم مالك بن ربيعة السَّلُوليّ البصريّ، ثقة من الرابعة، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أن جملة من يُكنَى بأبي بُردة في الكتب الستة أربعة: أحدهم: هذا، والثاني: حفيده المذكور قبله، والثالث: أبو بُردة بن نِيَار الْبَلَويّ، حليف الأنصار، صحابيّ رضي الله عنه اختُلف في اسمه، فقيل: هانئ، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هُبيرة، مات سنة (41) وقيل: بعدها، والرابع: أبو بردة التميميّ، عمرو بن يزيد الكوفيّ، ضعيف من الثامنة، عند ابن ماجه فقط، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه: سعيد بن يحيى عن أبيه، ورواية الراوي عن جدّه، عن أبيه: بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه.
10 -
(ومنها): أن أبا موسى رضي الله عنه ممن اشتهر بحسن الصوت في القرآن، وقد أثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه أُعطي مزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام، وكان عمر رضي الله عنه يقول له: شَوِّقنا إلى ربنا، وكان فقيهًا، تفقّه عليه أهل الكوفة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قُلْتُ) هذا صريح في أن السائل هو أبو موسى رضي الله عنه، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"قالوا"، ورواه النسائيّ عن شيخ المصنّف، بإسناده بلفظ:"قلنا".
ولا تخالف بين الروايات؛ لأنه في رواية المصنّف صرّح بأنه هو الذي تولّى السؤال، وفي رواية النساني أخبر عن جماعة، هو داخل فيهم، إذ الراضي بالسؤال في حكم السائل، وكذا في رواية البخاري أراد الصحابة الحاضرين، وهو منهم.
والحاصل أن المباشر للسؤال هو أبو موسى، وإنما نُسب إلى الآخَرين
تجوّزًا لرضاهم به. وقد جمع بعضهم بحمله على تعدد الواقعة، والأول أولى.
وقد سأل هذا السؤال أيضا أبو ذَرّ رضي الله عنه، رواه ابن حبان، وعُمير بن قتادة، رواه الطبراني، قاله في "الفتح"
(1)
.
(يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟) فيه حذفٌ، أيْ: أيُّ ذوي الإسلام؟ كما يدلّ عليه الجواب، وتؤيّده الرواية التالية:"أيُّ المسلمين أفضل؟ "، وبه يظهر دخول "أيّ" على متعدّد.
ويمكن أن يقال: المراد: أيّ أفراد الإسلام أفضل؟ أفاده السنديّ.
وقال في "الفتح": [إن قيل]: الإسلام مفرد، وشرط "أَيّ" أن تدخل على متعدد.
[أجيب]: بأن فيه حذفًا تقديره: أيُّ ذوي الإسلام أفضل؟، ويؤيده رواية مسلم:"أي المسلمين أفضل"، والجامع بين اللفظين، أن أفضلية المسلم حاصلة بهذه الخصلة، وهذا التقدير أولى من تقدير بعض الشراح هنا: أيُّ خصال الإسلام؟، وإنما قلت: إنه أولى؛ لأنه يلزم عليه سؤال آخر، بأن يقال: سُئِل عن الخصال، فأجاب بصاحب الخصلة، فما الحكمة في ذلك؟.
وقد يجاب بأنه يتأتّى، نحوَ قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية [البقرة: 215]، والتقدير بأيِّ ذوي الإسلام؟ يقع الجواب مطابقًا له، بغير تأويل.
[فإن قيل]: "أفضل" أفعل تفضيل، وقد تقرّر في محلّه أن أفعل التفضيل لا يُستعمل إلا بأحد الأوجه الثلاثة، وهي: الإضافة، و"من"، واللام، ولا يوجد شيء منها هنا.
[أجيب]: بأنه يجوز تجريده من كلها عند العلم به، نحو قوله تعالى:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، أي وأخفى من السرّ، ونحو قولك:"الله أكبر": أي أكبر من كلّ شيء، فالتقدير هنا: أفضل من غيره، ومعنى الأفضل: هو الأكثر ثوابًا عند الله تعالى، كما تقول: الصدق أفضل من غيره: أي هو أكثر
(1)
"فتح" 1/ 71.
ثوابًا عند الله تعالى من غيره، أفاده العينيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
[تنبيه]: وقع التعبير في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هنا بلفظ: "أفضل"، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما المذكور قبل حديث بلفظ:"خير".
فقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: والذي ظهر لي في الفرق بين "أفضل"، و"خير" أن لفظة "أفضل" إنما تستعمل في شيئين اشتركا في غير فضل، وامتاز أحدهما عن الآخر بفضل اختصّ به، فهذا الممتاز قد شارك ذاك في الفضل، واختصّ عنه بفضل زائد، فهو ذاك. وأما لفظة "خير" فتستعمل في شيئين، في كلّ منهما نوع من الخير، أرجح مما في الآخر، سواء كان لزيادة عليه في ذاته، أو في نفعه، أو غير ذلك، وإن اختلف جنساهما، فترجيح أحدهما على الآخر يكون بلفظة "خير"، فيقال مثلًا: النفع المتعدّي خير من النفع القاصر، وإن كان جنسهما مختلفًا، ويقال: زيد أفضل من عمرو، إذا اشتركا في علم، أو دين، ونحو ذلك، وامتاز أحدهما على الآخر بزيادة. وإن استُعمل في النوع الأول لفظة "أفضل"، مع اختلاف الجنسين، فقد يكون المراد أن ثواب أحدهما أفضل من ثواب الآخر، وأزيد منه، فقد وقع الاشتراك في الثواب، وامتاز أحدهما بزيادة منه.
وحينئذٍ فمن سلم المسلمون من لسانه ويده إسلامه أفضل من إسلام غيره، ممن ليس كذلك؛ لاشتراكهما في الإتيان بحقوف الله تعالى في الإسلام من الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ونحو ذلك، وامتاز أحدهما بالقيام بحقوق المسلمين، فصار هذا الإسلام أفضل من ذلك.
وأما المسلم: فيقال: هذا أفضل من ذاك؛ لأن إسلامه أفضل من إسلامه، ويقال: هو خير من ذاك؛ لترجح خيره على خير غيره، وزيادته عليه. انتهى كلام ابن رجب
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)"من": موصولة، على
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 153 - 154.
(2)
"شرح البخاريّ" لابن رجب رحمه الله تعالى 1/ 40 - 41.
حذف مضاف، خبرٌ لمحذوف: أي هو إسلام من سلم إلخ، وقد سبق شرح هذه الجملة مستوفًى في شرح حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[6/ 171](42) بهذا الإسناد، و [16/ 172] بالسند التالي.
و (البخاريّ) في "الإيمان" 1/ 10 (11) عن سعيد بن يحيى بن سعيد الأمويّ، عن أبيه، عن بُريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبيه.
و (الترمذيّ) في "الزهد"(2504)، وفي "الإيمان"(2628) عن إبراهيم سعيد الجوهريّ، عن أبي أسامة، عن بريد به، وقال: صحيح غريب من حديث أبي موسى.
و (النسائيّ) في "الإيمان" 8/ 106 عن سعيد بن يحيى، عن أبيه به.
و (أبو نعيم) في "المسند المستخرج" 1/ 131 (158)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[172]
(
…
) - (وحَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ الله، بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟
…
فَذَكَرَ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ) أبو إسحاق الطبريّ الأصل، نزيل بغداد، ثقة حافظ، تُكُلِّم فيه بلا حجّة [10].
رَوَى عن أبي أسامة، وابن عيينة، وأبي أحمد الزبيريّ، وأسود بن عامر، وأبي ضمرة، والواقديّ، وعبد الوهاب الثقفيّ، وجماعة.
وعنه الجماعة سوى البخاريّ، وزكرياء السجزيُّ، وأبو حاتم، وموسى بن هارون، وابن صاعد، وغيرهم.
قال أبو العباس الْبَرَاثِيُّ: سأل موسى بن هارون أحمد بن حنبل عن إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، فقال: كثير الكتاب، كَتَبَ فأكثر، فأستأذنه في الكتابة عنه، فأذن له، وقال أبو حاتم: كان يُذْكَر بالصدق، وقال النسائيّ: ثقة، وقال: قال إبراهيم الجوهريّ: كلُّ حديث لا يكون عندي من مائة وجه، فأنا فيه يتيم، وقال الخطيب: كان ثقةً مكثرًا ثبتًا صَنّف "المسند"، وقد وثقه الدارقطنيّ، والخليليّ، وابنُ حبان، وغيرهم، وفي "تاريخ الخطيب" عن ابن خِرَاش قال: سمعت حجاج بن الشاعر يقول: رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم، وأبو نعيم يَقْرَأ، وهو نائم، وكان الحجاج يَقَعُ فيه.
قال الحافظ: وابنُ خِرَاش رافضيّ، ولعل الجوهريَّ كان قد سَمِعَ ذلك الجزء من أبي نعيم قبل ذلك. انتهى.
قال ابن قانع: مات سنة (249) وقال غيره: مات بعد الخمسين ومائتين، كان ببغداد، ثم سَكَن عَيْنَ زَرْبَةَ مرابطًا، ومات بها، صَحَّحَ ابنُ عساكر أنه مات سنة (53)، وخَطّأه الذهبيّ، وقال: إن قول ابن قانع أولى، وأَرَّخَه ابن أبي عاصم سنة (56).
قال الحافظ: وألفيتُ بخط الحافظ أبي زرعة في "حاشية الأصل" أن الذي في وفيات ابن قانع ذِكْرُ وفاته في سنة سبع وأربعين بتقديم السين، قال: وكذا نقله عنه الخطيب، والذهبيّ. انتهى.
وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (200)
(1)
: "لكل نبي دعوة
…
"، و (1785): "فلقد رأيتني يوم أبي جندل
…
"، و (2288): "إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة
…
".
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) هو: حمّاد بن أُسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ الثقة الثبت المذكور في الباب الماضي.
(1)
بترقيمات الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: "بهذا الإسناد" الإشارة إلى ما قبله من إسناد أبي بُردة بن عبد الله عن أبي بُردة، عن أبي موسى رضي الله عنه.
وقوله: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ " تبين في الحديث الماضي أن السائل هو أبو موسى رضي الله عنه نفسه.
وقوله: "فذكر مثله" الضميرُ الفاعلُ يعود على إبراهيم بن سعيد، أي ذَكَرَ إبراهيم الحديث، وساقه مثل حديث سعيد بن يحيى.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن بُريد بن عبد الله هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"، إلا أنه أدخل عليها رواية يحيى بن سعيد عنه، ونصّه (1/ 131):
(158)
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى بن منده، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، ثنا أبو أسامة، ثنا يزيد عن عبد الله
(1)
…
وحدثنا أبو عمرو ومحمد بن أحمد بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا سعيد بن يحيى الأموي، ثنا أبي، قالا
(2)
: ثنا أبو بردة بن عبد الله، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى، قال: سُئِل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسلمين أفضلُ؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(17) - (بَابُ بَيَانِ خِصَالٍ مَنِ اتَّصَفَ بِهِنَّ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[173]
(43) - (حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا
(1)
هكذا وقع في النسخة "يزيد عن عبد الله" والظاهر أنه تصحيف، والصواب "ثنا بُريد بن عبد الله"، فتنبّه.
(2)
هكذا وقع "قالا"، وفيه نظر لا يخفى.
عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أنسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيه، وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْر، بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه الإمام الحافظ الفقيه المذكور قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ) العدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ، لازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار العبديّ، أبو بكر البصريّ، ثقة [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت بن عُبيد الله بن الحكم بن أبي العاص الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقة تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8].
رَوَى عن حميد الطويل، وأيوب السختياني، وابن عون، وخالد الحذاء، وداود بن أبي هند، وغيرهم.
ورَوَى عنه الشافعي، وأحمد، وعلي، ويحيى، وإسحاق، وابن أبي شيبة، وأبو خيثمة، وبندار، وأبو موسى، ومسدد، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، وآخرون.
قال عفان، عن وهب: لَمّا مات عبد المجيد قال لنا أيوب: الزموا هذا الفتى عبد الوهاب، وعدّه ابن مهديّ فيمن كان يُحَدِّث من كتب الناس، ولا يحفظ ذلك الحفظ، وقال أحمد: الثقفيّ أثبت من عبد الأعلى السّامي، وقال عثمان: سألت يحيى بن معين، قلت: ما حال وهيب في أيوب؟ فقال: ثقة، قلت: هو أحب إليك، أو عبد الوهاب؟ قال: ثقة وثقة، وقال الدُّوري عن ابن معين: اختلط بآخره، وقال عقبة بن مُكْرَم: اختلط قبل موته بثلاث سنين، أو أربع سنين، وقال علي ابن المديني: ليس في الدنيا كتاب عن يحيى - يعني ابن سعيد الأنصاري - أصح من كتاب عبد الوهاب، وكل كتاب عن يحيى فهو عليه
كَلٌّ، وقال الترمذي: سمعت قتيبة يقول: ما رأيت مثل هؤلاء الأربعة: مالك، والليث، وعبد الوهاب الثقفي، وعباد بن عباد، وقال العجلي: بصري ثقة، وقال عمرو بن علي: اختلط حتى كان لا يعقل، وسمعته وهو مختلط يقول: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، باختلاطٍ شديد، وذكر الكرمانيّ أن عبد الوهّاب الثقفيّ كانت غلّته كلّ سنة قريبًا من خمسين ألفًا، ولا يحول الحول على شيء منها، كان ينفقها على أصحاب الحديث
(1)
.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (84) وقيل: سنة (94)، وقال محمد بن سعد: كان ثقة، وفيه ضعف، وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة، وقال أحمد: كان مولده سنة (8)، وقال الفلاس: وُلد سنة (110)، ومات سنة (94)، أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (91) حديثًا.
5 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيَانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت فقيهٌ حجةٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
6 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، ويقال: عامر بن ناتل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد، الْجَرْميّ البصريّ، أحد الأعلام، ثقة فاضلٌ، كثير الإرسال [3].
رَوَى عن ثابت بن الضحاك الأنصاري، وسمرة بن جندب، وأبي زيد عمرو بن أخطب، وعمرو بن سلمة الجرمي، ومالك بن الحويرث، وزينب بنت أم سلمة، وأنس بن مالك الأنصاريّ، وأنس بن مالك الكعبي، وابن عباس، وابن عمر، وقيل: لم يسمع منهما، ومعاوية، وهشام بن عامر، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخشني، ويقال: لم يسمع منهم، وأرسل عن عمر، وحذيفة، وعائشة، ورَوَى أيضًا عن التابعين، كأبي المهلب الجرمي، وهو عمه، ومعاذة العدوية، وزهدم بن مَضَرّب الجرمي، وعبد الله بن يزيد رضيع عائشة، وعمرو بن بجدان، وأبي أسماء الرحبي، وأبي المليح بن أسامة، وغيرهم.
ورَوَى عنه أيوب، وخالد الحذاء، وأبو رجاء سلمان مولى أبي قلابة،
(1)
"شرح البخاريّ للكرمانيّ" 1/ 99.
ويحيى بن أبي كثير، وأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، وعاصم الأحول، وغيلان بن جرير، وطائفة.
ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: كان ثقة كثير الحديث، وكان ديوانه بالشام، وقال علي بن أبي حملة: قلنا لمسلم بن يسار: لو كان بالعراق أفضل منك لجاءنا الله به، فقال: كيف لو رأيتم أبا قلابة؟، وقال مسلم أيضًا: لو كان أبو قلابة من العجم، لكان مُوْبذ مُوْبذان - يعني قاضي القضاة -، وقال ابن سيرين: ذاك أخي حقًّا، وقال ابن عون: ذَكَرَ أيوب لمحمد حديثًا عن أبي قلابة، فقال: أبو قلابة - إن شاء الله - ثقة، رجل صالح، ولكن عمن ذكره أبو قلابة؟، وقال أيوب: كان والله من الفقهاء ذوي الألباب، ما أدركت بهذا المصر رجلًا كان أعلم بالقضاء من أبي قلابة، ما أدري ما محمد، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وكان يحمل على علي، ولم يرو عنه شيئًا، ولم يسمع من ثوبان، وقال أبو حاتم: لا يعرف له تدليس
(1)
، وقال ابن خراش: ثقة، وقال عمر بن عبد العزيز: لن تزالوا بخير يا أهل الشام ما دام فيكم هذا، قال ابن المديني: مات أبو قلابة بالشام، وقال ابن يونس: مات بالشام سنة أربع ومائة، وكذا أرخه غيره، وقال الواقدي: تُوفي سنة (4) أو خمس، وقال ابن المديني: مات سنة (4) أو سبع، وقال ابن معين: أرادوه على القضاء، فهرب إلى الشام، فمات بها سنة (6) أو (7)، وقال الهيثم بن عدي: مات سنة (107).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (46) حديثًا.
7 -
(أَنَس) بن مالك الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، تقدّم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخيه: إسحاق، فما
(1)
هذا يردّ قول الذهبي في "الميزان" 2/ 425 - 426: ثقة في نفسه إلا أنه يدلّس عمن لَحِقه، وعمن لم يلحقه، وكان له صُحُفٌ يُحدّث فيها ويدلّس. انتهى.
أخرج له ابن ماجه، وابنِ أبي عمر، فما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بأجلّاء البصريين، غير شيخيه المذكورين، فالأول مروزيّ، نزيل نيسابور، والثانيّ عدنيّ، نزيل مكة.
4 -
(ومنها): أن شيخه ابن بشّار أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول بلا واسطة.
5 -
(ومنها): أن هذا الباب أول محلّ ذكر عبد الوهّاب الثقفيّ، وأبي قلابة، وجملة ما رواه المصنّف لعبد الوهّاب (91) ولأبي قلابة (46) حديثًا، كما نبّهت عليه آنفًا.
6 -
(ومنها): أنه ليس في الرواة من يكنى بأبي قلابة في المتقدّمين إلا هذا، ولهم في المتأخرين أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرَّقَاشيّ البصريّ، صدوقٌ يُخطئ، وتغيّر حفظه لَمّا سكن بغداد، من الحادية عشرة، وهو من أفراد ابن ماجه.
7 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: أيوب، عن أبي قلابة.
8 -
(ومنها): أنَّ فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (2) أو (93)، وهو من المعمّرين، فقد جاوز المائة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَيُّوبَ) السَّخْتيانيّ - بفتح السين المهملة، على الصحيح، وحُكي ضمّها، وكسرها - وإنما قيل له: السختياني؛ لأنه كان يبيع السختيان، وهو بفتح السين: الجلد (عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) بكسر القاف، وبباء موحّدة (عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"ثَلَاثٌ) مبتدأ، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، تقديره: ثلاثُ خِصَال، أو "ثلاث" صفة لموصوف محذوف: تقديره: خصالٌ ثلاثٌ، والخبر على هذين التقديرين جملة "مَنْ كنّ فيه
…
إلخ".
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ثلاث من كنّ فيه"؛ "ثلاثٌ مبتدأ، والجملة الشرطيّة خبره، وجاز ذلك؛ لأن التقدير خصالٌ ثلاثٌ، قال في "شرح
التسهيل": مثال الابتداء بنكرة هي وصفٌ: قول العرب: ضَعيفٌ عاذ بقَرْمَلة، أي إنسان ضعيف، أو حَيَوَانٌ ضعيفٌ التجأ إلى ضعيف، والْقَرْمَلَةُ شجرة ضعيفةٌ، ويجوز أن تكون الجملة الشرطيّة صفة و"ثلاثٌ" كما أنه يجوز أن تكون خبر المبتدأ في قولك: زيدٌ إن تُعطه يشكرك، أو صِلَةً للموصول، كما في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} [النساء: 9]، أو حالًا لذي الحال، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]، ويكون الخبر: "من كان الله ورسوله أحبّ إليه"، وعلى التقديرين لا بدّ من تقدير مضاف قبل: "من كان"؛ لأنه على الأول إما بدلٌ عن "ثلاث"، أو بيانٌ، وعلى الثاني خبرٌ، قيل: لا بُدّ من إضمار مضاف قبل كلٍّ؛ لاستقامة المعنى، تقديره قبل "من" الأولى والثانية: محبة من كان الله ورسوله، ومحبة من أحبّ عبدًا، وقبل "من" الثالثة: وكراهة من يكره أن يعود، ولشدّة اتّصال المضاف بالمضاف إليه في الإضافات الثلاث، وغلبة المحبّة والكراهة عليهم حُذف المضاف. انتهى كلام الطيبيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدير المضاف الذي ذكره هذا بالنسبة للجزء الأول، وهو قوله: "من كان الله
…
إلخ"، وأما بالنسبة للجزأين الأخيرين فلا حاجة إليه؛ لأنهما بلفظ "أن" المصدريّة، لا بلفظ "من"، وإنما يأتي هذا في الرواية التي بعد هذا، فإنها كلها بلفظ "من"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(مَنْ) قال الكرمانيّ: "من" مبتدأ، والشرط والجزاء معًا خبره، أو الشرط فقط، على اختلاف فيه، و"من" إما شرطيّةٌ، وإما موصولة متضمّنةٌ لمعنى الشرط (كُنَّ فِيهِ) أي حَصَلْنَ و"كان" تامة (وَجَدَ) بمعنى أصاب، ولهذا عُدّي إلى مفعول واحد (بِهِنَّ حَلَاوَةَ الايمَانِ) قيل
(2)
: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشقات، في رضى الله عز وجل ورسوله، وإيثار ذلك على عَرَض الدنيا؛ رغبةً في نعيم الآخرة الذي لا يبيد ولا يفنى.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 444.
(2)
إنما عبّرت بـ "قيل" إشارة إلى ضعف هذا التفسير للحلاوة؛ إذ الصحيح أن هذا من ثمرات الحلاوة، وليس هو عينها؛ إذ هي شيء يجده المؤمن في قلبه، ويُحسّ به، كما يُحسّ بحلاوة الطعام والشراب، كما سيأتي تحقيقه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وروي عن عُتبة الغلام أنه قال: كابدت الصلاة عشرين سنة، ثم تلذّذت بها باقي عمري.
ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى التزام طاعته، وترك مخالفته، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التزام شريعته، واتّباع طاعته، ولَمّا لم نصل إلى الإيمان إلا بالرسول صلى الله عليه وسلم كانت محبّته من الإيمان.
وقد سئل بعضهم عن المحبّة ما هي؟ فقال: مواطأة القلب لمراد الربّ، أن توافق الله عز وجل، فتُحبّ ما أحبّ، وتكره ما كره، ولبعضهم في هذا المعنى شعرًا [من الكامل]:
تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ
…
هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ
…
إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
وقال القاضي رحمه الله تعالى: هذا الحديث بمعنى الحديث المتقدم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا"، وذلك أنه لا تصح المحبة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حقيقةً، وحبُّ الآدمي في الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكراهةُ الرجوع إلى الكفر إلا لمن قَوِيَ بالإيمان يقينه، واطمأنّت به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، وهذا هو الذي وَجَدَ حلاوته، قال: والحب في الله من ثمرات حب الله، قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يُرْضِي الربّ سبحانه وتعالى، فيحبّ ما أحبّ، ويَكْرَه ما كَرِهَ، واختلفت عبارات المتكلمين في هذا الباب بما لا يؤول إلى اختلاف إلا في اللفظ.
وبالجملة أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحبّ، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقًا، وقد يكون لإحسانه إليه، ودفعه المضارّ والمكاره عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا جَمَعَ من جمال الظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النِّعَم، والإبعاد من الجحيم، وقد أشار بعضهم إلى
أن هذا متصوَّر في حق الله تعالى، فإن الخير كله منه سبحانه وتعالى، قال مالك وغيره: المحبة في الله من واجبات الإسلام. انتهى كلام القاضي رحمه الله تعالى.
وقال في "الفتح": فيه استعارة تخييلية، شَبَّه رَغْبةَ المؤمن في الإيمان، بشيء حُلْوٍ، وأَثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي، يجد طعم العسل مُرًّا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكُلَّما نقصت الصحة شيئًا ما، نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يُقَوّي استدلال البخاريّ على الزيادة والنقص، أي على زيادة الإيمان ونقصه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذكره صاحب "الفتح" من دعوى الاستعارة في الحلاوة، فيه نظرٌ، لأنه إخراج للفظ الحديث إلى معنى مجازيّ من غير حاجة إليه، بل الأولى أن تكون الحلاوة على معناها الحقيقيّ، كما قال بعض المحقّقين رحمه الله تعالى:
اختلف العلماء هل الحلاوة محسوسة، أو معنويّةٌ؟ فحملها قوم على المعنى، وحملها قوم على المحسوس، وأَبْقَوُا اللفظ على ظاهره، من غير أن يتأولوه، قال: والصواب معهم في ذلك - والله أعلم - لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره، من غير تأويل، وهو أحسن من التأويل، ما لم يُعارِض لظاهر اللفظ معارضٌ، ويشهد لما ذهبوا إليه أحوال الصحابة رضي الله عنهم، والسلف الصالح، وأهل المعاملات؛ لأنه قد حُكِي عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة، فمن جملة ما حُكي في ذلك حديث بلال رضي الله عنه حين صُنِعَ به ما صُنِع في الرمضاء إكراهًا على الكفر، وهو يقول: أَحَدٌ أحدٌ، فمزَجَ مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وكذلك أيضًا عند موته أهله يقولون: واكرباه، وهو يقول: واطرباه.
غَدًا أَلْقَى الأَحِبَّهْ
…
مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ
فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان.
ومنها حديث الصحابيّ الذي سُرِق فرسه بليل، وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه، فلم يَقْطَع لذلك صلاته، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما كنت فيه أكبر من ذلك، وما ذاك إلا للحلاوة التي وجَدَها محسوسة في وقته ذلك.
ومنها: حديث الصحابيّين اللذين جعلهما النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه ليلةً يحرُسان جيش المسلمين، فنام أحدهما، وقام الآخر يصليّ، فإذا الجاسوس من قبل العدوّ، وقد أقبل، فرآهما، فكبد الجاسوس القوس، ورمى الصحابيّ، فأصابه، فبقي على صلاته، ولم يقطعها، ثم رماه ثانيةً، فأصابه، فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثةً، فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه، وقال: لولا أني خِفتُ على المسلمين ما قطعت صلاتي، وما ذاك إلا لشدّة ما وَجَدَ فيها من الحلاوة، حتى أذهبت عنه ما يجده من ألم السهام. انتهى.
وقال أيضًا ما حاصله: إنما عَبَّرَ بالحلاوة؛ لأن الله شبَّهَ الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] الآية، فالكلمة الطيبة: هي كلمة الإخلاص، وهي أسّ الدين، وبها قِوَامه، فكلمةُ الإخلاص في الإيمان، كأصل الشجرة لا بدّ منه أوّلًا، وأغصان الشجرة في الإيمان عبارة عما تضمّنته كلمة الإخلاص، من اتّباع الأمر، واجتناب النهي، والزهر في الشجرة هو في الإيمان عبارة عما يحدث للمؤمن في باطنه من أفعال البر، وما ينبت في الشجرة من الثمرة هو في الإيمان عبارة عن أفعال الطاعات، وحلاوة الثمرة في الشجرة هي في الإيمان عبارة عن كماله، وعلامة كماله هو ما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؛ لأن غاية فائدة الثمرة في تناهي حلاوة ثمرها، وكماله، ولهذا قال تعالى:{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25]. انتهى
(1)
.
(مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ) بنصب "أحبَّ"، لأنه خبر "كان"، وإنما لم يُثنّيه حتى يُطابق اسم "كان" لأن أفعل التفضيل إذا استعمل بـ "من" يكون مفردًا مذكّرًا لا غير، كما بيّن ابن مالك رحمه الله تعالى أحواله في "الخلاصة" حيث قال:
وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ صِلْهُ أَبَدَا
…
تَقْدِيرًا اوْ لَفْظًا بِـ "مِنْ" إِنْ جُرِّدَا
وَإِنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أَوْ جُرِّدَا
…
أُلْزِمَ تَذْكِيرًا وَأَنْ يُوَحَّدَا
هَذَا إِذَا نَوَيْتَ مَعْنَى "مِنْ" وَإِنْ
…
لَمْ تَنْوِ فَهْوَ طِبْقُ مَا بِهِ قُرِنْ
(1)
راجع: "بهجة النفوس" للشيخ ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى 1/ 26 - 27.
قال القاضي البيضاوي رحمه الله تعالى: المراد بالحبّ هنا الحب العقلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقلُ السليمُ رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يَعاف الدواء بطبعه، فيَنفِر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله، فيَهْوَى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر، ولا ينهى إلا بما فيه صلاحٌ عاجل، أو خلاصٌ آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تَمَرَّن على الائتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذ بذلك التذاذًا عقليًا؛ إذ الالتذاذ العقلي: إدراك ما هو كمال، وخير من حيث هو كذلك، وعَبَّر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة.
قال: وإنما جَعَلَ هذه الأمور الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان؛ لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح، ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقّن أن جملة ما وَعَد، وأوعد حقّ يقينًا، ويُخَيَّل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار. انتهى ملخصًا.
وشاهد الحديث من القرآن، قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، ثم هَدَّد على ذلك، وتوعد بقوله:{فَتَرَبَّصُوا} الآية [التوبة: 24]. ذكره في "الفتح" 1/ 87.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليلٌ على جواز إضافة المحبّة لله تعالى، وإطلاقها عليه، ولا خلاف في أن إطلاق ذلك عليه صحيحٌ، مُحِبًّا، ومحبوبًا، كما قال تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية [المائدة: 54]، وهو في السنّة كثير، ولا يختلف النظّار من أهل السنّة، وغيرهم أنها مؤوّلة في حقّ الله تعالى؛ لأن المحبّة المتعارفة في حقّنا، إنما هي ميلٌ لما فيه غَرَض يستكمل به الإنسان ما نقصه، وسكون لما تلتذّ به النفس، وتكمل بحصوله، والله تعالى منزّه عن ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من أنه لا يختلف النظّار من أهل السنة
…
إلخ أراد به المتكلّمين، فليس هذا مذهب أهل السنة
من السلف، ومن تبعهم من أهل الحديث، فإنهم لا يؤوّلون صفة المحبّة التي أثبتها الله تعالى لنفسه، بل يثبتونها كما أثبتها على ظاهرها، على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وأما تفسيره المحبّة بأنها ميلٌ لما فيه غَرَض
…
إلخ فليس أحد ممن له عقل صريح يتخيّل المحبّة التي ثبتت لله سبحانه وتعالى بهذا المعنى، فإنها هي المحبّة الثابتة للمخلوق، وهذا التصوّر هو الذي حَمَل هؤلاء المؤولين على ما صاروا إليه من تحريف صفات الله تعالى، فلو أنهم نظروا إلى الحقيقة لوجدوا الفرق بين صفات الخالق، والمخلوق، فالله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، ومنها المحبّة والرضا، والغضب، ونحوها، على الوجه الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى، (تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا). ونسأل الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.
قال: وقد اختلف أئمتنا في تأويلها في حقّ الله تعالى، فمنهم من صرفها إلى إرادته تعالى إنعامًا مخصوصًا على من أخبر أنه يحبّه من عباده، وعلى هذا ترجع إلى صفة ذاته، ومنهم من صرفها إلى نفس الإنعام والإكرام، وعلى هذا فتكون من صفات الفعل، وعلى هذا المنهاج يتمشّى القول في الرحمة، والنعمة، والرضا، والغضب، والسخط، وما كان في معناها.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ جوابه ما تقدّم قبله، فمذهب السلف، وأهل الحديث أن هذه الصفات من الرحمة، والنعمة، والرضا، والغضب، والسخط، وما في معناها، صفات أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه، فهم يثبتونها له كما أثبتها لنفسه، من غير تشبيه، ولا تحريف، ومن غير تعطيل، ولا تأويل، بل هي على ظاهرها، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا داعي لتأويلها، ولأن المعاني التي يؤولون إليها يوجد فيها من المحذور على قولهم ما يلزم فيها؛ فإن الإنعام الذي أولت به المحبّة، أو إرادته هو أيضًا من صفات المخلوق، فإذا لزم التشبيه في المحبّة، لزم فيه أيضًا، فيفرّون من وَرْطَة، ويقعون في أخرى.
والحاصل أن التأويل مذهب فاسد؛ لأنه لا يحصل به التخلّص من المحذور الذي زعموه، فالحقّ أن تُثْبَت هذه الصفات لله تعالى، على ظاهرها الحقيقيّ، كما أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه، على ما يليق بجلاله، ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.
قال: فأما محبّة العبد لله تعالى، فقد تأوّلها بعض المتكلّمين؛ لأنهم فسّروا المحبّة بالإرادة، والإرادةُ إنما تتعلّق بالحادث، لا بالقديم.
ومنهم من قال: لأن محبتنا إنما تتعلّق بمستلذّ محسوس، والله تعالى منزّه عن ذلك، وهؤلاء تأولوا محبة العبد لله تعالى بطاعته له، وتعظيمه إياه، وموافقته له على ما يُريد منه.
وأما أرباب القلوب، فمنهم من لم يتأول محبّة العبد لله تعالى، حتى قال: المحبّة لله تعالى هي الميل الدائم بالقلب الهائم، وقال أبو القاسم القشيريّ: أما محبّة العبد لله تعالى، فحالة يجدها العبد من قلبه، تَلْطُف عن العبارة، وقد تحمله تلك الحالة على التعظيم لله تعالى، وإيثار رضاه، وقلّة الصبر عنه، والاحتياج إليه، وعدم الفرار عنه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره.
قال: فهؤلاء قد صرّحوا بأن محبّة العبد لله تعالى هي ميلٌ من العبد، وتَوَقَانٌ، وحالٌ يجدها المحبّ من نفسه، من نوع ما يجده في محبوباته المعتادة له، وهو صحيح، والذي يوضّحه أن الله تعالى قد جبلنا على الميل إلى الحسن، والجمال، والكمال، فبقدر ما ينكشف للعاقل من حسن الشيء، وجماله، مال إليه، وتعلّق قلبه به، حتى يُفضي الأمر إلى أن يستولي ذلك المعنى عليه، فلا يقدر على الصبر عنه، وربّما لا يشتغل بشيء دونه.
ثم الحسن، والكمال نوعان: محسوسٌ، ومعنويّ، فالمحسوس، كا لصور الجميلة المشتهاة لنيل اللذّة الجسمانيّة، وهذا في حقّ الله تعالى محال قطعًا.
وأما المعنويّ، فكمن اتّصف بالعلوم الشريفة، والأفعال الكريمة، والأخلاق الحميدة، فهذا النوع تميل إليه النفوس الفاضلة، والقلوب الكاملة ميلًا عظيمًا، فترتاح لذكره، وتتنعّم بخُبْرِه، وخَبَرِه، وتهتزّ لسماع أقواله، وتتشوّف لمشاهدة أحواله، وتلتذّ بذلك لذّة روحانيّة، لا جسمانيةً، كما تجده عند ذكر الأنبياء، والعلماء، والفضلاء، والكرماء، من الميل، واللذّة، والرّقّة، والأُنس، وإن كنّا لا نعرف صورهم المحسوسة، وربّما قد نسمع أن بعضهم من غير الأنبياء قبيح الصورة الظاهرة، أو أعمى، أو أجذم، ومع ذلك، فذلك الميلُ والأنس، والتشوّق موجودٌ لدينا، ومن شكّ في وجدان ذلك، أو أنكره، كان عن جبِلّة الإنسانيّة خارجًا، وفي غمار المعتوهين والجًا.
وإذا تقرّر ذلك، فإذا كان هذا الموصوف بذلك الكمال، قد أحسن إلينا، وفاضت نعمه علينا، ووصلنا ببرّه، وعطفه، ولطفه، تضاعف ذلك الميل، وتجدّد ذلك الأنس، حتى لا نصبر عنه، بل يستغرقنا ذلك الحال إلى أن نَذْهَل عن جميع الأشغال، بل ويطرأ على المشتهر بذلك نوع اختلال، وإذا كان ذلك في حقّ من كماله، وجماله، مقيّدًا مشوبًا بالنقص، معَرَّضًا للزوال، كان مَنْ كماله وجماله واجبًا مطلقًا، لا يشوبه نقصٌ، ولا يعتريه زوال، وكان إنعامه، وإحسانه أكثر بحيث لا ينحصر، ولا يُعدّ، أولى بذلك الميل، وأحقّ بذلك الحبّ، وليس ذلك إلا لله وحده، ثم لمن خصّه الله تعالى بما شاء من ذلك الكمال، وأكمل نوع الإنسان محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تحقّق ما ذكرناه، واتّصف بما وصفناه، كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، ومن كان كذلك تأهّل للقائهما بالاتصاف بما يُرضيهما، واجتناب ما يُسخطهما، ويستلزم ذلك كلّه الإقبال بالكلّيّة عليهما، والإعراض عمّا سواهما إلا بإذنهما، وأمرهما. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو كلام نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح" عن بعضهم: محبة الله على قسمين: فرض، وندب.
[فالفرض]: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره، والانتهاء عن معاصيه، والرضا بما يُقَدّره، فمن وقع في معصية، مِن فِعْلِ مُحَرَّم، أو ترك واجب، فلتقصيره في محبة الله، حيث قَدَّم هَوَى نفسه، والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات، والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء، فيُقْدِم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يُسرع إلى الإقلاع مع الندم، وإلى الثاني يشير حديث:"لا يَزْنِي الزاني، حين يزني، وهو مؤمن".
[والندب]: أن يواظب على النوافل، ويتجنب الوقوع في الشبهات، والمتصف عمومًا بذلك نادر، قال: وكذلك محبة الرسول على قسمين، كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئًا من المأمورات والمنهيات، إلا من مشكاته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حَرَجًا بما قضاه،
(1)
"المفهم" 1/ 212 - 214.
ويتخلق بأخلاقه في الجود، والإيثار، والحلم، والتواضع، وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك، وجد حلاوة الإيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك. انتهى
(1)
.
(مِمَّا سِوَاهُمَا) لم يقل: "ممن" لكون "ما" أعمّ (وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ) بالنصب على المفعوليّة (لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ) جملة حاليّةٌ تحتمل أن تكون من الفاعل، أو المفعول، أو كليهما معًا، أفاده الكرمانيّ
(2)
.
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: يعني بالمرء هنا: المسلم المؤمن؛ لأنه هو الذي يمكن أن يُخْلَصَ لله تعالى في محبّته، وأن يُتقرَّب لله تعالى باحترامه، وحرمته، فإنه الموصوف با لأخوّة الإيمانيّة، والمحبّة الدينيّة، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الآية [الحجرات: 10]، وكما قال تعالى:{فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
وقد أفاد هذا الحديث أن محبّة المؤمن الموصلة لحلاوة الإيمان لا بدّ أن تكون خالصة لله تعالى، غير مشوبة بالأعراض الدنيويّة، ولا الحظوظ البشريّة، فإن من أحبّه لذلك انقطعت محبّته إن حصل له ذلك الغرض، أو يئس من حصوله، ومحبة المؤمن وظيفة متعيّنة على الدوام، وُجدت الأعراض، أو عُدمت.
ولَمّا كانت المحبّة للأعراض هي الغالبة قَلّ وجدان تلك الحلاوة، بل قد انعدم، لا سيّما في هذه الأزمان التي قد امّحَى فيها أكثر رسوم الإيمان.
وعلى الجملة فمحبّة المؤمنين من العبادات التي لا بدّ فيها من الإخلاص في حسن النيّات. انتهى
(3)
.
وقال يحيى بن معاذ: حقيقة الحبّ في الله أن لا يزيد بالبرّ، ولا ينقص بالجفاء، ذكره في "الفتح"
(4)
.
(وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ) أي أن يرجع (فِي الْكُفْرِ) أي يصير فيه، أو يرجع إليه (بَعْدَ أَنْ) بفتح الهمزة: هي المصدريّة (أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ) أي خلّصه، ونجّاه، وهو
(1)
"فتح" 1/ 87 - 88.
(2)
"شرح البخاريّ" 1/ 100.
(3)
"المفهم" 1/ 214 - 215.
(4)
"فتح" 1/ 89.
من الإنقاذ، كما قال تعالى:{فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} الآية [آل عمران: 103]، وثلاثيّه النَّقْذُ، قال ابن دُريد: النَّقْذُ مصدر نَقِذَ بالكسر يَنقَذ نَقَذًا بالتحريك: إذا نجى.
وفي رواية للبخاريّ: "وأن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يُقذف في النار":
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذه الكراهية مُوحِيَةٌ لما انكشف للمؤمن من حسن الإسلام، ولمَا دخل قلبه من نور الإيمان، ولمَا خلّصه من الله تعالى من رذائل الجهالات، وقُبْح الكفران، والحمد لله. انتهى.
وقال في "الفتح": والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداءً، بأن يولد على الإسلام ويستمرّ، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيُحْمَل قوله:"يعود" على معنى الصيرورة، بخلاف الثاني، فإن العود فيه على ظاهره.
[فإن قيل]: فلِمَ عَدَّى العودَ بـ "في"، ولم يُعَدِّه بـ "إلى"؟.
[فالجواب]: أنه ضمّنه معنى الاستقرار، وكأنه قال: يستقر فيه، ومثله قوله تعالى:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89]. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[17/ 173](43)، وفي [17/ 174]، وفي [17/ 175] بالأسانيد المذكورة.
و (البخاريّ) في "الإيمان"(16 و 21) و"الأدب"(6041)، و"الإكراه" 6941، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2624) عن ابن أبي عمر، عن عبد الوهاب به، و (النسائيّ) في "الإيمان" 8/ 96، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4033)،
(1)
"فتح" 1/ 89.
و (الطيالسيّ)(1959)، و (أحمد) 3/ 103 و 3/ 174 و 248، و (ابن حبّان) 237 و 238، و (ابن منده) 283، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(21)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(724)، و (الصغير) 1/ 257 و 258، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حلاوة الإيمان، وهي من الأمور المحسوسة التي يجدها العبد المؤمن في باطنه، كما مضى تحقيقه، وليست من المجاز، كما ادُّعِي.
2 -
(ومنها): أن هذا الحديث حديثٌ عظيم، وأصل من أصول الدين، وكيف لا، وفيه محبّة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم التي هي أصل الإيمان، بل عينه.
3 -
(ومنها): أن لهذه الحلاوة علامة تتحقّق بها، وتحصل عندها، وهي الأمور المذكورة في هذا الحديث.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على فضل من أُكره على الكفر، فترك البتة إلى أن قُتل.
5 -
(ومنها): ما قيل: إنما قال: "مما سواهما"، ولم يقل:"ممن"؛ ليعم من يعقل، ومن لا يعقل.
6 -
(ومنها): ما قيل أيضًا: إن في قوله: "مما سواهما" دليلًا على أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله صلى الله عليه وسلم للذي خطب، فقال: ومن يعصهما: "بئس الخطيب أنت"، فليس من هذا؛ لأن المراد في الْخُطَب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ؛ ليحفظ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله في موضع آخر، حيث قال:"ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه".
[واعتُرض]: بأن هذا الحديث إنما ورد أيضًا في حديث خطبة النكاح.
[وأجيب]: بأن المقصود في خطبة النكاح أيضًا الإيجاز، فلا نقض، وثَمَّ أجوبة أخرى:
[منها]: دعوى الترجيح، فيكون حَيِّزُ المنع أولى؛ لأنه عام، والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل، والآخر مبنيّ على الأصل، ولأنه قول، والآخر فعل. ورُدَّ بأن احتمال التخصيص في القول أيضًا حاصل، بكل قول ليس فيه صيغة عموم أصلًا.
[ومنها]: دعوى أنه من الخصائص، فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جَمَعَ أَوْهَم إطلاق التسوية، بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، وإلى هذا مال ابن عبد السلام.
[ومنها]: دعوى التفرقة بوجه آخر، وهو أن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مكان المضمر، وكلام الذي خطب جملتان، لا يُكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر.
وتُعُقِّب هذا بأنه لا يلزم من كونه لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر، أن يكره إقامة المضمر فيهما مقام الظاهر، فما وجه الرد على الخطيب، مع أنه هو صلى الله عليه وسلم جمع كما تقدم؟.
ويجاب بأن قصة الخطيب كما قلنا، ليس فيها صيغة عموم، بل هي واقعة عين، فيحتمل أن يكون في ذلك المجلس مَن يُخشَى عليه توهم التسوية، كما تقدم.
ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين حديث الباب، وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية، إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله تعالى مثلًا، ولا يحب رسوله صلى الله عليه وسلم لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]، فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبة العباد، ومحبة الله تعالى للعباد، وأما أمر الخطيب بالإفراد، فلأن كل واحد من العصيانين، مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} الآية [النساء: 59]، فأعاد أطيعوا في الرسول، ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة، كاستقلال الرسول. انتهى مُلَخَّصًا من كلام البيضاوي، والطيبي.
[ومنها]: أجوبة أخرى فيها تكلف، منها أن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه.
[ومنها]: أن له أن يجمع بخلاف غيره. ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[174]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لله، وَمَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجعَ في الْكُفْر، بَعْدَ أَنْ أنقَذَهُ اللهُ مِنْهُ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عُبيد الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبت [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بـ "غُنْدَر" الْهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقة، صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج بن الورد الْعَتكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقة ثبت حجة إمام عابدٌ [7](ت.16)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ ص 381.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة ثبتٌ رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: "وجد طعم الإيمان" هو بمعنى "حلاوة الإيمان"، قال ابن الأثير الطَّعْم بالفتح: ما يُؤدِّيه ذوقُ الشيء من حلاوة، ومَرارة، وغيرهما، وله حاصلٌ ومَنْفَعَة، والطُّعْمُ بالضمّ: الأكل. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ: "الطَّعْم" بالفتح: ما يُؤدّيه الذوْقُ، فيقال: طَعْمه حُلْو، أو
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 88 - 89.
(2)
"النهاية" 3/ 125.
حامضٌ، وتغيَّرَ طَعْمُهُ: إذا خَرَجَ عن وصفه الْخِلْقِيّ. انتهى
(1)
.
وقوله: "بعد أن أنقذه الله" أي بعد أن خلّصه الله، ونجّاه من الكفر؛ لأن أنقذ بمعنى حَفِظ بالعصمة ابتداءً بأن يولد على الإسلام، ويستمرّ بهذا الوصف على الدوام، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وتمام شرح الحديث، وما يتعلّق به من المسائل قد تقدّم في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[175]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَنْبَأَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "مِنْ أَنْ يَرْجعَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسَجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلِ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
3 -
(حَمَّاد) بن سلمة بن دينار، أبو أُسامة البصريّ، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(ثَابِت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4]، مات سنة بضع ومائة وعشرين، وله (86) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والصحابيّ سبق في السند الماضي.
وقوله: (بنحو حديثهم) الضمير لمشايخ المصنّف المذكورين في السندين السابقين، يعني حديث إسحاق بن منصور كنحو حديثهم.
[تنبيه]: طريق حماد هذه أخرجها أحمد في "مسنده" 3/ 230 و 288 فقال:
(1)
"المصباح المنير" 2/ 373.
(12927)
حدثنا يونس، وحسن بن موسى قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنّ فيه وَجَدَ بهنّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ورجل يُحِبّ رجلًا لا يحبه إلا لله، ورجل أن يُقْذَف في النار أحبُّ إليه من أن يَرْجِع يهوديًّا، نصرانيًّا"، قال حسن:"أو نصرانيًّا".
(13556)
حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث من كُنّ فيه وَجَد حلاوة الإيمان: من كان الله عز وجل، ورسوله أحب إليه مما سواهما، والرجل يُحب الرجل لا يحبه إلا لله، والرجل أن يُقْذَف في النار أحب إليه من أن يَرْجِع يهوديًّا، أو نصرانيًّا".
وقوله: (غير أنه قال
…
إلخ) يعني أن إسحاق قال: "من أن يرجع يهوديًّا، أو نصرانيًّا" بدل قول الأوَّلين: "وأن يكره أن يعود في الكفر
…
إلخ"، وقول الآخِرَينِ: "من أن يرجع في الكفر"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(18) - بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[176]
(44) - (وحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا إِسْمَعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ
…
(ح) وحَدَّثنَا شَيْبَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَارِث، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيز، عَنْ أنسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ - وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ: الرَّجُلُ - حَتَّى كُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [10](ت 234)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم، وعُليّة أمه، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(شَيْبَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: شيبان بن فَرُّوخ الْحَبَطيُّ
(1)
، أبو محمد الأُبُلّيّ
(2)
، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 236)(م دس) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
4 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذَكْوَان الْعَنْبَريّ مولاهم، أو عُبيدة التَّنُّوريّ - بفتح المثنّاة، وتشديد النون - البصريّ، أحد الأعلام، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ويقال: لم يثبُت عنه [8].
رَوَى عن عبد العزيز بن صُهيب، وشعيب بن الحبحاب، وأبي التياح، ويحيى بن إسحاق الحضرمي، وأيوب السختياني، وأيوب بن موسى، وداود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وحسين المعلم، وسعيد الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم.
ورَوَى عنه الثوري، وهو أكبر منه، وابنه عبد الصمد، وعَفّان بن مسلم، ومُعَلَّى بن منصور، ومسدد، وعارم، وأبو معمر الْمُقْعَد، وحَبّان بن هلال، وحميد بن مسعدة، وأبو عاصم النبيل، وقتيبة، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وشيبان بن فَرُّوخ، وغيرهم.
قال معاذ بن معاذ: سألت أنا ويحيى بن سعيد شعبة عن شيء من حديث أبي التَّيّاح، فقال: ما يمنعكم من ذاك الشابّ؟ - يعني عبد الوارث - فما رأيت أحدًا أحفظ لحديث أبي التياح منه، وقال القواريري: كان يحيى بن سعيد يُثَبِّته، فإذا خالفه أحد من أصحابه، قال: ما قال عبد الوارث، وقال أحمد: كان عبد الوارث أصح حديثًا عن حسين المعلم، وكان صالحًا في الحديث، وقال معاوية بن صالح: قلت ليحيى بن معين: مَن أثبت شيوخ البصريين؟ فقال: عبد الوارث، مع جماعة سماهم، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: هو مثل حماد بن زيد في أيوب، قلت: فالثقفي أحب إليك أو عبد الوارث؟ قال: عبد الوارث، قلت: فابنُ
(1)
بمهملة، وموحّدة مفتوحتين.
(2)
بضم الهمزة، والموحّدة، وتشديد اللام.
علية أحب إليك في أيوب أو عبد الوارث؟ قال: عبد الوارث، وقال أبو عمر الْجَرْميّ: ما رأيت فقيهًا أفصح منه، إلا حماد بن سلمة، وقال أبو علي الْمَوْصِلي: قَلّمَا جلسنا إلى حماد بن زيد، إلا نهانا عن عبد الوارث، وجعفر بن سليمان، وقال البخاري: قال عبد الصمد: إنه لمكذوب على أبي، وما سمعتُ منه يقول قط في القدر، وكلام عمرو بن عبيد، وقال أبو زُرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوقٌ، ممن يُعَدُّ مع ابن علية، ووهيب، وبشر بن المفضل، يُعَدّ من الثقات، هو أثبت من حماد بن سلمة، وقال النسائي: ثقةٌ ثَبْتٌ. وقال ابن سعد: كان ثقةً حجةً، تُوُفّي بالبصرة في المحرم سنة ثمانين ومائة، وقال ابن حبّان في "الثقات": بلغ ثمانيًا وسبعين سنة وشهرًا، قال: وكان قَدَريًّا متقنًا في الحديث، وقال ابن أبي خيثمة: ثنا الحسن بن الربيع: سألت عبد الله بن المبارك، فقلت: كنا نأتي عبد الوارث بن سعيد، فإذا حضرت الصلاة، تركناه وخرجنا، فقال: ما أعجبني ما فعلت، وكان يُرْمَى بالقدر، ثنا عبيد الله بن عمير قال: قال لي إسماعيل ابن علية: إذا حدثك عبد الوارث بحديث، وشَدَّ إسماعيل يده، أي خُذه، قال عبيد الله: لولا الرأي لم يكن به بأس، سمعته يقول: لولا أني أعلم أن كل شيء رَوَى عمرو بن عبيد حَقٌّ لما رويتُ عنه شيئًا أبدًا، قال عبيد الله: ومات في آخر ذي الحجة سنة (79)، وقال الساجي: كان قدريًّا صدوقًا متقنًا، ذُمَّ لبدعته، كان شعبة يُطْرِيه، وقال ابن معين: ثقة، إلا أنه كان يَرَى القدر، ويظهره، حدثني علي بن أحمد: سمعت هُدْبة بن خالد، سمعت عبد الوارث: يقول: ما رأيت الاعتزال قط، قال الساجيّ: الذي وَضَعَ منه الْقَدَرُ فقط، ووثقه ابن نمير، والعجلي، وغير واحد.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (53) حديثًا.
5 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن صُهَيب الْبُنَانيّ البصريّ، ثقة [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
وأما أَنَس رضي الله عنه فقد تقدّم في الحديث الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، فهو أعلى أسانيده، كما سبق بيانه في "شرح المقدّمة"، وهذا هو (5) من رباعيات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول لم يُخرج له الترمذيّ، والثاني تفرّد به هو وأبو داود والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه زُهير، فإنه نسائيّ، ثم بغداديّ، وأما شيبان، فإنه أُبُلّيّ، وهي من البصرة، قال في "القاموس": وأُبُلَّة، كعُتُلّة: موضع بالبصرة، أحد جِنان الدنيا
(1)
، وأما ضبط السيوطيّ له في "لبّ اللباب" 1/ 35 بضم الهمزة، وفتح الموحّدة، فإنه محلّ نظر، فتنبّه.
4 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، وقد تقدّم تمام البحث فيها غير مرّة.
5 -
(ومنها): قوله في السند الأول: حدّثني زهير، وفي الثاني: حدّثنا شيبانُ، إشارة إلى أنه سمعه من شيخه زُهير وحده، ومن شيخه شيبان مع غيره، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" بقوله:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"
…
وَقَارِيءٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
6 -
(ومنها): أن فيه "إسماعيل ابن عُلَيّة" فـ"عليّة" أمه، ولذا تكتب همزة الوصل في "ابن"؛ لعدم توفّر شروط حذفها، وهي التي نظمها الأجهوريّ بقوله:
احْذِفْ مِنِ "ابْنٍ" أَلِفًا إِنْ وَقَعَا
…
فِي وَسَطِ اسْمَيْنِ تَكُنْ مُتَّبِعَا
إِلَّا إِذَا أُضِيفَ لَلضَّمِيرِ
…
فَالأَلِفَ اكْتُبْ فِيهِ يَا سَمِيرِي
وَمِثْلُهُ إِنِ اسْمُهُ قَدْ حُذِفَا
…
كـ "أَكْرَمَ ابْنُ عُمَرٍ مَنْ أَنْصَفَا"
قُلْتُ وَفِي اسْتِثْنَاءِ ذَيْنِ نَظَرُ
…
إِذْ لَيْسَ بَيْنَ اسْمَيْنِ مَنْ يُذَكَّرُ
كَذَاكَ مَكْتُوبٌ بِصَدْرِ السَّطْرِ
…
أَوْ مَا نَسَبْتَهُ لِجَدٍّ فَادْرِ
أَوْ مَنْ لِغَيْرِ أَبِيهِ قَدِ انْتَسَبْ
…
كَخَالِهِ فَالْحُكْمُ ذَا لَهُ وَجَبْ
وَمَا بِهِ لِصِفَةٍ قَدْ عُدِلَا
…
لِخَبَرٍ كَذَلِكَ اللَّذْ فُصِلَا
مَوْصُوفُهُ مِنْهُ وَمَا يُثَنَّى
…
أَوْ عَدْلُ الاسْتِفْهَامِ صَدَّ عَنَّا
(1)
راجع: "القاموس" ص 863.
قَدْ قَالَ ذَا الشَّامِي وَبَعْضٌ "ابْنَةُ"
…
كـ "الابْنِ" فِي ذَا وَعَلَيْهِ الْعُهْدَةُ
(1)
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أنس) بن مالك رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ - وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ: الرَّجُلُ -) بدل "عبدٌ"، وفي الرواية التالية: "أحدكم"، قال في "الفتح": قوله: "الرجل" أشمل من جهة، و"أحدكم" أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيليّ: "لا يؤمن أحدٌ". انتهى.
(حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ) هو أفعل تفضيل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، إذ القياس أن يكون بمعنى الفاعل وفُصِل بينه وبين معموله بقوله:(إِلَيْهِ) لأن الممتنع الفصل بأجنبيّ، لا مطلقًا، مع أنه يُتوسّع في الظرف ما لا يُتوسَّع في غيره قاله الكرماني
(2)
، (مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ") من عطف العامّ على الخاصّ، وهل تدخل النفس في هذا العموم؟ الظاهرُ دخولها، وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام، كما سيأتي.
قال الإمام أبو سليمان الخطابيّ رحمه الله تعالى: لم يُرِد به حُبَّ الطبع، بل أراد به حب الاختيار؛ لأن حب الإنسان نفسه طبع، ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه لا تَصْدُق في حبي حتى تُفْنِي في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك. انتهى.
قال الطيبيّ: قوله: "ولا سبيل إلى قلبه" ليس بمطلق، وذلك أن المحبّ ينتهي في المحبّة إلى أن يتجاوز عن الهوى، فيؤثر هوى المحبوب على هوى نفسه، فضلًا عن محبة ولده، بل يُحتا أعداء نفسه؛ لمشابهتهم بمحبوبه، قال الشاعر [من البسيط]:
أَشْبَهْتَ أَعْدَائِي فَصِرْتُ أُحِبُّهُمُ
…
إِذْ صَارَ حَظِّيَ مِنْكَ حَظِّيَ مِنْهُمُ
(3)
(1)
راجع: "تحفة الحبيب حاشية إقناع الخطيب" 1/ 15.
(2)
"شرح البخاري" 1/ 97.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 443.
وقال ابن بَطّال، والقاضي عياض وغيرهما رحمهم الله تعالى: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام، كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة، كمحبة الولد، ومحبة مُشاكلة واستحسان، كمحبة سائر الناس، فجمع النبيّ صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته.
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان عَلِمَ أن حَقَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حَقِّ أبيه وابنه والناس أجمعين؛ لأن به صلى الله عليه وسلم استُنْقِذنا من النار، وهُدِينا من الضلال.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ومن محبته نُصْرَة سنته، والذّبّ عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل مالَهُ ونفسه دونه، قال: وإذا تَبَيَّن ما ذكرناه تبيّن أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومُفَضَّل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه، فليس بمؤمن. انتهى، ذكره النوويّ في "شرحه"
(1)
.
وقال في "الفتح": والمراد بالمحبة هنا حبّ الاختيار، لا حب الطبع، قاله الخطابي، وقال الطيبي: فيه إشعارٌ بالموازنة والترجيح، وتلميح إلى قضية النفس الأمّارة، واللوّامة، والمطمئنة، فإن الأمّارة مائلة إلى اللذّات، وحبّ العاجلة، والمطمئنّة مقابلة بها، مرجّحة لحبّ الآجلة، فإن من رَجَّح جانب الأمّارة كان حب أهله ووالده راجحًا على حبه صلى الله عليه وسلم، ومن رجّح جانب المطمئنة كان حكمه بالعكس، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]، ولا ارتياب أن من دخل في زمرة عباده المرتَضَين، وانخرط في سلك الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين لا يُحبّ أن ينكُص على عقبيه، فيُرجّح جانب الأهل والأولاد على جانبه صلى الله عليه وسلم، وهذا محال، وفي هذا التقرير أيضًا معنى قوله:"وجد حلاوة الإيمان"، وذلك أن النفس الأمارة موءوفة، كمن غلبت عليه الصفراء، فإنه لا يجد حلاوة العسل، فإذا صحّت واطمأنت زال عنه ذلك المرض، فيجد حلاوة الإيمان. انتهى كلام الطيبيّ
(2)
.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 15 - 16.
(2)
"الكاشف" 2/ 443.
وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال.
وتعقبه صاحب "المفهم" بأن ذلك ليس مرادًا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية، ليس مستلزمًا للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته، قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل، لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاريّ في "الأيمان والنذور" من حديث عبد الله بن هشام: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء، إلا من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر"
(1)
. انتهى.
فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا.
ومن علامة الحب المذكور: أن يَعرِض على المرء أن لو خُيِّر بين فقدِ غرض من أغراضه، أو فقدِ رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، أن لو كانت ممكنةً، فإن كان فقدها، أن لو كانت ممكنة أشد عليه، من فقدِ شيء من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
قال في "الفتح" 13/ 375: أي الآن عرفت، فنطقت بما يجب، وأما تقرير بعض الشرّاح: الآن صار إيمانك معتدًّا به، إذ المرء لا يُعتدّ بإيمانه حتى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ففيه سوء أدب في العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هذا في كلام الكبار عند عدم التأمل، والتحرّز، لاستغراق الفكر في المعنى الأصليّ، فلا ينبغي التشديد في الإنكار على من وقع ذلك منه، بل يُكتفى بالإشارة إلى الردّ، والتحذير من الاغترار به؛ لئلا يقع المنكر في نحو مما أنكره. انتهى.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[18/ 176 و 177](44) بهذه الأسانيد.
وأخرجه (البخاريّ) في "الإيمان"(15)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(19/ 5015 و 5016)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(67)، و (أحمد) في "باقي مسند المكثرين"(12403 و 12739 و 13499)، و (الدارميّ) في "الرقاق"(2624)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(164 و 165)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(22)، و (أبو عوانة) في "صحيحه"(1/ 33)، و (ابن منده) في "الإيمان"(284 و 285 و 286)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن حبّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علامة على كمال إيمان العبد.
2 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": في هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان: إما نفسه، وإما غيرها. أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها، سالمة من الآفات، وهذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفعٍ مَا على وجوهه المختلفة، حالًا ومآلًا، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة، وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه، البقاءَ الأبدي في النعيم السرمدي، وعَلِم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يُثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك، بحسب استحضار ذلك، والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم، من هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم، وبالله تعالى التوفيق. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 86.
3 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان، وهي مقارنة لمحبّة الله عز وجل، وقد قرنها الله تعالى بها، وتوعّد من قدّم عليهما محبّة شيء من الأمور المحبوبة طبعًا من الأقارب، والأموال، والأوطان، وغير ذلك، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الآية [التوبة: 24].
ولَمّا قال عمر رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلا من من نفسي، فقال:"لا يا عمر حتى أكون أحبّ إليك من نفسك"، فقال عمر رضي الله عنه: والله لأنت الآن أحبّ إليّ من نفسي، قال:"الآن يا عمر"
(1)
.
فيجب تقديم محبّة الرسول صلى الله عليه وسلم على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يُحبّه الإنسان غاية المحبّة، وإنما تتمّ المحبّة بالطاعة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31].
وسُئل بعضهم عن المحبّة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال. فعلامة تقديم محبّة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبّة كلّ مخلوق أنه إذا تعارضت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره، وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدّم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتثال أوامره على ذلك الداعي، كان دليلًا على صحة محبّته للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديمها على كلّ شيء، وإن قدّم على طاعته،
(1)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، ونصّه:
حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهب، قال: أخبرني حيوة، قال: حدثني أبو عَقِيل زَهْرَة بن مَعْبَد، أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا، والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر".
وامتئال أوامره شيئًا من هذه الأشياء المحبوبة طبعًا، دلّ ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التّامّ الواجب عليه.
وكذلك القول في تعارض محبّة الله، ومحبّة داعي الهوى والنفس، فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تبعٌ لمحبّة مُرسله عز وجل. هذا كلّه في امتثال الواجبات، وترك المحرّمات.
فإن تعارض داعي النفس، ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبّة إلى تقديم المندوبات على دواعي النفس، كان ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقرّبين المحبوبين المتقرّبين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبّة إلى هذه الدرجة، فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبّتهم الواجبة، ولم يزيدوا عليها. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
(ومنها): ما قاله أبو العبّاس القرطبي رحمه الله: هذا الحديث على إيجازه يتضمّن ذكر أصناف المحبّة، فإنها ثلاثة: محبة إجلال وإعظام، كمحبّة الوالد، والعلماء، والفضلاء؛ ومحبة رحمة، وإشفاق، كمحبة الولد؛ ومحبة مشاكلة، واستحسان، كمحبة غير من ذكرنا، وإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بدّ أن تكون راجحة على ذلك كلّه، وإنما كان ذلك؛ لأن الله تعالى قد كمّله على جميع جنسه، وفضّله على سائر نوعه بما جبله عليه من المحاسن الظاهرة، والباطنة، وبما فضله من الأخلاق الحسنة، والمناقب الجميلة، فهو أكمل مَن وطِئ الثرى، وأفضل من ركب ومشى، وأكرم من وافى القيامة، وأعلاهم منزلة في دار الكرامة.
قال القاضي أبو الفضل: فلا يصحّ الإيمان إلا بتحقيق إنافة قدر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومنزلته على كلّ والد، وولد، ومُحسنٍ، ومُفَضَّل، ومن لم يعتقد هذا، واعتقد سواه، فليس بمؤمن.
قال القرطبيّ: وظاهر هذا القول أنه صرف محبة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اعتقاد
(1)
"شرح البخاريّ " لابن رجب 1/ 49.
تعظيمه، وإجلاله، ولا شكّ في كفر من لا يعتقد عليه
(1)
، غير أن تنزيل هذا الحديث على ذلك المعنى غير صحيح؛ لأن اعتقاد الأعظميّة ليس بالمحبّة، ولا الأحبيّة، ولا مستلزمًا لها، إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام أمر، أو شخص، ولا يجد محبّته؛ ولأن عمر رضي الله عنه لَمّا سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين"، قال عمر: يا رسول الله أنت أحبّ إليّ من كل شيء، إلا نفسي، فقال:"ومن نفسك يا عمر"، قال: ومن نفسي، فقال:"الآن يا عمر"
(2)
. وهذا كلّه تصريحٌ بأن هذه المحبّة ليست باعتقاد تعظيم، بل ميل إلى المعتقد، وتعظيمه، وتعلّق القلب به، فتأمّل هذا الفرق، فإنه صحيح، ومع ذلك فقد خفي على كثير من الناس.
وعلى هذا المعنى الحديثُ - والله أعلم -: أن من لم يجد من نفسه ذلك الميل، وأرجحيّته للنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكمل إيمانه.
قال: على أني أقول: إن كل من صدّق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وآمن به إيمانًا صحيحًا، لم يَخْلُ عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، غير أنهم في ذلك متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، كما قد اتّفق لعمر رضي الله عنه حتى قال: من نفسي، ولهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، حين قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد كان وجهك أبغض الوجوه كلّها إليّ، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلها إليّ
…
الحديث. وكما قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: لقد رأيتني، وما أحد أحبّ إليّ من رسول الله، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه
(3)
. ولا شكّ في أن حظّ أصحابه صلى الله عليه وسلم من هذا المعنى أعظم؛ لأن معرفتهم لقدره أعظم؛ لأن المحبّة ثمرة المعرفة، فتقوى، وتضعف بحسبها.
(1)
هكذا عبارة "المفهم"، وفيها ركاكة، ولعل الأولى:"ولا شك في كفر من لا يعتقد ذلك"، والله تعالى أعلم.
(2)
رواه أحمد 4/ 336. وقد تقدم من رواية البخاريّ بنحوه.
(3)
رواه مسلم (121).
ومن المؤمنين من يكون مستغرقًا بالشهوات، محجوبًا بالغفلات عن ذلك المعنى في أكثر أوقاته، فهذا بأخسّ الأحوال، لكنه إذا ذُكّر بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بشيء من فضائله اهتاج لذكره، واشتاق لرؤيته بحيث يؤثر رؤيته، بل رؤية قبره، ومواضع آثاره على أهله، وماله، وولده، ونفسه، والناس أجمعين، فيخطُر له هذا، ويجده وجدانًا لا شكّ فيه، غير أنه سريع الزوال والذهاب؛ لغلبة الشهوات، وتوالي الغفلات، ويُخاف على من كان هذا حاله ذهاب أصل تلك المحبّة حتى لا يوجد منها حَبّة.
فنسأل الله تعالى الكريم أن يمُنّ علينا بدوامها، وكمالها، ولا يحجبنا عنها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[177]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ").
إسناد هذا الحديث تقدّم قبل حديثين، وكذلك شرح الحديث، وبيان مسائله المتعلّقة به سبق تحقيقها في الحديث الماضي، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (مِنْ وَلَدِه، وَوَالِدِهِ) قدّم الولد في رواية المصنّف على الوالد لمزيد الشفَقَة، وقدّم الوالد في رواية البخاريّ؛ نظرًا للأكثريّة؛ لأن كلّ أحد له والد من غير عكس.
وقوله: (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) من عطف العام على الخاصّ، قال في "الفتح": وذِكرُ الولد والوالد، أَدْخَلُ في المعنى؛ لأنهما أعزّ على العاقل من
(1)
"المفهم" 1/ 225 - 227.
الأهل والمال، بل ربما يكونان أعزّ من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضًا.
وهل تدخل الأم في لفظ "الوالد"؟، أن أريد به من له الولد فيعم، أو يقال: اكتُفِيَ بذكر أحدهما كما يُكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذُكر على سبيل التمثيل، والمراد الأعزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته، وذكرُ الناس بعد الوالد والولد، من عطف العام على الخاص، وهو كثير، وقدّم الوالد على الولد في رواية؛ لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدّم الولد في أخرى؛ لمزيد الشفقة. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية شعبة عن قتادة هذه مأمون فيها من تدليس قتادة؛ لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه، وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائيّ (5015)
(2)
، والله تعالى أعلبم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(19) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مِنَ خِصَالِ الإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[178]
(45) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ - أَوْ قَالَ: لِجَارِهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ").
هذا الإسناد هو الإسناد الماضي قبله، وهو مسلسلٌ بالبصريين أيضًا، وقد سبق الكلام عليه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وفي رواية النسائيّ:"قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا"،
(1)
"الفتح" 1/ 76.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 76.
فصرّح قتادة بالسماع (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) وفي الرواية التالية: "لا يؤمن عبدٌ"، والمراد به نفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيضٌ في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان.
[فإن قيل]: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنًا كاملًا، وإن لم يأت ببقية الأركان.
[أجيب]: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله:"لأخيه المسلم"، ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي، عن حسين المعلم بالمراد، ولفظه:"لا يبلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمان"، ومعنى الحقيقة هنا الكمال؛ ضرورةَ أن من لم يتصف بهذه الصفة، لا يكون كافرًا. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: "لا يؤمن": أي لا يَكْمُل إيمانه؛ إذ مَن غَشّ المسلم، ولا ينصحه مرتكب كبيرة، ولا يكون كافرًا بذلك، كما بيّنّاه غير مرّة، وعلى هذا فمعنى الحديث: أن الموصوف بالإيمان الكامل من كان في معاملته للناس ناصحًا لهم، مريدًا لهم ما يريده لنفسه، وكارهًا لهم ما يكره لنفسه، ويتضمّن أن يفضّلهم على نفسه؛ لأن كلّ أحد يحبّ أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحبّ لغيره ما يُحبّ لنفسه، فقد أحبّ أن يكون غيره أفضل منه، وإلى هذا المعنى أشار الفضيل بن عياض لَمّا قال لسفيان بن عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك، فما أدّيت لله الكريم النصيحة، فكيف، وأنت تودّ أنهم دونك؟. انتهى
(2)
.
(حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) بنصب "يُحِبَّ"؛ لأن "حتى" جارة، و"أن" بعدها مضمرة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"
…
حَتْمٌ كـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"
ولا يجوز الرفع، فتكون "حتى" عاطفة، فلا يصح المعنى؛ إذ عدم الإيمان ليس سببًا للمحبة.
[فإن قيل]: قوله: "لأخيه" ليس له عموم، فلا يتناول سائر المسلمين.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 83.
(2)
راجع: "المفهم" 1/ 227.
[وأجيب]: بأن معنى قوله: "لأخيه" للمسلمين؛ تعميمًا للحكم، أو يكون التقدير: لأخيه من المسلمين، فيتناول كلَّ أخ مسلم. قاله العينيّ
(1)
.
(- أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: لِجَارِهِ -) هكذا في رواية مسلم بالشكّ، وكذا هو في "مسند عبد بن حُميد" على الشكّ أيضًا، وهو في "صحيح البخاريّ" وغيره بلفظ "لأخيه" من غير شكّ
(2)
.
(مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ") أي "من الخير" كما ثبت في رواية النسائيّ بإسناد صحيح، و"الخير": كلمة جامعة تَعُمُّ الطاعات، والمباحات الدنيوية، والأخروية، وتُخرِج المنهيات؛ لأن اسم الخير لا يتناولها، والمحبة إرادة ما يعتقده خيرًا، قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسّه، كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته، كالفضل والكمال، وإما بإحسانه، كجَلْب نفع، أو دفع ضرر. انتهى ملخصًا.
والمراد بالميل هنا الاختياري، دون الطبيعي، والْقَسْريّ، والمراد أيضًا أن يحب أن يحصل لأخيه نظيرُ ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة، أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، لا مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه له؛ إذ قيام الجوهر، أو العرض بمحلّين محال. قاله في "الفتح".
وقال في "عمدة القاري" 1/ 160 ما حاصله: المحبّة مطالعة المنّة من رؤية إحسان أخيه، وبرّه، وأياديه، ونعمه المتقدّمة التي ابتدأ بها من غير عمل استحقّها به، وستره على معايبه، وهذه محبة العوامّ قد تتغيّر بتغيّر الإحسان، فإن زاد الإحسان زاد الحبّ، وإن نقصه نقصه. وأما محبّة الخواصّ، فهي تنشأ من مطالعة شواهد الكمال؛ لأجل الإعظام والإجلال، ومراعاة حقّ أخيه المسلم، فهذه المحبّة لا تتغيّر؛ لأنها لته تعالى، لا لأجل غَرَض دنيويّ. ويقال: المحبّة ههنا هي مجرّد تمنّي الخير لأخيه المسلم، فلا يَعْسُر ذلك إلا على القلب السقيم، غير المستقيم.
وقال القاضي عياض: المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يحب لأخيه ما يحب
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 161.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 16.
لنفسه" أن يحب لأخيه من الطاعات والمباحات، وظاهره يقتضي التسوية، وحقيقته التفضيل؛ لأن كلّ واحد يحبّ أن يكون أفضل الناس، فإذا أحبّ لأخيه مثله، فقد دخل هو من جملة المفضولين، وكذلك الإنسان يحب أن ينتصف من حقّه، ومظلمته، فإذا كانت لأخيه عنده مظلمة، أو حقّ بادر إلى الإنصاف من نفسه، وقد رُوي هذا المعنى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أنه قال لسفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: إن كنت تريد أن يكون الناس كلهم مثلك، فما أدّيت لله الكريم نصحه، فكيف وأنت تودّ أنهم دونك. انتهى.
وتعقّب الحافظ على القاضي عياض قوله: لأن كل واحد يحب أن يكون أفضل الناس، فقال: وفيه نظر، إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة؛ لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ويستفاد ذلك من قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} [القصص: 83]، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد، والغل، والحقد، والغش، وكلها خصال مذمومة. انتهى "فتح" 1/ 83.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة
…
إلخ" سيأتي الردّ على هذا، وأنه لا ينافي التواضع، آخر المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه]: من الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه، من الشرّ، ولم يذكره؛ لأن حبّ الشيء، مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه؛ اكتفاء، أفاده الكرمانيّ
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
(1)
"شرح البخاريّ" 1/ 95.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[19/ 178 و 179](45) بهذين الإسنادين.
و (البخاريّ) في "الإيمان"(13)، وفي "الأدب المفرد"(121)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2515)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(8/ 115، 2515)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(66)، و (أحمد) في "مسنده" 2/ 373، و (الدارميّ) في "الرقاق"(2623)، و (أبو عوانة) في "صحيحه"(1/ 30)، و (أبو نُعيم) في "المستخرج"(166 و 167)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان بعض خصال الإيمان، وذلك أن محبّة الإنسان لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه شعبة من شعب الإيمان، وعلامة على أنه مؤمن كامل الإيمان.
2 -
(ومنها): أن فيه دلالة على التواضع؛ لأنه إذا أحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه كان دليلًا على أنه بريء من الكبر، والحسد، والحقد، والغلّ، والغشّ، وغيرها من الأخلاق الدنيئة، والخصال الذميمة، بل هو متحلّ بالتواضع، واللِّين، والرفق، وإيثار إخوانه على نفسه، وغيرها من الأخلاق الكريمة، والشيم العظيمة.
3 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: لَمّا نفى النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يُحب لأخيه ما يُحبّ لنفسه، دلّ على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته، فإن الإيمان لا يُنفَى إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال: "لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن
…
" الحديث. وإنما يُحب الرجل لأخيه ما يُحبّ لنفسه إذا سلم من الحسد، والغلّ، والغشّ، والحقد، وذلك واجبٌ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا"، رواه مسلم، فالمؤمن أخو المؤمن، يحبّ له ما يُحبّ لنفسه، ويحزنه ما يحزنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر"، متّفقٌ عليه.
فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلةً من دين، أو غيره أحبّ أن يكون لأخيه نظيرها، من غير أن تزول عنه، كما قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: إني
لأمرّ بالآية من القرآن، فأفهمها، فأودّ أن الناس كلَّهم فهموا منها ما أفهم، وقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: ودِدتُ أن الناس كلّهم تعلّموا هذا العلمَ، ولم يُنسب إليّ منه شيء.
فأما حبّ التفرّد عن الناس بفعل دينيّ، أو دنيويّ، فهو مذموم، قال الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية [القصص: 83]، وقد قال عليّ رضي الله عنه وغيره: هو أن لا يُحبّ أن يكون نعله خيرًا من نعل غيره، ولا ثوبه خيرًا من ثوب غيره.
وفي الحديث المشهور في "السنن": "من تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوّأ مقعده من النار".
وأما الحديث الذي فيه أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحبّ الجمال، وما أحبّ أن يفوقني أحدٌ بشراك نعلي، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس هذا من الكبر"، فإنما فيه أنه أحبّ أن لا يعلو عليه أحدٌ، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس، بل يَصْدُق هذا أن يكون مساويًا لأعلاهم، فما حصل بذلك محبّة العلوّ عليهم، والانفراد عنهم، فإن حصل لأحد فضيلة خصّصه الله تعالى بها عن غيره، فأخبر بها على وجه الشكر، لا على وجه الفخر، كان حسنًا، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"أنا سيّد ولد آدم، ولا فخر، وأنا أول شافع، ولا فخر". رواه مسلم، ورواه البخاريّ بلفظ مغاير لهذا، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه الإبل، لأتيته. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: فأما حبّ التفرّد عن الناس بفعل دينيّ
…
إلخ فيه نظرٌ لا يخفى، فكيف يكون هذا مذمومًا، وقد جاء فيه تنافس الأنبياء والصالحين فيه، فقد قال الله تعالى عن سليمان عليه السلام:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] الآية، ومعلوم أن طلبه لملك لا ينبغي لغيره محبة للانفراد به، وقال تعالى في دعاء عباد الرحمن:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، ومعلوم أن من يحب أن يكون إمامًا يحب أن يكون رئيسًا في الخير على غيره.
ومن الغريب الاستدلال على ذلك بآية {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
(1)
راجع: "شرح البخاريّ لابن رجب" 1/ 45 - 47.
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} الآية؛ إذ هي لا تدلّ على ذلك، وإنما المراد بالعلو فيها علوّ التكبّر والتجبّر، لا علوّ الإصلاح والزعامة في الحقّ، ودونك ما قاله المفسّرون في معنى الآية المذكورة:
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يُخبر تعالى أن الدار الآخرة، ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض، أي تَرَفُّعًا على خلق الله، وتعاظمًا وتجبُّرًا بهم، ولا فسادًا فيهم، كما قال عكرمة: العلُوُّ: التجبر، وقال سعيد بن جبير: العلو: البَغْيُ، وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن منصور، عن مسلم البطين: العلوّ في الأرض: التكبر بغير حقّ، والفسادُ: أخذ المال بغير حقّ، وقال ابن جريج: لا يريدون علوًّا في الأرض تعظمًا وتجبرًا، ولا فسادًا عملًا بالمعاصي.
وقال ابن جرير: حدثنا وكيع، حدثنا أبي، عن أشعث السمان، عن أبي سلام الأعرج، عن عليّ، قال: إن الرجل ليُعجِبه من شِراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل في قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره، فإن ذلك مذموم، كما ثبت في "صحيح مسلم" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنه أُوحي إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد"، وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمُّل فهذا لا بأس به، فقد ثبت في "صحيح مسلم" أيضًا: أن رجلًا قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسنًا، ونعلي حسنةً، أفمن الكبر ذلك؟ فقال:"لا، إن الله جميل يحب الجمال"
(1)
. انتهى كلام ابن كثير
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً؟، قال:"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحقّ، وغَمْطُ الناس".
(2)
"تفسير ابن كثير" 3/ 403.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الآية ليست بحجة لما زُعِمَ من أن قصد التفرد عن الناس بخير من الخيور مذموم، فإن المفسّرين على أن المراد بالعلو فيها هو علوّ التجبّر والطغيان والبغي، لا علوّ الصلاح والإصلاح.
ومما يُتعجّب منه أنه ذكر أثر عليّ رضي الله عنه في تفسيره الآية، وفي سنده أشعث السمّان
(1)
متروك الحديث، بل كذّبه بعضهم، فكيف يثبت أثره، ويُحتجّ به، وقد أجاب عنه ابن كثير على تقدير ثبوته؟.
والحاصل أن محبة الإنسان لنفسه أن يكون إمامًا في الخير، ونحوه لا ينافي حديث الباب، ولا ينافي أيضًا التواضع، وكيف وهو أمنيّة عباد الله الصالحين، ففي "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا قال:"لأعطينّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" بات الصحابة يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها، ثم غَدَوا عليه، وكلهم يريد أن يعطاها، حتى قال عمر رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وفيهما أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأهل نجران:"لأبعثنّ معكم رجلًا أمينًا حق أمين" فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك مما يدلّ على محبّة كلّ منهم تقدّمه على الآخرين في الخير، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[179]
(
…
) - (وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّم، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ، حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ").
(1)
وفي تفسير ابن أبي حاتم: حدثني أشعث بن يزيد الدمشقيّ، وترجمه في "لسان الميزان" 1/ 706 فليُنظر.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فَرُّوخ التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ، ثقة متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
2 -
(حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ) هو: الحسين بن ذَكْوَان الْمُعَلِّم الْعَوْذِيّ - بفتح المهملة، وسكون الواو، بعدها معجمة - البصريّ الْمُكْتِبُ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [6].
رَوَى عن عطاء، ونافع، وقتادة، وعبد الله بن بُريدة، ويحيى بن أبي كثير، وبُدَيل بن مَيْسَرة، وسليمان الأحول، وعِدَّة.
ورَوَى عنه إبراهيم بن طَهْمَان، وشعبة، وابن المبارك، وعبد الوارث بن سعيد، والقطان، وغندر، وابن أبي عَدِيّ، ويزيد بن زُريع، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
قال ابنُ أبي خيثمة عن ابن معين: ثقة، وكذا قال أبو حاتم، والنسائيّ، وقال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: سألت ابن المديني: مَن أثبت أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ قال: هشام الدستوائي، ثم الأوزاعي، وحسين المعلم، وقال أبو داود: لم يرو حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، وقال الدارقطنيّ: من الثقات، وقال ابن سعد، والعجليّ، وأبو بكر البزار: بصريّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن المديني: لم يرو الحسين المعلم عن ابن بريدة، عن أبيه إلا حرفًا واحدًا، وكلُّها عن رجال أُخَر.
قال الحافظ: هذا يوافق قول أبي داود المتقدم، إلا في هذا الحرف المستثنى، وكأنه الحديث الذي تَعَقَّب به المزيّ قولَ أبي داود بأن أبا داود رَوَى في "السنن" من حديث حسين، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ استعملناه على عَمَل، فرزقناه رِزْقًا
…
" الحديث.
وقال أبو جعفر العُقَيليّ: ضعيف مضطرب الحديث، ثنا عبد الله بن أحمد، ثنا أبو بكر بن خلاد، سمعت يحيى بن سعيد، هو القطان، وذكر حسينًا المعلم، فقال: فيه اضطراب.
وأَرَّخ ابن قانع وفاته سنة (145).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
والباقون تقدّموا قريبًا، والسند مسلسل بالبصريين، كالأسانيد الماضية، وشرح الحديث ومسائله تقدّمت في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(20) - (بَابُ بَيَانِ تَحْرِيمِ إِيذَاءِ الْجَارِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[180]
(46) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أيُّوبَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابِريّ البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234) وله (77) سنة (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبت [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بن إياس السَّعْديّ المروزي، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صَدُوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع 130 (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ المدنيّ مولى الْحُرَقة، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه: يحيى، فبغداديّ، وقتيبة، فبغلانيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ) بفتح الميم، يقال: أَمِنَ زيدٌ الأسدَ أَمْنًا، وأَمِنَ منه، مثلُ سَلِمَ وزنًا ومعنًى، والأصل أن يُستعمَل في سكون القلب، يتعدّى بنفسه، وبالحرف، ويُعَدّى إلى ثان بالهمزة، فيقال: آمنته منه، قاله الفيّوميّ
(1)
. (جَارُهُ) يطلق الجار على عدّة معان، قال الفيّوميّ: جاوره مُجاورةً، وجِوَارًا، من باب قاتل، والاسم الْجُوَارُ بالضمّ: إذا لاصقه في السكن، وحكى ثَعْلبٌ عن ابن الأعرابيّ: الجارُ الذي يُجاورك بَيْتَ بَيْتَ، والجارُ الشريكُ في العقار مقاسمًا كان أو غير مقاسم، والجارُ الْخَفِيرُ، والجارُ الذي يُجير غيره، أي يُؤْمِنُهُ مما يَخَافُ، والجارُ المستجيرُ أيضًا، وهو الذي يَطْلُبُ الأمان، والجارُ الحليف، والجارُ الناصر، والجارُ الزوج، والجارُ أيضًا الزوجة، ويقال فيها أيضًا: جارةٌ، والجارةُ الضَّرَّة، قيل لها: جارةٌ؛ استكراهًا للفظ الضَّرَّة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه المعاني كلّها صالحة لأن تُراد في الحديث، والله تعالى أعلم.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الجار هنا يصلح للمجاور لك في مسكنك، ويصلح للداخل في جوارك وحُرمتك؛ إذ كلّ واحد منهما يجب الوفاء
(1)
"المصباح المنير" 1/ 24.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 114.
بحقّه، وتحرُم أذيّته تحريمًا أشدّ من تحريم أذى مطلق المسلمين. انتهى
(1)
.
(بَوَائِقَهُ") جمع بائقة: وهي الغائلة، والداهية، والفتك، قاله النوويّ
(2)
، وقال القرطبيّ: هي الداهية التي توبق صاحبها، أي تُهلكه. انتهى
(3)
. وقال الفيّوميّ: البائقة: النازلة، وهي الداهية، والشرّ الشديد، وباقت الداهيةُ: إذا نَزَلت، والجمع البوائق. انتهى
(4)
.
قال النوويّ رحمه الله: في معنى "لا يدخل الجنة" جوابان يَجريان في كلّ ما أشبه هذا:
[أحدهما]: أنه محمولٌ على من استحلّ الإيذاء، مع علمه بتحريمه، فهذا كافرٌ لا يدخلها أصلًا.
[والثاني]: معناه: جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فُتحت أبوابها لهم، بل يؤخّر، ثم قد يُجازَى، وقد يُعفى عنه، فيدخلها أوّلًا، وإنما تأوّلنا هذين التأويلين؛ لأنا قدّمنا أن مذهب أهل الحقّ أن من مات على التوحيد مصرًّا على الكبائر، فهو إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه، فأدخله الجنّة أوّلًا، وإن شاء عاقبه، ثم أدخله الجنة، والله تعالى أعلم
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى ما حاصله: إن من كان مُضرًّا لجاره، كاشفًا لعوراته، حريصًا على إنزال البوائق به كان ذلك منه دليلًا إما على فساد اعتقاد ونفاق، فيكون كافرًا، ولا شكّ في كونه لا يدخل الجنّة، وإما على استهانة بما عظّم الله تعالى من حُرْمة الجار، ومن تأكيد عهد الجوار، فيكون فاسقًا فِسْقًا عظيمًا، ومرتكب كبيرة، يُخاف عليه من الإصرار عليها أن يُختم عليه بالكفر، فإن المعاصي بريد الكفر، فيكون من الصنف الأول، وإن سَلِمَ من ذلك، ومات غير تائبٍ، فأمره إلى الله تعالى، فإن عاقبه بدخول النار لم يدخُل الجنة حين يدخلها من لم يكن كذلك، أو لا يدخل الجنّة الْمُعدَّة لمن قام بحقوق جاره، وعلى هذا القانون ينبغي أن يُحْمَلَ ما في هذا الباب مما قال
(1)
"المفهم" 1/ 228.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 17.
(3)
"المفهم" 1/ 228.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 66.
(5)
"شرح مسلم" 2/ 17.
النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن فاعله لا يدخل الجنّة، مما ليس بشرك؛ للأدلة المتقدّمة، ولما يأتي في أحاديث الشفاعة. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا انفرد به مسلم، فلم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[20/ 180](46) بهذا الإسناد فقط.
و (أحمد) في "مسنده"(2/ 373)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(121)، و (أبو نعيم) في "المسند المستخرج"(128)، و (أبو عوانة) في "صحيحه"(1/ 3)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم إيذاء الجار.
2 -
(ومنها): بيان كون إيذاء الجار من الكبائر.
3 -
(ومنها): نفي الإيمان عمّن لا يأمن جاره بوائقه، وأخرج البخاريّ من حديث أبي شُرَيح الْخُزاعيّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يَأْمَنُ جاره بوائقه".
قال ابنُ بطال رحمه الله تعالى: في هذا الحديث تأكيدُ حَقِّ الجار؛ لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفيُ الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل، ومراده الإيمان الكامل، ولا شكّ أن العاصي غير كامل الإيمان.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: إذا أُكِّد حَقّ الجار مع الحائل بين الشخص وبينه، وأُمر بحفظه، وإيصال الخير إليه، وكفّ أسباب الضرر عنه، فينبغي له
(1)
"المفهم" 1/ 228.
أن يُرَاعِي حَقَّ الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل، فلا يؤذهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات، فقد جاء أنهما يُسَرّان بوقوع الحسنات، وَيَحْزَنَان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما، وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات، والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحقّ من كثير من الجيران. انتهى ملخصًا
(1)
.
4 -
(ومنها): أن من يؤذي جاره يُحْرَم من دخول الجنّة إما تحريمًا أوّليًّا، أو تحريمًا مؤبَّدًا على التوجيه الذي أسلفناه.
5 -
(ومنها): من يُكْرِم جاره، ويقوم بمصالحه، مع مراعاة سائر الحقوق يكون مؤمنًا كامل الإيمان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(21) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى إِكْرَامِ الْجَارِ وَالضَّيْف، وَلُزُومِ الصَّمْتِ إِلَّا عَنِ الْخَيْر، وَكَوْنِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الإِيمَانِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[181]
(47) - (حَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عمران التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
(1)
راجع: "الفتح" 10/ 546.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو عبد الله البصريّ، ثقة حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ يهم قليلًا، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ، أبو بكر المدنيّ الإمام الحافظ الحجة الفقيه المشهور، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه المذكور في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن أبي سلمة.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا سلمة ممن اشتهر بكنيته، وقد اختُلف في اسمه، كما بيّنته آنفًا، وقيل: اسمه كنيته، وهو أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ) شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، خبره جملة "فليقل
…
إلخ" (كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) قال الأبيّ: هو من خطاب التهييج، أي من صفة المؤمن، لا أنه شرط حقيقة. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح الأبيّ" 1/ 151.
وقال الطوفيّ: ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لم يتّصف بما ذُكر، وليس مرادًا، بل أريد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنت ابني فأطعني؛ تهييجًا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي كونه ابنه. ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقال في موضع آخر: المراد به الإيمان الكامل، وخَصَّه "بالله، واليوم الآخر" إشارةً إلى المبدأ والمعاد، أي مَنْ آمن بالله الذي خلقه، وآمن بأنه سيجازيه بعمله، فليفعل الخصال المذكورات
(2)
. (فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ) بضم الميم
(3)
، أي ليسكت، يقال: صَمَت يصمُتُ من باب نصر، صَمْتًا وصُمُوتًا وصُمَاتًا بالضمّ فيهما: أي سَكَتَ، قال الجوهريّ: ويقال: أصمت بمعنى صَمَتَ، والتصميتُ: السكوتُ، والتصميت أيضًا: التسكيتُ.
ومعنى الحديث: أن من يريد التكلّم بشيء ينبغي له أن ينظر، فإن لم يَرَ فيه ضررًا على أحد تكلّم، وإن رأى فيه ذلك، أو شكّ فيه سكت.
وقد استُشْكِل التخيير الذي في قوله: "فليقل خيرًا أو ليصمت"؛ لأن المباح إذا كان في أحد الشقين، لَزِمَ أن يكون مأمورًا به، فيكون واجبًا، أو منهيًّا، فيكون حرامًا.
والجواب عن ذلك: أن صيغة أفعل في قوله: "فليقل"، وفي قوله:"ليسكت" لمطلق الإذن الذي هو أعمّ من المباح وغيره، نعم يلزم من ذلك أن يكون المباح حسنًا؛ لدخوله في الخير.
ومعنى الحديث: أن المرء إذا أراد أن يتكلم، فليفكر قبل كلامه، فإن عَلِم أنه لا يترتب غليه مفسدة، ولا يجرّ إلى محرّم ولا مكروه، فليتكلم، وإن كان مباحًا فالسلامة في السكوت؛ لئلا يَجُرَّ المباح إلى المحرم والمكروه، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الطويل الذي صححه ابن حبان:"وَمَن حَسَبَ كلامَهُ من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يَعْنِيه"، قاله في "الفتح"
(4)
.
(1)
"الفتح" 10/ 654.
(2)
"فتح" 10/ 548.
(3)
فما نقله في "الفتح" عن الطوفيّ من قوله: "سمعناها بكسرها، وهو القياس، كضرب يضرب" يحتاج إلى إثبات أهل اللغة له، فليُتأملْ.
(4)
"فتح" 10/ 654.
وقال النوويّ في "شرحه": معناه أنه إذا أراد أن يتكلم، فإن كان ما يتكلم به خيرًا محقّقًا، يثاب عليه، واجبًا أو مندوبًا، فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير، يثاب عليه، فليمسك عن الكلام، سواءٌ ظهر له أنه حرام أو مكروه، أو مباحٌ مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا، وقد قال الله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18].
واختلف العلماء في أنه هل يُكتَب جميع ما يَلْفِظ به العبد، وإن كان مباحًا لا ثواب فيه ولا عقاب؛ لعموم الآية، أم لا يُكتب إلا ما فيه جزاء، من ثواب أو عقاب؟ وإلى الثاني ذهب ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من العلماء، وعلى هذا تكون الآية مخصوصةً، أي ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء، وقد نَدَب الشرع إلى الإمساك عن كثير من المباحات؛ لئلا ينجرّ صاحبها إلى المحرمات أو المكروهات.
وقد أخذ الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى معنى الحديث، فقال: إذا أراد أن يتكلم فليفكر، فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه تكلم، وإن ظهر له فيه ضرَرٌ، أو شَكّ فيه أمسك. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
(وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِر، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) وكذا هو في حديث أبي شُرَيح بلفظ: "فليكرم جاره"، وفي رواية أبي هريرة التالية:"فلا يؤذ جاره"، وفي الرواية الثالثة:"فَلْيُحْسِن إلى جاره".
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: معنى الحديث أن من التزم شرائع الإسلام لَزِمه إكرام جاره وضيفه، وبِرّهما، وكل ذلك تعريفٌ بحقّ الجار، وحَثّ على حفظه، وقد أوصى الله تعالى بالإحسان إليه في كتابه العزيز، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه"، متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال في "الفتح": ورد تفسير الإكرام والإحسان للجار، وترك أذاه في عِدَّة أحاديث أخرجها الطبرانيّ، من حديث بَهْز بن حَكِيم، عن أبيه، عن
(1)
"شرح مسلم" 2/ 19.
جَدّه، والْخَرَائطيّ في "مكارم الأخلاق" من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وأبو الشيخ في "كتاب التوبيخ" من حديث معاذ بن جبل، قالوا: يا رسول الله ما حَقُّ الجار على الجار؟ قال: "إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مَرِضَ عُدتَهُ، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عُدتَ عليه، وإن أصابه خير هَنَّيْتَهُ، وإن أصابته مصيبة عَزَّيته، وإذا مات اتَّبَعْتَ جنازتَهُ، ولا تستطيل عليه بالبناء، فَتَحْجُب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قِدْرِك، إلا أن تَغْرِف له، وإن اشتريت فاكهةً، فأهد له، وإن لم تَفْعَل فأدخلها سِرًّا، ولا تُخْرِج بها ولدك؛ لِيُغِيظ بها ولده"، وألفاظهم متقاربة، والسياق أكثره لعمرو بن شعيب، وفي حديث بَهْز بن حكيم:"وإن أَعْوَز سترته"، وأسانيدهم واهية، لكن اختلاف مخارجها يُشْعِر بأن للحديث أصلًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "يُشعر بأن للحديث أصلًا" فيه نظر لا يخفى؛ إذ الأسانيد الواهية لا يتقوّى بعضها ببعض، فكيف تشعر بثبوت أصل الحديث؟ فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال: ثم الأمر بالإكرام يَختَلِف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فرضَ عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مستحبًّا، وَيجْمَع الجميع أنه من مكارم الأخلاق. انتهى
(1)
.
(وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِر، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) زاد في حديث أبي شُرَيح: "جائزته، قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافةُ ثلاثة أيام
…
" الحديث.
و"الضيف": يُطلق على الواحد، وغيره بلفظ واحد؛ لأنه في الأصل مصدر من ضافه ضَيْفًا، من باب باع: إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة، فيقال: ضيْفٌ، وضَيْفَةٌ، وأَضيافٌ، وضِيفانٌ، وأضفته، وضَيَّفتُهُ: إذا أنزلته، وقَرَيته، والاسم الضيافة، قال ثعلبٌ: ضفته: إذا نزلتَ به، وأنت ضَيفٌ عنده، وأضفته بالألف: إذا أنزلته عندك ضَيْفًا، وأضفته إضافةً: إذا لجأ إليك من خوف، فأجرتَهُ، واستضافني، فأضفتُهُ: استجارني، فأجرته، وتضيّفني، فضيّفته: إذا
(1)
"الفتح" 10/ 548.
طلب الْقِرَى، فقَرَيته، أو استجارك، فمنعته ممن يطلبه، وأضافه إلى الشيء: ضمّه إليه، وأماله، قاله الفيّوميّ
(1)
.
الضيافة من مكارم الأخلاق، ومحاسن الدين، ومن خلق النبيين عليهم الصلاة والسلام، والصالحين، قال الله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} [الذاريات: 24] قيل: أكرمهم إبراهيم عليه السلام بتعجيل قراهم، والقيام بنفسه عليهم، وطلاقة الوجه.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقد أوجبها الليث ليلةً واحدةً، واحتج بالحديث:"ليلةُ الضيف حقّ واجبٌ على كل مسلم"
(2)
، وبحديث عقبة:"إن نزلتم بقوم، فأمروا لكم بحقّ الضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي لهم".
وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم:"جائزتُهُ يومٌ وليلةٌ"، والجائزة العطية والمنحة والصلة، وذلك لا يكون إلا مع الاختيار، وقوله صلى الله عليه وسلم:"فليكرم"، و"ليحسن" يدل على هذا أيضًا، إذ ليس يُسْتَعمَل مثله في الواجب، مع أنه مضموم إلى الإكرام للجار، والإحسان إليه، وذلك غير واجب، وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الإسلام؛ إذ كانت المواساة واجبة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يخفى على من تأمّل أن ما أوّل به عامّة الفقهاء غير واضح، فالحقّ ما قاله الليث رحمه الله تعالى من وجوب الضيافة؛ لظهور حجّته، بل سيأتي ترجيح القول بوجوبها ثلاثة أيام، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
واختلفوا هل الضيافة على الحاضر والبادي أم على البادي خاصة؟ فذهب الشافعي رحمه الله، ومحمد بن عبد الحكم إلى أنها عليهما، وقال مالك، وسحنون: إنما ذلك على أهل البوادي؛ لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 366.
(2)
أخرجه أحمد 4/ 130 و 132 و 133، وأبو داود (3750)، وابن ماجه (3677)، وإسناده صحيح.
ومواضع النُّزُول، وما يُشتَرَى من المأكل في الأسواق، وقد جاء في حديث:"الضيافة على أهل الْوَبَر، وليست على أهل الْمَدَر"، لكن هذا الحديث عند أهل المعرفة موضوع، وقد تتعين الضيافة لمن اجتاز محتاجًا، وخيف عليه، وعلى أهل الذمة إذا اشتُرِطَت عليهم. انتهى كلام القاضي عياض
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يخفى أيضًا أن ما ذهب إليه الشافعيّ، وابن عبد الحكم من وجوب الضيافة على أهل الحاضر والبادي هو الأرجح؛ لعموم الأدلّة، وضعف متمسَّك من خالفهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[21/ 181 و 182 و 183](47) بهذه الأسانيد.
و (البخاريّ) في "كتاب الأدب"(6018) وفي "الرقاق"(6475)، و (أبو داود) في "الأدب"(5154)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2500)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2347)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 546)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 267 و 269 و 433 و 463)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(169 و 170 و 171 و 172 و 173)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(506 و 516)، و (ابن منده) في "الإيمان"(298 و 299 و 300 و 301)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 164)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(4121)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن هذه الأمور المذكورة في هذا الحديث من شعب الإيمان.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 286 - 289.
2 -
(ومنها): الأمر بلزوم الصمت إلا عن الخير، فإذا أراد أن يتكلّم بشيء ينبغي له أن يفكّر في ذلك، فإن كان ما يتكلّم به خيرًا يثاب عليه، واجبًا كان أو مندوبًا فليتكلّم به، وإن لم يظهر له خيريّته، سواء ظهر له أنه حرام، أو مكروه، أو مباح، فليُمسك عنه، فالكلام المباح مأمور بتركه، مخافة انجراره إلى الحرام.
3 -
(ومنها): الأمر بإكرام الجار.
4 -
(ومنها): الأمر بإكرام الضيف، وسيأتي تحقيق الخلاف في وجوبه وعدمه.
5 -
(ومنها): هذا الحديث من جوامع الكلم، لأن القول كلّه إما خير، وإما شرّ، وإما آيلٌ إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فَأَذِن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرّ، أو يؤول إلى الشرّ فأُمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت.
وقد أخرج الطبرانيّ، والبيهقيّ في "الزهد" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه نحو حديث الباب، بلفظ:"فليقل خيرًا لِيَغْنَم، أو ليسكت عن شرّ لِيَسْلَم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
6 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": قد اشتمل حديث أبي هريرة وأبي شُريح رضفا المذكوران في الباب على أمور ثلاثة، تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية، أما الأولان فمن الفعلية، وأولهما يرجع إلى الأمر بالتخلي عن الرذيلة، والثاني يرجع إلى الأمر بالتحلي بالفضيلة، وحاصله من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله، قولًا بالخير، وسكوتًا عن الشرّ، وفعلًا لما ينفع، أو تركًا لما يَضُرُّ، وفي معنى الأمر بالصمت عِدّة أحاديث:
منها: حديث أبي موسى، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقد تقدما.
وللطبرانيّ عن ابن مسعود رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ فذكر فيها:"أن يسلم المسلمون من لسانك".
ولأحمد، وصححه ابن حبان من حديث البراء رضي الله عنه رفعه في ذكر أنواعٍ من البر قال:"فإن لم تُطِقْ ذلك، فكُفّ لسانك إلا من خير".
وللترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "مَن صَمَتَ نَجَا"، وله من حديثه:"كثرةُ الكلام بغير ذكر الله تُقسِي القلب"، وله من حديث سفيان الثقفي رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تخاف عليّ؟ قال:"هذا"، وأشار إلى لسانه، وللطبراني مثله من حديث الحارث بن هشام رضي الله عنه، وفي حديث معاذ رضي الله عنه عند أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ: "أَخْبِرني بعمل يدخلني الجنة
…
" فذكر الوصية بطولها، وفي آخرها: "ألا أُخبرك بملاك ذلك كله؟ كُفَّ عليك هذا"، وأشار إلى لسانه
…
الحديث.
وللترمذي من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال:"أمسك عليك لسانك". انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): ما قاله العلامة، أبو محمد عبد الله بن أبي زيد المغربيّ: جِمَاعُ آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث:
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُت"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية:"لا تغضب"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وقال أبو القاسم القشيريّ رحمه الله تعالى: الصمت بسلامة هو الأصل، والسكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال، قال: وسمعت أبا عليّ الدقّاق يقول: من سكت عن الحقّ فهو شيطان أخرس، قال: فأما إيثار أصحاب المجاهدة السكوت، فلما عَلِمُوا ما في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حظّ النفس، وإظهار صفات المدح، والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق، وغير هذا من الآفات. وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: من عَدَّ كلامه من عمله، قَلَّ كلامه فيما لا يعنيه. وعن ذي النون رحمه الله تعالى: أصون الناس لنفسه أمسكهم للسانه، ذكره النوويّ في "شرحه"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"الفتح" 10/ 549.
(2)
شرح مسلم" 2/ 19 - 20.
(المسألة الرابعة): قال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه": "باب حقُّ الجوار في قرب الأبواب"، ثم أورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال:"إلى أقربهما منك بابًا".
قال في "الفتح": قوله: "أقربِهما" أي: أشدِّهما قُرْبًا، قيل: الحكمة فيه أن الأقرب يَرَى ما يدخل بيتَ جاره من هدية وغيرها، فيتشوّف لها، بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابةً لِمَا يَقَعُ لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة.
وقال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب؛ لأن الهدية في الأصل ليست واجبة، فلا يكون الترتيب فيها واجبًا، ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أولى، وفيه تقديم العلم على العمل.
واختُلِفَ في حَدِّ الجوار، فجاء عن عليّ رضي الله عنه:"من سَمِعَ النداء فهو جارٌ"، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار، وعن عائشة: حَدُّ الجوار أربعون دارًا من كل جانب، وعن الأوزاعي مثله، وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" مثله عن الحسن، وللطبراني بسند ضعيف، عن كعب بن مالك، مرفوعًا:"ألا إن أربعين دارًا جار"، وأخرج ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب:"أربعون دارًا عن يمينه، وعن يساره، ومن خلفه، ومن بين يديه"، وهذا يحتمل كالأولى، ويحتمل أن يريد التوزيع، فيكون من كل جانب عشرة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تكلّم الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى على هذا الحديث بكلام حسن طويل، لكنه مشتمل على نفائس العلوم، ودقائق الفهوم، أحببت إيراده في مسائل، وإن كان كثير منه سبق ذكره، إلا أن فيه زوائد سديدة، وعوائد مفيدة.
(المسألة الخامسة): في قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
…
إلخ"، فإنه يدلّ على أن هذه الخصال من خصال الإيمان، وقد سبق أن
(1)
راجع: "الفتح" 10/ 549 - 550.
الأعمال تدخل في الإيمان، وقد فسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة، قال الحسن: المراد بالصبر عن المعاصي، والسماحة بالطاعة.
وأعمال الإيمان تارةً تتعلق بحقوق الله، كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ومن ذلك قول الخير، والصمت عن غيره.
وتارةً تتعلق بحقوق عباده، كإكرام الضيف، وإكرام الجار، والكفّ عن أذاه، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن:
[أحدها]: قول الخير، والصَّمْتُ عما سواه، وقد رَوَى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال:"هل تملك لسانك؟ " قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: "فهل تملك يدك؟ " قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: "فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير"
(1)
.
وقد وَرَد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان، كما في "المسند" عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يستقيم إيمان عبد، حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه، حتى يستقيم لسانه"
(2)
.
وخَرّج الطبرانيّ من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان، حتى يَخْزُن من لسانه"
(3)
.
وخرّج الطبرانيّ من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنك لن تزال سالِمًا ما سكت، فإذا تكلمت كُتِب لك أو عليك"
(4)
.
وفي "مسند الإمام أحمد" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن
(1)
رواه الطبرانيّ في "الكبير"(818)، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 10/ 300، وحسّن إسناده.
(2)
أخرجه أحمد 3/ 198 ورجال إسناده ثقات، إلا أن فيه عنعنة قتادة.
(3)
أخرجه في "الأوسط" و"الصغير"، قال الهيثميّ في "المجمع" 10/ 302: فيه داود بن هلال، ذكره أبو حاتم، ولم يذكر فيه ضعفًا، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(4)
أخرجه في "الكبير" 20/ 137، قال الهيثميّ: رواه الطبرانيّ بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات. "مجمع" 10/ 300.
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من صَمَتَ نَجَا"
(1)
.
وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يَزِلّ بها في النار، أبعدَ ما بين المشرق والمغرب".
وخرّج الإمام أحمد، والترمذيّ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة، لا يَرَى بها بأسًا يَهْوِي بها سبعين خريفًا في النار"
(2)
.
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقِي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يَهْوِي بها في جهنم".
وخَرّج الإمام أحمد من حديث سُليمان بن سُحَيم، عن أمه، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيتكلم بالكلمة، فيتباعد بها أبعد من صنعاء"
(3)
.
وخرّج الإمام أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ من حديث بلال بن الحارث، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه"
(4)
.
وعن أم حبيبة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كلام ابن آدم عليه، لا له إلا ذكر الله عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"
(5)
.
(1)
حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 159 و 177، والترمذيّ (2501)، والدارميّ 2/ 299.
(2)
صححه ابن حبان (5706).
(3)
في سنده عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلّس.
(4)
أخرجه أحمد 3/ 469، والترمذيّ (2319) وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (280).
(5)
أخرجه الترمذيّ (2412)، وابن ماجه (3974)، وحسنه الترمذيّ، مع أن في سنده أم صالح بنت صالح لا يعرف حالها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليقل خيرًا، أو ليصمت" أَمْرٌ بقول الخير، وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمتُ عنه، بل إما أن يكون خيرًا، فيكون مأمورًا بقوله، وإما أنه غيرَ خير، فيكون مأمورًا بالصمت عنه، وحديثُ معاذ، وأم حبيبة يدلان على هذا.
وخرّج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ ثَكِلَتْك أمُّك، وهل تقول شيئًا إلا وهو لك أو عليك".
وقد قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]، وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يَكتُب الحسنات، والذي عن شماله يَكْتُب السيئات، وقد رُوي ذلك مرفوعًا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه بإسناد ضعيف
(1)
.
وفي "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم يصلي، فإنه يناجي ربه، والملك عن يمينه"، ورُوي من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن عن يمينه كاتب الحسنات"
(2)
.
واختلفوا هل يُكتَب كل ما يُتَكَلَّم به، أم لا يُكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب؟ على قولين مشهورين.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يُكتب كلُّ ما تكلم به من خير أو شرّ، حتى إنه ليكتب قوله: أكلتُ، وشربتُ، وذهبت، وجئت، حتى إذا كان يومُ الخميس عُرِض قولُه وعملُه، فأُقِرَّ ما كان فيه من خير أو شرّ، وأُلقي سائره، فذلك قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39].
وعن يحيى بن أبي كثير قال: رَكِبَ رجلٌ الحمارَ، فعَثَر به، فقال: تَعِسَ
(1)
رواه الطبرانيّ (7765 و 7787 و 7971) ولفظه: "صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، فإذا عَمِل حسنةً أثبتها، وإذا عمل سيئةً قال له صاحب اليمين: امكُث ستّ ساعات، فإن استغفر لم يكتب عليه، وإلا أثبت عليه سيئة"، وقال الهيثميّ في "المجمع" 10/ 208: رواه الطبرنيّ بأسانيد، ورجال أحدها وُثّقوا.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 364 بإسناد صحيح.
الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة أكتبها، وقال صاحب الشمال: ما هي من السيئات فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب اليمين من شيء فاكتبه، فأثبت في السيئات "تعس الحمار"
(1)
.
وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة فهو سيئة، وإن كان لا يعاقَب عليها، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها، وقد تقع مُكَفَّرَة باجتناب الكبائر، ولكن زمانها قد خَسِرَه صاحبها، حيث ذهبت باطلًا، فيحصل له بذلك حسرةٌ في القيامة، وأَسَفٌ عليه، وهو نوع عقوبة.
وخرّج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من قوم يقومون من مجلس، لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جِيفة حمار، وكان لهم حسرةً"
(2)
، وخرّجه الترمذيّ، ولفظه:"ما جلس قوم مجلسًا، لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم تِرَةً، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم"، وفي رواية لأبي داود، والنسائي:"من قعد مقعدًا، لم يذكر الله فيه، إلا كان عليه من الله تِرَةً، ومن اضطجع مُضْطَجَعًا، لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله تِرَة"، زاد النسائي:"ومن قام مقامًا، لم يذكر الله فيه، كان عليه من الله تِرَة"، وخرّج أيضًا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من قوم يجلسون مجلسًا، لا يذكرون الله فيه، إلا كان عليهم حسرةً يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة"
(3)
.
وقال مجاهد: ما جلس قوم مجلسًا، فتفرّقوا قبل أن يذكروا الله، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يَشْهَد عليهم بغفلتهم، وما جلس قوم مجلسًا، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم.
وقال بعض السلف: يُعْرَض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكلُّ
(1)
رواه ابن أبي شيبة 13/ 575، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 76.
(2)
صححه الحاكم 1/ 492، وابن حبان (590 و 592).
(3)
أخرجه النسائي في "اليوم والليلة"(409) و (410)، وصححه ابن حبان (592) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات، وخرّجه الطبراني، من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"ما من ساعة تمر بابن آدم، لم يذكر الله فيها بخير، إلا تحسَّر عندها يوم القيامة"
(1)
.
فمن هنا يُعْلَم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللَّهم إلا ما تدعو إليه الحاجة، مما لا بُدّ منه.
وقد رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إياكم وفضول الكلام، حسبُ امرئ ما بَلَغَ حاجته، وعن النخعي قال: يَهْلِك الناس في فضول المال والكلام.
وأيضًا: فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه، يوجب قساوة القلب، كما في الترمذي من حديث ابن عمر، مرفوعًا:"لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي"
(2)
.
وقال عمر رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به.
وخرجه العقيليّ من حديث ابن عمر، مرفوعًا بإسناد ضعيف.
وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتُسْأَل عن علم، فتخبر به، أو تَكَلَّم فيما يعنيك من أمر دنياك.
وقال رجل لسلمان رضي الله عنه: أوصني، قال: لا تتكلم، قال: ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم، قال: فإن تكلمت فتكلم بحقّ، أو اسكت.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه، ويقول: هذا أوردني الموارد
(3)
.
(1)
رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وقال الهيثمي في "المجمع": فيه عمرو بن الحصين العقيليّ، وهو متروك.
(2)
أخرجه الترمذيّ (2411) وفي سنده إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان، وقال عنه في "التقريب": صدوق، روى مراسيل، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله.
(3)
رواه مالك 2/ 988.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحقّ بطول سَجْنٍ من اللسان، وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت، وقال شميط بن عجلان: يا ابن آدم إنك ما سكت فأنت سالم، فإذا تكلمت فخذ حَذَرَك، إما لك وإما عليك.
وهذا باب يطول استقصاؤه، والمقصود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير، والسكوت عما ليس بخير.
وخرّج الإمام أحمد، وابن حبان من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما: أن رجلًا قال: يا رسول الله علمني عملًا يُدخلني الجنة
…
فذكر الحديث، وفيه قال:"فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تُطق ذلك فكُفّ لسانك إلا من خير"
(1)
.
فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لا بُدّ من الكلام بالخير، والسكوت عن الشرّ.
وكان السلف كثيرًا يَمدحون الصَّمْتَ عن الشرّ، وعما لا يَعْنِي؛ لشدّته على النفس، ولذلك يقع الناس فيه كثيرًا، فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم.
قال الفضيل بن عياض: ما حَجٌّ، ولا رباط، ولا جهاد أشدّ من حبس اللسان، ولو أصبحتَ يُهِمُّك لسانك أصبحت في همّ شديد، وقال: سَجْنُ اللسان سجن المؤمن، ولو أصبحت يُهمك لسانك أصبحت في غم شديد.
وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه: إن كان الكلام من فضة، فإن الصمت من ذهب، فقال: معناه: لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب.
وهذا يرجع إلى أن الكفّ عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات.
وتذاكروا عند الأحنف بن قيس أيما أفضلُ، الصمت أو النطق؟ فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: النطق أفضل؛ لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والنطق الحسن ينتفع به من سمعه.
(1)
صححه ابن حبان (374).
وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصامت على علم كالمتكلم على علم، فقال عمر: إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالًا، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين، وكيف بفتنة النطق؟ فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديدًا.
ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يومًا، فَرَقَّ الناس، وبَكَوا، فقطع خطبته، فقيل له: لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به، فقال عمر: إن القول فتنة، والفعل أولى بالمؤمن من القول.
وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر، فقيه أهل مصر في وقته، وكان أحد الحكماء: إذا كان المرء يحدث في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت، وإن كان ساكتًا فأعجبه السكوت فليحدث، وهذا حسنٌ، فإن من كان كذلك كان سكوته وحديثه بمخالفة هواه، وإعجابه بنفسه، ومَن كان كذلك كان جديرًا بتوفيق الله إياه، وتسديده في نطقه وسكوته؛ لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل.
وفي مراسيل الحسن رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: علامة الطُّهر أن يكون قلب العبد عندي متعلقًا، فإذا كان كذلك لم ينسني على حال، وإذا كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني، فإذا نسيني حَرَّكت قلبه، فإن تكلم تكلم لي، وإن سكت سكت لي، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي. خرّجه إبراهيم بن الجنيد.
وبكل حال فالتزام الصمت مطلقًا، واعتقاده قربةً إما مطلقًا، أو في بعض العبادات، كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه.
ورُوِي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن صيام الصمت، وخرّج الإسماعيلي من حديث علي رضي الله عنه: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العكوف، وفي "سنن أبي داود" من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا صُمَات يوم إلى الليل".
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حَجّت مصمتة: إن هذا لا يَحِلّ، هذا من عمل الجاهلية، وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: صوم الصَّمْت حرام. انتهى ما كتبه ابن رجب رحمه الله تعالى في الجزء الأول من
الحديث
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السادسة): في الأمر الثاني مما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المؤمنين، وهو إكرامُ الجار، وفي بعض الروايات النهي عن أذى الجار، فأما أذى الجار فمحرم؛ لأن الأذى بغير حقّ محرم لكل أحد، ولكن في حق الجار هو أشد تحريمًا.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أيُّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك"، قيل: ثم أيُّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قيل: ثم أيُّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك".
وفي "مسند الإمام أحمد" عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في الزنا؟ " قالوا: حرام، حَرَّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأن يزني الرجل بعشر نسوة، أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره"، قال:"فما تقولون في السرقة؟ " قالوا: حرام حرّمها الله ورسوله، فهي حرام، قال:"لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره".
وفي "صحيح البخاري" عن أبي شُرَيح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من لا يأمن جاره بوائقه"، وخرّجه الإمام أحمد وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".
وخرّج الإمام أحمد، والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا قال: قيل: يا رسول الله إن فلانة تصلي بالليل، وتصوم النهار، وفي لسانها شيءٌ، تؤذي جيرانها، سَلِيطةٌ، قال:"لا خير فيها، هي في النار"، وقيل له: إن فلانة
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 332 - 343.
تصلي المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار
(1)
، وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي أحدًا، قال:"هي في الجنة"، ولفظ الإمام أحمد:"ولا تؤذي بلسانها جيرانها"
(2)
.
وخرّج الحاكم من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه وصححه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال له:"اطرَح متاعك في الطريق"، قال: فجعل الناس يمرّون به، ويلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما لقيتُ من الناس، قال:"وما لقيت؟ " قال: يلعنوني، قال:"فقد لعنك الله قبل الناس"، قال:"يا رسول الله، فإني لا أعود"، وخرّجه أبو داود بمعناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولم يذكر فيه:"فقد لعنك الله قبل الناس"
(3)
.
وخرّج الخرائطي من حديث أم سلمة رضي الله عنه، قالت: دخلت شاة لجارة لنا، فأخذت قرصة لنا، فقصت إليها فأخذتها من بين لحييها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنه لا قليلَ من أذى الجار"
(4)
.
فأما إكرام الجار والإحسان إليه فمأمور به، وقد قال الله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} [النساء: 36]، فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكر حقّه على العبد، وحقوق العباد على العباد أيضًا، وجَعَل العباد الذين أمر بالإحسان إليهم خمسة أنواع:
[أحدها]: مَن بينه وبين الإنسان قرابة، وخَصّ منهم الوالدين بالذكر؛
(1)
"الأثوار جمع ثَوْر، وهو القطعة العظيمة من الأقط.
(2)
رواه أحمد (2/ 440)، والبخاريّ في "الأدب المفرد"(119)، وصححه الحاكم في "المستدرك" 4/ 166 ووافقه الذهبيّ، مع أن فيه أبا يحيى مولى جعدة بنت هُبيرة، لم يرو عنه غير الأعمش.
(3)
صححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.
(4)
رواه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 23/ 535، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 8/ 170، وقال: رجاله ثقات.
لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يَشْرَكونهما فيه، فإنهما كانا السبب في وجود الولد، ولهما حق التربية والتأديب، وغير ذلك.
[الثاني]: مَن هو ضعيف محتاج إلى الإحسان، وهو نوعان: من هو محتاج؛ لضعف بدنه، وهو اليتيم، ومن هو محتاج؛ لقلة ماله، وهو المسكين.
[والثالث]: من له حقّ القرابة، والمخالطة، وجعلهم ثلاثة أنواع: جار ذو قربى، وجار جُنُب، وصاحبٌ بالجنب.
وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فمنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار الذي له قرابة، والجار الجنُب: الأجنبي، ومنهم من أدخل المرأة في الجار ذي القربى، ومنهم من أدخلها في الجار الجنب، ومنهم من أدخل الرفيق في السفر في الجار الجنب، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه:"أعوذ بك من جار السوء في دار الإقامة، فإن جار البادية يتحول"
(1)
.
ومنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار المسلم، والجار الجنب: الكافر، وفي "مسند البزار" من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"الجيران ثلاثة: جار له حقّ واحد، وهو أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقًّا، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك، لا رَحِمَ له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم، له حق الإسلام، وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق، فجار مسلم، ذو رَحِمٍ، فله حق الإسلام، وحق الجوار، وحق الرحم"
(2)
.
وقد رُوي هذا الحديث من وجوه أخرى متصلة ومرسلة، ولا تخلو كلها من مقال.
وقيل: الجار ذو القربى: هو القريب الملاصق، والجار الجنب: البعيد الجوار.
(1)
رواه أحمد 2/ 346، والبخاري في "الأدب المفرد"(117)، والنسائيّ 8/ 274، وصححه ابن حبان (1033)، والحاكم 1/ 532 ووافقه الذهبيّ.
(2)
رواه البزار (1896)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 207 من طريق الحسن البصري، عن جابر، ولم يسمع منه، وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 164: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثيّ، وهو وضّاع.
وفي "صحيح البخاري" عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال:"إلى أقربهما بابًا".
وقال طائفة من السلف: حَدّ الجوار أربعون دارًا، وقيل: مُستدار أربعين دارًا من كل جانب.
وفي مراسيل الزهري أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جارًا له، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن ينادي: ألا إن أربعين دارًا جار، قال الزهري: وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، يعني ما بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله.
وسئل الإمام أحمد عمن يطبُخ قدرًا، وهو في دار السبيل، ومعه في الدار نحو ثلاثين، أو أربعين نفسًا، يعني أنهم سكان معه في الدار، قال: يبدأ بنفسه، وبمن يعول، فإن فضل أعطى الأقرب إليه، وكيف يمكنه أن يعطيهم كلَّهم؟، قيل له: لعلّ الذي هو جاره يتهاون بذلك القدر، ليس له عنده موقع، فرأى أنه لا يبعث إليه.
وأما الصاحب بالجنب: ففسَّره طائفة بالزوجة، وفسره طائفة منهم ابن عباس بالرفيق في السفر، ولم يريدوا إخراج الصاحب الملازم في الحضر، وإنما أرادوا أن صحبة السفر تكفي، فالصحبة الدائمة في الحضر أولى، ولهذا قال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، وقال ابن زيد: هو الرجل يَعْتَريك، ويُلِمُّ بك لتنفعه، وفي "المسند"، والترمذي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره"
(1)
.
الرابع: من هو واردٌ على الإنسان، غير مقيم عنده، وهو ابن السبيل، يعني المسافر إذا ورد إلى بلد آخر، وفسّره بعضهم بالضيف، يعني به ابن السبيل، إذا نزل ضيفًا على أحد.
(1)
رواه أحمد 2/ 167 و 168، والترمذيّ (1944)، والبخاريّ في "الأدب المفرد"(115)، وصححه ابن حبان (518 و 519)، والحاكم 2/ 101 و 4/ 164 ووافقه الذهبيّ.
والخامس: ملك اليمين، وقد وَصّى النبي صلى الله عليه وسلم بهم كثيرًا، وأمر بالإحسان إليهم، ورُوي أن آخِر ما وصّى به عند موته الصلاة، وما ملكت أيمانكم
(1)
.
وأدخل بعض السلف في هذه الآية ما يملكه الإنسان من الحيوانات والبهائم.
ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة في إكرام الجار، وفي "الصحيحين" عن عائشة، وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه".
فمن أنواع الإحسان إلى الجار مواساته عند حاجته، وفي "المسند" عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يشبع المؤمن دون جاره"
(2)
، وخرّج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع"
(3)
، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما آمن من بات شبعان، وجاره طاويًا"
(4)
.
وفي "المسند" عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أول خصمين يوم القيامة جاران"
(5)
.
وفي كتاب "الأدب" للبخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما: "كم من جارٍ متعلّقٌ
(1)
رواه أحمد 3/ 17، وابن ماجه (2697)، وصححه ابن حبان (6605).
(2)
رواه أحمد 1/ 55، ومن طريقه الحاكم 4/ 167، وفي إسناده انقطاع.
(3)
صححه الحاكم 4/ 167 ووافقه الذهبيّ.
(4)
رواه ابن عديّ في "الكامل" 2/ 637 وفي سنده حكيم بن جبير ضعيف، وله شاهد من حديث أنس عند الطبرانيّ في "الكبير"(751) وفيه محمد بن سعيد الأثرم ضعفه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وله طريق آخر عند البزار (119) وفيه علي بن زيد بن جُدعان، ضعيف، وحسّنه الهيثمي في "المجمع" 8/ 167، والمنذريّ في "الترغيب والترهيب" 3/ 358.
(5)
رواه أحمد 4/ 151، والطبراني في "الكبير" 1/ 852 بإسناد حسن، ورواه الطبرانيّ 17/ 836 بإسناد آخر، وقال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد والطبرانيّ، وأحد إسنادي الطبرانيّ رجاله رجال الصحيح.
بجاره يوم القيامة، فيقول: يا رب هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه"
(1)
.
وخرّج الخرائطي وغيره بإسناد ضعيف، من حديث عطاء الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أغلق بابه دون جاره؛ مخافةً على أهله وماله، فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لا يَأْمَن جاره بوائقه، أتدري ما حقّ الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عُدت عليه، وإذا مَرِض عُدته، وإذا أصابه خير هَنّيته، وإذا أصابته مصيبة عَزّيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتَحْجُب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بِقُتَار قِدْرك
(2)
، إلا أن تَغْرِف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سِرًّا، ولا يَخْرُج بها ولدك؛ ليُغِيظ بها ولده".
ورفعُ هذا الكلام منكر، ولعله من تفسير عطاء الخراساني.
وقد رُوي أيضًا عن عطاء، عن الحسن، عن جابر، مرفوعًا:"أدنى حق الجوار أن لا تؤذي جارك بقُتَار قِدرك إلا أن تَقْدَح له منها".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك، فأَصِبهم منها بمعروف"، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا أبا ذر إذا طبخت مرقةً، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك".
وفي "المسند"، والترمذيّ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه ذبح شاة، فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي؟ ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"
(3)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يَغْرِز خشبةً في جداره"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم.
(1)
رواه البخاريّ في "الأدب المفرد"(111) وفي سنده ليث بن أبي سُليم، ضعيف.
(2)
"القُتَار" كالدخان وزنًا ومعنى، قاله في "المصباح".
(3)
حديث صحيح.
ومذهب الإمام أحمد أن الجار يلزمه، أن يمكِّن جاره من وضع خشبة على جداره، إذا احتاج الجار إلى ذلك، ولم يَضُرَّ بجداره؛ لهذا الحديث الصحيح، وظاهر كلامه أنه يجب عليه أن يواسيه من فضل ما عنده، بما لا يضر به، إذا عَلِمَ حاجته. قال المرُّوذيّ: قلت لأبي عبد الله: إني لأسمع السائل في الطريق يقول: إني جائع، فقال: قد يصدُق وقد يَكذِب، قلت: فإذا كان لي جار أعلم أنه يجوع؟، قال: تواسيه، قلت: إذا كان قوتي رغيفين؟ قال: تطعمه شيئًا، ثم قال: الذي جاء في الحديث إنما هو الجار.
وقال المرُّوذيّ: قلت لأبي عبد الله: الأغنياء يجب عليهم المواساة؟ قال: إذا كان قوم يضعون شيئًا على شيء، كيف لا يجب عليهم؟ قلت: فإذا كان للرجل قميصان - أو قلت: جُبّتان - يجب عليه المواساة؟ قال: إذا كان يحتاج إلى أن يكون فضلًا.
وهذا نص منه في وجوب المواساة من الفضائل، ولم يَخُصّه بالجار، ونصه الأول يقتضي اختصاصه بالجار.
وقال في رواية ابن هانئ في السُّؤَّال يكذبون: أحبُّ إلينا لو صدقوا، ما وَسِعَنا إلا مواساتهم. وهذا يدل على وجوب مواساة الجائع من الجيران وغيرهم.
وفي "الصحيح" عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أطعموا الجائع، وعُودوا المريض، وفُكُّوا العاني".
وفي "المسند"، وصحيح الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما أهل عَرَصَةٍ أصبح فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل"
(1)
.
ومذهب أحمد ومالك أنه يُمنَع الجار أن يَتَصَرَّف في خاص ملكه بما يَضُرّ بجاره، فيجب عندهما كَفُّ الأذى عن الجار بمنع إحداث الانتفاع المضرّ به، ولو كان المنتفع إنما ينتفع بخاص ملكه، ويجب عند أحمد أن يبذل لجاره ما يحتاج إليه، ولا ضرر عليه في بذله، وأعلى من هذين أن يصبر على أذى جاره، ولا يقابله بالأذى، قال الحسن: ليس حسن الجوار كفّ الأذى، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى.
(1)
صححه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على "المسند"، راجعه رقم (4880).
ويُرْوَى من حديث أبي ذر رضي الله عنه: "إن الله يحب الرجل، يكون له الجار يؤذيه جِوَارُهُ، فيصبر على أذاه، حتى يفرق بينهما موتٌ، أو ظَعْنٌ"، خرّجه الإمام أحمد
(1)
.
وفي مراسيل أبي عبد الرحمن الْحُبُليّ: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه جاره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"كُفّ أذاك عنه، واصبر لأذاه، فكفى بالموت مُفَرِّقًا"، خرّجه ابن أبي الدنيا
(2)
. انتهى ما كتبه ابن رجب رحمه الله تعالى، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في الأمر الثالث مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذا الحديث، وهو إكرام الضيف، والمراد إحسان ضيافته.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي شُرَيح رضي الله عنه قال: "أبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته أذناي حين تكلم به، قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزتَهُ"، قالوا: وما جائزته؟ قال: "يوم وليلة"، قال: "والضيافة ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة".
وخرّج مسلم من حديث أبي شُرَيح أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يَثْوِيَ عنده حتى يُؤَثِّمه"، قالوا: يا رسول الله كيف يؤثمه؟ قال: "يقيم، ولا شيء له يَقْرِيه به".
وخرّج الإمام أحمد، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، قالها ثلاثًا، قالوا: وما إكرام الضيف يا رسول الله؟ قال: "ثلاثةُ أيام، فما جَلَس بعد ذلك فهو صدقة"
(3)
.
(1)
"المسند" 5/ 151، وفيه ابن الأحمس مجهول.
(2)
وفي إسناده رشدين بن سعد، ضعيف.
(3)
رواه أحمد 3/ 76 من طريق ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد رضي الله عنه، وهذا إسناد ضعيف، فابن لهيعة سيء الحفظ، ودرّاج ضعيف في روايته عن أبي الهيثم، ورواه بلفظ: "الضيافة ثلاثة أيام
…
" أحمد 3/ 8 و 21 و 37 و 64 و 86، وأبو يعلى (1244 و 1287)، والبزار (1931 و 1932)، وصححه ابن حبان (5281)، وقال الهيثميّ في "المجمع": رواه أحمد هكذا مطولًا ومختصرًا بأسانيد، وأبو يعلى، والبزار، وأحد أسانيد رجاله رجال الصحيح.
ففي هذه الأحاديث أن جائزة الضيف يوم وليلة، وأن الضيافة ثلاثة أيام، ففرَّق بين الجائزة والضيافة، وأكّد الجائزةَ، وقد ورد في تأكيدها أحاديث أُخَرُ، فخرّج أبو داود، من حديث الْمِقْدَام بن معد يكرب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليلةُ الضيف حقٌّ على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين، إن شاء اقتضى، وإن شاء ترك"، وخرّجه ابن ماجه، ولفظه:"ليلةُ الضيف حقٌّ على كل مسلم"
(1)
.
وخرّج الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث المقدام أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما رجل أضاف قومًا، فأصبح الضيفُ محرومًا، فإن نَصْرَهُ حقٌّ على كل مسلم، حتى يأخذ بِقِرَى ليلةٍ من زرعه وماله".
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا، فننزل بقوم، لا يَقْرُوننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن نزلتم بقوم، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف، الذي ينبغي لهم".
وخرّج الإمام أحمد، والحاكم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيما ضيف نزل بقوم، فأصبح الضيف محرومًا، فله أن يأخذ بقدر قراه، ولا حرج عليه"
(2)
.
وقال عبد الله بن عمرو: من لم يُضِفْ فليس من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من إبراهيم عليه السلام، وقال عبد الله بن الحارث بن جَزْء رضي الله عنه: من لم يُكرم ضيفه، فليس من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من إبراهيم عليه السلام، وقال أبو هريرة رضي الله عنه لقوم نزل عليهم، فاستضافهم، فلم يُضِيفوه، فتنحى، ونزل، فدعاهم إلى طعامه، فلم يجيبوه، فقال لهم: لا تُنْزِلون الضيف، ولا تجيبون الدعوة، ما أنتم من الإسلام على شيء، فَعَرَفه رجل منهم، فقال له: انزل عافاك الله، قال: هذا شرّ وشرّ، لا تُنْزِلون إلا من تعرفون.
(1)
إسناده صحيح.
(2)
أخرجه أحمد 3/ 380، وصححه الحاكم في "المستدرك" 4/ 132، ووافقه الذهبيّ.
ورُوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه نحو هذه القضية، إلا أنه قال لهم: ما أنتم من الدين إلا على مثل هذه، وأشار إلى هدبة في ثوبه.
وهذه النصوص تدل على وجوب الضيافة يومًا وليلةً، وهو قول الليث، وأحمد، وقال أحمد: له المطالبة بذلك إذا منعه؛ لأنه حقّ له واجب، وهل يأخذ بيده من ماله إذا منعه، أو يرفعه إلى الحاكم؟، على روايتين منصوصتين عنه.
وقال حُمَيد بن زنجويه: ليلة الضيف واجبة، وليس له أن يأخذ قراه منهم قهرًا، إلا أن يكون مسافرًا في مصالح المسلمين العامة، دون مصلحة نفسه.
وقال الليث بن سعد: لو نزل الضيف بالعبد أضافه من المال الذي بيده، وللضيف أن يأكل، وإن لم يعلم أن سيده أذن؛ لأن الضيافة واجبة، وهو قياس قول أحمد؛ لأنه نَصّ على أنه يجوز إجابة دعوة العبد المأذون له في التجارة، وقد رُوي عن جماعة من الصحابة أنهم أجابوا دعوة المملوك، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، فإذا جاز له أن يدعو الناس إلى طعامه ابتداءً جاز إجابة دعوته، فإضافته لمن نَزَل به أولى.
ومنع مالك، والشافعيّ، وغيرهما من دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيده، ونَقَل على بن سعيد عن أحمد ما يدلّ على وجوب الضيافة للغزاة خاصّة بمن مَرّوا بهم ثلاثة أيام، والمشهور عنه الأول، وهو وجوبها لكل ضيف نزل بقوم، واختَلَفَ قوله: هل تجب على أهل الأمصار والقرى، أم تختص بأهل القرى، ومن كان على طريق يمر بهم المسافرون؟ على روايتين منصوصتين عنه، والمنصوص عنه أنها تجب للمسلم والكافر، وخَصّ كثير من أصحابه الوجوب للمسلم، كما لا تجب نفقة الأقارب مع اختلاف الدين على إحدى الروايتين، فأما اليومان الآخران، وهما الثاني والثالث فهما تمام الضيافة، والنصوص عن أحمد أنه لا يجب إلا الجائزة الأولى، وقال: قد فَرّق بين الجائزة والضيافة، والجائزةُ أوكد، ومن أصحابنا - يعني الحنبليّة - من أوجب الضيافة ثلاثة أيام، منهم أبو بكر بن عبد العزيز، وابن أبي موسى، والآمدي، وما بعد الثلاث فهو صدقة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول هو الأرجح عندي؛ لظهور حجته، فإن ظواهر النصوص تدلّ له، والله تعالى أعلم.
قال: وظنّ بعض الناس أن الضيافة ثلاثة أيام بعد اليوم والليلة الأولى، وردّه أحمد بقوله صلى الله عليه وسلم:"الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة"، ولو كان كما ظَنّ هذا لكان أربعة.
قلت
(1)
: ونظير هذا قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10]، والمراد في تمام الأربعة.
وهذا الحديث الذي احتَجّ به أحمد قد تقدم من حديث أبي شُرَيح رضي الله عنه، وخرّجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن قِرَى الضيف"، قيل: يا رسول الله، وما قِرَى الضيف؟ قال:"ثلاثة، فما كان بعدُ فهو صدقة".
قال حُميد بن زنجويه: عليه أن يتكلف له في اليوم والليلة، من الطعام أطيب ما يأكله هو وعياله، وفي تمام الثالث يطعمهم من طعامه، وفي هذا نظر، وسنذكر حديث سلمان رضي الله عنه بالنهي عن التكلّف للضيف.
ونَقَل أشهب عن مالك قال: جائزته يوم وليلة، يكرمه، ويتحفه، ويخصّه يومًا وليلة، وثلاثة أيام ضيافة.
وكان ابن عمر يمتنع من الأكل من مال من نَزَل عليه فوق ثلاثة أيام، ويأمر أن يُنفَقَ عليه من ماله، ولصاحب المنزل أن يأمر الضيف بالتحول عنه بعد الثلاث؛ لأنه قَضَى ما عليه، وفَعَلَ ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل له أن يَثْوِيَ عنده حتى يُحْرِجه"، يعني يقيم عنده حتى يُضَيِّق عليه، لكن هل هذا في الأيام الثلاثة، أم فيما زاد عليها؟ فأما فيما ليس بواجب فلا شكّ، وأما ما هو واجب، وهو اليوم والليلة
(2)
، فَيُبْنَى على أنه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا، أم لا تجب إلا على من وَجَدَ ما يُضيف به؟ فإن قيل: إنها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به، وهو قول طائفة من أهل الحديث، منهم حُمَيد بن زنجويه، لم يَحِلّ للضيف أن يستضيف
(1)
القائل ابن رجب.
(2)
قد سبق ترجيح القول بوجوبها ثلاثة أيام، فلا تغفل.
من هو عاجز عن ضيافته، وقد رُوِي من حديث سلمان رضي الله عنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا
(1)
، فإذا نُهِي الْمُضِيف أن يتكلف للضيف ما ليس عنده دلّ على أنه لا تجب عليه المواساة للضيف، إلا بما عنده، فإذا لم يكن عنده فَضْلٌ لم يلزمه شيء، وأما إذا آثر على نفسه، كما فَعَل الأنصاري الذي نَزَل فيه:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فذلك مَقَام فضل وإحسان، وليس بواجب، ولو عَلِم الضيف أنهم لا يُضيفونه إلا بقوتهم وقوت صبيانهم، وأن الصبية يتأذون بذلك، لم يجز له استضافتهم حينئذ؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يُحرِجه"
(2)
.
وأيضا فالضيافة نفقة واجبة، ولا تجب إلا على من عنده فضل عن قوته وقوت عياله، كنفقه الأقارب، وزكاة الفطر.
وقد أنكر الخطابي تفسير تأثيمه بأن يقيم عنده، ولا شيء له يَقريه به، وقال: أراه غَلَطًا، وكيف يأثم في ذلك، وهو لا يتسع لقراه، ولا يجد سبيلًا إليه؟ وإنما الكلفة على قدر الطاقة، قال: وإنما وجه الحديث أنه كره له المقام عنده بعد ثلاث؛ لئلا يَضِيق صدره بمكانه، فتكون الصدقة منه على وجه الْمَنّ والأذى، فيبطل أجره.
وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد صَحَّ تفسيره في الحديث بما أنكره، وإنما وجهه أنه أقام عنده، ولا شيء له يَقرِيه به، فربما دعاه ضِيق صدره به، وحَرَجه إلى ما يأثم به في قول أو فعل، وليس المراد أنه يأثم بترك قراه، مع عجزه عنه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(3)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
رواه أحمد 5441، والطبرانيّ في "الكبير" (6083 و 6084 و 6085 و 6187). قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 179: أحد أسانيد "الكبير" رجاله رجال الصحيح.
(2)
متفقٌ عليه.
(3)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 332 - 360.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[182]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ أَبِي حَصِيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلَا يُؤْذِي جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَسْكُتْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ، ثم الكوفي، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنفيّ مولاهم الكوفي، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(أَبُو حَصِيْنٍ) عثمان بن عاصم بن حَصِين الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبت سُنّيّ، وربّما دلّس [4](ت 127)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والصحابي ذُكر في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فلم يُخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بذوي الكنى، وهذا من غرائب الأسانيد.
5 -
(ومنها): أن أبا حَصِين بالفتح مكبّرًا لا يوجد له مشارك في كنيته في "الصحيحين"، وقلت في ذلك نظمًا:
أَبَا حَصِينِ
(1)
الأَسَدِيِّ كَبِّرِ لَدَى
…
"الصَّحِيحَيْنِ" سِوَاهُ صغِّرِ
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
وأما شرح الحديث، وبيان مسائله، فقد مرّت مستوفاةً في الحديث الماضي.
وقوله: (فلا يؤذي جاره) قال النوويّ رحمه الله تعالى: كذا وقع في الأصول: "يؤذي" بالياء في آخره، وروينا في غير مسلم:"فلا يؤذ" بحذفها، وهما صحيحان، فحذفها للنهي، وإثباتها على أنه خبر، يراد به النهي، فيكون أبلغ، ومنه قوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] على قراءة مَن رَفَع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبيعُ أحدكم على بيع أخيه"، ونظائره كثيرة، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة ما أشار إليه النوويّ رحمه الله تعالى أن "لا" في رواية المصنّف رحمه الله تعالى نافية، والفعل مرفوع، وفي رواية غيره ناهية، والفعل مجزوم بها، ورواية الرفع أبلغ في المعنى؛ لأن النفي إعدام للشيء من أصله، والنهي إعدام لحكمه مع وجوده، وإعدام الأصل أبلغ من إعدام الحكم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[183]
(
…
) - (وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَيِ حَصِينٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ نزيل نيسابور، ثقةٌ حافظ إمام حجة [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
(1)
بترك التنوين، للوزن.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 20.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهرَان الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءة، ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قبل حديث.
وقوله: (بمثل حديث أبي حَصِين
…
إلخ) يعني أن حديث الأعمش مثل حديث أبي حصين، إلا أنه قال الأعمش:"فليُحسن إلى جاره" بدل قول أبي حصين: "فلا يؤذ جاره".
[تنبيه]: لفظ حديث الأعمش هذا ساقه أبو نعيم في "المسند المستخرج"(2/ 135):
(172)
- حدثنا أبو أحمد، محمد بن أحمد بن الغطريفي، ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا عيسى بن يونس، (ح) وحدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن إسحاق ابن راهويه، ثنا أبي، ثنا عيسى بن يونس، (ح) وحدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا قاسم بن زكريا، ثنا يوسف القطان، ثنا جرير، قالا: عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليسكت".
وقال عيسى بن يونس: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[184]
(48) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ جَمِيعًا، عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، أَنَّهُ سَمِعَ
نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ، يُخْبِرُ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِه، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ الحافظ المذكور قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضل [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو سفيان الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبت حافظ حجة [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
4 -
(عَمْرُو) بْنُ دِينَارٍ الأثرم الْجُمَحِيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبت [4].
رَوَى عن ابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبي الطفيل، والسائب بن يزيد، وجماعة.
وروى عنه قتادة، ومات قبله، وأيوب، وابن جريج، وجعفر الصادق، ومحمد بن جُحَادة، ومالك، وشعبة، وداود بن عبد الرحمن العطار، ورَوْح بن القاسم، وجماعة.
قال محمد بن علي الْجُوزَجَاني، عن أحمد بن حنبل: كان شعبة لا يُقَدِّم على عمرو بن دينار لا الحَكَمَ، ولا غيرَهُ - يعني في التثبت -، وقال ابن المديني، عن ابن مهديّ، عن شعبة مثل ذلك، وقال نعيم بن حماد: سمعت ابن عيينة يذكر عن ابن أبي نَجِيح قال: ما كان عندنا أحد أفقه، ولا أعلم من عمرو بن دينار، زاد غيره: لا عطاء، ولا مجاهد، ولا طاوس، وقال
الحميدي وغيره، عن سفيان: قلت لمسعر: مَنْ رأيت أشد إتقانًا للحديث؟ قال: عمرَو بنَ دينار، والقاسمَ بنَ عبد الرحمن، وقال إسحاق بن إسماعيل، عن سفيان: قالوا لعطاء: بمن تأمرنا؟ قال: بعمرو بن دينار، وقال عبد الرحمن بن الحكم عن ابن عيينة: ثنا عمرو بن دينار، وكان ثقةٌ ثقةٌ، وحديث أسمعه من عمرو أحب إلي من عشرين حديثًا من غيره، وقال علي بن الحسن النسائي عن ابن عيينة: مَرِضَ عمرو، فعاده الزهريّ، فبما قام الزهري، قال: ما رأيت شيخًا أنصّ للحديث الجيد من هذا الشيخ، وقال عليٌّ عن القطان: عمرو بن دينار أثبت عندي من قتادة، قال صالح بن أحمد: فذكرتُ ذلك لأبي، فقال مثله، قال صالح: وقال أبي: عمرو أثبت الناس في عطاء، وقال النسائي: ثقةٌ ثبت، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال ابن عيينة، وعمرو بن جرير: كان ثقةٌ ثبتًا كثير الحديث، صدوقًا عالمًا، وكان مفتي أهل مكة في زمانه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: جاوز السبعين، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: لم يسمع من البراء بن عازب، وقال ابن أبي حاتم، عن أبي زُرْعة: لم يسمع من أبي هريرة، وقال الترمذي: قال البخاري: لم يسمع عمرو بن دينار من ابن عباس حديثه عن عمر في البكاء على الميت، قال الحافظ: مقتضى ذلك أن يكون مدلسًا، وقال الذهبي: ما قيل عنه من التشيع باطل.
قال أحمد: مات سنة (5) أو (126).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (125) حديثًا.
5 -
(نافع بن جُبير) بن مُطعم بن عَدِيّ بن نَوْفَل بن عبد مناف النوفليّ، أبو محمد، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقة فاضلٌ [3]، مات سنة (99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 482.
6 -
(أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ) الْكَعْبيّ، اختُلف في اسمه، فقيل: خُويلد بن عمرو، وقيل: عمرو بن خُوَيلد، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هانئ بن عمرو، وقيل: كعب بن عمرو، والمشهور الأول، وهو خويلد بن عمرو بن صخر بن عبد العزّى بن معاوية بن الْمُحْتَرش بن عمرو بن مازن بن عديّ بن عمرو بن ربيعة.
أسلم قبل الفتح
(1)
، وكان معه لواء خُزاعة يوم الفتح، مات سنة ثمان وستين على الصحيح (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 483.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه زهير، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن ابن عيينة أثبت من روى عن عمرو بن دينار.
4 -
(ومنها): أنه فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عمرو عن نافع.
5 -
(ومنها): أن عمرو بن دينار، هذا أول محل ذكره، وجملة ما رواه المصنّف لعمرو (126) حديثًا.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه ممن اشتهر بكنيته، حتى اختلُف في اسمه على عدّة أقوال، كما أسلفته آنفًا.
7 -
(ومنها): أن جملة من يُكنى بأبي شُريح في الكتب الستّة أربعة:
1 -
أحدهم: هذا المترجم هنا.
2 -
والثاني: أبو شُريح الكنديّ، واسمه هانئ بن يزيد الْمَذْحِجيّ، صحابيّ نزل الكوفة، وحديثه عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبي داود، والنسائيّ.
3 -
والثالث: أبو شُريح المعافريّ، واسمه عبد الرحمن بن شُريح بن عبيد الله الإسكندرانيّ، من الطبقة السابعة، ثقة فاضل، أخرج له الجماعة.
4 -
والرابع: أبو شُريح يروي عن أبي مسلم العبديّ، مقبول، من السادسة، حديثه عند ابن ماجه فقط.
8 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا ستة أحاديث:
(1)
هكذا في "الإصابة" 7/ 173، والذي في "تهذيب التهذيب"، و"تحفة الأشراف": أسلم يوم الفتح، والظاهر أن ما في "الإصابة" هو الصواب، فتأمل.
1 -
حديث الباب عند الجماعة.
2 -
وحديث: "إن مكة حرّمها الله
…
" الحديث، عند الشيخين، والترمذيّ، والنسائيّ.
3 -
وحديث: "ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل
…
" الحديث مختصر، عند أبي داود، والترمذيّ.
4 -
وحديث: "من أُصيب بقتل أو خَبْل
…
" الحديث عند أبي داود، وابن ماجه.
5 -
وحديث: "والله لا يؤمن
…
" عند البخاريّ فقط.
6 -
وحديث: "اللهم إني أحرِّج حقّ الضعيفين: اليتيم، والمرأة" عند النسائي فقط، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أما شرح الحديث فقد تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما أتكلّم هنا في مسألتين فقط:
(المسألة الأولى): حديث أبي شُريح الخزاعيّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[21/ 184](48) من طريق نافع بن جُبير، عن أبي شُريح، وسيأتي في "كتاب اللقطة" مكرّرًا من طريق سعيد المقبريّ، عنه - إن شاء الله تعالى -.
و (البخاريّ) في "كتاب الأدب"(8/ 13 و 39) وفي "الرقاق"(8/ 125)، وفي "الأدب المفرد"(102)، و (أبو داود) في "الأطعمة"(3748)، و (الترمذيّ) في "البرّ"(1967 و 1968)، و (النسائيّ) في "الرقاق" من "الكبرى"(416)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3672) و (3675).
و (مالك) في "الموطأ"(2687)، و (الحميديّ) في "مسنده"(575 و 576)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 31 و 6/ 384 و 385)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(482)، و (الدارميّ) في "سننه"(2041 و 2042)، و (أبو نعيم) في "المسند المستخرج"(174)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(22) - (بَابُ بَيَانِ كَوْنِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ مِنَ الإِيمَانِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[185]
(49) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ.
(ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْه، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(سُفْيَانَ) بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ حجةٌ إمامٌ، وربما دلّس، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْجَدليّ - بفتح الجيم، والدال - الْعَدْوانيّ
(1)
، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ، رمي بالإرجاء [6].
رَوَى عن طارق بن شهاب، والحسن بن محمد بن الحنفية، ومجاهد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وإبراهيم بن جرير، وسعيد بن جبير.
ورَوَى عنه الأعمش، وشعبة، والثوريّ، ومسعر، ومالك بن مِغْول، وأبو الْعُمَيس، ورَقَبة بن مَصْقَلة، وإدريس بن يزيد الأوديّ، وغيرهم.
قال عليّ، عن يحيى: كان مرجئًا، وهو أثبت من أبي قيس، وقال
(1)
بفتح العين المهملة، وسكون الدال: نسبة إلى عَدْوان قبيلة من قيس عَيلان. انتهى "لب اللباب" 2/ 109.
صالح بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ في الحديث، وقال أحمد، عن سفيان: كانوا يقولون: ما رَفَع رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا تعظيمًا لله، وقال ابن معين، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال أبو داود: كان مرجئًا، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وكان يرى الإرجاء، وعن أبي داود، عن شعبة، أنه ذكره، فجعل يُلَيِّنه، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال أبو نعيم، والبخاريّ، ومُطَيَّن: مات سنة عشرين ومائة، وكذا أَرّخه ابن سعد، وقال: كان ثقةً ثبتًا، له حديث صالح، وقال العجليّ: كوفيٌّ ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: ثقةٌ ثقةٌ، وكان مرجئًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه رقم (1131): "كان يوم عاشوراء يومًا تعظمه اليهود
…
" وأعاده بعده، وحديثه أيضًا رقم (1221): "بم أهللت
…
" وأعاده بعده أيضًا، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقم (3017) "إني لأعلم حيث نزلت
…
" وأعاده بعده مرتين.
4 -
(طَارِقُ بْنُ شِهَاب) بن عبد شمس بن هلال بن سَلَمَة بن عَوْف بن جُشَم بن عمرو بن لؤي بن رُهْم بن معاوية بن أسلم بن أحمس الْبَجَليّ الأَحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقال: لم يسمع منه [2].
رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلًا، وعن الخلفاء الأربعة، وبلال، وحذيفة، وخالد بن الوليد، والمقداد، وسعد، وابن مسعود، وأبي موسى، وأبي سعيد، وكعب بن عُجْرة، وغيرهم.
ورَوَى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وقيس بن مسلم، ومُخَارق الأحمسيّ، وعلقمة بن مَرْثَد، وسماك بن حرب، وجماعة.
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئًا، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: ليست له صحبةٌ، والحديث الذي رواه: "أيُّ الجهاد أفضل؟
…
" مرسل، قلت له: قد أدخلته في مسند الوُحْدان؟ قال: لِمَا حُكِي من رؤيته النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال العجليّ: طارق بن شهاب الأحمسيّ من أصحاب عبد الله، وهو ثقةٌ.
وقال في "الإصابة"(3/ 413) بعد ذكر حكاية أبي حاتم المذكورة ما
نصّه: قلت: إذا ثبت أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه، فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح، وقد أخرج له النسائي عِدّة أحاديث، وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته، وقال أبو داود الطيالسيّ: حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغزوت في خلافة أبي بكر، وهذا إسناد صحيح، وبهذا الإسناد قال: قَدِمَ وَفْدُ بَجِيلة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ابدءوا بالأحمسيين"
(1)
، ودعا لهم، وأخرج البغويّ من طريق شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق، قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وغزوت في خلافة أبي بكر. انتهى المقصود من "الإصابة".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا أن الحقّ ثبوت الصحبة لطارق، وقد أثبتها له أبو نُعيم، وابن منده، وابن حبّان، وابن قانع، وابن عبد البرّ، والعسكريّ، وابن حزم في "المحلّى"(2/ 145)، وتبعهم من المتأخّرين أحمد محمد شاكر، والألباني، وغيرهم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال خليفة وغيره: مات سنة اثنتين وثمانين، وقال عمرو بن عليّ: مات سنة (3)، وقال ابن نُمَير: سنة (4)، وحَكَى ابن أبي خيثمة، عن ابن معين أنه مات سنة (123)، وهو وَهَمٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب الأحاديث الأربعة التي ذُكرت في ترجمة قيس قبله.
5 -
(أَبُو سَعِيد) سعد بن مالك بن سِنَان الْخُدريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
والباقون تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 315. قال الهيثمي في "الجمع" 10/ 52: رواه أحمد، وروى الطبراني بعضه، إلا أنه قال: "ابدءوا بالأحمسيين قبل القيسيين"، ورجالهما رجال الصحيح.
2 -
(ومنها): أن فيه التحديث والعنعنة، وكلاهما من صيغ الاتّصال، على الراجح في "عن" من غير المدلّس.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، فلم يُخرج له الترمذيّ.
4 -
(ومنها): أن السند الأول مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وأما الثاني فمسلسل بالبصريين إلى شعبة.
5 -
(ومنها): أن شيخه ابن المثنّى أحد مشايخ الأئمة الستة دون واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى التحويل، وقد مرّ البحث فيها مستوفًى.
7 -
(ومنها): أن فيه قيسًا وطارقًا هذا أول محلّ ذكرهما من الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لهما أربعة أحاديث فقط، كما أسلفت بيانه آنفًا.
8 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قيس عن طارق على ما قالوا، لكن الراجح صحبة طارق، فيكون فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.
9 -
(ومنها): أن فيه أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
10 -
(ومنها): قوله: (وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ) إشارة إلى أن شيخيه لم يتّفقا في لفظ الحديث، وإنما اتّفقا في المعنى فقط، وهذا الذي ساقه هنا لفظ شيخه أبي بكر بن أبي شيبة، وأما شيخه محمد بن المثنّى، فرواه بمعناه، وهذه المسألة قد ذُكرت في كتب المصطلح، وقد قدّمنا تحقيقها في مقدّمة شرح المقدّمة مستوفًى، فراجعه (1/ 46 - 48) تستفد، وبالله تعالى التوفيق، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) البجليّ الأحمسيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ) بن الحكم بن أبي العاص بن أُميّة، أبو عبد الملك الأمويّ المدنيّ، ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ومات سنة
خمس وستين في رمضان، وله ثلاث، أو إحدى وستون سنةً، ولا تثبت له صحبةٌ.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان": قال القاضي عياض رحمه الله: اختُلف في هذا، فوقع هنا ما نراه، وقيل: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان رضي الله عنه، وقيل: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لَمّا رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة، وقيل: بل ليدرك الصلاة من تأخر وبَعُد منزله، وقيل: أول من فعله معاوية، وقيل: فعله ابن الزبير رضي الله عنه، والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنه تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وقد عَدّه بعضهم إجماعًا - يعني والله أعلم - بعد الخلاف، أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية، بعد إجماع الخلفاء، والصدر الأول.
وفي قوله بعد هذا: "أما هذا فقد قضى ما عليه"، بمحضر من ذلك الجمع العظيم، دليل على استقرار السنة عندهم على خلاف ما فعله مروان، وبيّنه أيضًا احتجاجه بقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكرًا فليغيره"، ولا يسمى منكرًا لو اعتقده، ومن حضر، أو سبق به عمل، أو مضت به سنّة، وفي هذا دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان، وأن ما حُكِي عن عمر، وعثمان، ومعاوية رضي الله عنهم لا يصح، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان": هذا أصحّ ما رُوي في أول من قدّم الخطبة على الصلاة، وقد روي أول من فعل ذلك عمر، وقيل: عثمان، وقيل: ابن الزبير، وقيل: معاوية رضي الله عنهم. قال: وبعيد أن يصحّ شيء من ذلك عن مثل هؤلاء؛ لأنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلّوا معه أعيادًا كثيرةً، والصحيح المنقول عنه، والمتواتر عند أهل المدينة تقديم الصلاة على الخطبة، فكيف يعدل أحد منهم عمّا فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم، وداوم عليه إلى أن تُوفّي؟ فإن صحّ عن واحد من هؤلاء
(1)
شرح مسلم" 2/ 21.
أنه قدّم ذلك، فلعلّه إنما فعله لما رأى من انصراف الناس عن الخطبة، تاركين لسماعها، مستعجلين، أو ليُدرك الصلاة من تأخّر، وبعُد منزله، ومع هذين التأويلين، فلا ينبغي أن تُترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل ذلك، وأولئك الملأ أعلم، وأجلّ من أن يصيروا إلى ذلك. والله أعلم.
وأما مروان، وبنو أميّة، فإنما قدّموا لأنهم كانوا في خُطبهم ينالون من عليّ رضي الله عنه، ويُسمعون الناس ذلك، فكان الناس إذا صلَّوا معهم انصرفوا عن سماع خُطبهم لذلك، فلمّا رأى مروان ذلك، أو من شاء الله من بني أميّة قدّموا الخطبة ليُسمِعوا الناس من ذلك ما يَكرهون، والصواب تقديم الصلاة على الخطبة، كما تقدّم، وقد حَكَي بعض علمائنا الإجماع. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
(فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": هذا الرجل لا أعرفه
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قد يقال: كيف تأخر أبو سعيد رضي الله عنه، عن إنكار هذا المنكر، حتى سبقه إليه هذا الرجل؟ وجوابه أنه يحتمل أن أبا سعيد، لم يكن حاضرًا أوّلَ ما شَرَع مروان في أسباب تقديم الخطبة، فأنكر عليه الرجل، ثم دخل أبو سعيد، وهما في الكلام.
ويحتمل أن أبا سعيد كان حاضرًا من الأول، ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة، بسبب إنكاره، فسقط عنه الإنكار، ولم يَخَفْ ذلك الرجل شيئًا؛ لاعتضاده بظهور عشيرته، أو غير ذلك، أو أنه خاف، وخاطر بنفسه، وذلك جائز في مثل هذا، بل مستحب. ويحتمل أن أبا سعيد هَمَّ بالإنكار، فبدره الرجل، فعضده أبو سعيد، والله أعلم. ثم إنه جاء في الحديث الآخر، الذي اتفق البخاري ومسلم رحمهما الله على إخراجه، في "باب صلاة العيد" أن أبا سعيد رضي الله عنه هو الذي جذب بيد مروان، حين رآه يصعد المنبر، وكانا جاءا معًا، فردّ عليه مروان بمثل ما ردّ هنا على الرجل، فيحتمل أنهما قضيتان: إحداهما لأبي سعيد، والأخرى للرجل، بحضرة أبي سعيد، والله أعلم.
(1)
"المفهم" 1/ 231 - 232.
(2)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 57.
وأما قوله: "فقد قضى ما عليه"، ففيه تصريح بالإنكار أيضًا من أبي سعيد. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "فقام إليه رجل
…
إلخ": مقتضى هذا السياق أن المنكر على مروان رجلٌ غير أبي سعيد، وأن أبا سعيد مُصوّبٌ للإنكار، مستدلّ على صحّته، وفي الرواية الأخرى أن أبا سعيد هو المنكر، والمستدلّ، ووجه التوفيق بينهما أن يقال: إن كلّ واحد من الرجل وأبي سعيد أنكر على مروان، فرأى بعض الرواة إنكار الرجل، ورأى بعضهم إنكار أبي سعيد، وقيل: هما واقعتان في وقتين، وفيه بُعْدٌ. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي استبعده القرطبيّ من حمله على تعدد الواقعة، قد قوّاه الحافظ في "الفتح"، وذكر أيضًا أن يكون الرجل هو أبا مسعود الأنصاريّ رضي الله عنه؛ لأنه كان حاضرًا تلك الواقعة، كما بيّنه عبد الرزاق في روايته.
والحاصل أن الحمل على تعدد الواقعة أقرب الاحتمالات، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) الرجل منكرًا على مروان في تغييره السنّة (الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ) أي إن السنّة أن تقدّم صلاة العيد على خطبته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وكان يفعل ذلك، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأوّلُ شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مُقَابِلَ الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يَقْطَع بَعْثًا قطعه، أو يأمر بشيء أَمَر به، ثم ينصرف
…
" الحديث.
(فَقَالَ) أي مروان ردًّا على الرجل (قَدْ تُرِكَ) بالبناء للمفعول (مَا) موصولة أي استقرّ (هُنَالِكَ) في ذلك الزمان من تقديم الصلاة على الخطبة.
[تنبيه]: قوله: "هنالك" ظرف زمان، فإنها وإن كان الغالب أن تُستعمل ظرف مكان، كما قال في "الخلاصة":
(1)
"شرح مسلم" 2/ 21 - 22.
(2)
"المفهم" 1/ 232.
وَبِـ "هُنَا" أَوْ "هَهُنَا" أَشِرْ إِلَى
…
دَانِي الْمَكَانِ وَبِهِ الْكَافَ صِلَا
فِي الْبُعْدِ أَوْ بِـ "ثَمَّ" فُهْ أَوْ "هَنَّا"
…
وَبِ "هُنَالِكَ" انْطِقَنْ أَوْ "هِنَا"
إلا أنها تأتي أيضًا للزمان، فقد ذكر ابن مالك في "التسهيل" أن "هناك"، و"هنالك"، و"هَنَّا" بالتشديد قد يشار بها للزمان، نحو قوله تعالى:{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30]، أي في يوم نحشرهم، وقوله [من الكامل]:
وَإِذَا الأُمُورُ تَشَابَهَتْ
…
فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ الْمَفْزَعُ
أي في وقت تشابه الأمور، وقوله:
حَنَّتْ نَوَارِ وَلَاتَ هَنَّا حَنَّتِ
أي ولات في ذلك الوقت حنين. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (أَمَّا) حرف شرط وتوكيد، وتفصيل (هَذَا) أي الرجل المنكر على مروان (فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ) أي الذي وجب القيام به عليه، وهو الإنكار بلسانه، حيث لا يستطيع الإنكار بيده؛ لكون مروان هو الأمير، ثم ذكر أبو سعيد رضي الله عنه قوله، فقال:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ) شرطيّة، ويحتمل أن تكون موصولةً، دخلت الفاء في خبرها؛ لشبهها بالشرط في العموم، وغيره، كما هو موضّح في محلّه (رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ) إذا كان مما يَحتاج في تغييره إلى اليد، مثل كسر أواني الخمر، وآلات اللهو؛ كالمزامير، والأوتار، والطبل، وكمنع الظالم من الضرب، والقتل، وغير ذلك، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ) أي إن لم يستطع تغييره بيده، فليُنكره بلسانه، بأن يقول ما يُرْتجَى نفعه، من لِين، أو إغلاظ، حسبما يكون أنفع، فقد يُبْلَغ بالرفق، والسياسة، ما لا يُبْلَغ بالسيف والرياسة، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ) أي فليُغيره بقلبه، ومعناه أن يكره ذلك الفعل بقلبه، ويَعْزِم على أن لو قدر على تغييره لغيّره (وَذَلِكَ) أي الاكتفاء بالكراهة بالقلب (أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) أي أضعف خصال الإيمان.
يعني أن تغيير المنكر بقلبه، وهو إنكاره آخر خصلة من الخصال المتعيّنة على المؤمن في تغيير المنكر، فلم يبق بعدها للمؤمن مرتبة أخرى في تغييره،
(1)
راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 93 - 94.
ولذلك قال في الرواية الأخرى: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردل"
(1)
، أي لم يبق وراء هذه المرتبة رتبة أخرى. أفاده القرطبيّ رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال السنديّ رحمه الله تعالى: قوله: "أضعف الإيمان": أي أضعف أعمال الإيمان المتعلّقة بإنكار المنكر في ذاته، لا بالنظر إلى غير المستطيع، فإنه بالنظر إليه تمام الوسع والطاقة، وليس عليه غيره. انتهى.
[تنبيه]: قال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: فيه سؤالان:
(الأول): ما العامل في المجرورين الأخيرين؟.
(الثاني): قوله: أضعف الإيمان مشكلٌ؛ لأنه يُذمّ فاعله، وأيضًا فقد يعظم إيمان الشخص، وهو لا يستطيع التغيير بيده، فلا يلزم من العجز عن التغيير ضعف الإيمان، لكنه قد جعله أضعف الإيمان، فما الجواب؟.
قال: الجواب عن الأول أنه لا يجوز أن يكون العامل "يُغَيِّرْه" المنطوق به؛ لأنه لو كان كذلك، لكان المعنى: فليغيّره بلسانه، وقلبه، لكن التغيير لا يتأتّى باللسان، ولا بالقلب، فيتعيّن أن يكون العامل فليُنكره بلسانه، وليكرهه بقلبه، فيثبت لكلّ واحد من الأعضاء ما يناسبه.
وعن الثاني: أن المراد بالإيمان هنا الإيمان المجازيّ
(3)
الذي هو الأعمال، ولا شكّ أن التقرّب بالكراهة، ليس كالتقرّب بالذي ذكره قبله، ولم يُذكر ذلك للذمّ، وذُكر ليعلَم المكلّف حَقَارة ما حصل في هذا القسم، فيرتقي إلى غيره. انتهى كلام ابن عبد السلام. نقله السيوطيّ في شرح النسائيّ
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته: حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، فلم يُخرجه البخاريّ.
(1)
هو في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي بعد هذا.
(2)
"المفهم" 1/ 234.
(3)
التعبير بالإيمان المجازيّ فيه نظر لا يخفى، فتبصّر.
(4)
راجع: "زَهْر الرُّبَى في شرح المجتبى" 8/ 112 - 113.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[22/ 185 و 186](49) بهذه الأسانيد فقط.
و (أبو داود) في "الصلاة"(1140) و"الملاحم"(4340)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2172)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(8/ 111)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1275) و"الفتن "(4013)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2196)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 10 و 3/ 52)، و (أبو نُعيم) في "المسند المستخرج"(175 و 176)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(307)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 90)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون تغيير المنكر من الإيمان.
2 -
(ومنها): بيان أن الإيمان يزيد وينقص، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم جعل الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، فهو يدلّ على ما قبله، وهو الإنكار بالقول، قويّ الإيمان، والذي قبله، وهو الإنكار باليد أقوى منه، وهذا هو التفاوت.
3 -
(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيّره" أمر، وهو للوجوب، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام، بالكتاب، والسنّة، وإجماع الأمة، ولا يُعتدّ بخلاف الرافضة في ذلك؛ لأنهم إما مكفَّرون، وإما مبدَّعون، فلا يُعتدّ بخلافهم؛ لظهور فسقهم. قاله القرطبيّ.
4 -
(ومنها): أن وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الكفاية؛ لقول الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، فقد عبّر بـ "من" التبعيضيّة، إشارة إلى أنه واجب كفائيّ، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن شرط وجوبه أمران:
(أحدهما): العلم بكون ذلك الفعل معروفًا، أو منكرًا؛ لأن ذلك لا يتأتّى للجاهل.
(والثاني): القدرة عليه؛ لأنه قال: "فإن لم يستطع
…
إلخ"، فدلّ على
أن غير المستطيع لا يجب عليه، وإنما عليه أن ينكر بقلبه. والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أنه يدلّ على مراتب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فأوّلها الإنكار باليد، والثاني الإنكار باللسان، والثالث، وهو الأخير الإنكار بالقلب.
7 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن من خاف على نفسه القتل، أو الضرب سقط عنه تغيير المنكر، وهو مذهب المحقّقين سلفًا وخلفًا، وذهبت طائفة من الغُلاة إلى أنه لا يسقط، وإن خاف ذلك
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد تكلّم النوويّ رحمه الله تعالى على هذا الحديث في "شرحه" بكلام نفيسٍ، ملخّص مما قاله المحقّقون، أحببت إيراده هنا، وإن كان بعضه تقدّم، إلا أن ذكره مجموعًا في موضع واحد أعون على استيعابه، وأسرع لاستحضاره:
قال رحمه الله تعالى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيره": فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تَطَابق على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يُعتَدّ بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي، إمام الحرمين: لا يُكتَرث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء.
ووجوبه بالشرع، لا بالعقل، خلافًا للمعتزلة، وأما قول الله عز وجل:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} الآية [المائدة: 105]، فليس مخالفًا لما ذكرناه؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: إنكم إذا فعلتم ما كُلّفتم به، فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]، وإذا كان كذلك، فمما كُلِّف به الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا فعله، ولم يمتثل المخاطَب، فلا عَتْبَ بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي، لا القبول، والله أعلم.
(1)
راجع: "المفهم" 1/ 234.
ثم إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس، سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه، بلا عذر، ولا خوف.
ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يَعْلَم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يَرَى زوجته، أو ولده، أو غلامه على منكر، أو تقصير في المعروف.
قال العلماء رحمهم الله تعالى: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي، لا القبول، وكما قال الله عز وجل:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت: 18]، ومَثَّل العلماء هذا بمن يرى إنسانًا في الحمام، أو غيره، مكشوف بعض العورة، ونحو ذلك، والله أعلم.
قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كاملَ الحال، ممتثلًا ما يأمر به، مجتنبًا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر، وإن كان مُخِلًّا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخلّ بأحدهما، كيف يباح له الإخلال بالآخر؟.
قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه، كانوا يأمرون الولاة بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من غير ولاية، والله أعلم.
ثم إنه إنما يأمر وينهى، من كان عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة، والمحرمات المشهورة، كالصلاة، والصيام، والزنا، والخمر، ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال، والأقوال، ومما يتعلق بالاجتهاد، لم
يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المختلف فيه، فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين
(1)
، أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف، إذا لم يلزم منه إخلال بسنّة، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر أقضى القضاة، أبو الحسن الماورديّ البصري الشافعيّ في كتابه "الأحكام السلطانية" خلافًا بين العلماء في أن من قلّده السلطان الْحِسْبة، هل له أن يَحمِل الناس على مذهبه، فيما اختَلَف فيه الفقهاء، إذا كان المحتسِب من أهل الاجتهاد، أم لا يغيّر ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع، بين الصحابة والتابعين، فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسِب، ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي، ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالف نصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا جليًّا والله أعلم.
(واعلم): أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد ضُيّع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان، إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قوام الأمر ومِلاكه، وإذا كثر الخبث عَمّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم، أوشك أن يعمّهم الله تعالى بعقابه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل، أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويُخلِص نيته، ولا
(1)
بل المحققون على أن هذه المسألة فيها تفصيل، وقد حققته في "التحفة المرضيّة"، وشرحها "المنحة الرضيّة" في الأصول، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
يهابَنّ من ينكر عليه؛ لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحجّ: 40]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2 - 3].
(واعلم): أن الأجر على قدر النَّصَب، ولا يتاركه أيضًا لصداقته ومودّته، ومداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته، توجب له حرمة وحقًّا، ومن حقه أن ينصحه، ويَهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارّها، وصديق الإنسان ومحبه، هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدّى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدُوُّه من يسعى في ذهاب، أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليسَ عدوًا لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين؛ لسعيهم في مصالح آخرتهم، وهدايتهم إليها، ونسأل الله الكريم توفيقنا، وأحبابنا، وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمّنا بجوده ورحمته، والله أعلم.
وينبغي للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، أن يَرفُقَ، ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى: من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
ومما يتساهل أكثر الناس فيه من هذا الباب: ما إذا رأى إنسانًا يبيع متاعًا معيبًا، أو نحوه، فإنهم لا ينكرون ذلك، ولا يُعَرِّفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر، وقد نصّ العلماء على أنه يجب على من عَلِم ذلك، أن ينكر على البائع، وأن يُعلم المشتري به، والله أعلم. وأما صفة النهي، ومراتبه، فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح:"فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"، فقوله صلى الله عليه وسلم:"فبقلبه" معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة، وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وذلك أضعف الإيمان"، معناه - والله أعلم - أقله ثمرة.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: هذا الحديث أصلٌ في صفة التغيير، فَحَقُّ المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به، قولًا كان أو فعلًا،
فيكسر آلات الباطل، ويُريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، ويَنزع الغُصوب، ويَرُدُّها إلى أصحابها بنفسه، أو يأمر بذلك إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم الْمَخُوف شرّه؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل؛ لهذا المعنى، ويُغلظ على المتمادي في غيه، والمسرف في بطالته، إذا أمن أن يؤثّر إغلاظُهُ منكرًا أشدَّ مما غَيَّرَهُ؛ لكون جانبه محميًا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده، يسبب منكرًا أشد منه، من قتله، أو قتل غيره، بسببه، كَفَّ يده، واقتصر على القول باللسان، والوعظ، والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك، غَيَّر بقلبه، وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث - إن شاء الله تعالى - وإن وَجَد من يستعين به على ذلك، استعان ما لم يؤدّ ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، ولْيَرْفع ذلك إلى من له الأمر، إن كان الْمُنْكَر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافًا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قُتل ونِيل منه كل أَذًى، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله تعالى.
قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: ويسوغ لآحاد الرعية، أن يَصُدّ مرتكب الكبيرة، إن لم يندفع عنها بقوله، ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال، وشَهْر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك، ربط الأمر بالسلطان، قال: وإذا جار والي الوقت، وظهر ظلمه وغشمه، ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحلّ والعقد التواطؤ على خلعه، ولو بشهر الأسلحة، ونصب الحروب، هذا كلام إمام الحرمين، وهذا الذي ذكره من خلعه غريب، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يُخَف منه إثارة مفسدة أعظم منه.
قال: وليس للآمر بالمعروف البحث، والتنقير، والتجسس، واقتحام الدُّور بالظنون، بل إن عَثَرَ على منكر غَيّره جهده، هذا كلام إمام الحرمين.
وقال أقضى القضاة الماورديّ: ليس للمحتسِب أن يبحث عما لم يَظْهَر من المحرَّمات، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها؛ لأمَارَة، وآثار ظهرت، فذلك ضربان:
[أحدهما]: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة، يفوت استدراكها، مثل أن
يُخبره من يثق بصدقه أن رجلًا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسَّس، ويُقدِم على الكشف، والبحث حَذَرًا من فوات ما لا يُستدْرَكُ، وكذا لو عَرَف ذلك غير المحتسِب من المتطوعة، جاز لهم الإقدام على الكشف، والإنكار.
[الضرب الثاني]: ما قَصُر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه، فإن سَمِع أصوات الملاهي المنكرة من دار، أنكرها خارج الدار، لم يَهُجم عليها بالدخول، لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن.
وقد ذكر الماوردي في آخر "الأحكام السلطانية" بابًا حسنًا في الحسبة، مشتملًا على جُمَل من قواعد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقد أشرنا هنا إلى مقاصده، وبسطت الكلام في هذا الباب؛ لعظم فائدته، وكثرة الحاجة إليه، وكونه من أعظم قواعد الإسلام، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو كلام نفيسٌ جدًّا، ولنفاسته نقلته برمّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وقد شرح الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى هذا الحديث شرحًا واسعًا استوعب فيه فوائد جمّة، وقواعد مهمّة، وإن كان كثير منها سبق في كلام النوويّ، والقرطبيّ، وغيرهما، إلا أن تحقيقات ابن رجب رحمه الله تعالى مما لا يخفى على اللبيب حسنها، وغزارتها، ولذلك أحببت إيرادها هنا؛ لأن الكتاب موضوع لاستيفاء ما يمكن إدخاله في شرح أحاديث الكتاب، إذ أصل وضعه لذلك؛ لأن "صحيح مسلم" قد سبق له شروح كثيرة، إلا أنه لم يقع له شرح جامع يحتوي على فوائده الإسناديّة، والمتنيّة، فقمت بقدر طاقتي لسدّ هذا الباب - بعون الله تعالى، وحسن توفيقه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} -.
قال رحمه الله تعالى في كتابه "جامع العلوم والحكم"(1/ 319):
هذا الحديث خرّجه مسلم، من رواية قيس بن مسلم، عن طارق بن
(1)
"شرح صحيح مسلم" 2/ 21 - 26.
شهاب، عن أبي سعيد رضي الله عنه، ومن رواية إسماعيل بن رَجَاء، عن أبيه، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
قال: وقد رُوِي معناه من وجه آخر، فخرّجه مسلم، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب .... " الحديث.
ورَوَى سالم المرادي، عن عمرو بن هَرِم، عن جابر بن زيد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاءٌ شديدٌ من سلطانهم، لا ينجو منه إلا رجلٌ عَرَف دين الله، فجاهد عليه بلسانه ويده وقلبه، فذلك الذي سبقت له السوابق، ورجل عرف دين الله، فصدّق به وللأوّل عليه سابقةٌ، ورجلٌ عرف دين الله، فسكت عليه، فإن رأى من يعمل بخير أحبه عليه، وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه، فذلك الذي ينجو على إبطائه"، وهذا غريب، وإسناده منقطع.
وخرّج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي، وهو ضعيف جدًّا، عن مولى لعمر، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"توشك هذه الأمة أن تهلك إلا ثلاثة نفر: رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه، فإن جَبُن بيده فبلسانه وقلبه، فإن جبن بلسانه وبيده فبقلبه".
وخرّج أيضًا من رواية الأوزاعي، عن عمير بن هانئ، عن عليّ رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"سيكون بعدي فِتَنٌ لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيده ولا بلسانه"، قلت: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال:"ينكرونه بقلوبهم"، قلت: يا رسول الله، وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئًا؟ قال:"لا، إلا كما ينقص القطر من الصَّفَا"، وهذا الإسناد منقطع.
وخرّج الطبراني معناه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ضعيف. فدَلَّت هذه الأحاديث كلُّها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فمن لم يُنكر قلبه المنكر دلّ على ذهاب الإيمان من قلبه.
وقد رُوِي عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال علي رضي الله عنه: "إن أول ما تُغلبون عليه من الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم
يَعْرِف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر نُكِسَ، فجعل أعلاه أسفله".
وسَمِعَ ابن مسعود رضي الله عنه رجلًا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف، ولم ينه عن المنكر، فقال ابن مسعود: هَلَكَ من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر.
يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك.
وأما الإنكار باللسان واليد، فإنما يجب بحسب الطاقة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يوشك من عاش منكم أن يَرَى منكرًا لا يستطيع له، غير أن يَعْلَمَ الله من قلبه أنه له كاره.
وفي "سنن أبي داود" عن الْعُرْس بن عَمِيرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا عُمِلت الخطيئة في الأرض، كان من شَهِدها فكرهها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها"
(1)
.
فمن شَهِد الخطيئة فكرهها في قلبه، كان كمن لم يشهدها، إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في كل حال من الأحوال.
وخزَج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "مَن حَضَر معصية فكرهها، فكأنه غاب عنها، ومن غاب عنها فأحبها، فكأنه حضرها"
(2)
، وهذا مثل الذي قبله.
فتَبَيَّن بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم، في كل حال، وأما الإنكار باليد واللسان، فبحسب القدرة، كما في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، فلا يُغَيِّروا إلا يوشك الله أن يعمهم بعقابه"، أخرجه أبو داود بهذا
(1)
حديث حسن رواه أبو داود (4345).
(2)
رواه البيهقيّ 7/ 266، وابن عديّ في "الكامل" 7/ 2686، وفيه يحيى بن أبي سليمان، وهو ليّن الحديث، لكن يشهد له حديث العُرْس رضي الله عنه المذكور قبله.
اللفظ، وقال: قال شعبة فيه: "ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، هم أكثر ممن يعمله"
(1)
.
وخرّج أيضًا من حديث جرير رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يكون في قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا"، وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه:"ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، هم أعزّ، وأكثر ممن يعمله، فلم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب"
(2)
.
وخرّج أيضًا من حديث عَدِيّ بن عَمِيرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عَذّب الله العامة والخاصة"
(3)
.
وخرّج أيضًا هو وابنُ ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تُنْكِره؟ فإذا لَقَّنَ الله عبدًا حجته قال: يا رب رَجَوتك، وفَرِقْتُ من الناس"
(4)
.
فأما ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته:"ألا لا يَمْنَعَنَّ رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه"، وبَكَى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا، وخرّجه الإمام أحمد، وزاد فيه:"فإنه لا يُقَرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يُقال بحق، أو يذكّر بعظيم"
(5)
.
(1)
صححه ابن حبان (304 و 305).
(2)
صححه ابن حبّان أيضًا (300 و 302).
(3)
رواه أحمد 4/ 192 وفي إسناده رجل مجهول، وحسّنه الحافظ في "الفتح" 13/ 4، وله شاهد من حديث العُرْس بن عميرة رضي الله عنه، ورواه الطبرانيّ في "الكبير" 17/ 343. قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 268: رجاله ثقات.
(4)
صححه ابن حبان (7368).
(5)
رواه أحمد 3/ 29، وابن ماجه (4017)، وصححه ابن حبان (7368).
وكذلك خرّج الإمام أحمد، وابن ماجه، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَحْقِرْ أحدكم نفسه"، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال:"يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله له: ما منعك أن تقول في كذا وكذا، فيقول: خشيتُ الناس، فيقول الله: إياي كنت أحقَّ أن تخشى"
(1)
.
فهذان الحديثان محمولان على أن يكون المانع له من الإنكار مجرد الهيبة، دون الخوف المسقط للإنكار.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: آمر السلطان بالمعروف، وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خِفْتَ أن يقتلك فلا، ثم عُدت، فقال لي مثل ذلك، ثم عُدت، فقال لي مثل ذلك، وقال: إن كنت لا بُدّ فاعلًا ففيما بينك وبينه.
وقال طاوس: أتى رجل ابن عباس، فقال: ألا أقوم إلى هذا السلطان، فأمره وأنهاه؟ قال: لا تكن له فتنة، قال: أفرأيت إن أمرني بمعصية الله؟ قال: ذلك الذي تريد، فكن حينئذ رجلًا. وقد ذكرنا حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي فيه: "يَخْلُف من بعدهم خُلُوف، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن
…
"
(2)
الحديث، وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد.
وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود، وقال: هو خلاف الأحاديث التي أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر على جور الأئمة.
وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال، وقد نَصّ على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح، فقال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح، فحينئذ جهاد الأمراء باليد، أن يزيل بيده ما فَعَلُوه من المنكرات، مثل أن يُريق خمورهم، أو يكسر آلات اللهو التي لهم، أو نحو ذلك، أو يُبطل بيده ما أمروا به من الظلم، إن كان له قدرة على ذلك، وكلُّ ذلك جائز، وليس هو من
(1)
رواه أحمد 3/ 30 و 47 و 73، وابن ماجه (4008)، وفي سنده انقطاع، أبو البختري لم يسمع من أبي سعيد، وأخرجه في 3/ 91 من طريق أبي البختري، عن رجل، عن أبي سعيد.
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه"، وهو الآتي بعد حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا.
باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم، الذي وَرَدَ النهي عنه، فإن هذا أكثر ما يُخشَى منه أن يقتله الأمراء وحده، وأما الخروج عليهم بالسيف، فيُخْشَى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين.
نعم إن خَشِيَ في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه، لم يَنْبَغِ له التعرض لهم حينئذ؛ لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا متى خاف على نفسه السيف، أو السوط، أو الحبس، أو القيد، أو النفي، أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى سَقَطَ أمرهم ونهيهم.
وقد نَصَّ الأئمة على ذلك، منهم: مالك، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، قال أحمد: لا يتعرض إلى السلطان، فإن سيفه مسلول، وقال ابنُ شُبْرُمة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كالجهاد يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين، ويحرُم عليه الفرار منهما، ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك.
فإن خاف السَّبَّ، أو سماع الكلام السيئ، لم يسقط عنه الإنكار بذلك، نَصَّ عليه الإمام أحمد، وإن احتمل الأذى، وقَوِيَ عليه، فهو أفضل، نَصَّ عليه أحمد أيضًا، وقيل له: أليس قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه"
(1)
، أي يُعَرِّضها من البلاء ما لا طاقة له به؟ قال: ليس هذا من ذلك.
ويَدُلّ على ما قاله ما خرّجه أبو داود، وابن ماجه، والترمذيّ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"
(2)
.
(1)
حديث صحيح أخرجه الطبراني في "الكبير"(13507) بلفظ: "لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه"، قيل: يا رسول الله، وكيف يذلّ نفسه؟ قال:"أن يتعرّض من البلاء لما لا يُطيق"، قال الهيثميّ: سنده جيّد. انتهى، وله شاهد من حديث حذيفة رضي الله عنه عند أحمد 5/ 405، والترمذيّ (2254)، وابن ماجه (4016)، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو وإن كان ضعيف الحفظ، إلا أنه لا بأس به في الشواهد.
(2)
حديث صحيح.
وخرّج ابن ماجه معناه، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه
(1)
.
وفي "مسند البزار" بإسناد فيه جهالة، عن أبي عُبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الشهداء أكرم على الله؟ قال:"رجل قام إلى إمام جائر، فأمره بمعروف، ونهاه عن منكر، فقتله"، وقد رُوِي معناه من وجوه أخرى كلها فيها ضعف.
وأما حديث: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه"، فإنما يَدُلّ على أنه إذا عَلِمَ أنه لا يطيق الأذى، ولا يصبر عليه، فإنه لا يتعرض حينئذ للأمراء، وهذا حقّ، وإنما الكلام فيمن عَلِمَ من نفسه الصبر لذلك. قاله الأئمة، كسفيان، وأحمد، والفضيل بن عياض، وغيرهم.
وقد رُوِي عن أحمد ما يدل على الاكتفاء بالإنكار بالقلب، قال في رواية أبي داود: نحن نرجو إن أنكر بقلبه، فقد سَلِم، وإن أنكر بيده فهو أفضل.
وهذا محمول على أنه يَخاف، كما صَرَّح بذلك في رواية غير واحد.
وقد حَكَى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يَعْلَم أنه لا يَقْبَل منه، وصحَّحَ القول بوجوبه، وهذا قولُ أكثر العلماء، وقد قيل لبعض السلف في هذا، فقال: يكون لك معذرةً، وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].
وقد وَرَدَ ما يُسْتَدَلُّ به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، ففي سنن أبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]؟ قال: سألت عنها خبيرًا، أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"بل ائتمروا بالمعروف وتَناهَوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مطاعًا، وهَوً ئ متبعًا، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام"
(2)
.
(1)
سنده حسن.
(2)
صححه ابن حبان (385)، ويشهد له حديث عبد الله بن عمرو الآتي بعده.
وفي "سنن أبي داود"
(1)
، عن عبد الله بن عمرو، قال: بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة، فقال:"إذا رأيتم الناس مَرَجَت عهودهم، وخَفَّت أماناتهم، وكانوا هكذا"، وشبّك أصابعه، فقمت إليه، فقلت له: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ فقال:"الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخُذْ بما تَعْرِف، ودَعْ ما تُنْكِرُ، وعليك بأمر خاصّة نفسك، ودع عنك أمر العامّة".
وكذلك رُوِي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، قالوا: لم يأت تأويلها بعدُ، إنما تأويلها في آخر الزمان.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا اختلفت القلوبُ والأهواءُ، وأُلْبِستُم شِيَعًا، وذاق بعضُكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، فهو حينئذ تأويل هذه الآية.
وعن ابن عمر قال: هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يُقْبَل منهم، وقال جُبير بن نفير، عن جماعة من الصحابة قالوا: إذا رأيت شُحًّا مطاعًا، وهَوىً مُتَّبَعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك حينئذ بنفسك، لا يضرُّك من ضلّ إذا اهتديت.
وعن مكحول قال: لم يأت تأويلها بعدُ، إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذ بنفسك، لا يضرُّك من ضل إذا اهتديت.
وعن الحسن أنه كان إذا تلا هذه الآية قال: يا لها من ثقةٍ ما أوثقها! ومن سعة ما أوسعها!.
وهذا كُلُّهُ قد يُحْمَلُ على أن مَن عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضرر سقط عنه، وكلام ابن عمر يدُلُّ على أن من عَلِم أنه لا يُقْبَل منه لم يجب عليه، كما حُكِيَ روايةً عن أحمد، وكذا قال الأوزاعي: مُرْ مَن تَرَى أن يقبل منك.
(1)
رقم (4342)، ورواه أحمد 2/ 162، وحسّن إسناده الحافظان: المنذريّ، والعراقيّ، وصححه الحاكم 4/ 435 و 525، ووافقه الذهبيّ.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الذي ينكر بقلبه: "وذلك أضعف الإيمان" يدُلّ على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من خصال الإيمان، ويدُلُّ على أن مَن قَدَر على خصلة من خصال الإيمان، وفَعَلَها، كان أفضل ممن تركها عجزًا.
ويدل على ذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم في حقّ النساء: "أما نقصان دينها؛ فإنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي"، يشير إلى أيام الحيض، مع أنها ممنوعة حينئذ من الصلاة، وقد جعل ذلك نقصًا في دينها، فدل على أن مَن قَدَر على واجب وفعله فهو أفضل ممن عجز عنه وتركه، وإن كان معذورًا في تركه، والله تعالى أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا" يَدُلّ على أن الإنكار متعلق بالرؤية، فإن كان مستورًا فلم يره، ولكن عَلِمَ به، فالمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات أنه لا يَتَعَرَّض له، وأنه لا يُفتِّش عما استراب به، وعنه رواية أخرى أنه يَكْشِف الْمُغَطَّى إذا تحقّقه، ولو سَمِعَ صوت غِنَاءٍ محرّم، أو آلات الملاهي، وعَلِمَ المكان الذي هي فيه، فإنه ينكرها؛ لأنه قد تحقّق المنكر، وعَلِمَ موضعه، فهو كما رآه. نَصّ عليه أحمد، وقال: أمّا إذا لم يعلم مكانه، فلا شيء.
وأما تَسَوُّر الجدران على مَن عَلِم اجتماعهم على منكر، فقد أنكره مثلُ سفيان الثوري وغيره، وهو داخل في التجسس المنهيّ عنه، وقد قيل لابن مسعود: إن فلانًا تَقْطُرُ لحيته خمرًا؟ فقال: نهانا الله عن التجسس.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "الأحكام السلطانية": إن كان في المنكر الذي غَلَب على ظنه الاستسرار به بإخبار ثقة عنه انتهاكُ حرمةٍ يفوت استدراكها كالزنا والقتل، فله التجسس، والإقدام على الكشف والبحث، حَذَرًا من فوات ما لا يُستَدْرَك من انتهاك المحارم، وإن كان دون ذلك في الرتبة، لم يجز التجسس عليه، ولا الكشف عنه.
والمنكر الذي يجب إنكاره، ما كان مُجْمَعًا عليه، فأما المختلف فيه، فمن أصحابنا مَن قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدًا، أو مقلدًا لمجتهد تقليدًا سائغًا، واستثنى القاضي في "الأحكام السلطانية" ما ضَعُفَ فيه الخلاف، وإن كان ذَرِيعةً إلى محظور متفَقٍ عليه، كربا النقد، فالخلاف فيه ضعيف، وهو
ذريعة إلى ربا النَّساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، فإنه ذريعة إلى الزنا، وذُكر عن إسحاق بن شاقلا أنّه ذَكَر أن المتعة هي الزنا صراحًا.
وعن ابن بطة قال: لا يُفسَخ نكاحٌ حَكَم به قاض، إن كان قد تأوَّل فيه تأويلًا، إلا أن يكون قَضَى لرجل بعقد متعة، أو طَلَّقَ ثلاثًا في لفظ واحد، وحَكَم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود، وعلى فاعله العقوبة والنكال.
والمنصوصُ عن أحمد الإنكار على الملاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على مَن لَعِب بها بغير اجتهاد، أو تقليدٍ سائغ، وفيه نظر، فإن المنصوص عنه أنه يُحَدُّ شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحدّ أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يَفسُقُ عنده بذلك، فَدَلَّ على أنه يُنْكَرُ كل مختلف فيه ضَعُفَ الخلاف فيه؛ لدلالة السنة على تحريمه، ولا يَخرُج فاعلُهُ المتأوِّل من العدالة بذلك، والله تعالى أعلم.
وكذلك نَصَّ أحمد على الإنكار على من لا يُتِمُّ صلاته، ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود، مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك.
(واعلم): أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تارةً يَحْمِل عليه رجاءُ ثوابه، وتارةً خوفُ العقاب في تركه، وتارةً الغضبُ لله على انتهاك محارمه، وتارةً النصيحة للمؤمنين، والرحمة لهم، ورجاءُ إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه، من التعرُّض لعقوبة الله وغضبه، في الدنيا والآخرة، وتارةً يَحمل عليه إجلالُ الله وإعظامه ومحبته، وأنه أهلٌ أن يُطاع فلا يُعْصَى، ويُذْكَر فلا يُنسَى، ويُشْكَر فلا يُكفَر، وأنه يُفْتَدَى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال، كما قال بعض السلف
(1)
: وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله، وأن لحمي قُرِض بالمقاريض، وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز يقول لأبيه: وَدِدتُ أني غَلَت بي وبك القدور في الله عز وجل.
ومن لَحَظَ هذا المقام، والذي قبله، وإن عليه كلُّ ما يَلْقَى من الأذى في الله تعالى، وربما دعا لمن آذاه، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا ضربه قومه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول:"رب اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"، متّفق عليه.
(1)
هو زهير بن عبد الرحمن البابي، كما في "الحلية" 10/ 150.
وبكل حال يَتَعَيّن الرفق في الإنكار، قال سفيان الثوري: لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، إلا مَن كان فيه ثلاث خصال: رفيقٌ بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدلٌ بما يأمر، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمر، عالمٌ بما ينهى.
وقال أحمد: الناس محتاجون إلى مُداراة، ورِفْقِ الأمر بالمعروف بلا غِلْظَة، إلا رجلٌ مُعْلِنٌ بالفسق، فلا حرمة له، قال: وكان أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه إذا مَرُّوا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مَهْلًا رحمكم الله، مَهلًا رحمكم الله.
وقال أحمد: يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يَكْرَه لا يغضب، فيكون يريد أن ينتصر لنفسه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى بطوله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[186]
(
…
(-) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، وَعَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، فِي قِصَّةِ مَرْوَانَ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الهمدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران المذكور قبل حديثين.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَجَاءٍ) بن ربيعة الزبيديّ - بضم الزاي - أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ، تَكَلّم فيه الأزديّ بلا حجة [5].
رَوَى عن أبيه، وأوس بن ضمْعَج، وعبد الله بن أبي الْهُذيل، وغيرهم.
وروى عنه الأعمش، وهو من أقرانه، وشعبة، والمسعوديّ، وفِطْر بن خليفة، وإدريس بن يزيد الأوديّ، وجماعة.
قال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن فُضيل، عن الأعمش: كان يَجمع صبيان المكاتب، ويُحَدِّثهم لكي لا ينسى حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحَكَى هذا الذي قاله ابن فضيل، وقال اللالكائيّ: رأى المغيرة بن شعبة، قال الحافظ: كذا قرأته بخط مغلطاي، وقرأت بخط الذهبي: قال الأزديّ وحده: منكر الحديث.
أخرج له الجماعة، إلا البخاريّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (673)
(1)
: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله
…
"، وأعاده بعده، وحديث (2383): "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر
…
".
5 -
(أَبُوهُ) رجاء بن ربيعة الزُّبيديّ، أبو إسماعيل الكوفيّ، صدوقٌ [3].
رَوَى عن عليّ، وأبي سعيد الخدريّ، وابن عمر، والحسن بن عليّ، والبراء بن عازب، وزهير بن حِزَام.
وروى عنه ابنه إسماعيل، ويحيى بن هانئ بن عروة المراديّ، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر ابن خلفون أن أحمد بن صالح - يعني العجلي - وغيره وثقوه.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ في "خصائص علي رضي الله عنه"، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب، وكذا عند أبي داود، وابن ماجه هذا الحديث فقط، وأخرج له المصنّف هنا متابعة.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وعن قيس بن مسلم إلخ) معطوف على "عن إسماعيل"، ومعناه أن الأعمش رواه عن إسماعيل، عن أبيه، وعن قيس بن مسلم، عن طارق، كلّ من والد إسماعيل وطارق يرويانه عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.
وقوله: (في قصّة مروان، وحديثِ أبي سعيد إلخ) متعلّق بـ "حدّثنا"، و"في"
(1)
رقم محمد فؤاد عبد الباقي.
بمعنى الباء، يعني أن رواية الأعمش بالطريقين المذكورين مشتملة على قصة مروان، وعلى حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المرفوع، ولم تقتصر على أحدهما، كما اشتملت عليهما رواية شعبة، وسفيان المتقدّمة.
[تنبيه]: رواية الأعمش بالطريقين ساقها الإمامان أبو داود وابن ماجه في "سننهما" بإسناد المصنّف، فقال الإمام أبو داود رحمه الله تعالى (1/ 296):
(1140)
حدثنا محمد بن العلاء، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري (ح) وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري، قال: أخرج مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل، فقال: يا مروان، خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يُخْرَج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد الخدريّ: مَن هذا؟ قالوا: فلان بن فلان، فقال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكرًا فاستطاع أن يغيره بيده، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". انتهى.
وقال الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى (1/ 406):
(1275)
حدثنا أبو كريب، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد، وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد، قال: أخرج مروان المنبر يوم العيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل، فقال: يا مروان خالفت السنة، أخرجت المنبر يوم عيد، ولم يكن يُخرج به، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، ولم يكن يُبدأ بها، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من رأى منكرًا، فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[187]
(50) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْر، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللَّفْظُ لِعَبْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَن الْحَارِث، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَر، عَنْ أَبي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ نَبِيٍّ، بَعَثَهُ اللهُ فِي أَمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ، يَاْخُذُونَ بِسُنَّتِه، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِه، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ".
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَحَدَّثْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، فَأَنْكَرَهُ عَلَيَّ، فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَنَزَلَ بِقَنَاةَ، فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُهُ، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا، سَألتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيث، فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ صَالِحٌ: وَقَدْ تُحُدِّثَ بِنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظ، ربّما وَهِمَ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ) بن أبي النضر هاشم بن القاسم البغداديّ، وقد يُنسب لجدّه، واسمه كنيته، وقيل: محمد، وقيل: أحمد، ثقةٌ [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسِّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وعبد لقبه، ثقة حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
4 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
5 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
6 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، مؤدّب ولد
عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ فقيهٌ [4](ت بعد 30 أو بعد 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
7 -
(الْحَارِثُ) بن فُضيل الأنصاريّ الْخَطْميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن محمود بن لبيد، وجعفر بن عبد الله بن الحكم، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي قُرَاد، وغيرهم.
وروى عنه صالح بن كيسان، وعُمَير بن يزيد، أبو جعفر الخطمي، والدَّراوَرْديّ، وفُلَيح بن سليمان، وابن إسحاق، وابن عجلان، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقة، وكذا قال عثمان الدارميّ، عن ابن معين، وقال مهنأ عن أحمد: ليس بمحفوظ الحديث، وقال أبو داود، عن أحمد: ليس بمحمود الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
8 -
(جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَم) بن رافع بن سنان الأنصاريّ، والد عبد الحميد، وقيل: إن رافع بن سِنَان جدُّه لأمه، ثقة [3].
رَوَى عنه، وعن عمه عمر بن الحكم، وأنس، ومحمود بن لَبِيد، وعقبة بن عامر، وعِلْباء السُّلَميّ، وله صحبة، وعبد الرحمن بن المسور بن مِخْرَمة، وعِدَّة.
وروى عنه ابنه، ويزيد بن أبي حبيب، ويحيى بن سعيد، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وغيرهم.
قال البخاري في "التاريخ": رأى أنسًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: رَوَى عن أنس، إن كان حَفِظَه أبو بكر الحنفيّ، وقال: ثقةٌ، وجزم ابن يونس أن رافع بن سِنَان جده لأمه.
وأخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (533): "من بنى لله مسجدًا
…
"، وكرره مرتين، و (1982): "لقد أنزل الله الآية
…
"، و (2014): "غَطُّوا الإناء، وأَوْكُوا السقاء
…
"، و (2673): "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا
…
" و (2895): "يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب
…
".
9 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمِسْوَرِ) بن مَخْرَمة بن نَوْفل بن أهيب بن
عبد مناف بن زُهْرة الزهريّ، أبو الْمِسْوَر المدنيّ، ثقة
(1)
[3].
رَوَى عن أبيه، وسعد بن أبي وقاص، وأبي رافع مَوْلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه جعفر، والزهريّ، وجعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاريّ، وحبيب بن أبي ثابت، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: أمه أمةُ الله بنت شُرَحبيل بن حَسَنة، وتوفي بالمدينة سنة تسعين، وكان قليل الحديث، وكذا أَرَّخه غير واحد، رَوَى له المصنّف هذا الحديث فقط.
10 -
(أَبُو رَافِعٍ) الْقِبْطيّ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هُرْمُز، يقال: إنه كان للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعتقه لَمّا بَشَّره باسلام العباس، وكان إسلامه قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد أُحُدًا وما بعدها.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن ابن مسعود، وعنه أولاده: الحسن، ورافع، وعبيد الله، والمعتمر، ويقال: المغيرة، وسَلْمَى، وأحفاده: الحسن، وصالح، وعبيد الله، أولاد عليّ بن أبي رافع، وعلي بن الحسين بن علي، وأبو سعيد المقبري، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وأبو غَطَفَان بن طَرِيف الْمُرِّيّ، وعَمْرو بن الشَّرِيد بن سُوَيد الثقفيّ، وحُصين والد داود، وسعيد بن أبي سعيد، مولى ابن حَزْم، وشُرَحبيل بن سعد، وغيرهم.
قال الواقديّ: مات بالمدينة بعد قتل عثمان، وقيل: مات في خلافة عليّ، وهو قول ابن حبان، ويقال: اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم، وقيل: سنان، وقيل: يسار، وقيل: صالح، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: قُزمان، وقيل: يزيد، وقيل: ثابت، وقيل: هُرمز، وقال ابن عبد البرّ: أشهر ما قيل في اسمه: أسلم، وقال يحيى بن معين: اسمه إبراهيم، وقال مصعب الزبيريّ:
(1)
قال عنه في "التقريب": مقبول، وعندي أنه ثقة؛ لأنه تابعيّ، روى عنه جماعة من الثقات، ووثقه ابن حبّان، وقال الذهبيّ في "الكاشف" 2/ 185: ثقة. انتهى.
وأخرج له المصنّف هنا في الأصول، فتوثيق مثله ظاهرٌ، وتعفب الدكتور بشار عواد على الحافظ في مقبول، وقال: صدوق، حسن الحديث، انظر ما كتبه في:"تحرير التقريب" 2/ 348.
اسمه إبراهيم، ولقبه بُريه، وهو تصغير إبراهيم، ونقل ابن شاهين عن أبي داود أنه كان اسمه قُزمان، فسُمّي بعده إبراهيم، وقيل: أسلم
(1)
.
وقال مصعب الزبيريّ: كان أبو رافع عبدًا لأبي أُحَيحة سعيد بن العاص، فأعتق بنوه نصيبهم، منهم خالد بن سعيد، فوهب نصيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، فكان أبو رافع يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وَليَ عمرو بن سعيد بن العاص المدينة ضَرَب ابنَ أبي رافع ليقول له: إني مولاكم، فأبى إلا أن يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضربه خمسمائة سوط، حتى قال له: أنا مولاكم.
هكذا أورد بعضهم هذا في ترجمة أبي رافع هذا، فتعقبه الحافظ، فقال: هذا غلطٌ بيّن؛ لأن أبا رافع القبطيّ كان للعباس بن عبد المطلب، وليس لأبي أُحيحة. فانظر "الإصابة" 7/ 114، والله تعالى أعلم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث، و (357): "أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" و (1313): "لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" و (1600): "أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء
…
".
11 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من تساعيّات المصنّف رحمه الله تعالى، فهو من أنزل أسانيده، كما سبق في "شرح المقدّمة".
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين غير شيوخ المصنّف الثلاثة، فالأولان بغداديان، والثالث كسّيّ، منسوب إلى كِسّ، بكسر، فتشديد سين مهملة، مدينة بما وراء النهر
(2)
.
3 -
(ومنها): أن فيه أربعةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: صالح، عن الحارث، عن جعفر، عن عبد الرحمن.
(1)
"الإصابة" 7/ 113.
(2)
"لب اللباب" 2/ 208.
4 -
(ومنها): أن فيه روايةَ صحابيّ عن صحابيّ: أبي رافع، عن ابن مسعود رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) الْقِبْطيّ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا مِنْ نَبِيٍّ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي ما من رسول من الرسل المتقدّمة، ويعني بذلك غالب الرسل، لا كلّهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر الذي أخبر فيه عن مجيء الأنبياء في أممهم يوم القيامة، فإنه قال فيه: "يأتي النبيّ، ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبيّ، وليس معه أحد
…
" الحديث
(1)
، فهذا العموم، وإن كان مؤكّدًا من بعد النفي، فهو مُخَصَّص بما ذكرناه. انتهى
(2)
(بَعَثَهُ اللهُ فِي أَمَّةٍ) هكذا في رواية مسلم، ووقع في نسخ "المصابيح" بلفظ "في أمته" بالإضافة، وكذا هو في "مسند أبي عوانة" (100). قال التوربشتيّ: هذا الحرف أعني "في أمة" وجدناه في نسخ "المصابيح""في أمته" بزيادة الهاء، ونحن نرويه بغير هاء عن كتاب مسلم وغيره، وهو الصواب والأمثل في فصيح الكلام، وقال المظهر: الرواية بالهاء أصحّ، وتعقّبه الطيبيّ، فقال: إن قوله: "نبيّ" نكرة، والمناسب أن يؤتى "أمّة" نكرة؛ إذ المعنى: ما من نبيّ من الأنبياء في أمة من الأمم؛ لاقتضاء "ما" النافية، و"من" الاستغراقيّة ذلك، ولأن قوله:"إن له من أمته" عبارة عن النكرة، فهو كالتعريف باللام بعد النكرة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أنه لا فرق بين الوجهين: إثبات الهاء وعدمه، فالكلّ صحيح إن صحّت الرواية بهما، وإلا فما صحت الرواية به متعيّنٌ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَبْلِي) متعلّق بصفة لـ"أمّة"(إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ) جمع حَوَاريّ، وهم خُلْصَانُ
(4)
الأنبياءِ الذين أَخْلَصُوا في حُبّ أنبيائهم، وأُخْلِصُوا
(1)
أخرجه الشيخان.
(2)
"المفهم" 1/ 235.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 624.
(4)
في "اللسان" 7/ 28: استخلص الرجلَ: إذا اختصّه لدُخْلُلة، وهو خالصتي، =
ونُقُّوا من كلِّ عيب، وحُوَّارَى الدقيق: هو الدقيق الذي نُخِلَ مرّةً بعد مرّة
(1)
، قاله الأزهريّ، وقال ابن الأنباريّ: هم المختصّون الْمُفَضَّلون، وسُمِّي خُبْز الْحُوَّارَى؛ لأنه أشرف الخبز، وقيل: هم الناصرون للأنبياء، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لكلّ نبيّ حواريّ، وحواريي الزبير"، متّفقٌ عليه، وقيل في حَوَاريّ عيسى عليه السلام خمسة أقوال: هم البيض الثياب، وقيل: الْمُبيِّضُون لها، وقيل: المجاهدون، وقيل: الصيّادون، وقيل: المخلصون، ذكره القرطبيّ
(2)
.
وقال النوويّ: وأما الحواريّون المذكورون فاختُلف فيهم، فقال الأزهريّ وغيره: هم خُلْصان الأنبياء وأصفياؤهم، والْخُلْصَان الذين نُقُّوا من كلّ عيب، وقال غيرهم: أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يَصلحون للخلافة بعدهم. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ: "الحواريّ": الناصر، وأصله أن أصحاب عيسى عليه السلام كانوا قَصّارين يُبيّضون الثياب، فلَمّا صاروا أنصاره قيل لكلّ ناصر: حواريّ، وهو الوجه المستقيم؛ لأنهم خُلْصان الأنبياء؛ ولأن حَوَاريّ الرجل صفوته، وخالصته الذي أُخْلِصَ، ونُقِّيَ من كلّ عيب
(4)
.
(وَأَصْحَابٌ) جمع صَحْبٍ، كفَرْخٍ وأفراخ، قاله الجوهريّ، وقال غيره: أصحاب عند سيبويه جمع صاحب، كشاهد وأشهاد، وليس جمع صَحْب؛ لأن فَعْلًا لا يُجمع على أفعال، إلا في ألفاظ معدودة، وليس هذا منها، والصحبة: الْخُلْطَةُ، والملابسة على جهة المحبّة، يقال: صَحِبه يَصْحَبه صُحْبَةً بالضمّ، وصَحَابَةً بالفتح، وقد يراد به الأصحاب، وجمع الصاحب صَحْبٌ، كراكب ورَكْب، وصُحْبَةٌ بضمّ الصاد، كفَارِهٍ وفُرْهَةٍ، وصِحَابٌ بالكسر، كجائع وجِيَاع، وصُحْبَان، كشابّ وشُبّان، قاله في "المفهم"
(5)
.
= وخُلْصَاني، وتقول: هؤلاء خُلْصَاني، وخُلَصَائي يستوي فيه الواحد والجماعة. انتهى.
(1)
"النهاية في غريب الحديث" 1/ 458.
(2)
"المفهم" 1/ 235.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 28.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 624.
(5)
"المفهم" 1/ 235 - 236.
وقال الطيبيّ: يجوز أن يكون "أصحاب" عطف تفسير و"حواريّون"، وأن يكون الأصحاب غير الحواريين. انتهى.
(يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ) أي يعملون بهدي ذلك النبي وسيرته، وقوله:(وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ) عطف توكيد لما قبله؛ لأنه بمعناه.
(ثُمَّ) يجوز أن تكون على التراخي الحقيقيّ في الزمان، وأشار بالتعبير به إلى أن تغيير السنن إنما تكون بعد طول زمن، ويحتمل أن تكون على معنى البعد في المرتبة، أفاده الطيبيّ (إِنَّهَا) الضمير للقصّة والجملة بعدها مفسّرة لها، قاله الطيبيّ، وقال القرطبيّ: الرواية "إنها" بهاء التأنيث فقط، وأعادها على الأمة، أو على الطائفة التي هي معنى "حواريين وأصحاب"، ويحتمل أن يكون ضمير القصّة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كونها للقصّة، هو الحقّ، وأما الاحتمال الأول فتكلّف لا داعي له، بل المعنى عليه ركيكٌ كما لا يخفى على من تأمله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(تَخْلُفُ) بضمّ اللام، يقال: خَلَفتُ فُلانًا على أهله وماله، من باب قَعَدَ، خِلافَةً: صِرتُ خليفته، وخَلَفْتُهُ: جئت بعده، والْخِلْفَة: اسمٌ منه، كالقِعْدة لهيئة القعود
(1)
.
(مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هؤلاء الحواريين والأصحاب (خُلُوفٌ) بضم الخاء جمع خَلْف، بفتح الخاء وسكون اللام، وهو الرديء من الأعقاب والولد السوء، ومنه قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169]، وأما الخَلَفُ بفتح اللام، فيُجمع على أخلاف، وهو الصالح منهم، أيضًا، ومنه ما يُروى:"يَحْمِلُ هذا العلمَ من كلّ خَلَف عُدُوله"
(2)
، وحَكَى الفرّاء الوجهين في الذمّ والفتح في المدح لا غير، وحكى أبو زيد الفتح فيهما جميعًا
(3)
.
وقال النوويّ: وأما الْخُلُوف، فبضمّ الخاء، وهو جمع خَلْف بإسكان اللام، وهو الخالف بشرّ، وأما بالفتح، فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر،
(1)
راجع: "المصباح" 1/ 178.
(2)
هذا حديث ضعيف.
(3)
"المفهم" 1/ 236 بزيادة.
وقال جماعة من أهل اللغة، منهم أبو زيد: يقال كلّ واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوّز الفتح في الشرّ، ولم يُجوّز الإسكان في الخير. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ: "الْخَلَفُ" بالتحريك والتسكين، وخُصّ الأول بالْخَلَف الصِّدْق، والثاني بالسُوء، ويُجمع خَلَفٌ على أَخلاف، كسَلَف وأسلاف، وخَلْفٌ على خُلُوف، كعَدْل وعُدُول، والمعنى أنه يجيء من بعد أولئك السلف الصالح أناسٌ لا خير فيهم، ولا خَلاقَ لهم في أمور الديانات. انتهى
(2)
.
(يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: وَصَفَ الْخُلُوف بوصفين مقابلين لما وصف الأصحاب بهما، فهم تصلّفوا، حيث قالوا: فعلنا ما أُمرنا من واجبات الدين، وفضائل الأعمال، ولم يفعلوا شيئًا من ذلك، بل فَعَلوا ما نُهُوا عنه، وهو الْمَعْنِيُّ بقوله (وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ) إذ فعل ما لم يؤمر به شرعًا من البدع المنهيّ عنها، وهو إيماء إلى قوله تعالى:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} والآية [آل عمران: 188]، وقوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصفّ: 2 - 3]، بخلاف السلف الصالح، فإنهم لَمّا اقتدوا بهدي نبيّ الله انخرطوا في سلك الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. انتهى
(3)
.
والفاء في قوله: (فَمَنْ جَاهَدَهُمْ) واقعة في جزاء شرط محذوف، أي إذا تقرّر ذلك، فمن حاربهم، وأنكر عليهم (بِيَدِهِ) بأن أزال المنكر (فَهُوَ مُؤْمِنٌ) قال الطيبيّ: التنكير فيه للتنويع، فإن الأول دلّ على كمال الإيمان، والثالث على نقصانه، والمتوسّط على القصد فيه، وفي "حبة خردل" على نفيه بالكليّة. انتهى. (وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ) أي أنكر عليهم (بِقَلْبِهِ)
(1)
"شرح النووي" 2/ 28.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 624.
(3)
راجع: "الكاشف" 2/ 624 - 625، و"المرقاة" 1/ 393.
بأن غَضِبَ عليهم، ولو قدر لحاربهم باليد، أو باللسان (فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ") برفع "حبّةُ" على أنه اسم "ليس" مؤخّرًا، و"وراء ذلك" خبرها مقدّمًا، وقوله:"من الإيمان" صفتها قُدّم عليه فأعرب حالًا؛ لأن نعت النكرة إذا قُدّم يُعرب حالًا، كما في قوله:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
…
يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
وذهب المظهر إلى أن الإشارةَ بـ "ذلك" إلى الإيمان في المرتبة الثالثة، ويحتمل أن يُشار به إلى المذكور كلّه، أي ليس وراء ما ذكرت من مراتب الإيمان مرتبة قطّ؛ لأن من لم يُنكر بالقلب رضي بالمنكر، والرضا بالمنكر كفرٌ، فتكون هذه الجملة المصدّرة بـ "ليس" معطوفةً على الجملة قبلها بكمالها، كذا قاله الطيبيّ.
وقال القاري بعد ذكره كلام الطيبيّ هذا: والأول هو الظاهر، أي وراء الجهاد بالقلب، يعني أن من لم ينكر عليهم بالقلب بعد العجز عن جهادهم بيده ولسانه، فلم يكن فيه حبّة خردل من الإيمان؛ لأن أدنى مراتب أهل الإيمان أن لا يستحسن المعاصي، وينكرها بقلبه، فإن لم يفعل ذلك، فقد خرج عن دائرة الإيمان، ودخل فيمن استحلّ محارم الله، واعتقد بطلان أحكامه. انتهى كلام القاري
(1)
.
(قَالَ أَبُو رَافِعٍ) القبطيّ رضي الله عنه (فَحَدَّثْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، فـ "عبد لله" منصوب على المفعوليّة، والمتعلَّق محذوفٌ، أي بهذا الحديث (فَأنْكَرَهُ) أي هذا الحديث (عَلَيَّ) هذا الإنكار يُحمل على أنه من باب التأكّد في صحّة سياق الحديث؛ إذ يحتمل أن يزيد، أو ينقص، أو يحرّف بعضه؛ لأن الإنسان عُرضة لهذا كلّه، فالنسيان طبيعته، والذهول سجيّته، وليس من باب الردّ عليه لاتهامه؛ لأن أبا رافع رضي الله عنه صحابيّ جليلٌ، رفيعُ القدر، معلوم العدالة والصدق عند ابن عمر رضي الله عنهما، ونظيره ما وقع لوالده عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حيث أنكر على الصحابيّ الجليل أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه في قضية الاستئذان، حتى شهد له أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وقصّتهما مشهورة في
(1)
"المرقاة شرح المشكاة" 1/ 394.
"الصحيحين"، وغيرهما
(1)
. (فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، أي جاء من الكوفة إلى المدينة (فَنَزَلَ بِقَنَاةَ) قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا هو في بعض الأصول المحققَّة بقناة - بالقاف المفتوحة، وآخره تاء التأنيث - وهو غير مصروف للعلمية والتأنيث، وهكذا ذكره أبو عبد الله الْحُمَيديّ في "الجمع بين الصحيحين"، ووقع في أكثر الأصول، ولمعظم رواة كتاب مسلم "بفنائه" - بالفاء المكسورة، وبالمدّ، وآخره هاء الضمير، قبلها همزة - وجمعه أفنية، وهو ما بين أيدي المنازل والدُّور من البراح، وكذا رواه أبو عوانة الإسفراييني في "مستخرجه" على "صحيح مسلم"، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: في رواية السمرقنديّ "بقناة"، وهو الصواب و"قَنَاةُ" وادٍ من أودية المدينة، عليه حرثٌ ومالٌ من أموالها، قال: ورواية الجمهور "بفنائه"، وهو خطأٌ، وتصحيف. انتهى
(2)
.
(فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَيْهِ) أي طلب أن أتّبعه (عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَعُودُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي يزوره، وعاد العليل يعوده عَوْدًا، وعيَادةً، وعيادًا: إذا زاره، وقال الفرّاء: يقال: هؤلاء عَوْدُ فلان، وعُوَّادُهُ، مثلُ زَوْرِه، وزُوّاره، وهم الذين يَعُودونه إذا اعتلّ، وفي حديث فاطمة بِنت قيس:"فإنها امرأة يكثُر عُوّادها": أي زُوّارها، وكلّ من أتاك مرّةً بعد أخرى فهو عائدٌ، وإن اشتهر ذلك في عيادة المريض حتى صار كأنه مختصّ به، قاله في "اللسان"
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أفادت عبارة "اللسان" أن العيادة لا
(1)
قال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى:
حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، حدثني عطاء، عن عُبيد بن عُمير، قال: استأذن أبو موسى على عمر، فكأنه وجده مشغولًا، فرجع فقال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس، ائذنوا له، فدعي له، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا، قال: فأتني على هذا ببينة، أو لأفعلنّ بك، فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد الخدري، فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خَفِي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ألهاني الصَّفْق بالأسواق، يعني الخروج إلى التجارة.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 304، و"الصيانة" ص 208 - 209، و"شرح النووي" 2/ 28 - 29.
(3)
"لسان العرب" 3/ 319.
تختصّ بزيارة المريض فقط، كما يوهمه عبارة بعض معاجم اللغة حيث يقيّدونه، فيقولون: عاد المريض: إذا زاره، فيكون معنى "يعوده" في هذا الحديث مطلق الزيارة، فتنبّه.
ثم وجدت عند ابن حبان نصًّا على أن ابن مسعود رضي الله عنه كان مريضًا، من رواية عطاء بن يسار، عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه: "قال عطاء: فقلت: هو مريضٌ، فما يمنعك أن تعوده؟ قال: فانطلق بنا إليه، فانطلق وانطلقت معه، فسأله عن شكواه، ثم سأله عن الحديث
…
". انتهى
(1)
.
فتبيّن بهذه الرواية أن قوله هنا: "يعوده" مستعمل على معناه الغالب، والله تعالى أعلم.
(فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ) أي ذهبت مع ابن عمر إلى ابن مسعود رضي الله عنهم (فَلَمَّا جَلَسْنَا، سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ) أي لإزالة إنكار ابن عمر عليه (فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ) أي من غير زيادة، ولا نقص.
(قَالَ صَالِحٌ) بن كيسان (وَقَدْ تُحُدِّثَ) بضم التاء والحاء، مبنيًّا للمفعول، وإنما عبّر به؛ لعدم صحة هذه الرواية؛ لمخالفتها للرواية المشهورة؛ فإن جمهور الرواة رووا الحديث من رواية أبي رافع، عن ابن مسعود، لا من رواية أبي رافع، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه المصنّف بالطريقين هنا (بِنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ) رضي الله عنه، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: معنى هذا أن صالح بن كيسان قَال: إن هذا الحديث، رُوِي عن أبي رافع رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن مسعود رضي الله عنه فيه، وقد ذكره البخاريّ كذلك في "تاريخه"
(2)
، مُخْتَصَرًا، عن أبي رافع رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: رواية البخاريّ المشار إليها أخرجها في "التاريخ الكبير" 5/ 347 - 348 فقال رحمه الله تعالى:
قال ابن أبي مريم: حدثنا عبد العزيز بن محمد، حدثني الحارث بن فُضَيل، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، عن عبد الرحمن بن مِسْوَر بن
(1)
"الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" 1/ 403 - 404.
(2)
راجع: "التاريخ الكبير" 5/ 348.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 302 - 303.
مَخْرَمة، عن أبي رافع مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما كان نبيّ إلا له حواريون يهتدون بهديه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا انفرد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[22/ 187 و 188](50) بهذه الأسانيد، و (أحمد) في "مسنده"(4363 و 4379 و 4402)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(177 و 6193)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(98 و 100)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(177)، و (ابن منده) في "الإيمان"(183)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9784)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" 10/ 90، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في الكلام على هذا الحديث:
قد تكلّم الإمام أحمد رحمه الله تعالى في هذا الحديث، قال القاضي عياض: وقد قال أبو عليّ الْجَيّانيّ، عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال: هذا الحديث غير محفوظ، قال: وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، وابنُ مسعود يقول:"اصبروا حتى تلقوني". انتهى. هذا كلام القاضي رحمه الله تعالى.
وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: هذا الحديث مما انفرد به مسلم عن البخاريّ، وقد أنكره أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فيما بلغنا عن أبي داود السِّجِسْتانيّ في "مسائله عن أحمد" قال: الحارث بن فُضيل ليس بمحفوظ الحديث، وهذا الكلام لا يُشبه كلام ابن مسعود، وذكر أحمد قوله صلى الله عليه وسلم:"اصبروا حتى تلقوني".
قال ابن الصلاح: قد رَوَى عن الحارث هذا جماعة من الثقات، ولم نَجِدْ له ذكرًا في كتب الضعفاء، وفي كتاب ابن أبي حاتم، عن يحيى بن معين أنه ثقة، ثم إن الحارث لم ينفرد به، بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح بن كيسان المذكور.
وذكر الإمام الدارقطني رحمه الله في "كتاب العلل" أن هذا الحديث قد رُوي من وجوه أُخَرَ، منها عن أبي واقد الليثيّ، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "اصبروا حتى تلقوني" فذلك حيث يلزم من ذلك سفك الدماء، أو إثارة الفتن، ونحو ذلك، وما وَرَدَ في هذا الحديث من الحثِّ على جهاد المبطلين باليد واللسان، فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة، على أن لفظ هذا الحديث مسوق فيمن سَبَقَ من الأمم، وليس في لفظه ذكر لهذه الأمة. انتهى كلام الشيخ أبي عمرو
(1)
.
قال النوويّ بعد نقله كلام ابن الصلاح هذا: وهو ظاهر كما قال، وقَدْحُ الإمام أحمد رحمه الله في هذا عَجَبٌ، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث، وإن تكلم فيه الإمام أحمد، إلا أن غيره من الأئمة قد صححوه، منهم المصنّف، فقد أخرجه هنا، وابن حبّان في "صحيحه"، وأبو عوانة، في "مستخرجه"، وأبو نعيم كذلك في "مستخرجه"، وقال ابن منده في "كتاب الإيمان" بعد إخراجه (1/ 346) (184): هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم من حديث يعقوب، وابن أبي مريم، وتركه البخاريّ، ولا علّة له، ورواه عبد الله بن الحارث الْجُمحيّ، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة نحو معناه. انتهى كلام ابن منده.
والحاصل أن الحديث صحيح، فهو مرويّ عن ابن مسعود رضي الله عنه بطرق، فقد رواه مسلم هنا من طريق عبد الرحمن بن المسور عنه، ورواه ابن حبّان من طريق عطاء بن يسار عنه، فقال في "صحيحه" (1/ 403):
(177)
أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا عاصم بن محمد، عن عامر بن السِّمْط، عن معاوية بن إسحاق بن طلحة، قال: حدثني، ثم استكتمني أن أحدِّث به ما عاش معاوية، فذكر عامر، قال: سمعته وهو يقول: حدثني عطاء بن يسار، وهو قاضي المدينة، قال: سمعت ابن مسعود، وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون
(1)
"الصيانة" ص 210 - 211.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 28.
أمراء من بعدي، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده".
قال عطاء: فحين سمعت الحديث منه انطلقت به إلى عبد الله بن عمر، فأخبرته، فقال: أنت سمعت ابن مسعود يقول هذا؟ كالْمُدْخَل عليه في حديثه، قال عطاء: فقلت: هو مريضٌ، فما يمنعك أن تعوده، قال: فانطلق بنا إليه، فانطلق وانطلقت معه، فسأله عن شكواه، ثم سأله عن الحديث، قال: فخرج ابن عمر، وهو يُقَلِّب كفيه، وهو يقول: ما كان ابن أم عبد يَكْذِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وهذا إسناد صحيح، فرجاله رجال الصحيح، غير عامر بن السِّمْط، وهو ثقة، وثقه يحيى القطّان، والنسائيّ، وغيرهما
(2)
، فقد تابع عطاءُ بن يسار عبدَ الرحمن بن المسور، في روايته عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد ثبت سماع عطاء من ابن مسعود في هذه الرواية، وقد أثبت سماعه منه ابن سعد في "طبقاته" 5/ 173، والبخاريّ في "التاريخ الكبير" 6/ الترجمة (2992)، فقول أبي حاتم في "المراسيل" ص (129):"لم يسمع منه" مدفوع بهذا.
ورواه البخاريّ في "التاريخ الكبير" 5/ 348: قال: وقال عمرو بن محمد، ويعقوب، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الحارث، عن جعفر، عن عبد الرحمن بن أبي رافع، عن أبي رافع نحوه، قال أبو رافع: فحدّثت عبد الله بن عمر، فانطلقت معه، فلما جلسنا سألته، فحدّثنيه كما حدّثتُ ابن عمر.
وقال محمد بن عبد الله: حدثنا عمرو بن طلحة، عن أبي سهيل بن مالك، عن ابن أبي رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قلت لعبد الله بن عمر: أخبرني أخوك ابن مسعود، قال: "يكون بعد الأنبياء خَلَف
…
"، فقَصَّ الحديث
(3)
.
والحاصل أن الحديث ثابتٌ صحيح من غير شكّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" 1/ 403 - 404.
(2)
راجع ترجمته في: "التقريب" وأصله.
(3)
"التاريخ الكبير" 5/ 347 - 348.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[188]
(
…
) - (وحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْخَطْمِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا كَانَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ كَانَ لَهُ حَوَارِيُّونَ، يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ"، مِثْلَ حَدِيثِ صَالِحٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ قُدُومَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاجْتِمَاعَ ابْنِ عُمَرَ مَعَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ) الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ بالولاء، أبو محمد المصريّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10].
رَوَى عن عبد الله بن عمر العمري، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وسليمان بن بلال، وإبراهيم بن سويد، ومالك، والليث، وغيرهم.
ورَوى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة محمد بن يحيى الذُّهْليّ، والحسن بن عليّ الخلال، ومحمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن إسحاق الصغانيّ، وغيرهم.
قال أبو داود: ابن أبي مريم عندي حجة، وقال الحسين بن الحسن الرازي: سألت أحمد: عمَّن أكتب بمصر؟ فقال: عن ابن أبي مريم، وقال ابن معين: ثقة من الثقات، وقال العجلي: كان عاقلًا، لم أر بمصر أعقل منه ومن عبد الله بن عبد الحكم، وقال أبو حاتم: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحاكم عن الدارقطني: قال النسائي: سعيد بن عُفير صالحٌ، وسعيد بن الحكم لا بأس به، وهو أحب إليَّ من ابن عُفير.
وقال ابن يونس: كان فقيهًا، وُلد سنة (144)، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (23) حديثًا.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّد) بن عُبيد الدّرَاورديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كُتُب غيره، فيُخطئ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يهتدون بهديه) - هو بفتح الهاء، وإسكان الدال - أي بطريقته وسَمْته.
وقوله: (مثل حديث صالح
…
إلخ) يعني حديث عبد العزيز عن الحارث بن الفضيل مثل حديث صالح بن كيسان إلا في عدم ذكر قدوم ابن مسعود، واجتماع ابن عمر رضي الله عنهم معه.
[تنبيه]: روايةُ عبد العزيز هذه أخرجها أبو عوانة في "مسنده المستخرج"(1/ 43)، عن شيخ المصنّف، فقال:
(98)
حدثنا الصاغانيّ، قال: أنبا ابن أبي مريم، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، قال: ثنا الحارث بن فُضيل الْخَطْمِيّ، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، عن عبد الرحمن بن مِسْوَر بن مَخْرَمة، عن أبي رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان من نبيّ، إلا وله حَوَاريُّون، يَهْدُون بِهَدْيه
(1)
، ويستنون بسنته، ثم يكون من بعدهم خُلُوف، يقولون ما لا يفعلون
(2)
، ويعملون ما ينكرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل".
[تنبيه آخر]: قوله: (ولم يذكر قدومَ ابن مسعود، واجتماعَ ابن عمر معه) هذا مما أنكره الحريريّ في كتابه "دُرَّة الْغَوَّاص في أوهام الْخَوَاصّ"
(3)
، فقال: لا يقال: اجتمع فلان مع فلان، وإنما يقال: اجتمع فلان وفلان، وقد خالفه
(1)
وعند ابن منده في "كتاب الإيمان" برقم (184) بلفظ: "يهتدون بهديه".
(2)
ولفظ ابن منده (184) "يقولون ما لا يعملون
…
إلخ".
(3)
راجع: "درّة الغوّاص" ص 343.
الجوهريّ، فقال في "صحاحه": جامعه على أمر كذا: أي اجتمع معه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنكار الحريريّ المذكور غير صحيح، فقد خالفه أرباب اللغة، كالجوهريّ في "صحاحه"، ومجد الدين في "القاموس المحيط"، وابن منظور في "لسان العرب": وعبارته: وجامعه على الأمر: مالأه عليه، واجتمع معه. انتهى
(1)
.
فظهر بهذا أن تعبير مسلم رحمه الله تعالى هنا بقوله: "واجتماع ابن عمر معه" عبارة صحيحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
23 - (بَابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِيه، وَرُجْحَانِ أَهْلِ الْيَمَنِ فِيهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[189]
(51) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ (ح) وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا، يَرْوِي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَن، فَقَالَ:"ألَا إِنَّ الْإِيمَانَ هَهُنَا، وَإنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِل، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَان، فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر رجلًا:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد المذكور قبل باب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، ربّما دلّس، وكان بآخره يُحدّث من كتب غيره، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
(1)
راجع: "الصحاح" 3/ 999، و"القاموس" ص 640، و"لسان العرب" 8/ 57.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمَير المذكور قبل باب.
4 -
(أَبُوه) عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب حديث، من أهل السنة، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
5 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء المذكور في الباب الماضي.
6 -
(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
7 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ الْحَارِثيُّ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
8 -
(مُعْتَمِرٌ) بن سليمان بن طرخان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
9 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
10 -
(قَيْس) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ، مخضرم [2] مات بعد (90) وقيل: قبلها، وقد جاوز مائة، وتغيّر، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.
11 -
(أَبُو مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاريّ البدريّ الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه قبل (40) وقيل: بعدها (ع)، تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 458، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه أبا بكر فما أخرج له الترمذيّ، ويحيى فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين إلا يحيى بن حبيب، ومعتمرًا، فبصريّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن شيخه محمد بن العلاء أحد مشايخ الأئمة الستة بلا واسطة، وهم تسجة وقد تقدّموا غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن قيسًا هو التابعيّ الذي تفرّد بالرواية عن العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم كلِّهم على الصحيح، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث" بقوله:
وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ
…
وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمٍ كَثِيرُ
7 -
(ومنها): كتابة (ح) ثلاث مرّات إشارة إلى التحويل، وقد سبق تمام البحث فيها، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ) اختُلف في اسم أبيه، فقيل: هُرْمُز، وقيل: سعد، وقيل: كثير، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا) أي ابن أبي حازم، واختُلف في اسم أبيه، فقيل: حُصين، وقيل: عوف، وقيل: عبد عوف، وهو صحابيّ له حديث (يَرْوِي) جملة في محل نصب على الحال، من "قيسًا"، أي حال كونه راويًا (عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ) عقبة بن عمرو الأنصاريّ البدريّ، واختُلف في نسبته إلى بدر، فقيل: لشهوده وقعة بدر، وقيل: إنه لم يشهدها، ولكنه سكن بدرًا، والأول هو الأصح، وهو قول البخاريّ رحمه الله تعالى، فقد عدّه في "صحيحه" من البدريين، أنه (قَالَ: أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ) أي إلى جهة اليمن، فيه ردّ على من زعم أن المراد بقوله:"يمان" الأنصار؛ لكون أصلهم من أهل اليمن؛ لأن في إشارته إلى جهة اليمن ما يدلّ على أن المراد به أهلها حينئذ، لا الذين كان أصلهم منها، وسبب الثناء على أهل اليمن إسراعهم إلى الإيمان، وقبولهم
(1)
.
[فائدة]: قال البخاريّ في "صحيحه": سُمّيت اليمن؛ لأنها عن يمين الكعبة، والشام عن يسار الكعبة، والمشأمة الميسرة، واليد اليُسرى الشُّؤْمَى، والجانب الأيسر الأشأم. انتهى
(2)
.
قال في "الفتح": هو قول أبي عُبيدة، وروي عن قُطرب قال: إنما سُمّيت
(1)
"فتح" 6/ 424 - 425 كتاب بدء الخلق رقم (3300).
(2)
راجع: "صحيح البخاري" 6/ 644 بنسخة "الفتح".
يمنًا؛ ليمنه، والشام شأمًا؛ لشؤمه، وقال الهمدانيّ في "الأنساب": لَمّا ظَعَنت العرب العاربة، أقبل بنو قطن بن عامر، فتيامنوا، فقالت العرب: تيامنت بنو قطن، فسمّوا اليمن، وتشاءم الآخرون، فسُمّوا شامًا، وقيل: إن الناس لَمّا تفرّقت ألسنتهم حين تبلبلت ببابل أخذ بعضهم عن يمين الكعبة، فسُمّوا يمنًا، وأخذ بعضهم عن شمالها، فسُمّوا شأمًا، وقيل: إنما سُمّيت اليمن بيمن بن قحطان، وسُمّيت الشام بسام بن نوح، وأصله شام بالمعجمة، ثم عُرّب بالمهملة. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ هَهُنَا) قال القرطبيّ: قيل: هذه الإشارة صدرت منه صلى الله عليه وسلم، وهو بتبوك، وبينه وبين اليمن مكة والمدينة، ويؤيّد هذا قوله في حديث جابر رضي الله عنه:"الإيمان في أهل الحجاز"، أخرجه مسلم، فعلى هذا يكون المراد بأهل اليمن أهل المدينة ومن يليهم إلى أوائل اليمن، وقيل: كان بالمدينة، ويؤيّده أنه كونه بالمدينة كان غالب أحواله، وعلى هذا فتكون الإشارة إلى سُبّاق اليمن، أو إلى القبائل اليمنيّة الذين وفدوا على أبي بكر لفتح الشام، وأوائل العراق، وإليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"إني لأجد نَفَسَ الرحمن من قبل اليمن"
(2)
، أي نصره في حياته وتنفيسه عنه فيها وبعد مماته. انتهى
(3)
.
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 651 "كتاب المناقب" رقم (3489 - 3499).
(2)
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "المسند"(10555):
حدثنا عصام بن خالد، حدثنا حَرِيز، عن شَبيب، أبي رَوْح، أن أعرابيًّا أتى أبا هريرة، فقال: يا أبا هريرة، حدثنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
، فذكر الحديث، فقال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن"، وقال أبو المغيرة:"من قبل المغرب، ألا إن الكفر والفسوق، وقسوة القلب في الفدادين، أصحاب الشعر والوبر، الذين يغتال الشياطين على أعجاز الإبل".
وهذا حديث رجال إسناده ثقات، فشبيب روى عنه جماعة، وهو من شيوخ حريز بن عثمان، وقد قال أبو داود: شيوخ حريز ثقات، ووثقه ابن حبّان، وعصام من شيوخ البخاريّ في "صحيحه"، وقال عنه النسائي: ليس به بأس.
(3)
"المفهم" 1/ 236 - 237.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الثاني هو الصواب، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى. وأما حديث:"إني لأجد نفس الرحمن إلخ" فقد أخرجه أحمد في "مسنده"، بسند رجاله ثقات، كما قال الحافظ العراقيّ
(1)
، بلفظ:"وأجد نَفَسَ ربكم من قِبَلِ اليمن".
(وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: القسوة، وغِلَظ القلوب اسمان لمسمّى واحد، وهو نحو قوله تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، والْبَثُّ هو الْحُزن.
ويحتمل أن يقال: إن القسوة يُراد بها أن تلك القلوب لا تلين لموعظة، ولا تخشع لتذكار، وغِلَظها أن لا تفهم، ولا تعقل، وهذا أولى من الأول. انتهى
(2)
.
(فِي الْفَدَّادِينَ) زعم أبو عمرو الشيبانيّ أنه بتخفيف الدال، وهو جمع فَدّان، بتشديد الدال، وهو عبارة عن البقر التي يُحْرَث عليها، حكاه عنه أبو عبيد، وأنكره عليه، وعلى هذا فالمراد بذلك أصحابها، فحُذف المضاف، والصواب:"الْفَدّادون" بتشديد الدال، جمع فَدّادٍ بدالين، أولاهما مشدّدة، وهذا قول أهل الحديث، وجمهور أهل اللغة الأصمعيّ وغيره، وهو من الْفَدِيد، وهو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم، ونحو ذلك.
وقال أبو عبيدة، معمر بن المثنى: هم المكثرون من الإبل الذين يملك أحدهم المائتين منها، إلى الألف، قاله ابن الصلاح رحمه الله تعالى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الفدّادون" مشدّد الدال: جمع فَدّاد، قال أبو عبيدة: هم المكثرون من الإبل، وهم جُفَاةُ أهل الخيلاء، واحدهم فدّاد، وهو الذي يملك من المائتين إلى الألف، وقال أبو العبّاس: هم الْجَمَّالُون، والبقّارون، والحمّارُون، والرّعيان، وقال الأصمعيّ: هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم، وأموالهم، ومواشيهم، قال: والفَدِيدُ الصوت، وقد فَدَّ الرجلُ يَفِدُّ فَدِيدًا، وأنشد [من الطويل]:
(1)
"تخريج أحاديث الإحياء" 1/ 253.
(2)
"المفهم" 1/ 237.
(3)
"الصيانة" ص 217.
أَعَاذِلَ مَا يُدْرِيكِ أَنْ رُبَّ هَجْمَةٍ
…
لِأَخْفَافِهَا فَوْقَ الْمِتَانِ
(1)
فَدِيدُ
ورجلٌ فَدّادٌ: شديد الصوت، وأما الْفَدَادينُ بتخفيف الدال: فهي البقر التي تَحْرُثُ، واحدها فَدَّان بالتشديد، عن أبي عمرو الشيبانيّ.
قال القرطبيّ: وأما الحديث فليس فيه إلا رواية التشديد، وهو الصحيح، على ما قاله الأصمعيّ وغيره. انتهى
(2)
.
(عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ)"عند" متعلّق بـ "الفدّادين"، يعني الذين لهم جَلَبَةٌ، وصِيَاحٌ عند أذناب إبلهم في حال سوقهم لها، قاله ابن الصلاح
(3)
.
وقال القرطبيّ: المراد به - والله أعلم - الملازمون للإبل السائقون لها، ويظهر لي أن الفدّاد هو العامل في غير مكانه المصوّت عند أذناب الإبل سوقًا لها، وحدوًا بها. انتهى
(4)
.
(حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ)"حيثُ" ظرف متعلّق بـ "الفدّادين" أيضًا، و"يطلُع" بضم اللام، يقال: طلعت الشمس طُلُوعًا، من باب قَعَدَ، ومَطْلِعًا بفتح اللام، وكسرها، وكلُّ ما بدا لك من عُلْوٍ، فقد طَلَعَ عليك، قاله الفيّومي
(5)
.
وقوله: "قرنا الشيطان" تثنية قَرْن، ومعناه: جانبا رأسه، وقيل: هما جَمْعَاه اللذان يُغْرِيهما بإضلال الناس، وقيل: شيعتاه من الكفار.
والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان، ومن الكفر، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"رأسُ الكفر نحو المشرق"، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يَخرُج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة، ومثار الْكَفَرَة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس، قاله ابن الصلاح
(6)
.
وقال القرطبيّ: هذا تعيين لمواضعهم، كما قال في الرواية الأخرى:"رأس الكفر قبل المشرق".
واختُلف في قرني الشيطان، فقيل: هما ناحيتا رأسه العليا، وهذا أصل
(1)
"الْمِتَانُ": الفلاة.
(2)
"المفهم" 1/ 237 - 238.
(3)
"الصيانة" ص 218.
(4)
"المفهم" 1/ 238.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 375.
(6)
"الصيانة" ص 218.
هذا اللفظ وظاهره، فإن قَرْن الشيء أعلاه في اللغة، فيكون معناه على هذا أن الشيطان ينتصب قائمًا مع طلوع الشمس لمن يسجد؛ ليسجد له، ويُعْبَد بعبادتها، ويفعل هذا في الوقت الذي يَسجُد لها الكفّار، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس تطلُع، ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، ثم إذا قاربت الغروب قارنها، ثم إذا غربت فارقها"
(1)
.
وقيل: القرن: الجماعة من الناس والأمة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
…
" الحديث
(2)
، وعلى هذا فيكون معنى قرني الشيطان في الحديث أنهما أمتان عظيمتان يعبدون غير الله، ولعلهم في ذلك ربيعة ومضر المذكوران في الحديث، أو أمتان من الفرس يعبدون الشمس، ويسجدون لها من دون الله، كما جاء في الحديث:"وحينئذ يسجد لها الكفّار".
وقال الخطّابيّ: قرن الشيطان ضُرب به المثل فيما لا يُحمَد من الأمور.
وقيل: المراد بهذا الحديث ما ظهر بالعراق من الفتن العظيمة، والحروب الهائلة، كوقعة الجمَل، وحروب صفّين، وحروراء، وفِتَن بني أميّة، وخروج الخوارج، فإن ذلك كان أصله ومنبعه العراق، ومشرق نجد، وتلك مساكن ربيعة ومضر إذ ذاك، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ
(3)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقوله: "قرنا الشيطان" القرنان ناحيتا الرأس، وهو مثل ما تقول: يتحرّك بحركتهم، ويتسلّط كالمعين لهم، وهذا على تأويل الحربيّ في أن الشمس تطلُع بين قرني شيطان، وقد يكون القرنان ها هنا ربيعة ومضر، وأضافهما إلى الشيطان؛ لاتّباعهما له، ويكون القرن أيضًا هنا يعني الجماعة الناجمة، والفئة الطالعة، كما قال في الحديث الآخر:"هذا قرنٌ قد طلع"
(4)
: أي أصحاب بدعة حَدَثُوا.
(1)
رواه مالك في "الموطأ" 1/ 219، والنسائيّ 1/ 275.
(2)
متفق عليه.
(3)
"المفهم" 1/ 238 - 239.
(4)
هذا أثر موقوف على خبّاب بن الأرت رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح =
ويكون القرن القوّة، فيكون معناه هنا إضافة قوّتهما إلى الشيطان، وعونهما له على ما يهمّ به، وقال الخطابيّ: القرن يُضرَب به المثل فيما لا يُحمد من الأمور، وقد ذهب بعض المتكلّمين على الحديث أن المراد بهذا ما طلع من جهة المشرق ببلاد العراق، من الفِتَن المبيرة في صدر الإسلام، من وقعة الجَمَل، وصِفّين، وحَرُوراء، وفُتون بني أميّة، وكلّ ذلك كان بمشرق نجد والعراق، وقد جاء في حديث الخوارج:"يخرج ناس من المشرق"
(1)
، ثم خروج دُعاة بني العباس من أقصى المشرق، وارتجاج الأرض فتنةً، ويكون الكفر ها هنا كفر النعم، وأكثر الفِتن والأحداث والبدع إنما كانت من قبل المشرق، قال: وقد يكون الكفر على وجهه، والمراد برأس الكفر الدجّال؛ لأن خروجه من قبل المشرق
(2)
، أو يكون على ما ذكره من قدّمنا من أهل فارس، وقد جاء في الحديث المتّفق عليه، بمعنى ما تقدّم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وهو يشير إلى المشرق:"إن الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان"، أو قال:"قرن الشمس"، وهو محمول على ما تقدّم من الوجوه كلّها، ويدلّ على صحّة هذا التأويل أيضًا دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم على مضر في غير موطن، وقوله في حديث حُذيفة رضي الله عنه:"لا تَدَعُ مُضر عبدًا لله عز وجل مؤمنًا إلا فتنوه، أو قتلوه"، وقد بيّنه حذيفة رضي الله عنه حين دخلوا عليه عند قتل عثمان رضي الله عنه، حتى ملأوا حُجرته وبيته من
= عنه أنه رأى ابنه عند قاصّ، فلما رجع اتّزر، وأخذ السوط، وقال:"أمع العمالقة؟ هذا قرنٌ قد طلع""المصنف" 8/ 559 - 560.
(1)
أخرجه الشيخان، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرُقُون من الدين كما يمرُق السهم من الرَّمِيَّة، ثم لا يعودون فيه، حتى يعود السهم إلى فُوقه"، قيل: ما سيماهم؟ قال: "سيماهم التحليق"، أو قال:"التسبيد".
(2)
يشير إلى ما أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه بإسناد صحيح، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدجال يخرج من أرض بالمشرق، يقال لها: خُرَاسان، يتبعه أقوام، كأنّ وجوههم الْمَجَانّ الْمُطْرقة"، قال أبو عيسى: حديث حسن غريب.
ربيعة ومُضر، فقال: ولا تبرح ظلمة مضر كلّ عبد مؤمن تفتنه، أو تقتله
(1)
.
قال الطحاويّ: المراد بمضر هنا بعضهم، كما بيّنه حذيفة، والعرب تقول مثل هذا في الأشياء الواسعة، تُضيف ما كان من بعضها إلى جملتها، كما قال الله تعالى:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]، ولم يُرد الجميع، وكذلك يُحمل على هذا ما ورد في الحديث المتقدّم، والأحاديث يُصدّق بعضها بعضًا على ما رجحناه من التأويل. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال في "الفتح": وأما قوله: "قرن الشمس": فقال الداوديّ: للشمس قرن حقيقةً، وبحتمل أن يريد بالقرن قُوّةَ الشيطان، وما يستعين به على الإضلال، وهذا أَوْجَه، وقيل: إن الشيطانَ يَقْرُن رأسه بالشمس عند طلوعها؛ ليقع سجود عَبَدَتها له، قيل: ويحتمل أن يكون للشمس شيطانٌ تَطْلُع الشمس بين قرنيه.
وقال الخطابيّ: القرن الأمة من الناس، يَحْدُثون بعد فناء آخرين، وقَرْنُ الحية يضرب به المثل فيما لا يُحْمَد من الأمور، وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهلَ كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أَخْبَر، وأولُ الفتن كان من قِبَل المشرق، فكان ذلك سببًا للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يُحِبُّه الشيطان، ويفرح به، وكذلك الْبِدَع نشأت من تلك الجهة.
وقال الخطابيّ: نَجْد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مَشْرِق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها، وتهَامةُ كلّها من الغَوْر، ومكة من تهامة. انتهى.
وعُرِفَ بهذا وَهَاءُ ما قاله الداوديّ: إن نجدًا من ناحية العراق، فإنه تَوَهَّم أن نجدًا موضع مخصوص، وليس كذلك، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 470، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 312 - 317.
يليه يُسَمَّى المرتفع نجدًا، والمنخفض غورًا. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ.
وقوله: (فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ") بدل من قوله: "في الفدّادين"، أي القسوة في ربيعة ومضر الفدّادين
(2)
، أي الذين يرفعون أصواتهم عند سوق إبلهم، قاله ابن الصلاح
(3)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[23/ 189](51)، و (البخاريّ) في (3302 و 3498 و 4387 و 5303)، و (الحميديّ) في "مسنده"(458)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"، و (أحمد) في "مسنده"(8/ 114 و 5/ 273)(2/ 182)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(161 و 162)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(178)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 564 - 569)، و (ابن منده) في "الإيمان"(426 و 427)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(803)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تفاضل أهل الإيمان فيه.
2 -
(ومئها): بيان فضل أهل اليمن، لرجحانهم في قوّة الإيمان.
3 -
(ومنها): ذمّ أهل المشرق، وبيان تسلّط الشيطان عليهم، ثم إن ذمّ هؤلاء، ومدح أهل اليمن محمول في ذلك الوقت، حيث استجاب أهل اليمن لدعوة الإسلام، وتمرّد أهل المشرق من ربيعة ومضر، وليس عامًّا في كلّ زمان، فقد ظهر في كلّ منهما ما يخالف وصفهم المذكور، كما لا يخفى على من تتبع التواريخ.
4 -
(ومنها): ذمّ قسوة القلوب وغِلَظِها، وأن سبب ذلك هو الانهماك في
(1)
"الفتح" 13/ 59 "كتاب الفتن" رقم الحديث (7092 - 7093).
(2)
"الصيانة" ص 218.
(3)
"الصيانة" ص 218.
الشهوات، واستيلاء حبّ الدنيا على القلوب، فينيغي للمسلم أن يبتعد مما يكون سببًا لقسوة قلبه، ويكثر من ذكر الله تعالى، وذكر الموت والبلى، فإن ذلك يخرج حبّ الدنيا منه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في إتمام ما وعدنا من استيفاء ما قاله أهل العلم في نسبته صلى الله عليه وسلم الإيمان إلى أهل اليمن:
قد أجاد الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى في ذلك، حيث قال: أما ما ذُكِر من نسبة الإيمان إلى أهل اليمن، فقد صَرَفُوه عن ظاهره، من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة، ثم من المدينة - حرسهما الله تعالى - فحَكَى أبو عبيد، إمام الغريب، ثم مَن بعده في ذلك أقوالًا:
[أحدها]: أنه أراد بذلك مكة، فإنه يقال: إن مكة من تهامة، وتهامة من أرض اليمن.
[والثاني]: أن المراد مكة والمدينة، فإنه يروى في الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام، وهو بتبوك، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن، وهو يريد مكة والمدينة، فقال:"الإيمان يمانٍ"، ونسبهما إلى اليمن؛ لكونهما حينئذ من ناحية اليمن، كما قالوا: الركن اليماني وهو بمكة، لكونه إلى ناحية اليمن.
[والثالث]: ما ذهب إليه كثير من الناس، وهو أحسنها عند أبي عبيد، أن المراد بذلك الأنصار؛ لأنهم يمانون في الأصل، فنسب الإيمان إليهم؛ لكونهم أنصاره.
قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله تعالى: وأنا أقول: لو جَمَعَ أبو عبيد، ومَن سَلَك سبيله طُرُق الحديث بألفاظه، كما جمعها مسلم وغيره، وتأمّلوها، لصاروا إلى غير ما ذكروه، ولَمَا تركوا الظاهر، ولَقَضَوا بأن المراد اليمن، وأهل اليمن على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك؛ إذ مِنْ ألفاظه:"أتاكم أهل اليمن"، والأنصارُ من جملة المخاطبين بذلك، فهم إذن غيرهم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "جاء أهل اليمن"، وإنما جاء حينئذ غير الأنصار، ثم إنه صلى الله عليه وسلم وَصَفَهم بما يَقضي بكمال إيمانهم، ورَتَّبَ عليه:"الإيمانُ يَمَانٍ"، فكان ذلك نسبةً للإيمان إلى من أتاهم من أهل اليمن، لا إلى مكة والمدينة.
ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحملِهِ على أهل اليمن حقيقةً؛ لأن مَنِ اتصف بشيء، وقَوِي قيامه به، وتأكّد اضطلاعه به، نُسِبَ ذلك الشيءُ إليه؛ إشعارًا بتميُّزه به، وكمال حاله فيه، وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان، وحال الوافدين منهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أعقاب موته، كأُوْيس القَرَنيّ، وأبي مسلم الْخَوْلانيّ رضي الله عنهما، وشبههما ممن سلم قلبه، وقَوِيَ إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك؛ إشعارًا بكمال إيمانهم، من غير أن يكون في ذلك نَفْيٌ لذلك عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان في أهل الحجاز".
ثم إنّ المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ، لا كلُّ أهل اليمن في كل زمان، فإن اللفظ لا يقتضيه، هذا هو الحقّ في ذلك، ونشكر الله سبحانه وتعالى على هدايتنا له. انتهى كلام ابن الصلاح رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقد أحسن الإمام الطحاويّ رحمه الله تعالى الكلام في هذا أيضًا في كتابه "شرح مشكل الآثار"(2/ 268 - 278) حيث قال:
باب بيان مشكل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبًا، وأرَقّ أفئدةً، الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية"، ثم أورده بأسانيده، وألفاظه المختلفة.
ثم قال: ففيما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذِكرُهُ أهل اليمن بما ذكرهم به في هذا الحديث، فذهب قوم إلى أنه إنما عَنَى به أهل تهامة، منهم سفيان بن عيينة، فنظرنا فيما قالوا من ذلك، هل هو كما قالوه، أم لا؟ ثم أخرج بسنده حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن، فقال:"الإيمان ها هنا، ألا وأن القَسْوَة وغِلَظ القلوب في الفدادين، أصحاب الإبل، حيث يطلُع قرن الشيطان، في ربيعة ومضر".
قال: فأضاف القسوة وغِلَظ القلوب إلى الفدّادين من ربيعة ومضر، فكان في ذلك ما قد دَلّ على أن المضاف إليهم من الإيمان، والحكمة، والفقه، أضدادهم الذين ليسوا من ربيعة، ولا من مضر.
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 212 - 214.
وفي ذلك ما ينبغي أن يكون أراد بما في الآثار التي في الفصل الأول أهلَ تهامة؛ لأن أولئك، أو أكثرهم من مضر.
ثم وجدنا عنه صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى ما هو أكشف من هذا الحديث. ثم أخرج بسنده عن عمرو بن عَبَسة، قال: عُرِضت الخيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده عيينة بن بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيينة:"أنا أفرسُ بالخيل منك"، فقال عيينة: إن تكن أفرس بالخيل مني، فأنا أفرس بالرجال منك، قال:"وكيف؟ " قال: إن خير رجال لَبِسُوا البرود، ووضعوا سيوفهم على عواتقهم، وعَرَضُوا الرِّماح على مناسج خيولهم
(1)
رجال نجد، فقال صلى الله عليه وسلم:"كذبت، بل هم أهل اليمن، الإيمان يمانٍ، إلى لَخْمٍ وجُذَام، وعاملةَ، ومأكول حِمير خير من آكلها، وحضرموت خير من بني الحارث"، وسَمّى الأقيال الأنكال
(2)
.
(1)
المنسج: ما برز من فروع الكتفين إلى أصل العنق.
(2)
هو حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 387، فقال:
حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثني شريح بن عبيد، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن عمرو بن عَبَسَة السلمي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ يومًا خيلًا، وعنده عُيينة بن حِصْن بن بَدْر الفزاري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا أفرس بالخيل منك"، فقال عيينة: وأنا أفرس بالرجال منك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"وكيف ذاك؟ " قال: خير الرجال رجال يَحمِلون سيوفهم على عواتقهم، جاعلين رماحهم على مناسج خيولهم، لابسو البرود، من أهل نجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كَذَبتَ، بل خير الرجال رجال أهل اليمن، والإيمان يمان، إلى لخم، وجُذام، وعاملةَ، ومأكول حمير خير من آكلها، وحضرموت خير من بني الحارث، وقبيلة خير من قبيلة، وقبيلة شر من قبيلة، والله ما أبالي أن يهلك الحارثان كلاهما، لعن الله الملوك الأربعة: جمداء، ومخوساء، ومشرخاء، وأبضعة، وأختهم العمردة"، ثم قال:"أمرني ربي عز وجل أن ألعن قريشًا مرتين، فلعنتهم، وأمرني أن أصلي عليهم، فصليت عليهم مرتين"، ثم قال:"عُصَيّة عصت الله ورسوله، غير قيس، وجعدة، وعصية"، ثم قال:"لَأَسلمُ، وغفار، ومزينة، وأخلاطهم من جهينة، خير من بني أسد، وتميم، وغطفان، وهوازن، عند الله عز وجل يوم القيامة"، ثم قال:"شر قبيلتين في العرب نجران وبنو تغلب، وأكثر القبائل في الجنة مَذْحِج، ومأكول"، قال: قال أبو المغيرة: قال صفوان: حَمير حِمير خير من آكلها، قال: من مضى خير ممن بقي. انتهى. =
قال: ففيما روينا في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيانه أهل اليمن الذين أرادهم بما في الآثار الأُوَل
(1)
وأنهم أهل هذه القبائل اليمانية، لا من سواهم.
ثم أخرج بسنده عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فذكر حديثًا طويلًا، فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيَأْتِيَنَّ أقوام، تَحْقِرون أعمالكم مع أعمالهم"، قلنا: من هم يا رسول الله، أقريش؟ قال:"لا، أهل اليمن، هم أرَقّ أفئدةً، وألين قلوبًا"، فقلنا: هم خير منا يا رسول الله؟ فقال: "لو كان لأحدهم جبلٌ من ذهب، فأنفقه ما أدرك مُدّ أحدكم، ولا نصيفه، وإن فصل ما بيننا وبين الناس هذه الآية: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية [الحديد: 10] "
(2)
.
قال: فكان في هذا ما قد دَلّ على حقيقة أهل اليمن الذين أرادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفصل الأول مَنْ هم؟ وأنهم خلاف أهل تهامة على ما ذكره ابن عيينة.
ثم أخرج بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْدَمُ قوم، هم أرَقُ منكم أفئدة"، فقَدِمَ الأشعريون، فيهم أبو موسى، فجعلوا يرتجزون، ويقولون:
غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ
…
مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ
قال: ففي ذلك ما قد دَلّ أيضًا على أن أهل اليمن المرادين هم
= والحاصل أن الحديث صحيح الإسناد، انظر: ما كتبه محقق "شرح مشكل الآثار" في هامشه 2/ 274 - 275.
(1)
هي الأحاديث التي أوردها الإمام مسلم رحمه الله تعالى في هذا الباب في مدح أهل اليمن.
(2)
هذا حديث رجاله رجال الصحيح، غير هشام بن سعد، فهو وإن روى له مسلم، إلا أنه مختلف فيه، وقال في "التقريب": صدوقٌ له أوهام، وقال ابن كثير في "تفسيره" 8/ 38 بعد أن أورده عن ابن جرير، وابن أبي حاتم ما نصّه: وهذا الحديث غريب بهذا السياق، والذي في "الصحيحين" من رواية جماعة عن عطاء بن يسار، عن أبي سعد ذكر الخوارج: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم
…
" الحديث.
الأشعريون، وأمثالهم القادمون من حقيقة اليمن، دون من سواهم.
ثم أخرج بسند صحيح أيضًا عن أنس رضي الله عنه قال: لَمّا قَدِمَ أهل اليمن، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قد أقبل أهل اليمن، هم ألين قلوبًا منكم، وهم أول من جاء بالمصافحة".
قال: وما في هذا الباب من الآثار، فكثير، اكتفينا منها بما جئنا به منها في هذا الباب، مما قد وضح به ما قد ذكرناه من حقيقة أهل اليمن المرادين بما فيها، وأنهم ليسوا أهل تهامة، كما قال ابن عيينة. انتهى كلام الطحاويّ رحمه الله تعالى باختصار
(1)
، وهو كلام نفيس، وبحثٌ أنيس.
حاصله أن المراد بأحاديث الباب هم أهل اليمن حقيقةً، وأن من فسّرهم بغيرهم فقد أخطأ، يرذه ما سبق من الأدلة التي لا يَرتاب من تأملها أنها لا يمكن تأويلها على غير ظواهرها، فتبصر بالإنصاف، ولا تَحِد عن الصواب بالاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[190]
(52) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، أَنْبَأَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ أَهْلُ الْيَمَن، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ الحافظ، نزيل بغداد، ثقة، لم يتكلّم فيه أحدٌ بحجة [10].
رَوَى عن مالك حديثًا واحدًا، وحماد بن زيد، وإسماعيل بن جعفر، وإسماعيل بن زكريا، وجرير بن حازم، وفُلَيح بن سليمان، ويزيد بن زريع، وغيرهم.
(1)
"شرح مشكل الآثار" 2/ 268 - 278.
وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وروى له النسائي بواسطة علي بن سعيد بن جرير، والحسن بن أحمد بن حبيب الكرمانيّ، وحدث عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والذُّهْليّ، وموسى بن هارون، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، وقال الآجريّ: سألت أبا داود، عن أبي الربيع، والْحَجَبِيّ: أيهما أثبت في حماد بن زيد؟ فقال: أبو الربيع أشهرهما، والحجبي ثقة، وقال ابن خِرَاش: تكلم الناس فيه، وهو صدوق، وقال ابن قانع: ثقةٌ، صدوقٌ، وقال الساجيّ: سمعت عبد القدوس بن محمد يقول: قال لي عبد الله بن داود الْخُرَيبيّ: اقرأ على أبي الربيع، فإنه موضعٌ يُقْرَأُ عليه، وقال مسلمة بن قاسم: بصريّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الحافظ: ولا أعلم أحدًا تَكَلَّم فيه، بخلاف ما زَعَمَ ابن خِرَاش. انتهى
(1)
.
وقال الحضرميّ وغيره: مات سنة أربع وثلاثين ومائتين.
وله في هذا الكتاب (139) حديثًا.
2 -
(حَمَّادٌ) بن زيد بن درهم الأزديّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
[تنبيه]: كون حماد هنا هو ابن زيد هو الذي صرّح به الإمام ابن حبّان في "صحيحه" 16/ 289 (7300) قال: أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنّى، حدّثنا أبو الربيع الزهرانيّ، حدّثنا حمّاد بن زيد، عن أيوب إلخ، وهو الذي اقتضاه صنيع الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف" 10/ 164 حيث أورده في ترجمة حمّاد بن زيد، عن أيوب السختيانيّ، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
لكن الذي صرّح به أبو نعيم في "المسند المستخرج" 1/ 138 (179) أنه حماد بن سلمة، والذي يظهر لي أن الأول هو الصواب؛ لأنهم ذكروا أن أبا
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 94.
الربيع الزهرانيّ لم يروِ عن ابن سلمة، وإنما يروي عن ابن زيد فقط، فقد ذكر الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في ترجمة حماد بن زيد من "سير أعلام النبلاء" فصلًا بيّن فيه ما اختصّ بكل من الحمادين من الرواة، فذكر ممن اختصّ بحماد بن زيد، ولم يلق حماد بن سلمة: أبا الربيع الزهرانيّ، وكذلك صرّح في "تهذيب الكمال" 11/ 423، و"تهذيب التهذيب" 2/ 94 بأنه يروي عن ابن زيد، وكذا الخطيب البغداديّ في "تاريخه" 9/ 40 صرّح بذلك.
والحاصل أن الذي يترجّح عندي أن حمّادًا هنا هو ابن زيد، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قد عقد الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء" في آخر ترجمة حماد بن زيد فصلًا مهمّا يتعلّق بالتمييز بين الحمّادين إذا وقعا في السند مهملين، فقال:
(فصل): اشترك الحمادان في الرواية عن كثير من المشايخ، ورَوَى عنهما جميعًا جماعة من المحدثين، فربما رَوَى الرجل منهم عن حماد لم ينسبه، فلا يُعْرَف أيّ الحمادين هو، إلا بقرينة، فإن عَرِيَ السند من القرائن، وذلك قليل لم نقطع بأنه ابن زيد، ولا أنه ابن سلمة، بل نتردد، أو نقدِّره ابن سلمة، ونقول: هذا الحديث على شرط مسلم؛ إذ مسلم قد احتجّ بهما جميعًا.
فمن شيوخهما معًا أنس بن سيرين، وأيوب، والأزرق بن قيس، وإسحاق بن سُويد، وبُرْد بن سِنَان، وبشر بن حرب، وبَهْز بن حكيم، وثابت، والجعد أبو عثمان، وحميد الطويل، وخالد الحذّاء، وداود بن أبي هند، والْجُريريّ، وشعيب بن الحبحاب، وعاصم بن أبي النَّجُود، وابن عون، وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وعبيد الله بن عمر، وعطاء بن السائب، وعلي بن زيد، وعمرو بن دينار، ومحمد بن زياد، ومحمد بن واسع، ومَطَرٌ الوراق، وأبو جمرة الضُّبَعيّ، وهشام بن عروة، وهشام بن حسان، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ويحيى بن عتيق، ويونس بن عبيد.
وحَدّث عن الحمادين: عبد الرحمن بن مهديّ، ووكيع، وعَفّان، وحجاج بن منهال، وسليمان بن حرب، وشيبان، والقعنبيّ، وعبد الله بن معاوية الْجُمَحيّ، وعبد الأعلى بن حماد، وأبو النعمان عارم، وموسى بن إسماعيل، لكن ما له عن حماد بن زيد سوى حديث واحد، ومؤمل بن
إسماعيل، وهُدْبة، ويحيى بن حسان، ويونس بن محمد المؤدِّب، وغيرهم.
والحفاظ المختصون بالإكثار، وبالرواية عن حماد بن سلمة: بهز بن أسد، وحَبّان بن هلال، والحسن الأشيب، وعمر بن عاصم.
وأما المختصون بحماد بن زيد الذين ما لَحِقُوا ابن سلمة، فهم أكثر، وأوضح، كعلي بن المديني، وأحمد بن عبدة، وأحمد بن المقدام، وبشر بن معاذ العَقَدي، وخالد بن خِدَاش، وخَلَف بن هشام، وزكريا بن عدي، وسعيد بن منصور، وأبي الربيع الزهراني، والقواريريّ، وعمرو بن عون، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن أبي بكر الْمُقَدَّميّ، ولُوَين، ومحمد بن عيسى بن الطَّبّاع، ومحمد بن عُبيد بن حِسَاب، ومسدد، ويحيى بن حبيب، ويحيى بن يحيى التميميّ، وعِدّة من أقرانهم.
فإذا رأيت الرجل من هؤلاء الطبقة، قد رَوَى عن حماد وأبهمه، عَلِمتَ أنه ابن زيد، وأن هذا لم يُدرك حماد بن سلمة، وكذا إذا رَوَى رجل ممن لقيهما، فقال: حدثنا حماد، وسكت نُظِر في شيخ حماد من هو؟ فإن رأيته من شيوخهما على الاشتراك ترددت، وإن رأيته من شيوخ أحدهما على الاختصاص والتفرد، عرفته بشيوخه المختصين به.
ثم عادةُ عفّان لا يروي عن حماد بن زيد إلا وينسبه، وربما رَوَى عن حماد بن سلمة، فلا ينسبه، وكذلك يفعل حجاج بن منهال، وهُدْبة بن خالد، فأما سليمان بن حرب فعلى العكس من ذلك، وكذلك عارم يفعل، فإذا قالا: حدثنا حماد، فهو ابن زيد، ومتى قال موسى التبوذكي: حدثنا حماد، فهو ابن سلمة، فهو راويته. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ ومفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ حجة، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
4 -
(مُحَمَّد) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة
(1)
راجع: "سير أعلام النبلاء" 7/ 464 - 466.
البصريّ، ثقة ثبتٌ عابدٌ كبير القدر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فلم يرو عنه الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن شيخه هذا أولُ محلّ ذكره من هذا الكتاب، وجملة ما رواه عنه المصنّف فيه (139) حديثًا، كما أسلفته آنفًا.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أيوب عن محمد.
5 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ) هذا يردّ قول من قال: إن الذين نُسب إليهم الإيمان هم الأنصار؛ لأن من جملة المخاطبين الأنصار، فالذين جاءوا غيرهم، فالحقّ أن المراد بهم أهل البلد المعروف (هُمْ أَرَقُّ أفئِدَةً) المشهور أن الفؤاد هو القلب، فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب في الرواية التالية بلفظين، وهو أولى من تكريره بلفظ واحد، وقيل: الفؤاد غير القلب، وهو عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب، وأما وصفها باللين والزقّة والضعف، فمعناه أنها ذات خشية، واستكانة، سريعة الاستجابة، والتأثر بقوارع التذكير، سالمة من الغِلَظ والشدة والقسوة التي وَصَفَ بها قلوب الآخرين. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ومعنى "أرقّ أفئدةً"، و"ألين قلوبًا"، و"أضعف" متقاربة، وكلّها راجع إلى ضدّ القسوة والغلظ، وذلك أن من
(1)
"شرح مسلم" 2/ 33 - 34.
رقّ قلبه ولان قَبِل المواعظ، وخضع للزواجر، وسارع إلى الخير، وصفاء الإيمان والفقه والحكمة، بخلاف من قسا قلبه، وغلُظ، وكَثُفَت حُجُبُ الكبر والفخر والعجب عليه.
وقد يكون ذكر القلوب والأفئدة ها هنا بمعنى واحد، تكرّرت باختلاف اللفظ، كما اختلف اللفظ الذي قبلها، وقد يكون بينهما فرقٌ؛ إذ قيل: إن الفؤاد داخل القلب، فوصف القلب باللين والضعف، والفؤاد بالرّقّة، أي إن قلوبهم أسرع انعطافًا وتقبّلًا للإيمان من غيرها؛ إذ أفئدتها أرقّ وأصفى لقبول الإيمان والحكمة، وأقلّ حُجُبًا، وأغشية من غيرها.
وقد تكون الإشارة بلين القلب إلى خفض الْجَنَاح، ولين الجانب، والانقياد، والاستسلام، وترك الغلوّ، وهذه صفة الظاهر، والإشارة برقّة الأفئدة إلى الشفقة على الخلق، والعطف عليهم، والنصح لهم، وهذه صفة الباطن، فكأنه أشار إلى أنهم أحسن أخلاقًا ظاهرًا وباطنًا.
وقد تكون الإشارة بلين القلوب، ورقّة الأفئدة إلى كثرة الخوف، والانزعاج للمواعظ والأذكار. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأَوْلى حمل رقّة الأفئدة، ولين القلوب، وضعفها على ظاهرها، وأن ما ذكره القاضي من الاحتمالات هي نتائج الرقّة واللين، فلا تنافي بينها، فتأمله، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "هم أرقّ أفئدة" يعني من أهل المشرق، لا من أهل الحجاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الآخر:"الإيمان في أهل الحجاز"، واليمن من الحجاز، وقد وَصَفَ أهل اليمن في هذا الحديث بضدّ ما وَصَفَ به أهل العراق، فإنه قابل وصفي القسوة والغِلَظ بوصفي الرقّة والضعف، والرقّة في مقابلة القسوة، والضعف يقابل الغلظ، فمعنى أرقّ: أخشع، ومعنى أضعف: أسرع فهمًا، وانفعالًا للخير.
و"الأفئدة": جمع فُؤاد، وهو القلب، وقيل: الفؤاد داخل القلب، أي اللطيفة القابلة للمعاني من العلوم وغيرها. انتهى
(2)
.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 320 - 321.
(2)
"المفهم" 1/ 239 - 240.
ونقل الطيبيّ عن المظهر، قال: وَصَفَ الأفئدة بالرقّة، والقلوب باللين، وذلك أنه يقال: إن الفؤاد غشاء القلب، وإذا رقّ نَفَذَ القول، وخلص إلى ما وراءه، وإذا غلظ تعذّر الوصول إلى داخله، فإذا صادف القلب ليّنًا عَلِقَ به، ونَجَعَ فيه
(1)
.
وقال القاضي البيضاويّ: الرقّة ضدّ الغلظة والصفاقة، واللين مقابل للقساوة، فاستُعير في أحوال القلب، فإذا نَبَا عن الحقّ، وأعرض عن قبوله، ولم يتأثّر عن الآيات والنُّذُر يوصف بالغلظة، فكان شغافه صَفِيقًا لا ينفذ فيه الحقّ، وجرمه صلب لا يؤثّر فيه الوعظ، وإذا كان بعكس ذلك يوصف بالرّقّة واللين، فكان حجابه رقيقًا، لا يأبى نفوذ الحقّ، وجوهره ليّن يتأثّر بالنصح.
ويحتمل أن يكون المراد بالرقّة جَوْدَةُ الفهم، وباللين قبول الحقّ، فإن رقّة الفؤاد تعين على قبول الحقّ بسهولة، واللين يقتضي عدم الممانعة والانفعال عن المؤثّر بيسر، ولعله لذلك أضاف الرقّة إلى الفؤاد، واللين إلى القلب، فإنه وإن كان الفؤاد والقلب واحدًا، لكن الفؤاد فيه معنى النفاذ، وهو التوقّد، يقال: فَأَدتُ اللحمَ، أي شويته، والقلب فيه معنى التقلّب، يتقلّب حيث حاله بسبب ما يعتريه.
ثم لَمّا وصفهم بذلك أتبعه ما هو كالنتيجة والغاية، وهو قوله:"الإيمان يمان، والحكمة يمانية"، فإن صفاء القلب، ورقّته، ولين جوهره يؤدّي إلى عرفان الحقّ والتصديق به، وهو الإيمان، والانقياد لما يوجبه ويقتضيه، والتيقّظ والإيقان فيما يذره ويأتيه، وهو الحكمة، فتكون قلوبهم معادن الإيمان، وينابيع الحكمة، وهي قلوب منشؤها اليمن، نُسب إليه الإيمان والحكمة معًا؛ لانتسابهما إليه؛ تنويهًا بذكرهما، وتعظيمًا لشأنهما.
وقال الطيبيّ: يمكن أن يراد بالقلب والفؤاد ما عليه أهل اللغة في كونهما مترادفين، فكُرّر ليُنَاط به معنى غير المعنى السابق، فإن الرقّة مقابلة للغلظة، واللين مقابل للشدّة والقسوة، فوصفت أوّلًا بالرقّة؛ ليشير إلى التخلّق مع الناس، وحسن المعاشرة مع الأهل والإخوان، قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
(1)
أي أثّر فيه.
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وثانيًا باللين؛ ليؤذن بأن الآيات النازلة، والدلائل المنصوبة ناجعةٌ فيها، وصاحبها مقيمٌ على التعظيم لأمر الله تعالى، فقوله:"الإيمان يمان، والحكمة يمانية"، يشمل حسن المعاملة مع الله تعالى، والمعاشرة مع الناس، فلشدّة شكيمة اليهود، وعنادهم قيل فيهم:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، وللين جانب المؤمنين وُصفوا بقوله:{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]. انتهى بتغيير يسير
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(الْإِيمَانُ يَمَانٍ) مبتدأ وخبره، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أي معظم أهله يمانون، والقائمون به يمانون، والناصرون له، أو مُستقرّه إن كان المراد الأنصار
(2)
، أو مبتدؤه، وظهوره عندهم على ما أشار إليه من قال: إن المراد به مكة والمدينة، وقيل: معناه أهل اليمن أكمل الناس إيمانًا. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قوله: "يَمَانٍ" بتخفيف الياء عند جماهير أهل العربية؛ لأن الألف المزيدة فيه عِوَضٌ من ياء النسب المشددة، فلا يُجْمَع بينهما، وقال ابن السَّيد في كتابه "الاقتضاب في شرح أدب الكاتب": حَكَى أبو العباس المبرد وغيره أن التشديد لغة، قال ابن الصلاح: وهذا غريب، وإن كان هو المشهور المستعمل عند من لا عناية له بعلم العربيّة. انتهى
(4)
.
وقال الجوهريّ في "صحاحه": اليمن بلاد للعرب، والنسبة إليها يمنيّ، ويمانٍ مخفّفةً، والألف عوض من ياء النسب، فلا يجتمعان، قال سيبويه: وبعضهم يقول: يمانيٌّ بالتشديد، قال أمية بن خلف [من الوافر]:
يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشُبُّ كِيرًا
…
وَيَنْفُخُ دَائِمًا لَهَبَ الشُّوَاظِ
وقوم يمانيةٌ، ويمانون، مثلُ ثمانية وثمانون، وامرأة يمانية أيضًا. انتهى
(5)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 3956 - 3957.
(2)
قد تقدّم أن الأولى حمله على أهل اليمن على ظاهره، لا على الأنصار، ولا على أهل مكة والمدينة، فتنبّه.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 321.
(4)
"الصيانة" ص 216.
(5)
"الصحاح" 5/ 1778.
وقال الفيّوميّ: اليمن إقليم معروف، سُمّي بذلك لأنه عن يمين الشمس عند طلوعها، وقيل: لأنه عن يمين الكعبة، والنسبة إليه يَمَنيّ على القياس، ويَمَانٍ بالألف على غير قياس، وعلى هذا في الياء مذهبان:
[أحدهما]: وهو الأشهر تخفيفها، واقتصر عليه كثيرون، وبعضهم يُنكر التثقيل، ووجهه أن الألف دخلت قبل الياء؛ لتكون عِوَضًا عن التثقيل، فلا يُثقّل؛ لئلا يُجمع بين العوض والمعوّض عنه.
[والثاني]: التثقيل؛ لأن الألف زيدت بعد النسبة، فيبقى التثقيل الدالّ على النسبة؛ تنبيهًا على جواز حذفها. انتهى
(1)
.
(وَالْفِقْهُ يَمَانٍ) مبتدأ وخبره أيضًا، و"الفقه" هنا عبارة عن الفهم في الدين، واصْطَلَحَ بعد ذلك الفقهاء، وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها، قاله ابن الصلاح
(2)
.
وقال ابن الأثير: الفقه في الأصل: الفهم، واشتقاقه من الشَّقِّ والفتح، يقال: فَقِه الرجلُ بالكسر يَفْقَهُ فِقْهًا: إذا فَهِمَ وعَلِم، وفَقُهَ بالضمّ يَفْقُهُ: إذا صار فقيهًا عالِمًا، وقد جعله الْعُرف خاصًّا بعلم الشريعة، وتخصيصًا بعلم الفروع منها. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ: "الفقه": فهم الشيء، قال ابن فارس: وكلُّ علم لشيء فهو فقهٌ، والفقهُ على لسان حَمَلَة الشرع علمٌ خاصٌّ، وفَقِهَ فَقَهًا، من باب تَعِبَ: إذا عَلِمَ، وفَقُهَ بالضمّ مثلُهُ، وقيل: بالضمّ إذا صار الفقه له سَجِيّةً، قال أبو زيد: رجلٌ فَقُهٌ بضمّ القاف وكسرها، وامرأةٌ فَقُهَةٌ بالضمّ، ويتعدّى بالألف، فيقال: أَفقهتُكَ الشيءَ، وهو يتفقّه في العلم مثلُ يتعلّم. انتهى
(4)
.
(وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ) مبتدأ وخبره أيضًا، قال القاضي عياضٌ رحمه الله تعالى:"الحكمة" عند العرب ما منع من الجهل، والحكيم من منعه عقله وحلمه من الجهل، حكاه ابن عرفة، مأخوذ من حَكَمَة الدّابّة، وهي الحديدة
(1)
"المصباح المنير" 2/ 682.
(2)
"الصيانة" ص 214، و"شرح مسلم" للنوويّ 2/ 33.
(3)
"النهاية في غريب الحديث" 3/ 465.
(4)
"المصباح" 2/ 479.
التي تُجعَل في لجامها؛ لمنعها إياها، وهذه الأحرف ح ك م حيثما تصرّفت فيها معنى المنع، قال الشاعر [من الكامل]:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ
…
إِنِّي خَشِيتُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا
وقيل في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} الآية [البقرة: 269]: إنها الإصابة في القول، والفهم، وقيل: الحكمة: طاعة الله، والاتّباع له، والفقه في الدين، وقيل: الحكمة: الفهم عن الله عز وجل في أمره ونهيه، وقال مالك في الحكمة: الفقهُ في الدين يُدخله الله في القلوب، وقيل غير هذا. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير: "الحكمة" عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يُحسن دقائق الصناعات، ويُتقنها: حكيم، ومنه في صفة القرآن "الذكر الحكيم": أي الحاكم لكم، وعليكم، أو هو المحكم الذي لا اختلاف فيه، ولا اضطراب، فَعِيلٌ بمعنى مُفْعَل، أي أُحكم، فهو مُحْكَم. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ: الْحُكْمُ: القضاء، وأصله المنع، يقال: حَكَمتُ عليه بكذا: إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك، وحَكَمتُ بين القوم: فَصَلتُ بينهم، فأنا حاكمٌ، وحَكَمٌ بفتحتين، والجمع حُكّامٌ، ويجوز بالواو والنون، و"الْحَكَمَةُ": وِزانُ قَصَبَةٍ للدّابّة، سُمّيت بذلك؛ لأنها تُذلّلُها لراكبها حتى تمنعها الْجِمَاحَ ونحوَهُ، ومنه اشتقاق "الْحِكْمَةِ"؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل. انتهى
(3)
.
وقال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى
(4)
: وأما "الحكمة" ففيها أقوال كثيرةٌ مضطربةٌ، قد اقتَصَرَ كلٌّ من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صَفَا لنا منها أن الحكمة: عبارة عن العلم المتَّصِفِ بالأحكام المشتمِل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنَفَاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحقّ، والعمل به، والصَّدِّ عن اتباع الهوى والباطل، والحكيمُ مَن له ذلك،
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 321 - 322 بزيادة من "المفهم" 1/ 240.
(2)
"النهاية" 1/ 419.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 144 - 145.
(4)
راجع: "الصيانة" ص 214 - 215.
وقال أبو بكر بن دُرَيد: كلُّ كلمة وَعَظتك وزَجَرتك، أو دعتك إلى مَكْرَمَة، أو نَهَتك عن قبيح، فهي حكمة، وحُكْمٌ، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن من الشعر حِكْمَةً"
(1)
، وفي بعض الروايات:"حُكْمًا"
(2)
.
وقال القاري: أراد بالحكمة الفقه في الدين، وقيل: كلّ كلمة صالحة تمنع صاحبها عن الوقوع في الْهَلَكَة، ولَمّا كانت قلوبهم معادن الإيمان، وينابيع الحكمة، وكانت الخصلتان منتهى هممهم، نُسِب الإيمان والحكمة إلى معادن نفوسهم، ومساقط رؤوسهم نسبةَ الشيء إلى مقرّه. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[23/ 190 و 191 و 192 و 193 و 194 و 195 و 196 و 197 و 198 و 199 و 200](52)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3301)، و"المناقب"(3499)، و"المغازي"(4388 و 4389 و 4390)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(19888)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1049)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 235 و 267 و 277 و 474 و 488 و 541)، وفي "الفضائل"(1618 و 1656)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(163 و 164 و 165 و 166 و 167)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(179 و 180 و 181 و 182 و 183 و 184 و 185 و 186)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5744 و 7297 و 7299 و 7300)، والله تعالى أعلم.
وفوائد الحديث تقدّمت في حديث أبي مسعود رضي الله عنه الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
(1)
رواه البخاريّ 10/ 445 - 446، وأبو داود (5010).
(2)
رواه الترمذيّ (2848)، وأبو داود (5011).
(3)
"المرقاة" 10/ 636.
[191]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ، كلَاهُمَا عَن ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو عمرو بن محمد البغداديّ المذكور في الباب الماضي.
4 -
(إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ) هو: إسحاق بن يوسف بن مِرْداس المخزوميّ الواسطيّ المعروف بالأزرق، ثقة [9].
رَوَى عن ابن عون، والأعمش، وشريك، والثوري، ومسعر، وعُمَر بن ذَرّ، وعوف، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، ودُحَيم، وقتيبة، وعمرو الناقد، ويحيى بن معين، وجماعة، آخرهم سَعْدَان بن نصر البزاز.
قيل لأحمد: إسحاق الأزرق ثقة؟ فقال: إِيْ والله ثقة، وقال ابن معين والعجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: صحيح الحديث صدوق، لا بأس به، وقال يعقوب بن شيبة: كان من أعلمهم بحديث شريك، وقال الخطيب: كان من الثقات المأمونين، وقال ابن سعد: كان ثقة، وربما غَلِطَ، وذكر ابن حبان في "الثقات" أنه رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وقال البزار: كان ثقة.
وقال وهب بن بقية: وُلد سنة (117)، وقال خليفة ومحمد بن سعد وغير واحد: مات سنة (195).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث رقم
(1)
(158): "ثلاثٌ إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها
…
"، و (613): "صلّ معنا هذين اليومين
…
" و (1149): "وجب
(1)
المراد رقم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، فتنبه.
أجركِ وردّها عليكِ الميراث
…
" و (1309): "أين صلّى الظهر يوم التروية
…
" و (1660): "من قذف مملوكه بالزنا
…
" و (2734): "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة
…
".
5 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطَبان المزني مولاهم، أبو عون الْخَزّاز البصري، ثقة ثبتٌ، فاضل، من أقران أيوب في العلم، والعمل، والسنّ [5]
(1)
(ت 151)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308، والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (بمثله) يعني أن محمد بن المثنّى، وعمرًا الناقد حدّثاني بمثل حديث أبي الربيع الزهرانيّ، ويحتمل أن يكون المراد حديث ابن عون، يعني حديث ابن عون بمثل حديث أيوب، وحديث ابن عون قد أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"(2/ 235) من رواية ابن أبي عديّ عنه، فقال:
حدثنا محمد بن أبي عديّ، عن ابن عون، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن، هم أرقُّ أفئدة، الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانيةٌ، والفقه يمانٍ". انتهى.
وكذا ساقها أبو نعيم في "المستخرج"(180) عن محمد بن المثنّى، عن ابن أبي عديّ به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[192]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الْأَعْرَج، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَن، هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ").
(1)
وجعله في "التقريب" من السادسة، وما هنا أولى؛ لأنه ثبت أنه لقي أنس بن مالك رضي الله عنه، فيكون من الخامسة، كأيوب، والأعمش، ونحوهما. والله تعالى أعلم.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد المذكور في الباب الماضي.
3 -
(أَبُوهُ) إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المذكور في الباب الماضي أيضًا.
4 -
(صَالِح) بن كيسان الغفاريّ المذكور في الباب الماضي.
5 -
(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ثقة ثبتٌ عالم بالأنساب والعربيّة [3].
روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وعبد الله بن مالك بن بُحينة، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومعاوية بن أبي سفيان، وخلق كثير.
وروى عنه زيد بن أسلم، وصالح بن كيسان، والزهري، وأبو الزبير، ويحيى بن سعيد، وربيعة، وموسى بن عقبة، وعمرو بن أبي عمرو، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وأيوب، وجعفر بن ربيعة، وسعد بن إبراهيم، ومحمد بن يحيى بن حَبّان، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال الْمُقَدَّميُّ: سئل ابن المديني عن أعلى أصحاب أبي هريرة، فبدأ بابن المسيب، وذكر جماعة، قيل له: فالأعرج؟ قال: دون هؤلاء، وهو ثقة، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة، وقال أبو زرعة، وابن خِرَاش: ثقة، وقال ابن عيينة: قال أبو إسحاق: قال أبو صالح، والأعرج: ليس أحد يُحدّث عن أبي هريرة إلا علمنا أصادق هو أم كاذب، وقال ابن حبان في "الثقات": كنيته أبو داود، وقد قيل: أبو حازم، وقد قيل: إن اسم أبيه كيسان، فقال غندر: ثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ثنا عبد الرحمن بن كيسان الأعرج، وقال الحاكم أبو أحمد: عبد الرحمن بن هُرْمز، ويقال: كيسان، وقال الداني: رَوَى عنه القراءة عَرْضًا نافع بن أبي نُعَيم. وقال ابن لَهِيعة عن أبي النضر: كان الأعرج عالمًا بالأنساب والعربية.
قال ابن يونس وغير واحد: مات بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة، وقال الفلاس وغيره: مات سنة (11) وهو وَهَمٌ، والأصح الأول.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (140) حديثًا.
والباقيان ذُكرَا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[193]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِق، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَر، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكَير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
والباقيان تقدّما في الذي قبله، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه، فلم يرو عنه أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبي الزناد، عن الأعرج، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) أي في جهة المشرق، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله: "رأس الكفر إلخ" إشارة إلى من نبّه عليه من أهل نجد، وربيعة، ومُضر؛ لأنهم الذين عاندوا النبوّة، وقَسَوْا عن إجابة الحقّ، وقبول الدعوة، وهم بالصفة التي وَصَفَ أهلُ خيل وإبل، وأصحابُ وَبَر، ونجدٌ مشرقٌ من المدينة، أو من تبوك على ما ذُكِر أنه قال بعض هذا الحديث بتبوك.
والمراد برأس الكفر مُعظمه وشرّه، وقد تأوّل بعضهم أنه قال ذلك، وأهل المشرق يومئذ أهل كفر، وأن مراده بقوله:"رأس الكفر نحو المشرق" فارس، وما ذكرناه أولى لقوله في الحديث:"أهل الوبر قبل مطلع الشمس"، وفارس ليسوا أهل وَبَر، وقوله:"من ربيعة ومضر"، وأن الموصوفين بعد ذلك بالجفاء والخيلاء هم أولئك لا غيرهم، ويؤيّده قوله في الحديث الآخر:"اللهم اشدُد وطأتك على مضر"، قال في الحديث:"وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له"، ويكون هذا الكفر ما كانوا عليه من عداوة الدين والتعصّب عليه، ويعضده حديث ابن عمر رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال:"اللهم بارك لنا في يمننا، وفي شامنا"، قالوا: يا رسول الله: وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة:"هنالك الزلازل، والطاعون، وبها يطلع قرن الشيطان"، رواه البخاريّ. انتهى كلام القاضي
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
وقال في "الفتح": وفي ذلك إشارة إلى شدّة كفر المجوس؛ لأن مملكة الفُرْس، ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكانوا في غاية القسوة والتكبّر والتجبّر حتى مزّق مَلِكُهُمْ كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم أن يُمزقوا كلَّ مُمَزَّق، فمزّق الله تعالى ملكهم
(2)
.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 311 - 312.
(2)
راجع: "الفتح" 6/ 424 "كتاب بدء الخلق" رقم (3300).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما سبق عن القاضي أقرب وأحسن من هذا، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "رأس الكفر نحو المشرق": نحو قوله: "رأسُ الأمر الإسلام"، أي ظهور الكفر من قبل المشرق، والمراد باختصاص المشرق به مزيد تسلّط الشيطان على أهل المشرق، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، ويكون حين يخرج الدجّال من المشرق؛ فإنه منشأ الفتن العظيمة، ومثار الْكَفَرة التُّرْك. انتهى.
(وَالْفَخْرُ) بالخاء المعجمة: هو الافتخار، وعَدُّ المآثر القديمة تعظيمًا، ومنه الإعجاب بالنفس (وَالْخُيَلَاءُ) بضم الخاء المعجمة، وفتح التحتانيّة، والمدّ: أي الكبر، واحتقار الغير، وقال الراغب:"الْخُيلاء": التكبّر عن تخيّل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه، ومنها يُتأوّل لفظ الخيل؛ لما قيل: إنه لا يركب أحدٌ فرسًا إلا وَجَد في نفسه نخوة، والخيل في الأصل اسم للأفراس والفُرسان جميعًا. انتهى. (فِي أَهْلِ الْخَيْل، وَالْإِبِل، الْفَدَّادِينَ) أي الذين يُعلون أصواتهم في حروثهم، ومواشيهم، وقد تقدّم أقوال أهل العلم فيه فلا تغفل.
وقال الخطابيّ: إنما ذُمّ هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمور دينهم، وذلك يقتضي قساوة القلب. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَهْلِ الْوَبَرِ) بالجرّ بدل من "أهل الخيل"، وهو بفتحتين: للبعير كالصوف للغنم، وهو في الأصل مصدرٌ، من باب تَعِبَ، وبعيرٌ وَبِرٌ بالكسر: كثير الْوَبَر، وناقةٌ وَبِرَةٌ، والجمع أوبار، مثلُ سبب وأسباب، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال أبو عمرو بن الصلاح: فالوَبَرُ، وإن كان من الإبل دون الخيل، فلا يمتنع أن يكون قد وَصَفَهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر. انتهى
(3)
.
وقال الحافظ في "الفتح": قوله: "أهل الوبر": أي ليسوا من أهل المدر؛ لأن العرب تعبّر عن أهل الحضر بأهل المدر، وعن أهل البادية بأهل الوبر، واستشكَلَ بعضهم ذكر الوبر بعد ذكر الخيل، وقال: إن الخيل لا وبر لها، ولا
(1)
"فتح" 6/ 424.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 646.
(3)
"الصيانة" ص 219.
إشكال فيه؛ لأن المراد ما بيّنته. انتهى
(1)
.
(وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ") قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "السكينة": السكون، والطمأنينة، والوقار كما جاء في الحديث نفسه، وهي ضدّ معنى "الفدّادين"، و"أهل الخيلاء"، وقد تكون السكينة بمعنى الرحمة، حكاه شَمِر، فتكون ضدّ "القسوة"، و"الجفاء"، و"الغلظ " في وصف الآخرين. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ: "السَّكِينَةُ" بالتخفيف: المهابة، والرَّزَانة، والوَقَار، وحَكَى في "النوادر" تشديد الكاف، قال: ولا يُعرَف في كلام العرب فَعِّيلَةٌ مثقَّلُ العين إلا هذا الحرف شاذًّا، قاله في "المصباح"
(3)
.
وقال في "الفتح": "السكينة": تُطلق على الطمأنينة، والسكون، والوقار، والتواضع، قال: وإنما خصّ أهل الغنم بذلك؛ لأنهم غالبًا دون أهل الإبل في التوسّع والكثرة، وهما من سبب الفخر والخيلاء، وقيل: أراد بأهل الغنم أهل اليمن؛ لأن غالب مواشيهم الغنم، بخلاف ربيعة ومُضَر، فإنهم أصحاب إبل، وروى ابن ماجه من حديث أم هانئ رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها:"اتّخذي الغنم، فإن فيها بركة"
(4)
. انتهى
(5)
.
وأما تخريج الحديث، فقد تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
[194]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْكُفْرُ قِبَلَ الْمَشْرِق، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَم، وَالْفَخْرُ وَالرِّيَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ، أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْوَبَرِ").
(1)
"فتح" 6/ 424.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 325.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 283.
(4)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في "سننه" برقم (2304).
(5)
"فتح" 6/ 424.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) هو المقابريّ البغداديّ [10].
2 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ البغلانيّ [10].
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو علي بن حُجر السعديّ المروزيّ، من صغار [9].
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ المدنيّ [8].
5 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْجُهنيّ الْحُرَقيّ المدنيّ [5].
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ الْحُرَقيّ المدنيّ [3].
[تنبيه]: هذا الإسناد بنصّه قد تقدّم قريبًا في 20/ 180، ومن لطائفه أن فيه قوله:"قال ابن أيوب: حدّثنا إسماعيل"، إشارة إلى اختلاف شيوخه في صيغ الأداء، فصرّح يحيى بن أيوب بالتحديث، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من إسماعيل، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: العلاء عن أبيه.
وأما شرح الحديث، ومسائله فقد تقدّمت قريبًا أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[195]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْفَخْرُ، وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ، أَهْلِ الْوَبَر، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ [11].
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو عبد الله الحافظ المصريّ [9].
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ [7].
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو محمد بن مسلم الإمام الحجة المدنى [4].
5 -
(أَبُو سَلَمَة بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ الفقيه [3].
[تنبيه]: هذا الإسناد بنصّه قد تقدّم قريبًا أيضًا بعد الإسناد الماضي في
21/ 181، ومن لطائفه أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن أبي سلمة، وفيه أبو سلمة بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
وأما شرح الحديث، ومسائله فقد تقدّمت قريبًا أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[196]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: "الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ)
(1)
هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهْرَام الدارميّ، أبو محمد السمرقنديّ، الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ - بفتح الموحّدة - مولاهم الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [10].
رَوَى عن شعيب بن أبي حمزة، وحَرِيز بن عثمان، وعَطّاف بن خالد، وسعيد بن عبد العزيز، وصفوان بن عمرو، وغيرهم.
وروى عنه البخاري، وروى له الباقون بواسطة إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، وعبد الله الدارميّ، وعمرو بن منصور، ورجاء بن مُرَجّا، وعمران بن بكار، وأبي علي محمد بن علي بن حمزة المروزيّ، ومحمد بن سهل بن عسكر، وعبيد الله بن فَضَالة، وعبد الوهاب بن نَجْدَة، والذُّهلي، ومحمد بن عوف الطائيّ، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم، ويحيى بن معين وآخرون.
قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن أبي اليمان؟ فقال: أما حديثه عن
(1)
منسوب إلى دارم جدّ قبيلة.
صفوان وحَرِيز فصحيح، قال: وهو يقول: أخبرنا شعيب، واستَحَلّ ذلك بشيء عجيب، قال أبو عبد الله: كان أمر شعيب في الحديث عَسِرًا جِدًّا، وكان علي بن عَيّاش سمع منه، وذكر قصة لأهل حمص، أُراها أنهم سألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه، فقال لهم: لا، ثم كلموه، وحضر ذلك أبو اليمان، فقال لهم: ارْوُوا عني تلك الأحاديث، فقلت لأبي عبد الله: مناولة؟ قال: لو كان مناولة كان لم يعطهم كُتُبًا ولا شيئًا، إنما سمع هذا فقط، فكان ابن شعيب يقول: إن أبا اليمان جاءني، فأَخَذ كُتُب شُعيب مني بعدُ، وهو يقول: أخبرنا، وقال القاسم بن أبي صالح الهمداني، عن إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: سمعت أبا اليمان الحكم بن نافع، يقول: قال لي أحمد بن حنبل: كيف سمعت الكتب من شعيب؟ قلت: قرأت عليه بعضه، وبعضه قرأ عليّ، وبعضه أجاز لي، وبعضه مناولة، فقال: قل في كله: أخبرنا شعيب، وقال المفضل ابن غَسّان، عن يحيى بن معين: سألت أبا اليمان عن حديث شعيب بن أبي حمزة فقال: ليس هو مناولة، المناولةُ لم أُخرجها لأحد، وقال أبو زرعة الدمشقيّ، عن أبي اليمان: كان شعيب عَسِرًا في الحديث، فدخلنا عليه حين حضرته الوفاة، فقال: هذه كتبي، وقد صححتها، فمن أراد أن يأخذها مني فليأخذها، ومن أراد أن يَعْرِض فليعرض، ومن أراد أن يسمعها من ابني، فإنه قد سمعها مني، وقال شعيب بن عمرو البردعيّ، عن أبي زرعة الرازيّ: لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلا حديثًا واحدًا، والباقي إجازة، وقال البردعيّ: قلت لمحمد بن يحيى في حديث أنس، عن أم حبيبة - يعني حديث: "أُريتُ ما تَلْقَى أمتي من بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض
…
"
(1)
- حدثكم به أبو
(1)
قال الإمام أحمد في "مسنده": (26142) حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة
…
فذكر هذا الحديث، يتلو أحاديث ابن أبي حسين، وقال: أنا أنس بن مالك، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"رأيت ما تَلْقَى أمتي بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق ذلك من الله تعالى، كما سبق في الأمم، فسألته أن يُوَلِّيني شفاعة يوم القيامة فيهم، ففعل"، قال عبد الله: قلت لأبي: ها هنا قوم يُحَدِّثون به عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، قال: ليس هذا من حديث الزهري، إنما هو من حديث ابن أبي حسين.
اليمان؟ فقال: نعم حدثنا به من أصله، عن شعيب، عن ابن أبي حسين، فقلت: حدَّثنا غير واحد عن أبي اليمان، فقالوا: عن الزهري، قال: لَقَّنُوه "عن الزهري"، قلت: قد رواه عنه يحيى بن معين، فقال: يحيى بن معين لقيه بعدي، وقال أبو زرعة الدمشقيّ عن أحمد، بعد أن رواه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن ابن أبي حسين: ليس لهذا أصل عن الزهري، وكان كتاب شعيب، عن ابن أبي حسين، مُلْصَقًا بكتاب الزهريّ، كأنه يذهب إلى أنه اختلط بكتاب الزهري، فكان يَعْذر أبا اليمان، ولا يَحمل عليه فيه، قال أبو زرعة: وقد سألت عنه أحمد بن صالح، فقال لي مثل قول أحمد بن حنبل، وقال إبراهيم بن هانئ النيسابوريّ: قال لنا أبو اليمان: الحديث حديث الزهري، والذي حدثتكم به عن ابن أبي حسين، غَلِطتُ فيه بورقة قلبتها، وكذا قال يحيى بن معين عنه، وقال أبو حاتم: نبيلٌ ثقة صدوقٌ، وقال ابن عمّار: ثقةٌ، وقال العجليّ: لا بأس به، وقال أبو بكر محمد بن عيسى الطَّرَسُوسيّ: سمعت أبا اليمان يقول: صِرْتُ إلى مالك، فرأيت ثَمَّ من الْحُجّاب والْفَرْش شيئًا عجيبًا، فقلت: ليس هذا من أخلاق العلماء، فمضيت وتركته، ثم نَدِمتُ بعدُ.
وقال الآجريّ عن أبي داود: لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلا كلمةً، وقال الأزديّ: سمعه من شعيب مشاركةً، وقال الخليليّ: نسخة شعيب رواها الأئمة عن الحكم، وتابع أبا اليمان عليّ بن عياش الحمصيّ، وهو ثقة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ساق هذه الأقوال الحافظ في "تهذيب التهذيب"(1/ 470 - 471) ولم يعلّق عليها شيئًا، مع أنها تحتاج إلى التعليق عليها؛ لأن أبا اليمان قد اعتمده الشيخان، لكنه قد أحسن في "هدي الساري" حيث قال (ص 567) بعد ذكره كلام أبي زرعة المذكور ما نصّه: قلت: إن صحّ ذلك، فهو حجة في صحّة الرواية بالإجازة، إلا أنه كان يقول في جميع ذلك: أخبرنا، ولا مشاحّة في ذلك إن كان اصطلاحًا له. انتهى.
وقال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى في "سير أعلام النبلاء"(10/ 325): وبلغنا أن أبا اليمان كَتَب كُتُب إسماعيل بن عيّاش، ولم يَدَع منها شيئًا في القراطيس، وفي "الصحيحين" نحوٌ من أربعين حديثًا عند البخاريّ عن أبي اليمان قد أخرجها مسلم عن الدارميّ، عن أبي اليمان، وجميعها يقول فيها:
أخبرنا شعيب، ما قال قطّ: حدّثنا، فهذا يوضّح لك أنها بالإجازة، وهي منقولة جزمًا من خطّ شُعيب، وكان من أثبت أصحاب الزهريّ، والمقصود من الرواية إنما هو العلم الحاصل بأن هذا الخبر حدّث به فلان على أيّ صفة كان من صفات الأداء، وقد كان أبو اليمان عام وقته بحمص، استقدمه المأمون ليُولّيه قضاء حمص. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى.
قد تبيّن بهذا أن أحاديث أبي اليمان، عن شعيب صحيحة، لا كلام فيها؛ لأنها وإن لم تكن سماعًا فقد ثبت كونها إجازةً أو مناولةً، وكلتاهما من الطرق الصحيحة المعمول بها عند جمهور المحدّثين، ولا اعتداد بقول من خالفها، وكيف يُعتدّ به، وقد خالف ما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من مناولته وإجازته للصحابة رضي الله عنه ليبلغوه للناس؟ فمن ذلك حديث أمير السريّة، كما هو مشهور في "الصحيحين"، حيث ناوله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتابه وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس
…
" الحديث، وقد استدلّ به البخاريّ في "الصحيح" في "كتاب العلم" في "باب ما يُذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان"، وكذا حديث إجازته صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه أن يأخذ الكتاب من أبي بكر رضي الله عنه ويقرأه على الناس في الموسم، وغير ذلك.
والحاصل أن الطعن في أبي اليمان بما ذُكر مما لا يُلتفت إليه، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال محمد بن مصفى وغيره: مات سنة (211)، زاد أبو زرعة: وهو ابن (83)، وقال البخاري وغيره: مات سنة (222)، زاد محمد بن سعد: في ذي الحجة بِحِمْصَ، له في ابن ماجه حديث واحد في خطبة عليّ رضي الله عنه بنتَ أبي جهل.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.
3 -
(شُعَيْبٌ) بن أبي حمزة، واسم أبيه دينار الأموي مولاهم، أبو بِشْر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ [7].
رَوَى عن الزهريّ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وأبي الزناد، وابن المنكدر، ونافع، وهشام بن عروة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه بشر، وبقية بن الوليد، والوليد بن مسلم، ومسكين بن بُكير، وأبو اليمان، وعليّ بن عَيّاش الحمصيّ، وعِدّة.
قال أبو زرعة الدمشقيّ، عن أحمد: رأيت كُتُب شعيب، فرأيتها مضبوطةً مُقَيَّدةً، ورَفَع من ذكره، قلت: فأين هو من الزُّبَيديّ؟ قال: مثله، وقال الأثرم عن أحمد نحو ذلك، وقال محمد بن علي الْجُوزجانيّ عن أحمد: ثبتٌ صالح الحديث، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، مثلُ يونس وعُقيل، يعني في الزهري، وكَتَب عن الزهري إملاءً للسلطان، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: شعيبٌ من أثبت الناس في الزهريّ، كان كاتبًا له، وقال العجليّ، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال عليّ بن عيّاش: كان من كبار الناس، وكان ضَنِينًا بالحديث، وكان مِن صِنفٍ آخر في العبادة، وكان من كُتّاب هشام، وقال أبو اليمان: كان عَسِرًا في الحديث، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن شعيب، وابن أبي الزناد؟ فقال: شعيب أشبه حديثًا، وأصحّ من ابن أبي الزناد، وقال العجليّ: ثقةٌ ثبتٌ، وقال الخليليّ: كان كاتب الزهريّ، وهو ثقةٌ مُتَّفَقٌ عليه، حافظٌ أثنى عليه الأئمة، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان أصحّ حديثًا عن الزهريّ بعد الزُّبَيْديّ.
قال يزيد بن عبد ربه: مات سنة اثنتين وستين ومائة، وقال يحيى بن صالح وغيره: مات سنة ثلاث، وقال عليّ بن عيّاش: كان قَوِيًّا، قد جاوز السبعين، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة اثنتين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.
وقوله: (بهذا الإسناد) إشارة إلى الإسناد الذي قبله، وهو إسناد يونس، عن ابن شهاب، يعني أن سند شعيب بن أبي حمزة هو إسناد يونس، عن ابن شهاب، فالزهريّ يرويه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (مثله، وزاد إلخ) يعني أن لفظ شعيب مثل لفظ يونس، غير أنه زاد في الحديث قوله:"الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية"، ولفظ شعيب ساقه البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(3499)
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الفخر، والخيلاء في الفدادين أهلِ الوبر، والسكينةُ في أهل الغنم، والإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية". انتهى.
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[197]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "جَاءَ أَهْلُ الْيَمَن، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَضْعَفُ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، السَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَم، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَر، قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ").
رجال هذا الإسناد هم المذكورون في السند الماضي، غير:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار، من كبار [3] مات بعد (90) وقد جاوز (80)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
وقوله: (السَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ) أي السكون، والوقار، والتواضع (وَالْفَخْرُ) أي التفاخر بالآباء الأشراف، وكثرة الأموال، والْخَوَل، والجاه، وغير ذلك من مراتب أهل الدنيا (وَالْخُيَلَاءُ) بالمدّ وزنه عند سيبويه فُعَلاءُ، وهي التكبّر، والتعاظم، يقال: خال الرجل يخول، فهو خال، وذو خال، ومَخِيلة، ومنه قول طلحة لعمر رضي الله عنهما: إنا لا نخول عليك، أي لا نتكبّر، ويقال: اختال يختال، فهو مختالٌ، ومنه قوله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23](فِي الْفَدَّادِينَ) أي الصيّاحين (أَهْلِ الْوَبَرِ) يعني به أهل ذات الوبر، وهي الإبل، والوبر للإبل كالصوف للغنم، والشعر للمعز، ولذلك قال الله تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80](قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ) أي جهة محل طلوعها، وهذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن أكثر حال أهل الغنم، وأهل الإبل، وأغلبه، قاله القرطبيّ
(1)
.
(1)
"المفهم" 1/ 240 - 241.
وبقية شرح الحديث، ومسائله تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[198]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَن، هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا، وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، رَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ").
رجال هذا الإسناد ستة، وكلهم تقدّموا قريبًا، فأما أبو معاوية، محمد بن خازم الضرير، والأعمش سليمان بن مهران، فتقدّما في الباب الماضي، وأما الباقون ففي هذا الباب، وأبو بكر بن أبي شيبة، هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، إبراهيم بن عثمان، وأبو كُريب هو محمد بن العلاء، وأبو صالح ذكوان السمّان، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدّمت أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[199]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ: "رَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ").
رجال هذا الإسناد أربعة، وكلهم تقدّموا قريبًا، غير:
1 -
(جرير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبّي الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة، صحيح الكتاب، قيل: كان في آخره يَهِمُ من حفظه [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
وزهير بن حرب تقدّم قبل باب، والباقيان تقدّما في هذا الباب.
وقوله: (بهذا الإسناد) الإشارة إلى إسناد أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (ولم يذكر
…
إلخ) يعني أن جريرًا، وإن كان حديثه مثل حديث أبي معاوية، إلا أنه نقص منه قوله:"رأس الكفر قبل المشرق".
[تنبيه]: لفظ حديث جرير ساقه ابن منده في "الإيمان"، فقال (1/ 528):
(439)
أنبأنا أبو القاسم، حمزة بن محمد بن العباس، ثنا أحمد بن المثنى، ثنا زهير بن حرب، (ح) وأنبأنا حسان، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا قتيبة، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانيةٌ، أتاكم أهل اليمن، هم أَرَقُّ أفئدةً، وألين قلوبًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[200]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَ حَدِيثِ جَرِيرٍ وَزَادَ:"وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِل، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَصْحَابِ الشَّاءِ").
رجال هذا الإسناد ثمانية:
1 -
(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) الْعَسْكريّ، أبو محمد الْفَرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ، يُغْرِبُ [10].
رَوَى عن غندر، وأبي أسامة، وحسين الجعفي، وشبابة بن سَوّار، ويحيى بن آدم، ويزيد بن هارون، ويعلى بن عُبيد، وغيرهم.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وابن خزيمة، وأبو عَرُوبة، وعبدان الأهوازيّ، ومحمد بن يحيى بن مَنْدَه، وابن صاعد، وابن أبي داود، وغيرهم.
قال أبو حاتم: شيخٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبالن في "الثقات"، وقال: يُغْرِب عن شعبة، عن الأعمش بأشياء، مات سنة (255)، أو
بعدها بقليل، أو قبلها بقليل، وقال إبراهيم بن محمد الكنديّ، أحدُ الرواة عنه: مات سنة (53).
وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
والباقون تقدّموا قريبًا، فأما محمد بن جعفر، وهو غندر، وشعبة بن الحجّاج فتقدّما في الباب الماضي، وأما الباقون ففي هذا الباب.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) الإشارة إلى إسناد جرير بن عبد الحميد، يعني أن إسناد شعبة كإسناد جرير، رواه عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (مِثْلَ حَدِيثِ جَرِيرٍ
…
إلخ) يعني أن لفظ حديث شعبة مثل لفظ حديث جرير، غير أن شعبة زاد في حديثه قوله:"وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَصْحَابِ الْإِبِل، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَصْحَابِ الشَّاءِ".
[تنبيه]: لفظ حديث شعبة ساقه أبو نعيم في "المسند المستخرج"، فقال (1/ 140):
(186)
حدثنا أبو علي بن الصوّاف، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي (ح) وحدثنا أبو أحمد، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا محمد بن بشار، ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، سمعت ذكوان، يحدث عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أهل اليمن أَرَقُّ أفئدةً، وألين قلوبًا، والفقه يمانٍ، والإيمان يمان، والخيلاء والكبر في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أصحاب الشاء".
[فائدة]: "الشاء" بالهمزة: جمع شاة بالهاء، قال في "القاموس": الشاة: الواحدة من الغنم، للذكر والأنثى، أو يكون من الضأن، والمعز، والظباء، والبقر، والنعام، وحُمُر الوحش، والمرأة، جمعه: شاءٌ. انتهى باختصار
(1)
.
وقال في "المصباح": الشاة من الغنم يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هذا شاةٌ للذكر، وهذه شاةٌ للأنثى، وشاةٌ ذَكَرٌ، وشاةٌ أُنثى، وتصغيرها شُوَيهةٌ، والجمع شاء، وشِيَاهٌ بالهاء رُجوعًا إلى الأصل، كما قيل: شَفَةٌ، وشِفَاهٌ،
(1)
"القاموس المحيط" ص 1124.
ويقال: أصلها شَاهَةٌ مثلُ عاهَةٍ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[201]
(53) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "غِلَظُ الْقُلُوب، وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِق، وَالْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه الإمام الحجة المذكور قبل باب.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ) هو: عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزوميّ، أبو محمد المكّي، ثقة [8].
رَوَى عن حنظلة بن أبي سفيان، وداود بن قيس الفَرّاء، والزبير بن سعيد الهاشمي، وسيف بن سليمان المكّي، والضحاك بن عثمان، وطلحة بن عمرو، وابن جريج، وعنبسة بن عبد الرحمن، ويونس بن يزيد، وثور بن يزيد الحمصيّ وجماعة.
ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، والشافعيّ، والحميديّ، وحامد بن يحيى الْبَلْخيّ، ويعقوب بن حميد، وعمرو بن الْحُبَاب العَلَّاف، وأبو قُدامة السرخسيّ، وقتيبة بن سعيد وغيرهم.
قال أبو حاتم: عبد الله بن الحارث المخزوميّ أحب إليّ من عبد الله بن الحارث الحاطبي، وقال يعقوب بن شيبة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، إلا البخاريّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (1528):"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يُستَوفَى"، و (2227):"إن كان في شيء ففي الرَّبْعِ والخادم والفرس".
(1)
"المصباح المنير" 1/ 328.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكّي الفقيه، ثقة فاضلٌ، يدلّس، ويُرسل [6](ت 150) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكّي، صدوقٌ يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وعبد الله بن الحارث، فما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أن عبد الله بن الحارث هذا أولى محلّ ذكره في الكتاب، وجملة ما روى المصنّف له من الأحاديث ثلاثة فقط، كما أسلفت بيانها آنفًا.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمكّيين غير شيخه، وقد دخل مكة، وجابر رضي الله عنه، وإن كان مدنيًّا، إلا أنه سكن مكة مدّةً
(1)
.
5 -
(ومنها): أن فيه جابرًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، ويقال
(2)
: إنه آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (94)، وقيل غير ذلك، ومن مناقبه رضي الله عنه أنه قال: استغفر لي النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمسًا وعشرين مرّةً، وليلة البعير هي الليلة التي اشترى النبيّ صلى الله عليه وسلم من جابر جَمَلَهُ، وهي مشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما، والله تعالى أعلم.
(1)
فقد نقل في "تهذيب التهذيب" 2/ 244 في ترجمة طلحة بن نافع، عن البخاريّ، قال مسدد: عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان - هو طلحة بن نافع - قال: جاورت جابرًا بمكة ستة أشهر، فهذا يدلّ على أن جابرًا رضي الله عنه سكن مكة مدّة، والله تعالى أعلم.
(2)
إنما عبّرتُ بـ "يقال" إشارةً إلى ضعف هذا القول؛ لأن الصحيح أن آخر من مات بها من الصحابة هو سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه، مات سنة (88)، وقيل بعدها.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الملك بن عبد العزيز (بْنِ جُرَيْجٍ) المكّي، أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله تعالى عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "غِلَظُ الْقُلُوبِ) بكسر الغين المعجمة، وفتح اللام، وزان عِنَب مصدر غَلُظ الشيءُ بالضمّ: خلاف دَقَّ، والاسم الْغِلْظةُ بالكسر، وحَكَى في "البارع" التثليث عن ابن الأعرابيّ، وهو غَلِيظٌ، والجمع غِلاظٌ، وعذابٌ غليطٌ: شديدُ الألم، وغَلُظ الرجلُ: اشتدّ، فهو غليظ أيضًا، وفيه غِلْظةٌ: أي غير لَيِّنٍ، ولا سَلِسٍ، قاله الفيّوميّ
(1)
. (وَالْجَفَاءُ) بالفتح، يقال: جَفَا السرجُ عن ظهر الفرس يجفو جَفَاءً: ارتفع، وجافيته، فتجافى، وجفوت الرجل أجفوه: أعرضت عنه، أو طردته، وهو مأخوذ من جُفَاء السيل، وهو ما نفاه السيل، وقد يكون مع بغضٍ، وجَفَا الثوب يجفو: إذا غلُظ، فهو جافٍ، ومنه جفاء الْبَدْو، وهو غِلْظَتهم، وفَظَاظَتهم، قاله الفيّوميّ أيضًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه المعاني كلها تصلح في الحديث، فجفاء القلوب: ارتفاعها، وتكبّرها، وإعراضها عن الحقّ، وطرده ودفعه عنها، فلا تقبله بغضًا له، والله تعالى أعلم.
فقوله: "غلظ القلوب" مبتدأ خبره قوله: (فِي الْمَشْرِقِ) أي كائن في أهل المشرق، وقد سبق بيان المراد بأهل المشرق قريبًا، فلا تنس، وإعراب قوله:(وَالْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ) كسابقه، و"الْحِجَاز" بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الجيم، مشتقّ من حَجَزْتُ بين الشيئين حَجْزًا، من باب قَتَلَ: إذا فَصَلتَ بينهما، وسُمي بذلك لأنه فصل بين نَجْد والسَّرَاة، وقيل: بين الْغَوْر والشأم، وقيل: لأنه احتجز بالجبال، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: فيه حجة - أي لمن حمل "الإيمان يمان" - على مكة والمدينة، وأن المراد مبدؤه، ومستقرّه، وظهوره؛ لأن مكّة والمدينة من بلاد الحجاز، وقد قالوا: إن حدّ الحجاز من جهة الشام شَغْبٌ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 450.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 122.
وبَدَا
(1)
، ومما يلي تِهَامة بَدْرٌ، وعُكَاظُ، قال الْقُتَبيّ: سُمِّي حجازًا؛ لحجزه بين نَجد وتِهَامة، وقال ابن دُريد: لحجزه بين نَجْد والسَّرَاة، قال الأصمعيّ: إذا انحدرت من نجد من ثنايا ذات عِرْق، فقد أَتْهَمتَ إلى البحرين، فإذا استقبلتك الْحِرَارُ، وأنت بنجد، فذلك الْحِجَاز، سُمّيت بذلك؛ لأنها حُجِزت بالْحِرَار الْخَمس
(2)
.
وقد يكون المراد بالحجاز هنا المدينة فقط، ويؤيّده قوله في الحديث الآخر: "إن الإيمان لَيَأْرِزُ إلى المدينة
…
" الحديث، متّفقٌ عليه.
وفي هذا الحديث دليل على ترجيح فقه أهل الحجاز، وأهل المدينة، وترجيح فقه مالك رحمه الله تعالى؛ إذ هو يمانيّ النسب، يمانيّ البلد، والمدينة دار أهل اليمن الذين نَسَبَ إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الفقه والحكمة. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره القاضي من ترجيح فقه أهل المدينة على غيرهم، قاله أيضًا في كتابه الآخر "ترتيب المدارك" فترجم فيه بقوله:"باب فضل علم أهل المدينة"، "باب ما جاء عن السلف والعلماء في وجوب الرجوع إلى عمل أهل المدينة"، "باب ترجيح مذهب مالك، والحجة في وجوب تقليده، وتقديمه على غيره من الأئمة"(1/ 61 و 66 و 75)، وبالغ في تقرير ذلك كلّه، ولا يخفى ما فيه من المبالغة التي تحمل العوامّ على التعصّب.
وقد أجاد الحافظ ابن حجر في تعقّبه على القرطبيّ، فقال: وهذا إن سُلّم اختصّ بعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وأما بعد ظهور الفتن، وانتشار
(1)
"شَغْبٌ"، ويقال: شَغْبَى، و"بدا" موضعان بين المدينة وأيلة، انظر:"معجم البلدان" 1/ 356، 3/ 351.
(2)
"الْحِرَارُ" جمع حرّة، وهي أرضٌ ذات حجارة سُود، كأنها أُحرقت بالنار، وهي كثيرة في بلاد العرب، والْحِرَارُ الخمسُ هي: حرّةُ بني سُليم، وحَرّة واقم، وحرّةُ ليلى، وحرّة شَورَان، وحرّةُ النار. انظر:"معجم البلدان" 2/ 134.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 323 - 324.
الصحابة في البلاد، ولا سيّما أواخر المائة الثانية، وهلُمّ جرًّا، فهو بالمشاهدة بخلاف ذلك. انتهى كلامه.
ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في هذه المسألة، وفصّلها تفصيلًا حسنًا جدًّا، وقد نظمت كلامه في "التحفة المرضيّة في نظم المسائل الأصوليّة على طريقة أهل السنّة السنيّة"، فقلت في "مبحث الإجماع":
وَاشْتَرَطُوا كَوْنَهُ قَولَ الْكُلِّ
…
فَلَيْسَ إِجْمَاعٌ بِقَولِ الْجُلِّ
فَمِنْ هُنَا إِجْمَاعُ أَهْلِ طَيْبَةِ
…
يَحْتَاجُ تَفْصِيلًا بِدُونِ مِرْيَةِ
كَمَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدْ قَسَّمَهُ
…
أَرْبَعَةً فَهَاكَ مَا رَسَّمَهُ
أَوَّلُهَا مَا صَارَ مِثْلَ النَّقْلِ عَنْ
…
نَبِيِّنَا كَالصَّاعِ حُجَّةً قَمَنْ
وَثَانِيهَا عَمَلُهُمْ مِنْ قَبْلِ
…
أَنْ يُقْتَلَ عُثْمَانُ فَحُجَّةٌ تُسَنْ
أَعْنِي لَدَى الْجُمْهُورِ إِذْ ذَا سُـ
…
ـنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حُجَّةُ
وَلَيْسَ يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالَفَهْ
…
لِسُنَّةِ الرَّسُولِ يَا ذَا الْمَعْرِفَة
ثَالِثُهَا إِنْ حُجَجٌ تَعَارَضَتْ
…
عَمَلُهُمْ لِبَعْضِهَا هَلْ رَجَّحَتْ؟
فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَجَّحَا
…
بِهِ وَنُعْمَانٌ إِبَاءً أَوْضَحَا
أَصْحَابُ أَحْمَدَ لَهُمْ وَجْهَانِ
…
كَلَامُهُ يَمِيلُ لِلرُّجْحَانِ
رَابِعُهَا عَمَلُهُمْ مُؤَخَّرَا
…
فَفِي احْتِجَاجِنَا بِهِ خُلْفٌ جَرَى
فَأَحْمَدُ النُّعْمَانُ ثُمَّ الشَّافِعِيْ
…
أَبَوْا وَرَأْيُهُمْ أَسَدُّ فَاتْبَعِ
وَهْوَ الَّذِي لَدَى الْمُحَقِّقِينَ مِنْ
…
أَصْحَابِ مَالِكٍ يُرَى الرَّأْيَ الْقَمِنْ
وَبَعْضُ أَهْلِ الْغَرْبِ مِنْ أَصْحَابِهِ
…
جَعَلَهُ الْحُجَّةَ لَا تَعْبَأْ بِهِ
إِذْ لَيْسَ نَصُّ مَالِكٍ وَلَا دَلِيلْ
…
أَيَّدَهُ بَلْ مَحْضُ تَقْلِيدِ ذَلِيلْ
فَقَوْلُ أَهْلِ طَيْبَةٍ لِذَا يُرَى
…
أَصَحَّ أَقَوَالٍ لَدَى الْقَوْمِ جَرَى
فَتَارَةً بِالْقَطْعِ حُجَّةً أَتَى
…
وَتَارَةً ذَا قُوَّةٍ قَدْ ثَبَتَا
وَتَارَةً مُرَجِّحًا لِمَا يَدُلْ
…
مُلَخَّصُ التَّفْصِيلِ هَذَا قَدْ كَمُلْ
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[23/ 201](53)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 332 و 335 و 345) وفي "فضائل الصحابة"(1611)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7296)، و (ابن منده) في "الإيمان"(446)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(168)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(187) وزاد من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج:"والسكينة في أهل الغنم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
24 - (بَابُ بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ مَحَبَّةَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْإِيمَان، وَأَنَّ إِفْشَاءَ السَّلَامِ سَبَبٌ لِحُصُولِهَا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج، المذكور أولَ الكتاب قال:
[202]
(54) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنكُمْ").
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد بنصّه تقدّم في الباب الماضي، ومن لطائفه أنه مسلسل بثقات الكوفيين إلى الأعمش، والباقيان مدنيّان، وأن فيه أبا معاوية أحفظ من روى عن الأعمش، وكذلك الأعمش أحفظ من رَوَى عن أبي صالح السمان، يقال: روى عنه ألف حديث، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش عن أبي صالح، وأن صحابيّه رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) نافية، ولذا رُفع
الفعل بعدها (تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا) بحذف النون للنصب بـ "أن" مضمرة بعد "حتى" وجوبًا، لكون الفعل مستقبلًا، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"
…
حَتْمٌ كـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"
وَتِلْوَ "حَتَّى" حَالًا أوْ مُؤَوَّلَا
…
بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا
وقوله: "لا تدخلون الجنّة إلخ" هو على ظاهره، وإطلاقه، فلا يدخل الجنة إلا من مات مؤمنًا، وإن لم يكن كامل الإيمان (وَلَا تُؤْمِنُوا) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: كذا صحّت الروايات هنا: "ولا تؤمنوا" بإسقاط النون، والصواب إثباتها كما وقع في بعض النسخ؛ لأن "لا" نفيٌ لا نهيٌ، فلزم إثباتها. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا هو في جميع الأصول والروايات: "ولا تؤمنوا" بحذف النون من آخره، وهي لغة معروفة صحيحة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول القرطبيّ: "والصواب إثباتها" ليس كما ينبغي؛ لأنه إذا صحّت الرواية بالحذف، ووجد في العربيّة له وجه، فلا وجه للتخطئة، فما قاله النوويّ هو الحقّ، وقد أثبت المحقّقون من النحاة جواز حذف نون الرفع بلا ناصب وجازم على قلّة، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في "الكافية" مبيّنًا إعراب الأفعال الخمسة:
بِالنُّونِ رَفْعُ نَحْوِ "يَذْهَبُونَا"
…
وَ"تَذْهَبَانِ" ثُمَّ "تَذْهَبِينَا"
وَاحْذِفْ إِذَا جَزَمْتَ أَوْ نَصَبْتَا
…
كـ"لَمْ تَكُونَا لِتَرُومَا سُحْتَا"
وَحَذْفُهَا فِي الرَّفْعِ قَبْلَ "نِي" أَتَى
…
وَالْفَكُّ وَالإِدْغَامُ أَيْضًا ثَبَتَا
وَدُونَ "نِي" فِي الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا
…
فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا
"أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي
…
وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي"
قال في "شرحه": وقولي: "ودون ني" أي دون اتّصال نون الوقاية بنون الرفع قد حُكي حذفها، ومثال ذلك في النثر ما رُوي من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا"
(3)
،
(1)
"المفهم" 1/ 242.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 36.
(3)
هذه رواية أبي داود، والترمذي بحذف النون في الموضعين:"لا تدخلوا"، و"لا تؤمنوا"، وأما رواية مسلم فالشاهد فيها حذفها من "ولا تؤمنوا" فقط.
الأصل: لا تدخلون، ولا تؤمنون؛ لأن "لا" نافية، و"لا" النافية لا تعمل في الفعل شيئًا، ومثال النظم قول الراجز:
أَبِيتُ أَسْري
…
البيت.
والأصل "تبيتين" و"تدلُكين"، فحذف النونين دون جازم ولا ناصب. انتهى كلام ابن مالك باختصار
(1)
.
والحاصل أن تخطئة الرواية بحذف النون غير مقبول، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(حَتَّى تَحَابُّوا) بحذف إحدى التاءين، إذ أصله: تتحابّوا؛ أي حتى يُحبّ بعضكم بعضًا، ونونه محذوفة للناصب، كما تقدّم نظيره، قال النوويّ: معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يصلُح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب.
وقال القرطبيّ: الإيمان المذكور أولًا هو التصديق الشرعيّ المذكور في حديث جبريل عليه السلام، والإيمان المذكور ثانيًا هو الإيمان العمليّ المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبةً"، ولو كان الثاني هو الأول للزم منه أن لا يدخل الجنّة مَن أبغض أحدًا من المؤمنين، وذلك باطلٌ قطعًا، فتعيّن التأويل الذي ذكرناه. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تؤمنوا حتى تحابّوا": أي لا يتمّ إيمانكم، ولا يكمُلُ ولا تصلح حالتكم في الإيمان إلا بالتحابّ والأُلفة، ويعضده قوله بعدُ: "أوَلا أدلّكم على شيء
…
" الحديث. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لاتدخلون الجنة حتى تؤمنوا"، فهو على ظاهره، وإطلاقه، فلا يدخل الجنة إلا من مات مؤمنًا، وإن لم يكن كاملَ الإيمان، فهذا هو الظاهر من الحديث.
وقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله تعالى: معنى الحديث: لا يكمل إيمانكم
(1)
"شرح الكافية الشافية" 1/ 207 - 211.
(2)
"المفهم" 1/ 242.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 326.
إلا بالتحابّ، ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها إذا لم تكونوا كذلك، وهذا الذي قاله محتمل. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يكون حالكم حال من كَمُل إيمانه حتى تفشوا السلام الجالب للمحبّة الدينيّة، والألفة الشرعيّة. انتهى.
(أَوَلَا) بفتح الهمزة والواو، هي "ألا" التي للعرض والتحضيض، والواو للعطف، وأصلها التقديم على الهمزة، إلا أنها أخّرت للزوم تصديرها (أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ) عظيم، فالتنوين للتنكير؛ وعظمته حيث كان سببًا للمحبّة التي هي سبب للإيمان الكامل الذي هو سبب لدخول الجنّة (إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا) بقطع الهمزة المفتوحة فعل أمر من الإفشاء (السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) معنى إفشائه: إظهاره، وإشاعته، وإقراؤه على المعروف وغير المعروف، قاله القرطبيّ.
وقال السنديّ: والمراد نشر السلام بين الناس؛ ليُحيُوا سنته صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ: أقلّه أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلَّم عليه، فإن لم يسمعه لم يكن آتيًا بالسنّة، ذكره السيوطيّ في "حاشية أبي داود" في شرح هذا اللفظ.
قال السنديّ: ظاهره أنه حمل الإفشاء على رفع الصوت به، والأقرب حمله على الإكثار. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأَوْلى حمله على المعنيين؛ إذ لا تنافي بينهما، فيكون المراد بالإفشاء رفع الصوت بالسلام وإكثاره بين الناس، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ رحمه الله: اعلم أنه تعالى جعل السلام سببًا للمحبّة، والمحبّة سببًا لكمال الإيمان؛ لأن إفشاء السلام سبب للتحابّ والتوادّ، وهو سبب الأُلفة والجمعيّة بين المسلمين المسبب لكمال الدين، وإعلاء كلمة الإسلام، وفي التهاجر والتقاطع والشحناء التفرقة بين المسلمين، وهو سبب لانثلام الدين، والوهنِ في الإسلام، وجَعْل كلمة الذين كفروا الْعُلْيَا، قال الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ
(1)
"شرح مسلم" 2/ 36.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 53.
بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} الآية [آل عمران: 103]. انتهى
(1)
، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[24/ 202 و 203](54)، و (أبو داود)(5193)، و (الترمذيّ)(5688)، و (ابن ماجه)(68 و 3692)، و (ابن أبي شيبة)(8/ 624 و 625)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 391 و 442 وو 477 و 495 و 512)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(260 و 980)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(236)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(83)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(190 و 191)، و (ابن منده) في "الإيمان"(328 و 329 و 330 و 331 و 332 و 335)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3300) والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه لا يدخل الجنّة إلا نفسٌ مسلمة، وقد أخرج الترمذي وحسّنه من طريق أبي إسحاق، عن زيد بن أُثيع، قال: سألت عليًّا رضي الله عنه: بأيّ شيء بُعِثت؟ قال: بأربع: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة
…
" الحديث
(2)
.
2 -
(ومنها): بيان أن محبة المؤمنين بعضهم بعضًا مما يكمل به الإيمان، فهي شعبة من شعب الإيمان.
(1)
"الكاشف" 2/ 3038.
(2)
قال الترمذيّ رحمه الله تعالى: (871) حدثنا علي بن خَشْرَم، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أُثيع، قال: سألت عليًّا بأيّ شيء بُعِثت؟ قال: بأربع: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ومن لا مدة له فأربعة أشهر"، قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن. وصححه الشيخ الألباني، انظر:"صحيح الترمذيّ" 1/ 259 - 260.
3 -
(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده" في الرواية التالية إثباتَ اليد لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله.
4 -
(ومنها): انتفاء كمال الإيمان عمن ليست له محبة لإخوانه المؤمنين.
5 -
(ومنها): إثبات دخول الجنّة للمؤمن الذي حقّق إيمانه بالمحبّة لإخوانه، والتودّد إليهم بما يُدخل السرور عليهم كالسلام مع الالتزام بسائر شرائع الإسلام.
6 -
(ومنها): أن فيه الحثَّ العظيم على إفشاء السلام، وبذله للمسلمين كلهم المعروفين وغير المعروفين.
7 -
(ومنها): أن السلام أول أسباب التآلف، ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكُن أُلفة المسلمين بعضهم لبعض.
8 -
(ومنها): أنه يتضمّن رفع التقاطع والتهاجُر والشَّحْنَاء، وفساد ذات البين التي هي الحالقة؛ لأن سلامه لله تعالى لا يتبع فيه هواه ولا يخص أصحابه وأحبابه به، فيحصل ببركته ذلك.
9 -
(ومنها): أن في إفشاء السلام إظهار شعار المسلمين المميز لهم من غيرهم، من أهل الملل.
10 -
(ومنها): أن في إفشائه رياضةَ النفس، ولزومَ التواضع، وإعظامَ حرمات المسلمين، وقد ذكر البخاري رحمه الله في "صحيحه" (1/ 14) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال:"ثلاثٌ من جمعهنّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار"
(1)
.
(1)
قد حقّق الكلام الحافظ رحمه الله تعالى على هذا الحديث في "الفتح" 1/ 82 حيث قال:
قوله: وقال عَمّار: هو ابن ياسر أحد السابقين الأولين، وأثره هذا أخرجه أحمد بن حنبل، في "كتاب الإيمان" من طريق سفيان الثوري، ورواه يعقوب بن شيبة في "مسنده" من طريق شعبة، وزهير بن معاوية، وغيرهما، كلهم عن أبي إسحاق السبيعي، عن صِلَةَ بن زُفَر، عن عمّار، ولفظ شعبة:"ثلاثٌ مَن كُنّ فيه، فقد استكمل الإيمان"، وهو بالمعنى، وهكذا رويناه في "جامع معمر" عن أبي إسحاق، وكذا حَدَّث به عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر، وحَدّث به عبد الرزاق بأَخَرَة، =
[تنبيه]: قال في "الفتح": قال أبو الزناد بن سراج وغيره: إنما كان مَن جمع الثلاث مستكملًا للإيمان؛ لأن مداره عليها؛ لأن العبد إذا اتّصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقًّا واجبًا عليه إلا أدّاه، ولم يترك شيئًا مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يَجْمَع أركان الإيمان؛ وبذلُ السلام يتضمن مكارم الأخلاق، والتواضع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف، والتحابُّ، والإنفاق من الإقتار يتضمن غايةَ الكرم؛ لأنه إذا أنفق مع الاحتياج، كان مع التوسع أكثر انفاقًا، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبةً ومندوبة، أو على الضيف والزائر، وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في الدنيا، وقَصْرَ الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة، وهذا التقرير يُقَوِّي أن يكون الحديث مرفوعًا؛ لأنه يشبه أن يكون كلام مُن أوتي جوامع الكلم، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[203]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإسْنَاد، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا"، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٍ).
= فرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كذا أخرجه البزار في "مسنده"، وابن أبي حاتم في "العلل" كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي، وكذا رواه البغوي في "شرح السنة"، من طريق أحمد بن كعب الواسطيّ، وكذا أخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" عن محمد الصنعاني، ثلاثتهم عن عبد الرزاق، مرفوعًا، واستغربه البزار، وقال أبو زرعة: هو خطأ.
قال الحافظ: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد؛ لأن عبد الرزاق تغير بآخره، وسماع هؤلاء منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي، فهو في حكم المرفوع، وقد رَوَيناه مرفوعًا من وجه آخر عن عمار، أخرجه الطبراني في "الكبير"، وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بيّنتها في "تغليق التعليق". انتهى كلام الحافظ، وهو تحقيق نفيس، والله تعالى أعلم.
_________
(1)
"فتح" 1/ 113.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد نفسه أيضًا تقدّم في الباب الماضي، و"جرير" هو ابن عبد الحميد.
وقوله: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إلخ) هذا إقسام من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أقسم بالله سبحانه وتعالى الذي نفسه صلى الله عليه وسلم بيده، ففيه إثبات اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وفيه مشروعيّة الحلف من غير تحليف؛ لبيان عظم الأمر، وتأكيد الحثّ عليه.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٍ) يعني أن حديث جرير عن الأعمش مثل حديثهما عنه.
[تنبيه]: لم أجد من ساق لفظ حديث جرير هذا، وقد أخرجه من طريقه ابن منده في "الإيمان" 1/ 463 (332) لكنه أحاله على أبي معاوية، فقال:"عن الأعمش نحوه". انتهى.
ويستفاد من قوله: "نحوه" بدل قول المصنّف: "بمثلِ" أن هاتين العبارتين بمعنى واحد، وهذا هو الذي وجدته بتتبع صنيع المصنّف، فما تقدّم في المقدّمة من التفرقة بينهما محلّ نظر، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
25 - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ)
[204]
(55) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قُلْتُ لِسُهَيْلٍ إِنَّ عَمْرًا حَدَّثَنَا عَنْ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِيكَ، قَالَ: وَرَجَوْتُ أَنْ يُسْقِطَ عَنِّي رَجُلًا، قَالَ: فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ أَبِي، كَانَ صَدِيقًا لَهُ بِالشَّام، ثُمَّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لِله، وَلِكِتَابِه، وَلِرَسُولِه، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن عَبّاد بن الزِّبْرِقَان المكّي، نزيل
بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الحجة الفقيه الثبت، أبو محمد المكّي، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
3 -
(سُهَيْلٍ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ صدوقٌ، تغيّر حفظه بآخره، وروى له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا [6] توفّي في خلافة المنصور (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ) الليثيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 105)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.
5 -
(تَمِيمٌ الدَّارِيُّ) هو: تميم بن أوس بن خارجة الداريّ، أبو رُقيّة الصحابيّ المشهور، سكن بيت المقدس بعد قتل عثمان رضي الله عنه، قيل: مات رضي الله عنه سنة (40)(خت م 4) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من سهيل، والباقيان مكيّان.
3 -
(ومنها): أن سفيان علا على شيخه عمرو بن دينار في هذا الحديث بعد أن سمعه من سهيل؛ لأنه كان أوّلًا بينه وبين عطاء بن يزيد ثلاث وسائط: عمرو، والقعقاع، وأبو صالح، فلما سمعه من سهيل كان بينه وبين عطاء واسطة واحدة، وكان بين عمرو وعطاء واسطتان، فعلا سفيان على عمرو بواسطة، وهذا من مُلَحِ العلوّ، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى بتميم في الكتب الستة نحو عشرة، منهم عند الشيخين ستة، صاحب الترجمة هذا، وتميم بن سلمة السلميّ الكوفيّ، وتميم بن حَذْلَم الضبيّ الكوفيّ، علّق لهم البخاريّ، وأخرج لهم المصنّف، وتميم بن أسد أبو رفاعة العدويّ، وتميم بن طَرَفَة الْمُسْليّ، وتميم بن نُذَير أبو قتادة العدويّ، وهؤلاء أخرج لهم المصنّف.
5 -
(ومنها): أنه ليس لتميم الداريّ رضي الله عنه في "صحيح البخاريّ"، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء، ولا له في "صحيح مسلم" غير هذا الحديث، بل هو من
المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا تسعة أحاديث فقط، هذا الحديث عند المصنّف، وأبي داود، والنسائيّ، وحديث: "ما السنة في الرجل يُسْلِم على يدي الرجل؟
…
" عند أصحاب السنن، وحديث: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة
…
" عند أبي داود، وابن ماجه، وحديث في آية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] عند الترمذيّ، وحديث: "من قال: لا إله إلا الله وحده
…
" عنده أيضًا، وحديث مسروق قال: قال لي رجل من أهل مكة: "هذا مقام أخيك تميم الداري
…
" عند النسائيّ، وحديث: "من قرأ منه آية في ليلة
…
" عنده أيضًا في "عمل اليوم والليلة"، وحديث: "من ارتبط فرسًا
…
" عند ابن ماجه، وحديث: "يكون في آخر الزمان قوم
…
" عنده أيضًا، راجع "تحفة الأشراف" 2/ 138 - 142، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عن سُفْيَانَ) بن عيينة رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: قُلْتُ لِسُهَيْلٍ) أي ابن أبي صالح (إِنَّ عَمْرًا) أي ابن دينار الْجُمَحيّ المكّي المتوفّى سنة (126 هـ) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 21/ 184 (حَدَّثَنَا عَن الْقَعْقَاعِ) هو: ابن حكيم الكنانيّ المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبي هريرة - وقيل: لم يلقه -، وجابر، وعائشة، وابن عمر، وعلي بن الحسين، وأبي صالح السّمّان، وسَلْمَى أم رافع، وأبي يونس مولى عائشة، وعبد الرحمن بن وَعْلَة وغيرهم.
ورَوَى عنه زيد بن أسلم، ومحمد بن عَجْلان، وسعيد المقبريّ، وسُهيل بن أبي صالح، وسُمَيّ مولى أبي بكر، وجعفر بن عبد الله بن الحكم، ويعقوب بن عبد الله بن الأشجّ، وعمرو بن دينار، وأبان بن صالح وغيرهم.
قال ابن المدينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: سُمَيّ أثبت عندك أو القعقاع؟ قال: قعقاع أحبّ إليّ، وقال أحمد وابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ليس بحديثه بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد" والباقون، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، حديث (265): "إذا جلس أحدكم على حاجته
…
"،
و (629): "حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى
…
"، و (2014): "غطوا الإناء، وأوكوا السقاء
…
"، و (2709): "لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات
…
".
وأما الحديث فليس من روايته، وإنما ذكره سفيان خلال سؤاله لسهيل بن أبي صالح أن يُحدّثه عن أبيه، ويُسقط عنه رجلين، كما بيّنه بقوله:
(عَنْ أَبيكَ) هو أبو صالح السّمّان الزيّات المدنيّ الثقة الثبت المتوفّى سنة (101 هـ) تقدَّمت ترجمته في "المقدمة" 2/ 4. (قَالَ) سفيان (وَرَجَوْتُ) جملة في محلّ نصب على الحال من ضمير "قلت"، أي قلت لسهيل هذا الكلام حال كوني راجيًا (أَنْ يُسْقِطَ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإسقاط، أي يَحذف من السند (عَنِّي رَجُلًا) أي واسطة واحدة.
ولفظ أبي نعيم في "مستخرجه": قال سفيان: وكان عمرو حدّثناه أولًا عن القَعْقَاع بن حكيم، عن أبي صالح، فلما أتيت سُهيلًا، قلت: لو سألته لعله يُحدّثنيه عن أبيه، فالحديث أنا وعمرو فيه سواء، فسألته، فقال سهيل: أنا سمعته من الذي سمعه منه أبي، فأخبرني عطاء بن يزيد الليثيّ. انتهى
(1)
.
وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" بسنده عن سفيان بن عيينة، قال: حدّثنا عمرو بن دينار، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، قال: ثم لقيت سُهيلًا، فقلت له: أرأيت حديثًا كان يُحدّثُ عمرو، عن القعقاع، عن أبيك، سمعتَهُ من أبيك؟ قال: سمعته من الذي سمعه منه أبي، صديق لأبي، كان يأتي من الشام، يقال له: عطاء بن يزيد الليثيّ سمعته أخبر بذلك عن تميم الداريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا إن الدين النصيحة، ألا إن الدين النصيحة، ألا إن الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله؟
…
الحديث
(2)
.
وحاصل المعنى أن سفيان كان سمع هذا الحديث من عمرو بن دينار، عن القَعْقَاع، عن أبي صالح، فكان بينه وبين أبي صالح واسطتان، فأراد أن يسمعه من سهيل عن أبيه، حتى يكون بينهما واسطة واحدة، وهو سُهيل، إلا
(1)
"المسند المستخرج" 1/ 142.
(2)
"صحيح ابن حبان" 10/ 435 - 436.
أن سهيلًا أفاده أنه سمعه من شيخ أبيه، فأسقط عنه ثلاث وسائط: عمرًا، والقعقاع، وأبا صالح، كما بيّنه بقوله:(قَالَ) سفيان (فَقَالَ) سُهيل (سَمِعْتُهُ) أي هذا الحديث (مِن) الشخص (الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ أَبِي) أي وهو عطاء بن يزيد (كَانَ) أي ذلك الشخص (صَدِيقًا لَهُ) أي لأبيه (بالشَّامِ) متعلّق بحال محذوف، أي حال كونه مقيمًا بالشام البلد المعروف؛ لأنه انتقل إليه من المدينة، كما أشرنا إليه في ترجمته السابقة.
(ثُمَّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هذا من كلام محمد بن عبّاد، أي ثم بعد أن حكى سفيان هذه القصّة (حدّثنا عَنْ سُهَيْلٍ) أي ابن أبي صالح (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ) الليثيّ المذكور، فأسقط ثلاث وسائط، كما أسلفناه آنفًا (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) تقدّم في المقدّمة الخلاف في نسبته، فقال الجمهور: إنه منسوب إلى جدّ من أجداده، وهو الدار بن هانئ، وقيل: نسبة إلى دارين مكان عند البحرين، محطّ السفن، ومنهم من قال: إنه دَيريّ، نسبةً إلى دَير كان تميم فيه قبل الإسلام، وكان نصرانيًّا (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الدِّينُ النَّصِيحَةُ") مبتدأ وخبره، ثم الكلام يحتمل أن يكون على المبالغة، أي معظم الدين النصيحة، كما قيل في حديث:"الحجّ عرفة"، ويحتمل أن يكون على ظاهره؛ لأن كلّ عمل لم يُرِد به عاملُه الإخلاص، فليس من الدين.
و"النصيحة" في اللغة: يُطلق على الإخلاص، والصدق، والْمَشُورة، والعمل، يقال: نَصَحتُ لزيد أَنْصَحُ نُصْحًا ونَصيحةً، هذه هي اللغة الْفُصْحَى، وعليها قوله تعالى:{إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34]، وفي لغة يتعدّى بنفسه، فيقال: نصحته، والفاعل ناصحٌ، ونصيحٌ، والجمع نُصَحَاءُ، أفاده الفيّوميّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "النصيحة": كلمةٌ يُعبّر بها عن جملة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يُعبّر هذا المعنى بكلمة واحدة تَجْمَعُ معناه غيرها، وأصل النصح في اللغة: الخلوص، يقال: نصحته، ونصحت له. انتهى
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 607.
(2)
"النهاية" 5/ 62 - 63.
وقال المازريّ رحمه الله تعالى: "النصيحة" مشتقّة من نصحتُ العسل: إذا صفّيته، يقال: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: إذا أخلص له، أو مشتقّة من النصح، وهي الخياطة بالْمِنْصَحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلُمّ شعث أخيه بالنصح كما تلُمّ الْمِنْصَحَةُ، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يُمَزِّق الدين والتوبة تَخِيطه. انتهى
(1)
.
وقال أبو سليمان الخطابيّ رحمه الله تعالى: النصيحة كلمة جامعة، معناها: حِيَازَةُ الحظّ للمنصوح له، قال: ويقال: هو من وَجِيز الأسماء، ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردةٌ يُستَوفَى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه، قال: وقيل: النصيحة مأخوذة من نَصَحَ الرجلُ ثوبه: إذا خاطه، فَشَبَّهوا فعل الناصح فيما يَتَحَرّاه من صلاح المنصوح له بما يَسُدُّه من خَلَل الثوب، قال: وقيل: إنها مأخوذة من نَصَحْتُ العسلَ: إذا صَفَّيته من الشَّمَع، شَبَّهُوا تخليص القول من الغِشِّ بتخليص العسل من الْخِلْط، قال: ومعنى الحديث: عمادُ الدين، وقِوَامه النصيحةُ، كقوله:"الحجُّ عرفة"، أي عمادهُ، ومعظمهُ عرفة.
(قُلْنَا) القائلون هم تميم وأصحابه من الصحابة الذين حضروا قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، (لِمَنْ؟) هذا دليل على أن معنى النصيحة واسع جامع يصلح لجهات متعدّدة، ولذلك عمم لهم جميع تلك الجهات، فـ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لِلَّهِ) أي النصيحة كائنة لله سبحانه وتعالى، ومعناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال، والجلال كلها التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة من غير تكييف، ولا تمثيل ومن غير تعطيل ولا تأويل، وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحبّ فيه والبغض فيه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كَفَرَ به، والاعتراف بنعمه وشكره عليها، والإخلاص له في جميع الأمور، ودعاء جميع الناس أو من أمكن منهم إلى جميع الأوصاف المذكورة، والحثّ عليها والتلطُّف في ذلك.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 167.
قال الخطابيّ رحمه الله تعالى: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد، في نصحه نفسه، فالله تعالى غنيّ عن نصح الناصح. انتهى.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد حكى الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزيّ رحمه الله تعالى في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" عن بعض أهل العلم هذا الحديث بما لا مزيد على حسنه، ونحن نَحكيه ها هنا بلفظه - إن شاء الله تعالى - قال محمد بن نصر: قال بعض أهل العلم: جِمَاعُ تفسير النصيحة هي: عنايةُ القلب للمنصوح له كائنًا مَن كان، وهي على وجهين:
[أحدهما]: فرضٌ، والآخر نافلةٌ، فالنصيحة المفترضة لله هي شدةُ العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افتَرَضَ، ومجانبة ما حَرَّم، وأما النصيحة التي هي نافلة، فهي إيثار محبته على محبة نفسه، وذلك أن يَعْرِض له أمران: أحدهما لنفسه، والآخر لربه، فيبدأ بما كان لربه، ويؤخر ما كان لنفسه، فهذه جملة تفسير النصيحة لله الفرض منه، وكذلك تفسير النافلة، وسنذكر بعضه لِيَفْهَم بالتفسير مَن لا يَفهَم بالجملة.
فالفرض منها مجانبة نهيه، وإقامة فرضه، بجميع جوارحه، ما كان مطيقًا له، فإن عَجز عن الإقامة بفرضه لآفة حَلَّت به، من مرض، أو حبس، أو غير ذلك عَزَم على أداء ما افتُرض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له، قال الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] فسمّاهم محسنين؛ لنصيحتهم لله بقلوبهم لَمّا مُنِعوا من الجهاد بأنفسهم، وقد تُرْفَع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات، ولا يرفع عنهم النصح لله، فلو كان مَنْ مَرِضَ بحالٍ لا يمكنه عملُ شيء من جوارحه بلسان ولا غيره، غير أن عقله ثابت لم يسقط عنه النصح لله بقلبه، وهو أن يَنْدَم على ذنوبه، وينوي إن صَحّ أن يقوم بما افتَرَض الله عليه، ويجتنب ما نهاه عنه، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه، وكذلك النصح لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوجبه على الناس، عن أمر ربه، ومن النصح الواجب لله أن لا يَرْضَى بمعصية العاصي، ويحب طاعة من أطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض، فبذل المجهود بإيثار الله تعالى
على كل محبوب بالقلب، وسائر الجوارح، حتى لا يكون في الناصح فضلٌ عن غيره؛ لأن الناصح إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته، فكذلك الناصح لربه، ومن تنفل لله بدون الاجتهاد فهو ناصح على قدر عمله، غير مستحق للنصح بكماله. انتهى
(1)
.
(وَلكِتَابِهِ) معنى النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى الإيمان بأنه كلام الله تعالى، وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه، وتلاوته حَقَّ تلاوته، وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذّبُّ عنه لتأويل الْمُحَرِّفين، وتعرُّض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهُّم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه، وإلى ما ذكرناه من نصيحته
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما النصيحة لكتابه: فشدةُ حبه، وتعظيم قدره؛ إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبّره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعدما يفهمه، وكذلك الناصح من العباد يَفهم وصيّةَ مَن ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عُنِي بفهمه؛ ليقوم عليه بما كَتَب فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب ربه، يُعْنَى بفهمه؛ ليقوم لله بما أمره به كما يحب ربنا وَيرضَى، ثم يَنشُر ما فَهِم في العباد، ويُديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه. انتهى
(3)
.
(وَلِرَسُولِهِ) معنى النصيحة له صلى الله عليه وسلم تصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونُصرته حيًّا وميتًا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقّه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبَثُّ دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلَطُّف في تعلمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها، والتأدّب
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 220 - 221.
(2)
"شرح مسلم للنوويّ" 2/ 38 - 39.
(3)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 221.
عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها؛ لانتسابهم إليها، والتخلُّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدَعَ في سنته، أو تَعَرَّض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده، والمسارعة إلى محبته، وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه وآدابه، وتعظيم أمره، ولزوم القيام به، وشدة الغضب له، والإعراض عمن يَدِين بخلاف سنته، والغضب على من ضيّعها لأثرة دنيا، وإن كان متدينًا بها، وحبُّ مَن كان منه بسبيل، من قرابة، أو صهر، أو هِجرة، أو نصرة، أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام، والتشبهُ به في زِيِّه ولباسه. انتهى
(2)
.
(وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) معنى النصيحة لهم معاونتهم على الحقّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفقٍ ولطفٍ، وإعلامهم بما غَفَلوا عنه، ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم، قال الخطابيّ رحمه الله تعالى: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حَيْفٌ، أو سُوءُ عشرة، وأن لا يُغَرُّوا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدْعَى لهم بالصلاح.
وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين، من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور، وحكاه أيضًا الخطابيّ، ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين، وأن من نصيحتهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم. انتهى.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فحبُّ صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحبّ اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحبُّ إعزازهم في طاعة الله عز وجل. انتهى.
(1)
"شرح النوويّ على مسلم" 2/ 38.
(2)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 221 - 222.
(وَعَامَّتِهِمْ") معنى النصيحة لهم، وهم مَن عدا وُلاة الأمر، فإرشادهم لمصالحهم، في آخرتهم ودنياهم، وكَفُّ الأذى عنهم، فيُعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويُعينهم عليه بالقول والفعل، وسترُ عوراتهم، وسَدُّ خَلَّاتهم، ودفعُ المضارّ عنهم، وجلبُ المنافع لهم، وأمرُهم بالمعروف، ونهيُهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقةُ عليهم، وتوقيرُ صغيرهم، وتخوُّلهم بالموعظة الحسنة، وتركُ غَشِّهم وحَسَدهم، وأن يُحِبّ لهم ما يجب لنفسه من الخير، ويَكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذّبُّ عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثُّهم على التخلُّق بجميع ما ذكرناه، من أنواع النصيحة، وتنشيطُ هممهم إلى الطاعات، وقد كان في السلف رضي الله عنه مَن تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وأما النصيحة للمسلمين: فأن يحبَّ لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويُشفِق عليهم، ويَرْحَم صغيرهم، ويُوقِّر كبيرهم، ويَحْزَن لِحُزْنهم، ويَفْرَح لِفَرَحهم، وإن ضرّه ذلك في دنياه، كرُخَص أسعارهم، وإن كان في ذلك فوات ربح ما يبيع في تجارته، وكذلك جميع ما يَضُرُّهم عامة، ويحب صلاحهم، وأُلفتهم، ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه عنهم.
ومن أنواع نصحهم دفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثار فقيرهم، وتعليمُ جاهلهم، وردُّ من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردهم إلى الحق، والرفق بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحبة إزالة فسادهم، ولو بحصول ضرر له في دنياه، كما قال بعض السلف: وَدِدتُ أن هذا الخلق أطاعوا الله، وأن لحمي قُرِض بالمقاريض، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يا ليتني عَمِلتُ فيكم بكتاب الله، وعملتم به، فكلما عَمِلتُ بسنّة وقع منِّي عضو، حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع: "شرح النوويّ" على هذا الكتاب 2/ 37 - 39.
(2)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 223.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث تميم الداريّ رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[25/ 204 و 205 و 206](55)، و (أبو داود) في "الأدب"(4944)، و (النسائيّ) في "البيعة"(7/ 156 - 157)، وفي "الكبرى"(7820 و 7821)، و (الحميديّ) في "مسنده"(837)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 102)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 36 و 37)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(192 و 193)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4574 و 4575)، و (الطبرانيّ)(1260 و 1261 و 1262 و 1263 و 1264 و 1265 و 1267)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(3514)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: هذا الحديث خرّجه مسلم من رواية سُهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد الليميّ، عن تميم الداريّ رضي الله عنه.
وقد رُوي عن سهيل وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخرّجه الترمذي من هذا الوجه، فمن العلماء من صححه من الطريقين جميعًا، ومنهم من قال: إن الصحيح حديث تميم، والإسناد الآخر وَهَمٌ.
وقد رُوِي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وثوبان، وابن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم.
وخرّجه الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يُمْسِ ويُصْبِحْ ناصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين، فليس منهم"
(1)
.
وخرّج الإمام أحمد، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
رواه الطبرانيّ في "الصغير"، و"الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" 1/ 87، وفي سنده عبد الله بن أبي جعفر الرازيّ، وفيه ضعف، وكذلك أبوه.
"قال الله عز وجل: أحب ما تَعَبَّدني به عبدي النصح لي"
(1)
.
وقد وَرَد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عمومًا، وفي بعضها النصح لولاة أمورهم، وفي بعضها نصح ولاة الأمور لرعاياهم.
فأما الأول - وهو النصح للمسلمين عمومًا - ففي "الصحيحين" عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"
(2)
.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "حَقّ المؤمن على المؤمن ست"، فذكر منها:"وإذا استنصحك فانصح له"
(3)
، ورُوي هذا الحديث من وجوه أُخر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي "المسند" عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له"
(4)
.
وأما الثاني - وهو النصح لولاة الأمور، ونصحهم لرعاياهم - ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يرضى لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من وَلّاه الله أمركم"
(5)
.
وفي "المسند" وغيره، عن جبير بن مُطعِم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بالْخَيْف من منى:"ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين"
(6)
.
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 5/ 254 وفي سنده علي بن يزيد الألهانيّ، وهو ضعيف.
(2)
هو الحديث الآتي للمصنّف بعد هذا.
(3)
يأتي للمصنّف برقم (2162) ترقيم محمد فؤاد.
(4)
رواه أحمد 3/ 418 و 4/ 259 ولفظه: "دعوا الناس فليُصب بعضهم من بعض، فإذا استنصح رجل أخاه، فلينصح له"، وفيه عطاء بن السائب، وقد اختلط، وحكيم بن أبي يزيد لم يوثّقه غير ابن حبّان، ولم يرو عنه غير عطاء، لكن يشهد لحديثه حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور، والله تعالى أعلم.
(5)
"صحيح مسلم"(1715).
(6)
رواه أحمد 4/ 80 و 82، والدارميّ 1/ 74 وسنده قويّ، وله شاهد من حديث=
وقد رَوَى هذه الخطبة عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه.
وقد رُوي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ آخر، خرّجه الدارقطنيّ في "الأفراد" بإسناد جيد، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ لا يُغِلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: النصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولعامة المسلمين".
وفي "الصحيحين" عن معقل بن يسار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، ثم لم يُحِطْها بنصحه، إلا لم يدخل الجنة". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الدين النصيحة، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: هذا لفظ يفيد الحصر، فكأنه قال: ليس الدين إلا النصيحة لله، ولكتابه، وسائر ما ذُكر، أي لا يكمل الدين إلا بذلك، كما سبق بيانه في أمثال ذلك، وفيه إشعار بعظم موقع النصيحة من الدين، وهكذا مثله في أمثال ذلك. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): أن الدين يُطلق على العمل؛ لكونه سَمَّى النصيحة دينًا.
3 -
(ومنها): جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، حيث أخّره هنا من قوله:"قلنا: لمن؟ ".
4 -
(ومنها): رغبة السلف في طلب علوّ الإسناد، وهو مستفاد من قصّة سفيان مع سهيل.
5 -
(ومنها): أن هذا الحديث حديث عظيم الشأن، وعليه مدار الإسلام، كما تبيّن تحقيق ذلك من خلال شرحه السابق، وقد حُكي عن أبي داود رحمه الله تعالى أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وقال
= زيد بن ثابت رضي الله عنه، صححه ابن حبّان (67).
ومعنى "لا يُغلّ": لا يخون، أي إن هذه الخصال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسّك بها طهر قلبه من الخيانة والدغَل، والشرّ.
(1)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 215 - 218.
(2)
"الصيانة" ص 223.
الحافظ أبو نعيم: هذا الحديث له شأن عظيم وذكر محمد بن أسلم الطوسي أنه أحد أرباع الدين.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تعقّب النوويّ رحمه الله تعالى هذا الذي حكي عن أبي داود، والطوسيّ، فقال: وأما ما قاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام، أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام، فليس كما قالوا، بل المدار على هذا وحده. انتهى
(1)
، وهو تعقّب جيّد، فمن تأمل هذا الحديث حقّ التأمّل أدرك ذلك لا محالة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
6 -
(ومنها): أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في هذا الحديث أن الدين النصيحة، فهذا يدلّ على أن النصيحة تَشْمَل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذُكِرت في حديث جبريل عليه السلام وسُمِّي ذلك كلُّه دينًا، فإن النصح لله تعالى يقتضي القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها، وهو مقام الإحسان، فلا يَكمُل النصح لله بدون ذلك، ولا يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة، ويستلزم ذلك الاجتهاد في التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه، وترك المحرمات والمكروهات على هذا الوجه أيضًا. وفي مراسيل الحسن رحمه الله تعالى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أرأيتم لو كان لأحدكم عبدان، فكان أحدهما يُطيعه إذا أمره، ويؤدّي إليه إذا ائتمنه، وينصح له إذا غاب عنه؛ وكان الآخر يَعصيه إذا أمره، ويخونه إذا ائتمنه، ويَغُشُّه إذا غاب عنه؛ كانا سواء؟ " قالوا: لا، قال:"فكذا أنتم عند الله عز وجل". خرّجه ابن أبي الدنيا، وخرّج الإمام أحمد معناه، من حديث أبي الأحوص، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 37.
(2)
حديث صحيحٌ، رواه أحمد في "المسند" 4/ 137، والطبراني في "الكبير" 19/ 622 من طريق أحمد، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
حدثنا سفيان بن عيينة مرتين، قال: حدثنا أبو الزَّعْرَاء، عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فصَعّد فيّ النظر، وصَوّب، وقال: =
وقال الفضيل بن عياض: الحب أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان: أحدهما يحبك، والآخر يخافك، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدًا كنت أو غائبًا لحبه إياك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخافك، ويَغُشّك إذا غبت، ولا ينصحك.
قال عبد العزيز بن رفيع: قال الحواريون لعيسى عليه الصلاة والسلام: ما الخالص من العمل؟ قال: ما لا تُحِبُّ أن يَحْمَدك الناس عليه، قالوا: فما النصح لله؟ قال: أن تبدأ بحق الله قبل حق الناس، وإن عَرَض لك أمران، أحدهما لله تعالى والآخر للدنيا، بدأت بحق الله تعالى.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أنهم نصحوا لأممهم، كما أخبر الله بذلك عن نوح عليه السلام، وعن صالح عليه السلام.
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] يعني أن من تخلف عن الجهاد لعذر، فلا حرج عليه، بشرط أن يكون ناصحًا لله ورسوله في تخلفه، فإن المنافقين كانوا يُظهرون الأعذار كاذبين، ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح لله تعالى ورسوله عليه السلام
(1)
.
7 -
(ومنها): بل من أهمّها ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: من أنواع النصح لله تعالى، وكتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو مما يختص به العلماءُ
= "أَرَبُّ إبل أنت أو رب غنم؟ " قال: من كل قد آتاني الله، فأكثر وأطيب، قال:"فتنتجها وافية أعينها وآذانها، فتجدع هذه، فتقول صرماء" - ثم تكلم سفيان بكلمة لم أفهمها - "وتقول بحيرة الله، فساعد الله أشدُّ، وموساه أحدُّ، ولو شاء أن يأتيك بها صرماء أتاك"، قلت: إلى ما تدعو؟ قال: "إلى الله، وإلى الرحم" قلت: يأتيني الرجل من بني عمي، فأحلف أن لا أعطيه، ثم أعطيه، قال:"فكفّر عن يمينك، وأْتِ الذي هو خير، أرأيت لو كان لك عبدان: أحدهما يطيعك، ولا يخونك، ولا يكذبك، والآخر يخونك، ويكذبك، هل هما سواء؟ " قال: قلت: لا، بل الذي لا يخونني، ولا يكذبني، ويصدقني الحديث أحب إلي، قال:"كذاكم أنتم عند ربكم عز وجل"، ورجاله كلهم ثقات.
(1)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 217 - 219.
رَدُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رَدّ الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على رَدّها، ومن ذلك بيان ما صَحّ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وما لم يَصِحّ منه، بتبيين حال رواته، ومَن تُقْبَل رواياته منهم، ومن لا تُقبل، وبيان غلط مَن غَلِط من ثقاتهم الذين تُقبَل روايتهم.
8 -
(ومنها): أن يَنصَح لمن استشاره في أمره، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له"، وفي بعض الأحاديث:"إن من حقّ المسلم على المسلم أن ينصح له إذا غاب".
ومعنى ذلك أنه إذا ذُكِر في غَيْبَتهِ بالسوء أن ينصره ويرد عنه، وإذا رأى من يُريد أذاه في غيبته كفّه عن ذلك، فإن النصح في الغيب يدلّ على صدق الناصح، فإنه قد يُظْهِر النصح في حضوره تَمَلُّقًا، ويغشه في غيبته.
وقال الحسن: إنك لن تَبْلُغ حقَّ نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تَعْجِز عنه.
قال الحسن: وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، إن شئتم لأُقسِمَنَّ لكم بالله إن أحب عباد الله إلى الله الذين يُحَبِّبُون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وَيسْعَون في الأرض بالنصيحة.
وقال فَرْقَدٌ السَّبَخِيّ: قرأت في بعض الكتب: المحبُّ لله عز وجل أميرٌ مؤمرٌ على الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هناك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل، ويحبونه، ويحبون ذكره، ويحببونه إلى خلقه، يمشون بين خلقه بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه.
وقال ابن علية في قول أبي بكر المزني: ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه، قال: الذي كان في قلبه: الحب لله عز وجل، والنصيحة في خلقه.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة.
وسئل ابن المبارك: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: النصح لله.
وقال معمر: كان يقال: أنصح الناس لك من خاف الله فيك.
وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سِرًّا، حتى قال بعضهم: مَن وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وَبَّخَهُ.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: المؤمن يستُرُ وينصح، والفاجر يَهْتِك ويُعَيِّر.
وقال عبد العزيز بن أبي رَوّاد: كان مَن كان قبلكم إذا رأى الرجلُ من أخيه شيئًا يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإنّ أحد هؤلاء يَخرق بصاحبه، فيستغضب أخاه ويهتك ستره.
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر، فقال: إن كنت فاعلًا ولا بدَّ، ففيما بينك وبينه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ليس على المسلم نصح الذميّ، وعليه نصح المسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والنصح لكل مسلم"، و"أن تنصح لجماعة المسلمين وعامتهم"، ذكر هذا الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
، وهي فوائد عظيمة، وعوائد جسيمة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج، المذكور أولَ الكتاب قال:
[205]
(
…
) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيَدَ اللَّيْثِيّ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بن حَاتِمٍ) بن ميمون المعروف بالسمين، مروزي الأصل، نزيل بغداد، صدوق ربّما وَهِم، وكان فاضلًا [10](ت هـ 23)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
(1)
راجع: "جامع العلوم والحكم" 1/ 215 - 225.
2 -
(ابْنُ مَهْدِيٍّ) هو: عبد الرحمن الإمام الحافظ الحجة الثبت [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 388.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ الإمام الحجة الفقيه الثبت [7](161)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 383.
[تنبيه]: سفيان هنا هو الثوريّ، بخلافه في السند الماضي، فإنه ابن عيينة، وقد صرّح به أبو نعيم في "المستخرج" 1/ 142 (193)، حيث قال:"عن سفيان بن سعيد إلخ"، وكذلك صرّح به الحافظ المزّيّ في "تحفة الأشراف"(1/ 139).
ومما يؤيّد هذا أن الراوي عن سفيان هو عبد الرحمن بن مهديّ، وهو من الطبقة التاسعة، من أكابر من يروي عن الثوريّ، فإذا أطلق مثله سفيان يُعلم أنه الثوريّ.
قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله تعالى مبيّنًا هذه القاعدة: أصحاب سفيان الثوري كبارٌ قدماء، وأصحاب ابن عيينة صغار، لم يدركوا الثوريّ، وذلك أبين، فمتى رأيت القديم قد رَوَى، فقال:"حدثنا سفيان " وأبهم فهو الثوريّ، وهم: كوكيع، وابن مهديّ، والفريابيّ، وأبي نعيم، فإن روى واحد منهم عن ابن عيينة بيّنه، فأما الذي لم يَلحق الثوريّ، وأدرك ابن عيينة، فلا يحتاج أن ينسُبه؛ لعدم الإلباس، فعليك بمعرفة طبقات الناس. انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
وحاصله: أن أهل الطبقة التاسعة إذا أطلقوا سفيان، فهو الثوريّ، وهؤلاء كأبي نعيم، وابن مهديّ، ويحيى القطان، وقبيصة بن عقبة، وأبي عاصم، ووكيع، وغيرهم؛ لأنهم من كبار أصحابه، وكذا بعض كبار الطبقة العاشرة، كمحمد بن كثير، فإنه إذا أطلق فهو الثوريّ أيضًا.
وأما أهل الطبقة العاشرة، إذا أطلقوا سفيان، فإنه ابن عيينة؛ لأنهم لم يلحقوا الثوريّ، فلا التباس عندهم، وهؤلاء كأحمد، وابن المدينيّ، وقتيبة، ومسدد، وغيرهم، فتبصّر لهذه الدقائق، والله تعالى وليّ التوفيق.
وأما الباقون فقد تقدّموا في السند الماضي.
(1)
راجع: "سير أعلام النبلاء" 7/ 464 - 466.
[تنبيه]: وقوله: (بمثله) يعني حديث سفيان الثوريّ مثل حديث سفيان بن عيينة. لفظ سفيان الثوريّ هذا ساقه أبو نعيم في "المسند المستخرج"، فقال (1/ 142):
(193)
حدثنا أحمد بن يوسف، ثنا الحارث، ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام، ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان بن سعيد، عن سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن تميم الداريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة"، قالها ثلاثًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[206]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي ابْنَ زُريعٍ - حَدَّثَنَا رَوْحٌ - وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ - حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، سَمِعَهُ وَهوَ يُحَدِّثُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) الْعَيشيّ، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
[تنبيه]: تقدّم في "شرح المقدمة" بيان الخلاف في أنه هل يُصْرَف "بسطام" أو لا يُصْرَف؟ وفي أن الباء مكسورة، وهو المشهور، وقد حَكَى صاحب "المطالع" أيضًا فتحها، والله تعالى أعلم.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ) - مصغّرًا - العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْحٌ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غِيَاث البصريّ، ثقة حافظٌ [6](ت 141)(خ م دس ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقيان تقدّما قريبًا.
وقوله: (بمثله) أي إن حديث رَوْح بمثل حديث سفيان.
[تنبيه]: لفظ حديث رَوْح هذا ساقه أبو نعيم في "مستخرجه"، فقال (1/ 143):
(197)
حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا محمد بن محمد الجذوعي القاضي، ثنا أُمية بن بِسطام، ثنا يزيد بن زريع، ثنا رَوح بن القاسم (ح) وحدثنا محمد بن أبي إسحاق، ثنا الحسين بن محمد الحراني، ثنا الحسن بن يحيى الرازيّ، ثنا أُمية بن بِسطام، ثنا يزيد بن زريع، ثنا رَوْح بن القاسم، ثنا سُهيل، عن عطاء بن يزيد سمعه، وهو يحدث أبا صالح، عن تميم الدارقي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدين النصيحة، الدين النصيحة" قالوا: لمن يا رسول الله، قال: "لله،
(1)
ولكتابه، ولأئمة المسلمين - أو المؤمنين -، ولعامتهم"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[207]
(56) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاة، وَإِيتَاءِ الزَّكَاة، وَالنُّصْحِ لِكُل مُسْلِمٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد المذكور في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ، ثبتٌ ربّما دلس، وكان بآخره يُحدّث من كتب غيره، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
4 -
(إِسْمَاعِيلَ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، ثقةٌ ثبت [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
(1)
هكذا النسخة لم يُذكر فيها لفظ "ولرسوله"، والظاهر أنه سقط من النسّاخ؛ لأن قول المصنّف:"بمثله" ظاهر في ذكرها، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
5 -
(قَيْس) بن أبي حازم البجليّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة مخضرم [2] مات بعد (90) أو بعدها، وقد جاوز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.
6 -
(جَرِير) بن عبد الله بن جابر، وهو السَّلِيل بن مالك بن نَصْر بن ثَعْلبة بن جُشَم بن عُويف بن خزيمة بن حرب بن علي بن مالك بن نَذير بن قيس الْبَجلي الصحابي الشهير، يُكنى أبا عمرو، وقيل: يُكنى أبا عبد الله، اختُلف في وقت إسلامه، ففي الطبراني "الأوسط" من طريق حُصين بن عمر الأحمسي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير، قال: لَمّا بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم أتيته، فقال:"ما جاء بك؟ "، قلت: جئت لأسلم، فألقى إلَيَّ كساءه، وقال:"إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه"، حصين فيه ضعف، ولو صح لَحُمِل على المجاز، أي لَمّا بلغنا خبر بعث النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الحذف، أي لما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الله، ثم قدم المدينة، ثم حارب قريشًا وغيرهم، ثم فَتَحَ مكة، ثم وَفَدت عليه الوفود.
وجزم ابنُ عبد البر عنه بأنه أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يومًا، وهو غلط، ففي "الصحيحين" عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"استَنْصِتِ الناسَ" في حجة الوداع، وجزم الواقدي بأنه وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة عشر، وأن بعثه إلى ذي الْخَلَصَة كان بعد ذلك، وأنه وافى مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع من عامه.
قال الحافظ: وفيه عندي نظر؛ لأن شريكًا حدّث عن الشيباني، عن الشعبي، عن جرير قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أخاكم النجاشي قد مات
…
" الحديث، أخرجه الطبراني، فهذا يدلّ على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر؛ لأن النجاشي مات قبل ذلك. قاله في "الإصابة".
وقال في "الفتح": والصحيح أنه أسلم سنة الوفود سنة تسع، ووَهِمَ من قال: إنه أسلم قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بأربعين يومًا؛ لما ثبت في "الصحيح" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: "استَنْصِتِ الناس" في حجة الوداع، وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بأكثر من ثمانين يومًا. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 7/ 164.
وكان جرير جَمِيلًا، قال عمر: هو يوسف هذه الأمة، وقَدَّمه عمر في حروب العراق على جميع بَجِيلة، وكان لهم أثرٌ عظيمٌ في فتح القادسية، ثم سكن جرير الكوفة، وأرسله عليٌّ رسولًا إلى معاوية، ثم اعتزل الفريقين، وسكن قرقيسيا حتى مات سنة إحدى، وقيل: أربع وخمسين.
وفي "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي الْخَلَصة فهدمها، وفيه عنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم.
وروى البغوي من طريق قيس، عن جرير قال: رآني عمر مُتَجَرِّدًا، فقال: ما أرى أحدًا من الناس صُوِّر صورة هذا إلا ما ذُكر من يوسف.
ومن طريق إبراهيم بن إسماعيل الكهيليّ، قال: كان طول جرير ستة أذرع.
وروى الطبراني من حديمث عليّ مرفوعًا: "جرير منا أهل البيت
…
".
وروى عنه من الصحابة أنسُ بن مالك، قال: كان جرير يَخدُمني، وهو أكبر مني، أخرجه الشيخان
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا
(2)
، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: إسماعيل عن قيس.
5 -
(ومنها): أن قيسًا هو التابعيّ الذي اجتمع له الرواية عن العشرة المبشرين بالجنة، ولا مشارك له في ذلك، كما سبق قريبًا.
(1)
راجع: "الإصابة" 1/ 581 - 583.
(2)
الذي ذكره ابن الجوزيّ في "المجتبى" أن له مائة حديث، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بستة أحاديث، فليُحرّرْ.
6 -
(ومنها): أن ثلاثة منهم، وهم: إسماعيل، وقيس، وجرير مكنيّون بأبي عبد الله، وكلهم بجليّون أحمسيّون.
7 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى بجرير في الكتب الستة نحو تسعة، منهم عند الشيخين أربعة: صاحب الترجمة هذا، وجرير بن حازم، وجرير بن زيد عمّ جرير بن حازم، وجرير بن عبد الحميد، فجرير بن زيد تفرّد به الشيخان، والنسائيّ، والباقون أخرج لهم الجماعة.
8 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه هذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وجملة ما روى له المصنّف من الأحاديث (25) حديثًا، كما أسلفناه في ترجمته آنفًا.
9 -
(ومنها): ما قاله النوويّ: ومما يتعلق بحديث جرير منقبةٌ ومَكْرَمَة لجرير رضي الله عنه رواها الحافظ أبو القاسم الطبرانيّ بإسناده، اختصارُها: أن جريرًا رضي الله عنه أمر مولاه أن يشتري له فرسًا، فاشترى بثلثمائة درهم، وجاء به وبصاحبه؛ لينقُده الثمنَ، فقال جرير رضي الله عنه لصاحب الفرس: فرسُك خير من ثلثمائة في رهم، أتبيعه بأربعمائة درهم؟، قال: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فقال: فرسك خير من ذلك، أتبيعه بخمسمائة درهم؟، ثم لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يَرْضَى، وجرير يقول: فرسُك خير إلى أن بلغ ثمانمائة درهم، فاشتراه بها، فقيل له في ذلك، فقال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَرِير) بن عبد الله رضي الله عنه، أنه (قَالَ: بَايَعْتُ) من المبايعة، وهي عقد العهد، وهو فعل وفاعل، ومفعوله قوله:(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ) أصله إقامة، وإنما حُذفت التاء لقيام المضاف إليه مقامها، أي أدائها على الوجه المطلوب، من مراعاة واجباتها، ومستحبّاتها، وآدابها (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي إعطائها لمستحقّيها المذكورين في آية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
…
} [التوبة: 60] الآية.
وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما قرينتين في كتاب الله تعالى،
(1)
راجع: "شرح النووي على مسلم" 2/ 40، و"فتح الباري" 1/ 168.
وهما أهمّ أركان الإسلام بعد الشهادتين وأظهرها، ولم يذكر الصوم وغيره؛ لدخول ذلك في السمع والطاعة في الرواية التالية، فإنه فيها:"بايعت النبيّ صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة".
وقوله: (وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) بجرّ "النصح" عطفًا على "إقام الصلاة"، وفي التالية:"بايعت النبيّ صلى الله عليه وسلم علىً السمع والطاعة، فلقّنني: "فيما استطعت"، والنصح لكل مسلم"، وفي رواية النسائيّ (16/ 4176) من طريق أبي وائل، والشعبيّ كلاهما، عنه:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أبايعك على السمع والطاعة فيما أحببتُ، وفيما كرهتُ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أوَ تستطيع ذلك يا جرير؟ أوَ تطيق ذلك؛ قال: "قل: فيما استطعتُ " فبايعني، "والنصح لكلّ مسلم"، وفي رواية له (17/ 4179) من طريق أبي وائل، عنه:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسُط يدك حتى أبايعك، واشتَرِطْ عليّ فأنت أعلم، قال: أُبَايعك على أن تعبدَ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين".
ورواه ابن حبان في "صحيحه" من طريق أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير، عن جدّه، وزاد فيه:"فكان جرير إذا اشترى شيئًا، أو باع يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحبّ إلينا مما أعطيناكه، فاختر"، وقد سبق في اللطائف ما فعله مع صاحب الفرس، اشتراه له مولاه بثلثمائة، فلما رآه قال لصاحبه:"إن فرسك خير من ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة" رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جرير رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(25/ 207 و 208 و 209)(56)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(57 و 58)، و"مواقيت الصلاة"(524)، و"الزكاة"(1041)، و"البيوع "(2157)، و"الشروط"(2714 و 2715)، و"الأحكام"(7204)، و (أبو داود) في "كتاب الأدب"(4945)، و (الترمذيّ) في "البرّ
والصلة" (19225)، و (النسائيّ) في "كتاب البيعة" (6/ 4158 و 4159 و 16/ 4176 و 17/ 4177 و 4179 و 24/ 4180 و 4191)، وفي "الكبرى" (6/ 7777 و 7778 و 19/ 7797 و 20/ 7798 و 7800 و 28/ 7812)، و (الحميديّ) في "مسنده" (795)، و (أحمد) في "مسنده" (18671 و 8680 و 18700 و 18734 و 18753)، و (الدارميّ) في "سننه" "البيوع" (2540)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" (23503 و 2317 و 2342 و 2351 و 2354 و 2356)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (4545)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (104 و 105 و 106 و 107)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (194 و 195 و 196 و 197 و 198)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (8/ 145 - 146)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعيّة البيعة على النصح لكلّ مسلم.
2 -
(ومنها): وجوب النصيحة لكلّ مسلم.
3 -
(ومنها): تحريم الغشّ والخديعة، بل يجب على الإنسان أن يُعامل الآخرين بما يحبّ أن يعاملوه به.
4 -
(ومنها): بيان مكانة النصح في الإسلام، حيث اعتنى به الشارع، فكان يبايع عليه، وأنه ملاك الأمر كلّه، حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما سبق من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه "الدين النصيحة"، فجعله عين الدين كلّه.
5 -
(ومنها): أن الوفاء بالمبايعة إنما يجب على الإنسان فيما استطاع، حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فيما استطعتَ"، فلا يُكَلَّف غير طاقته، كما نفاه الله تعالى في قوله:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} الآية [البقرة: 286].
6 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الرأفة والحرص على أمته، فإن جريرًا لَمّا قال:"أبايعك على السمع والطاعة فيما أحببتُ وكرهتُ"، وفي رواية قال له:"واشترط عليّ، فأنت أعلم" لقّنه: "قل: فيما استطعتُ"، فهذا هو غاية الرأفة والرحمة، وهو مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] صلى الله تعالى وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
7 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من قوة الإيمان وكمال الاتّباع، ويتمثّل ذلك في مَدَى التزام هذا الصحابيّ جرير بن عبد الله رضي الله عنه لهذا العهد العظيم، فقد أثّر في سلوكه حيَاتَهُ كلّها، فلا يبايع أحدًا إلا واجتهد في بذل النصح له، كما أوضحته رواية ابن حبان:"فكان جرير إذا اشترى، أو باع يقول: اعلم أن ما أخذنا منك أحبّ إلينا مما أعطيناك، فاختر"، جعلنا الله تعالى ممن يستمعون القول، فيتّبعون أحسنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[208]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيادِ بْنِ عِلَاقَةَ، سَمِعَ جَرِيرَ بنَ عَبْدِ الله، يَقُولُ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ) - بكسر العين المهملة، وبالقاف - الثعلبيّ - بالثاء المثلّثة، والمهملة - أبو مالك الكوفيّ، ابن أخي قُطْبة بن مالك، ثقةٌ، رُمي بالنصب [3].
رَوَى عن عمه، وأسامة بن شَرِيك، وجرير بن عبد الله، وجابر بن سمرة، والمغيرة بن شعبة، وعُمَارة بن رُوَيبة، وعمرو بن ميمون، وأرسل عن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم.
ورَوَى عنه السفيانان، والأعمش، وسماك بن حرب، وزائدة، ومِسْعَر، وزهير بن معاوية، وإسرائيل، وزيد بن أبي أنيسة، وشعبة، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوقُ الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ؛ كان ثقة، وهو في عِدَاد الشيوخ، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقة، وقال الأزديّ: سيّئ المذهب، كان مُنحرفًا عن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ في "التهذيب": ورأيت في "تاريخ الطبري" نقلًا عن هشام بن الكلبيّ: أن زيادًا أدرك الجاهلية، وهذا عندي غلط، والله أعلم. انتهى.
وقال الصَّرِيفينيُّ: تُوُفّي سنة خمس وثلاثين ومائة، وقد قارب المائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث، هذا الحديث، وحديث (457)
(1)
: "ق والقرآن المجيد
…
"، وكرّره ثلاث مرّات، وحديث (915): "إن الشمس والقمر آيتان
…
"، و (1106): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل في شهر الصوم"، وكرّره مرّتين، وحديث (1852): "إنه ستكون هنات وهنات
…
"، وحديث (2819): "أفلا أكون عبدًا شكورًا"، وكرّره مرّتين.
والباقون كلهم تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: "سفيان" في هذا السند هو ابن عيينة؛ لأن الذين رووا عنه كلهم من الطبقة العاشرة، وقد رواه الثوريّ أيضًا عن زياد بن علاقة، أخرج روايته البخاريّ في "كتاب الشروط" من "صحيحه"، فقال:
(2714)
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن زِياد بن عِلاقة، قال: سمعت جريرًا رضي الله عنه يقول: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتَرَطَ عليَّ:"والنصح لكل مسلم "انتهى.
فـ "سفيان" في هذا السند هو الثوريّ، وليس ابن عيينة، وقد سبق أن بيّنّا أنه إذا كان الراوي عن سفيان من الطبقة التاسعة، وأطلقه، فهو الثوريّ؛ لأن هؤلاء من أكابر أصحابه، فإذا رووا عن ابن عيينة بيّنوه، وإنما يبهمون الثوريّ لشهرتهم بالرواية عنه، وأما ما اشتهر عن عوامّ الطلبة بأنه إن كان سفيان في ثاني السند فهو ابن عيينة، وإن كان في الثالث فهو الثوريّ، فباطل، يُبطله ما وقع هنا، فتفطّن لهذه الدقيقة، فإنها من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه آخر]: هذا الإسناد من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (6) من رباعيات الكتاب.
وأما شرح الحديث ومسائله، فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
ترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[209]
(
…
) (حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَن الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَة، فَلَقَّنَني:"فِيمَا اسْتَطَعْتَ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".
قَالَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ: حَدَّثنَا سَيَّارٌ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُرَيْجُ
(1)
بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث العابد، مَرْوذِيُّ الأصل، ثقة عابد [10]،.
رَوَى عن هشيم، والوليد بن مسلم، وابن إدريس، ومروان بن معاوية، ووكيع، وابن عيينة، وعباد بن عباد، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وروى البخاريّ والنسائي له بواسطة صاعقة، وأبي بكر المروزيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد، وابن أبي الدنيا، وموسى بن هارون، وغيرهم.
قال الميمونيّ، عن أحمد بن حنبل: رجلٌ صالح، صاحب خيرٍ ما عَلِمتُ، وقال أبو داود عن أحمد: ليس به بأس، وقال أبو داود في موضع آخر: ثقة، سمعت أحمد يُثني عليه، وقال ابن أبي خيثمة وغيره: ليس به بأس، كذا قال يعقوب بن شيبة، عن ابن معين، وزاد: وهو كَيِّسٌ، وقال الغلابيّ، عن ابن معين: سُرَيج بن النعمان ثقة، وسُرَيج بن يونس أفضل منه، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال محمد بن عوف: قال لي أحمد: اكْتُب عنه، وقال إسحاق بن إبراهيم الْخُتَّلِيُّ: أنبأنا سُريج بن يونس الشيخ الصالح الصدوق، وقال ابن سعد، وابن قانع: ثقةٌ ثبت، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال حامد بن شعيب: سمعت سُريجًا يقول: كنت ليلةً
(1)
بالسين المهملة، والجيم.
فوق المشرعة، فسمعتُ صوتَ ضِفْدَع، فإذا ضفدع في فم حية، فقلت: سألتك بالله إلا خليتها، فخلاها.
وقال البخاريّ: مات في ربيع الآخر سنة خمس وثلاثين ومائتين، وقال غيره: سنة (4)، والأول أصحّ.
تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.
2 -
(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: يعقوب بن إبرهيم بن كثير بن أفلح بن منصور بن مُزَاحِم البغدادي العبديّ مولى عبد القيس، أبو يوسف البغداديّ الحافظ، ثقةٌ [10].
رَأَى الليث، ورَوَى عن الدَّراوَرْدِيّ، وابن أبي حازم، وأبي معاوية، وحفص بن غِيَاث، وهُشيم، ويحيى القطان، وابن عُلَيَّة، وابن مهديّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه الجماعة، ورَوَى النسائي أيضًا عن أبي بكر بن علي المروزي، وزكرياء السّجْزيّ عنه، وأخوه أحمد بن إبراهيم، وابن سعد، ومات قبله، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن صا عد، وابن خزيمة، والسراج، والمحامليّ، وابن مخلد، وهو آخر من رَوَى عنه في آخرين.
قال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الخطيب: كان ثقةً متقنًا صَنَّفَ "المسند"، وقال مسلمة: كان كثير الحديث ثقةً.
قال السراج: وُلد سنة ستين ومائة، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وفيها أرّخه غير واحد.
وله في هذا الكتاب (35) حديثًا.
[تنبيه]: تقدّم في "شرح المقدّمة" عند ترجمة أخيه أحمد بن إبراهيم الدَّوْرقيّ بيان الاختلاف في نسبته إلى الدَّوْرَق - بالدال المهملة المفتوحة، وسكون الواو، وبالقاف - فقيل: نسبة إلى دَوْرق، بلد بفارس، من أعمال الأَهْوَاز، وهي معروفة، وإليها تُنْسَب القلانس الدَّوْرقية، وقيل: بل هو منسوب إلى صنعة قلانس منسوبة إلى هذه البلدة، تُعرف بالدورقيّة، وقيل: سببها لبس
القلانس الطوال، وكانت تعرف بالدَّوْرَقيّة، وورد عن أخيه أحمد أنه قال: كان الشبّان إذا نسكوا في ذلك الزمان سُمّوا الدوارقة، وكان أبي منهم، ذكره ابن الصلاح، وتقدّم في "شرح المقدّمة" بأطول من هذا
(1)
.
3 -
(هُشَيْمٌ) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم - بمعجمتين - الواسطيّ، ثقة ثبتٌ، كثير الإرسال والتدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(سَيَّارٌ) أبو الْحَكَم الْعَنَزيّ الواسطيّ، ويقال: البصريّ، وهو سيار بن أبي سيار، واسمه وَرْدان، وقيل: وَرْد، وقيل: دينار [6].
رَوَى عن ثابت البناني، وبكر بن عبد الله الْمُزَنيّ، وأبي حازم الأشجعيّ، وأبي وائل، ويزيد الفقير، والشعبيّ، وجَبْر بن عُبيدة، وطارق بن شهاب، إن كان محفوظًا، وغيرهم.
ورَوَى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وسليمان التيميّ، وشعبة، والثوريّ، وقُرّة بن خالد، وهشيم، وزيد بن أبي أُنيسة، وخلف بن خليفة، وغيرهم.
قال أحمد: صدوق ثقة ثبتٌ في كل المشايخ، وقال ابن معين والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أسلم بن سهل الواسطيّ، عن الليث بن بكار، عن أبيه: مات سنة اثنتين وعشرين ومائة، وكان لنا جارًا.
[تنبيه]: رَوَى أبو داود والترمذيّ حديث بَشِير بن إسماعيل، ثنا سيّار أبو الحكم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابته فاقة، فأنزلها بالناس، لم تُسَدَّ فاقته
…
" الحديث، قال أبو داود عقبه: هو سيّار أبو حمزة، ولكن بَشِير كان يقول: سيار أبو الْحَكَم وهو خطأ، قال أحمد: هو سيار أبو حمزة، وليس قولهم: سيار أبو الحكم بشيء، وقال الدارقطنيّ: قول البخاري: "سيار أبو الحكم سمع طارق بن شهاب وَهَمٌ منه"، وممن تابعه، والذي يروي عن طارق هو سيار أبو حمزة، قال ذلك أحمد ويحيى وغيرهما، ورَوَى البخاري في "الأدب" بهذا الإسناد حديث: "بين يدي الساعة تسليم الخاصة"، ورَوَى له ابن ماجه حديث: "بين يدي الساعة مَسْخٌ وقَذْف".
(1)
راجع: "الصيانة" ص 226، و"شرح المقدّمة" 2/ 187.
قال الحافظ: وقد تَبعَ ابنُ حبان البخاريَّ، فقال في "الثقات": سيار بن أبي سيار، أبو الحكم الواسطيّ الْعَنَزيّ، أخو مُسَاور الوراق لأمه، واسم أبي سيار وَرْدان، رَوَى عن طارق بن شهاب، والشعبيّ، وعنه بشير بن سليمان، وهُشيم، والعراقيون، وتَبع البخاري أيضًا في أنه يروي عن طارق: مسلم في "الْكُنَى"، والنسائيّ، والدُّولابيّ، وغيرُ واحد، وهو وَهَمٌ كما قال الدارقطنيّ. انتهى كلام الحافظ
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
5 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَراحيل الهمدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقة مشهورٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والصحابيّ سبق في الذي قبله.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه سُريج، فتفرّد به هو البخاريّ، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخه يعقوب هو أحد مشايخ الأئمة الستة الذين يروون عنهم بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة.
4 -
(ومنها): أن شيخيه وسيّارًا هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لسُريج (28) وليعقوب (35) ولسيّار (11) حديثًا، كما أسلفناه آنفًا.
5 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى بسيّار في الكتب الستة، نحو سبعة، فمنهم اثنان أخرج لهما الشيخان، بل الجماعةُ كلهم، وهما سيّار المذكور هنا، وسيّار بن سلامة، أبو المنهال الرِّيَاحيّ البصريّ، من الطبقة الرابعة.
6 -
(ومنها): أن في قول المصنّف رحمه الله تعالى في آخر السند: "قال يعقوب في روايته: حدثنا سيّار" تنبيهًا على لطيفة، وهي أن هُشيمًا مدلسٌ، وقد
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 142 - 143.
قال: "عن سيار"، والمدلس إذا قال:"عن" لا يُحتجّ به إلا إن ثبت سماعه من جهة أخرى، فروى المصنّف رحمه الله تعالى حديثه هذا عن شيخين، وهما: سُريج ويعقوب، فأما سُريج فقال: حدثنا هشيم، عن سيار، وأما يعقوب فقال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا سيار، فَبَيَّن المصنّف رحمه الله تعالى اختلاف عبارة الراويين في نقلهما عبارته، وحَصَلَ منهما اتصال حديثه، لم يقتصر على إحدى الروايتين، وهذا من عظيم إتقانه، ودقيق نظره، وحسن احتياطه، رحمه الله تعالى. قاله النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
وقوله: (فيما استطعتُ) قال في "الفتح": رَوَيناه بفتح التاء وضمها، وتوجيههما واضح، والمقصود بهذا التنبيه على أن اللازم من الأمور المبايَعُ عليها هو ما يطاق، كما هو المشترط في أصل التكليف، ويُشعر الأمر بقول ذلك اللفظ حال المبايعة بالعفو عن الهفوة، وما يقع عن خطأ وسهو. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ: قوله: (فيما استطعتُ) رَوَيناه بفتح التاء على مخاطبته إياه، وعلى هذا فيكون قوله:"فيما استطعت" من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، مخاطبًا له به، فلا يحتاج إلى التلفّظ بهذا القول، ورَوَيناه بضمّ التاء للمتكلّم، وعلى هذا فيكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن ينطق بهذا اللفظ، فكأنه قال له: قل: فيما استطعتُ، وعليه فيحتاج جرير إلى النطق بذلك امتثالًا للأمر، وعلى الوجهين، فمقصود هذا القول التنبيه على أن اللازم من الأمور المبايَع عليها هو ما يُطاق، ويُستطاع، كما هو المشترط في أصل التكليف، كما قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ويُشعر الأمر بقول ذلك اللفظ في حال المبايعة بالعفو عن الهفوة، والسقطة، وما وقع عن خطأ، أو تفريط. انتهى كلام القرطبيّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يؤيّد رواية ضمّ التاء ما وقع عند النسائي من رواية أبي وائل، والشعبيّ، عن جرير بلفظ:"قل: فيما استطعتُ"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 40.
(2)
"فتح" 1/ 168.
26 - (بَابُ بَيَانِ نُقْصَانِ الإِيمَانِ بِالْمَعَاصِي، وَنَفْيِهِ عَنِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمَعْصِيَةِ عَلَى إِرَادَةِ كَمَالِهِ)
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج، المذكور أولَ الكتاب قال:
[210]
(57) - (حَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ، أنبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَني يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيب، يَقُولَانِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزْني الزَّانِي حِينَ يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَيِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، كَانَ يُحَدِّثُهُمْ هَؤُلَاء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: وَكانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: "وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ) أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو عبد الله المصريّ، ثقة حافظٌ عابد فقيهٌ [9]، (ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقة ربّما وهم، من كبار [7](159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو محمد بن مسلم الزهريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ الثقة الفقيه الحجة، تقدّم قريبًا.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) المخزوميّ المدنيّ الإمام الحجة المشهور، تقدّم قريبًا.
7 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ) بن الحارث المخزوميّ المدنيّ، ثقة [5].
رَوَى عن أبيه، وخارجة بن زيد بن ثابت، وخلاد بن السائب، وعبد الله بن حنظلة، وأبي هريرة على خلاف فيه، وأم سلمة والصحيح عن أبيه عنها.
ورَوَى عنه ابن جريج، وعبد الله ومحمد ابنا أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وأبو حازم بن دينار، وعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وعتبة بن أبي حكيم، وعِرَاك بن مالك، والزهريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان سخيًّا سَرِيًّا، وقد رُوِيَ عنه، مات في أول خلافة هشام، وكان ثقةً، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأَرَّخ وفاته كما قال ابن سعد، ووثقه العجليّ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (351):"الوضوء مما مسّت النار"، و (1109): "يصبح جنبًا من غير حلم
…
"، و (1460): "إنه ليس بكِ على أهلكِ هوان
…
"، وكرره ثلاث مرات.
8 -
(أَبُو بَكْرٍ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المدنيّ، كان أحد الفقهاء السبعة، قيل: اسمه محمد، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه المغيرة، حكاه ابن عبد البرّ، وقال أبو جعفر الطبريّ: اسمه كنيته، ليس له اسم غيرها، وهذا هو الصحيح، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وأبي هريرة، وعمار بن ياسر، ونَوْفل بن معاوية، وعائشة، وأم سلمة، وأم معقل الأسدية، وعبد الرحمن بن مُطِيع بن الأسود، وغيرهم.
ورَوَى عنه أولاده: عبد الملك، وعمر، وعبد الله، وسلمة، ومولاه سُمَيّ، وابن أخيه القاسم بن محمد بن عبد الرحمن، والزهريّ، وعبد ربه بن سعيد، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الواحد بن أيمن، وعبد الله بن كعب الْحِمْيَريّ، والحكم بن عتيبة، وآخرون.
قال ابن سعد: وُلد في خلافة عمر، وقال الواقديّ: اسمه كنيته، وكان قد استُصغِر يوم الجمل، فَرُدَّ هو وعروة بن الزبير، وكان ثقةً فقيهًا عالِمًا سَخِيًّا كثير الحديث، وكان يقال له: راهب قريش لكثرة صلاته، وكان مكفوفًا، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وقال ابن خِرَاش: هو أحد أئمة المسلمين، وقال أيضًا: أبو بكر، وعمر، وعكرمة، وعبد الله، بنو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، كلهم أَجِلَّةٌ ثقاتٌ، يُضْرَبُ بهم المثل، رَوَى عنه الزهريّ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان أعمى، وكان إذا سجد يَضَعُ يده في طست ماء من عِلّة كانت به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الزبير بن بكار: كان قد كُفّ بصره، وكان يسمى الراهب، وكان من سادات قريش، وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه: أدركت من فقهاء المدينة، وعلمائها من يُرتَضَى، وينتهى إلى قوله، منهم: ابنُ المسيب، وعروة، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، في مَشْيَخَة من نُظَرائهم، أهلِ فقه وفضل، وقال الشعبي، عن عمر بن عبد الرحمن: إن أخاه أبا بكر كان يصوم ولا يفطر.
قال ابن المديني، وخليفة، وجماعة: مات سنة ثلاث وتسعين، وقال إبراهيم بن المنذر، عن مَعْن بن عبد الرحمن: تُوُفّي سنة ثلاث، وقيل: أربع، وأرخه في سنة أربع عمرُو بن عليّ، وأبو عبيد، والواقديّ، وغير واحد، زاد الواقديّ: وكانت تُسَمَّى سنة الفقهاء، وقيل: مات سنة خمس وتسعين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
9 -
(أَبُو هُرَيرَة) رضي الله عنه تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة للسند الأول، ومن سباعتاته بالنسبة للثاني.
2 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من الرواة من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وهم الذين ذكرهم بعضهم بقوله:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَقَالَتُهُمْ
…
لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
وقد أحسن الحافظ العراقي في "ألفية الحديث" حيثُ فصّلهم، فقال:
وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
…
خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ
ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ
…
سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ
إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ
…
أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمُ
5 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ) تقدّم لنا أن الأولى كسر يائه المشدّدة (يَقُولَانِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها (يَزْنِي الزَّانِي) قال في "التعريفات": "الزنى": هو الوطء في قُبُل خالٍ عن ملك وشُبهة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الزنى" في العرف الشرعيّ: هو إيلاج فرجٍ محرَّم في فرج محرَّم شرعًا، مشتهًى طَبْعًا، من حيث هو كذلك، فتحرّزوا بمشتهًى طبعًا من اللواط وإتيان البهيمة، وبقوله:"من حيث هو كذلك" عن وطء الْمُحْرِمة، والصائمة، والحائض، فإنه تحريم من جهة الموانع الخارجية. انتهى
(2)
.
(حِينَ يَزْنِي، وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي والحال أنه متّصفٌ بصفة الإيمان، وقَيَّدَ نفيَ الإيمان بحالة ارتكابه لها، ومقتضاه أنه لا يستمر بعد فراغه، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون المعنى: أن زوال ذلك إنما هو إذا أقلع الإقلاع الكليّ، وأما
(1)
"تعريفات الْجُرجانيّ" ص 83.
(2)
"المفهم" 1/ 245.
لو فرغ، وهو مُصِرّ على تلك المعصية، فهو كالمرتكب، فَيَتَّجِهُ أن نفي الإيمان عنه يستمرّ، ويؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما:"فإن تاب عاد إليه"، ولكن أخرج الطبريّ من طريق نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لا يزني حين يزني وهو مؤمن، فإذا زال رجع إليه الإيمان، ليس إذا تاب منه، ولكن إذا تأخّر عن العمل به"، ويؤيده أن الْمُصرَّ، وإن كان إثمه مستمرًّا، لكن ليس إثمه كمن باشر الفعل، كالسرقة مثلًا، قاله في "الفتح".
(وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ") قال ابن مالك رحمه الله تعالى: فيه جواز حذف الفاعل، بدلالة الكلام عليه، والتقدير: ولا يشرب الشارب الخمر إلخ، ولا يرجع الضمير إلى السارق؛ لئلا يختص به، بل هو عامّ في حقّ كل من شرب، وكذا القول في "لا يَسْرِق"، و"لا يقتل"، وفي "لا يغل" - يعني في الروايات التي ثبت فيها ذلك - ونظير حذف الفاعل بعد النفي، قراءة هشام:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 169]- بفتح الياء التحتانية - أوَّلَهُ: أي لا يَحْسَبَنَّ حاسبٌ. انتهى.
(اعلم (: أنه اختلف النحاة في جواز حذف الفاعل، فمذهب الجمهور أنه لا يجوز حذفه، وإليه أشار في "الخلاصة" بقوله:
وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ وَإِنْ ظَهَرْ
…
فَهْوَ وَإِلَّا فَضمِيرٌ اسْتَتَرْ
واستثنوا مواضع قليلة، مذكورة في كتب النحو، وأجاز الكسائيّ حذفه مطلقًا تمسّكًا بهذا الحديث، وبقوله تعالى:{إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة: 26]، وبقوله:"إذا كان غدًا فأتني"، وأجاب الجمهور بأن الفاعل في كلها مستتر لا محذوف، ففي "يشرب" ضمير يعود للشارب المدلول عليه بالفعل، وفي {بَلَغَتِ} ضمير الروح المعلومة من السياق، وفي الأخير ضمير يعود لما دلّت عليه الحال المشاهدة، أي: إذا هو، أي: ما نحن عليه من السلامة غدًا فأتني
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) موصول بالسند الماضي، وليس معلّقًا (فَأخْبَرَنِي
(1)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل" 1/ 235 - 236.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ) أباه (أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ) أي يُحدّث عبد الملك، ومن معه (هَؤُلَاءِ) إشارة إلى الجمل المَذكورة، من قوله:"لا يزني الزاني إلخ"(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه آخذًا عن أبي هريرة رضي الله عنه (ثُمَّ يَقُولُ) أي أبو بكر بعد أن يُحدّثهم بهؤلاء (وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (يُلْحِقُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإلحاق، أي يذكر (مَعَهُنَّ) أي مع هؤلاء، وقوله:("وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً) مفعول به لـ "يُلحق" محكيّ لقصد لفظه.
و"النَّهب": الأخذ على وجه العلانية، والقهر، والغلبة، و"النّهْبة" بالفتح مصدرٌ، وبالضمّ: المال المنهوب، والتوصيف بالشرف باعتبار مُتعلّقها الذي هو المال، والتوصيف برفع أبصار الناس لبيان قسوة قلب فاعلها، وقلّة رحمته وحيائه، قاله السنديّ.
وقال في "الفتح": "النهبة" - بضم النون - هو المال المنهوب، والمراد به المأخوذ جهرًا وقهرًا، ووقع في رواية همام عند أحمد: "والذي نفس محمد بيده، لا يَنْتَهِبَنَّ أحدُكم نُهْبةً
…
" الحديث. قاله في "الفتح".
وقال القرطبيّ: "النّهبةُ"، و"النهْبَى": اسم لما يُنتهب من المال: أي يؤخذ من غير قسمة ولا تقدير، ومنه سُمّيت الغنيمة: نُهْبَى، كما قال:"وأصبنا نَهْبَ إبل" متَفقٌ عليه: أي غنيمة إبل؛ لأنها تؤخذ من غير تقدير، تقول العرب: أنهب الرجل ماله، ونَهبُوه، وناهبوه. قاله الجوهريّ. انتهى.
[تنبيه]: ظاهر قوله: "وكان أبو هريرة يُلحق إلخ" أن قوله: "ولا ينتهب، إلى آخره"، ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام أبي هريرة رضي الله عنه موقوف عليه، ولكن جاء في رواية أُخرى ما يدل على أنه من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد جمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى في ذلك كلامًا حسنًا، فقال: رَوَى أبو نعيم في "مستخرجه على كتاب مسلم" رحمه الله تعالى، من حديث هَمّام بن منبه هذا الحديث، وفيه:"والذي نفسُ محمد بيده، لا ينتهب أحدكم"، وهذا مُصَرِّح برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ولم يستغن عن ذكر هذا، بأن البخاريّ رواه من حديث الليث بإسناده هذا الذي ذكره مسلم عنه معطوفًا فيه ذكر النهبة على ما بعد قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقًا، من غير
فصل بقوله: وكان أبو هريرة يُلحِق معهنّ ذلك، وذلك مراد مسلم رحمه الله تعالى بقوله: واقتص الحديث يَذكُر مع ذكر النبهة، ولم يذكر "ذات شرف"، وإنما لم يكتف بهذا في الاستدلال على كون النهبة من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يُعَدُّ ذلك من قبل المدرج في الحديث، من كلام بعض رواته استدلالًا بقول من فَصَّلَ، فقال:"وكان أبو هريرة يُلحق معهن"، وما رواه أبو نعيم الحافظ يرتفع عن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال. وظهر بذلك أن قول أبي بكر بن عبد الرحمن: "وكان أبو هريرة يُلحق معهن
…
" معناه: يلحقها روايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من عند نفسه، وكأن أبا بكر خصها بذلك لكونه بلغه أن غيره لا يرويها، ودليل ذلك ما تراه من رواية مسلم - رحمه الله تعالى - الحديث، من رواية يونس، وعقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وابن المسيب، عن أبي هريرة، من غير ذكر النهبة.
ثم إن في رواية عقيل أن ابن شهاب، رَوَى ذكر النهبة عن أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه، وفي رواية يونس، عن عبد الملك بن أبي بكر عنه، فكأنه سمع ذلك من ابنه عنه، ثم سمعه منه نَفْسِه.
وأما ما ذكره مسلم من رواية "الأوزاعيّ، عن ابن شهاب، عن ابن المسيّب وأبي سلمة، وأبي بكر جميعًا" مع ذكر النهبة، فكأنه إدراج من الأوزاعيّ، أو من الراوي عنه، ومن أنواع الْمُدْرَجِ أن يروي الحديث جماعة، ولأحدهم فيه زيادة يختصّ بها، فيُدرجها بعض الرواة على رواية الجميع من غير فصل وبيان، وذلك وغيره من أنواع المدرج مما يجوز
(1)
للراوي تعمّده، فافهم كلّ ذلك، والْحَظه، فإنه مما عَزَّ مُدْركه من هذا الشأن، انتهى كلام أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا
(2)
، والله تعالى أعلم.
(ذَاتَ شَرَفٍ) أي ذات قيمة، وقَدْر، ورِفْعة، قال القرطبيّ: والرواية
(1)
هكذا النسخة، ولعلّ الصواب:"مما لا يجوز" بزيادة "لا"، فتأمله، والله تعالى أعلم.
(2)
"الصيانة" ص 229 - 230، و"شرح مسلم للنوويّ" 2/ 42 - 43.
الصحيحة بالشين المعجمة، وقد رواه الحربيّ:"سَرَف" بالسين المهملة، وقال: معناه: ذات مقدار كثير، ينكره الناس، كنَهْب الْفُسّاق في الفتن المالَ العظيم، مما يستعظمه الناس، بخلاف التمرة، والفلس، وما لا خطر له. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": "ذات شَرَف": أي ذات قدر، حيث يُشرف الناس لها ناظرين إليها، ولهذا وصفها بقوله:"يرفع الناس إليه فيها أبصارهم"، ولفظ "شَرَف" وقع في معظم الروايات في "الصحيحين"، وغيرهما بالشين المعجمة، وقيّدها بعض رواة مسلم بالمهملة، وكذا نقل عن إبراهيم الحربي، وهي ترجع إلى التفسير الأول، قاله ابن الصلاح. انتهى
(2)
.
(يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ) أي ينظرون إليها ويستشرفونها، قال في "الفتح": هكذا وقع تقييده بذلك في النهبة دون السرقة، قال: وأشار برفع البصر إلى حالة المنهوبين، فإنهم ينظرون إلى من يَنْهَبُهم، ولا يقدرون على دفعه، ولو تضرّعوا إليه، ويحتمل أن يكون كناية عن عدم التستر بذلك، فيكون صفة لازمة للنهب، بخلاف السرقة، والاختلاس، فإنه يكون في خُفْية، والانتهاب أشدّ؛ لما فيه من مزيد الجراءة، وعدم المبالاة.
وقوله: (حِينَ يَنْتَهِبُهَا) ظرف متعلّق بـ "يرفع"، وقوله:(وَهُوَ مُؤْمِنٌ") حال من فاعل "ينتهب"، وقد تقدّم معنى التقييد به قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[26/ 210 و 211 و 212 و 213 و 214 و 215 و 216](57)، و (البخاريّ) في "المظالم والغصب"(2475) و"الأشربة"(5578) و"الحدود"(6772 و 6810)، و (أبو داود) في "السنّة"(4689)، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2625)، و (ابن ماجه) في "الفتن"
(1)
"المفهم" 1/ 246.
(2)
"الفتح" 5/ 14.
(2936)
، و (النسائيّ) في "كتاب قطع السارق"(4872 و 4873 و 4874) وفي "الأشربة"(42/ 5961 و 5662) وفي "الكبرى"(7354 و 7355 و 7356)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 32)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1128)، و (أحمد) في "مسنده"(27419 و 8679 و 8781 و 9859)، و (الدارميّ) في "سننه" في "الأضاحي"(1910) و"الأشربة"(2514)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(37 و 38 و 39)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(199 و 200 و 201 و 202 و 203 و 204 و 205 و 206)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(186)، و (ابن منده) في "الإيمان"(510 و 511 و 512 و 513 و 514 و 515 و 516 و 517 و 518)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13304)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(46 و 47)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 186) والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، وأنها تنفي الاتّصاف به على وجه الكمال.
2 -
(ومنها): أن من زنى دخل في هذا الوعيد، سواء كان بِكرًا، أو مُحصَنًا، وسواء كان المزني بها أجنبية أو مَحْرَمًا، ولا شك أنه في حق المحرم أفحش، ومن المتزوج أعظم، ولا يدخل فيه ما يُطلق عليه اسم الزنا، من اللمس الْمُحَرَّم، وكذا التقبيل، والنظر؛ لأنها وإن سُمِّيت في عرف الشرع زنًا، فلا تدخل في ذلك؛ لأنها من الصغائر، كما قال العلماء ذلك في تفسير اللَّمَم في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} الآية [النجم: 32].
3 -
(ومنها): بيان تعظيم شأن السرقة، وأنها من الكبائر؛ لشدّة الوعيد فيها، وتعظيم شأن أخذ حق الغير بغير حق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقسم عليه، ولا يُقسِم إلا على إرادة تأكيد المقسم عليه.
قال الحافظ: وفيه أن من سرق قليلًا أو كثيرًا وكذا من انتهب، أنه يدخل في الوعيد، وفيه نظر، فقد شَرَط بعض العلماء، وهو لبعض الشافعيّة أيضًا في كون الغصب كبيرةً أن يكون المغصوب نصابًا، وكذا في السرقة، وإن كان بعضهم أَطْلَق فيها، فهو محمول على ما اشتَهَرَ أن وجوب القطع فيها متوقف على وجود النصاب، وإن كان سرقةُ ما دون النصاب حرامًا.
4 -
(ومنها): أن فيه أن من شرب الخمر دخل في الوعيد المذكور، سواء كان المشروب كثيرًا أم قليلًا؛ لأن شرب القليل من الخمر معدود من الكبائر، وإن كان ما يترتب على الشرب من المحذور من اختلال العقل أفحش من شرب ما لا يتغير معه العقل، وعلى القول الذي رجحه النووي من تأويل نفي الإيمان بنفي كماله، كما سيأتي، لا إشكال في شيء من ذلك؛ لأن لنقص الكمال مراتب، بعضها أقوى من بعض.
5 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به من قال: إن الانتهاب كلَّه حرام، حتى فيما أَذِنَ مالكه، كالنِّثَار في العُرْس، ولكن صرح الحسن، والنخعي، وقتادة، فيما أخرجه ابن المنذر عنهم، بأن شرط التحريم أن يكون بغير إذن المالك، وقال أبو عبيدة: هو كما قالوا، وأما النُّهْبَةُ المختلَف فيها، فهو ما أذن فيه صاحبه، وأباحه، وغَرَضُه تساويهم، أو مقاربة التساوي، فإذا كان القويّ منهم يغلب الضعيف، ولم تَطِبْ نفس صاحبه بذلك، فهو مكروه، وقد ينتهي إلى التحريم، وقد صرّح المالكية والشافعية والجمهور بكراهيته، وممن كرهه من الصحابة أبو مسعود البدري رضي الله عنه، ومن التابعين النخعي وعكرمة، قال ابن المنذر: ولم يكرهوه من الجهة المذكورة، بل لكون الأخذ في مثل ذلك إنما يحصل لمن فيه فضل قوّة أو قلة حياء.
واحتج الحنفية، ومن وافقهم، بأنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي أخرجه أبو داود، من حديث عبد الله بن قرظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البُدْن التي نحرها: "من شاء اقتطع"، واحتجوا أيضًا بحديث معاذ رضي الله عنه رفعه: "إنما نهيتكم عن نُهْبَى العساكر، فأما العرسان
(1)
فلا
…
" الحديث، وهو حديث ضعيف في سنده ضعف، وانقطاع. قال ابن المنذر: هي حجة قوية، في جواز أخذ ما يُنثَر في العرس ونحوه؛ لأن المبيح لهم قد عَلِمَ اختلاف حالهم في الأخذ، كما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأَذِن فيه في أخذ البدن التي نحرها، وليس فيها معنى، إلا وهو موجود في النثار.
(1)
هكذا في بعض النسخ بلفظ "العرسان"، وفي بعضها:"الفرسان" بالفاء، ولعل الصواب:"فأما الْعُرس فلا". والله أعلم.
قال الحافظ: بل فيها معنى ليس في غيرها بالنسبة إلى المأذون لهم، فإنهم كانوا الغاية في الوَرَع والإنصاف، وليس غيرهم في ذلك مثلهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي تعقّب به الحافظ كلام الإمام ابن المنذر رحمهما الله تعالى فيه نظر؛ لأنه لو كان المعنى الذي ذكره هو المبيحَ، لنبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وقال: هذا لا يجوز إلا لمن كان على صفتكم، فلما أَطْلق، ولم يقيّده عَلِمنا أنه مباح، وقد مال الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" إلى جوازه بإذن المالك، حيث قال في "كتاب المظالم":"باب النُّهْبَى بغير إذن صاحبه"، ثم أورد أحاديث النهي عن النُّهْبَى، فقد أفاد بتقييده الترجمة أن النهي إذا لم يأذن المالك، وإلا جاز.
والحاصل أن القول بجواز النُّهْبَى في العُرْس ونحوه هو الأرجح لما ذُكر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر أقوال أهل العلم في تأويل هذا الحديث:
لقد أجاد الحافظ رحمه الله تعالى في تلخيص أقوالهم، وتهذيبها في "الفتح"، فقال:
قال الطبري: اختَلَفَ الرواة في أداء لفظ هذا الحديث، وأنكر بعضهم أن يكون صلى الله عليه وسلم قاله، ثم ذكر الاختلاف في تأويله، ومن أقوى ما يُحمَل على صرفه عن ظاهره، إيجاب الحدّ في الزنا، على أنحاء مختلفة، في حقّ الحر المحصن، والحر البكر، وفي حق العبد، فلو كان المراد بنفي الإيمان ثبوت الكفر لاستووا في العقوبة؛ لأن المكلَّفين فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء، فلما كان الواجب فيه من العقوبة مختلفًا دلّ على أن مرتكب ذلك ليس بكافر حقيقة.
وقال النووي: اختَلَف العلماء في معنى هذا الحديث، والصحيح الذي قاله المحققون، أن معناه: لا يَفْعَل هذه المعاصي، وهو كامل الإيمان، هذا من الألفاظ التي تُطلَق على نفي الشيء والمراد نفي كماله، كما يقال: لا عِلْمَ
(1)
"فتح" 9/ 14.
إلا ما نَفَع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه لحديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا:"من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق"، وحديثِ عبادة رضي الله عنه الصحيح المشهور: "أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا، ولا يزنوا
…
" الحديث، وفي آخره: "ومن فعل شيئًا من ذلك، فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن لم يعاقب فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه"، فهذا مع قول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، ومع إجماع أهل السنة على أن مرتكب الكبائر لا يكفر إلا بالشرك، يَضطَرُّنا إلى تأويل الحديث ونظائرِه، وهو تأويل ظاهر سائغ في اللغة مُسْتَعْمَل فيها كثيرًا.
قال: وتأوَّله بعض العلماء على مَن فَعَل مُستحلًّا مع علمه بتحريمه.
وقال الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري: معناه: يُنْزَع عنه اسم المدح الذي سَمَّى الله به أولياءه، فلا يقال في حقه: مؤمن، ويستحق اسم الذم، فيقال: سارق، وزانٍ، وفاجر، وفاسق.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يُنْزَع منه نور الإيمان، وفيه حديث مرفوع.
وعن المهلب: تُنْزَع منه بصيرته في طاعة الله.
وعن الزهري: أنه من المشكل الذي نُؤْمِن به، ونُمِرُّه كما جاء، ولا نتَعَرَّض لتأويله، قال: وهذه الأقوال محتملة، والصحيح ما قدمته.
قال: وقيل في معناه غير ما ذكرته، مما ليس بظاهر، بل بعضها غلط فتركتها. انتهى ملخصًا.
وقد وَرَدَ في تأويله بالمستحلّ حديث مرفوع عن علي رضي الله عنه عند الطبراني في "الصغير"، لكن في سنده راو كذَّبوه.
فمن الأقوال التي لم يذكرها: ما أخرجه الطبري من طريق محمد بن زيد بن واقد بن عبد الله بن عمر: أنه خبر بمعنى النهي، والمعنى: لا يَزْنِيَنَّ مؤمنٌ، ولا يَسْرِقَنَّ مؤمنٌ.
وقال الخطابي: كان بعضهم يروبه: "ولا يشرب" بكسر الباء على معنى النهي، والمعنى: المؤمن لا ينبغي له أن يفعل ذلك.
ورَدَّ بعضهم هذا القول بأنه لا يبقى للتقييد بالظرف فائدة، فإن الزنا مَنْهِيٌّ عنه في جميع الملل وليس مختصًا بالمؤمنين.
قال الحافظ: وفي هذا الردّ نظر واضح لمن تأمله.
[ثانيها]: أن يكون بذلك منافقًا نفاق معصية لا نفاق كفر، حكاه ابن بطال عن الأوزاعي.
[ثالثها]: أن معنى نفي كونه مؤمنًا، أنه شابه الكافر في عمله، وموقعُ التشبيه أنه مثله في جواز قتله في تلك الحالة؛ ليَكُفَّ عن المعصية ولو أَدَّى إلى قتله، فإنه لو قُتِل في تلك الحالة كان دمه هَدَرًا، فانتفت فائدة الإيمان في حقه بالنسبة إلى زوال عصمته في تلك الحالة، وهذا يُقَوّي ما تقدم من التقييد بحالة التلبس بالمعصية.
[رابعها]: معنى قوله: ليس بمؤمن: أي ليس بِمُسْتَحْضِرٍ في حالة تلبسه بالكبيرة جلالَ مَن آمن به، فهو كناية عن الغفلة، التي جلبتها له غلبة الشهوة، وعَبَّرَ عن هذا ابنُ الجوزي بقوله: فإن المعصية تُذهله عن مراعاة الإيمان وهو تصديق القلب، فكأنه نَسِي مَن صَدَّق به، قال ذلك في تفسير نزع نور الإيمان، ولعل هذا هو مراد المهلب.
[خامسها]: معنى نفي الإيمان: نفي الأمان من عذاب الله؛ لأن الإيمان مشتق من الأمن.
[سادسها]: أن المراد به الزجر والتنفير، ولا يراد ظاهره، وقد أشار إلى ذلك الطيبى، فقال: يجوز أن يكون من باب التغليظ والتهديد، كقوله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] يعني أن هذه الخصال ليست من صفات المؤمن لأنها منافية لحاله، فلا ينبغي أن يتصف بها.
[سابعها]: أنه يُسْلَب الإيمانَ حال تلبّسه بالكبيرة، فإذا فارقها عاد إليه، وهو ظاهر ما أسنده البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في باب "إثم الزُّنَاة" من "كتاب المحاربين" عن عكرمة عنه، بنحو حديث الباب، قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف يُنْزَع منه الإيمان؟ قال: هكذا، وشَبَّك بين أصابعه ثم أخرجها، فإذا تاب عاد إليه هكذا ثم شبّك بين أصابعه. وجاء مثل هذا مرفوعًا، أخرجه أبو داود، والحاكم بسند صحيح، من طريق سعيد
المقبري، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه رفعه:"إذا زَنَى الرجلُ خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلَّة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان".
وأخرج الحاكم من طريق ابن حُجَيرة، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول:"من زنى أو شرب الخمر، نزع الله منه الإيمان كما يَخْلَع الإنسان القميص من رأسه"
(1)
.
وأخرج الطبراني بسند جيّد، من رواية رجل من الصحابة لم يُسَمَّ رفعه:"من زنى خرج منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عليه".
وأخرج الطبري من طريق عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: "مَثَلُ الإيمان مثل قميص، بينما أنت مُدبر عنه إذ لبسته، وبينما أنت قد لبسته إذ نزعته".
قال ابن بطال: وبيان ذلك أن الإيمان هو التصديق، غير أن للتصديق معنيين: أحدهما: قول، والآخر عمل، فإذا رَكِب المصدِّق كبيرة فارقه اسم الإيمان، فإذا كَفَّ عنها عاد له الاسم؛ لأنه في حال كفِّه عن الكبيرة، مجتنب بلسانه، ولسانه مصدّق عقد قلبه، وذلك معنى الإيمان.
قال الحافظ: وهذا القول قد يُلاقي ما أشار اليه النووي، فيما نقله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:"يُنزع منه نور الإيمان"؛ لأنه يُحْمَل منه على أن المراد في هذه الأحاديث نور الإيمان، وهو عبارة عن فائدة التصديق، وثمرته، وهو العمل بمقتضاه، ويمكن ردّ هذا القول إلى القول الذي رجحه النووي، فقد قال ابن بطال في آخر كلامه، تبعًا للطبري: الصواب عندنا قول من قال: يزول عنه اسم الإيمان، الذي هو بمعنى المدح، إلى الاسم الذي بمعنى الذم، فيقال له: فاسق مثلًا، ولا خلاف أنه يُسَمَّى بذلك ما لم تظهر منه التوبة، فالزائل عنه حينئذ اسم الإيمان بالإطلاق، والثابت له اسم الإيمان بالتقييد، فيقال: هو مصدق بالله ورسوله، لفظًا واعتقادًا، لا عملًا، ومن ذلك الكف عن المحرَّمات.
قال الحافظ: وأظن ابن بطال تَلَقَّى ذلك من ابن حزم، فإنه قال: المعتمد
(1)
ضعيف، انظر:"السلسلة الضعيفة" 3/ 434 رقم (1274).
عليه عند أهل السنة، أن الإيمان اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح، وهو يشمل عمل الطاعة، والكفّ عن المعصية، فالمرتكب لبعض ما ذُكِر لم يختلّ اعتقاده ولا نطقه، بل اختلّت طاعته فقط، فليس بمؤمن بمعنى أنه ليس بمطيع، فمعنى نفي الإيمان محمول على الإنذار بزواله، ممن اعتاد ذلك؛ لأنه يُخشَى عليه أن يُفْضِي به إلى الكفر، وهو كقوله: "ومن يَرتَع حول الحمى
…
" الحديث، أشار اليه الخطابي.
وقد أشار المازري إلى أن القول المصَحَّح هنا، مبني على قول مَن يرى أن الطاعات تسمى إيمانًا.
قال الحافظ: والعجب من النووي، كيف جزم بأن في التأويل المنقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حديثًا مرفوعًا، ثم صحح غيره، فلعله لم يَطَّلِع على صحته، وقد قدَّمتُ أنه يمكن ردّه إلى القول الذي صححه.
وقال الطيبي: يحتمل أن يكون الذي نقص من إيمان المذكور الحياءُ، وهو المعبر عنه في الحديث الآخر بالنور، وقد مضى أن الحياء من الإيمان، فيكون التقدير: لا يزني حين يزني، وهو يستحي من الله؛ لأنه لو استحى منه وهو يَعرف أنه مشاهد حاله لم يرتكب ذلك، وإلى ذلك تصح إشارة ابن عباس بتشبيك أصابعه، ثم إخراجها منها، ثم إعادتها إليها، ويعضده حديث:"من استحى من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس، وما وعى، والبطن وما حوى"
(1)
. انتهى.
قال الحافظ: وحاصل ما اجتمع لنا من الأقوال في معنى هذا الحديث ثلاثة عشر قولًا خارجًا عن قول الخوارج وعن قول المعتزلة، وقد أشرتُ إلى بعض الأقوال المنسوبة لأهل السنة يمكن ردّ بعضها إلى بعض.
(1)
رواه الطبرانيّ، وأبو نعيم في "الحلية" من حديث الحكيم بن عمير بلفظ:"استحيوا من الله حقّ الحياء، احفظوا الرأس، وما حوى، والبطن، وما وعى، واذكروا الموت والبلا، فمن فعل ذلك كان ثوابه جنة المأوى". وهو ضعيف جدًّا، انظر:"ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى، رقم الحديث (805).
قال المازري: هذه التأويلات تَدفع قول الخوارج، ومن وافقهم من الرافضة، أن مرتكب الكبيرة كافر مُخَلَّد في النار إذا مات من غير توبة، وكذا قولَ المعتزلة: إنه فاسق مخلد في النار، فإن الطوائف المذكورين تعلقوا بهذا الحديث وشبهه، وإذا احتمل ما قلناه، اندفعت حجتهم.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وأهل السنّة والهدى جمعوا بين معاني الأحاديث، وقرّروها على أصولها، واستدلّوا من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا:"من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق" على منع التخليد، ومن هذا الحديث على نقص الإيمان بالمعاصي، كما وردت مفسّرةً في أحاديث كثيرة وآيٍ من القرآن منيرة.
قال: وأشار بعض العلماء، إلى أن في الحديث تنبيهًا على جميع أنواع المعاصي، والتحذير منها، فَنَبّه بالزنا على جميع الشهوات، وبالسرقة على الرغبة في الدنيا والحرص على الحرام، وبالخمر على جميع ما يَصُدُّ عن الله تعالى ويوجب الغفلة عن حقوقه، وبالانتهاب الموصوف على الاستخفاف بعباد الله، وترك توقيرهم، والحياء منهم، وعلى جمع الدنيا من غير وجهها. انتهى كلام القاضي عياض
(1)
.
وقال القرطبي بعد أن ذكره مُلَخّصًا: وهذا لا يتمشى إلا مع المسامحة، والأولى أن يقال: إن الحديث يتضمن التحرز من ثلاثة أمور، هي من أعظم أصول المفاسد، وأضدادها من أصول المصالح، وهي استباحة الفروج المحرَّمة، وما يؤدي إلى اختلال العقل، وخص الخمر بالذكر لكونها أغلب الوجوه في ذلك، والسرقةَ بالذكر لكونها أغلب الوجوه التي يؤخذ بها مال الغير بغير حق.
قال الحافظ: وأشار بذلك إلى أن عموم ما ذكره الأول، يشمل الكبائر والصغائر، وليست الصغائر مرادةً هنا لأنها تُكَفَّر باجتناب الكبائر، فلا يقع الوعيد عليها بمثل التشديد الذي في هذا الحديث. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن، واتّضح بما سبق أن أحسن
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 338 - 340.
(2)
راجع: "الفتح" 14/ 6 - 8.
التأويل هو ما نُقل عن حبر الأمة وبحرها، وترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وهو أنه يُنْزَع منه نور الإيمان، وقد أوضح كيفيّة نزعه لَمّا سأله عكرمة بأن شبّك أصابعه وأخرجها، ثم أعادها؛ لأنه وَرَد مرفوعًا، وخير ما فُسّر به الوارد هو الوارد، ولأنه تفسير صحابي وهو الراوي له، قال في "ألفية الأثر":
وَخَيْرُهُ مَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أوْ
…
عَنِ الصَّحَابِيِّ وَرَاوٍ قَدْ حَكَوْا
وقد صحّ، كما سبق حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان"، فلا تفسير أحسن من تفسير حديثه صلى الله عليه وسلم بحديثه، قال الله عز وجل:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14]، و"صاحب البيت أدرى بما فيه"، والله تعالى أعلم.
ثم رأيت لشيخ الاسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى كلامًا نفيسًا على هذا الحديث، يؤيّد ما سبق ترجيحه، ودونك نصّه (مجموع الفتاوى 7/ 670):
سئل رحمه الله تعالى عن معنى حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان"؟ رواه الترمذيّ، وأبو داود، وهل يكون الزاني في حالة الزنا مؤمنًا أو غير مؤمن؟ وهل حَمَلَ الحديث على ظاهره أحد من الأئمة، أو أجمعوا على تأويله؟.
فأجاب: الحمد لله، الناس في الفاسق من أهل الملة مثل الزاني والسارق والشارب ونحوهم ثلاثة أقسام: طرفان ووسط:
[أحد الطرفين]: أنه ليس بمؤمن بوجه من الوجوه، ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان، ثم من هؤلاء من يقول: هو كافر كاليهوديّ والنصراني وهو قول الخوارج، ومنهم من يقول: نُنَزِّله منزلةً بين المنزلتين وهي منزلة الفاسق وليس هو بمؤمن ولا كافر، وهم المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن أهل الكبائر يُخَلَّدون في النار، وأن أحدًا منهم لا يخرج منها، وهذا من مقالات أهل البدع التي دلّ الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على خلافها، قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فسماهم مؤمنين، وجعلهم إخوة مع الاقتتال وبغي بعضهم على
بعض، وقال الله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولو أعتق مذنبًا أجزأ عتقه بإجماع العلماء.
ولهذا يقول علماء السلف في المقدمات الاعتقادية: لا نُكَفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ولا نُخرجه من الإسلام بعمل، وقد ثبت الزنا والسرقة وشرب الخمر على أناس في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم فيهم حُكْمَ مَن كفر، ولا قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين، بل جَلَد هذا، وقطع هذا، وهو في ذلك يستغفر لهم، ويقول:"لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم"، وأحكام الإسلام كلها مرتبة على هذا الأصل.
[الطرف الثاني]: قول مَن يقول: إيمانهم باق كما كان لم ينقص؛ بناءً على أن الإيمان هو مجرد التصديق، والاعتقاد الجازم، وهو لم يتغير، وإنما نقصت شرائع الإسلام، وهذا قول المرجئة والجهمية ومَن سلك سبيلهم، وهو أيضًا قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين، والتابعين لهم بإحسان، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} - إلى قوله: - {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] وقال: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173]، وقال:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقال:{فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، وقال لوفد عبد القيس:"آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم"
(1)
.
وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب، وعمل القلب، ثم قول اللسان، وعمل الجوارح.
فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم الناس في هذا على أقسام: منهم مَن صَدَّق به جملةً، ولم يَعْرِف
(1)
كلها متّفق عليها.
التفصيل، ومنهم من صَدَّق جملةً وتفصيلًا، ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق، ومنهم من يَغْفُل عنه ويَذْهَل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليلٍ، قد تعترض فيه شبهة، أو تقليدٍ جازمٍ، وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعزير الرسول وتوقيره، وخشية الله، والإنا بة إليه، والإخلاص له، والتوكل عليه إلى غير ذلك من الأحوال، فهذه الأعمال القلبية كلُّها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجابَ العلة المعلولَ، ويتبع الاعتقادَ قولُ اللسان، ويتبع عملَ القلب الجوارحُ، من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك.
وعند هذا فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلَبُون الاسم على الإطلاق، ولا يُعطونه على الإطلاق، فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ويقال: ليس بمؤمن حقًّا، أو ليس بصادق الإيمان.
وكل كلام أُطلق في الكتاب والسنة، فلا بد أن يقترن به ما يبيّن المراد منه، والأحكامُ منها ما يترتب على أصل الإيمان فقط، كجواز العتق في الكفارة، وكالموالاة والموارثة ونحو ذلك، ومنها ما يترتب على أصله وفرعه، كاستحقاق الحمد والثواب، وغفران السيئات، ونحو ذلك.
إذا عرفت هذه القاعدة، فالذي في "الصحيح" قوله:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق، حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها، وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهْبة ذات شرف، يَرفَع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن"، والزيادة التي رواها أبو داود والترمذي صحيحة، وهي مفسرة للرواية المشهورة.
فقول السائل: هل حَمَلَ الحديث على ظاهره أحدٌ من الأئمة؟ لفظ مشترك، فإن عَنَى بذلك أن ظاهره أن الزاني يصير كافرًا، وأنه يُسْلَب الإيمان بالكلية، فلم يَحمِل الحديث على هذا أحدٌ من الأئمة، ولا هو أيضًا ظاهرُ الحديث؛ لأن قوله:"خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظُّلَّة" دليل على أن الايمان لا يفارقه بالكلية، فإن الظلَّة تُظَلِّل صاحبها، وهي متعلقة، ومرتبطة به نوعَ ارتباط.
وأما إن عَنَى بظاهره ما هو المفهوم منه، كما سنفسره - إن شاء الله - فنعم، فإن عامة علماء السلف يُقِرُّون هذه الأحاديث، ويُمِرّونها كما جاءت، ويَكرهون أن تُتَأَوّل تأويلات تُخرجها عن مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُقِل كراهة تأويل أحاديث الوعيد عن سفيان، وأحمد بن حنبل، وجماعة كثيرة من العلماء رحمهم الله تعالى، ونَصَّ أحمد على أن مثل هذا الحديث لا يُتَأَوَّل تأويلًا يخرجه عن ظاهره المقصود به، وقد تأوله الخطابيّ وغيره تأويلات مستكرهة، مثل قولهم: لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي، أي ينبغي للمؤمن أن لا يفعل ذلك، وقولِهم: المقصود به الوعيد والزجر دون حقيقة النفي، وإنما ساغ ذلك لِمَا بين حاله وحال من عُدِم الإيمان من المشابهة والمقاربة، وقولِهم: إنما عُدِم كمال الإيمان وتمامه، أو شرائعه وثمراته، ونحو ذلك، وكل هذه التأويلات لا يَخفى حالها على من أمعن النظر.
فالحق أن يقال: نفس التصديق المفرِّق بينه وبين الكافر لم يَعْدَمه، لكن هذا التصديق لو بقي على حاله لكان صاحبه مصدقًا بأن الله حَرَّم هذه الكبيرة، وأنه توعد عليها بالعقوبة العظيمة، وأنه يَرَى الفاعلَ ويشاهده وهو سبحانه وتعالى مع عظمته وجلاله وعلوه وكبريائه يمقت هذا الفاعلَ، فلو تصور هذا حقَّ التصور لامتنع صدور الفعل منه، ومتى فعل هذه الخطيئة فلا بد من أحد ثلاثة أشياء: إما إضطراب العقيدة بأن يعتقد بأن الوعيد ليس ظاهره كباطنه، وإنما مقصوده الزجر، كما تقوله المرجئة، أو أن هذا إنما يحرم على العامّة دون الخاصّة، كما يقوله الإباحية، أو نحو ذلك من العقائد التي تُخرج عن الملة، وإما الغفلة والذهول عن التحريم، وعظمةِ الربّ، وشدة بأسه، وإما فرط الشهوة، بحيث يقهر مقتضى الإيمان، ويمنعه موجبه، بحيث يصير الاعتقاد مغمورًا مقهورًا، كالعقل في النائم والسكران، وكالروح في النائم.
ومعلوم أن الإيمان الذي هو الإيمان ليس باقيًا كما كان؛ إذ ليس مستقرًّا ظاهرًا في القلب، واسم المؤمن عند الإطلاق إنما ينصرف إلى من يكون إيمانه باقيًا على حاله عاملًا عمله، وهو يُشبه من بعض الوجوه روح النائم، فإنه سبحانه وتعالى يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فالنائم ميت من وجه حيّ من وجه، وكذلك السكران والْمُغْمَى عليه عاقل من وجه وليس بعاقل من وجه.
فإذا قال قائل: السكران ليس بعاقل، فإذا صحا عاد عقله إليه كان صادقًا، مع العلم بأنه ليس بمنزلة البهيمة؛ إذ عقله مستور، وعقل البهيمة معدوم، بل الغضبان ينتهي به الغضب إلى حال يَعْزُب فيها عقله ورأيه، وفي الأثر: إذا أراد الله نفاذَ قضائه وقدره، سَلَب ذوي العقول عقولهم، فإذا أنفذ قضاءه وقدره، رَدَّ عليهم عقولهم ليعتبروا، فالعقل الذي به يكون التكليف لم يُسْلَب، وإنما سُلب العقل الذي به يكون صلاح الأمور في الدنيا والآخرة.
كذلك الزاني والسارق والشارب والمنتهب لم يَعْدَم الإيمانَ الذي به يستحق أن لا يُخَلَّد في النار، وبه ترجى له الشفاعة والمغفرة، وبه يَستحِق المناكحة والموارثة، لكن عَدِم الإيمانَ الذي به يَستحق النجاة من العذاب، ويَستحق به تكفير السيئات، وقبول الطاعات، وكرامة الله ومثوبته، وبه يَستحق أن يكون محمودًا مرضيًّا.
وهذا يُبَيِّن أن الحديث على ظاهره الذي يليق به، والله تعالى أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ.
وخلاصته أن المنفيّ هو كمال الايمان، لا أصل الإيمان، فمرتكب هذه الكبائر من الزنا والسرقة، والنهب، ونحوها مؤمن ناقص الإيمان، وهو حاصل ما تقدّم عن حبر الأمة وبحرها رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبسندنا المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[211]
(
…
) - (وحَدَّثَيي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي
…
"، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِه، يَذْكُرُ مَعَ ذِكْرِ النُّهْبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ "ذَاتَ شَرَفٍ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا إِلَّا النُّهْبَةَ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ) الفهميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقة [11]،.
رَوَى عن أبيه، وابن وهب، وأسد بن موسى، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وابنه محمد بن عبد الملك، وأبو حاتم، وأبو عبد الملك الْبُسْريّ، وأبو بكر بن أبي داود، وعبدان الأهوازي، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: كان حديثيًّا فقيهًا عَسِرًا في الحديث ممتنعًا، قال: وتُوُفّي في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائتين.
وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم خمسين حديثًا
(1)
.
2 -
(أَبُوهُ) هو: شعيب بن الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْمِيّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10].
رَوَى عن أبيه وموسى بن عُلَيّ بن رَبَاح.
ورَوَى عنه ابنه عبد الملك، ومحمد وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان المرادي، وأحمد بن يحيى بن الوزير، وأبو الطاهر بن السَّرْح، ويونس بن عبد الأعلى المصريون، وأبو همام الوليد بن شجاع البغداديّ، وغيرهم.
قال ابن وهب: ما رأيت أفضل من شعيب بن الليث، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي: هو أحب إليك أو عبد الله بن عبد الحكم؟ فقال: شعيب أحلى حديثًا، وقال ابن يونس: كان فقيهًا مفتيًا، وكان من أهل الفضل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح: كان ثقةً، فقيل له: سمع من أبيه؛ فقال: كان يقول: سمعت بعضًا وفاتني بعض، قال: وهذا من ثقته، فقيل له: سمعت أنت
(1)
الذي في برنامج الحديث أن له في "صحيح مسلم"(49) حديثًا، ولعل الاختلاف للتكرار، فليُحرّر.
منه؟ فقال: قرئ عليه، وأنا حاضر، وذكره الخطيب في الرواة عن مالك، وقال أبو عوانة في "الحج" من "صحيحه": لم يكن شعيب يشرب الماء في السُّوق، يعني من مروءته. انتهى.
وقال يحيى بن بُكير: وُلد سنة خمس وثلاثين ومائة، ومات سنة تسع وتسعين ومائة، زاد غيره: ليومين بقيا من صفر، وقال ابن يونس: ليومين بقيا من رمضان، وقال ابن حبان: في آخر رمضان.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) الأمويّ مولاهم، الأيليّ، أبو خالد، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر، ثقة ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون تقدّموا في الذي قبله.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ) فاعل "اقتَصَّ" ضمير عُقَيل بن خالد، أي ساق عُقيل الحديث بمثل لفظ يونس بن يزيد.
[تنبيه]: لفظُ حديث عُقيل هذا ساقه البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(2475)
حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث، حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهْبَةً يَرْفَع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".
وعن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله إلا النهبة.
وقوله: (يَذْكُرُ مَعَ ذِكْرِ النُّهْبَةِ) كذا وقع في الرواية من غير هاء الضمير، فإمّا أن يقال: حذفها مع إرادتها لكونها فضلةً، كما قال في "الخلاصة":
وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ
…
كَحَذْفِ مَا سِيقَ جَوَابًا أوْ حُصِرْ
وإما أن يُقرأ "يُذْكَرُ" بضم أوله وفتح الكاف، مبنيًّا للمفعول، والجملة في
محلّ نصب على الحال، أي اقتصّ الحديث حال كونه مذكورًا مع ذكر النُّهْبَة
(1)
.
وحاصل المعنى أن عُقيلًا ساق الحديث بمثل لفظ يونس مع ذكره في حديثه قوله: "ولا ينتهب نُهْبَةً يَرْفَع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ "ذَاتَ شَرَفٍ") يعني أن عُقيلًا مع أنه ذكر النهبة، إلا أنه لم يذكر في قوله:"ولا ينتهب نهبة" قوله "ذات شَرَف".
وقوله: (قَالَ ابْنُ شِهَاب) هذا موصول بالإسناد الذي قبله، وهو إسناد عبد الملك بن شعيب، وليس معلّقًا، فتنبّه.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا إِلَّا النُّهْبَةَ) يعني أن سعيد بن المسيّب، وأبا سلمة حدثا ابن شهاب بمثل حديث أبي بكر بن عبد الرحمن المذكور رحمه الله غير أنهما ليس في حديثهما ذكر النهبة، ولفظهما تقدّم للمصنّف في حديث أول الباب من طريق يونس، عن ابن شهاب، عنهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج، المذكور أولَ الكتاب قال:
[212]
(
…
) - (وحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعيُّ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن ابْنِ الْمُسَيِّب، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَذَكَرَ النُّهْبَةَ، وَلَمْ يَقُلْ: "ذَاتَ شَرَفٍ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) هو: محمد بن مِهْران - بكسر أوله، وسكون الهاء - الْجَمّال - بالجيم - أبو جعفر الرازيّ، ثقةٌ حافظٌ [10].
رَوَى عن عيسى بن يونس، وابن عُلَيّة، وحاتم بن إسماعيل، ومبشر بن
(1)
راجع: "الصيانة" ص 229 - 230.
إسماعيل، وجرير بن عبد الحميد، وعبد العزيز الدّرَاورديّ، والوليد بن مسلم، وغيرهم.
ورَوَى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وهارون بن إسحاق الْهَمْدانيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن علي الأَبّار، وموسى بن هارون، وأبو العباس السَّرّاج، وآخرون.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن أبي جعفر الجمّال، وإبراهيم بن موسى؟ فقال: كان أبو جعفر أوسع حديثًا، وكان إبراهيم أتقن، وقال أيضًا: سئل أبي عنه؛ فقال: صدوق، وقال أبو بكر الأعين: مشايخ خراسان ثلاثة: أولهم قتيبة، والثاني محمد بن مِهران، والثالث علي بن حُجْر، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس به بأس، وقال مسلمة بن قاسم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال البخاريّ: مات أول سنة تسع وثلاثين ومائتين أو قريبًا منه، وأرّخه ابن قانع سنة ثمان.
وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمر، أبو عمرو الفقيه، ثقة جليل [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقون ذُكروا قريبًا.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ عُقَيْلٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يعني أن لفظ حديث الأوزاعيّ مثلُ لفظ حديث عُقيل.
وقوله: (وَذَكَرَ النُّهْبَةَ) يعني أن الأوزاعيّ ذكر قوله: "ولا ينتهب نُهبة
…
إلخ".
وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: "ذَاتَ شَرَفٍ") يعني أن الأوزاعيّ رحمه الله تعالى مع أنه ذكر "ولا ينتهب نهبة إلخ" إلا أنه لم يذكر قوله: "ذات شرف".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قال المصنّف رحمه الله تعالى: إن الأوزاعيّ لم يذكر في روايته "ذات شرف"، لكني لم أجد هذه الرواية.
والحديث أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" 1/ 145، وأبو عوانة في "مسنده" 1/ 29، وابن حبّان في "صحيحه" 1/ 414، وابنُ منده في "الإيمان" 2/ 595 من عدّة طرق عن الأوزاعيّ، وفيه ذكر "ذات شرف".
ولفظ أبي نعيم: "المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم"(1/ 145):
(201)
من طريق محمد بن مِهْران الجمال شيخ المصنّف هنا قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو حين يشربها مؤمن، ولا ينتهب نُهبة يرفع إليه المؤمنون فيها أبصارهم، وهو مؤمن".
ولفظ أبي عوانة (1/ 29):
(37)
من طريق الوليد بن مزيد العذري قال: ثنا الأوزاعي: "لا يزني الزاني وهو حين يزني مؤمن، ولا يسرق السارق وهو حين يسرق مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو حين يشربها مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذاتَ شرف يرفع المؤمنون إليه فيها أبصارهم وهو حين ينتهبها مؤمن".
ولفظ ابن حبان في "صحيحه"(1/ 414): من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، قال: حدثني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، كلهم يحدثون عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذات شرف يرفع المسلمون إليها أبصارهم وهو حين ينتهبها مؤمن".
ولفظ ابن منده في "الإيمان"(2/ 595): من طريق أبي المغيرة عبد القدوس، عن الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(ح) ومن طريق العباس بن الوليد بن مزيد، قال: أخبرني أبي، ثنا
الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، قال: حدثني أبو سلمة، وسعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ح) ومن طريق الوليد بن مسلم، ثنا أبو عمرو الأوزاعيّ، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذات شرف يرفع المؤمنون إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[213]
(
…
) - (وحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِب، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) - بضمّ الحاء المهملة - الْهُذليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](208)(ع) تقدم في "المقدمة" 9/ 141.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ) بن عبد الله بن حنطب، وقيل: عبد الله بن المطلب بن حنطب، وقيل: عبد الله بن المطلب بن عبد الله بن حنطب الْمَخْزُوميُّ، أبو طالب المدنيّ القاضي، صدوقٌ [7].
رَوَى عن أبيه، وأخيه الحكم، وموسى بن عقبة، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وصفوان بن سليم، وسهيل بن أبي صالح، وعبد الله بن الحسن، وغيرهم.
وروى عنه إبراهيم بن سعد، وأبو أويس، وسليمان بن بلال، وهم من
أقرانه، وابن أبي فُدَيك، ومَعْن بن عيسى، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبو عامر العقديّ، وإسماعيل بن أبي أويس، وغيرهم.
قال ابن معين: صالحٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال محمد بن المثنى: ما سمعت ابن مهديّ يحدث عنه، وقال الآجريّ عن أبي داود: لا أدري كيف حديثه؟ وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كنيته أبو طالب، وأمه أم الفضل، من بني مخزوم، مات في ولاية أبي جعفر، وذكر في شيوخه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وذكره العُقيليّ في "الضعفاء"، وقال: لا يُتَابَع في حديثه عن الأعرج، وقال الْبَرْقانيّ، عن الدارقطنيّ: شيخ مدني يُعْتَبر به، وأخوه يقاربه، وأبوهما ثقةٌ، وذكر له الزبير بن بكار في كتاب النسب ترجمة جَيِّدةً، وَصَفَه فيها بالجود، والمعرفة بالقضاء والحكم، وأنه وَلي قضاء المدينة في زمن المنصور ثم المهديّ، ووَلي قضاء مكة، قال: وأمه أم الفضل بنت كُليب بن جرير بن معاوية الخفاجية.
أخرج له البخاري في التعاليق، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث رقم (1650): "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها
…
"، و (2003 (: "كلُّ مسكر خمر
…
"، و (2818): "سدّدوا، وقاربوا، وأبشروا
…
".
4 -
(صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمِ) القرشي الزهريّ مولاهم، أبو عبد الله، وقيل: أبو الحارث المدنيّ الفقيه، ثَقةٌ مُفْتٍ عابدٌ، رُمي بالقدر [4].
رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وأبي بُسْرة الغفاري، وعبد الرحمن بن غنم، وأبي أمامة بن سهل، وابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.
ورَوَى عنه زيد بن أسلم، وابن المنكدر، وموسى بن عقبة، وهم من أقرانه، وابن جريج، ويزيد بن أبي حبيب، ومالك، والليث، وإسحاق بن إبراهيم المدني، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، عابدًا، وقال علي ابن المديني عن سفيان: حدثني صفوان بن سليم، وكان ثقة، وقال علي: سمعت يحيى بن سعيد يقول: هو أحب إلي من زيد بن أسلم، وذكر أبو بكر بن أبي الْخَصِيب:
ذُكر صفوانُ بن سُليم عند أحمد، فقال: هذا رجلٌ يُستسقَى بحديثه، وَينزل القطر من السماء بذكره
(1)
.
وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ، من خيار عباد الله الصالحين، وقال العجلي، وأبو حاتم، والنسائي: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت مشهور بالعبادة، وقال مالك: كان صفوان يُصَلّي في الشتاء في السطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقظ بالحر وبالبرد حتى يُصْبِح، وقال أنس بن عياض: رأيت صفوان، ولو قيل له: غدًا القيامة ما كان عنده مزيد، وقال أبو غسان النَّهْديّ: سمعت ابن عيينة قال: حَلَفَ صفوان أن لا يَضَعَ جنبه بالأرض حتى يَلْقَى الله، فمكث على ذلك أكثر من ثلاثين سنة
(2)
، وقال المفضل الغلابي: كان يَرَى القدر. وقال العجليّ: مدني رجلٌ صالحٌ. وقال ابنُ حبان في "الثقات": كان من عُبّاد أهل المدينة وزُهّادهم، وقال الكناني: قلت لأبي حاتم: هل رأى صفوان أنسًا؟ قال: لا، ولا تصح روايته عن أنس، وقال أبو داود السجستاني: لم يَرَ أحدًا من الصحابة، إلا أبا أُمامة، وعبد الله بن بُسْر.
وقال يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن محمد بن إسحاق: حدثني صفوان بن سليم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفيها أَرّخَ وفاته الواقديّ، وابنُ سعد، وخليفة، وأبو عبيد، وابن نمير، وغير واحد، منهم أبو حسان الزيادي، وزاد: وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقال أبو عيسى الترمذي: مات سنة (24).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث رقم (117): "إن الله يبعث ريحًا من اليمن ألين من الحرير
…
"، و (578): "سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}
(1)
قلت: في ثبوت هذا الكلام عن الإمام أحمد نظر؛ لأنه لم يُنقل عنه مثله في خيار الصحابة رضي الله عنهم، كأبي بكر الصديق، وعمر، وبقية الخلفاء رضي الله عنهم، فكيف يقوله في رجل مطعون بالقدر؟ فهيهات هيهات أن يثبت مثله عن هذا الإمام السنّيّ الغيور على السنّة.
(2)
قلت: في عدّ مثل هذا من المفاخر نظر لا يخفى، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ينام، ويصليّ، فتفطّن.
[الانشقاق: 1]، و (846): "الغسل يوم الجمعة واجب
…
"، و (2831): "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف
…
".
5 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ) زوج النبي صلى الله عليه وسلم، الهلالي مولاهم، أبو محمد المدنيّ القاصّ، وهو أخو سليمان، وعبد الملك، وعبد الله بني يسار، ثقة فاضل صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2]
(1)
.
رَوَى عن معاذ بن جبل، وفي سماعه منه نظر، وعن أبي ذر، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن الحكم السُّلَميّ، وأبي أيوب، وأبي قتادة، وأبي واقد الليثيّ، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهنيّ، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، ومحمد بن عمر بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلة، وهلال بن عليّ، وزيد بن أسلم، وشريك بن أبي نمر، ومحمد بن أبي حرملة، وغيرهم.
قال البخاري وابن سعد: سمع من ابن مسعود. وقال أبو حاتم: لم يسمع منه. وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، سمع من أبي عبد الله الصنابحي. وأما مالك فقال: عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قَدِمَ الشام، فكان أهل الشام يَكْنُونه بأبي عبد الله، وقَدِم مصر فكان أهلها يَكنونه بأبي يسار، وكان صاحب قِصَص وعبادة وفضل، كان مولده سنة (19) ومات سنة (103) وكان موته بالإسكندرية انتهى.
ورَوَى الواقديّ أنه مات سنة ثلاث أو أربع ومائة، وقال غيره: سنة (94)، وقال ابن سعد: وهو أشبه، وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (103)، وهو ابن (84) سنة، وجَزَم ابن يونس في "تاريخ مصر" بأنه تُوُفّي بالإسكندرية.
(1)
هكذا في "التقريب" نسخة أبي الأشبال، وهو الصواب، وفي بقية النسخ: من صغار الثالثة، وهو تصحيف، فتنبه.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (32) حديثًا.
6 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف
(1)
الزهريّ، أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ [2].
رَوَى عن أبيه، وأمه أم كلثوم، وعمر، وعثمان، وسعيد بن زيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، والنعمان بن بشير، ومعاوية، وأم سلمة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن أخيه، سعد بن إبراهيم، وابنه عبد الرحمن، وابن أبي مليكة، والزهري، وقتادة، وصفوان بن سليم، وغيرهم.
قال العجليّ، وأبو زرعة، وابن خِرَاش: ثقةٌ.
قال ابن سعد: رَوَى مالك، عن الزهريّ، عن حميد أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب في رمضان، ثم يفطران، ورواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، عن حميد، قال: رأيت عمر وعئمان، قال الواقدي: وأثبتهما عندنا حديث مالك، وأن حميدًا لم يَرَ عمر، ولم يسمع منه شيئًا، وسِنُّهُ وموته يدلّ على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان؛ لأنه كان خاله، وكان ثقةً كثيرَ الحديث، تُوُفِّي سنة (95) وهو ابن (73) سنة، قال ابن سعد: وقد سمعت مَن يقول: إنه توفي سنة (105)، وهذا غلط.
قال الحافظ: هو قول الفلاس، وأحمد بن حنبل، وأبي إسحاق الحربي، وابن أبي عاصم، وخليفة بن خياط، ويعقوب بن سفيان.
وفي كتاب الكلاباذيّ: قال الذهلي: ثنا يحيى - يعني ابن معين - قال: مات سنة (105)، قال الحافظ: وإن صحّ ذلك على تقدير صحة ما ذُكِر من
(1)
[تنبيه]: وقع في برنامج الحديث (صخر) غلط في هذه الترجمة، فإنه ترجم فيه لحميد بن عبد الرحمن الحميريّ، وهذا غلط بدون شكّ، فقد صرّح الحافظ ابن منده في كتاب "الإيمان" 2/ 597 بأنه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وكذلك صرّح به الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف" 9/ 26 - 47، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
سنه، فروايته عن عمر منقطعة قطعًا، وكذا عن عثمان، وأبيه، والله أعلم، وقال أبو زرعة: حديثه عن أبي بكر وعليّ رضي الله عنهما مرسل.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (27) حديثًا.
[تنبيه]: لم يسق المصنّف رحمه الله تعالى متن هذا السند، بل أحاله على حديث الزهريّ، كما سيأتي في كلامه، وقد ساقه أبو نعيم، في "المسند المستخرج"، فقال (1/ 202):
(202)
حدثنا أبو إسحاق، محمد بن سليمان بن إبراهيم الهاشميّ، ثنا أبو بكر أحمد بن عمرو البزار، ثنا محمد بن عبد الرحيم، ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا عبد العزيز بن المطلب، عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار، وحميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذاتَ شَرَفٍ حين ينتهبها وهو مؤمن". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[
…
] (
…
) - (ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، حَدَّثّنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القُشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ، مصنّفٌ شهيرٌ، عمي في آخره فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) بن كامل بن سِيج اليمانيّ، أبو عُقبة الصَّنعانيّ الأبناويّ، أخو وهب، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبي هريرة، ومعاوية، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير.
وروى عنه أخوه وهب بن منبه، وابن أخيه عَقِيل بن مَعْقِل بن منبه، وعلي بن الحسن بن أَتَش، ومعمر بن راشد.
قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقةٌ، وقال الميموني عن أحمد: كان يغزو، وكان يشتري الكتب لأخيه وهب، فجالس أبا هريرة، فسَمِع منه أحاديث، وهي نحو من أربعين ومائة حديث بإسناد واحد، وأدركه معمر، وقد كَبِرَ، وسَقَطَ حاجباه على عينيه، فقرأ عليه هَمّام حتى إذا مَلّ أخذ معمر، فقرأ الباقي، وكان عبد الرزاق لا يعرف ما قُرِئ عليه مما قرأ هو، وقال العجليّ: يمانيّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال ابن سعد: مات سنة إحدى وثلاثين - أي ومائة -، وقال البخاريّ: قال عليّ: سألت رجلًا قد لقي همام بن منبه: متى مات همام؟ فقال: مات سنة اثنتين، قال: وقال ابن عيينة: كنت أتوقع قدوم هَمّام عشر سنين، وقال ابن سعد، وخليفة، وابن حبان: مات سنة إحدى، أو اثنتين وثلاثين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (83) حديثًا.
وأبو هريرة رضي الله عنه تقدّم.
[تنبيه]: لم يسق المصنّف متن هذا الحديث، بل أحاله في كلامه الآتي على حديث الزهريّ، وقد ساقه الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه"، (1/ 146) فقال:
(204)
حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة، ثنا محمد بن أبي السّريّ (ح) وحدثنا أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن سهل، ثنا سلمة بن شبيب، قالا: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسرق السارق وهو حين يسرق مؤمن، ولا يزني زان وهو حين يزني مؤمن، ولا يشرب الخدود - يعني الخمر - وهو حين يشربها مؤمن، والذي نفس محمد بيده، لا ينتهب أحدكم نُهْبةً ذاتَ شَرَف يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حينئذ مؤمن، ولا يَغُلُّ أحدكم حين يَغُلُّ وهو مؤمن، فإياكم وإياكم"، لفظهما واحد. انتهى.
وساقه ابن منده أيضًا في "الإيمان"(2/ 597) فقال:
(513)
أنبأنا محمد بن الحسين، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني أحدكم وهو حين يزني مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة يرفع المسلمون أعينهم وهو مؤمن، ولا يَغُلُّ أحدكم وهو حين يَغُلّ مؤمن، فإياكم إياكم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[213]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ - عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، غَيْرَ أَنَّ الْعَلَاءَ وَصَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا: "يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ"، وَفي حَدِيثِ هَمَّامٍ: "يَرْفَعُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيُنَهُمْ فِيهَا، وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ"، وَزَادَ: "وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ حِينَ يَغُلُّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيَّ) هو: عبد العزيز بن محمد المدنيّ، صدوقٌ، يُحدث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْحُرَقيّ، أبو شِبْل المدنيّ، صدوقٌ، ربّما وهِمَ [5](ت سنة بضع و 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهني مولاهم المدنيّ، ثقة [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
وأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سبق قريبًا.
وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ) اسم الإشارة يعود إلى صفوان، ومعمر، والعلاء؛ يعني لفظ أحاديث هؤلاء مثل لفظ حديث الزهريّ المتقدّم، وقد عرفته مما سقناه من طريق أبي نعيم.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّ الْعَلَاءَ، وَصَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ، لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا: "يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ") أما لفظ صفوان فقد سبق من رواية أبي نعيم، وأما لفظ العلاء، فقد أخرجه الحافظ ابن منده رحمه الله تعالى في "الإيمان" (2/ 598) فقال:
(516)
أنبأ محمد بن إبراهيم بن الفضل، وأحمد بن إسحاق، قالا: ثنا أحمد بن سلمة، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا إسماعيل بن جعفر (ع) وأنبأ محمد بن عبيد الله بن أبي رجاء، ثنا موسى بن هارون، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الدّرَاوَرْديّ، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهْبةً حَين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". انتهى.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ) قد عرفت حديث همّام فيما سبق آنفًا مَن رواية أبي نعيم، وابن منده ("يَرْفَعُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيُنَهُمْ فِيهَا) ولفظ ابن منده:"يرفع المسلمون أعينهم"(وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ"، وَزَادَ) أي همّام في روايته: ("وَلَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ حِينَ يَغُلُّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ولفظ ابن منده: "ولا يغُلّ أحدكم وهو حين يغُلّ مؤمن".
وقوله: (يَغُلّ) بفتح الياء، وضمّ الغين المعجمة، وتشديد اللام ورفعها، من الغلول، وهو الخيانة، قاله النوويّ
(1)
.
وقال الفيّوميّ: وغَلّ غُلُولًا مَن باب قعد، وأغلّ بالألف: خان في المغنم وغيره، وقال ابن السّكّيت: لَمْ نسمع في المغنم إلَّا غَلّ ثلاثيًّا، وهو متعدّ في الأصل، لكن أُميت مفعوله، فلم يُنطَق به. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 45.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 452.
وقوله: (فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ") هكذا هو في الروايات "إياكم إياكم" مرتين، وكذا هو عند ابن منده في "الإيمان"، ووقع عند أبي نعيم:"فإياكم وإياكم" بواو العطف.
ومعناه: احذروا احذروا، يقال: إياك وفلانًا، أي احذره، ويقال: إياك، أي احذر، من غير ذكر فلان كما وقع هنا، قاله النوويّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التركيب يُسمّى عند النحاة بالتحذير، ونظيره الإغراء، لكنه بدون لفظة "إيا"، قال في "الخلاصة":
"إِيَّاكَ وَالشَّرَّ" وَنَحْوَهُ نَصَبْ
…
مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ
وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لِـ "إِيّا" انْسُبْ وَمَا
…
سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا
إِلَّا مَعَ الْعَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ
…
كَـ"الضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ" يَا ذَا السَّارِي
وَشَذَّ "إِيَّايَ" وَ"إِيَّاهُ" أَشَذْ
…
وَعَنْ سَبِيلِ الْقَصْدِ مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ
وَكَمُحَذَرٍ بِلَا "إِيَّا" اجْعَلَا
…
مُغْرًى بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصِّلَا
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[215]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ").
رجال هذا الإسناد ستة:
كلهم تقدّموا قبل بابين، و"ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ" هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، و "سُلَيْمَانُ" هو الأعمش، و"ذكوان" هو أبو صالح.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 45.
وقوله: (وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا منه صلى الله عليه وسلم إرشاد لمن وقع في كبيرة أو كبائر إلى الطريق التي بها يتخلّص وهي التوبة، ومعنى كونها معروضةً: أي عَرَضَها الله تعالى على العباد، حيث أمرهم بها، وأوجبها عليهم، وأخبر عن نفسه أنه تعالى يقبلها، كلُّ ذلك فضلٌ من الله تعالى، ولُطْفٌ بالعبد؛ لِمَا عَلِمَ اللهُ تعالى من ضعفه عن مقاومة الحوامل على المخالفات التي هي النفس، والهوي، والشيطان الإنسيّ والجنّيّ، فلَمّا علم الله تعالى أنه يقع في المخالفات، رحمه بأن أرشده إلى التوبة، فعرضها عليه، وأوجبها، وأخبر بقبولها، وأيضًا فإنه يجب على النصحاء أن يَعرِضوها على أهل المعاصي، ويُعرِّفونهم بها، ويوجبونها عليهم، وبعقوبة الله تعالى لمن تركها، وذلك كلّه لطفٌ متّصلٌ إلى طلوع الشمس من مغربها، أو إلى أن يُغرغر العبد، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وقد أجمع العلماء رحمهم الله تعالى على قبول التوبة ما لَمْ يُغَرْغِر كما جاء في الحديث، وللتوبة ثلاثة أركان: أن يُقْلِع عن المعصية، ويَنْدَم على فعلها، وَيعْزِم أن لا يعود إليها، فإن تاب من ذنب، ثم عاد إليه لَمْ تبطل توبته، وإن تاب من ذنب وهو متلبس بآخر صحت توبته، هذا مذهب أهل الحقّ، وخالفت المعتزلة في المسألتين. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أَوَّلَ الكتاب قال:
[216]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ، قَالَ: "لَا يَزْنِي الزَّاني
…
" ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ).
رجال هذا الإسناد ستةٌ:
وكلهم تقدّموا قريبًا، و"سفيان" هو الثوريّ.
(1)
"المفهم" 1/ 248.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 45.
وقوله: (رفعه) أي رفع أبو هريرة رضي الله عنه الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
[فائدة]: إذا قيل في الحديث عند ذكر الصحابيّ: "يرفعه"، أو "رفعه"، كقوله هنا:"رفعه"، أو "رَفَعَ الحديث"، أو "يَنْمِيه"، أو "يبلغ به"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما:"الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشَرْطة مِحْجَم، وكَيَّة نار"، رفع الحديث، رواه البخاري، ورَوَى مالك في "الموطأ" عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال:"كان الناس يؤمرون أن يَضَعَ الرجلُ يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"، قال أبو حازم: لا أعلم إلَّا أنه يَنْمِي ذلك، وكحديث الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به:"الناسُ تَبعٌ لقريش"، أخرجاه، أو "رواية"، كحديث الأعرج، عن أبي هريرة روايةً: "تقاتلون قومًا صغار الأعين
…
" رواه البخاريّ، وما أشبه ذلك، فكلّه مرفوع، وإذا قيل عند ذكر التابعيّ: "يرفعه" أو نحوه فمرفوعٌ مرسل، أفاده في "تدريب الراوي"
(1)
.
وقلت ناظمًا هذه القاعدة:
اعْلَمْ أَخِي قَاعِدَةً مُؤَسَّسَهْ
…
يَحْدُو لَهَا الْمَنْهُومُ لِلْمُؤَانَسَهْ
"رَفَعَهُ""يَرْفَعُهُ""يَبْلُغُ بِهْ"
…
"رِوَايَةً""يَنْمِيهِ" رَفْعٌ فَانْتَبِهْ
إِذَا أَتَى مَعَ صَحَابِيٍّ وَإِنْ
…
مَعْ تَابِعِيٍّ مُرْسَلٌ فَلْتَسْتَبِنْ
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ) فاعل "ذَكَر" ضمير سفيان، يعني أن سفيان الثوريّ ذكر الحديث بمثل ما ذكره شعبة.
[تنبيه]: رواية سفيان هذه ساقها الإمام أحمد، في "مسنده"، فقال:
(8540)
حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا سفيان، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة رفعه، قال:"لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يَسْرِق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعدُ". انتهي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "تدريب الراوي على تقريب النواويّ" 1/ 191 - 192.
27 - (بَابُ بَيَانِ خِصَالِ الْمُنَافِقِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[217]
(58) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ع) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثنا الْأَعْمَشُ (ع) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا وَكِيعٌ، حَدَّثنا سُفْيَانُ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّة مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ:"وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد المذكور قبل باب.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ المذكور قبل باب.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد ولد عبد الله بن نمير الذي قبله ذُكر قبل باب أيضًا.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران المذكور في الباب الماضي.
5 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ ثم البغداديّ المذكور قبل باب.
6 -
(وَكيعٌ) بن الجَرَّاح الكوفيّ المذكور قريبًا.
7 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ المذكور في الباب الماضي.
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ) الْهَمْدانيّ الْخَارفيّ
(1)
الكوفيّ ثقة [3].
روى عن ابن عمر، والبراء، وأبي الأحوص، ومسروق، وغيرهم.
وروى عنه الأعمش ومنصور، قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي:
(1)
بالخاء المعجمة، والراء، والفاء: نسبة إلى خارف بطن من همدان، قاله في "لبّ اللباب" 1/ 268.
ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث صالحة، وقال العجليّ: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال ابن سعد: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وقال عمرو بن علي: مات سنة مائة، وأرّخه ابن قانع: سنة تسع وتسعين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
9 -
(مَسْرُوق) بن الأجْدَع بن مالك بن أُمية بن عبد الله بن مُرْ بن سلمان، ويقال: سَلَامان بن مَعْمَر بن الحارث بن سَعْد بن عبد الله بن وداعة الْهَمْداني الْوَادِعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقة فقيه عابدٌ، مخضرم [2].
رَوَى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ومعاذ بن جبل، وخَبّاب بن الأَرَتّ، وابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، والمغيرة بن شعبة، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عَمْرو، ومعقل بن سنان، وعائشة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن أخيه محمد بن المنتشر بن الأجدع، وأبو وائل، وأبو الضُّحَى، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وعبد الرحمن بن مسعود، وأبو الشعثاء المحاربيّ، وعبد الله بن مُرّة الخارفيّ، ومكحول الشامي، وغيرهم.
قال الآجريّ عن أبي داود: كان عمرو بن معد يكرب خاله، وكان أبوه أفرس فارس باليمن، وقال مجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق: قال لي عمر: ما اسمك؟ قلت: مسروق بن الأجدع، قال: الأجدع شيطان، أنت مسروق بن عبد الرَّحمن، وقال مالك بن مِغْوَل: سمعت أبا مُرّة قال: ما وَلَدت همدانية مثل مسروق، وقال الشعبيّ: ما رأيت أطلب للعلم منه، وذكره منصور عن إبراهيم في أصحاب ابن مسعود الذين كانوا يُعَلِّمون الناس السنة، وقال عبد الملك بن أبجر عن الشعبيّ: كان مسروق أعلم بالفتوى من شُرَيح، وكان شُريح أعلم بالقضاء، وقال شعبة عن أبي إسحاق: حَجَّ مسروق، فلم يَنَمْ إلَّا ساجدًا، وقال أنس بن سيرين عن امرأة مسروق: كان يصلي حتى تَوَرَّم قدماه، وقال أحمد بن حنبل عن ابن عيينة: بقي مسروقٌ بعد علقمة لا يُفَضَّل عليه أحد، وقال علي ابن المديني: ما أُقَدِّم على مسروق من أصحاب عبد الله أحدًا، صَلَّى خلف أبي بكر، ولقي عمر، وعليًّا، ولم يرو عن عثمان شيئًا، وقال إسحاق بن منصور: لا يُسأل عن مثله، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن
معين: مسروق عن عائشة أحبّ إليك أو عروة؟ فلم يُخَيِّر، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وكان أحدَ أصحاب عبد الله الذين يُقرئون ويفتون.
وقال ابن سعد: كان ثقةً وله أحاديث صالحة، مات سنة ثلاث وستين وفيها أَرّخه غير واحد، وقال أبو نعيم: مات سنة اثنتين، وقال هارون بن حاتم، عن الفَضْل بن عَمْرو: مات مسروق، وله ثلاث وستون سنة.
ومناقبه كثيرةٌ: شُلَّت يد مسروق يوم القادسيّة، وأصابته آمّة، وقال أبو الضُّحَى عن مسروق: كان يقول: ما أُحب أنَّها - يعني الآمّة - ليست لي، لعلها لو لَمْ تكن لي كنت في بعض هذه الفتن، قال وكيع وغيره: لَمْ يتخلف مسروق عن حروب عليّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من عُبّاد أهل الكوفة، ولّاه زياد على السلسلة، ومات بها سنة اثنتين أو ثلاث وستين.
وحَكَى عبد الحق عن ابن عبد البر، أنه قال: لَمْ يلق مسروق معاذًا، لكن تعقّبه ابنُ القطان، وقال: إنه لَمْ يجد ذلك في كلام ابن عبد البر، بل الموجود في كلامه أن الحديث الذي من رواية مسروق عن معاذ متصلٌ، وقال أبو الضُّحَى: سئل مسروق عن بيت شعر، فقال: أكره أن أَرَى في صحيفتي شعرًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (65) حديثًا.
10 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله عنهما تقدم في "المقدمة" 4/ 18، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف بالنسبة لطريق عبد الله بن نمير، ومن سباعيّاته بالنسبة لطريق سفيان فهو أنزل بدرجة.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة سوى شيخيه: أبي بكر، وزهير، في أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بحفّاظ الكوفيين سوى زُهير فنسائيّ ثم بغداديّ، وقد دخل الكوفة أيضًا للأخذ من أهلها.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمة، فهو صحابيّ ابن صحابيّ، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد المكثرين من الرواية، وأحد العبادلة الأربعة، وأحد الفقهاء المشهورين بالفتوي، ويقال: ليس بين ولادة أبيه وولادته إلَّا أحد عشر عامًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ) مبتدأ بتقدير: أي أربع خصال، أو خصال أربعٌ، وخبره قوله: "من كنّ فيه"، ووقع في رواية النسائيّ: "أربعة" بالهاء، فيقدّر أربعة أمور (مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا) اسم فاعل من خلَصَ الماءُ من الكدر، من باب عقد: إذا صفا، ووصفه بالخلوص يعضد قول من قال: المراد بالنفاق العمليّ لا الإيمانيّ، أو النفاق العرفيّ لا الشرعيّ؛ لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار، وأما كونه خالصًا فيه، فلأن الخصال التي تتمّ بها المخالفة بين السرّ والْعَلَن لا يزيد عليه، وقال ابن بطال: "خالصًا" معناه: خالصًا من هذه الخلال المذكورة في الحديث فقط لا في غيرها، وقال النوويّ: أي شديد الشبه بالمنافقين بهذه الخصال، وقال أيضًا في شرحه للبخاريّ: حصل من الحديثين أن خصال المنافقين خمسة، وقال في "شرح مسلم": قوله: "وإذا عاهد غدر" داخل في قوله: "وإذا ائتُمن خان"، يعني أنَّها أربعة، وقال الكرمانيّ: لو اعتبرنا هذا الدخول فالخمس راجعة إلى الثلاث، فتأمل، والحقّ أنَّها خمسة متغايرة عرفًا، وباعتبار تغاير الأوصاف واللوازم أيضًا.
ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف الباطن إما في الماليّات وهو إذا ائتُمن، وإما في غيرها، فهو إما في حالة الكدورة فهو إذا خاصم، وإما في حالة الصفاء فهو إما مؤكّدة باليمين، فهو إذا عاهد أو لا، فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال، فهو إذا حدّث.
والحقّ أنَّها بالنظر إلى الحقيقة ثلاثٌ وإن كانت بحسب الظاهر خمسًا؛ لأن قوله: "وإذا عاهد غدر" داخل في قوله: "إذا ائتمن خان"، وقوله: "وإذا
خاصم فجر" يندرج في الكذب في الحديث، قاله العينيّ رحمه الله تعالى
(1)
.
(وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام: هي الخصلة، جمعه خِلالٌ
(2)
(مِنْهُنَّ) أي من الأربع (كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ) أي خصلة من خصال النفاق.
[تنبيه]: "النفاق" لغةً: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل، والترك، وتتفاوت مراتبه، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قال ابن الأنباريّ: في تسمية المنافق منافقًا ثلاثة أقوال:
[أحدها]: أنه سُمّي بذلك؛ لأنه يستر كفره، فأشبه الداخل في النَّفَق، وهو السَّرَبُ.
[وثانيها]: أنه شُبّه باليربوع الذي له جُحْر، يقال له: القَاصِعَاءُ، وآخَرُ يقال له النافِقَاء، فإذا أُخذ عليه من أحدهما خَرَج من الآخر، وكذلك المنافق يخرُج من الإيمان من غير الوجه الذي يَدخُل فيه.
[وثالثها]: أنه شُبّه باليربوع من جهة أن اليربوع يَخرِق في الأرض، حتى إذا قارب ظاهرها أرَقّ التراب، فإذا رابه ريب دفع التراب برأسه فخرج، فظاهر جُحْره تراب، وباطنه حفر، وكذلك المنافق ظاهره الإيمان وباطنه الكفر. انتهى
(4)
.
(حَتَّى يَدَعَهَا) أي إلى أن يترك تلك الخصلة الذميمة.
[تنبيه]: "يدع" مضارع وَدَعَ، قال الفيّوفي: وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعًا: إذا تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثمّ حُذفت الواو، ثم فُتِحَ لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدّمين: وزعَمَت النحاة أن العرب أماتت ماضي "يَدَعُ"، ومصدره، واسم الفاعل، لكن قرأ مجاهد، وعروة، ومقاتل، وابن أبي عَبْلَة، ويزيد النحويّ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3]، بالتخفيف، وفي الحديث: "لينتهيَنَّ
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 224.
(2)
"القاموس المحيط" ص 895.
(3)
راجع: "الفتح" 1/ 125.
(4)
"المفهم" 1/ 249.
أقوام عن وَدْعِهم الْجُمُعات": أي عن تركهم، فقد رُويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقلت من طريق القرّاء، فكيف يكون إماتةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذا سبيله فيجوز القول بقلّة الاستعمال ولا يجوز القول بالإماتة. انتهى
(1)
.
(إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ) أتى بـ "إذا" الدالة على تحقق الوقوع، تنبيهًا على أن هذه عادة المنافق. (وَإِذَا عَاهَدَ) من المعاهدة، وهي المحالفة والمواثقة (غَدَرَ) من الغَدْر وهو ترك الوفاء به، وفي "المجمل": الغدر: نقض العهد، وتركه، ويقال: أصله من الغدير، وهو الماء الذي يُغادره السيل: أي يتركه، يقال: غادرت الشيء: إذا تركته، فكأنك تركت ما بينك وبينه من العهد
(2)
(وَإِذَا وَعَدَ) يقال: وَعَدَهُ وعدًا، يستعمل في الخير والشرّ، ويُعَدّى بنفسه وبالباء، فيقال: وعده الخير وبالخير، وشرًّا وبالشرّ، وقد أسقطوا لفظ الخير والشر، وقالوا في الخير: وعده وعدًا وعِدَةً، وفي الشرّ: وعده وَعِيدًا، فالمصدر هو الفارق، وأوعده إيعادًا، وقالوا: أوعده خيرًا، وشرًّا بالألف أيضًا، وأدخلوا الباء مع الألف في الشرّ خاصّةً، والخلف في الوعد عند العرب كذبٌ وفي الوعيد كرمٌ، قال الشاعر [من الطويل]:
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ
…
لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
وقال في "الفتح": قال صاحب"المحكم": يقال: وعدته خيرًا ووعدته شرًّا، فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير: وَعَدته، وفي الشر: أوعدته، وحكى ابن الأعرابي في "نوادره": أوعدته خيرًا بالهمزة، فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه، وقد يجب ما لَمْ يترتب على ترك إنفاذه مفسدة.
وأما الكذب في الحديث، فحَكَى ابن التين عن مالك: أنه سئل عمن جُرّب عليه كذب، فقال: أيُّ نوع من الكذب؟ لعله حَدَّث عن عيش له سلف فبالغ في وصفه، فهذا لا يضرُّ، وإنما يضر من حَدّث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصدًا الكذب. انتهى.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 653.
(2)
"عمدة القاري" 1/ 224.
(أَخْلَفَ) أي لَمْ يفعل ما وعد به.
(وَإِذَا خَاصَمَ) من المخاصمة، وهي المجادلة (فَجَرَ) من الفُجُور، وهو الميل عن القصد، والشّقُّ، أي مال عن الحقّ وقال الباطلَ، أو شقّ ستر الديانة.
وقال في "المفهم": "فَجَر": أي مال عن الحقّ، واحتال في ردّه وإبطاله، وقال الهرويّ: أصل الفجور: الميل عن القصد، وقد يكون الكذب. انتهى.
وقال الطيبيّ: الفجور في اللغة الميل والشقّ، فهو إما ميلٌ عن القصد المستقيم، وإما شقّ سَتْر الديانة، والمراد هنا الشتم والرمي بالأشياء القبيحة والبهتان. انتهى
(1)
.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ) استثناء من سياق الحديث، فإنه رواه من طريقين: طريق عبد الله بن نُمير، وطريق سفيان الثوريّ، كلاهما عن الأعمش، فأشار إلى أنهما اتّفقا في سياق اللفظ إلَّا أن سفيان رواه بلفظ ("وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنَ النِّفَاقِ") بدل رواية ابن نمير بلفظ: ("وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّة مِنْهُنَّ إلخ")، والخصلة والخلّة بمعنى واحد، قال في "القاموس": الْخَصْلَة - أي بفتح، فسكون -: الْخَلَّةُ، والفضيلة، والرَّذِيلة، أو قد غَلَبَ على الفضيلة، جمعه خِصَال - بالكسر -. انتهى، والمناسب هنا: معنى الرَّذِيلة.
[تنبيه]: رواية سفيان التي أشار إليها هنا، هي التي أخرجها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
حدثنا قبيصة بن عقبة، قال: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمن خان، وإذا حدّث كَذَب، كذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر".
انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 510.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[27/ 217](58)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(54)، و"المظالم والغصب"(2459)، و"الجزية والموادعة"(3178)، (وأبو داود) في "السنّة"(4688)، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2632)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(20/ 5022)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 593 و 594)، و (أحمد) في "مسنده"(6729 و 6825 و 6840)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(45)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(208)، و (ابن منده) في "الإيمان"(522 و 523 و 524 و 526)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(254 و 255)، و (الحاكم) في "معرفة علوم الحديث"(ص 11) و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 230 و 10/ 74)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(37)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان خصال المنافق، وهي هذه الأربع.
2 -
(ومنها): التحذير عن الأخلاق الرَّذِيلة مثل هذه الخصال، فإنها تنافي مقتضى الإيمان، فإنه يقتضي أن يكون المؤمن صادقًا في حديثه، وفيًّا بوعده، مؤدّيًا ما ائتمن به، عادلًا في مخاصمته.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: لا شكّ في أن للمنافقين خصالًا أُخَر مذمومة، كما قد وصفهم الله تعالى، حيث قال:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، فيَحْتَمِل أن يقال: إنما خُصّت تلك الخصال بالذكر؛ لأنَّها أظهر عليهم من غيرها، عند مخالطتهم للمسلمين، أو لأنَّها التي يضرّون بها المسلمين، ويقصدون بها مفسدتهم دون غيرها من صفاتهم. والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "المفهم" 1/ 251.
4 -
(ومنها): أن هذه الخصال إذا وُجدت في مؤمن كان بها منافقًا نفاقًا عملتًا لا اعتقاديًّا بحيث يَخْرُج بها من الإسلام، ومهما كان الحال فيجب على العاقل أن يجتنبها؛ إذ ربما تجرّه إلى النفاق القلبيّ فيَخْسَر خسرانًا مبينًا، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في تأويل النفاق المذكور في هذا الحديث:
قال النووي رحمه الله تعالى: هذا الحديث عَدّه جماعة من العلماء مشكلًا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم الْمُجْمَع على عدم الحكم بكفره، قال: وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح، والذي قاله المحققون: إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم.
قال الحافظ: ومُحَصَّل هذا الجواب الحملُ في التسمية على المجاز: أي صاحب هذه الخصال، كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر.
وقد قيل في الجواب عنه: إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه، وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة رضي الله تعالى عنهما: هل تعلم في شيئًا من النفاق؟ فإنه لَمْ يُرِد بذلك نفاق الكفر وإنما أراد نفاق العمل، ويؤيده وصفه بالخالص في قوله:"كان منافقًا خالصًا".
وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال، وأن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ارتضاه الخطابي غير مرضيّ عندي؛ إذ هو مخالف لظاهر النصّ، فإنه صريح في إرادة النفاق حقيقة، لكن النفاق مراتب، والمراد هنا النفاق العمليّ كما سبق في كلام القرطبيّ، فتنبّه.
وذكر الخطّابيّ أيضًا أنه يحتمل أن المتصف بذلك، هو من اعتاد ذلك، وصار له ديدنًا، قال: ويدل عليه التعبير بـ "إذا"، فإنها تدل على تكرر الفعل. كذا قال، والأَولى ما قال الكرماني: إن حذف المفعول مِنْ "حَدَّثَ" يدلُّ على العموم: أي إذا حدّث في كلّ شيء كَذَب فيه، أو يصير قاصرًا: أي إذا وَجَدَ ماهية التحدّث كَذَبَ.
وقيل: هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال وتهاون بها واستخفَّ بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبًا.
وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في "المنافق" للجنس، ومنهم من ادَّعَى أنَّها للعهد، فقال: إنه ورد في حقّ شخص معين، أو في حق المنافقين في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعيّن المصير إليه، وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ارتضاه القرطبيّ هو أن المراد بالنفاق نفاق العمل، واستدل له بقول عمر لحذيفة رضي الله تعالى عنهما: هل تعلم في شيئًا من النفاق؟ فإنه لَمْ يُرِد بذلك نفاق الكفر وإنما أراد نفاق العمل.
قال الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى بعد إخراجه الحديث: وإنما معنى هذا عند أهل العلم نفاقُ العمل، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا رُوي عن الحسن البصري شيء من هذا، أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب. انتهى كلام الترمذيّ.
فتبيّن بهذا أن الأرجح حمل النفاق على النفاق العمليّ لا الاعتقاديّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في بيان الجمع بين حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:
(اعلم): أنه عَدّ في هذا الحديث خصال المنافق أربعًا، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه التالي ثلاثًا، وقد تكلّم العلماء في وجه الجمع بينهما:
فقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم استجدّ له من العلم بحالهم ما لَمْ يكن عنده، فأما بالوحي، وإما بالمشاهدة لتلك منهم.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى: ليس بين الحديثين تعارض؛ لأنه لا يلزم من عدَّ الخصلة المذمومة، الدالّة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق؛ لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 126.
أُضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق، على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه:"من علامة المنافق ثلاث"، وكذا أخرجه الطبراني في "الأوسط" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وإذا حُمِل اللفظ الأول - يعني:"علامة المنافق ثلاث" - على هذا لَمْ يَرِد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وببعضها في وقت آخر.
وقال القرطبيّ أيضًا، والنوويّ: حَصَلَ من مجموع الروايتين خمس خصال؛ لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، وزاد في حديث أبي هريرة: الْخُلْف في الوعد، وفي حديث عبد الله: الغَدْر في المعاهدة والفُجُور في الخصومة.
هذا بالنسبة لرواية البخاريّ، وأما في رواية مسلم والنسائيّ في حديث عبد الله بدل الْغَدْر في المعاهدة الخلف في الوعد، كما في حديث أبي هريرة، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه؛ لأن معناهما قد يَتَّحِدُ، وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة، والفجور: الميل عن الحقّ والاحتيالُ في ردّه، وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث.
ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث: أنَّها مُنَبِّهَةٌ على ما عداها؛ إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية، فَنَبَّهَ على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف؛ لأن خلف الوعد لا يَقْدَحُ، إلَّا إذا كان العزم عليه مقارنًا للوعد، أما لو كان عازمًا، ثم عَرَض له مانع، أو بدا له رأي، فهذا لَمْ توجد منه سورة النفاق، قاله الغزالي في "الإحياء".
وفي الطبراني في حديث طويل، ما يشهد له، ففيه من حديث سلمان رضي الله عنه:"إذا وَعَدَ، وهو يُحَدّث نفسه أنه يُخْلِف"، وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به، ليس فيهم من أُجمِع على تركه، وهو عند أبي داود، والترمذيّ، من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، مختصرًا، بلفظ:"إذا وَعَدَ الرجل أخاه، ومن نيته أن يَفِيَ له، فلم يَف، فلا إثم عليه"، انتهى كلام
الحافظ
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[218]
(59) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى، قَالَا: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُهَيْلٍ، نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور في الباب الماضي.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القاريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(أَبُو سُهَيْلٍ، نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ) الأصبحيّ التيميّ المدنيّ، ثقة [4](ت بعد الأربعين ومائة)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.
5 -
(أَبُوهُ) مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو أنس، أو أبو محمد، جدّ مالك بن أنس إمام دار الهجرة المدنيّ، ثقةٌ [2](ت 74) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 159.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه يحيي، فتفرّد به هو وأبو داود، وروى عنه البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والنسائيّ في "مسند عليّ".
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 125 - 126.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول بغداديّ، والثاني بغلانيّ، وبغْلان قرية من قرى بَلْخَ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: أبو سهيل، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ) أي علامته، وسُمّيت آية القرآن آيةً؛ لأنَّها علامة انقطاع كلام من كلام، فـ "آية" مبتدأ خبره قوله:(ثَلَاثٌ) أي ثلاث خصال.
[فإن قيل]: "آية" مفرد، والظاهر يقتضي أن يقال: آيات المنافق ثلاث.
[أجيب]: إما بأن يقال: إن كلَّا من الثلاث آية، حتى لو وُجدت خصلة واحدة يكون صاحبها منافقًا، أو أن يقال: كلّ من الثلاث آية حتى إذا اجتمعت تكون آية واحدة، فعلى الأول المراد منها جنس آية، وعلى الثاني معناه اجتماع هذه الثلاث، هكذا قال الكرمانيّ
(1)
.
(إِذَا حَدَّثَ) عبّر في الجمل الثلاث بـ "إذا"الدّالّة على تحقّق الوقوع تنبيهًا على أن هذه عادة المنافق، قاله الطيبيّ، وقال الخطابيّ: كلمة "إذا" تقتضي تكرار الفعل، وقال الكرمانيّ بعد ذكر كلام الطيبيّ، والخطابيّ: الأولى أن يقال: حذف المفعول من حَدّث ونحوه دليل على العموم، أو الإطلاق، فكأنه قال: إذا حدّث في كلّ شيء كذب فيه، أو إذا أوجد ماهية التحديث كذب، ولا شكّ أن مثله منافق في الدين. انتهى. (كَذَبَ) أي أخبر بخلاف الواقع (وَإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ) الوعد: هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل، وإخلافه ترك الوفاء به.
[فإن قلت]: الجمل الشرطيّة بيان لثلاث، أو بدل، لكن لا يصحّ أن يقال: الآية إذا حدّث كذب، فما وجهه؟.
(1)
"شرح البخاري" 1/ 147.
[أجيب]: بأن معناه آية المنافق كذبه عند تحديثه، وذلك مثل قوله تعالى:{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] على أحد التوجيهات، قاله الكرمانيّ.
[فإن قلت]: الوعد تحديث خاصّ، في معنى عطفه على التحديث؟ إذ الخاصّ لا يخرج من العامّ، فتكون الآية اثنتين، لا ثلاث؟.
[أجيب]: بأن مقابل الوعد الذي هو الإخلاف لما كان قد يكون فعلًا، والكذب الذي هو مقابل التحديث لا يكون فعلًا جعلا متغايرين؛ نظرًا إلى اعتبار تغاير مقابليهما، أو جُعل الوعد حقيقة أخرى غير داخلة تحت حقيقة التحديث على سبيل الادعاء؛ لزيادة قبحه، ونظيره عطف جبريل على الملائكة؛ تنبيهًا على زيادة شرفه، قال الشاعر [من الطويل]:
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ منْهُمْ
…
فإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
وإنما خُصّت الثلاث بالذكر؛ لأنَّها مشتملة على المخالفة التي عليها مبنى النفاق من مخالفة السرّ الْعَلَن
(1)
.
(وَإِذَا اؤْتُمِنَ) بالبناء للمفعول، من الائتمان، وهو جعل الشخص أمينًا، وذكر الكرمانيّ أن في بعض الروايات بتشديد التاء، وهو بقلب الهمزة الثانية منه واوًا، وإبدال الواو ياء، وإدغامها في الياء (خَانَ) من الخيانة، وهي التصرّف في الأمانة على خلاف الشرع، وقال ابن سيده: هو أن يؤتمن الإنسان، فلا ينصح، وفي "الجامع" للقزّاز: خان فلان فلانًا يخونه خيانةً، وأصله النقص، وفي "المصباح": خان الرجل الأمانة يخونها خَوْنًا وخيانةً، ومخانةً، يتعدّى بنفسه، وخان العهد، وفيه، فهو خائن، وخائنة مبالغةٌ، وخائنة الأعين قيل: هي كسر الطرف بالإشارة الخفيّة، وقيل: هي النظرة الثانية عن تعمّد، وفرّقوا بين الخائن، والسارق، والغاصب بأن الخائن هو الذي خان ما جُعِل عليه أمينًا، والسارق من أخذ خُفْيةً من موضعٍ كان ممنوعًا من الوصول إليه، وربّما قيل: كلُّ سارق خائنٌ دون العكس، والغاصب من أخذ جِهَارًا معتمدًا على قوّته. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "شرح الكرماني على البخاريّ" 1/ 147 - 148.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 184.
وقال الكرمانيّ رحمه الله تعالى ما حاصله: عدّ جماعة من العلماء هذا الحديث مشكلًا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدّق بقلبه ولسانه، مع أن الإجماع حاصل على أنه لا يحكم بكفره، ولا بنفاق يجعله في الدرك الأسفل من النار.
ثم قال: فلدفع الإشكال سبعة أوجه: لأن اللام إما للجنس، فهو إما على سبيل التشبيه، أو أن المراد الاعتياد، أو معناه الإنذار، وإما للعهد، إما من منافقي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما من منافق خاصّ بشخص بعينه، أو المراد بالنفاق النفاق العمليّ، لا النفاق الإيمانيّ؛ إذ النفاق نوعان، وقال أيضًا: وأحسن الوجوه أن يقال: النفاق شرعيّ، وهو أن يُبطن الكفر ويُظهر الإسلام، وعرفيّ، وهو أن يكون سرّه خلاف علانيته، وهو المراد هنا - إن شاء الله تعالى -.
ويُحكى أن رجلًا من البصرة قَدِمَ مكة حاجًّا، فجلس في مجلس عطاء بن أبي رباح، فقال: سمعت الحسن يقول: من كان فيه ثلاث خصال لَمْ أتحرّج أن أقول له منافق، فقال له عطاء: إذا رجعت إلى الحسن، فقل له: إن عطاءً يقرئك السلام، ويقول لك: ما تقول في بني يعقوب عليه السلام إخوة يوسف؛ إذ حدّثوا فكَذَبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتُمنوا فخانوا، أفكانوا منافقين؟ فلما قال هذا للحسن، سُرّ الحسن به، وقال: جزاك الله خيرًا، ثم قال لأصحابه: إذا سمعتم مني حديثًا، فاصنعوا مثل ما صنع أخوكم، حَدِّثوا به العلماء، في كان منه صوابًا فحسنٌ، وإن كان غير ذلك رُدّوا عليّ جوابه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[27/ 218 و 219 و 220 و 221](59)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(33)، و"الشهادات"(2682)، و"الوصايا"
(1)
راجع: "شرح الكرماني على البخاريّ" 1/ 148 - 149.
(2749)
، و"الأدب"(6095)، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2631)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(5023)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 356 و 357 و 397 و 536)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(42 و 43 و 44 و 45 و 46)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(207 و 209 و 210 و 211 و 212)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(257)، و (ابن منده) في "الإيمان"(527 و 528 و 529)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 288)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(35 و 36).
وأما بقية مسائل الحديث من الفوائد، وغيرها فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[219]
(
…
) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَة، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلاثَةٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقة [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [10](ت 224)(ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقة [7].
روى عن زيد بن أسلم، وحميد الطويل، وإبراهيم، وموسى ابني عقبة، وهشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعمرو بن أبي عمرو، وجماعة.
ورَوَى عنه عبد الله بن نافع الصائغ، وزياد بن يونس، وسعيد بن أبي مريم، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وعبيد بن ميمون، وجماعة.
قال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة، وقال ابن المديني: معروف، وقال النسائي: صالح، وقال أيضًا: مستقيم الحديث، وقال العجلي: مدني ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
وقوله: (مولى الْحُرَقة) بضمّ الحاء المهملة، وفتح الراء، وبالقاف: بطنٌ من جُهَينة
(1)
.
وقوله: (من علامات المنافق) فيه إشارة إلى قوله في الحديث الماضي: "آية المنافق ثلاث"، وكذا قوله: "أربع من كنّ فيه
…
إلخ" ليس للحصر، بل له علامات أخرى، ولكن هذه المذكورات أبرزها، وأشدّها ضررًا.
وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[220]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، أَبُو زُكَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن، يُحَدِّثُ بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ، وَإِنْ صَامَ، وَصَلَّى، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمِ الْعَمِّيُّ) هو: عُقْبة بن مُكْرَم - بضم الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء - ابنَ أفلح الْعَمّيّ، أبو عبد الملك الحافظ البصريّ، يقال: اسم والد أفلح: جَرَاد، ثقةٌ [11].
رَوَى عن غُنْدَر، ويحيى القطان، وابن مهديّ، ووهب بن جرير، وابن
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 48.
أبي فُديك، وصفوان بن عيسى، وسعيد بن عامر، وأبي عامر الْعَقَديّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجة، وعبد الله بن أحمد، ويعقوب بن سفيان، وابن أبي الدنيا، وعثمان بن خُرّزاذ، وابن أبي عاصم، والبزار، وغيرهم.
قال الفضل بن زكريا: سمعت أبا عبد الله، وقال له ابنه عبد الله: قَدْ قَدِمَ رجلٌ من البصرة عنده كُتُبُ غُنْدَر - يعني عقبة بن مكرم - فقال أبو عبد الله: ما أعلم أحدًا كَتَبَ الكتب غيرنا، أخذنا من علي - يعني ابن المديني - كتبه، فكان انتخابًا، فأخذنا كتب الشيخ، فكنا ننسخها، وقال أبو داود: عقبة بن مكرم ثقة ثقة، من ثقات الناس، فوق بُندار في الثقة عندي، وقال النسائيّ: ثقة.
قال ابن قانع: مات بالبصرة سنة (243)، وفيها أَرّخه غيره، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (25) أو بعدها، أو قبلها بقليل.
وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
[تنبيه]: (الْعَمّيّ) - بفتح العين المهملة، وتشديد الميم -: نسبة إلى بني الْعَمّ، بطن من تميم، قاله في "لب اللباب"
(1)
.
2 -
(يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، أَبُو زُكَيْرٍ) - بالتصغير - الْمُحَاربيّ الضرير، أبو محمد، المدنيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ يُخطئ كثيرًا [8].
رَوَى عن أبيه، وزيد بن أسلم، وأبي حازم بن دينار، وربيعة، وعمرو بن أبي عمرو، والعلاء بن عبد الرَّحمن، ومحمد بن عجلان، وهشام بن عروة، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد بن صالح البغداديّ، ونعيم بن حماد، وعلي بن المدينيّ، وإسماعيل بن مسعود الْجَحْدريّ، وبندار، وأبو موسى، ومحمد بن سلام البيكنديّ، وعقبة بن مكرم العميّ، وهلال بن بشر البصري، وعمرو بن علي الفلاس، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ضعيف، وقال عمرو بن عليّ:
(1)
"لبّ اللباب" 2/ 122.
ليس بمتروك، وقال أبو زرعة: أحاديثه متقاربة، إلَّا حديثين، وقال أبو حاتم، يُكْتَب حديثه، وأورد له ابن عديّ أربعة أحاديث، وقال: عامة أحاديثه مستقيمة، إلَّا هذه الأحاديث، وقال الْعُقَيليّ: لا يتابع على حديثه، وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل من غير تعمّد، لا يحتج به، وقال الساجيّ: صدوقٌ يَهِمُ، وفي حديثه لِينٌ، قال: وقال الخليليّ: شيخ صالح.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف هذا الحديث فقط متابعةً، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة.
[تنبيه]: (أبو زُكير) بضم الزاي، وفتح الكاف، وإسكان الياء، وبعدها راء، مصغّرًا، قال أبو الفضل الْفلَكيّ الحافظ: أبو زكير لقبٌ، وكنيته أبو محمد. انتهى
(1)
.
والعلاء سبق قريبًا.
وقوله: (يحدّث بهذا الإسناد) الإشارة إلى قوله في السند الماضي: "عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه "، يعني أن يحيى بن محمد سمع العلاء بن عبد الرَّحمن يحدّث عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه
…
إلخ.
وقوله: (وقال: آية المنافق إلخ) يعني أن محمد بن يحيى قال في روايته عن العلاء هذه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاثٌ، وإن صام، وصلّى، وزعم أنه مسلم
…
إلخ" بدل قوله في الرواية الأولى: "من علامات المنافق ثلاثة
…
إلخ"، ولم أجد من ساق لفظ محمد بن يحيى عن العلاء، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وزعم أنه مسلم) أي وإن ادّعى بأنه متمسّك بأمور الإسلام، إلَّا أن فعله هذا يشهد عليه بأنه يبطن خلاف ما يُظهره؛ لأن حقيقة الإسلام هو الاستسلام، والانقياد لله تعالى بالطاعة ظاهرًا وباطنًا، فإذا ظهر على المسلم ما ينافي ذلك فقد كذّبه في دعواه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 48.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[221]
(
…
) - (وحَدَّثَنِي أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ الْعَلَاء، ذَكَرَ فِيهِ: "وإِنْ صَامَ، وَصَلَّى، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ) الْقُشَيريّ، النَّسَويّ، الدَّقِيقيّ، قيل: اسم جده الحارث، والد بشر الحافي، وقيل: اسمه عبد الملك بن ذكوان بن يزيد بن محمد بن عبيد الله، ثقة عابدٌ، من صغار [9].
رَوَى عن جرير بن حازم، وحماد بن سلمة، وزهير بن معاوية، وأبان العطار، ومالك، وأبي هلال الراسبيّ، وسعيد بن عبد العزيز، وأبي الأشهب العُطَارديّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، ورَوَى النسائيّ، عن أبي بكر بن عليّ المروزيّ عنه، وأبو قُدَامة السَّرَخسيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأحمد بن منيع، وأبو موسى، وعمرو بن علي الفلاس، ويعقوب بن شيبة، وغيرهم.
قال أبو حاتم: ثقةٌ يُعَدُّ من الأبدال، وقال أبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: كان أحمد لا يرى الكتابة عن أحد ممن أجاب في المحنة، كأبي نَصْر التَّمّار، وقال الميمونيّ: صحّ عندي أن أحمد لَمْ يحضره لما مات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: ذُكِر أنه وُلد بعد قتل أبي مسلم بستة أشهر، ونزل بغداد، واتَّجَر بها في التمر، وكان ثقةً فاضلًا خَيِّرًا ورعًا، تُوُفي في أول يوم من المحرم سنة ثمان وعشرين ومائتين، وهو ابن إحدى وتسعين سنة، وقد ذهب بصره، وكذا أَرَّخ البغويّ وفاته.
وذكر صاحب"الزهرة" أن مسلمًا رَوَى عنه أربعة أحاديث، وأن البخاري رَوَى عن رجل عنه، قال الحافظ: ولم نقف على ذلك في "الصحيح". انتهى.
وقال الحافظ المزيّ: روى عنه مسلم حديث: "يقومون حتى يَبْلُغَ الرَّشْحُ أطراف آذانهم"، وما أظنه رَوَى عنه في "صحيحه" غيره. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ظنه الحافظ المزيّ يردّه هذا الحديث، وأما ما ذكره صاحب "الزهرة" من أن مسلمًا روى عنه أربعة أحاديث، فلا أظنه صحيحًا، بل له هذان الحديثان فقط، حديث الباب، وحديث (2862)
(1)
: "يوم يقوم الناس لرب العالمين
…
"، والله تعالى أعلم.
2 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ) بن نَصْر الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ المعروف بالنَّرْسيِّ - بفتح النون، وسكون الراء، وبالسين المهملة - ثقة
(2)
، من كبار [10].
رَوَى عن مالك، ووهيب بن خالد، والحمادين، ويزيد بن زريع، وداود بن عبد الرَّحمن العطار، وابن أبي الزناد، وعبد الجبار بن الورد، والدَّرَاورديّ، ومعتمر بن سليمان، وجماعة.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، وروى النسائيّ عن زكريا السِّجْزيّ، وأحمد بن علي القاضي عنه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو حبيب الْيَزَنيّ، وأحمد بن سنان القطان، وإبراهيم بن الجنيد، وعبد الله بن أحمد، وغيرهم.
قال ابن معين: النَّرْسيّان
(3)
ثقتان، وقال مرةً: لا بأس بهما، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وقال صالح بن محمد بن خِدَاش: صدوق، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابنُ قانع، والدارقطنيّ، ومسلمة بن قاسم، والخليليّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال البخاريّ: مات في جمادى الآخرة سنة (237)، وكذلك قال
(1)
ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
(2)
قال في "التقريب": لا بأس به، وما قلته أولى؛ لأنه وثقه أبو حاتم، وابن معين، والدارقطنيّ، ومسلمة، وغيرهم، وليس فيه جرح لأحد، وهو شيخ الشيخين في "صحيحيهما"، فتبصّر.
(3)
أراد عبد الأعلى هذا، والعباس بن الوليد، فإنه نَرْسيّ أيضًا.
محمد بن عبد الله الحضرميّ، وغير واحد في السنة، وفي رواية عن الحضرميّ في سنة (36).
قال الحافظ متعقّبًا على هذا ما نصّه: قلت: الذي أَرَّخه الحضرميّ: سنة ستّ: عبدُ الأعلى، عن الإسماعيليّ، لا هذا. انتهى
(1)
.
أخرج له الجماعة، إلَّا الترمذيّ، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب (13) حديثًا.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابدٌ، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) واسمه دينار بن عُذافر، ويقال: طهمان القشيري مولاهم، أبو بكر، ويقال: أبو محمد البصريّ، ثقة متقنٌ، كان يَهِم بآخره [5].
رَأَى أنس بن مالك، ورَوَى عن عكرمة، والشعبي، وزرارة بن أوفى، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب، وسماك بن حرب، وعاصم الأحول، وغيرهم.
ورَوَى عنه شعبة، والثوري، ومسلمة بن علقمة، وابن جريجٍ، والحمادان، ووهيب بن خالد، وعبد الوارث بن سعيد، وأبو معاوية، وغيرهم.
قال ابن عيينة عن أبيه: كان يفتي في زمان الحسن، وقال ابن المبارك عن الثوري: هو من حفاظ البصريين، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ثقة ثقة، قال: وسئل عنه مرّة أخرى، فقال: مثل داود يُسأل عنه! وقال ابن معين: ثقة، وهو أحب إلي من خالد الحذاء، وقال العجلي: بصري ثقة، جيد الإسناد، رفيع، وكان صالحًا، وكان خياطًا، وقال أبو حاتم، والنسائي: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت، وقال ابن حبان: رَوَى عن أنس خمسة أحاديث، لَمْ يسمعها منه، وكان من خيار أهل البصرة، من المتقنين في الروايات، إلَّا أنه كان يَهِمُ إذا حدث من حفظه، وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال الحاكم: لَمْ يصح سماعه من أنس، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن داود، وعوف، وقرة، فقال: داود أحب إلي، وهو أحب إلي
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 464.
من عاصم، وخالد الحذاء، وقال ابن خِرَاش: بصري ثقة، وقال الأثرم عن أحمد: كان كثير الاضطراب والخلاف.
وقال يزيد بن هارون، وغير واحد: مات سنة (139)، وقال علي ابن المديني، وغير واحد: مات سنة (40)، وقيل: مات سنة (41).
أخرجِ له البخاري في التعاليق، ومسلم، والأربعة، وله في هذا الكتاب (35) حديثًا.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن أبي حَزْن المخزوميّ المدنيّ، أحد العلماء الأثبات، والفقهاء الكبار، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَن الْعَلَاءِ) يعني أن لفظ حديث أبي نصر التمار، وعبد الأعلى بن حماد مثل حديث شيخه يحيى بن محمد بن قيس، عن العلاء، عن أبيه.
وقوله: (ذَكَرَ فِيهِ: "وَإِنْ صَامَ
…
إلخ") مؤكّد لما قبله؛ لأن حديث يحيى فيه ذلك أيضًا، فلا معنى للتنبيه عليه.
[تنبيه]: رواية أبي نصر التمّار هذه أخرجها ابن حبّان في "صحيحه"(1/ 490) فقال:
(257)
أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد البربار، حدثنا أبو نصر التمّار، حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وحبيب
(1)
عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُنّ فيه، فهو منافق، وإن صام، وصلى، وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا ائتُمِن خان".
وأما روايةُ عبد الأعلى بن حماد فقد أخرجها الحافظ ابن مندَهْ في "الإيمان"(2/ 606) فقال:
(530)
أنبأ خيثمة بن سليمان، ثنا أبو قلابة، عبد الملك بن محمد الرقاشيّ، وأنبأ محمد بن سعد، وأحمد بن إسحاق، قالا: ثنا محمد بن أيوب، ثنا أبو سلمة، وعلي بن عثمان (ع) وأنبأ أحمد بن عبيد الحمصيّ، ثنا
(1)
"حبيب" هو ابن الشهيد، و"الحسن" هو البصريّ، وروايته مرسلة.
أحمد بن علي بن سعيد، ثنا عبد الأعلى بن حماد، قالوا: ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثٌ مَن كُنّ فيه فهو منافق، وإن صام، وصلي، وزعم أنه مؤمن: إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
28 - (بَابُ بَيَانِ حَالِ إِيمَانِ مَنْ قَالَ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ: يَا كَافِر)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[222]
(60) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيَمان" 1/ 157.
2 -
(عُبَيْدُ اللهُ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعَدَويّ الْعُمَريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة ثبتٌ، أحد الفقهاء [5].
رَوَىَ عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، ولها صحبة، وعن أبيه، وخاله، خُبَيب بن عبد الرَّحمن، وسالم بن عبد الله بن عمر، وابنه أبي بكر بن سالم، ونافع مولى ابن عمر، وابنه عمر بن نافع، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وابنه عبد الرَّحمن بن القاسم، وسعيد المقبريّ، وعبد الله بن دينار، وأبي الزناد، وعطاء بن أبي رباح، وثابت البناني، وغيرهم.
وروى عنه أخوه عبد الله، وحميد الطويل، وهو من شيوخه، وأيوب السختياني، ومات قبله، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو أكبر منه، وجرير بن حازم، والحمادان، والسفيانان، وشعبة، وعبد الله بن نمير، وأبو أسامة، وخلق كثير.
قال عمرو بن عليّ: ذَكَرتُ ليحيى بن سعيد قولَ ابن مهديّ: إن مالكًا أثبت في نافع عن عبيد الله فغضب، وقال: هو أثبتُ من عبيد الله؟!، وقال أبو حاتم عن أحمد: عبيد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: مالك أحب إليك عن نافع، أو عبيد الله؟ قال: كلاهما، ولم يُفَضِّل، وقال جعفر الطيالسيّ: سمعت يحيى بن معين يقول: عبيد الله عن القاسم، عن عائشة، الذهب الْمُشَبَّك بالدُّرّ، فقلت: هو أحب إليك، أو الزهري عن عروة عن عائشة؟ قال: هو إليّ أحبّ، وقال أحمد بن صالح: عبيد الله أحب إلي من مالك في حديث نافع، وقال عبد الله بن أحمد عن ابن معين: عبيد الله بن عمر من الثقات، وقال النسائيّ: ثقة ثبتٌ، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، وقال ابن منجويه: كان من سادات أهل المدينة، وأشرف قريش فضلًا، وعلمًا، وعبادةً، وشرفًا، وحفظًا، وإتقانًا، وهكذا قال ابن حبّان، وزاد: أمه فاطمة بنت عمر بن عاصم بن عمر، وكذا ذكر ابن سعد في الطبقة الخامسة، قال: ولَمّا خَرَج محمد بن عبد الله بن الحسن على المنصور، لَزِمَ عبيد الله ضَيْعَته، واعتزل، فلما قُتِل محمد رجع عبيد الله إلى المدينة، فمات بها سنة (47)، وكان ثقةً كثير الحديث، حجّةً، وقال أحمد بن صالح: ثقة ثبتٌ مأمونٌ، ليس أحد أثبت في حديث نافع منه، وقال أبو نعيم الأصبهاني في الرواة عن الزهري: رَأَى أنسًا، وقال الحربيّ: لَمْ يدرك عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، وقال ابن معين: لَمْ يسمع من ابن عمر، وقال: ثقةٌ، حافظٌ، مُتَّفَقٌ عليه.
وقال الْهَيْثَم بن عديّ: مات سنة سبع وأربعين ومائة، وقال غيره: مات سنة (4) أو (45).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (180) حديثًا.
3 -
(نَافِع) العدويّ، أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، أصابه ابن عمر في بعض مغازيه، ثقة ثبتٌ فقيه مشهورٌ [3].
رَوَى عن مولاه، وأبي هريرة، وأبي لبابة بن عبد المنذر، وأبي سعيد الخدري، ورافع بن خَدِيج، وعائشة، وأم سلمة، وعبد الله وعبيد الله وسالم وزيد أولاد عبد الله بن عمر، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنين، ونُبيه بن وهب العبدي، وخلق كثير.
ورَوَى عنه أولاده: أبو عمر، وعمر، وعبد الله، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كيسان، وعبد ربه ويحيى ابنا سعيد الأنصاري، ويونس بن عبيد، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية، وميمون بن مِهْران، وابن عجلان، وأيوب السختياني، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال البخاري: أصح الأسانيد: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وقال بشر بن عُمَر عن مالك: كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر، لا أبالي أن لا أسمعه من غيره، وقال عبيد الله بن عمر: لقد مَنَّ الله تعالى علينا بنافع، وقال أيضًا: بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليعلمهم السنن، وقال حرب بن إسماعيل: قلت لأحمد: إذا اختلف سالم ونافع في ابن عمر من أحب إليك؟ قال: ما أتقدم عليهما، وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: نافع عن ابن عمر أحب إليك أو سالم؟ فلم يُفَضِّل، قلت: فنافع أو عبد الله بن دينار؟، فقال: ثقات، ولم يُفَضِّل، وقال العجلي: مدني ثقة. وقال ابن خِرَاش: ثقة نبيل، وقال النسائي: ثقة. وقال في موضع آخر: أثبت أصحاب نافع مالك، ثم أيوب، فذكر جماعة، وقال في موضع آخر: اختلف سالم ونافع في ثلاثة أحاديث، وسالم أجلّ من نافع، وأحاديث نافع الثلاثة أولى بالصواب، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: اختُلِف في نسبته، ولم يصح عندي فيه شيء، وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أحمد بن حنبل، ثنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية قال: كنا نريد نافعًا مولى ابن عمر على اللحن فيأباه، قال أحمد: قال سفيان: فأَيُّ حديث أوثق من حديث نافع؟ وقال ابن أبي حاتم: رواية نافع، عن عائشة وحفصة مرسلة. وقال أبو زرعة: نافع عن عثمان مرسل، وقال أحمد بن حنبل: نافع عن عمر منقطع، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح المصري: كان نافع حافظًا ثبتًا له شأن، وهو أكبر من عكرمة عند أهل المدينة، وقال الخليلي: نافع من أئمة التابعين بالمدينة، إمام في العلم، متفق عليه، صحيح الرواية، منهم من يُقَدّمه على سالم، ومنهم من يقارنه به، ولا يُعرَف له خطأ في جميع ما رواه.
قال يحيى بن بكير وآخرون: مات سنة سبع عشرة ومائة، وقال أبو عبيد: مات سنة تسع عشرة. ويقال: سنة عشرين، وقال ابن عيينة، وأحمد بن حنبل: مات سنة تسع عشرة، وقال أبو عمر الضرير: مات سنة عشرين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (312) حديثًا.
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عبد الرَّحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (ت 73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والباقيان تقدّما في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، في أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من عبيد الله، والباقون كوفيون.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبيد الله، عن نافع.
5 -
(ومنها): أنه مسلسل بالفقهاء، فعبيد الله، ونافغ، وابن عمر من الفقهاء المشهورين في عصرهم.
6 -
(ومنها): أن نافعًا أوثق من روى عن ابن عمر حتى قدّمه الإمام أحمد على سالم بن عبد الله بن عمر، ووافقه النسائيّ، والدارقطنيّ، وقدّم بعضهم عليه سالِمًا، وإلى هذا أشرت في "شافية الغُلل" بقولي:
أَشْهَرُ مَنْ رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرِ
…
ابْنُهُ سَالِمٌ وَنَافِعٌ دُرِي
وَاخْتَلَفَا فِي عَدَدٍ مِنَ الْخَبَرْ
…
فِي الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ أَحَارَ مَنْ نَظَرْ
سُئِلَ أَحْمَدُ فَلَمْ يَقْضِ بِشَيْ
…
كَذَاكَ عَنْ يَحْيَى أَتَاكَ يَا أُخَيْ
وَمَالَ أَحْمَدُ لِوَقْفِ نَافِعِ
…
"فِيمَا سَقَتْ""مَنْ بَاعَ عَبْدًا" فَاسْمَعِ
وَالنَّسَئِي وَالدَّارَقُطْنِي رَجَّحَا
…
وَقْفَهُ فِي ثَلَاثَةٍ وَأَفْصَحَا
"فِيمَا سَقَتْ""مَنْ بَاعَ" ثُمَّ "تَخْـ
…
ــــــــرُجُ"مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ نَارٌ تُزْعِجُ
وَبَعْضُهُمْ زَادَ حَدِيثَ "النَّاسُ
…
كَإِبِلٍ مِائِهْ" فَذَا مِقْيَاسُ
وَبَعْضُهُمْ رَجَّحَ قَوْلَ سَالِمِ
…
فِي رَفْعِهَا فَاحْفَظْهُ حِفْظَ فَاهِمِ
7 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين
السبعة، روى (2630) حديثَّا، وهو أحد المفتين المشهورين في عصره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن ابْنِ عُمَرَ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ) أي نسبه إلى الكفر، ورماه به، فقال له: يا كافر (فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا") معناه عند بعض أهل اللغة: احتملها، وعند بعضهم معناه: رجع بها، أي رجع وبال الكفر على القائل إن لَمْ يكن المقول له كذلك.
قال في "القاموس": باء بِذَنْبِهِ بَوْءًا، وبَوَاءَّ: احتمله، أو اعترف به. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: معنى: "فقد باء بها" أي التزمها، ورجع بها، قال: ولا بدّ للرجوع والعود من الشيء، فإذا قال القائل لصاحبه: يا كافر، فإن صدق رجع إليه كلمة الكفر الصادر منه مقتضاها، وإن كذب، واعتقد بُطلان دين الإسلام، رجعت هذه الكلمة الصادرة إلى القائل. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: معنى"باء بها": أي رجع بإثمها، ولازم ذلك، قال الهرويّ: وأصل الْبَوْء: اللزوم، ومنه:"أبوء بنعمتك عليّ": أي أُقرّ بها، وألزمها نفسي، وقال غيره من أهل اللغة: إنّ باء في اللغة رجع بشرّ، والهاء في "بها" راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقلّ ما يدلّ عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة، ونعني بهذا أن المقول له: يا كافر، إن كان كافرًا كفرًا شرعيًّا، فقد صدق القائل له ذلك، وذهب بها المقول له، وإن لَمْ يكن كذلك رجعت للقائل معرّة ذلك القول، وإثمه، و"أحدهما" هنا يعني به المقول له على كلّ وجه؛ لقوله:"إن كان كما قال"، وأما القائل، فهو المعنيّ بقوله:"وإلا رجعت عليه"، وبيانه بما في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الذي قال فيه:"من دعا رجلًا بالكفر، أو قال: عدوّ الله، وليس كذلك، وإلا حار عليه"، أي
(1)
"القاموس" ص 34.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3113.
على القائل، و"حار": رجع، ويعني بذلك وزر ذلك وإثمه. انتهى
(1)
، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا في "الإيمان"[28/ 222 و 223](60)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6104)، و (أبو داود) في "السنة"(4687)، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2637)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 984)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 18 و 23 و 60 و 112 و 113 و 142)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(47 و 48 و 49 و 50 و 51 و 52 و 53 و 54)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(213 و 214)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(249 و 250)، و (ابن منده) في "الإيمان"(521 و 594 و 595 و 596 و 597)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 208)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(3550 و 3551)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حال المسلم إذا قال لأخيه المسلم: يا كافر، وهو أن يتحمّل إثم تكفيره إن لَمْ يكن كما قال.
2 -
(ومنها): وجوب حفظ اللسان عن قول الخنا والفحش.
3 -
(ومنها): وجوب احترام المسلم لأخيه المسلم، وعدم رميه بكلام بذيء، مثل الكفر، والفسق، والفجور.
4 -
(ومنها): عناية الشارع بالتنبيه والإرشاد إلى ما هو الأولى بالمسلم، وإبعاده عما يشين عرضه، ودينه.
5 -
(ومنها): أن رمي المسلم بالكفر من الذنوب الخطيرة، فيجب التوبة منها، واستحلال أخيه بتكذيب نفسه، وطلب المسامحة له في ذلك.
(1)
"المفهم" 1/ 253 - 254.
6 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": وهذا يقتضي أن من قال لآخَرَ: أنت فاسق، أو قال له: أنت كافر، فإن كان ليس كما قال، كان هو المستحقَّ للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال: لَمْ يرجع عليه شيء؛ لكونه صَدَقَ فيما قال، ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقًا، ولا كافرًا أن لا يكون آثمًا في صورة قوله له: أنت فاسقٌ، بل في هذه الصورة تفصيل، إن قَصَدَ نُصْحَه، أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك، ومَحْضَ أذاه لَمْ يجز؛ لأنه مأمور بالسَّتْر عليه، وتعليمه، وعِظَته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف؛ لأنه قد يكون سببًا لإغرائه، وإصراره على ذلك الفعل، كما في طبع كثير من الناس من الأنَفَة، لا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فقد باء بها أحدهما":
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: في هذا الحديث إشكال من حيث إن المسلم الْمُصَدّق لا يَكْفُر عند أهل الحق بهذا وأمثاله، فمِن أهل العلم من حمله على المستحل لذلك، ومنهم من قال: معناه رَجَعَت عليه نقيصته لأخيه، إذا لَمْ يكن كما قال بكذبه عليه.
وهذان الوجهان مباعدان لظاهر الحديث.
ومنهم من حمله على الخوارج المكفِّرين للمؤمنين، وهذا يأباه كون الصحيح أن الخوارج لا يُكَفَّرون، وإن كُفِّرُوا فلا فرق في تكفيرهم بين أن يكون المقول له ذلك كافرًا، أو لا يكون.
فأقول - والله أعلم -: إن لَمْ يكن أخوه كافرًا كما قال رجع عليه تكفيره، فليس الراجع إليه هو الكفر، بل التكفير، وذلك لأن أخاه إذا كان مؤمنًا، وقد جعله هو كافرًا، مع أن المؤمن ليس بكافر، إلَّا عند من هو كافر من يهوديّ أو نصراني أو غيرهما، فقد لَزِمَ من ذلك كونه مُكَفِّرًا لنفسه؛ ضرورةً لتكفيره من لا
(1)
راجع: "الفتح" 10/ 480 - 481.
يُكَفِّره إلَّا كافر، ويكون الضمير في قوله:"فقد باء بها"، بوَصْمَة التكفير، ومَعَرَّته، أي إنها لاصقة بأَوْلاهما بها، وهو المقول له إن كان كما قيل، وإلا فالقائل.
وهذا معنى صحيحٌ غير مباعد لظاهر الحديث، فإن يكن قد قاله أحد سَبَقَ فأحرى له، وإلا فهو مما تركه الأول للآخر - ولله الحمد كله، وهو أعلم.
ثم أقول: يتجه فيه معنى آخرُ مُطَّرِد في سائر الأحاديث القاضية بالكفر فيما ليس في نفسه كفرًا، وهو أن ذلك يؤول به إلى الكفر، إذا لَمْ يتب توبة ماحية لِجُرْمه ذلك؛ إذ المعصية إذا فَحُشَت جَرَّت بشؤمها إلى الكفر، ولذلك شواهد، ووصفُ الشيء بما يؤول إليه سائغ شائع، من ذلك قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]، والله أعلم.
وقد رَوَينا في بعض روايات هذا الحديث في مُستخَرَج أبي عوانة الإسفراييني الحافظ على كتاب مسلم: "فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر"، وفي رواية أخرى:"أنه إذا قال لأخيه: يا كافر، وجب الكفر على أحدهما".
فهذا إن لَمْ يكن من عبارة بعض الرواة روايةً منه بالمعنى على ما فهمه، مع أنه ليس الأمر على ما فهمه، كما وقع في كثير من رواياتهم، فالوجه الأخير حينئذ هو الراجح المختار، والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما":
هذا الحديث مما عَدّه بعض العلماء من المشكلات، من حيث إن ظاهره غير مراد، وذلك أن مذهب أهل الحقّ أنه لا يَكْفَر المسلم بالمعاصي، كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه: كافر اعتقاد من غير بطلان دين الإسلام، وإذا عُرِف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه:
[أحدها]: أنه محمول على المستحلّ لذلك، وهذا يَكْفُر، فعلى هذا معنى "باء بها" أي بكلمة الكفر، وكذا "حار عليه"، وهو معنى "رَجَعت عليه" أي رجع عليه الكفر، فباء، وحار، ورجع بمعنى واحد.
[والوجه الثاني]: معناه رَجعت عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره.
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 237 - 238.
[والثالث]: أنه محمول على الخوارج المكفِّرين للمؤمنين، وهذا الوجه نقله القاضي عياض رحمه الله، عن الإمام مالك بن أنس، وهو ضعيف؛ لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون، أن الخوارج لا يُكَفَّرون، كسائر أهل البدع.
[والوجه الرابع]: معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر، وذلك أن المعاصي كما قالوا: بريد الكفر، ويُخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيد هذا الوجه، ما جاء في رواية لأبي عوانة الإسفراييني في كتابه الْمُخَرَّج على "صحيح مسلم":"فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر"، وفي رواية:"إذا قال لأخيه: يا كافر، وجب الكفر على أحدهما".
[والوجه الخامس]: معناه فقد رَجَع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير؛ لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا، فكأنه كَفَّر نفسه، إما لأنه كَفَّر مَن هو مثله، وإما لأنه كَفر من لا يُكَفره إلَّا كافر، يعتقد بطلان دين الإسلام. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وقال في "الفتح": قال النوويّ: اختُلِف في تأويل هذا الرجوع، فقيل: رجع عليه الكفر، إن كان مستحلًّا، وهذا بعيد من سياق الخبر، وقيل: محمول على الخوارج؛ لأنهم يُكَفرون المؤمنين، هكذا نقله عياض عن مالك، وهو ضعيف؛ لأن الصحيح عند الأكثرين أن الخوارج لا يُكَفَّرون ببدعتهم.
قال الحافظ: ولما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يُكَفِّر كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم، ممن شَهِدَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وبالإيمان، فيكون تكفيرهم من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة، لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل.
قال: والتحقيق أن الحديث سِيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وذلك قبل وجود فِرْقة الخوارج وغيرهم.
وقيل: معناه: رجعت عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره، وهذا لا بأس به.
وقيل: يُخشى عليه أن يؤول به ذلك إلى الكفر، كما قيل: المعاصي بريد الكفر، فيخاف على من أدامها، وأصرّ عليها سوء الخاتمة.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 49 - 50.
وأرجحُ من الجميع أن من قال ذلك لمن يَعْرِف منه الإسلام، ولم يَقُم له شبهة في زعمه أنه كافر، فإنه يَكْفُر بذلك، كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث: فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير، لا الكفر، فكأنه كَفَّر نفسه؛ لكونه كَفَّرَ من هو مثله، ومن لا يُكَفِّره إلَّا كافر، يعتقد بُطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه:"وَجَبَ الكفر على أحدهما".
وقال القرطبيّ: حيث جاء الكفر في لسان الشرع، فهو جَحْد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد وَرَد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير"، متّفقٌ عليه، قال: وقوله: "باء بها أحدهما": أي رجع بإثمها، ولازم ذلك، وأصل الْبَوْء اللزوم، ومنه:"أبوء بنعمتك": أي أُلْزمها نفسي، وأُقرّ بها، قال: والهاء في قوله: "بها" راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقلّ ما يدلُّ عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة.
والحاصل أن المقول له إن كان كافرًا كفرًا شرعيًّا، فقد صَدَق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لَمْ يكن، رجعت للقائل مَعَرَّة ذلك القول وإثمه.
قال الحافظ: كذا اقتصر على هذا التأويل في "رَجَعَ"، وهو من أعدل الأجوبة، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه بسند جيّد رفعه:"إنّ العبد إذا لَعَنَ شيئًا، صَعِدت اللعنة إلى السماء، فتُغلَق أبواب السماء دونها، ثم تَهْبط إلى الأرض، فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لَمْ تَجِد مَسَاغًا رجعت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان أهلًا، وإلا رَجَعت إلى قائلها"، وله شاهد عند أحمد، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بسند حسن، وآخر عند أبي داود، والترمذيّ عن ابن عباس صلى الله عليه وسلم، ورواته ثقات، ولكنه أُعِلَّ بالإرسال. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال هو ما قاله القرطبيّ، كما أشار إليه الحافظ.
وخلاصته أن رجوع الكفر إلى القائل إذا لَمْ يكن المقول له أهلًا لتلك الكلمة إنما هو رجوع معرّتها، وإثمها، لا رجوع نفس الكفر إليه بمعنى كونه يخرج بقوله
(1)
"الفتح" 10/ 481.
من الإسلام، وقد سبق أن كثيرًا من النصوص التي وردت بلفظ الكفر محمولة على كفر دون كفر، وقد عقد الإمام البخاريّ في "كتاب الإيمان" من صحيحه لذلك بابًا، فقال:"باب كفران العشير، وكفر بعد كفر"، ثم أورد فيه حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وفيه:"يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان"، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[223]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أنهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) الْعَدويّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة [3](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
وأما "يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ"، وهو النيسابوريّ، وَ"عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ"، وهو السعديّ المروزيّ، فقد تقدّما قبل ثلاثة أبواب.
وأما "يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ"، وهو المقابريّ البغداديّ، وَ"قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ"، وهو الثقفيّ البغلانيّ، و"إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ"، وهو ابن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ، فقد تقدّموا في الباب الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، تقدّمت هناك.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيات المصنف رحمه الله، وهو (7) من رباعيات الكتاب.
وقوله: (أَيُّمَا امْرِئٍ)"أيّما" أداة شرط، أي: أيّ رجل (قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ) هكذا النسخ التي بين يَدَيّ بإثبات حرف النداء، والذي شرح عليه القرطبيّ بحذف "يا"، ولذا قال في شرحه:"صواب تقييده: كافرٌ" بالتنوين على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي أنت كافرٌ، أو هو كافرٌ، وربّما قيّده بعضهم
كافرُ بغير تنوين، فجعله منادى مفردًا، محذوفَ حرف النداء، وهذا خطأ؛ إذ لا يُحذف حرف النداء مع النكرات، ولا مع المبهمات، إلَّا فيما جرى مجرى المثل في نحو قولهم:"أَطْرِقْ كرَا"
(1)
، و"افتَدِ مخنوقُ"
(2)
، وفي حديث موسى عليه السلام:"ثوبي حجر، ثوبي حجر"، متّفقٌ عليه، وهو قليل. انتهى.
قال الجامع: وهذا الذي قاله القرطبيّ قد أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا
…
جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا
وَذَاكَ فِي اسْمِ الجِنْسِ وَالْمُشَارِ لَهْ
…
قَلَّ وَمَنْ يَمْنَعْهُ فَانْصُرْ عَاذِلَهْ
قال القرطبيّ: وأصل الكفر التغطية والسترُ، ومنه سُمّي الزارع كافرًا، ومنه قوله تعالى:{أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]، أي الزارع، ومنه قول الشاعر [من الكامل]:
........................
…
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
(3)
أي ستر وغطّي، والغمام السحاب، وأما الكفر الواقع في الشرع، فهو جَحْد المعلوم منه ضرورةً شرعيّةً، وهذا هو الذي جرى به العرف الشرعيّ، وقد جاء فيه الكفر بمعنى جَحْد المنعم، وترك الشرك على النعم، وترك القيام بالحقوق، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للنساء:"يكفُرن الإحسان، ويكفرن العشير"، متفق عليه، أي يجحدن حقوق الأزواج وإحسانهم، ومن ها هنا صحّ أن يقال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وسيأتي لهذا مزيد بيان. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(4)
.
(1)
"كرا" هو الكروان، أو مرخّم الكروان، وهذ مثلٌ يُضرب للذي ليس عنده غَناء، ويتكلّم، فيقال: اسكت، وتوقّ انتشار ما تلفظ به، كراهة ما يتعقبه. اهـ. "مجمع الأمثال" 1/ 432.
(2)
هذا مثلٌ يُضرب لكل مشفوق عليه مضطرّ، ويُروى "افتدى مخنوقٌ". اهـ. "مجمع الأمثال" 2/ 78.
(3)
عجز بيت من معلّقة لبيد، وصدره:
يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرٌ
…
..................
(4)
"المفهم" 1/ 252 - 253.
وقوله: (إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ) هذا تفصيل لقوله: "فقد باء بها أحدهما" يعني أن المقول له إن كان كافرًا كما رماه به القائل، فقد صدق قول القائل عليه، ورجعت الكلمة إليه بمعنى أنه تحقّق وثبت عليه معناها، وصدق المتكلّم بها.
وقوله: (وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ) هي "إن" الشرطيّة أُدغمت في "لا" النافية، أي وإن لَمْ يكن المقول له كافرًا بالفعل، بل كان بريئًا منه، فقد رجعت الكلمة على القائل، بمعنى أن وبالها، وإثمها راجع عليه، فيستحقّ العقوبة بها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
29 - (بَابُ بَيَانِ حَالِ إِيمَانِ مَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيه، وَهُوَ يَعْلَمُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج، المذكور أولَ الكتاب قال:
[224]
(61) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنَ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيه، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، إِلَّا كَفَرَ، وَمَن ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ [النَّار، وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْر، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ الله، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد الْعَنبريّ مولاهم، أبو سَهْل البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ، ثقة ثبتٌ [8](ت 108)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
4 -
(حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ) هو: حسين بن ذكوان الْمُعلّم المُكتب الْعَوْذيّ البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.
5 -
(ابْنُ بُرَيْدَةَ) هو: عبد الله بن بُريدة بن الْحُصَيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل:(115)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 152.
6 -
(يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ) - بفتح التحتانيّة، بعدها عين مهملة ساكنة، وبفتح الميم، وضمّها - البصريّ، نزيل مرو وقاضيها، ثقةٌ فصيحٌ، يرسل [3] مات قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
7 -
(أَبُو الْأَسْوَدِ) الدِّيليّ - بكسر الدال المهملة، وسكون التحتانيّة - ويقال: الدُّؤَليُّ - بضم الدال، بعدها همزة مفتوحة - البصريُّ القاضي، واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جَنْدَل بن يَعْمَر بن حِلْس بن نُفَاثة بن عَدِيّ بن الدّيل، ويقال: اسمه عمرو بن ظالم، ويقال: عُويمر بن ظُويلم، ويقال: عمرو بن عثمان، ويقال: عثمان بن عمرو، ثقة فاضلٌ مخضرم [2].
رَوَى عن عمر، وعليّ، ومعاذ، وأبي ذرّ، وابن مسعود، والزبير بن العوام، وأُبَيّ بن كعب، وأبي موسى، وابن عباس، وعمران بن حصين رضي الله عنه.
ورَوَى عنه ابنه أبو حرب، وعبد الله بن بريدة، ويحيى بن يعمر، وعُمَر بن عبد الله، مولى غُفْرة، وسعيد بن عبد الرَّحمن بن رُقَيش.
قال أبو حاتم: وَلي قضاء البصرة، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: كوفيّ تابعيّ ثقة، وهو أول من تكلم في النحو، وقال ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل البصرة: كان شاعرًا مُتَشَيِّعًا، وكان ثقةً في حديثه - إن شاء الله تعالى - وكان ابن عباس لَمّا خَرَج من البصرة استَخْلَف عليها أبا الأسود، فأقره عليّ، وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"، فقال: كان ذا دين، وعَقْل ولسان وبيان، وفَهْم وذَكَاء وحَزْم، وكان من كبار التابعين، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين.
وقال الواقديّ: كان ممن أسلم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقاتل مع عليّ يوم الجمل، وهلك في ولاية عبيد الله بن زياد، وقال يحيى بن معين، وغيره: مات في طاعون الجارف، سنة تسع وستين، وفيها أَرَّخه ابن أبي خيثمة، والمرزبانيّ، وزاد: وكان له يوم مات خمس وثمانون سنة، قال ابن أبي خيثمة: وأخبرنا المدائني: كان يقال: إن أبا الأسود مات قبل الطاعون، قال:
وهذا أشبه؛ لأنّا لَمْ نسمع له في ذكرًا
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (94): "ما من عبد قال: لا إله إلَّا الله
…
"، و (553): "عُرضت عليّ أعمال أمتي
…
"، و (720): "يُصبح على كلّ سُلامى من أحدكم
…
"، و (1006): "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون
…
"، و (1050): "لو كان لابن آدم واديان من مال
…
"، و (2650): "بل شيء قُضي عليهم، ومضى فيهم
…
".
8 -
(أَبُو ذَرٍّ) الْغِفَاريّ، قيل: اسمه جُنْدب بن جُنَادة بن قيس بن عمرو بن مُلَيل بن صُعَيْر بن حَرَام بن عَفّان، وقيل: اسمه بُرَير بن جُنَادة، وقيل: ابن جُندب، وقيل: ابن عِشْرَقة، وقيل: ابن جُندب بن عبد الله، وقيل: ابن السكن، وكان أخا عَمْرو بن عَبَسة السُّلَميّ لأمه.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه أنس بن مالك، وابن عباس، وخالد بن وُهبان ابن خَالة أبي ذر، وقيل: وهبان بن امرأة أبي ذر، وقيل: ابن أخته، وزيد بن وهب الْجُهَنيّ، وخَرَشة بن الْحُرّ، وجُبير بن نُفير، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الصامت، وزيد بن ظبيان، وعبد الله بن شقيق، وعمرو بن ميمون، وعبد الرَّحمن بن غَنْم، وقيس بن عُبَاد، وأبو إدريس الخولاني، وأبو أسماء الرحبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الديلي، والمعرور بن سويد، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو بصرة الغفاري، وأبو سالم الجيشاني، وأبو مُرَاوح الغِفَاري، وزِرّ بن حُبَيش، ورِبْعي بن حِرَاش، وعبد الرَّحمن بن شِمَاسة الْمَهْريّ، وخلق كثير.
وقصّة إسلامه في "الصحيحين"، ولفظ البخاريّ من طريق أبي جمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لَمّا بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علمَ هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدم، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلامًا ما هو
(1)
كذا النسخة ولعل الساقط في الطاعون، فليُحرر.
بالشعر، فقال: ما شَفَيتني مما أردت، فتزوّد، وحمل شَنّةً له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه، وكَرِه أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرأَه عليّ، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرّ به عليّ، فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث، فعل عليّ مثل ذلك، فأقامه معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لِتُرشِدني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حقّ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مَدْخَلي، ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ارجع إلى قومك فأخبرهم، حتى يأتيك أمري"، قال: والذي نفسي بيده لأَصْرُخَنّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته أشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه طريق تجاركم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه.
ويقال: إن إسلامه كان بعد أربعة، وانصرف إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ومضت بدر وأحدٌ، ولم تتهيّأ له الهجرة إلَّا بعد ذلك، وكان طويلًا أسمر اللون نحيفًا.
وأخرج أحمد في "مسنده" من طريق عِراك بن مالك قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: إني لأقربكم يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أقربكم مني يوم القيامة مَنْ خَرَج من الدنيا كهيئته يوم تركته عليه"، وإنه والله ما منكم من أحد إلَّا وقد تَشَبّثَ منها بشيء غيري. رجاله ثقات، إلَّا أن فيه انقطاعًا؛ لأن عراكًا لَمْ يسمع من أبي ذرّ.
وأخرج أحمد والترمذيّ عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما أظلت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء، من رجل أصدق لهجة من أبي ذر"
(1)
.
وفي الباب عن أبي الدرداء، وأبي هريرة، وغيرهما، قال أبو إسحاق عن هانئ بن هانيّ، عن علي رضي الله عنه: أبو ذر وِعاءٌ مُلِئَ علمًا أُوكِئ عليه، فلم يخرج منه شيء، وقال الآجري عن أبي داود: لَمْ يشهد بدرًا، ولكن عمر ألحقه، وكان يوازي ابن مسعود في العلم.
قال خليفة، وعمرو بن علي، وغير واحد: مات بالرَّبَذَة سنة اثنتين وثلاثين، زاد المدائني: وصلَّى عليه ابن مسعود، ثم مات بعده بيسير، ومناقبه وفضائله كثيرة جدًّا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (57) حديثًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من ثمانيّات المصنّف، فهو سند نازل، لأن أعلى سنده رباعيّات، وأنزلها عُشاريّات.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، غير شيخه، في أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن ابن بُرَيدة هنا هو عبد الله بن بُريدة، وليس هو سليمان بن بريدة أخاه، وهو وأخوه سليمان ثقتان، تابعيان، جليلان، وُلدا في بطن واحد، في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويقال: إنهما ماتا في يوم واحد، وليس بشيء، والصحيح أن سليمان مات، وهو على القضاء بمرو سنة (100)، ثم ولي أخوه عبد الله مكانه إلى أن مات سنة (115).
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين الْجِلّة يروي بعضهم عن بعض: ابن بُريدة، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، ورواية الأوّلين من رواية الأقران، فإن كليهما من الطبقة الثالثة.
4 -
(ومنها): أن أبا الأسود رحمه الله تعالى كان من عقلاء الرجال، وهو أول من وضع علم النحو بأمر عليّ رضي الله عنه.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(6341)، و"الترمذيّ"(3737).
5 -
(ومنها): أن أبا ذرّ وأبا الأسود هذا أول محلّ ذكرهما في هذا الكتاب، وجملة ما رواه المصنف لأبي ذرّ رضي الله عنه (57) حديثًا، ولأبي الأسود سبعة أحاديث فقط، كما بينته آنفًا.
6 -
(ومنها): أنه لا يوجد في الكتب الستة من يُكنى بأبي ذرّ غير هذا، وجملة من يُكنى بأبي الأسود ستة:
أحدهم هذا المترجم هنا، والثاني: أبو الأسود السلمي، صحابيّ له حديث عند النسائيّ فقط، وقيل: الصواب أبو اليسر السلمي، والثالث: أبو الأسود المحاربيّ، مولى عمرو بن حُريث، قاضي الكوفة، واسمه سُويد، مقبول من الطبقة الخامسة، عند النسائيّ أيضًا، والرابع: أبو الأسود المراديّ، واسمه النضر بن عبد الجبار، عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجة، والخامس: أبو الأسود والد سوادة، واسمه: مسلم بن مِخراق، عند المصنّف، وأبي داود، وابن ماجة، والسادس: يتيم عروة، محمد بن عبد الرَّحمن، من رجال الجماعة.
7 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ممن اشتهر بكنيته، حتى وقع اختلاف كثير في اسمه، واسم أبيه، وكان رابع أربعة في الإسلام، وقيل: خامس خمسة، ذو مناقب جمة رضي الله عنه، كما أسلفناه في ترجمته آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ جندب بن جُنادة على الأصحِّ رضي الله عنه (أَنَّهُ يسَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ)"من" زائدة، و"رجل" اسم "ليس"، والتعبير بالرجل للغالب، وإلا فالمرأة كذلك حكمها
(1)
(ادَّعَى) بالبناء للفاعل (لِغَيْرِ أَبِيهِ) أي انتسب إليه، واتخذه أبًا رغبةً عن أبيه، والجملة صفة "رجل"، وقوله:(وَهُوَ يَعْلَمُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي حال كونه عالِمًا أباه، وهذا التقييد لا بدّ منه، فإن الإثم إنما يكون في حقّ العالم بالشيء (إِلا كَفَرَ) قال النوويّ رحمه الله تعالى: قيل: فيه تأويلان:
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 624 "كتاب المناقب".
[أحدهما]: أنه في حقّ المستحلّ.
[والثاني]: أنه كَفَرَ النعمة والإحسان، وحقَّ الله تعالى، وحَقَّ أبيه، وليس المراد الكفر الذي يُخرجه من ملّة الإسلام، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم:"يَكْفُرْنَ"، ثم فسّره بكفرانهنّ الإحسان، وكفران العشير. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهذا - يعني الانتساب لغير الأب - إنما يفعله أهل الْجَفَاء والجهل والكبر؛ لخِسّة منصب الأب، ودناءته، فيَرَى الانتساب إليه عارًا، ونقصًا في حقّه، ولا شكّ في أن هذا مُحَرَّم، معلوم التحريم، فمن فعل ذلك مستحلًّا، فهو كافرٌ حقيقةً، فيبقى الحديث على ظاهره، وأما إن كان غير مُستحلّ، فيكون الكفر الذي في الحديث محمولًا على كفران النعم والحقوق، فإنه قابل الإحسان بالإساءة، ومن كان كذلك صدق عليه اسم الكافر، وعلى فعله أنه كفر لغةً وشرعًا على ما قرّرناه، ويحتمل أن يقال: أَطلق عليه ذلك؛ لأنه تشبّه بالكفّار، أهل الجاهليّة، أهلِ الكبر والأنَفَة، فإنهم كانوا يفعلون ذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
[تنبيه]: وقع في رواية أبي ذرّ الهرويّ لـ "صحيح البخاريّ" قوله: "إلَّا كفر بالله" بزيادة لفظ "بالله"، فقال في "الفتح": كذا وقع هنا "كَفَرَ بالله"، ولم يقع قوله:"بالله" في غير رواية أبي ذر، ولا في رواية مسلم، ولا الإسماعيلي، وهو أولى، وإن ثبت ذاك، فالمراد مَن استحلّ ذلك، مع علمه بالتحريم، وعلى الرواية المشهورة، فالمراد كفر النعمة، وظاهر اللفظ غير مراد، وإنما وَرَدَ على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك، أو المراد بإطلاق الكفر أنّ فاعله فَعَلَ فِعْلًا شبيهًا بفعل أهل الكفر. انتهى
(2)
.
(وَمَن ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهره التبرّي المطلق، فيبقى على ظاهره في حقّ المستحلّ لذلك على ما تقدّم، ويُتأَوَّل في حقّ غير المستحلّ بأنه ليس على طريقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا على طريقة أهل دينه، فإن ذلك ظُلْمٌ، وطريقة أهل الدين العدلُ، وترك الظلم، ويكون هذا
(1)
"المفهم" 1/ 254.
(2)
"الفتح" 6/ 624.
كما قال: "ليس منا من ضَرَبَ الخدود، وشقَّ الْجُيُوب"
(1)
، ويقرُبُ منه:"من لَمْ يأخذ من شاربه، فليس منا"
(2)
(وَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي فَلْيَنْزِل مَنْزِله منها، أو فليتخذ مَنْزلًا بها، وهو دعاء عليه، وقيل: هو خبر بلفظ الأمر، واستظهره النوويّ، ومعناه: هذا جزاؤه إن جوزي، ثم هو قد يُجَازَى بذلك، وقد يَعْفُو الله تعالى عنه، وقد يُوفِّقه للتوبة، فيسقط عنه ذلك.
(وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ) أي ناداه به، كأن يقول له: يا كافرُ، والتعبير بالرجل للغالب، وإلا فالمرأة لو دُعيت بذلك لكان الحكم كذلك (أَوْ قَالَ) له (عَدُوَّ اللهِ) بالنصب على حذف حرف النداء، أي يا عدوّ الله، ويحتمل أن يكون مرفوعًا، خبرًا لمحذوف، أي أنت أو هو عدوّ الله، وقال النوويّ: ضبطنا "عدوّ الله" على وجهين: الرفع والنصب، والنصب أرجح على النداء، أي يا عدوَّ الله، والرفع على أنه خبرُ مبتدأ، أي هو عدوُّ الله كما تقدم في الرواية الأخرى:"قال لأخيه: كافر"، فإنا ضبطناه كافرٌ بالرفع والتنوين، على أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
(وَلَيْسَ كَذَلِكَ) جملة في محلّ نصب، أي والحال أن ذلك الرجل ليس كما وصفه، بأن كان بريئًا من الكفر، ومتّقيًا لله تعالى (إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ) أي إلَّا رجع على القائل ذلك الدعاء، أي معرّته، وإثمه، كما أسلفنا تحقيقه.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله: "إلَّا حار عليه": فمعناه: رجع عليه، والْحَوْرُ: الرجوع، ومنه قوله تعالى:{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} [الانشقاق: 14]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أعوذ بك من الْحَوْر بعد الْكَوْن"، رواه مسلم، وعند الترمذيّ وابن ماجة:"بعد الكَوْر" بالراء، قال القاضي: يكون "باء" ها هنا بمعنى رَجَعَ، كما جاء في الحديث نفسه، وقيل: رجعت عليه نقيصته لأخيه، كما قال إذا لَمْ يكن لذلك أهلًا بكذبه عليه، وقيل: إذا قاله لمؤمن صحيح الإيمان مثله، ورماه بالكفر، فقد كفّر نفسه؛ لأنه مثله، وعلى دينه. انتهى
(4)
.
(1)
رواه البخاريّ (3519)، ومسلم (103)، والترمذيّ (999)، والنسائيّ (4/ 20).
(2)
حديث صحيح، رواه الترمذي (2762)، والنسائيّ 1/ 15.
(3)
"شرح مسلم" 2/ 50 - 51.
(4)
"إكمال المعلم" 1/ 348 - 350.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "إلَّا حار عليه" هذا الاستثناء قيل: إنه واقع على المعنى، وتقريره: ما يدعوه أحدٌ إلَّا حار عليه، ويحتمل أن يكون معطوفًا على الأول، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل
…
"، فيكون الاستثناء جاريًا على اللفظ
(1)
.
ولفظ أبي عوانة: "لا يرمي رجلٌ رجلًا بالكفر إلَّا ارتدّت، إن لَمْ يكن صاحبها كذلك"، وفي رواية له:"من ادّعى إلى غير أبيه، فليس منا، ومن ادّعى ما ليس له، فليس منّا، ومن رمى رجلًا بالكفر، أو رماه بالفسق، وليس كذلك، ارتدّت عليه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[29/ 224](61)، و (البخاريّ) في "مناقب قريش" 4/ 219 (3508)، و"الأدب" 8/ 18 (6545)، وفي "الأدب المفرد"(432 و 433)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 166 و 181)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(55 و 56)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(215)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إطلاق الكفر على المعاصي، وأنها تنافي كمال الإيمان، وهو الغرض الذي أراده المصنّف رحمه الله تعالى بإيراد الحديث هنا.
2 -
(ومنها): بيان تحريم الانتفاء من النسب المعروف، والادّعاء إلى غيره.
3 -
(ومنها): أن تقييده بالعلم مما لا بدّ منه في الحالتين: إثباتًا ونفيًا؛ لأن الإثم إنما يترتب على العالم بالشيء المتعمِّد له.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 50.
4 -
(ومنها): بيان تحريم دعوى ما ليس له في كلّ شيء، سواءٌ تعلق به حقٌّ لغيره أم لا، وفيه أنه لا يَحِل له أن يأخذ ما حَكَم له به الحاكم، إذا كان لا يستحقُّه.
قال في "الفتح": يؤخذ من الحديث تحريم الدعوى بشيء، ليس هو للمدعِي، فيدخل فيه الدعاوي الباطلة كلها، مالًا، وعِلْمًا، وتعلُّمًا، ونَسَبًا، وحالًا، وصلاحًا، ونعمةً، وولاءً، وغير ذلك، ويزداد التحريم بزيادة المفسدة المترتبة على ذلك.
5 -
(ومنها): أن هذا الحديث يدلّ على أن حكم الحاكم لا يُحلّ حرامًا، خلافًا لما نُقل عن بعضهم من أن حكمه يُحلّه، قال الكاسانيّ من الحنفيّة مبيّنًا هذا على مذهب أبي حنيفة: وأما بيان ما يُحلّه القضاء، وما لا يُحلّه، فالأصل أن قضاء القاضي بشاهدي الزور فيما له ولاية إنشائه في الجملة يفيد الحلّ عند أبي حنيفة رحمه الله، وقضاؤه بهما فيما ليس له ولاية إنشائه أصلًا لا يفيد الحلّ بالإجماع. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا من أغرب ما يُسمع من الأقوال الساقطة، فإن هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها المتّفق عليه:"فمن قضيت له بحقّ مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها، أو فليتركها"، فإنه لا فرق في هذا بين الأموال والفروج، وهؤلاء فرّقوا بينهما، فقالوا: إن قضاء القاضي لا يُحلّ المال الحرام، وأما الأبضاع، فيُحلّها، فلو جاء شخص بشاهدي زور، فأشهدهما على امرأة بأنها زوجته، فقضى القاضي بذلك قالوا: يحلّ له وطؤها، وهو يعلم أنه لَمْ يتزوجها قط، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله.
قال الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى: إنه لا فرق في دعوى حلّ الزوجة لمن أقام بتزويجها شاهدي زور، وهو يعلم بكذبهما، وبين من ادّعى على حرّ أنه ملكه، وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حرّيّته، فإذا حكم له الحاكم بأنه ملكه لَمْ يحلّ له أن يسترقّه بالإجماع.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: القول بأن حكم الحاكم يُحلّ ظاهرًا
(1)
"بدائع الصنائع" 7/ 15.
وباطنًا مخالف لهذا الحديث الصحيح، وللإجماع السابق على قائله، ولقاعدة أجمع العلماء عليها، ووافقهم القائل المذكور، وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال. انتهى
(1)
.
وسيأتي تمام البحث في هذا عند شرح حديث أم سلمة المذكور في "كتاب الأقضية" - إن شاء الله تعالى -.
6 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: إن هذا الحديث يدخل تحته ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوي، من نصب مُسخَّر
(2)
يدّعي في بعض الصور حفظًا لرسم الدعوى والجواب، وهذا المسخَّر يدّعي ما يعلم أنه ليس له، والقاضي الذي يُقيمه عالم بذلك أيضًا، وليس حفظ هذه القوانين من المنصوصات في الشرع، حتى يُخَصَّ به عموم هذا الوعيد، وإنما المقصود الأكبر في القضاء إيصال الحقّ لمستحقّه، فانخرام هذه المراسيم الْحُكميّة مع تحصيل مقصود القضاء، وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها أولى من مخالفة هذا الحديث، والدخول تحت هذا الوعيد العظيم الذي دلّ عليه، وهذه طريقة أصحاب مالك، أعني عدم التشديد في هذه المراسيم. انتهى
(3)
، وهو استنباط حسنٌ، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد أيضًا: في هذا الحديث وعيد عظيم لمن أكفر أحدًا من المسلمين، وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة، وقع فيها خلق كثير من المتكلّمين، ومن المنسوبين إلى السنّة، وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلّظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم، وخَرَقَ حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشويّة، وهذا الوعيد لاحقٌ بهم إذا لَمْ يكن خصومهم كذلك. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وقد تقدّم تمام البحث في مسألة التكفير بما فيه الكفاية، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 188 "كتاب الإحكام".
(2)
"المسخّر" هو الذي يدعي مجّانًا، أو ينصبه القاضي بدلًا عن الغائب.
(3)
"إحكام الإحكام" 4/ 282 - 283 بنسخة الحاشية.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[225]
(62) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) بن الْهَيْثَم بن محمد بن الْهَيْثَم بن فَيْروز التميمي الأَيْليُّ - بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة - السَّعْدي مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقة فاضل [10].
رَوَى عن ابن عيينة، وابن وهب، وأبي ضَمْرة، وخالد بن أبي نِزَار، ومؤمل بن إسماعيل، وبشر بن بكر.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو حاتم، ومحمد بن وَضَّاح، وبَقِيّ بن مَخْلَد، والمعمريّ، وزكرياء الساجيّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: لا بأس به، وقال في موضع آخر: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو عُمَر الْكِنديّ: كان فقيهًا، من أصحاب ابن وهب، وقال مسلمة بن قاسم: كان مُقَدَّمًا في الحديث فاضلًا.
وقال ابن يونس: تُوُفّي في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان مولده سنة سبعين ومائة، وكان ثقةً، وكان قد ضَعُفَ ولزم بيته. وله في هذا الكتاب (112) حديثًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقة حافظ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة فقيهٌ حافظٌ [7](ت قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحبيل بن حَسَنَة الْكِنديّ، أبو شُرحبيل المصريّ، ثقة [5].
رَأَى عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيْديّ الصحابيّ، ورَوَى عن الأعرج،
وعِرَاك بن مالك، وأبي سلمة، وبُكير بن الأشجّ، وبكر بن سَوَادة، والزهريّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه بَكْر بن مُضَر، وحَيْوَة بن شُرَيح، وسعيد بن أبي أيوب، وعمرو بن الحارث، وابن لهيعة، والليث، ونافع بن يزيد، ويحيى بن أيوب، وروى عنه يزيد بن أبي حبيب، وهو من أقرانه.
قال أحمد: كان شيخًا من أصحاب الحديث، ثقةً، وقال أبو زرعة: صدوقٌ، وقال النسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وقال الآجري، عن أبي داود: لم يسمع من الزهريّ، وقال الطحاويّ: لا نعلم له من أبي سلمة سماعًا.
وقال ابن يونس: تُوُفّي سنة (136).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
5 -
(عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) الغِفَاريُّ الكِنَانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3].
رَوَى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وزينب بنت سلمة، وحفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابنه عبد الملك بن أبي بكر، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، ونوفل بن معاوية الدِّيليّ، والزهريّ، وهو أصغر منه.
ورَوَى عنه ابناه: خُثَيم، وعبد الله، وسليمان بن يسار، وهو من أقرانه، والحكم بن عتيبة، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ويزيد بن أبي حبيب المصريّ، وزياد بن أبي زياد، مولى ابن عباس، وجعفر بن ربيعة المصريّ، ومكحول الشاميّ، وعُقَيل بن خالد، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز.
قال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقةٌ، من خيار التابعين، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال أيوب بن سُويد، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: ما كان أبي يَعْدِل بعراك بن مالك أحدًا، وقال أبو الْغُصْن: فرأيته يصوم الدهر، وقال أحمد بن حنبل، فيما رَوَى ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن الأثرم، وذكر حديث خالد بن أبي الصَّلْت، عن عراك: سمعت عائشة مرفوعًا: "حَوِّلُوا مقعدتي إلى القبلة"، فقال: مرسلٌ، عراك بن مالك من أين سمع عن عائشة؟،
إنما يروي عن عروة، هذا خطأ، ثم قال: من يَرْوِي هذا؟ قلت: حماد بن سلمة، عن خالد الحذّاء، فقال: قال غير واحد: عن خالد الحذّاء، ليس فيه: سمعت، وقال غير واحد أيضًا عن حماد بن سلمة: ليس فيه: سمعت، وقال أحمد في موضع آخر: أحسن ما رُوِيَ في الرخصة - يعني في استقبال القبلة - حديثُ عِرَاك، وإن كان مرسلًا، فإن مَخْرَجه حسن.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال موسى بن هارون: لا نعلم لِعِراك سماعًا من عائشة.
وقال الزُّبير بن بَكّار، عن محمد بن الضحاك، عن المنذر بن عبد الله: إن عِرَاك بن مالك كان من أشدّ أصحاب عمر بن عبد العزيز علي بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، فَلَمّا وَلي يزيد بن عبد الملك وَلَّى عبد الواحد النَّصْريّ على المدينة، فَقَرَّب عِرَاكًا، وقال: صاحب الرجل الصالح، وكان يَجلس معه على سريره، فبينا هو يومًا معه، إذ أتاه كتاب يزيد: أَنِ ابْعَث مع عِرَاك حَرَسِيًّا حتى يُنْزِله دَهْلَك، وخُذ من عِرَاك حَمُولته، فقال عبد الواحد لحرسيّ: خذ بيد عِراك فابتع من ماله راحلةً، ثم توجه إلى دَهْلَك حتى تُقِرّه بها، ففعل الْحَرسيّ ذلك، وما تركه يَصِل إلى أمه، قال: وكان أبو بكر بن حزم قد نَفَى الأحوص الشاعر إلى دَهْلَك، فلما ولي يزيد بن عبد الملك أرسل إلى الأحوص، فأقدمه عليه، فمدحه الأحوص، فأكرمه، وقال ضِمَام بن إسماعيل، عن عُقَيل بن خالد: كُنت بالمدينة في الْحَرَس، فلما صليتُ العصر إذ برجل يتخطى الناس، حتى دنا من عِرَاك بن مالك، فلطمه حتى وقع، وكان شيخًا كبيرًا، ثم جَرّ برجله، ثم انطلق به حتى حَصّل في مركب في البحر إلى دَهْلك، فكان أهل دهلك يقولون: جزى الله عنا يزيد خيرًا، أخرج إلينا رجلًا عَلّمنا اللهُ الخيرَ على يديه.
قال ابن سعيد وغيره: مات بالمدينة في خلافة يزيد بن عبد الملك، قال الحافظ: فإن صحّ هذا، فمقتضاه أنه لم تَطُل إقامته بدهلك، ولم أر من صَرّح بأنه مات بالمدينة غير ابن سعد، وكلهم قالوا: مات في زمن يزيد بن عبد الملك.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (17) حديثًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين، غير الصحابيّ، وعراك، فمدنيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: جعفر، عن عِرَاك.
5 -
(ومنها): أن هارون، وجعفرًا، وعِرَاكًا هذا أول محلّ ذكرهم في هذا الكتاب، وجملة ما رواه المصنّف لهارون (112) ولجعفر (12) ولعِراك (17) حديثًا، كما أسلفته آنفًا.
6 -
(ومنها): أنه لا يوجد من يُسمّى بعراك في الكتب الستّة إلا ابن مالك هذا، ولهم راوٍ آخر يقال له: عراك بن خالد المرّيّ الدمشقيّ، متروك من الطبقة السادسة، ليس له في الكتب الستة شيء، وإنما روى له أبو داود في "كتاب القدر" له فقط، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عِرَاكِ) بكسر العين المهملة، وتخفيف الراء (ابْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ) أي لا تتركوا الانتساب إليهم، فتتنسبوا لغيرهم؛ رغبةً عنهم، وجحدًا لأبوّتهم، قال النوويّ: يقال: رَغِبَ عن أبيه: أي تَرَك الانتساب إليه، وجَحَدَه، ويقال: رَغِبتُ عن الشيء: تركتُهُ، وكَرِهتُهُ، ورَغِبتُ فيه: اخترتُهُ، وطلبته. انتهى.
وقال في "القاموس": رَغِبَ فيه، كسَمِع رَغْباءً، ويُضمّ، ورَغْبَةً: أراده، كارتغَبَ، ورَغِبَ عنه: لم يُرده، ورَغِبَ إليه رَغَبًا محرَّكةً، ورَغْبَى، ويُضمّ، ورَغْبَاءً، كصحراءَ، ورَغَبُوتًا، ورَغَبُوتى، ورَغَبَانًا، محرّكات، ورُغْبَةً، ويُحرَّك: ابتَهَلَ، أو هو الضَّرَاعة والمسألة. انتهى
(1)
.
(1)
"القاموس المحيط" ص 84 - 85.
وفي "المصباح": رَغِبتُ في الشيء، ورَغِبتُهُ، يتعدّى بنفسه أيضًا: إذا أردته، رَغْبًا بفتح الغين، وسكونها، ورُغْبَى بفتح الراء وضمها، ورَغْبَاءً بالفتح والمدّ، ورَغِبتُ عنه: إذا لم تُرده. انتهى
(1)
.
(فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ) أي كَرِه الانتساب إليه، وقوله:(فَهُوَ كُفْرٌ) على حذف مضاف، أي ذو كفر، أو من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، أي كافر، أو وُصف به مبالغةً، كما يقال: زيدٌ عدْلٌ.
ويحتمل أن يكون "هو" راجعًا إلى الرَّغَبِ المفهوم من "رَغِبَ"، أي رغَبُهُ كفر، ولفظ أبي نعيم:"فقد كفر".
قال المازريّ رحمه الله تعالى: هذا يُتأول على ما تقدّم من الاستحلال، أو يكون أراد الكفر اللغوي، بمعنى جَحَدَ حقّ الله، وستره. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل ما أشار إليه أن الانتساب إلى غير الأب يكون عن عقوق، أو كذب، أو قذف، وليس شيء من ذلك كفرًا يُخرج عن الملّة، ولذلك تأول أهل السنّة هذا الحديث على نحو ما تأولوا الأحاديث السابقة، وأنه لا ينصرف إلى الكفر الْمُخْرِج عن الملّة إلا في حق المستحلّ، فيكون المراد كفرَ النعمة، وجحدَ الإحسان، أو يكون المعنى أن عمله شبيه بعمل أهل الكفر، فإن هذا عمل من أعمال الجاهليّة، كما سبق تحقيقه.
وقال في "الفتح": قوله: "فهو كفر" كذا للأكثر، وكذا لمسلم، ووقع للكشميهني:"فقد كَفَرَ"، وسيأتي في "باب رجم الحبلى من الزنا" في حديث عمر الطويل:"لا ترغبوا عن آبائكم، فهو كفر بربكم".
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: ليس معنى الحديث أن من اشتهر بالنسبة إلى غير أبيه أنه يدخل في الوعيد، كالمقداد بن الأسود، وإنما المراد به مَنْ تَحَوَّل عن نسبته لأبيه إلى غير أبيه عالِمًا عامدًا مختارًا، وكانوا في الجاهلية لا يستنكرون أن يَتَبَنَّى الرجلُ ولدَ غيره ويصير الولد يُنْسَب إلى الذي تبناه، حتى نزل قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، وقوله سبحانه وتعالى:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، فَنُسِب كل واحد إلى أبيه
(1)
"المصباح" 1/ 231.
(2)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 351.
الحقيقيّ، وتُرِك الانتساب إلى من تبناه، لكن بقي بعضهم مشهورًا بمن تبنّاه، فيُذكَر به؛ لقصد التعريف، لا لقصد النسب الحقيقيّ، كالمقداد بن الأسود، وليس الأسود أباه، وإنما كان تبنّاه، واسم أبيه الحقيقيّ عمرو بن ثَعْلبة بن مالك بن ربيعة الْبَهْرَانِيّ، وكان أبوه حَلِيف كِندَة، فقيل له الكنديّ، ثم حالف هو الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، فتبنى المقدادَ، فقيل له: ابن الأسود. انتهى مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا.
قال: وليس المراد بالكفر حقيقة الكفر التي يُخَلَّد صاحبها في النار، وبسط القول في ذلك، وقال بعض الشراح: سبب إطلاق الكفر هنا أنه كَذِبٌ على الله، كأنه يقول: خلقني الله من ماء فلان، وليس كذلك؛ لأنه إنما خلقه من غيره.
واستُدِلّ به على أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتّفق عليه: "ابنُ أخت القوم من أنفسهم"، وقوله:"مولى القوم من أنفسهم" ليس على عمومه؛ إذ لو كان على عمومه، لجاز أن يُنْسَب إلى خاله مثلًا، وكان مُعارضًا لحديث الباب المصرِّح بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك، فعُرِفَ أنه خاصّ، والمراد به أنه منهم في الشفقة والبر والمعاونة، ونحو ذلك. انتهى ما في "الفتح"
(1)
. وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في بيان تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[29/ 225](62)، و (البخاريّ) في "الفرائض"(6768)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 526)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(57)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(216)، و (ابن منده) في "الإيمان"(590 و 591 و 592)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 368)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 12/ 66 - 67 "كتاب الفرائض" رقم الحديث (6766 - 6768).
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[226]
(63) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو والنَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: لَمَّا ادُّعِيَ زِيَادٌ، لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟ إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، يَقُولُ: سَمِعَ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ: "مَن ادَّعَى أَبًا فِي الإِسْلَام، غَيْرَ أَبِيه، يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيه، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزل الرَّقّة، ثقةٌ حافظٌ، وَهِمَ في حديث [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ) السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(خَالِدٌ) بن مِهْران الحذّاء، أبو الْمُنَازل
(1)
البصريّ، ثقةٌ، يُرسل [5](ت 141)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ) هو: عبد الرحمن بن مِلّ النَّهْديّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ مخضرم، من كبار [2](ت 95)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
[تنبيه]: "النَّهْديُّ" بفتح النون، و"مِلّ" بفتح الميم، وكسرها، وضمها، مع تشديد اللام، ويقال: مِلْء - بالكسر، مع إسكان اللام وبعدها همزة - قاله النوويّ
(2)
.
5 -
(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (ت 55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
6 -
(أَبُو بَكْرَةَ) هو: نُفَيع بن الحارث بن كَلَدَة بن عمرو بن عِلاج بن أبي
(1)
بفتح الميم، وضمها.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 53.
سلمة، واسمه عبد الْعُزّى بن غِيَرَة بن عوف بن قيس، وهو ثَقِيف، الثَّقَفيّ، وقيل: اسمه مَسْرُوح، وبه جزم ابن إسحاق، وقيل: هو ابن مسرح، وبه جزم ابن سعد، وقيل: كان أبوه عبدًا للحارث بن كَلَدَة، يقال له: مسروح، فاستَلْحَق الحارث أبا بكرة، وهو أخو زياد ابن سُمَيَّة لأمه، وكانت سُمَيِّة أمةً للحارث بن كَلَدة، وإنما قيل له: أبا بَكْرَة لأنه تَدَلَّى من حِصْن الطائف إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقه يومئذ، مات سنة (1 أو 52)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 481.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، إلا شيخه، فبغداديّ، وهُشيمًا، فواسطيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم: خالد الحذّاء، عن أبي عثمان.
5 -
(ومنها): أن أبا عثمان ممن اشتهر بكنيته، وهو مخضرم، معمّر، يقال: عاش (130) ويقال: (140) سنة، وهو معدود فيمن عاش في الجاهليّة ستين سنة، وفي الإسلام أكثر من ذلك
(1)
، واسم أبيه "مَلّ" مثلّث الميم، ومشدّد اللام، ولا مشارك له في ذلك.
6 -
(ومنها): أن أبا بكرة لقب بصورة الكنية، وقد سبق آنفًا سبب تلقيبه به.
7 -
(ومنها): أن هذا الحديث من مسند سعد بن أبي وقّاص، وأبي بكرة، فأبو عثمان يرويه عن كليهما رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ رحمه الله تعالى أنه (قَالَ: لَمَّا
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 556.
ادُّعِيَ) بضم الدال، وكسر العين، مبنيًّا لما لم يسم فاعله، وقوله:(زِيَادٌ) مرفوع على أنه نائب فاعله، أي ادعاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أخًا له، وذكر أبو عمرو بن الصلاح أنه وجده مضبوطًا بخط الحافظ أبي عامر الْعَبْدريّ:"ادَّعَى" بفتح الدال مبنيًّا للفاعل، وعليه فزيادٌ مرفوع على الفاعليّة، يعني أن زيادًا هو الفاعل للدعوة، ومعنى ادّعائه تصديقه لمعاوية، وذلك أن معاوية لَمّا ادّعاه، وصدَّقه زياد صار زياد مُدَّعيًا أنه ابن أبي سفيان.
وأصل هذا أن زيادًا هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان، ويقال فيه: زياد ابن أبيه، ويقال: زياد ابن أمه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وكان يعرف بزياد بن عُبيد الثقفيّ، ثم ادّعاه معاوية بن أبي سفيان، وألحقه بأبيه أبي سفيان، وصار من جملة أصحابه، بعد أن كان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلهذا قال أبو عثمان لأبي بكرة:"ما هذا الذي صنعتم؟ "، وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك، وهَجَرَ بسببه زيادًا، وحلَفَ أن لا يكلمه أبدًا، قاله النوويّ
(1)
.
وقال في "الفتح": والمراد بزياد الذي ادُّعِي هو زياد ابن سُمَيَّة، وهي أمه، كانت أمة للحارث بن كَلَدَة، زوّجها لمولاه عبيد، فأتت بزياد على فراشه، وهم بالطائف قبل أن يُسْلِم أهل الطائف، فلما كان في خلافة عمر، سمع أبو سفيان بن حرب كلام زياد، عند عمر، وكان بليغًا فأعجبه، فقال: إني لأعرف مَن وضعه في أمه، ولو شئت لسميته، ولكن أخاف من عمر، فلما ولي معاوية الخلافة، كان زياد على فارس من قبل علي رضي الله عنه، فأراد مداراته فأطمعه في أن يُلحِقه بأبي سفيان، فأصغى زياد إلى ذلك، فجرت في ذلك خطوب، إلى أن ادّعاه معاوية، وأمَّره على البصرة، ثم على الكوفة، وأكرمه، وسار زياد سيرته المشهورة، وسياسته المذكورة، فكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية، محتجين بحديث:"الولد للفراش"، وإنما خص أبو عثمان أبا بكرة بالإنكار؛ لأن زيادًا كان أخاه من أمه
(2)
.
(لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ) رضي الله عنه (فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟) قال النوويّ
(1)
"شرح مسلم" 2/ 52.
(2)
راجع: "الفتح" 12/ 54.
رحمه الله تعالى: معنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة رضي الله عنه، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حين قال له هذا الكلام، أو يكون مراده بقوله:"ما هذا الذي صنعتم؟ " أي ما هذا الذي جرى من أخيك؟ ما أقبحه! وأعظم عقوبته! فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَرَّم على فاعله الجنة. انتهى.
(إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعَ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ: هكذا ضبطناهَ "سَمِعَ" بكسر الميم، وفتح العين، و"أذناي" بالتثنية، وكذا نَقَل الشيخ أبو عَمْرو كونه "أذناي" بالألف على التثنية، عن رواية أبي الفتح السَّمَرْقَنديّ، عن عبد الغافر، قال: وهو فيما يُعْتَمَد من أصل أبي القاسم العساكريّ وغيره: "أُذُنِي" بغير ألف.
وحَكَى القاضي عياض أن بعضهم ضبطه بإسكان الميم، وفتح العين، و"أُذُني" بلفظ الإفراد، قال: ضبطناه من طريق الْجَيَّانيّ بضم العين، مع إسكان الميم، وهو الوجه، قال سيبويه: العرب تقول: سَمْعُ أُذُني زيدًا يقول كذا، وحَكَى عن القاضي الحافظ أبي عليّ بن سكرة أنه ضَبَطَه بكسر الميم، كما ذكرناه أوّلًا، وأنكره القاضي وليس إنكاره بشيء، بل الأوجُهُ المذكورة كلُّها صحيحة ظاهرة، ويؤيد كسر الميم قوله في الرواية الأُخرى:"سمعته أذناي، ووعاه قلبي". انتهى كلام النوويّ
(1)
.
(وَهُوَ يَقُولُ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، أو هي المفعول الثاني على قول بعض النحاة: إن "سمع" من أخوات "ظنّ" تنصب مفعولين إذا كان الثاني مما يُسْمَعُ ("مَنْ) شرطيّة (ادَّعَى) بالبناء للفاعل (أَبًا فِي الإِسْلَامِ) متعلّق بـ "ادّعى" خرج به من ادّعى، وانتسب في الجاهليّة، فإنه لا يُحرم الجنّة؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وإنما يبطل انتسابه فقط (غَيْرَ أَبِيهِ) منصوب على المفعوليّة لـ "ادّعَى"، وقوله:(يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول، واحترز به عن من ادّعى غير عالم لذلك، فإنه لا يُحرم عليه، ولا يُحرم الجنّة؛ لعدم علمه (فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ") أي ممنوعة الدخول عليه.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 53.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: فيه التأويلان اللذان قدمناهما في نظائره:
[أحدهما]: أنه محمول على مَن فعله مُسْتَحِلًّا له.
[والثاني]: أن جزاءه أنها مُحَرّمة عليه أوّلًا عند دخول الفائزين، وأهل السلامة، ثم إنه قد يُجازَى، فيُمنعها عند دخولهم ثم يدخلها بعد ذلك، وقد لا يُجَازَى، بل يعفو الله سبحانه وتعالى عنه. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ) رضي الله عنه (وَأَنَا سَمِعْتُهُ) أي سمعتُ هذا الكلام المشتمل على الوعيد الشديد (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) يعني أبو بكرة بذلك أنه سمعه بنفسه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذا أنكر على أخيه زياد، وحلف أن لا يكلّمه أبدًا؛ هجرًا له، وسيأتي ما قاله أهل العلم في الجواب عن استلحاق معاوية رضي الله عنه زيادًا هذا في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي عثمان النهديّ رحمه الله تعالى، عن سعد بن أبي وقّاص، وأبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[29/ 226 و 227](63)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4326)، و"الفرائض"(4327 و 6766 و 6767)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(885 و 199)، و (أبو داود) في "الأدب"(5113)، و (ابن ماجه) في "الحدود"(2610)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 169 و 174 و 179 و 5/ 38 و 46) و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 244 و 343)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(415 و 416)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(75 و 76 و 77 و 78 و 79 و 80 و 81)، و (أبو نُعيم)(217 و 218)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2376)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في الجواب عن استلحاق معاوية رضي الله عنه زيادًا هذا:
(1)
"شرح مسلم" 2/ 52.
وقد أجاد الكلام في ذلك القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ رحمه الله تعالى في كتابه النافع "العواصم من القواصم"، فأطال النفس فيه، ومما قاله فيه خلال كلامه الطويل: أما نكتة الكلام، وهو القول في استلحاق معاوية زيادًا، وأخذ الناس عليه في ذلك، فأيّ أخذ عليه فيه، إن كان سمع ذلك من أبيه؟ وأيُّ عار على أبي سُفيان في أن يُليط بنفسه ولد زنا كان في الجاهليّة؟ فمعلوم أن سُميّة لم تكن لأبي سفيان كما لم تكن وليدةُ زَمْعَة لعُتبة، لكن كان لعتبة منازع تعيّن القضاء له، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد.
اللهم إن ها هنا نكتةً اختَلَف العلماء فيها، وهي أن الأخ إذا استلحق أخًا يقول: هو ابن أبي، ولم يكن له منازع، بل كان وحده، فقال مالك: يرث، ولا يثبتُ النسب، وقال الشافعيّ في أحد قوليه: يثبت النسب، ويأخذ المال، هذا إذا كان الْمُقَرّ به غير معروف النسب.
قال: فالحارث بن كَلَدَة لم يَدّع زيادًا، ولا كان إليه منسوبًا، وإنما كان ابن أمته وُلد على فراشه، أي في داره، فكلُّ من ادّعاه فهو له، إلا أن يُعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مَغْمَز، بل فَعَل فيه الحقّ على مذهب مالك.
فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة رضي الله عنهم؟.
قلنا: لأنها مسألة اجتهاد، فمن رأى أن النسب لا يَلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك، وعظّمه. انتهى كلامه باختصار
(1)
، وهو دفاع نفيسٌ عن هذا الصحابيّ الجليل معاوية رضي الله عنه، وهكذا ينبغي أن ندافع عن الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم إن أصابوا فيما اجتهدوا فيه فلهم أجران، وإن أخطئوا، فخطؤهم مغفور، ولهم أجر في اجتهادهم رضي الله عنهم.
ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في هذا الموضوع، حيث قال خلال كلامه الطويل:
وكذلك استلحاق معاوية رضي الله عنه زياد ابن أبيه المولود على فراش الحارث بن كَلَدَة لكون أبي سفيان كان يقول: إنه من نطفته، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد قال: "من
(1)
"العواصم من القواصم" ص 184، 186 بتحقيق محبّ الدين الخطيب.
ادَّعَى إلى غير أبيه، وهو يَعْلَم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام"، وقال: "من ادَّعَى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقْبَل الله منه صرفًا ولا عدلًا"، حديث صحيح، وقَضَى أن الولد للفراش، وهو من الأحكام المجمع عليها، فنحن نعلم أن مَن انتسب إلى غير الأب الذي هو صاحب الفراش، فهو داخل في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه لا يجوز أن يُعَيَّن أحد دون الصحابة فضلًا عن الصحابة، فيقالَ: إن هذا الوعيد لاحق به؛ لإمكان أنه لم يبلغهم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش، واعتقدوا أن الولد لمن أحبل أمه، واعتقدوا أن أبا سفيان هو الْمُحْبِل لسُمَيّة، أم زياد، فإن الحكم قد يَخْفَى على كثير من الناس، لا سيما قبل انتشار السنة، مع أن العادة في الجاهلية كانت هكذا، أو لغير ذلك من الموانع المانعة هذا المقتضَى للوعيد، أن يَعْمَل عمله من حسنات تمحو السيئات، وغير ذلك.
وهذا باب واسع، فإنه يدخل فيه جميع الأمور المحرمة بكتاب أو سنة، إذا كان بعض الأمة لم يبلغهم أدلة التحريم، فاستحلُّوها، أو عارض تلك الأدلة عندهم أدلة أخرى، رأوا رجحانها عليها، مجتهدين في ذلك الترجيح، بحسب عقلهم وعلمهم، فإن التحريم له أحكام من التأثيم والذم والعقوبة والفسق، وغير ذلك، لكن لها شروط وموانع، فقد يكون التحريم ثابتًا، وهذه الأحكام منتفية؛ لفوات شرطها، أو وجود مانع، أو يكون التحريم منتفيًا في حقّ ذلك الشخص، مع ثبوته في حق غيره.
وانما ردّدنا الكلام؛ لأن للناس في هذه المسألة قولين:
[أحدهما]: وهو قول عامّة السلف، والفقهاء أن حكم الله واحد، وأن من خالفه باجتهاد سائغ مخطئٌ معذورٌ مأجورٌ، فعلى هذا يكون ذلك الفعل الذي فعله المتأول بعينه حرامًا، لكن لا يترتب أثر التحريم عليه؛ لعفو الله تعالى عنه، فإنه لا يُكَلِّف نفسًا إلا وسعها.
[والثاني]: في حقه ليس بحرام؛ لعدم بلوغ دليل التحريم له، وإن كان حرامًا في حقّ غيره، فتكون نفس حركة ذلك الشخص، ليست حرامًا، والخلاف متقارب، وهو شبيه بالاختلاف في العبارة.
فهذا هو الذي يمكن أن يقال في أحاديث الوعيد، إذا صادفت محل
خلاف؛ إذ العلماء مُجْمِعُون على الاحتجاج في تحريم الفعل المتوَعَّد عليه، سواء كان محلَّ وفاق، أو خلاف، بل أكثر ما يحتاجون إليه الاستدلال بها في موارد الخلاف، لكن اختلفوا في الاستدلال بها على الوعيد، إذا لم تكن قطيعة على ما ذكرناه. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو شافٍ كافٍ في إزالة مشكلة حديث الباب لمن تأمّله بإنصاف ذوي الألباب. وقد ضرب على هذا أمثلة كثيرة قبل هذا يوضّح المسألة، حيث قال في معرض البحث عن نصوص الوعيد:
وهذه القاعدة تظهر بأمثلة منها:
أنه قد صَحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَعَن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه"، وصحّ عنه من غير وجه أنه قال لمن باع صاعين بصاع يدًا بيد:"أَوَّهْ عينُ الربا"، كما قال: "البر بالبر ربًا إلا هاءَ وهاءَ
…
" الحديث، وهذا يوجب دخول نوعي الربا: ربا الفضل، وربا النسأ في الحديث.
ثم إن الذين بلغهم قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة"، فاستَحَلُّوا بيع الصاعين بالصاع يدًا بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنهما، وأصحابه: أبي الشَّعْثاء، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وغيرهم، من أعيان المكيين الذين هم من صفوة الأمة، علمًا وعملًا، لا يحل لمسلم أن يَعتقد أن أحدًا منهم بعينه، أو مَن قَلَّده بحيث يجوز تقليده تبلغهم لعنة آكل الربا؛ لأنهم فَعَلوا ذلك متأولين تأويلًا سائغًا في الجملة.
وكذلك ما نُقِل عن طائفة من فُضلاء المدنيين، من إتيان الْمَحَاش
(1)
مع ما رواه أبو داود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أتى امرأة في دبرها، فهو كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"، أفيستحلُّ مسلم أن يقول: إن فلانًا وفلانًا كانا كافرين بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟.
وكذلك قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لَعَن في الخمر عشرةً: عاصرَ الخمر، ومعتصرها، وشاربها، وثبت عنه من وجوه أنه قال:"كلُّ شراب أسكر فهو خمر"، وقال:"كل مسكر خمر"، وخطب عمر رضي الله عنه على منبره، فقال بين
(1)
أي وطء الزوجات في الدبر.
المهاجرين والأنصار: "الخمر ما خامر العقل"، وأنزل الله تحريم الخمر، وكان سبب نزولها ما كانوا يشربونه في المدينة، ولم يكن لهم شراب إلا الفَضِيخ، لم يكن لهم من خمر الأعناب شيء.
وقد كان رجال من أفاضل الأمة علمًا وعملًا، من الكوفيين يعتقدون أن لا خمر إلا من العنب، وأن ما سوى العنب والتمر لا يحرم من نبيذه إلا مقدار ما يُسْكِر، ويشربون ما يعتقدون حِلّه، فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد؛ لما كان لهم من العذر الذي تأوّلُوا به، أو لموانع أُخَر، فلا يجوز أن يقال: إن الشراب الذي شربوه ليس من الخمر الملعون شاربها، فإن سبب القول العامّ لا بُدّ أن يكون داخلًا فيه، ولم يكن بالمدينة خمر من العنب.
ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد لَعَنَ البائع للخمر، وقد باع بعض الصحابة خمرًا، حتى بَلَغَ عمر رضي الله عنه فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"لعن الله اليهود، حُرِّمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها"؟ ولم يكن يَعْلَم أن بيعها مُحَرَّمٌ، ولم يمنع عمر رضي الله عنه علمه بعدم علمه أن يُبَيِّن جزاء هذا الذنب؛ ليتناهى هو وغيره عنه بعد بلوغ العلم به، وقد لَعَنَ العاصر والمعتصر، وكثير من الفقهاء يُجَوِّزون للرجل أن يَعْصِر لغيره عِنَبًا، وإن عَلِم أن من نيته أن يتخذه خمرًا، فهذا نصٌّ في لعن العاصر، مع العلم بأن المعذور تَخَلَّف الحكمُ عنه لمانع.
وكذلك لَعَن الواصلة والموصولة في عِدّة أحاديث صحاح، ثم من الفقهاء من يَكْرَهه فقط.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الذي يَشْرَب في آنية الفضة، إنما يُجَرجِر في بطنه نار جهنم"، ومن الفقهاء من يَكْرَهه كراهة تنزيه.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، يجب العمل به في تحريم قتال المؤمنين بغير حقّ، ثم إنا نَعلم أن أهل الْجَمَل وصِفِّين ليسوا في النار؛ لأن لهما عُذْرًا، وتأويلًا في القتال، وحسناتٍ مَنَعَت الْمُقْتَضَى أن يَعْمَل عَمَله.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ثلاثة لا يُكَلِّمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجلٌ على فضل ماء، يمنعه ابنَ
السبيل، فيقول الله له: اليومَ أمنعُك فضلي، كما مَنَعتَ فضل ما لم تَعْمَل يداك، ورجل بايع إمامًا، لا يبايعه إلا لدنيا، إن أعطاه رضي، وإن لم يُعطه سَخِطَ، ورجل حَلَف على سِلعة بعد العصر كاذبًا، لقد أَعْطَى بها أكثر مما أَعْطَى".
فهذا وعيدٌ عظيمٌ لمن منع فضل مائه، مع أن طائفة من العلماء يُجَوِّزون للرجل أن يمنع فضل مائه، فلا يمنعنا هذا الخلافُ أن نعتقد تحريمَ هذا، محتجين بالحديث، ولا يمنعنا مجيء الحديث، أن نعتقد أن المتأَوِّل معذورٌ في ذلك، لا يَلْحَقه هذا الوعيد.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ الله المحلل، والمحلل له"، وهو حديث صحيح، قد رُوي عنه من غير وجه، وعن أصحابه، مع أن طائفة من العلماء، صَحَّحوا نكاح المحلِّل مطلقًا، ومنهم من صححه إذا لم يُشْتَرط في العقد، ولهم في ذلك أعذار معروفة، فإن قياس الأصول عند الأول أن النكاح لا يَبْطُل بالشروط، كما لا يبطل بجهالة أحد العوضين، وقياس الأصول عند الثاني أن العقود المجرَّدة عن شرط مُقتَرِن لا تغير أحكام العقود، ولم يبلغ هذا الحديث مَن قال هذا القول، هذا هو الظاهر، فإن كتبهم المتقدمة لم تتضمنه، ولو بلغهم لذكروه، آخذين به، أو مجيبين عنه، أو بلغهم وتأوَّلوه، أو اعتقدوا نسخه، أو كان عندهم ما يُعارضه، فنحن نَعلم أن مثل هؤلاء لا يصيبه هذا الوعيد، لو أنه فَعَل التحليل مُعتقدًا حِلّه على هذا الوجه، ولا يمنعنا ذلك أن نَعلم أن التحليل سبب لهذا الوعيد، وإن تخلف في حق الأشخاص؛ لفوات شرط، أو وجود مانع. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ وتحقيق أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[227]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ،
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 20/ 263 - 269.
كِلَاهُمَا يَقُولُ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَن ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيه، وَهُوَ يَعْلَمُ، أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيه، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ) خالد أو هُبَيرة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 183)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
4 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ، لم يتكلّم فيه إلا القطّان، وكأنه بسبب دخوله في الولاية [4](ت بعد 140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"أبو عثمان" هو: النَّهْديّ، وسعدٌ هو ابن أبي وقّاص، وأبو بكرة هو: نُفيع بن الحارث.
وقوله: (مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم) نُصب على أنه بدل من الضمير المنصوب في "سمعته أُذناي"، كما قال في "الخلاصة":
التَّابِعُ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ بِلَا
…
وَاسِطَةٍ هُوَ الْمُسَمَّى بَدَلَا
كَـ "زُرْهُ خَالِدًا وَقَبِّلْهُ الْيَدَا
…
واعْرِفْهُ حَقَّهُ وَخُذْ نَبْلًا مُدَى"
ومعنى قوله: "وعاه قلبي": أي حَفِظه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" رواية عاصم هذه، وفيها قصّة، فقال:
(4326)
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن عاصم، قال: سمعت أبا عثمان، قال: سمعت سعدًا - وهو أول مَن رَمَى بسهم في سبيل الله - وأبا بكرة، وكان تَسَوَّر حصن الطائف في أناس فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالا: سمعنا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن ادَّعَى إلى غير أبيه، وهو يَعْلَم فالجنة عليه حرام".
(4327)
وقال هشام: وأخبرنا معمر، عن عاصم، عن أبي العالية، أو أبي عثمان النَّهْديّ، قال: سمعت سعدًا وأبا بكرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال عاصم: قلت: لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما، قال: أجل، أما أحدهما، فأوَّلُ مَن رَمَى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنَزَل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثالثَ ثلاثة وعشرين من الطائف.
قال في "الفتح" ما ملخّصه: قوله: "عن عاصم" هو ابن سليمان، وأبو عثمان هو النَّهديّ، وأبو بكرة: اسمه نُفيع بن الحارث، وكان مولى الحارث بن كَلَدة الثقفيّ، فَتَدَلَّى من حصن الطائف ببكرة، فكُنِيَ أبا بكرة لذلك، أخرج ذلك الطبرانيّ بسند لا بأس به، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
وكان ممن نَزَل من حِصْن الطائف من عبيدهم، فأسلم فيما ذَكَر أهل المغازي منهم مع أبي بكرة: الْمُنْبَعِث، وكان عبدًاًا لعثمان بن عامر بن مُعَتِّب، وكذا مرزوق، والأزرق زوج سُمَيّة والدة زياد بن عُبيد الذي صار يقال له: زياد ابن أبيه، والأزرق أبو عُقبة وكان لكَلَدة الثقفي، ثم حالف بني أمية؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفعه لخالد بن سعيد بن العاص ليعلّمه الإسلام، ووَرْدان وكان لعبد الله بن ربيعة، ويُحَنَّس النبال وكان لابن مالك الثقفيّ، وإبراهيم بن جابر وكان لِخَرَشة الثقفيّ، وبشّار وكان لعثمان بن عبد الله، ونافع مولى الحارث بن كَلَدة، ونافع مولى غيلان بن سلمة الثقفيّ، ويقال: كان معهم زياد ابن سُمَيَّة، والصحيح أنه لم يَخرُج حينئذ؛ لصغره، قال الحافظ: ولم أعرف أسماء الباقين.
قال: ورَوَى ابن أبي شيبة وأحمد، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الطائف كلَّ مَن خَرَج إليه من رقيق المشركين، أخرجه ابن سعد مرسلًا من وجه آخر. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 57 - 58 "كتاب المغازي" رقم الحديث (4326 - 4327).
30 - (بَابُ بَيَانِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[228]
(64) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ وَعَوْنُ بْنُ سَلَّامٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ؛ كُلُّهُمْ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"، قَالَ زُبَيْدٌ: فَقُلْتُ لِأَبِي وَائِلٍ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ قَوْلُ زُبَيْدٍ لِأَبِي وَائِلٍ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ) - بالراء المفتوحة، وتشديد الياء التحتانيّة - الْهاشميّ مولاهم، أبو عبد الله البغداديّ الرُّصَافيّ، ثقةٌ [10].
رَوَى عن إسماعيل بن جعفر، وابن المبارك، وفُليح بن سليمان، وقيس بن الربيع، وفَرَج بن فَضَالة، وجعفر بن سليمان، ومحمد بن طلحة بن مصرف وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وابنه إبراهيم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وموسى بن هارون، وحنبل بن إسحاق، وعبد الله ابن أحمد وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد: كان أبي لا يَرَى بالكتابة عن هؤلاء الشيوخ بأسًا، وقد حدّثنا عن بعضهم منهم محمد بن بكار، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: لا بأس به، وقال عبد الخالق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وقال صالح بن محمد: صدوق يُحَدِّث عن الضعفاء، وقال الدارقطنيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال ابن أبي خيثمة: سمعته يقول في سنة ثنتين وثلاثين: أنا اليوم ابن (87) سنة، وقال البخاري وغيره: مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
تفرّد به المصنّف وأبو داود، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط
(1)
، هذا الحديث، وحديث رقم (406): "قولوا: اللهم صلّ على محمد
…
"، و (649): "صلاة الرجل في جماعة تزيد
…
"، و (1346): "أُتي وهو في مُعَرَّسه من ذي الحليفة
…
"، و (2341): "لم يبلغ الخضاب، كان في لحيته شعرات
…
"، و (2408): "أما بعد، ألا أيها الناس
…
".
2 -
(عَوْن بْنُ سَلَّامٍ) - بتشديد اللام - القرشيّ، أبو جعفر الكوفيّ، مولى بني هاشم، ثقةٌ [10].
رَوَى عن محمد بن طلحة بن مُصَرِّف، وزهير بن معاوية، وأبي بكر النَّهْشليّ، وأبي زبيد عَبْثَر بن القاسم، وإسرائيل بن يونس، وقيس بن الربيع وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو بكر بن أبي خيثمة، وأحمد بن عثمان بن حكيم، وإبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، وموسى بن هارون الحمّال، وموسى بن إسحاق الأنصاريّ وغيرهم.
قال صالح بن محمد: لا بأس به، وقال البغويّ: وكان ضرير البصر، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: مستقيم الحديث، وفي "الميزان": كان صدوقًا، وقد لُيِّنَ شيئًا.
وقال محمد بن عبد الله الحضرميّ: مات سنة ثلاثين ومائتين، وكان ثقةً.
تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط
(2)
، هذا الحديث، وحديث رقم (572): "إنما أنا بشر مثلكم
…
"، و (619): "فشكونا إليه حرّ الرمضاء
…
"، و (628): "شغلونا عن الصلاة الوسطى
…
"، و (705): "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر
…
"، و (978): "أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل
…
"، و (1016): "من استطاع منكم أن يستتر من النار
…
".
(1)
هذا هو الذي في برنامج الحديث، وفي "الزهرة": روى عنه مسلم تسعة أحاديث، فليُحرّر.
(2)
وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم ثمانية أحاديث. انتهى، ولا تخالف بينهما.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ) بن مُصَرِّف الياميّ الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [7].
رَوَى عن أبيه، وحميد الطويل، وزُبَيد الياميّ، والأعمش، وعبد الأعلى بن عامر، وحميد بن وهب، وعثمان بن يحيى، والعلاء بن عبد الكريم الياميّ وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن مهديّ، وإسماعيل بن عيّاش، ويزيد بن هارون، وأبو داود الطيالسيّ، وإسحاق بن منصور السَّلُولي، وأسد بن موسى، وشبابة بن سَوّار، وحجاج بن محمد، وأبو نعيم، وعون بن سلام وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: لا بأس به، إلا أنه كان لا يكاد يقول في شيء من حديثه: حَدَّثنا، وقال ابن معين: كان يقال: ثلاثة يُتَّقَى حديثهم: محمد بن طلحة، وأيوب بن عُتبة، وفُليح بن سليمان، سمعت هذا من أبي كامل، مُظَفَّر بن مُدْرِك، وكان رجلًا صالِحًا، وعن أبي كامل قال: قال محمد بن طلحة: أدركت أبي كالحلم، وقد رَوَى عن أبيه أحاديث صالحة، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: محمد بن طلحة صالح، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ضعيف، وقال أبو زرعة: صالح، وقال النسائيّ: ليس بالقوي، وقال عفان: كان محمد بن طلحة يروي عن أبيه - وأبوه قديم الموت - وكان الناس كأنهم يكذبونه، ولكن مَن يجترئ أن يقول له: أنت تكذب، كان من فضله وكان، قال أبو داود: كان يخطئ، وقال العقيليّ: قال أحمد: ثقة، وقال العجليّ: ثقة، إلا أنه سمع من أبيه وهو صغير، وقال بشر بن الوليد: كان سيدًا كريمًا.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يخطئ، مات سنة سبع وستين ومائة، وفيها أَرَّخه ابن سعد، وقال: كانت له أحاديث منكرة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ في "مسند علي"، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث رقم (628): "شغلونا عن الصلاة الوسطى
…
"، و (2548): "أمّك، ثم أمك، ثم أمك
…
".
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ، عارفٌ بالرجال والحديث [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
6 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، الإمام الحجة الحافظ الثبت الفقيه المشهور [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
8 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الثبت الحافظ المشهور، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
9 -
(زُبَيْد) بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب الياميّ - بالتحتانيّة - ويقال: الأَيَاميّ، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6].
رَوَى عن مُرّة بن شَرَاحيل، وسعد بن عُبيدة، وذَرّ بن عبد الله، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعُمارة بن عُمير، وأبي وائل، وإبراهيم النخعيّ، وإبراهيم التيميّ، ومجاهد وجماعة.
ورَوَى عنه ابناه: عبد الله وعبد الرحمن، وجرير بن حازم، وشعبة، والثوريّ، وزُهير، والحسن بن حي، وشَريك، ومالك بن مَغْوَل، ومِسْعر، ومنصور، ومغيرة، والأعمش - وهم من أقرانه - وغيرهم.
قال القطان: ثبتٌ، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وقال ليث عن مجاهد: أعجب أهل الكوفة إليّ أربعة فيهم زُبيد، وقال ابن شُبْرمة: كان يصلي الليل كله، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة ثقة خيارٌ، إلا أنه كان يميل إلى التشيع، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وكان في عداد الشيوخ، وليس بكثير الحديث، وقال العجليّ: ثقةٌ ثبت في الحديث، وكان علويًّا، وحَكَى ابن أبي خيثمة عن شعبة قال: ما رأيت بالكوفة شيخًا خَيْرًا من زُبيد، وقال سعيد بن جبير: لو خُيِّرت عبدًا ألقى اللهَ في مِسْلاخه اخترتُ زُبيدًا الياميّ، وقال البخاريّ في "تاريخه": قال عمرو بن مُرّة: كان زُبيد صدوقًا، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من العباد الْخشُن مع الفقه في الدين، ولزوم الورع الشديد، وقال
محمد بن طلحة بن مُصَرِّف: ما كان بالكوفة ابنُ أبٍ وأخٌ أشدَّ مُجانبًا من طلحة بن مُصَرِّف وزبيد اليامي، كان طلحةُ عثمانيًّا، وكان زُبيد علويًّا.
قال أبو نعيم: مات سنة (122)، وقال ابن نُمير: مات سنة (24)، وأرَّخه الإمام أحمد، وابن قانع سنة (23).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث رقم (628): "شغلونا عن الصلاة الوسطى
…
"، و (977): "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها
…
"، و (1127): "كنا نصومه، ثم تُرك"، و (1224): "لا تصلح المتعتان إلا لنا
…
"، و (1840): "لو دخلتموها لم تزالوا فيها
…
"، و (1961): "إن أول ما نبدأ في يومنا هذا نصلي
…
"، و (2723): "أمسينا وأمسى الملك لله
…
" وأعاده.
10 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
11 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى بالنسبة إلى السند الأول، ومن سداسيّاته بالنسبة إلى السندين الأخيرين.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من عون.
3 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) مرتين إشارة إلى تحويل الإسناد، فللمصنّف فيه ثلاثة أسانيد، كلها تلتقي في زُبيد، والأول أعلى بدرجة، والباقيان متساويان.
4 -
(ومنها): أنه وقع في هذا السند قوله: "كلهم عن زُبيد
…
إلخ"، فقال النوويّ: هكذا ضبطناه، وكذا وقع في أصلنا وبعض الأصول، ووقع في الأصول التي اعتمدها الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى بطريقي محمد بن طلحة وشعبة، ولم يقع فيها طريق محمد بن المثنّى، عن ابن مهديّ، عن سفيان، وأنكر الشيخ قوله: "كلّهم" مع أنهما اثنان: محمد بن طلحة
وشعبة، وإنكاره صحيح على ما في أصوله، وأما على ما اعتمدنا فلا إنكار، فإن سفيان ثالثهما. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى.
5 -
(ومنها): أنه ليس في الكتب الستّة من يُسمّى زُبيدًا غير ابن الحارث
الياميّ هذا، ويوجد في "الموطّأ""زُييد" بضم الزاي وكسرها، وبتحتانيتين، وهو ابن الصلت بن مَعْدي كَرِب الكنديّ التابعيّ، ولا ذكر له في الكتب الستة، كما أنه لا ذكر لزُبيد بن الحارث في "الموطأ" أيضًا.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه من أكابر الصحابة رضي الله عنه، ومن السابقين للإسلام، ومن المجوّدين للقرآن، أثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم في القراءة، وحثّ على تلقّي القراءة منه، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" بإسناد صحيح (35) من طريق زِرّ بن حُبَيش، عن عبد الله، أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بشّراه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن سَرّه أن يقرأ القرآن غَضًّا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".
وأخرج أيضًا (170) من طريق الأعمش، عن خيثمة، عن قيس بن مروان، أنه أَتَى عمر رضي الله عنه، فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلًا يُملي المصاحف عن ظهر قلبه. فغَضِب وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل، فقال: ومن هو ويحك؟ قال: عبد الله بن مسعود. فما زال يُطْفَأُ ويُسَرَّى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: ويحك والله ما أعلمه بقي من الناس أحد، هو أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يَسمُر عند أبي بكر رضي الله عنه الليلة كذاك في الأمر من أمر المسلمين، وإنه سَمَر عنده ذات ليلة، وأنا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته، فلما كدنا أن نعرفه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سره أن يقرأ القرآن رطبًا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:"سل تعطه، سل تعطه"، قال عمر رضي الله عنه: قلت: والله لأغدوَن إليه، فلأبشّرنه، قال: فغدوت إليه لأبشّره، فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشّره، ولا والله ما سبقته إلى خير قط إلا وسبقني إليه. وهذا إسناد صحيح، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زُبَيْدٍ) تقدم أنه بالزاي والموحدة مُصَغّرًا، وهو ابن الحارث الياميّ بياء تحتانية وميم خفيفة
(1)
.
[تنبيه]: قد رَوَى هذا الحديث شعبة أيضًا عن منصور وعن الأعمش، وهي الرواية التالية هنا، ورواه ابن حبّان من طريق سليمان بن حرب، عن شعبة، عن الثلاثة جميعًا، عن أبي وائل.
وقال الحافظ في "كتاب الإيمان"(2/ 672): رَوَى هذا الحديث عن أبي وائل سبعةُ نَفَر، فأما الأعمش فرفعه عنه بعضهم، وأوقفه بعضٌ، وكذلك منصور، ولم يَخْتَلف أصحاب زُبيد في رفعه، ورواه جماعة عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرفوعًا
(2)
، ورواه معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن ابن مسعود مرفوعًا، وأوقفه يحيى القطان، وجماعة، ورواه أبو الأحوص
(3)
، وأبو الزَّعراء
(4)
، والأسود، وهُبَيْرَة بن مُرّة، وأبو عبد الرحمن السلميّ، والقاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا، وفي رفع مَن رفعه شيء.
ورُوي من حديث سعد
(5)
والنعمان بن مقرن
(6)
، وأبي هريرة
(7)
، وابن مغفل
(8)
، وعقبة بن عامر، وأنس رفعه. انتهى
(9)
كلام ابن منده رحمه الله تعالى.
(1)
نسبة إلى بطن من همدان، ويقال له: الأياميّ.
(2)
أخرجه النسائيّ 7/ 121 - 122.
(3)
النسائيّ 7/ 121. واسم أبي الأحوص: عوف بن مالك بن نضلة.
(4)
النسائيّ 7/ 122. واسم أبي الزعراء: عمرو بن عمرو، أو ابن عامر.
(5)
هو ابن أبي وقّاص رضي الله عنه، أخرج حديثه النسائيّ 7/ 122، والبخاريّ في "الأدب المفرد"(429).
(6)
عند الطبرانيّ في "الكبير" 17/ 80.
(7)
عند ابن ماجه (3940).
(8)
هو عبد الله بن مغفّل، رواه الطبرانيّ في "الأوسط". قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 73: وفيه كثير بن يحيى، وهو ضعيف.
(9)
الإيمان لابن منده 2/ 673.
[تنبيه آخر]: قد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أخرجه الترمذيّ مصحّحًا، ولفظه:"قتال المسلم أخاه كفرٌ، وسبابه فسوقٌ"، ورواه جماعة عن عبد الله بن مسعود موقوفًا ومرفوعًا
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ورواه أيضًا النسائيّ (27/ 4106) من حديث سعد بن أبي وقّاص أيضًا مرفوعًا، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرّد به.
(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("سِبَابُ الْمُسْلِمِ) كذا هو في معظم الروايات، ولأحمد عن غُنْدَر، عن شعبة:"المؤمن"، فكأنه رواه بالمعنى، قاله في "الفتح".
والسِّباب والقتال بالكسر مصدرا سابّه وقاتله، كما قال في "الخلاصة":
لِفَاعَلَ الْفِعَالُ وَالْمُفَاعَلَهْ
…
وَغَيْرُ مَا مَرَّ السَّمَاعُ عَادَلَهْ
و"السّبَابُ" - بكسر السين وتخفيف الموحدة - بمعنى السبّ، وهو الشتم، وهو التكلّم في عرض الإنسان بما يَعِيبه، وفي "المطالع": السباب: المشاتمة، وهي من السبّ، وهو القطع، وقيل: من السَّبّة
(2)
، وهي حلقة الدبر، وسُمّي الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، كأنها على القول الأول قطع المسبوب عن الخير والفضل، وعلى الثاني كشف عورته وما ينبغي أن يُستَرَ، لأن من شأن السابّ إبداء عورة المسبوب، وفي "العباب": التركيب يدلّ على القطع، ثم اشتقّ منه الشتم، وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السبّ، وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بذلك عيبه
(3)
، وقال غيره: السباب هنا مثل القتال، فيقتضي المفاعلة
(4)
.
(1)
"فتح" 1/ 154 "كتاب الإيمان" حديث 48.
(2)
"السَّبَّةُ" بالفتح: الاستُ، قاله في "القاموس".
(3)
نقله ابن منده في "كتاب الإيمان" 2/ 672.
(4)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 319، و"فتح الباري" 1/ 121 و 154 "كتاب الإيمان" حديث رقم (30 و 48).
وإضافة "سباب" إلى "المسلم" وكذا "قتال" إلى ضميره من إضافة المصدر إلى مفعوله.
فقوله: "سبابُ المسلم" مبتدأ خبره قوله: (فُسُوقٌ) - بضم فسكون - مصدر فَسَقَ يفسُق بالضمّ، من باب نَصَر، وحكى الأخفش يَفسِق بالكسر، من باب ضرب: أي فجور، يعني أن سبابه خروجٌ عن الذي يجب من احترام المسلم وحُرْمة عرضه وسبّه، أو هو من أعمال أهل الفسوق.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله: "فسوق": أي خروج عن الطاعة وواجبِ الشرع، وبه سُمّي الفاسق فاسقًا لخروجه عن ثِقاف الإسلام وانسلاخه عن أعمال البرّ، يقال: فَسَقَت الرُّطَبَة: إذا خرجت من قشرها
(1)
.
وقال في "الفتح": "الفسق" - في اللغة -: الخروج، وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو في عرف الشرع أشدّ من العصيان، قال الله تعالى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} الآية [الحجرات: 7].
ففي الحديث تعظيم حق المسلم، والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة، وعُرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقًّا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟. انتهى.
(وَقِتَالُهُ كُفْرٌ") أي من أعمال أهل الكفر، فإنهم الذين يَقصدون قتال المسلم، وأما تأويله بحمله على القتال مستحلًّا فيؤدّي إلى عدم صحّة المقابلة؛ لكون السباب مستحلًّا كفرًا أيضًا.
وقال عياض رحمه الله تعالى: أي قتاله من أجل إسلامه، واستحلالُ ذلك منه كفرٌ، وقيل: ذلك من أفعال أهل الكفر، أو يكون كفرَ طاعة، وكفرَ نعمة وغَمْطَها، بأن جعلهما الله تعالى مسلمين، وأَلّف بين قلوبهما، ثم صار هو بعدُ يقاتله، وقيل: كفرٌ بحقّ المسلم وجَحْدٌ له بالمعنى؛ لإظهاره إباحة ما أنزل الله من تحريم دمه وقتاله، وترك ما أُمر به من محبّته وصِلَته وإكرامه، فهو
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 354 - 355.
كفرٌ بفعله وعمله لا بقوله واعتقاده، وقد يكون القتال الْمُشَارّةَ - يعني المخاصمة والمدافعة - كما قال في الحديث الآخر في المارّ بين يدي المصليّ:"فليُقاتله"
(1)
، وكلّه منهيّ عنه، وفاعله جاحد حقّ أخيه المسلم وحقَّ الله تعالى فيه. انتهى كلام القاضي
(2)
.
وقال في "الفتح": ولا متمسّك في هذا الحديث للخوارج الذين يُكفّرون بالمعاصي لأن ظاهره غير مراد؛ وإنما عبّر بلفظ الكفر لكون القتال أشدّ من السباب؛ لأنه يفضي إلى إزهاق الروح، ولم يُرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملّة، بل أطلق عليه الكفر مبالغةً في التحذير، مُعْتَمِدًا على ما تقرّر من القواعد أن مثل ذلك لا يُخرج عن الملّة، مثلُ حديث الشفاعة ومثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48].
أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
وقيل: المراد هنا الكفر اللغويّ وهو التغطية؛ لأن حقّ المسلم على المسلم أن يُعينه، ويَنصره، ويكُفّ عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطّى على هذا الحقّ.
وقيل: أراد بقوله "كفر" أي قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد وأبعد منه حمله على المستحلّ لذلك؛ لأنه يلزم منه أن لا يحصُل التفريق بين السِّبَاب والفسوق، فإن مستحلّ لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أولى ما قيل في معنى هذا الحديث أنه أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير من ذلك؛ ليَنْزجر السامع عن الإقدام عليه، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك من فعل الكفار
(3)
.
(1)
حمل القاضي عياض حديث المار على المشارّة فيه نظر، إلا أن يريد أنه يبدأ بالأسهل فالأسهل، وإلا فالظاهر حمله على القتال المعروف، كما سيأتي تحقيقه في محله.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 355 - 356.
(3)
راجع: "الفتح" 14/ 521.
ويأتي هذا أيضًا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كُفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"، كما سيأتي بيان الأقوال التي قيلت في تأويله، وهي عشرة أقوال، في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.
ونظير هذا قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بعد قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية [البقرة: 85]، فدلّ على أن بعض الأعمال يُطلق عليه الكفر تغليظًا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه المصنّف: "لعن المسلم كقتله" فلا يُخالف هذا الحديث؛ لأن المشبّه به فوق المشبّه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير، هذا في الْعِرْض وهذا في النفس. أفاده في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه]: ورد لهذا الحديث سببٌ، أخرجه البغويّ والطبريّ، من طريق أبي خالد الوالبيّ، عن عمرو بن النعمان بن مُقَرِّن الْمُزَنيّ، قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجلس من مجالس الأنصار - ورجلٌ من الأنصار، كان عُرِف بالبذاء ومشاتمة الناس - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كُفرٌ"، زاد البغويّ في روايته: فقال ذلك الرجل: والله لا أُسابُّ رجلًا
(2)
.
(قَالَ زُبَيْدٌ) الياميّ (فَقُلْتُ لِأَبِي وَائِلٍ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (قَالَ) أبو وائل (نَعَمْ) أي سمعته منه، وإنما قال زُبيد هذا للتأكّد، وله سبب ذكره البخاريّ من طريق محمد بن عرعرة، عن شعبة، عن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة؟ فقال: حدّثني عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر".
قال في "الفتح": قوله: "سألت أبا وائل عن المرجئة": أي عن مقالة المرجئة، ولأبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، عن زبيد، قال: لَمّا ظَهَرت المرجئة، أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له، فظهر من هذا أن سؤاله كان عن
(1)
"فتح" 1/ 155 "كتاب الإيمان" حديث رقم (48).
(2)
راجع: "الفتح" 13/ 30 "كتاب الفتن" رقم (7075 - 7080).
مُعْتَقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ قَوْلُ زُبَيْدٍ لِأَبِي وَائِلٍ) يعني أن شعبة رواه عن زُبيد بدون قوله: "فقلت لأبي وائل
…
إلخ"، والله تَعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[30/ 228 و 229](64) و (البخاريّ) في "الإيمان"(48) و"الأدب"(6044) و"الفتن"(7076)، وفي "الأدب المفرد"(431)، و (الترمذيّ) في "البر والصلة"(1983) و"الإيمان"(2634) و (2635)، و (النسائيّ) في "كتاب المحاربة"(27/ 4111 و 4112 و 4113 و 4114 و 4115)، وفي "الكبرى"(27/ 3574 و 3575 و 3576 و 3577 و 3578)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(69) و"الفتن"(3939)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(248 و 258 و 306)، و (الحميديّ) في "مسنده"(104)، و (أحمد) في "مسنده"(3639 و 3893 و 3947 و 4115 و 4167 و 4250 و 4332 و 4380)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4988 و 4991)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5939)، و (ابن منده) في "الإيمان"(653 و 654 و 655 و 656)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(58 و 59 و 60)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(219 و 220 و 221) وفي "الحلية"(5/ 34)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 365)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10105)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 20 و 10/ 209)، و (الخطيب البغدادي) في "تاريخه" 13/ 185، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح" 1/ 154.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حكم سباب المسلم وهو أنه فسوق، وقتاله وهو أنه كفرٌ على ما تقدّم من بيان المراد بالكفر هنا.
2 -
(ومنها): أن فيه تعظيم حقّ المسلم، والحكم على من سبّه بغير حقّ بالفسق، وعلى من قاتله بالكفر.
3 -
(ومنها): أن فيه الردّ على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضرّ مع الإيمان، وفي "صحيح البخاريّ" من طريق شعبة، عن زُبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة؟ فقال: حدّثني عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"، يعني أن مذهبهم هذا باطلٌ، فكأنه قال: كيف يكون مذهبهم حقًّا، وقد خالف قول النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا؟ فمراده إبطال رأيهم الفاسد المذكور.
[فإن قيل]: هذا - وإن تضمّن الردّ على المرجئة - لكن ظاهره يقوّي مذهب الخوارج الذين يُكفّرون بالمعاصي.
[أجيب]: بأن المبالغة في الرّدّ على المبتدعة اقتضت ذلك، ولا متمسّك للخوارج فيه، لأن ظاهره غير مراد، لكن لَمّا كان القتال أشدّ من السباب - لأنه مفض إلى إزهاق الروح - عبّر عنه بلفظ أشدّ من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يُرِد به الكفر المخرج عن الملّة، وإنما أراد المبالغة في الحديث، معتمدًا على ما تقرّر من القواعد أن مثله لا يُخرج عن الملّة، مثل أحاديث الشفاعة وغيرها
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: أخرج النسائيّ من طريق أَبِي دَاوُدَ الطيالسيّ، عن شُعْبَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِحَمَّادٍ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، وَسُلَيْمَانَ، وَزُبَيْدًا، يُحَدِّثُونَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"، مَنْ تَتَّهِمُ؟ أَتَتَّهِمُ مَنْصُورًا؟، أَتَتَّهِمُ زُبَيْدًا؟، أَتَتَّهِمُ سُلَيْمَانَ؟، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَتَّهِمُ أَبَا وَائِلٍ.
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 155 "كتاب الإيمان" حديث رقم (48).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن حمّادًا هنا هو ابن أبي سُليمان، وهو شيخٌ لشعبة وكان مرجئًا، والظاهر أنه جرى بينه وبين شعبة النِّقَاش في الإرجاء فذكر له شعبة هذا الحديث محتجًّا عليه، ثم قال له: أتتّهم هؤلاء الرواة أنهم حدّثوا بحديث غير ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟، فقال: لا أتّهمهم، وإنما أتّهم شيخهم أبا وائل.
وإنما اتّهم أبا وائل لأنه كان يردّ على هذا الرأي الباطل، ويذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا احتجاجًا على إبطاله، كما سبق من رواية البخاريّ في "صحيحه" عن شعبة، عن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة؟ فقال: حدّثني عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفر". وفي رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، عن زبيد، قال: لَمّا ظهرت المرجئة، أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة (99)، وقيل: سنة (82)، ففي ذلك دليلٌ على أن بدعة الإرجاء قديمة. انتهى
(1)
.
ثمّ إن اتّهام حماد لأبي وائل بهذا الحديث اتّهام باطلٌ، وذلك لأن أبا وائل من العدول الثقات، الذين شهد لهم أهل عصرهم ومن بعدهم بالعدالة والصيانة، وبَرّؤوهم من وصمة الإتهامات، فقال الأعمش عن إبراهيم: عليك بشقيق، فإني أدركت الناس، وهم متوافرون، وإنهم ليعدّونه من خيارهم، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، لا يُسأل عنه، وقال وكيع: كان ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال ابن حبّان: سكن الكوفة، وكان من عُبّادها، وقال العجليّ: رجل صالح، وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه ثقة
(2)
.
وأيضًا، فلم ينفرد أبو وائل برواية هذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، فقد تابعه أبو الأحوص وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، كما هو عند
(1)
"فتح" 1/ 154.
(2)
راجع ترجمته في: "تهذيب التهذيب" 2/ 178 - 179، وغيره.
النسائيّ، وأبو عمرو الشيبانيّ عند أبي يعلى في "مسنده"(4991)، والأسود وهُبيرة بن يَريم عند الخطيب البغداديّ في "تاريخه"(10/ 86 - 87)، ومسروق عند أبي نعيم في "الحلية"(5/ 23)، سِتَّتهم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد اتّهَم بعض فقهاء المرجئة أبا وائل في رواية هذا الحديث، أما أبو وائل فليس بمتّهم، بل هو الثقة العدل المأمون، وقد رواه معه عن ابن مسعود أيضًا أبو عمرو الشيبانيّ، وأبو الأحوص، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، لكن فيهم من وقَفَه، ورواه أيضًا عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقّاص وغيره. انتهى
(1)
.
والحاصل أن اتهام حماد لأبي وائل في هذا باطلٌ، وإنما حمله عليه اعتقاده الباطل، والله المستعان على المتّهِمِين أهلَ الحقّ بالباطل زورًا وبُهتانًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[229]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَن الأَعْمَش، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بن أَبِي شَيْبَةَ) المذكور قبل حديث.
2 -
(مَنْصُورٌ) بن المعتمر بن عبد الله السّلميّ، أبو عَتَّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، لا يدلّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
(1)
راجع: "فتح الباري شرح صحيح البخاريّ" للحافظ ابن رجب 1/ 201.
4 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصّفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، كان إذا شكّ في الحرف تركه، وربّما وَهِمَ، من كبار [10](ت 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
5 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الإمام الشهير تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث ومسائله تقدّمت هناك.
وقوله: (كلاهما) أي منصور والأعمش.
وقوله: (بمثله) أي بمثل حديث زُبيد عن أبي وائل.
[تنبيه]: رواية منصور والأعمش، عن أبي وائل ساقها أبو عوانة في "مسنده" (1/ 33) فقال:
(59)
حدثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود (ح) وحدثنا يحيى بن عياش، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: أنبأ شعبة، قال: أخبرني الأعمش ومنصور، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(31) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ")
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[230]
(65) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّهِ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ" ثُمَّ قَالَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار بن عثمان بُنْدار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، رجّح ابن معين أخاه المثنّى عليه [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(أَبُوه) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ) النخعيّ الْوَهْبِيليّ
(1)
، أبو مدرك الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، وإبراهيم النخعيّ، وهلال بن يَسَاف، وتميم بن طَرَفة، وعبد الرحمن بن يزيد النخعيّ، وأبي صالح.
ورَوَى عنه الأعمش، والمسعوديّ، وحَنَش بن الحارث، وأشعث بن سَوّار، وشعبة.
قال ابن معين والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: صالحٌ صدوقٌ، ثم قال: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: سمع من أبي مسعود البدريّ، ولأجل ذلك ذكره في التابعين، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة.
قال الحضرمي: مات سنة عشرين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث رقم (106): "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة
…
".
5 -
(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم
(2)
، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقة [3] تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
(1)
بفتح الواو، وسكون الهاء، وكسر الموحّدة: نسبة إلى وَهْبِيل، وهو بطنٌ من النَّخَع، وهو وَهْبيل بن سَعْد بن مالك بن النخع، قاله في "اللباب" 3/ 375.
(2)
بفتح الهاء، وكسر الراء.
6 -
(جَرِير) بن عبد الله بن جابر الْبَجليّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (51) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر بن أبي شيبة، فما أخرج له الترمذيّ، وعبيد الله بن معاذ، فما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن شيخيه: محمد بن المثنى وابن بشار من التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول الستّة بلا واسطة.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: علي بن مُدْرك عن أبي زرعة، ورواية الراوي عن أبيه، والآخر عن جدّه.
5 -
(ومنها): كتابة (ح) إشارة إلى التحويل، فللمصنّف إسنادان يلتقيان في شعبة.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمة، مع أنه من أواخر من أسلم، قال:"ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك"، متّفقٌ عليه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم السيد أنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام. وكان سيّدًا مطاعًا، وكان بديع الجمال، كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يسمّيه يوسف هذه الأمة، كبير القدر، طويل القامة، يَصِل إلى سنام البعير، وكان نعله ذراعًا رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ) النخعيّ، أنه (سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير (يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّهِ جَرِير) بن عبد الله رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أبي عوانة في "مسنده": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جرير استنصت الناس
…
"، وهذا نصّ صريح في أنه صلى الله عليه وسلم خاطب به جريرًا نفسه، ففيه ردّ على من زعم أن لفظ "لي" في الرواية زائدة؛ لأن جريرًا رضي الله عنه إنما أسلم بعد حجة
الوداع بنحو من شهرين، فقد جَزَم ابن عبد البر بأنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يومًا، قال في "الفتح": وما جَزَم به يعارضه قولُ البغويّ، وابنِ حِبّان أنه أسلم في رمضان سنة عشر. ووقع في رواية البخاريّ لهذا الحديث في "باب حجة الوداع" بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجرير، وهذا لا يحتمل التأويل، فيُقَوّي ما قال البغوي. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: وكذا لفظ رواية المصنّف وأبي عوانة، بل هو أَيْضًا أصرح؛ لأن قوله:"قال لي"، وقوله:"يا جرير" لا احتمال فيه، والله تعالى أعلم.
(فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) متعلّق بـ "قال"، وسمّيت بذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيها، وعلّمهم في خطبته فيها أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها، فقال صلى الله عليه وسلم:"ليُبلّغ الشاهد منكم الغائب". والمعروف في الرواية "حَجّةُ الوداع" بفتح الحاء، وقال الهرويّ وغيره من أهل اللغة: المسموع من العرب في واحدة الْحِجَج حِجّة بكسر الحاء، قالوا: والقياس فتحها؛ لكونها اسمًا للمرّة الواحدة، وليست عبارة عن الهيئة حتّى تُكسَر، قالوا: فيجوز الكسر بالسماع والفتح بالقياس. ذكره النوويّ
(1)
.
وقال الفيّوميّ: الحجّ أي بالفتح: القصد للنسك، والاسم الْحِجّ بالكسر، والْحِجّةُ المرة بالكسر على غير قياس، والجمعُ حِجَجٌ، مثلُ سِدْرَةٍ وسِدَر، قال ثعلبٌ: قياسه الفتح ولم يُسمَع من العرب، وبها سُمّي الشهر ذو الحِجّة بالكسر، وبعضهم يفتح في الشهر، وجمعه ذوات الْحِجّة. انتهى
(2)
.
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أبي عوانة في "مسنده"(63) قال: "كنّا نتحدّث بحجة الوداع، ولا ندري أنه الوداع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان حجة الوداع حمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح
…
" الحديث
(3)
.
("اسْتَنْصِتِ النَّاسَ") بصيغة الأمر، وهو أمرٌ منه صلى الله عليه وسلم لجرير رضي الله عنه أن يأمر
(1)
"شرح مسلم" 2/ 56 "كتاب الإيمان".
(2)
"المصباح المنير" 1/ 121.
(3)
راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 34.
الناس بالإنصات له، هكذا رواية الشيخين بلفظ الأمر، ووقع في رواية للنسائيّ بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع استنصت الناس
…
" بصيغة الماضي: أي طلب منهم الإنصات، وهو السكوت، ليمكنهم الإستماع لخطبته.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: معناه: مُرْهم بالإنصات؛ ليسمعوا هذه الأمور المهمّة، والقواعد التي سأقرّرها لكم وأُحمّلكموها. انتهى
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله تعالى: نَصَتَ الرجلُ يَنْصِتُ نَصْتًا، وأنصت، وهي أعلى، وانتَصَتَ: سَكَتَ، وأنصته وأنصت له: مثلُ نَصَحَه، ونصح له، والإنصات: هو السكوت والإستماع للحديث، وأنشد أبو عليّ:
إذَا قَالَتْ حَذَامِ فَأَنْصِتُوهَا
…
فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
ويُرْوَى: "فَصَدِّقُوهَا" بدل "فأنصتوها"، ويقال: أنصت: إذا سَكَتَ، وأنصت غيره: إذا أسكته، قال شَمِر: أنصت الرجلُ: إذا سَكَت له، وأنصته: إذا أسكته، جعله من الأضداد. وأنصت يُنصِت إنصاتًا: إذا سَكَت سكوتَ مستمع، وقد أنصت وأنصته: إذا أسكته، فهو لازم ومتعد. انتهى باختصار
(2)
.
وقال في "الفتح": وقد وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} [الأعراف: 204]، ومعناهما مختلفٌ، فالإنصات هو السكوت، وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع كأن يكون مفكّرًا في أمر آخر، وكذلك الإستماع قد يكون مع السكوت، وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه.
وإنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم جريرًا رضي الله عنه بالإستنصات؛ لأنه أراد أن يخطب الناس، وكان الجمع كثيرًا جدًّا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار وغير ذلك من أمور الحجّ، وقد قال لهم:"خُذُوا عنّي مناسككم"، كما سيأتي للمصنّف في "كتاب الحجّ"، فلما خطبهم ليعلّمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات
(3)
.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 56 "كتاب الإيمان".
(2)
راجع: "لسان العرب" 2/ 98 - 99.
(3)
راجع: "الفتح" 1/ 262 - 263.
(ثُمَّ قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن استنصت له جرير رضي الله عنه الناس ("لَا تَرْجِعُوا) أي لا تصيروا، قال ابن مالك:"رجع" هنا استُعمل استعمال "صار" معنًى وعملًا: أي لا تصيروا بعدي كُفّارًا، فعلى هذا "كُفّارًا" منصوب؛ لأنه خبر "لا ترجعوا"(بَعْدِي) أي بعد موتي، أو بعد مجلسي هذا.
وقال العينيّ رحمه الله تعالى: قال الطبريّ: أي بعد فراقي لموقفي هذا، وقال غيره: خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بعد الذي أمرتكم به.
ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد وفاته، وقال المظهريّ: يعني إذا فارقت الدنيا، فاثبُتُوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تُحاربوا المسلمين، ولا تأخذوا أموالهم بالباطل، وقال محيي السنّة: أي لا تكن أفعالكم شبيهةً بأفعال الكفّار في ضرب رقاب المسلمين. انتهى
(1)
.
(كُفَّارًا) بضم الكاف وتشديد الفاء: جمع كافر، كما قال في "الخلاصة":
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا
وقد ذكر الحافظ في "الفتح" جملة ما قيل في معناه، وهي عشرة أقوال:
[أحدها]: قول الخوارج: إنه على ظاهره.
[ثانيها]: هو في المستحلّ.
[ثالثها]: المعنى كُفّارًا بحرمة الدماء، وحرمة المسلمين، وحقوق الدين.
[رابعها]: تفعلون فعل الكفّار في قتل بعضهم بعضًا.
[خامسها]: لابسين السلاح، يقال: كَفَرَ دِرْعه: إذا لبس فوقها ثوبًا.
[سادسها]: كُفّارًا بنعمة الله.
[سابعها]: المراد الزجر عن الفعل، وليس ظاهره مرادًا.
[ثامنها]: لا يُكَفِّر بعضكم بعضًا، كأن يقول أحد الفريقين للآخر: يا كافر، فيَكْفُرُ أحدهما
(2)
.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 155 "كتاب العلم".
(2)
"فتح" 14/ 174 - 175 "كتاب الديات" حديث (6875).
[تاسعها]: المراد سَتْرُ الحقّ، والكفر لغةً: الستر؛ لأن حقّ المسلم على المسلم أن ينصره ويُعينه، فلما قاتله كأنه غطّى على حقّه الثابت له عليه.
[عاشرها]: أن الفعل المذكور يُفضي إلى الكفر؛ لأن من اعتاد الهُجُوم على كبار المعاصي جرّه شؤم ذلك إلى أشدّ منها، فيُخشى أن لا يُختَم له بخاتمة الإسلام.
قال: واستَشْكَلَ بعضُ الشرّاح غالبَ هذه الأجوبة بأنّ راوي الخبر - وهو أبو بكرة رضي الله عنه، فَهِم خلاف ذلك.
والجواب أن فهمه ذلك إنما يُعْرَف من توقّفه عن القتال، واحتجاجه بهذا الحديث، فيحتمل أن يكون توقّفه بطريق الإحتياط؛ لما يحتمله ظاهر اللفظ، ولا يلزم أن يكون يعتقد حقيقة كُفْر من باشر ذلك، ويؤيّده أنه لم يمتنع من الصلاة خلفهم ولا امتثال أوامرهم ولا غير ذلك، مما يدلّ على أنه لا يعتقد فيهم حقيقته. انتهى
(1)
.
(يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ") بجزم "يَضْرِبْ" على أنه جواب النهي، وبرفعه على الإستئناف أو يُجعل حالًا، فعلى الأول يُقوّي الحمل على الكفر الحقيقيّ، ويحتاج إلى التأويل بالمستحلّ مثلًا، وعلى الثاني لا يكون متعلّقًا بما قبله، ويحتمل أن يكون متعلّقًا وجوابه ما تقدّم، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال العينيّ رحمه الله تعالى: قوله: "يَضْرِبُ" برفع الباء
(3)
، وهو الصواب، وهو الرواية التي رواها المتقدّمون والمتأخّرون، وفيه وجوه:
[أحدها]: أن يكون صفة لـ "كفّارًا": أي لا ترجعوا بعدي كُفّارًا متّصفين بهذه الصفة القبيحة، يعني ضرب بعضكم رقاب بعض.
[والثاني]: أن يكون حالًا من ضمير "لا ترجعوا": أي لا ترجعوا بعدي كُفّارًا حال ضرب بعضكم رقاب بعض.
(1)
"فتح" 14/ 521 "كتاب الفتن" حديث (7077).
(2)
"فتح" 14/ 521 حديث (7077).
(3)
فيه تسامحٌ، إذ الصواب بالرفع.
[والثالث]: أن يكون جملة استئنافيّةً، كأنه قيل: كيف يكون الرجوع كفّارًا؟ فقال: يضرب بعضكم رقاب بعض.
فعلى الأول يجوز أن يكون معناه: لا ترجعوا عن الدين بعدي، فتصيروا مرتدّين مقاتلين، يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقّ على وجه التحقيق، وأن يكون: لا ترجعوا كالكفّار المقاتل بعضكم بعضًا، على وجه التشبيه بحذف أداته.
وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تَكْفُروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يَعرِض بينكم لاستحلال القتل بغير حقّ، وأن يكون: لا ترجعوا حال المقاتلة لذلك كالكفّار في الإنهماك في تهييج الشرّ، وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب.
وعلى الثالث: يجوز أن يكون معناه: لا يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقّ، فإنه فعل الكفّار، وأن يكون:"لا يضربُ بعضكم رقاب بعض"، كفعل الكفّار على ما تقدّم. وجوّز ابن مالك وأبو البقاء جزم الباء على أنه بدل من "لا ترجعوا"، وأن يكون جزاءً لشرط مقدّر على مذهب الكسائيّ: أي فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض، وقيل: يجوز الجزم بأن يكون جوابَ النهي على مذهب من يُجوّز "لا تكفرْ، تدخلِ النار".
وقال القاضي عياض: رواه من لم يَضْبِط "يضرب" بالإسكان، وهو إحالة للمعنى، والصواب ضمّ الباء، نهاهم عن التشبّه بالكفّار، فتشبّهوا بهم في حالة قتل بعضهم بعضًا ومُحاربة بعضهم لبعضٍ، وهذا أولى ما يتأوّل عليه الحديث.
ويؤيّده ما رُوي
(1)
مما جَرَى بين الأنصار بمحاولة يهود، وتذكيرهم أيامهم، ودخولهم في الجاهليّة، حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح، فنزلت:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 101]، أي تفعلون فعل الكفّار، أو نهاهم عن إظهار جحد ما أمرهم به، من تحريم
(1)
ذكره ابن هشام في "سيرته" 2/ 184، والحافظ في "الإصابة" 1/ 88.
دمائهم، وكفّرهم في ذلك بقتالهم لا بقولهم واعتقادهم، أو أن يَتَكَفَّرُوا في السلاح بقتل بعضهم بعضًا، أو عن كفر نعمة الله بتأليف قلوبهم، وتوادّهم، وتراحمهم الذي به صلاحهم بأن رجعوا إلى ضدّ ذلك.
وعلى سكون الباء فإنها نهي عن الكفر مجرّدًا، ثم يجيء ضرب الرقاب جواب النهي، ومجازات الكفر، ومساق الخبر، ومفهومه يدلّ على النهي عن ضرب الرقاب، والنهي عما قبله بسببه.
وقال الخطّابيّ: معناه: لا يُكفّر بعضكم بعضًا، فتستحلّوا قتال بعضكم بعضًا. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جرير رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[31/ 230](65)، و (البخاريّ) في "كتاب العلم"(121) و"المغازي"(4405) و"الديات"(6869) و"الفتن"(7080)، و (النسائيّ) في "كتاب المحاربة"(29/ 4133 و 4134)، وفي "الكبرى"(29/ 3596 و 3597)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3942)، و (أحمد) في "مسنده"(18686 و 18732 و 18774)، و (الدارميّ) في "سننه"(1921)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(61)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(222)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5940)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مقاتلة المؤمنين بعضهم بعضًا، وأن ذلك ينافي الإيمان وأنه من سمة أهل الكفر.
2 -
(ومنها): أن الإنصات للعلماء والتوقير لهم لازم للمتعلّمين؛ قال الله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، فتوقير النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 1/ 323 - 324 "كتاب الإيمان".
واجب فكذلك العلماء؛ لأنهم ورثة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهم يُحيُون سنّته، ويدعون الناس إليها، ويذبّون عنها وعن حريمها، فلهم الإجلال والإحترام.
3 -
(ومنها): أن الإنصات سبب لفتح باب العلم، قال سفيان الثوريّ وغيره: أوّل العلم الإستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر. وعن الأصمعيّ تقديم الإنصات على الإستماع، وقد ذكر عليّ ابن المدينيّ أنه قال لابن عُيينة: أخبرني معتمر بن سليمان، عن كَهْمَس، عن مُطرّف، قال: الإنصات من العينين، فقال ابن عيينة: وما نَدْرِي كيف ذلك؟، قال: إذا حَدَّثتَ رجلًا فلم ينظر إليك لم يكن منصتًا. انتهى.
قال الحافظ: وهذا محمول على الغالب. ذكره في "الفتح"
(1)
.
4 -
(ومنها): بيان تحريم دم المسلم على المسلم.
5 -
(ومنها): تحذير الأمّة من وقوع ما يُحْذَر منه.
6 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: وفيه ما يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَعْلَم ما يكون بعده في أمّته من الْفِتَن والتَّقاتُل، ويدلّ أيضًا على قرب وقوع ذلك من زمانه، فإنه خاطب بذلك أصحابه وظاهره أنه أرادهم؛ لأنه بهم أعنَى وعليهم أحنَى، ويَحتَمِلُ غير ذلك. انتهى
(2)
.
7 -
(ومنها): ما قاله المازريّ رحمه الله تعالى: أنه تعلّق بهذا الحديث من أنكر حجيّة الإجماع من أهل البدع، قال: لأنه نَهَى الأمة بأسرها عن الكفر، ولولا جواز اجتماعها عليه، لما نهاها عنه، وإذا جاز اجتماعها على الكفر، فغيره من الضلالات أولى، وإذا كان ممنوعًا اجتماعها عليه لم يصحّ النهي عنه.
وهذا الذي قاله خطأ؛ لأنّا إنما نشترط في التكليف أن يكون ممكنًا متأتّيًا من المكلّف، هذا أيضًا على رأي من منع تكليف ما لا يُطاق، واجتماع الأمة على الكفر وإن كان ممتنعًا، فإنه لم يمتنع من جهة أنه لا يمكن ولا يتأتّى، ولكن من جهة خبر الصادق عنه أنه لا يقع، وقد قال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ
(1)
"فتح" 1/ 493 - 494 "كتاب العلم" حديث (121).
(2)
"المفهم" 1/ 256 "كتاب الإيمان".
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية [الزمر: 65] والشرك قد عُصم منه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعد هذا نزل عليه مثل هذا، على أن المراد بهذا الخطاب كلّ واحد في عينه أو جمهور الناس، وهذا لا يُنكر أحدٌ أن يكون مما يصحّ حمل هذا الخطاب عليه. انتهى المقصود من كلام القاضي
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[231]
(66) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، عَن ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الْعَدَويّ المدنيّ، ثقة [6](خ م س) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(أَبُوه) هو: مُحَمَّدُ بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الْعَدَويّ المدنيّ، ثقة [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.
3 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث جرير رضي الله عنه، يعني أن حديث شعبة عن واقد بن محمد مثل حديثه عن عليّ بن مُدرك.
[تنبيه]: رواية شعبة عن واقد بن محمد التي أحالها المصنّف - رحمه الله تعالى - هنا ساق لفظها الإمام أحمد في "مسنده"(2/ 87)، فقال:
(5347)
حدثنا عبد الرحمن
(2)
، حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا ترجعوا بعدي كُفّارًا، يَضْرِب بعضكم رقابَ بعض".
(1)
"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 1/ 323 "كتاب الإيمان".
(2)
هو ابن مهديّ.
وشرح الحديث وفوائده تقدّمت مستوفاةً في حديث جرير رضي الله عنه، فلتراجعها، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[31/ 231 و 232](66)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6166) و"الديات"(6868) و"الفتن"(7077)، و (أبو داود) في "السنّة"(4686)، و (النسائيّ) في "تحريم الدم"(29/ 4127 و 4128)، وفي "الكبرى"(29/ 3590 و 3591)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3943)، و (ابن أبي شيبة) في "المصنّف"(15/ 30)، و (أحمد) في "مسنده"(5553 و 5572 و 5775)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(62 و 63)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(223 و 224)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(187)، و (ابن منده) في "الإيمان"(658 و 659)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[232]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يُحَدِّثُ عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "وَيْحَكُمْ - أَوْ قَالَ -: وَيْلَكُمْ، لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) هو: محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقة [10]، مات سنة (240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون تقدّموا قبل حديث.
وقوله: ("ويحَكُمْ، أَوْ قَالَ: وَيْلَكُمْ)"أو" للشكّ من الراوي، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: هما كلمتان، استَعْمَلتهما العرب بمعنى التعجب والتوجع، قال سيبويه رحمه الله تعالى:"ويل" كلمة لِمَنْ وَقَعَ في هَلَكَة، و"ويح" تَرَحُّمٌ، وحُكِيَ عنه:"ويحٌ" زَجْرٌ لمن أشرف على الْهَلَكة، وقال غيره: ولا يراد بهما الدعاء بإيقاع الهَلَكة، ولكن الترحم والتعجب، ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"وَيْحٌ" كلمة رحمة، وقال الْهَرَويّ:"ويح" لمن وَقَع في هَلَكَة لا يستحقُّها، فيُتَرَحَّم عليه ويُرْثَى له، و"ويلٌ" للذي يستحقّها، ولا يُتَرَحَّم عليه. انتهى
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله تعالى في "لسان العرب"(2/ 638):
"ويحَ" كلمةٌ تقال رحمةً، وكذلك "وَيْحَمَا"، قال حُمَيد بن ثور [من الطويل]:
أَلَا هَيَّمَا مِمَّا لَقِيتُ وَهَيَّمَا
…
وَوَيْحٌ لِمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا هُنَّ وَيْحَمَا
وقال الليث: "وَيْحَ" يقال: إنه رحمةٌ لمن تنزل به بَلِيّةٌ، وربما جُعِل مع "ما" كلمةً واحدةً، وقيل: وَيْحَمَا، و"ويح" كلمةُ تَرَحُّم وتَوَجُّع، وقد يقال بمعنى المدح والعجب، وهي منصوبة على المصدر، وقد تُرْفَع، وتضاف، ولا تضاف، يقال: ويحَ زيد، وويحًا له، وويحٌ له.
وقال الجوهريّ: "ويح" كلمة رحمة، و"ويلٌ" كلمةُ عذاب، وقيل: هما بمعنًى واحد، وهما مرفوعتان بالإبتداء، يقال: ويحٌ لزيد، وويلٌ لزيد، ولك أن تقول: ويحًا لزيد، وويلًا لزيد، فتنصبهما بإضمار فعل، وكأنك قلت: ألزمه الله وَيْحًا ووَيْلًا، ونحو ذلك، ولك أن تقول: وَيْحَكَ، وويحَ زيد، وويلَك، وويل زيد بالإضافة، فتنصبهما أيضًا بإضمار فعل، وأما قوله تعالى:{فَتَعْسًا لَهُمْ} و {بُعْدًا لِثَمُودَ} وما أشبه ذلك، فهو منصوب أبدًا؛ لأنه لا تصح إضافته بغير لام؛ لأنك لو قلت: فتعسهم أو بُعْدهم، لم يصلح، فلذلك افترقا.
(1)
راجع: "شرح مسلم" للنوويّ 2/ 56 - 57.
وقال الأصمعيّ: الويل قُبُوحٌ، والويحُ تَرَحُّمٌ، وويسٌ تصغيرها، أي هي دونها.
وقال أبو زيد: الويل هلكة، والويح قُبُوحٌ، والويس ترحُّم.
وقال سيبويه: الويل يقال لمن وقع في الهلكة، والويح زَجْرٌ لمن أشرف على الهلكة، ولم يَذكُر في الويس شيئًا.
وقال ابن الفرج: الويح والويل والوَيس واحد.
وقال ابن سِيدَهْ: وَيْحَهُ كويله، وقيل: ويح تقبيح، وقال ابن جني: امتنعوا من استعمال فِعْلِ الويح؛ لأن القياس نفاه ومَنَع منه، وذلك لأنه لو صُرِّفَ الفعل من ذلك لوجب اعتلال فائه كوَعَدَ، وعينه كباع، فتحامَوْا استعماله لِمَا كان يُعْقِب من اجتماع إعلالين، قال: ولا أدري أَأَدْخَل الألف واللام على الويح سماعًا أم تبَسُّطًا وإِدْلالًا؟.
وقال الخليل: وَيْسٌ كلمة في موضع رأفة واستملاح، كقولك للصبيّ: ويحه ما أملحه، وويسه ما أملحه، قال: وليس بينه وبين الويل فرقٌ، إلا أنه ألين قليلًا.
وقال الأزهريّ: وقد قال أكثر أهل اللغة: إن الويل كلمة تقال لكل من وقع في هلكة وعذاب، والفرق بين ويح وويل، أن ويلًا تقال لمن وقع في هلكة أو بَلِيَّة لا يُتَرّحم عليه، وويحًا تقال لكل من وقع في بَلِيَّة يُرْحَم ويُدْعَى له بالتخلص منها، ألا ترى أن الويل في القرآن لمستحقي العذاب بجرائمهم:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7]، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} [المطففين: 1] وما أشبهها؟ ما جاء ويل إلا لأهل الجرائم، وأما ويح فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالها لعمار الفاضل، كأنه أُعْلِم ما يُبْتَلَى به من القتل، فتوجع له وترحم عليه. قال: وأصل "ويح" و"ويس"، و"ويل" كلمة كلُّه عندي وُصِلت بحاء مرةً، وبسين مرةً، وبلام مرةً.
قال سيبويه: سألت الخليل عنها، فزعم أن كُلَّ مَن نَدِمَ فأظهر ندامته، قال: وَيْ، ومعناها التنديم والتنبيه.
وقال ابن كيسان: إذا قالوا له: ويلٌ له، وويحٌ له، وويسٌ له؛ فالكلام فيهن الرفع على الإبتداء، واللام في موضع الخبر، فإن حُذفت اللام لم يكن
إلا النصب، كقوله: وَيْحَهُ، وَوَيْسَهُ. انتهى
(1)
.
وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما قريبًا، فلتراجعهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[233]
(
…
) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) حرملة بن عِمران التَّجِيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقة [6].
رَوَى عن أبيه، وجدّه زيد، وعم أبيه سالم، وابن عم أبيه عبد الله بن واقد بن عبد الله، وابني عم أبيه الآخر القاسم وأبي بكر بني عُبيد الله بن عبد الله، وأخويه: زيد وأبي بكر بني محمد، وزيد بن أسلم، وحفص بن عاصم، ونافع مولى ابن عمر، وعبد الله بن يسار الأعرج، وعُمر بن عبد الله مولى غُفْرَة.
ورَوى عنه أخوه عاصم، وشعبة، ومالك، والسفيانان، وابن المبارك، ويزيد بن زُريع، والوليد بن مسلم، ومحمد بن شعيب بن شابور، وابن وهب، وأبو بَدْر شُجاع بن الوليد، ومحمد بن ربيعة الكلابيّ، وأبو عاصم النبيل وغيرهم.
(1)
"لسان العرب" 2/ 638 - 639.
قال ابن سعد: كان ثقةً، قليل الحديث، مات بعد أخيه أبي بكر بقليل، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: شيخٌ ثقةٌ، ليس به بأس، روى عنه الثوريّ، وأثنى عليه، وقال حنبل عن أحمد: ثقةٌ، وكذا قال ابن معين، والعجليّ، وأبو داود، وقال الدُّورِيُّ عن ابن معين: مات بعسقلان، وكان مُرَابِطًا بها، وكان ولده بها، وكان صالح الحديث، وقال أبو حاتم: هم خمسة إخوة أوثقهم عُمر، وهو ثقة صدوق، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال علي بن نصر الْجهضميّ، عن عبد الله بن داود الْخُرَيبيّ، عن سفيان الثوريّ: لم يكن في آل عمر أفضل من عمر بن محمد بن زيد العسقلانيّ، وقال ابن عيينة: حدثني الصَّدُوق الْبَرُّ عمر بن محمد بن زيد، وقال يحيى بن حكيم عن أبي عاصم: كان من أفضل أهل زمانه، كان أكثر مقامه بالشام، قَدِمَ إلى بغداد، فانجفل الناس إليه
(1)
، وقالوا: ابنُ عمر بن الخطاب، ثم قَدِمَ الكوفة، فأخذوا عنه، وكان له قدر وجلالة، وقال الآجريّ عن أبي داود: قال عبد الله بن داود - يعني الْخُريبِيَّ -: ما رأيت رجلًا قَط أطول منه، وبلغني أنه كان يَلْبَس درع عمر، فيسحبها، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه أيضًا العجليّ، وابن الْبَرْقيّ، والبزار.
مات بعد أخيه أبي بكر بقليل، ومات أبو بكر بعد خروج محمد بن عبد الله بن حسن، وخرج محمد سنة (145) وقُتِل في السنة التي خرج فيها، أجمع على ذلك أهل التاريخ.
روى له الجماعة سوى الترمذيّ، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا، وعند ابن ماجه حديث واحد، وهو حديث الباب فقط.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (أن أباه) هو محمد بن زيد المذكور في السند الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدٍ) يعني أن حديث عبد الله بن وهب عن عمر بن محمد، مثل حديث شعبة عن أخيه واقد بن محمد.
(1)
أي أسرعوا إليه.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن وهب، عن عمر بن محمد التي أحالها المصنّف رحمه الله تعالى هنا، ساق لفظها أبو نُعيم في "المسند المستخرج"(1/ 152)، فقال:
(224)
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا أبو يعلى، ثنا أحمد بن عيسى المصريّ، ثنا ابن وهب، أخبرني عُمر بن محمد بن زيد، أن أباه حدثه، عن عبد الله بن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع:"ويحكم لا ترجعوا بعدي كُفّارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(32) - (بَابُ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُفْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي النَّسَب، وَالنِّيَاحَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[234]
(67) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح)
وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَن الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَب، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانيةٌ:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ المذكور قبل حديث.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ المذكور قبل باب.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد بن عبد الله بن نُمير الهمداني الكوفيّ المذكور قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ المذكور قريبًا أيضًا.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ) بن أبي أُميّة - واسمه عبد الرحمن، ويقال:
إسماعيل - الطَّنَافسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأحدب، ثقة حافظٌ [9]
(1)
.
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن عروة، وابن إسحاق، ووائل بن داود، ويزيد بن كيسان وجماعة.
ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، وابنا أبي شيبة، وأبو خَيْثمة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأحمد بن منيع، وهارون بن عبد الله، وهناد بن السري، ويحيى بن موسى الْبَلْخي، ومحمد بن عيسى بن الطباع وغيرهم.
قال الأثرم: وسألته - يعني أحمد بن حنبل - عن عُمر بن عبيد، ومحمد بن عبيد، ويعلى بن عبيد، فوثّقهم، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت يحيى بن معين - وسئل عن وَلَدِ عبيد: محمد، وعُمر، ويعلى - فقال: كانوا ثقات وأثبتهم يعلى، وقال المفضل الغلابي عن يحيى: بنو عُبيد ثقات، وقال ابن عمار: كلهم ثبت، وأحفظهم يعلى، وأبصرهم بالحديث محمد، وعمر شيخهم، وكان الأخ الرابع لا يُحسِن قليلًا ولا كثيرًا، وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان عثمانيًّا، وكان حديثه أربعة آلاف يحفظها، وقال الآجري عن أبي داود: حدّث محمد بن عبيد عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يَضْرِب ولده على اللحن، فقال له رجل: لو أخذناك بهذا ما رفعنا عنك العصا، وقال النسائي: ثقة. وقال الدارقطني: محمد، وعُمر، ويعلى، وإدريس، وإبراهيم بنو عُبيد، كلهم ثقات، وأبوهم ثقة حدّث أيضًا، وكان أبو طالب الحافظ - يعني أحمد بن نصر - يقول: عُبيد بن أبي مَيَّةَ، وأهل الحديث يقولون: ابن أبي أُمَيَّة. وقال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: أتيناه، وكان لا يجترئ على قراءة كتابه، حتى نُعينه عليه، أو نحو هذا، قاله يحيى، وما ذكره إلا بخير، وقال الدوري: سمعت محمد بن عبيد يقول: خير هذه الأمة بعد نبيّها صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويقول: اتّقوا، لا يَخْدَعكم هؤلاء الكوفيون. وقال حرب عن أحمد: كان محمد رجلًا صدوقًا،
(1)
وقع في نسخ "التقريب" أنه من الحادية عشرة، والظاهر أنه غلط، بل هو من التاسعة، كما هو ظاهر من مشايخه، وتلامذته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال: يعلى أثبت منه، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: كان محمد يُظهر السنة، وكان يخطئ ولا يرجع عن خطئه، وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، صاحب سنة.
وقال يعقوب بن شيبة: مات قبل أخيه يعلى، سنة أربع ومائتين، سمعت علي بن المديني يقول: كان كَيِّسًا، وقال خليفة ومطيّن: مات سنة خمس، وقال ابن قانع وابن حبان: مات سنة ثلاث، وقيل: سنة خمس، وقال الخطيب: كان مولده سنة أربع وعشرين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث رقم
(1)
(976): "استاذنت ربي في أن أستغفر لها
…
"، و (2641): "المرء مع من أحبّ".
6 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران المذكور قريبًا أيضًا.
7 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات الكوفيّ المذكور قريبًا أيضًا.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه المذكور قريبًا أيضًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه أبا بكر فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن أبا معاوية أحفظ الناس لأحاديث الأعمش، وهو أحفظ الناس لأحاديث أبي صالح.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.
5 -
(ومنها): أن محمد بن عبيد هذا أول محل ذكره في الكتاب، وجملة ما رواه عنه المصنّف ثلاثة أحاديث فقط، كما أوضحتها آنفًا.
6 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى بمحمد بن عبيد في الكتب الستة نحو
(1)
ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
أحد عشر راويًا، فمنهم في "الصحيحين" ثلاثة: أحدهم: هذا المترجم هنا عند الجماعة، والثاني: محمد بن عبيد بن حساب الْغُبريّ البصريّ من شيوخ المصنّف، وأبي داود، وروى له النسائيّ بواسطة، ولا رواية له عند غيرهم، والثالث: محمد بن عبيد بن ميمون المدني التَّبّان، من شيوخ البخاريّ وابن ماجه فقط، ولا رواية له عند غيرهم، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعي: الأعمش، عن أبي صالح.
8 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اثْنَتَانِ) مبتدأ سوّغه وصفه بقوله: (فِي النَّاسِ) أي كائنان في الناس، أو سوّغه وصفه بمقدّر، أي خصلتان اثنتان، و"في الناس" حال، (هُمَا) مبتدأ ثان أو هو ضمير فصل، (بِهِمْ) أي فيهم، فالباء بمعنى "في"، وقوله:(كُفْر) خبر المبتدأ، والمراد به كفر دون كفر إلا للمستحلّ، فإنه كفر مخرج عن الملّة، وقال النوويّ رحمه الله تعالى: فيه أقوال:
[أصحّها]: أن معناه أنهما من أعمال الكفّار وأخلاق الجاهليّة.
[والثاني]: أنه يؤدّي إلى الكفر.
[والثالث]: أنه كفر النعمة والإحسان.
[والرابع]: أن ذلك في المستحلّ، ذكر هذا كله النوويّ في "شرحه"
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله: "كُفْرٌ" أي من أعمال أهل الكفر وعادتهم، وأخلاق الجاهليّة. انتهى.
(الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ) خبر لمحذوف، أي أحدهما الطعن في النسب، وهو بفتح الطاء وسكون العين: مصدر طَعَنَ، يقال: طَعَنَ فيه بالقول وطَعَنَ عليه، من بابي قتل ونَفَعَ، طَعْنًا وطَعْنَانًا: إذا قَدَح فيه وعاب
(2)
.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 57.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 373.
ومعنى الطعن في النسب قدح بعض الناس في نسب بعضهم بغير علم
(1)
.
(وَ) الثاني (النِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ") بكسر النون وتخفيف الياء: اسم من النَّوْح، يقال: ناحت المرأة زوجها وعليه نَوْحًا، من باب قال، والاسم النُّوَاح بالضمّ وزانُ غُرَاب، وربّما قيل: النِّياحُ، بالكسر، ومَنَاحةً، فهي نائحة
(2)
.
و"النياحة": رفع الصوت بالنَّدْب
(3)
وهو تعديد محاسن الميت وشمائله مع البكاء، كقوله: واكهفاه، واجبلاه، واسنداه، واكريماه، ونحوها، وهو حرام
(4)
.
وقال ابن العربيّ رحمه الله تعالى: النوح: هو ما كانت الجاهليّة تفعله، كان النساء يَقِفن متقابلات يَصِحْنَ، وَيحْثين التراب على رؤوسهنّ، ويَضْربن وجوههنّ. انتهى.
[فإن قلت]: كيف تجمع بين قوله هنا: "اثنتان في الناس هما بهم كفر
…
إلخ" وبين ما أخرجه المصنف في "كتاب الجنائز" من حديث أبي مالك الأشعري زحبه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة
…
" الحديث
(5)
.
وما أخرجه الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة، والطعن في الأحساب، والْعَدْوَى؛ جَرِبَ بعيرٌ فأجرب مائة بعير، من أجرب البعير الأول؟ والأنواءُ؛ مطرنا بنوء كذا وكذا".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وهو كما قال.
[قلت]: يُجمع بينها بأنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه باثنتين فأخبر بهما، ثم أوحي إليه
(1)
"فتح" 7/ 203 "كتاب مناقب الأنصار" حديث (3850).
(2)
راجع "القاموس" ص 223، و"المصباح" 2/ 629.
(3)
بفتح، فسكون، يقال: نَدَبت المرأة نَدْبًا، من باب قَتَلَ.
(4)
راجع: "المجموع شرح المهذّب للنوويّ" 5/ 280.
(5)
أخرجه المصنّف في "الجنائز" برقم (934) ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
بعد ذلك بالزائد فأخبر به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[32/ 234](67)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 390)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 377 و 441 و 496)، ولأبي داود الطيالسيّ (2395)، وأحمد (2/ 415 و 455 و 526)، و (الترمذيّ)(1001) من طريق المسعوديّ وشعبة، كلاهما عن علقمة بن مرثد، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا بلفظ: "أربعة من أمر الجاهليّة لن يدعهنّ الناس
…
" الحديث، وقد أسلفته آنفًا، ولأحمد (2/ 262) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "ثلاث من عمل الجاهليّة، لا يتركهنّ أهل الإسلام: النياحة، والاستسقاء بالأنواء، والتعاير" يعني بالأنساب.
وفي الباب عن جنادة بن مالك عند البزّار (797)، والطبرانيّ (2178)، والبخاريّ في "تاريخه"(2/ 233)، وعن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه عند الطبرانيّ (6100)، وعن عمرو بن عوف عند البزار (798). انظر:"مجمع الزوائد"(3/ 12 - 13)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن الطعن في النسب والنياحة كفر، فيكون منافِيًا للإيمان، وهو وجه المناسبة في إيراد المصنّف رحمه الله تعالى له في أبواب الإيمان.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: هما خصلتان مذمومتان محرّمتان في الشرع، "وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأخذ على النساء في بيعتهنّ أن لا يَنُحْنَ"، متّفقٌ عليه، وقال:"ليس منّا من لَطَمَ الْخُدُود، وشَقَّ الْجُيُوب، ودعا بدعوى الجاهليّة"، متّفقٌ عليه.
وكذلك نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن السُّخْريّة، واللَّمْز، والنَّبْزِ
(1)
، والغيبة، والْقَذْف، وكلُّ هذا من أعمال أهل الجاهليّة، فقد أخرج أبو داود في "سننه" بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ
(2)
الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تَقِيّ، وفاجر شَقِيٌّ، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرهم بأقوام، إنما هم فَحْمٌ من فَحْمِ جهنم، أو ليكونُنّ أهون على الله من الْجعْلان التي تَدْفعُ بأنفها النَّتِنَ"
(3)
.
وقال الله عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية [الحجرات: 13]، فعرّف نعمته بالأنساب للتعارف والتواصل، فمن تسوّر على قطعها والْغَمْص فيها، فقد كفر نعمة ربّه وخالف مراده.
وكذلك أمر الله تعالى بالصبر، وأثنى على الصابرين، ووعدهم رحمته وصِلاته، ووصفهم بهدايته، وحتَمَ الموت على عباده، فمن أبدى السُّخْط والكراهة لقضاء ربّه، وفَعَلَ ما نهاه عنه، فقد كفر نعمته فيما أعدّ للصابرين من ثوابه، وتشبّه بمن كفر من الجاهليّة به. انتهى كلام القاضي ببعض تصرف
(4)
.
2 -
(ومنها): عناية الشارع بتنبيه الناس على البعد من أعمال الجاهليّة، فإنها منافية للإسلام ومناقضة للعهد الذي أخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم، لا يَظْلِمه، ولا يُسْلِمه
…
" الحديث.
وأخرجا أيضًا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
(1)
"اللمز" عيب الناس، والوقوع فيهم، والإشارة بالعين ونحوها، وخضه بعضهم بأن يكون في قفا الملموز، و"النَّبْز": هو التعيير بما يكره من الألقاب.
(2)
بضم العين وكسرها، وتشديد الموحدة والياء: الكبر والتجبر، والنخوة.
(3)
حديث حسن، رجاله رجال الصحيح، غير هشام بن سعد، وهو مختلف فيه، وحديثه حسن، وأخرج له مسلم في الشواهد، وقال ابن معين: صالح، وقال أبو زرعة: محله الصدق، وقال العجليّ: جائز الحديث، حسن الحديث، وبالجملة فحديثه حسن، والله تعالى أعلم.
(4)
"إكمال المعلم" 1/ 361 - 363.
تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
3 -
(ومنها): تحريم الطعن في النسب بنحو ذمّ وعيب، بأن يقدح في نسب أحد من الناس، فيقول: ليس هو من ذرّيّة فلان؛ لأنه هجوم على الغيب، ودخول فيما لا يعني، وتحقير للمسلم، وكسر قلبه بإدخال العار عليه.
4 -
(ومنها): تحريم النياحة، وهو تعديد محاسن الميت وشمائله، كقوله: واكهفاه، واجبلاه، واسنداه، واكريماه ونحوها، وهو حرام، وإن لم يكن معه بكاء؛ لأن في ذلك تسخطًا لقضاء الله تعالى، ومعارضة لأحكامه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(33) - (بَابُ تَسْمِيَةِ الْعَبْدِ الآبِقِ كَافِرًا)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[235]
(68) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي ابْنَ عُلَيَّةَ - عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَن الشَّعْبِيّ، عَنْ جَرِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبِقَ مِنْ مَوَالِيه، فَقَدْ كَفَرَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ"، قَالَ مَنْصُورٌ: قَدْ وَاللهِ رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُرْوَى عَنِّي هَهُنَا بِالْبَصْرَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو ابن إبراهيم بن مِقسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْغُدَانيّ
(1)
الأشلّ البصريّ، صدوق يَهِم [6].
(1)
بضم الغين المعجمة، وتخفيف الدال المهملة، نسبة إلى غُدَانة بن يَرْبُوع بن =
رَوَى عن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، وعامر الشعبيّ، والحسن البصري.
وروى عنه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البَلْخِيَّ، وشعبة بن الحجاج، وبشر بن المفضل، وإسماعيل ابن علية.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالح رَوَى عنه شعبة، قلت: ثقة؟ قال: حَدّث عنه شعبة، وإسماعيل، إلا أنه يخالف في أحاديث، وهو ثقة، ليس به بأس، وقال ابن معين وأبو داود: ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ، يُكتَب حديثه ولا يحتجّ به، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ إمام مشهور فقيه فاضل [3](ت بعد المائة)، وله نحو ثمانين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(جَرِير) بن عبد الله الصحابيّ الشهير رضي الله عنه المذكور قبل باب، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن فيه قوله: "يعني ابن عُليّة"، هذه العناية من المصنّف رحمه الله تعالى، وذلك أن شيخه لم ينسب إسماعيل، فلما أراد أن ينسبه أتى بـ "يعني" فصلًا بين ما زاده وبين كلام شيخه.
3 -
(ومنها): أن منصورًا ليس له رواية في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، كما نبّهتُ عليه آنفًا.
4 -
(ومنها): أن جملة من يُسمّى بمنصور بن عبد الرحمن في الكتب الستة اثنان فقط:
[أحدهما]: هذا المترجم هنا عند المصنّف وأبي داود فقط.
[والثاني]: منصور بن عبد الرحمن بن طلحة الْعَبْدريّ الْحَجَبيّ المكّي عند الجماعة إلا الترمذيّ.
= حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تيم، قاله في "الأنساب" 4/ 283، و"اللباب" 2/ 375.
ولهم ثالث يُذكَر للتمييز، وهو منصور بن عبد الرحمن الْبُرْجُميّ.
[تنبيه]: ذكر النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه"(2/ 59) ما نصّه: وفي الرواة خمسةٌ يقال لكلّ واحد منهم منصور بن عبد الرحمن، هذا أحدهم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ نقله عن الحافظ أبي بكر الخطيب في كتابه "المتّفق" والمفترق" (3/ 1922)، فقد قال فيه: منصور بن عبد الرحمن خمسة، منهم اثنان ذكرهما البخاريّ في "تاريخه"، ثم قال: منصور بن عبد الرحمن بن الأحوص القرشيّ، من بني عبد شمس، مدنيّ، حدّث عن زيد بن ثابت، روى عنه الزهريّ، ثم ذكر الثلاثة المذكورين هنا، ثم قال: ومنصور بن عبد الرحمن حدّث عن الحسن البصريّ، روى عنه إبراهيم بن طهمان، ثم أورد الخطيب حديثًا من طريقه.
قال الجامع: أما منصور بن عبد الرحمن القرشيّ، فقد ذكره البخاريّ في "التاريخ الكبير"(4/ 1/ 344) باسم منصور بن عبد الله، وكذا هو في "الجرح والتعديل"(8/ 174) لابن أبي حاتم، و"الثقات"(5/ 429) لابن حبّان، ولكن أشار في هامش "التاريخ الكبير" أنه وقع باسم: منصور بن عبد الرحمن، ولعل الخطيب اعتمد على هذه النسخة، والظاهر أنها غير صحيحة؛ لأن ابن أبي حاتم، وابن حبان ذكراه بابن عبد الله، والله تعالى أعلم.
وأما منصور الأخير فلم أر له ذكرًا عند غيره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَرِير) بن عبد الله البجليّ رضي الله عنه (أَنَّهُ) أي منصورًا (سَمِعَهُ) أي جريرًا رضي الله عنه (يَقُولُ: "أَيُّمَا عَبْدٍ)"أيُّ" اسم شرط مبتدأ، وفي خبره الخلاف، هل هو جملة الشرط، أو الجواب، أو هما معًا؟ كما هو موضّح في كتب النحو، و"ما" زائدة، و"أيُّ" مضاف إلى "عبد"(أَبِقَ) بكسر الموحّدة وفتحها، يقال: أَبِقَ
(1)
"شرح مسلم" 2/ 59.
العبدُ، كسَمِعَ، وضَرَبَ، وقَتَل
(1)
أَبْقًا، ويُحَرَّكُ، وإِبَاقًا، ككتاب: ذهب بلا خوفٍ ولا كذ عَمَل، أو استخفى ثم ذهب، فهو آبقٌ وأَبُوقٌ، وجمعه ككُفّار ورُكَّع، قاله في "القاموس"
(2)
، وفي "المصباح": أَبِقَ العبدُ أَبْقًا، من بابي تَعِبَ وَقَتَلَ في لغة، والأكثر من باب ضَرَب: إذا هَرَبَ من سيّده من غير خوفٍ ولا كدّ عَمَلٍ، هكذا قيّده في "كتاب العين"، وقال الأزهريّ: الأَبْقُ: هُرُوبُ العبد من سيّده، والإِبَاقُ بالكسر اسمٌ منه، فهو آبقٌ، والجمعُ أُبّاقٌ، مثلُ كافر وكُفّار. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ في "شرحه": "وأبِقَ" بفتح الباء، وكسرها لغتان مشهورتان، والفتح أفصح، وبه جاء القرآن:{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} [الصافات: 140]. انتهى
(4)
.
(مِنْ مَوَالِيهِ) متعلّق بـ "أبق"، وهو جمع مولى بمعنى السيّد، وقد سبق أنه يُطلق على أحد وعشرين معنى، جمعتها في أبيات تقدّم ذكرها، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق. (فَقَدْ كَفَرَ) تقدّم في الباب الماضي أقوال أهل العلم في المعنى المراد بالكفر هنا، وأن الأصحّ أنه كفر دون كفر، وليس كفرًا مخرجًا من الإسلام إلا لمن استحلّه (حَتَّى يَرْجِعَ) بفتح أوله وكسر ثالثه، من باب ضرب (إِلَيْهِمْ") فيه أن رجوعه إليهم يُعدّ توبة في حقّه.
(قَالَ مَنْصُور) هو ابن عبد الرحمن الراوي عن الشعبيّ (قَدْ وَاللهِ) قسم معترض بين "قد" ومدخولها (رُوِيَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله ضمير الحديث المذكور.
والمعنى: أن هذا الحديث الذي رواه الشعبيّ عن جرير رضي الله عنه موقوفًا عليه مرويّ (عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) مرفوعًا.
ولفظ أبي نُعيم في "مستخرجه": "قال منصور: وقد والله قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(1)
وقع في "القاموس": "وَمَنَعَ"، لكن الصواب، كما في "الصحاح"، و"المصباح" و"اللسان" أنه من باب قتل، فلذا أصلحته به، وقد نبه على هذا الشارح المرتضى، والله تعالى أعلم.
(2)
"القاموس" ص 778.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 2.
(4)
"شرح مسلم" 2/ 59.
ورواه ابن منده في "الإيمان" من طريق شعبة عن منصور الأشلّ، قال: سمعت الشعبيّ يُحدّث عن جرير، قال شعبة: حدّثنيه مرّتين، ورفعه آخر مرّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد الآبق
…
" الحديث.
ورواه الخطيب البغداديّ في كتابه "المتّفق والمفترق" بسند المصنّف، وفيه: "قال منصور: قد والله رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
".
(وَلَكِنِّي أَكْرَهُ) بفتح أوله وثالثه، من باب تَعِبَ (أَنْ يُرْوَى عَنِّي) ببناء الفعل للمفعول، أي ينقله الناس عنّي (هَهُنَا بِالْبَصْرَةِ) بفتح الموحّدة وكسرها: المدينة المعروفة بالعراق، بُنيت في عهد عمر زعنه سنة ثماني عشرة من الهجرة بعد وقف السواد، ولذا دخلت في حدوده دون حكمه، قاله الفيّوميّ
(1)
.
ومعنى كلام منصور رحمه الله تعالى هذا أنه رَوَى هذا الحديثَ عن الشعبيّ، عن جرير موقوفًا عليه، ثم قال منصور بعد روايته إياه موقوفًا: والله إنه مرفوعٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاعلموه أيها الخواصّ الحاضرون، فإني أكرَه أن أُصَرِّح برفعه في لفظ روايتي، فَيَشِيَع عنيّ في البصرة التي هي مملوءة من المعتزلة والخوارج، الذين يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار، والخوارج يزيدون على التخليد، فَيَحْكُمُون بكفره، ولهم شبهة في التعلّق بظاهر هذا الحديث، وقد قَدَّمنَا تأويله، وبطلان مذاهبهم بالدلائل القاطعة الواضحة التي ذكرناها في مواضع من هذا الكتاب، قاله النوويّ رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جرير رضي الله عنه عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[33/ 235 و 236 و 237](68)، و (أبو داود) في "الحدود"(4360)، و (النسائيّ) في "كتاب المحاربة"(4051 و 4052 و 4053 و 4054 و 4055 و 4056 و 4057 و 4058)، وفي "الكبرى"
(1)
"المصباح" 1/ 50.
(3512 و 3513 و 3514 و 3515 و 3516 و 3517 و 3518 و 4519)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 357 و 365)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(70 و 71 و 72 و 73 و 74)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(226 و 227 و 228)، و (ابن منده) في "الإيمان"(666 و 667 و 668 و 669)، والبيهقيّ في "الكبرى"(8/ 204)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن إباق العبد من مواليه معصية كبيرة، تُضادّ مقتضيات الإيمان من وجوب الطاعة لهم، وهذا هو وجه إدخال المصنّف لهذا الحديث في أبواب الإيمان.
2 -
(ومنها): أن الإباق يعتبر كفرًا، وقد سبق أنه كفر دون كفر، فهو كفر لنعمة الله تعالى عليه.
3 -
(ومنها): أن قول منصور بن عبد الرحمن: "ولكني أكره أن يُرْوَى عني ها هنا بالبصرة" فيه ما كان عليه السلف من تيقّظهم وتحفّظهم من أن يتعلّق المبتدعون بالنصوص التي يروونها فيما يؤيّد بِدَعَهُم، وهكذا ينبغي للعالم أن يكون يَقِظًا متحفّظًا، لا ينشر من العلم بين العوامّ ما فيه مُتمسَّك لأهل الضلال وإن كان في نفسه حقًّا، فلا يورد النصوص التي ظواهرها تؤيّد أفكارهم، وعلى ذلك بوّب الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى في "كتاب العلم" من "صحيحه"، فقال:"باب من خصّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا"، ثم أخرج بسنده عن عليّ رضي الله عنه قال: حدّثوا الناس بما يَعرِفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله؟ "، وأورد أيضًا حديث معاذ رضي الله عنه عنه حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: "لا تبشّرهم فيتكلوا"، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في (11/ 152) فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[236]
(69) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبِقَ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاث) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
2 -
(دَاوُد) بن أبي هند الْقُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، كان يَهِم بآخره [5] (ت 140) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقون تقدّموا في الذي قبله.
وقوله: (فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ) قال القرطبيّ: أي ذمّة الإيمان وعهدُه، وخَفَارته، إن كان مستحلًّا للإباق فيجب قتله بعد الاستتابة لأنه مرتدّ، وإن لم يكن كذلك فقد خرج عن حُرْمة المؤمنين وذمّتهم، فإنه تجوز عقوبته على إباقه، وليس لأحد أن يحول بين سيّده وبين عقوبته الجائزة إذا شاءها السيّد، ويقال: بَرِئْتُ من الرجل، والدين بَرَاءةً، وبَرِئت إليه بُرْءًا وبُرُوءًا، ويقال أيضًا: بَرُئت - بضم الراء - أبرُؤ. انتهى
(1)
.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: قوله: "فقد برئت منه الذمّة": أي لا ذمّة له حينئذ، و"الذمة" هنا يجوز أن تكون هي الذمة المفسرة بالذِّمَام، وهو الحرمة، ويجوز أن تكون من قَبِيل ما جاء في قوله: له ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم: أي ضمانه، وأمانته، ورعايته، وكلاءته، ومن ذلك أن الآبق كان مَصُونًا عن عقوبة السيد له وحبسه، فزال ذلك بإباقه، والله أعلم. انتهى
(2)
،
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[237]
(70) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَن الشَّعْبِيِّ، قَالَ: كَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الله، يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَبِقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ").
(1)
"المفهم" 1/ 256 "كتاب الإيمان".
(2)
"الصيانة" ص 247 - 248.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ، ثبتٌ، إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(جَرِيرٌ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(مُغِيرَةُ) بن مِقْسَم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، يدلّس [6](ت 136)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
والباقيان تقدّما قريبًا.
وقوله: (إِذَا أَبِقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ) قيل: القبول أخصّ من الإجزاء، فإن القبول هو أن يكون العملُ سببًا لحصول الأجر والرضا والقرب من الله تعالى، والإجزاء كونه سببًا لسقوط التكليف عن الذّمّة، فصلاة العبد الآبق صحيحة مجزئة لسقوط التكليف عنه بها، لكن لا أجر له عليها، قاله السنديّ رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالإجزاء وسقوط التكليف مع عدم القبول فيه نظر لا يخفى؛ إذ هو قول بلا دليل ولا حجة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "لم تُقبل له صلاةٌ" إن كان مستحلًّا حُمل الحديث على ظاهره؛ لأنه يكون كافرًا ولا يُقبل لكافر عملٌ، وإن لم يكن كذلك لم تصحّ صلاته على مذهب المتكلّمين في الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأنه منهيّ عن الكون في المكان الذي يُصلّي فيه ومأمور بالرجوع إلى سيّده، وأما على مذهب الفقهاء المصحّحين لتلك الصلاة، فيُمكن أن يُحمل الحديث على مذهبهم على أن الإثم الذي يلحقه في إباقه أكثر من الثواب الذي يدخل عليه من جهة الصلاة، فكأن صلاته لم تُقبَل؛ إذ لم يتخلّص بسببها من الإثم، ولا حصل له منها ثواب يَتخلّص به من عقاب الله على إباقه، فكان هذا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شارب الخمر لا تُقبل له صلاةٌ
(1)
"شرح السنديّ" 7/ 102 - 103.
أربعين يومًا"
(1)
. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
قال الجامع: القول بعدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة هو الحقّ، كما سيأتي، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ في "شرحه": أَوَّلَ الإمام المازريّ وتبعه القاضي عياض رحمهما الله تعالى هذا الحديث على أن ذلك محمول على المستحلّ للإباق، فيَكْفُر، ولا تُقبل له صلاة ولا غيرها، ونبّه بالصلاة على غيرها.
وأنكر الشيخ أبو عمرو - يعني ابن الصلاح - هذا التأويل، وقال: بل ذلك جارٍ في غير المستحلّ، ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحّة، فصلاة الآبق صحيحة غير مقبولة، فعدم قبولها لهذا الحديث وذلك لاقترانها بمعصية، وأما صحّتها فلوجود شروطها وأركانها المستلزمة صحّتها، ولا تناقض في ذلك، ويظهر أثر عدم القبول في سقوط الثواب، وأثر الصّحّة في سقوط القضاء، وفي أنه لا يُعاقب عقوبة تارك الصلاة. هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله تعالى.
قال النوويّ: وهو ظاهر لا شكّ في حسنه، وقد قال جماهير أصحابنا: إن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة لا ثواب فيها، ورأيت في "فتاوى أبي نصر بن الصبّاغ" من أصحابنا التي نقلها عنه ابن أخيه الْقَاضِي أَبُو مَنْصُور، قَالَ: الْمَحْفُوظُ مِنْ كَلَام أَصْحَابنَا بِالْعِرَاق، أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَةِ صَحِيحَة، يَسْقُط بِهَا الْفَرْض، وَلَا ثَوَاب فِيهَا، قَالَ أَبُو مَنْصُور: وَرَأَيْت أَصْحَابَنَا بِخُرَاسَان اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَصِحُّ الصَّلَاة، قَالَ: وَذَكَرَ شَيْخُنَا فِي "الْكَامِل" أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ، ويَحْصُل الثَّوَاب عَلَى الْفِعْل، فَيَكُون مُثَابًا عَلَى فِعْله عَاصِيًا بِالْمُقَامِ فِي الْمَغْصوب، فَإِذَا لَمْ نَمْنَع مِنْ صِحَّتهَا لَمْ نَمْنَع مِنْ حُصُول الثَّوَاب، قَالَ أَبُو مَنْصُور: وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى طَرِيق مَنْ صَحَّحَهَا، وَالله أَعْلَم. انتهى كلام النوويّ.
(1)
حديث صحيح. أخرجه الترمذيّ (1863)، والنسائي (8/ 316) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2)
"المفهم" 1/ 257.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الحقّ في هذه المسألة هو الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو أنها لا تصحّ ولا يسقط بها الطلب؛ لظاهر حديث الباب، والفرق بين الصحّة والقبول مما لا يؤيّده دليلٌ، وقد ذكر ذلك في "شرح الكوكب الساطع" في الأصول، عند قوله:
مُطْلَقُ الأَمْرِ عِنْدَنَا لَا يَشْمَلُ
…
كُرْهًا فَفِي الْوَقْتِ الصَّلَاةُ تَبْطُلُ
أَمَّا الَّذِي جِهَاتُهُ تَعَدَّدَا
…
مِثْلُ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ اعْتَدَى
فَإِنَّهَا تَصِحُّ عِنْدَ الأَكْثَرِ
…
وَلَا ثَوَابَ عِنْدَهُمْ فِي الأَشْهَرِ
وَقِيلَ لَا تَصِحُّ لَكِنْ حَصَلَا
…
سُقُوطُهُ وَالْحَنْبَلِيُّ لَا وَلَا
وقوله: "والحنبليّ لا ولا" يعني أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال: لا تصحّ الصلاة، ولا ثواب فيها، وهذا هو الحقّ، فتبصر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(34) - (بَابُ بَيَانِ كفْرِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِالنَّوْءِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[238]
(71) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْل، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاس، فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ "، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِن بِي وَكَافِرٌ، فَأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِه، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَب، وَأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) المذكور في السند الماضي.
2 -
(مَالِك) بن أنس بن أبي عامر الأصبحيّ، إمام دار الهجرة الفقيه المجتهد الحافظ الحجة الثبت [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) المدنيّ، أبو محمد أو أبو الحارث، مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ ثبتٌ فقية [4](ت بعد 130 أو بعد 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(زيدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ) أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو طلحة، ويقال: أبو زرعة، المدنيّ، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عثمان، وأبي طلحة، وعائشة، وروى عنه ابناه: خالد وأبو حَرْب، ومولاه أبو عمرة، وعبد الرحمن بن أبي عَمْرة، وقيل: أبو عمرة الأنصاريّ، وأبو الْحُبَاب سعيد بن يسار، وعبيد الله الْخَوْلانيّ، وعبد الله بن قيس بن مَخْرَمة، وبسر بن سعيد، وعطاء بن أبي رَبَاح، وعطاء بن يسار، ويزيد مولى الْمُنْبَعِث، وأبو سالم الْجَيْشانيّ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم.
شَهِد الْحُديبية، وكان صاحب لواء جُهَيْنَةَ يوم الفتح، قال أحمد بن الْبَرْقيّ: تُوُفّي بالمدينة سنة ثمان وسبعين، وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقال غيره: بالكوفة، وقال ابن سعد وآخرون: مات في آخر أيام معاوية، وقال البغويّ: مات سنة (68)، وقال ابن حبان في "الصحابة": مات سنة (78)، قال: وقد قيل: سنة (68).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا
(1)
، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة غير شيخه، فتفرّد به هو والبخاريّ، والترمذيّ، والنسائيّ.
(1)
هكذا في برنامج الحديث، والذي ذكرته في "قرّة العين"(ص 144) نقلًا عن ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى أن له (81) حديثًا، اتفق الشيخان على خمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثلاثة، ويمكن أن يكون التفاوت بالتكرار، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بفقهاء المدنيين غير شيخه، فإنه نيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: صالح عن عبيد الله.
5 -
(ومنها): أن فيه أحد الفقهاء السبعة، عبيد الله بن عبد الله، وقد تقدّم ذكرهم غير مرّة.
6 -
(ومنها): أن زيد بن خالد رضي الله عنه هذا أوّل محلّ ذكره في هذا الكتاب، وجملة ما روى له المصنّف فيه (16) حديثًا، كما بيّنته آنفًا، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّاني في "تقييد المهمل" بعد أن أورد إسناد المصنّف هذا ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث، وفي نسخة أبي العلاء بن ماهان:"مالك، عن صالح بن كيسان، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس"، وإدخال الزهريّ في هذا الإسناد خطأٌ بَيِّنٌ، وصالح بن كيسان يرويه عن عبيد الله بن عبد الله دون واسطة، وصالح أسنّ من الزهريّ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنيِّ) هكذا
(2)
يقول صالح بن كيسان، لم يُخْتَلَف عليه في ذلك، وخالفه الزهريّ، فرواه عن شيخهما عبيدِ الله، فقال: عن أبي هريرة، كما سيأتي في الرواية التي يوردها المصنّف بعد هذا من طريقه، فالطريقان صحيحتان؛ لأن عبيد الله سَمِع من زيد بن خالد وأبي هريرة جميعًا عِدَّةَ أحاديث، منها: حديث الْعَسِيف وحديث الأمة إذا زَنَت، فلعله سمع هذا منهما، فحَدَّث به تارةً عن هذا وتارةً عن هذا، وإنما لم يجمعهما لاختلاف لفظهما كما تراه في روايتيهما، وقد صرح صالح بسماعه له من عبيد الله عند أبي عوانة في "مسنده"(67)، ورَوَى صالح عن عبيد الله بواسطة الزهري عِدّة
(1)
"تقييد المهمل، وتمييز المشكل" 3/ 779 - 780.
(2)
راجع: "الفتح" 2/ 674.
أحاديث، منها: حديثُ ابن عباس في شاة ميمونة، كما سيأتي في "كتاب الحيض"(363)، وحديثه عنه في قصة هِرَقل كما سيأتي في "الجهاد والسِيَر"(1773)
(1)
.
(قَالَ: صَلَّى بِنَا) أي صلّى إمامًا ونحن مقتدون به، ووقع عند البخاريّ: بلفظ: "صَلَّى لنا" باللام، أي لأجلنا، أو اللام بمعنى الباء أي صلى بنا، وفيه جواز إطلاق ذلك مجازًا، وإنما الصلاة لله تعالى، قاله في "الفتح"
(2)
.
(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ) بالمهملة والتصغير، وتخفف ياؤها وتُثَقَّل، يقال: سُمِّيَت بشجرة حدباء هناك، قاله في "الفتح".
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أكثر رواة الحديث والخبر يُشدّدون الياء من الحديبية، والْحُذّاق منهم يُخفّفونها، وكذا قرأناه بالوجهين وبالتخفيف سمعناها من متقنيهم وحُفّاظهم: أبي الحسين بن سراج اللغويّ، وأبي عبد الله بن سليمان الحافظ النحويّ، والقاضي الشهيد الحافظ أبي عليّ السُّكَّريّ، والراوية أبي بحر بن العاص وغيرهم، وحَكَى لنا أبو الحسين أن الأصمعيّ يُخفّفها والكسائيّ يُشدّدها، وروى لنا القاضي الشهيد، عن إسماعيل القاضي، عن ابن المدينيّ أن أهل المدينة يُشذدونها وأهل العراق يُخفّفونها.
وكذلك اختلفوا في "الْجِعْرَانة"، فأهل المدينة يكسرون العين ويُشدّدون الراء، وأهل العراق يُخفّفون العين والراء.
وكذلك اختلفوا في ابن الْمُسَيِّب، فأهل المدينة يَكسرون الياء، وأهل العراق يفتحونها، وهذا عن أهل العراق في الحديبية خلافُ ما قال لنا أبو الحسين. انتهى كلام عياض
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: في "الْحُدَيبية" لغتان: تخفيف الياء وتشديدها، والتخفيف هو الصحيح المشهور المختار، وهو قول الشافعيّ وأهل اللغة وبعضِ المحدِّثين، والتشديدُ قول الكسائيّ، وابن وهب، وجماهير المحدثين، واختلافهم في الجعرانة كذلك، في تشديد الراء وتخفيفها،
(1)
المراد ترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 2/ 674.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 368 - 369.
والمختار فيها أيضًا التخفيف. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: "الْحُديبية": موضع فيه ماءٌ، بينه وبين مكة أميال، وَصَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه، وهو محرمٌ بعمرة قبل فتح مكّة، فصدّه المشركون عن البيت، فصالحهم وشَرَطَ لهم وعليهم، ولم يدخل مكّة في تلك السنة ورجع إلى المدينة، فلما كان العام المقبل دخلها، وسيأتي تفصيل ذلك كلِّهِ - إن شاء الله تعالى -. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: "الحديبية": بئر بقرب مكة على طريق جُدّة دون مرحلة، ثم أُطلق على الموضع، ويقال: بعضه في الحلّ وبعضه في الحرم، وهو أبعد أطراف الحرم عن البيت، ونَقَل الزمخشريّ عن الواقديّ أنها على تسعة أميال من المسجد، وقال أبو العباس أحمد الطبريّ في "كتاب دلائل القبلة": حَدُّ الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال، ومن طريق جُدَّة عشرة أميال، ومن طريق الطائف سبعة أميال، ومن طريق اليمن سبعة أميال، ومن طريق العراق سبعة أميال، قال في "الْمُحْكَم": فيها التثقيل والتخفيف، ولم أَرَ التثقيل لغيره، وأهلُ الحجاز يُخَفّفون، قال الطَّرْطُوشيّ في قوله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1]: هو صلح الحديبية، قال: وهي بالتخفيف، وقال أحمد بن يحيى: لا يجوز فيها غيره، وهذا هو المنقول عن الشافعيّ، وقال السُّهَيليّ: التخفيف أعرف عند أهل العربية، قال: وقال أبو جعفر النَّحَّاس: سألت كل مَن لَقِيتُ ممن أثق بعلمه من أهل العربية عن الحديبية، فلم يَخْتَلِفُوا عليّ في أنها مخففةٌ، ونَقَلَ البكريّ التخفيف عن الأصمعيّ أيضًا، وأشار بعضهم إلى أن التثقيل لم يُسْمَع من فصيح، ووجهه أن التثقيل لا يكون إلا في المنسوب، نحو "الإِسْكَندَرِيَّة"، فإنها منسوبة إلى الإِسْكَنْدَر، وأما "الحديبية"، فلا يُعْقَلُ فيها النسبة، وياءُ النَّسَب في غير منسوب قليلٌ، ومع قلّته فموقوف على السماع، والقياسُ أن يكون أَصلها حَدْبَاةَ بألف الإلحاق ببنات الأربعة، فلما صغَرت انقلبت الألف ياء، وقيل: حُدَيْبِيَة، وَيشْهَد لصحة هذا قولهم: لُيَيْلِيَة بالتصغير، ولم يَرِدْ لها مُكَئر، فقدَّره الأئمة ليلاة؛ لأن المصغر فرع
(1)
"شرح مسلم" 2/ 60.
(2)
"المفهم" 1/ 258.
المكبر، ويمتنع وجود فرع بدون أصله، فقُدِّر أصله؛ ليجري على سَنَنِ الباب، ومثله مما سُمِعَ مُصغَّرًا، دون مكبره قالوا في تصغير غِلْمَة، وصبية: أُغيلمةٌ وأُصيبيةٌ، فَقَدَّروا أصله أَغْلِمَة وأَصْبِية، ولم يَنطِقوا به لما ذكرتُ فافهمه، فلا مَحِيد عنه، وقد تكلمت العرب بأسماءٍ مصغرةٍ ولم يتكلموا بمكبرها، ونَقَلَ الزجاجيّ عن ابن قُتيبة أنها أربعون اسْمًا. انتهى كلام الفيّوميّ
(1)
.
(فِي إِثْرِ السَّمَاءِ) بكسر الهمزة، وإسكان الثاء المثلّثة، وبفتحهما جميعًا؛ لغتان مشهورتان، ومعناه: بعدها وعَقِبها، قال الفيّوميّ: جئتُ في أَثَرِهِ بفتحتين، وإِثْرِهِ بكسر الهمزة وسكون الثاء: أي تبعته عن قُرْب. انتهى.
وقوله: (السَّمَاءِ) قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: وقع في الأصل المأخوذ عن الْجُلُوديّ "السماء" بالألف واللام، وكذلك هو في أصل الحافظ أبي القاسم العساكريّ مُضَبَّبًا عليه، وهو جائز على أن يكون قوله:"كانت" مستأنفًا لا صفةً، وهو في أصل الحافظ أبي حازم العَبْدريّ، وأصل أبي عامر العَبْدريّ بخطّيهما:"سماء" منكّرًا وهو الأولى.
و"السماء" ها هنا المطر، وكلّ ما علاك وأظلّك فهو سماء، والسماء المعروفة من المعروف أنها مؤنّثةٌ، وقد تُذكَّرُ، وأما تأنيث السماء بمعنى المطر كما جاء في هذا الحديث ففي كتاب أبي حنيفة الدِّينَوَريّ في "الأنواء": إنه يقال: للمطر سماء، ألا ترى أنهم يقولون: أصابتنا سماء غزيرة، وفي "كتاب التهذيب" للأزهريّ:"السماء" المطر، و"السماء" أيضًا سم الْمَطَرَة الجديدة، يقال: أصابتنا سماءٌ، وهذا يُشعر بتخصيص التأنيث بهذه الْمَطَرَة، والله أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح
(2)
.
وقال في "اللسان": قال الزجّاج: السماء في اللغة يقال: لكلّ ما ارتفع وعلا، وكلّ سقف فهو سماء، ومن هذا قيل للسحاب: سماءٌ لأنها عالية، والسماء كل ما علاك فأظلّك، ومنه قيل لسقف البيت: سماءٌ، والسماء التي تُظلُّ الأرضَ أُنثى عند العرب لأنها جمع سماءة، والسماءة أصلها سماوةٌ، وإذا ذُكِّرت السماءُ عَنَوْا به السقف، ومنه قول الله تعالى:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}
(1)
"المصباح المنير" 1/ 123 - 124.
(2)
"الصيانة" ص 249 - 250.
[المزمل: 18]، ولم يقال: منفطرةٌ، وقال الجوهريّ: السماء تُذكّر وتؤنّثُ أيضًا، وأنشد ابن برّيّ في التذكير [من الوافر]:
فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا
…
لَحِقْنَا بِالسَّمَاءِ وَبِالسَّحَابِ
والسماء: المطر مذكّرٌ، ومنهم من يؤنّثه وإن كان بمعنى المطر، كما تُذكّر السماء وإن كانت مؤنّثةً، كقوله تعالى:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ، قال مُعَوِّدُ الحكماء
(1)
معاوية بن مالك [من الوافر أيضًا]:
إِذَا سَقَطَ
(2)
السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
…
رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضابَا
(3)
(كَانَتْ) أي السماء وأنّثها؛ لأنه يجوز تأنيثها وتذكيرها، كما سبق آنفًا (مِنَ اللَّيْلِ) ووقع في بعض روايات البخاريّ بلفظ:"من الليلة" بالإفراد (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أي من صلاته وفرغ منها أو من مكانه الذي صلّى فيه (أَقْبَلَ عَلَى النَّاس، فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ) لفظه استفهام، ومعناه التنبيه (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ") ووقع في رواية النسائيّ:"ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ "(قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون لديه (اللهُ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولُهُ) صلى الله عليه وسلم (أَعْلَمُ، قَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم ("قَالَ) أي الله سبحانه وتعالى، قال في "الفتح": هذا من الأحاديث الإلهية، وهي تحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذها عن الله بلا واسطة أو بواسطة. قاله في "الفتح"
(4)
.
(أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي) هذه إضافة عموم، بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر، بخلاف مثل قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] فإنها إضافة تشريف (مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهره أنه الكفر الحقيقيّ؛ لأنه قابل به المؤمن الحقيقيّ، فيُحمل على من اعتقد أن المطر من فِعْل الكواكب وخَلْقِها لا من فعل الله تعالى، كما يَعتقده بعضُ جُهّال المنجّمين، والطبائعيين، والعرب، فأما من اعتقد أن الله تعالى هو الذي خَلَقَ المطر،
(1)
قيل له: معوِّد الحكماء؛ لقوله في هذه القصيدة:
أُعَوِّدُ مِثْلَهَا الْحُكَمَاءَ بَعْدِي
…
إِذَا مَا الْحَقُّ فِي الْحَدَثَانِ نَابَا
(2)
ويروى: "إذا نزل السماء".
(3)
راجع: "لسان العرب" 14/ 398 - 399.
(4)
"الفتح" 2/ 675.
واخترعه، ثم تكلّم بذلك القول، فليس بكافر، ولكنه مخطئ من وجهين:
[أحدهما]: أنه خالف الشرع، فإنه قد حذّر من ذلك الإطلاق.
[ثانيهما]: أنه قد تشبّه بأهل الكفر في قولهم، وذلك لا يجوز؛ لأنا قد أُمرنا بمخالفتهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"خالفوا المشركين"
(1)
، وقال:"خالفوا اليهود"
(2)
، ونُهينا عن التشبّه بهم، وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأفعال، والأقوال على ما يأتي - إن شاء الله تعالى -، ولأن الله تعالى قد منعنا من التشبّه بهم في النطق بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] لَمّا كان اليهود يقولون تلك الكلمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، يقصدون ترعينه، منعنا الله تعالى من إطلاقها، وقولها للنبيّ صلى الله عليه وسلم وإن قصدنا بها الخير سدًّا للذريعة ومنعًا من التشبّه بهم، فلو قال غير هذا اللفظ الممنوع يُريد به الإخبارَ عمّا أجرى الله تعالى به سنّته جاز، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا نشأت بحريّة، ثم تشاءمت، فتلك عينٌ غُدَيقةٌ"
(3)
. انتهى كلام القرطبيّ
(4)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وسيأتي البحث فيه مستوفىً في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا) بالبناء للمفعول، أي نزل علينا المطر، يقال: مَطَرَتِ السماءُ تَمْطُرُ مَطَرًا من باب طَلَبَ، فهي ماطرةٌ في الرحمة، وأمطرت بالألف أيضًا لغة، قال الأزهريّ: يقال: نبتَ الْبَقْلُ وأنبت، كما يقال: مَطَرَت السماءُ وأمطرت، وأمطرت بالألف لا غيرُ في العذاب، ثم سُمّي القَطْرُ بالمصدر وجمعه أمطارٌ، مثلُ سَبَبٍ وأسبابٍ، قاله الفيّوميّ
(5)
(بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِه، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أي مصدّق بأن المطر خَلْقي لا خَلْقُ الكوكب، أرحم به عبادي وأتفضّل عليهم به،
(1)
أخرجه البخاريّ (5892)، والمصنّف (259) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود (652) من حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه.
(3)
قال الحافظ الهيثميّ رحمه الله تعالى: رواه الطبرانيّ في "الأوسط"، وقال: تفرّد به الواقديّ، قلت: وفي الواقديّ كلام، وقد وثّقه غير واحد، وبقيّة رجاله لا بأس بهم، وقد وُثّقوا. انتهى. "مجمع الزوائد" 2/ 217.
(4)
"المفهم" 1/ 259 - 260.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 575.
كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} [الشورى: 28]. انتهى
(1)
.
(وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا) أي بطلوع نجم، وسقوط آخر، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند النسائيّ:"مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْمِجْدَح" بكسر الميم، وسكون الجيم، وفتح الدال بعدها مهملة، ويقال: بضم أوله، هو الدَّبَرَانُ، بفتح المهملة والموحدةِ بعدها، وقيل: سُمِّي بذلك لاستدباره الثُّرَيَّا، وهو نجم أحمر صغير مُنِير، قال ابن قتيبة: كُلُّ النجوم المذكورة له نَوْءٌ، غير أن بعضها أحمر وأغزر من بعض، ونَوْءُ الدَّبَرَان غير محمود عندهم. انتهى.
وكأن ذلك وَرَدَ في الحديث تنبيهًا على مبالغتهم في نسبة المطر إلى النوء، ولو لم يكن محمودًا، أو اتَّفَقَ وقوع ذلك المطر في ذلك الوقت، إن كانت القصة واحدةً.
وفي "مغازي الواقدي": إن الذي قال في ذلك الوقت: "مُطِرنا بنوء الشِّعْرَى" هو عبد الله بن أبيّ، المعروف بابن سَلُولَ، أخرجه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: "النَّوْءُ" في أصله ليس هو نفس الكوكب، فإنه مصدرُ نَاءَ النجمُ يَنُوءُ نَوْءًا: أي سَقَطَ وغاب، وقيل: أي نَهَضَ وطَلَعَ، وبيان ذلك أن ثمانية وعشرين نجمًا معروفةَ المطالع في أزمنة السنة كُلِّها، وهي المعروفة بمنازل القمر الثمانية والعشرين، يَسقُط في كل ثلاث عشرة ليلة منها نجمٌ في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، وكان أهلُ الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط الغارب منهما، وقال الأصمعيّ: إلى الطالع منهما، قال أبو عبيد: ولم أسمع أَحدًا ينسب النوء للسقوط إلا في هذا الموضع، ثم إن النجم نفسه قد يُسَمَّى نَوْءًا تسميةً للفاعل بالمصدر، قال أبو إسحاق الزجاج في بعض "أماليه": الساقطة في الغرب هي الأنواء، والطالعة في المشرق هي البوارح، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح
(3)
.
(1)
"المفهم" 1/ 260.
(2)
"الفتح" 2/ 676.
(3)
"الصيانة" ص 250 - 251.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: سيأتي في المسألة الخامسة استيفاء ما قيل في النَّوء - إن شاء الله تعالى -.
(فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ") أي حيث نسب للمخلوق ما هو من خصوصيّات الخالق، فجحد نعمة الله تعالى في ذلك، وظلم بنسبتها لغير المنعم بها، فإن كان ذلك عن اعتقاد كان كافرًا ظالمًا حقيقة، وإن كان عن غير اعتقاد، فقد تشبّه بأهل الكفر والظلم الحقيقيّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن خالد الْجُهَنيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسأله الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[34/ 238](71)، و (البخاريّ) في "الأذان" 1/ 214 (846) و"الاستسقاء" 2/ 41 (1038) و"المغازي" 5/ 155 (4147) و"التوحيد" 9/ 177 (7503)، وفي "الأدب المفرد"(907)، و (أبو داود) في "الطبّ" 4/ 227 (3906)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1525)، وفي "الكبرى"(14/ 1834)، وفي "عمل اليوم والليلة"(924 و 925)، و (مالك) في "الموطأ"(136)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(21003)، و (الحميديّ) في "مسنده"(813)، و (أحمد) في "مسنده" 4/ 115 و 116 و 117، و (أبو عوانة) في "مسنده"(66 و 67)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(229)، و (الطبرانيّ)(5213 و 5214 و 5215 و 5216)، و (ابن منده)(503 و 504 و 505)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1169)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن قول "مُطرنا بنوء كذا وكذا" كفر ينافي الإيمان، وهذا هو وجه إيراد المصنّف رحمه الله تعالى له في هذا الباب.
2 -
(ومنها): تحريم الاستمطار بالكواكب.
3 -
(ومنها): طَرْحُ الإمام المسألة على أصحابه وإن كانت لا تُدْرَك إلا بدِقَّة النظر.
4 -
(ومنها): وجوب شكر الله سبحانه وتعالى على إنزاله المطر.
5 -
(ومنها): تحريم نسبة نعمة من نعم الله تعالى إلى أحد من عباده، لا إلى ملك مقرّب، ولا إلى نبيّ مرسل، ولا إلى وليّ، أو أيّ مخلوق كان، فلا ينبغي للمسلم إذا حصلت له نعمة أن يقول: هذه مما أعطاني الشيخ الفلانيّ، بل ينسبها إلى خالقها، ومما ابتُلي به كثير ممن يعتقد بالأولياء والمشايخ الكبار نسبة ذلك إليهم، فإذا أجدبت الأرض أو حصلت أمراض في البلد يتضرعون بالدعاء، فإذا أزال الله ذلك عنهم قالوا: هذا من شيخنا الفلانيّ، أو لولا شيخنا لما حصل هذا، أو كانت امرأة أحدهم عقيمًا، ثم رزقه الله تعالى ولدًا منها قال: هذا من شيخي، بل كثيرًا ما نسمع منهم من يقول لأيّ أمر كان: إن أراد الله وأراد شيخنا سيكون هذا الأمر، وإلا فلا، بل بلغ الأمر ببعضهم أن لا يشرك شيخه بالله تعالى، بل يفرده بنسبة الأشياء إليه، فيقول: إن أراد شيخنا كذا فسيحصل لنا، وما أشبه ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أكثر غفلة كثير من الناس، وهذا من غربة الإسلام، فلقد عاد الكثيرون إلى الجاهليّة الأولى، بل إلى أشدّ وأطمّ منها كما أشرت إليه آنفًا، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء"، كما سيأتي للمصنّف، فلا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.
6 -
(ومنها): استحباب أن يقول عند نزول المطر: "مُطرنا بفضل الله تعالى وبرحمته"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر في "الفتح": أنه يستنبط من هذا الحديث أن للولي المتمكن من النظر في الإشارة أن يأخذ منها عباراتٍ، ينسبها إلى الله تعالى، قال: كذا قرأت بخط بعض شيوخنا، وكأنه أخذه من استنطاق النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عما قال ربهم، وحَمَلَ الاستفهام فيه على الحقيقة، لكنهم رضي الله عنهم فَهِموا خلافَ ذلك، ولهذا لم يجيبوا إلا بتفويض الأمر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا استنباط عجيب، فأين هو من الحديث؟ وأعجب منه سكوت الحافظ عليه بل توجيهه له، إن هذا لهو العجب
(1)
"الفتح" 2/ 676.
العجاب، قال بعض المحققين معلقًا على قوله:"ينسبها إلى الله تعالى" ما نصّه: هذا خطأٌ، وقول على الله بغير علم، فلا يجوز لمسلم أن يتعاطى ذلك، بل عليه أن يقول إذا سئل عما لا يعلم: الله أعلم، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم. انتهى، وهو تعقّب جيّد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المعنى المراد بالكفر في هذا الحديث:
قال النوويّ رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في كفر من قال: مُطِرنا بنوء كذا على قولين:
[أحدهما]: هو كفر بالله سبحانه وتعالى، سالب لأصل الإيمان، مُخْرِج من ملة الإسلام، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك مُعتقدًا أن الكوكب فاعلٌ مُدَبِّرٌ مُنشئٌ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يَزْعُم ذلك، ومن اعتقد هذا فلا شكّ في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء والشافعيّ منهم، وهو ظاهر الحديث، قالوا: وعلى هذا لو قال: مُطِرنا بنوء كذا، مُعْتقدًا أنه من الله تعالى وبرحمته، وأن النَّوْء ميقاتٌ وله علاقةٌ اعتبارًا بالعادة، فكأنه قال: مُطِرنا في وقت كذا، فهذا لا يَكفُر، واختلفوا في كراهته، والأظهر كراهته، لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره، فيُسَاءُ الظنُّ بصاحبها، ولأنها شِعَار الجاهلية ومن سلك مسلكهم.
[والقول الثاني]: في أصل تأويل الحديث أن المراد كفر نعمة الله تعالى؛ لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب، وهذا فيمن لا يَعتقد تدبير الكوكب، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة في الباب: "أصبح من الناس شاكرٌ وكافر
…
"، وفي الرواية الأخرى: "ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين"، وفي الرواية الأخرى: "ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة، إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين"، فقوله: "بها" يدل على أنه كفر بالنعمة، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "مؤمن بي وكافر" يحتمل أن يكون المراد بالكفر
(1)
"شرح مسلم" 2/ 60 - 61.
هنا كفرَ الشرك، بقرينة مقابلته بالإيمان، ولأحمد من رواية نصر بن عاصم الليثيّ، عن معاوية الليثيّ، مرفوعًا:"يكون الناس مُجْدِبِين، فيُنْزِل الله عليهم رزقًا من السماء من رزقه، فيُصبحون مشركين، يقولون: مُطِرنا بنوء كذا".
ويحتمل أن يكون المراد به كفرَ النعمة، ويُرشد إليه روايةُ أبي هريرة الآتية بعدُ: "قال الله: ما أنعمت على عبادي من نعمة، إلا أصبح فريق منهم كافرين بها
…
"، وفي حديث ابن عباس الآتي بعده: "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافرٌ
…
"، وفي رواية النسائيّ: "فأما من آمن بي وحمدني على سُقياي، فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب"، ونحوه في رواية أبي عوانة والإسماعيليّ، وقال في آخره: "وكفر بي، أو قال: كَفَرَ نعمتي".
قال: وعلى الأول حمله كثير من أهل العلم، قال: وأعلى ما وقفت عليه من ذلك كلام الشافعي رحمه الله تعالى، قال في "الأمّ": من قال: "مُطِرنا بنوء كذا وكذا" على ما كان بعض أهل الشرك يَعنُون من إضافة المطر إلى أنه مطر نَوْء كذا، فذلك كُفْرٌ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق، لا يَملك لنفسه ولا لغيره شيئًا، ومن قال: مُطِرنا بنوء كذا، على معنى مُطِرنا في وقت كذا، فلا يكون كُفْرًا، وغيره من الكلام أحبُّ إليّ منه - يعني حسمًا للمادّة - وعلى ذلك يُحْمَل إطلاق الحديث.
وحَكَى ابنُ قتيبة في "كتاب الأنواء": أن العرب كانت في ذلك على مذهبين، على نحو ما ذكره الشافعيّ، قال: ومعنى النوء سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر، قال: وهو مأخوذ من ناء: إذا سقط، وقال آخرون: بل النَّوْء طلوع نجم منها، وهو مأخوذ من ناء: إذا نَهَضَ، ولا تخالف بين القولين في الوقت؛ لأن كل نجم منها إذا طلع في المشرق وقع حال طلوعه آخر في المغرب، لا يزال ذلك مستمرًّا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة، فإن لكل واحد منها ثلاثة عشر يومًا تقريبًا، قال: وكانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النَّوْء، إما بصُنْعه على زعمهم وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم وجعله كُفْرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك، فكفره كفرُ تشريك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه، وإرادة كفر النعمة؛
لأنه لم يقع في شيء من طُرُق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين، والله أعلم.
ولا يَرِدُ الساكت، لأن المعتقد قد يَشْكُر بقلبه أو يكفر، وعلى هذا فالقول في قوله:"فأما من قال" لِمَا هو أعمّ من النطق والاعتقاد، كما أن الكفر فيه لِمَا هو أعمّ من كفر الشرك وكفر النعمة. انتهى ما في "الفتح" ببعض تصرّف
(1)
.
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): ما جاء في "النَّوْءِ":
قال ابن منظور رحمه الله تعالى: "النَّوْء": النجم إذا مال للمغيب، والجمع أنواء ونُوْآن، حكاه ابن جني مثل عَبْد وعُبْدَان، وبَطْنٍ وبُطْنَان. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه[من المتقارب]:
وَيَثْرِبُ تَعْلَمُ أَنَّا بِهَا
…
إِذَا قَحَطَ الْغَيْثُ نُوآنُهَا
وقيل: معنى النَّوْء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه، وهو نجم آخر يقابله من ساعته في المشرق، في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يومًا، وهكذا كلُّ نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الْجَبْهَةَ، فإن لها أربعة عشر يومًا، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وإنما سُمِّي نَوْءًا؛ لأنه إذا سقط الغارب ناء الطالع، وذلك الطلوع هو النوء، وبعضهم يجعل النَّوء السقوط، كأنه من الأضداد، قال أبو عبيد: ولم يُسْمَع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع، وكانت العرب تُضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقال الأصمعيّ: إلى الطالع منها في سلطانه، فتقول: مُطِرنا بنوء كذا.
وقال الزجاج في بعض "أماليه": معنى مُطِرنا بِنَوء كذا: أي مُطِرنا بطلوع نجم وسقوط آخر، قال: والنَّوءُ على الحقيقة سقوط نجم في المغرب، وطلوع آخر في المشرق، فالساقطة في المغرب هي الأنواء، والطالعة في المشرق هي الْبَوَارحُ، قال: وقال بعضهم: النوء ارتفاع نجم من المشرق وسقوط نظيره في المغرب، وهو نظير القول الأول، فإذا قال القائل: مُطِرنا بنوء الثُّرَيّا، فإنما
(1)
راجع: "الفتح" 2/ 675 - 676.
تأويله: أنه ارتفع النجم من المشرق وسقط نظيره في المغرب، أي مطرنا بما ناء به هذا النجم.
وقال أبو عبيد: الأنواء ثمانية وعشرون نجمًا معروفةَ المطالع في أزمنة السنة كلها، من الصيف، والشتاء، والربيع، والْخَرِيف يَسْقُط منها في كل ثلاث عشرة ليلةً نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، وكلاهما معلومٌ مُسَمّى، وانقضاء هذه الثمانية وعشرين كلها مع انقضاء السنة، ثم يرجع الأمر إلى النجم الأول مع استئناف السنة المقبلة، وكانت العرب في الجاهلية إذا سَقَط منها نجم وطلع آخر، قالوا: لا بُدّ من أن يكون عند ذلك مطرٌ أو رياح، فينسبون كلَّ غيب يكون عند ذلك إلى ذلك النجم، فيقولون: مُطرنا بنوء الثُّرَيّا، والدَّبَران، والسِّمَاك، والأَنْوَاء واحدها نَوْءٌ.
قال: وإنما سُمِّي نَوْءًا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق، يَنُوءُ نَوْءًا: أي نَهَضَ وطَلَع، وذلك النهوض هو النوء، فسُمِّي النجم به، وذلك كلُّ ناهض بِثِقَلٍ وإبطاء فإنه ينوء عند نهوضه، وقد يكون النَّوءُ السقوطَ، قال: ولم أَسْمَع أن النوء السقوط إلا في هذا الموضع.
وقال شَمِر: هذه الثمانية وعشرون التي أراد أبو عبيد هي منازل القمر، وهي معروفة عند العرب وغيرهم من الفرس والروم والهند، لم يختلفوا في أنها ثمانية وعشرون، يَنْزِل القمر كل ليلة في منزلة منها، ومنه قوله تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]، قال شمر: وقد رأيتها بالهندية والرومية والفارسية مترجمة، قال: وهي بالعربية فيما أخبرني به ابن الأعرابيّ: الشَّرَطَان، والْبَطِينُ، والنَّجْم، والدَّبَرَانُ، والْهَقْعَة، والْهَنْعَةُ، والذِّرَاعُ، والنَّثْرَةُ، والطَّرْفُ، والْجَبْهَةُ، والْخَرَاتَان، والصَّرْفَةُ، والْعَوَّاءُ، والسِّمَاكُ، والْغَفْرُ، والزُّبَانَى، والإِكْلِيلُ، والْقَلْبُ، والشَّوْلَةُ، والنَّعَائِمُ، والْبَلْدَةُ، وسَعْدُ الذَّابِح، وسَعْدُ بُلَعَ، وسَعْدُ السُّعُود، وسَعْدُ الأَخْبِيَة، وفَرْغُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمُ، وفَرْغُ الدَّلوِ الْمُؤَخَّرُ، والْحُوتُ، قال: ولا تَسْتَنِيء العرب بها كُلِّها، إنما تَذكُر بالأنواء بعضَها، وهي معروفة في أشعارهم وكلامهم.
وكان ابن الأعرابي يقول: لا يكون نَوْءٌ حتى يكون معه مطر وإلا فلا نَوْء.
قال أبو منصور: أولُ المطر الْوَسْمِيُ، وأنواؤه الْعَرْقُوتانِ المؤَخَّرتان، قال أبو منصور: هما الفَرْغُ المؤخَّر، ثم الشَّرَطُ، ثم الثّرَيَّا، ثم الشَّتَوِيُّ، وأنواؤه الجوزاء، ثم الذّراعان ونَثْرَتهما، ثم الجبهة وهي آخر الشَّتْوِيّ وأول الدَّفَئِيِّ والصَّيْفِيّ، ثم الصَّيْفِيُّ، وأنواؤه السِّمَاكان: الأوّل الأعزل، والآخر الرَّقِيب، وما بين السِّمَاكين صَيْفٌ، وهو نحوٌ من أربعين يومًا، ثم الْحَمِيمُ، وهو نَحْوٌ من عشرين ليلةً، عند طلوع الدَّبَرَان، وهو بين الصَّيفِ والْخَرِيف، وليس له نَوْءٌ، ثم الْخَرِيفيُّ، وأنواؤه النَّسْرَان، ثم الأخضر، ثم عُرْقُوَتَا الدَّلْوِ الأُولَيَان، قال أبو منصور: وهما الْفَرْغ الْمُقَدَّم، قال: وكُلُّ مَطَرٍ من الْوَسْمِيّ إلى الدَّفْئِيِّ رَبِيعٌ. انتهى المقصود من كلام ابن منظور بتصرّف
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[239]
(72) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، قَالَ الْمُرَادِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلمْ تَرَوْا إِلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ، إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ، يَقُولُونَ: الْكَوَاكِبُ، وَبِالْكَوَاكِبِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجِيبيّ المصريّ المذكور قبل باب.
2 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ) هو: عمرو بن سَوّاد - بتشديد الواو - بن الأسود بن عمرو بن محمد بن عبد الله بن سَعْد بن أبي سَرْح العامريّ السَّرْحيّ العامريّ، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11].
(1)
راجع: "لسان العرب" 1/ 175 - 177.
رَوَى عن ابن وهب، والشافعيّ، وأشهب، وعبد الله بن كُليب المراديّ، ومؤمل بن عبد الرحمن الثقفيّ، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن ابنه أبو الْغَيْدَاق إبراهيم بن عُمَر بن عَمْرو بن سَوّاد القرشيّ، وأبو حاتم، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال النسائيّ في "أسماء شيوخه": لا بأس به، وقال مسلمة في "الصلة": ثقة، وقال الحاكم: ثقةٌ مأمونٌ، وذكره أبو عليّ الغسانيّ في شيوخ أبي داود، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان رَاوِيًا لابن وهب، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال ابن يونس: كان ثقةً صدوقًا، تُوُفي يوم الجمعة لعشر بقين من رجب سنة خمس وأربعين ومائتين.
أخرج له الجماعة، سوى البخاريّ والترمذيّ، وله في هذا الكتاب (24) حديثًا
(1)
.
[تنبيه]: قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: قوله: "عمرو بن سوّاد" بدال آخره، والواو منه مشدّدة، قَطَعَ به عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ بَلَديّهُ وأبو نصر بن ماكولا وغيرهما، ومايَزَ أبو بكر الخطيب بينه وبين أبي جدّ أبي الْيَسَر كعب بن عمرو بن عبّاد بن عمرو بن سَوَاد الصحابيّ الأنصاريّ الخزرجيّ البدريّ، آخر أهل بدر وفاةً، فذاك بتخفيف الواو وهذا بتشديدها. انتهى
(2)
.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ) هو: محمد بن سلمة بن عبد الله بن أبي فاطمة الْمُراديّ الْجَمَليّ - بفتح الجيم والميم - أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [11].
رَوَى عن ابن وهب، وابن القاسم، وزياد بن يونس، وعبد الله بن كُليب، ويونس بن تميم، وأبي الأزهر، والحجاج بن سليمان الرُّعَينيّ وجماعة.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وأبو حاتم، والحسن بن علي الْمَعْمَريّ، وعليّ بن أحمد بن سليمان عَلّان المصريّ، وعبد
(1)
وفي "تهذيب التهذيب" 3/ 276 نقلًا عن "الزهرة": روى عنه مسلم ستة وعشرين حديثًا.
(2)
"صيانة صحيح مسلم" ص 254 - 255.
الكريم بن إبراهيم المراديّ، والحسن بن سفيان، والباغنديّ، وأبو بكر بن أبي داود، وغيرهم.
قال أبو سعيد بن يونس: كان ثَبْتًا في الحديث، ذكره النسائيّ يومًا ونحن عنده، فقال: كان ثقةً ثقةً، وقال أبو عمر الكنديّ: كان فقيهًا، واستكتبه الحارث بن مسكين القاضي، وقال مسلمة في "الصلة": ثقةٌ.
قال ابن يونس: تُوفي لست خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
أخرج له الجماعة سوى البخاريّ والترمذيّ، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) الحافظ العابد الفقيه المصريّ المذكور قبل باب.
5 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم المصريّ، ثقة يَهِمُ قليلًا، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
6 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت المشهور [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
7 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) المذكور في السند الماضي.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة سوى شيوخه الثلاثة، فالأول تفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه، والأخيران ما أخرج لهما البخاريّ والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن في قوله: "قال المراديّ: حدّثنا عبد الله بن وهب، وقال الآخران: أخبرنا ابن وهب
…
إلخ" احتياطًا، وتدقيقًا من المصنّف رحمه الله في المحافظة على صيغ الأداء التي اختلف فيها شيوخه، وإن كان لا يختلف المعنى بذلك، إلا أن هناك فرقًا دقيقًا من حيث الصناعة الحديثيّة.
فقول المراديّ: حدّثنا عبد الله بن وهب عن يونس، فيه إشارة إلى أنه
سمعه من لفظ عبد الله مع غيره، وذكر اسم شيخه أيضًا، ولم يصرّح أيضًا بتحديث يونس لشيخه.
وقول حرملة، وعمرو بن سوّاد: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، فيه إشارة إلى أنهما سمعا قراءة من يقرأ على ابن وهب، ولم يسمعاه من لفظه، وأيضًا لم يصرّحا باسم شيخهما، وإنما ذكراه بكنيته ابن وهب، وقد صرّحا بإخبار يونس لشيخهما، وكلّ هذا مما يُستحسن في الأداء وليس بواجب، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَاسْتَحْسَنُوا لِمُفْرَدٍ "حَدَّثَنِي"
…
وَقَارِئٍ بِنَفْسِهِ "أَخْبَرَنِي"
وَإِنْ يُحَدِّثْ جُمْلَةً "حَدَّثَنَا"
…
وَإِنْ سَمِعْتَ قَارِئًا "أَخْبَرَنَا"
3 -
(ومنها): أن شيخيه عمرو بن سوّاد ومحمد بن سلمة، هذا أول محلّ ذكرهما في الكتاب، وقد ذكرت جملة ما رواه لكلّ منهما آنفًا.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين إلى ابن شهاب، ومنه مدنيّون.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب عن عبيد الله.
6 -
(ومنها): أن فيه عبيد الله أحد الفقهاء السبعة.
7 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (من نعمة)"من" زائدة، و"نعمة" مفعول به لـ"أنعمت"، قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: قوله: "من نعمة" فيه تقصير من الراوي من حيث اللفظ، والمراد به خصوص نعمة الغيث بدلالة الرواية الأخرى المذكورة بعده. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا مانع من أن يكون المراد جميع النعم، فيدل على أن بعض الناس ينسبون جميع نعم الله تعالى إلى الكواكب ونحوها وذلك محرّم؛ لأنه لا يجوز نسبة نعم الله تعالى لخلقه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (كافرين) منصوب على أنه خبر لـ"أصبح"؛ لأنها من أخوات "كان" ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، واسمها "فريق"، وجملة "أصبح
…
إلخ"
(1)
"الصيانة" ص 252.
في محلّ نصب على الحال من الفاعل أو المفعول، فالاستثناء مفرّغ، أي إلا في حال إصباح فريق
…
إلخ.
وقوله: (يَقُولُونَ: الْكَوَاكِبُ، وَبِالْكَوَاكِبِ) قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: قد روينا الثاني دون الأول بصيغة الجمع، وكلاهما في الأصل الذي بخط الحافظ أبي عامر الْعَبْدريّ من بين أصولنا بصيغة الواحد، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تقدير الكلام: أي أنزلت الكواكبُ الغيثَ، أو أنعمت علينا الكواكب، وبالكوكب نزلت الأمطار، أو حصلت النعم، وتمام شرح الحديث مضى في الذي قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[34/ 239 و 240](72)، و (النسائيّ) في "الاستسقاء"(1524)، وفي "الكبرى"(1835)، وفي "عمل اليوم والليلة"(923)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 362 و 368 و 421 و 525)، و (الحميديّ) في "مسنده"(979)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(230 و 231)، و (ابن منده) في "الإيمان"(508)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[240]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ
(1)
"الصيانة" ص 252.
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ، إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ اللهُ الْغَيْثَ، فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا"، وَفِي حَدِيثِ الْمُرَادِيِّ:"بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة فقيهٌ حافظٌ [7](مات قديمًا قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
2 -
(أَبُو يُونُسَ) سُليم بن جُبير، ويقال: ابن جُبَيرة الدَّوْسِيُّ، مولى أبي هريرة، المصريّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وأبي أُسيد الساعديّ، ورَوَى عنه عمرو بن الحارث، وحَيْوَة بن شُرَيح، والليث بن سعد، وابن لَهِيعة، وحَرْمَلة بن عمران التجيبي المصريون.
قال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال ابن يونس: قال أحمد بن يحيى بن وزير: تُوُفّي سنة ثلاث وعشرين ومائة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند السابق.
ومن لطائف الإسناد أنه مسلسل بثقات المصريين، إلا الصحابيّ فمدنيّ.
[تنبيه]: إنما ذكر المصنّف رحمه الله تعالى في هذا الإسناد عبد الله بن وهب وعمرو بن الحارث أوّلًا، ثم أعادهما ثانيًا، ولم يكتف بقوله: وحدّثني محمد بن سلمة، وعمرو بن سوّاد؛ لاختلاف لفظ الروايات، كما نبّهنا عليه في السند الماضي.
وقوله: (مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ) أي من غيث، كما يأتي بعده تفسيره.
وقوله: (يُنْزِلُ اللهُ الْغَيْثَ) بضم أول "يُنزل" من الإنزال، بيان وتوضيح لمعنى البركة.
و"الغيثُ": المطر، وغاث الله البلادَ غَيْثًا، من باب ضَرَبَ أنزل بها
الغيث، فالأرضُ مَغِيثَةٌ ومَغْيُوثَةٌ، ويُبنَى للمفعول، فيقال: غِيثَتِ الأرضُ تُغَاثُ، قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت ذَا الرُّمّة يقول: قاتل الله أَمَةَ بني فلان ما أفصحها، قلتُ لها: كيف كان المطر عندكم؟ فقالت: غِثْنَا ما شِئنا. وغاثَ الغيثُ الأرضَ غَيْثًا، من باب ضَرَبَ أيضًا: نَزَلَ بها، وسُمّي النبات غَيْثًا تسميةً باسم السبب، ويقال: رَعَيْنَا الغيثَ، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا) أي الكوكب أنزل الغيث.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ الْمُرَادِيِّ: "بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا") يعني أن شيخه محمد بن سلمة المرادي قال بدل قول عمرو بن سوّاد: "الكوكب كذا وكذا": "بكوكب كذا وكذا"، وتقديره: نزل الغيث بكوكب كذا وكذا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[241]
(73) - (وَحَدَّثَني عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو زُمَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَني ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ الله، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا"، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) - حَتَّى بَلَغَ - وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 75 - 82]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ) هو: عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل بن تَوْبَة الْعَنْبَريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [11].
رَوَى عن عبد الرحمن بن مهديّ، ويحيى بن سعيد القطان، وسعيد بن عامر الضُّبَعيّ، وأبي داود الطيالسيّ، وصفوان بن عيسى، وعبد الرزاق، والأصمعيّ وإسحاق بن منصور السَّلُولي، وأسود بن عامر شاذان، وشَبَابة بن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 458.
سَوّار، وأبي بكر الحنفيّ، وعثمان بن عمر بن فارس، وعمر بن يونس اليماميّ، والنضر بن محمد الْخُرَيبيّ، ويزيد بن هارون، ومحمد بن جَهْضَم، وبشر بن عُمر الزهْرانيّ وجماعة.
ورَوَى عنه الجماعة، لكن البخاري تعليقًا، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو بكر الأثرم، وابن خزيمة، وابن بُجَير، وعبد الله بن أحمد، وزكرياء الساجيّ، وأبو بكر بن أبي عاصم، وأبو حاتم الرازيّ، والحسين بن إسحاق التُّسْتريّ، وعَبْدان الأَهْوَازيّ، ومحمد بن عبد الله الحضرميّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال النسائيّ: ثقة مأمون، وقال محمد بن المثنى السِّمْسَار: كنا عند بشر بن الحارث، وعنده العباس بن عبد العظيم، وكان من سادات المسلمين، وقال معاوية بن عبد الكريم الزياديّ: أدركت الناس وهم يقولون: ما جاءنا بالبصرة أعقل من أبي الوليد، وبعده أبو بكر بن خَلاد، وبعده عباس بن عبد العظيم، وقال مسلمة: بصريّ ثقةٌ.
قال البخاريّ والنسائيّ: ومات سنة ست وأربعين ومائتين.
وله في هذا الكتاب ثمانية أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (1185): "ويلكم قد قد
…
"، و (1236): "من كان معه هدي فليُقم
…
"، و (2362): "ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه
…
"، و (2423): "لقد قُدت بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم
…
"، و (2501): "نعم عندي أحسن العرب
…
"، و (2783): "ألا أخبركم بأشدّ حرًّا منه
…
"، و (2965): "إن الله يحب العبد التقيّ الغني الخفيّ".
[تنبيه]: قوله: "الْعَنْبَريّ " - بالعين المهملة، والنون، بعدها مُوَحَّدة -: نسبة إلى بني الْعَنْبَر، ويُخفّف، فيقال: بلعنبر، وهو: العنبر بن عمرو بن تميم بن مُرّ بن أُذ بن طابخة بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار، قاله في "الأنساب"
(1)
.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وضبطه الْعُذْريّ "الْغُبَريّ " - بالغين المعجمة - وهو تصحيف، والأول الصحيح. انتهى
(2)
.
(1)
"الأنساب" 4/ 245، و"لب اللباب" 2/ 123.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 376.
2 -
(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن موسى الْجُرَشيّ - بضمّ الجيم، وفتح الشين المعجمة - أبو محمد اليماميّ، مولى بني أمية، ثقةٌ، ربّما انفرد [9].
رَوَى عن عكرمة بن عمار، وأبي أُويس، وصَخْر بن جُويرية، وشعبة، وحماد بن سلمة.
ورَوى عنه العباس بن عبد العظيم الْعَنْبريّ، وأبو الليث شجاع بن الوليد البخاريّ، وعبد الله بن محمد بن الرُّوميّ، وأحمد بن جعفر الْمَعْقِريّ، وأحمد بن عبد الله بن صالح العجليّ، ومُؤَمَّل بن إِهاب، وأحمد بن عمر بن يونس اليماميّ أحد الضعفاء، وغيرهم.
قال العجليّ: ثقةٌ، روى عن عكرمة بن عمار ألفَ حديث، رحلتُ إليه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما انفرد.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
3 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، أصله من البصرة، ثقة، إلا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فقد ضعّفوه فيه لاضطرابه [5](ت قبيل 160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(أَبُو زُمَيْلٍ) - بضمّ الزاي، مصغّرًا - هو: سِمَاك - بكسر السين المهملة، وتخفيف الميم - ابن الوليد الْحَنَفيّ، اليماميّ، سَكَن الكوفة، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، ومالك بن مَرْثَد، وعروة بن الزبير.
وروى عنه ابنه زُميل، وابن ابنه عبد ربه بن بارق، وشعبة، ومِسْعَر، وعكرمة بن عمار، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، واقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: وقيل: سماك بن زيد، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (114): "إني رأيته في النار
…
"، و (1185): "ويلكم قد قد
…
"، و (1479): "ألا ترضى أن تكون
لنا الآخرة
…
"، و (1763): "اللهم أنجز لي ما وعدتني
…
"، و (2501): "نعم قال: عندي أحسن العرب
…
".
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 6/ 124، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.
3 -
(ومنها): قوله في أوله: "حدّثني" بالإفراد، وفيما بعده:"حدّثنا" بالجمع، إشارة إلى أنه سمع الحديث من شيخه وحده، وأما من عداه فسمعوه من شيوخهم مع غيرهم.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل باليماميين، غير شيخه والصحابيّ، فبصريّان.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عكرمة، عن أبي زُميل.
6 -
(ومنها): أن فيه قوله: "وهو ابن عمّار"، وذلك أن النضر لم ينسُب شيخه، فأراد المصنّف، أو شيخه إيضاحه بنسبه، فزاد لفظة "وهو" فصلًا بين ما رواه وبين ما زاده من عنده، وهذا من شدّة ورعه، وقد تقدّم غير مرّة.
7 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوى، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنه بالطائف، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه (قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ) وفي رواية ابن منده من طريق أحمد بن يوسف السلميّ، عن النضر بن محمد: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمُطر الناس، حتى سالت قَنَاةُ أربعين يومًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصبح من الناس شاكرٌ ومنهم كافر، يقولون: لقد صَدَق نَوءُ كذا، ومنهم من يقول: رحمة وضعها الله"
(1)
.
(1)
راجع: "الإيمان" 2/ 593 الحديث رقم (509).
فقوله: "مُطر الناس" ببناء الفعل للمفعول، وقد تقدّم أن مَطَرَ ثلاثيًّا للرحمة، وأما أمطر بالهمزة فللعذاب، قال في "القاموس": المطر: ماء السحاب، جمعه: أمطارٌ، ومطَرَتهم السماء مَطْرًا، - من باب نصر - ويُحَرَّك: أصابتهم بالمطر، وأمطرهم الله لا يقال إلا في العذاب. انتهى
(1)
. وقال الشارح المرتضى: وهذا على رأي الأكثرين، وقال جماعة من أهل اللغة: مَطَرَ وأمطر بمعنى، كما تقدّم، وقال قبل ذلك: ومطَرَتهم السماء كأمطرتهم، وهو أقبحها. انتهى
(2)
. (عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أي في وقته (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَصْبَحَ) هي من أخوات "كان" ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وقوله:(مِنَ النَّاسِ) خبرها مقدّمًا، و (شَاكِرٌ) اسمها مؤخّرًا، وعند أبي عوانة: "أصبح من الناس منهم شاكرٌ ومنهم كافر، قال بعضهم: هذه رحمةٌ وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا
…
".
ومعنى: "شاكر" أي معترف بنعمة الله تعالى، يقال: شكرت لله: أعترفتُ بنعمته، وفعلتُ ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية، ولهذا يكون الشكر بالقول والعمل، ويتعدّى في الأكثر باللام، فيقال: شكرتُ له شُكرًا، وشُكرانًا، وربّما تعدّى بنفسه، فيقال: شكرته، وأنكره الأصمعيّ في السَّعَة، وقال: بابه الشعر، ذكره الفيوميّ
(3)
.
[تنبيه]: بين الشكر والحمد عموم وخصوص من وجه؛ إذ الشكر يخصّ النعمة، والحمد يعمّها وغيرها، وهو خاصّ باللسان، والشكر يكون باللسان والقلب، والجوارح، كما قال بعضهم [من الطويل]:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً
…
يَدِي وَلسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا
وقد تقدّم تمام البحث في هذا في أوائل شرح المقدّمة، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (وَمِنْهُمْ كَافِرٌ) معطوف على "من الناس شاكر"، وهو من عطف المعمولين على معمولي عامل واحد، وهو جائز بالاتّفاق، يعني أن بعض
(1)
"القاموس المحيط" ص 429.
(2)
"تاج العروس" 3/ 545.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 319.
الناس كافر بالنعمة، فالمراد بالكفر هنا كفر دون كفر، فهو كفران النعمة؛ إذ هو ظاهر السياق، حيث أتبعه بقوله:"قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ" فإنه يؤيّد التفسير المذكور.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: فمقابلته لـ"شاكر" بـ "كافر" يدلّ على أن المراد كفر النعمة وجَحْدها؛ إذ لم يُضفها إلى ربّه ويشكره عليها، ولا وَلَّى الأمر أهله، واقتصر على ذكر عادة غير مؤثّرة ومخلوقات مسخّرة، وآلات مُدَبَّرة، غير مُدَبِّرَة. انتهى
(1)
.
ويحتمل أن يكون المراد كفر الجحد، لكنه محمول على المستحلّ، كما سبق إيضاحه.
والكفر في الأصل: الستر، والتغطية، يقال: كفر الشيءَ، من باب نصر: إذا غطّاه وستره، قال لبيد [الكامل]:
يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرًا
…
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
أي ستره، ويقال: كفَرَ بالله، يكفُرُ كُفْرًا، وكُفرانًا، وكَفَرَ النعمة، وبالنعمة أيضًا: جحدها، وكفر بكذا: تبرّأ منه، وفي التنزيل العزيز:{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، وكفر بالصانع: نفاه وعَطّل، وهو الدَّهريّ والملحد، وهو كافرٌ، وكَفَرَةٌ، وكُفّار، وكافرون، أفاده الفيّوميّ
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: أصل الشكر: الظهور، ومنه قوله: دابّة شَكُور، إذا ظهر عليها من السّمَن فوق ما تأكله من العلف، والشاكر هو الذي يُثني بالنعمة، ويُظهرها، ويَعترف بها للمنعم، وجَحْدُها: كُفرانها، فمن نسب المطر إلى الله تعالى، وعَرَف مِنَّته فيه، فقد شكر الله تعالى، ومن نسبه إلى غيره، فقد جَحَد نعمة الله تعالى في ذلك، وظَلَم بنسبتها لغير المنعم بها، فإن كان ذلك عن اعتقاد كان كافرًا ظالِمًا حقيقةً، وإن كان عن غير اعتقاد، فقد تشبّه بأهل الكفر والظلم الحقيقيّ، كما قلناه آنفًا، وقد قابل في هذا الحديث بين الشكر والكفر، فدلّ ظاهره على أن المراد بالكفر هنا كفران النعم لا الكفر بالله تعالى.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 372 - 373.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 535.
وَيحْتَمِل أن يكون المراد به الكفر الحقيقيّ، ويؤيّد ذلك استدلال النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]، أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب، على حذف المضاف، قاله المفسّرون، وقرأ عليّ رضي الله عنه
(1)
: "وتجعلون شكركم"، فعبّر عن الرزق بالشكر، والرزق: الشكر بلغة أزد شنوءة، يقال: ما رزقه: أي ما شكره، وما رزق فلان فلانًا: أي ما شكره. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
وقوله: (قَالُوا) هو من باب اللفّ والنشر المرتّب، فهذا راجع لقوله:"من الناس شاكر"، وقوله:"وقال بعضهم" راجع لقوله: "ومنهم كافر".
ومعنى قوله: (هَذِه رَحْمَةُ اللهِ) أي هذه رحمة رَحِمَنا اللهُ تعالى بها، قالوا هذا تحدّثًا بنعمة الله تعالى عليهم، ومثنين عليه بها، فهو معنى كونهم شاكرين، وعند أبي عوانة:"قال بعضهم: هذه رحمة وضعها الله"، ولأبي نعيم:"قالوا: هذه رحمة وضعها الله".
(وَقَالَ بَعْضُهُمْ) الكافرون بتلك الرحمة (لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا") تقدّم أن النوء يُطلق على الطلوع وعلى الغروب، ويُطلق أيضًا على النجم الطالع والغارب، وقال الزجّاج: الساقطة في المغرب: هي الأنواء، والطالعة في المشرق: هي الْبَوَارح
(3)
.
(قَالَ) أي ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
(1)
لكن أشار في "الفتح" أنه ليس قراءة من عليّ رضي الله عنه، وإنما هو تفسير، ودونك نصّه: وقد رُوِي نحو أثر ابن عباس المعلّق مرفوعًا من حديث علي رضي الله عنه، لكن سياقه يدلّ على التفسير لا على القراءة، أخرجه عبد بن حميد، من طريق أبي عبد الرحمن السُّلَميّ، عن عليّ رضي الله عنه مرفوعًا:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} قال: تجعلون شكركم، تقولون: مُطِرنا بنوء كذا. انتهى.
وأما قراءة ابن عبّاس رضي الله عنهما، فقد أخرجها سعيد بن منصور، عن هُشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ:"وتجعلون شكركم أنكم تكذبون"، وهذا إسناد صحيح، ومن هذا الوجه أخرجه ابن مردويه في "التفسير المسند". انتهى ما في "الفتح" 2/ 674.
(2)
"المفهم" 1/ 260 - 261.
(3)
راجع: "الصيانة" ص 251.
النُّجُومِ (75) - حَتَّى بَلَغَ - وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 75 - 82]) فقوله: {فَلَا أُقْسِمُ} إلخ بدل من "هذه الآية".
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: فيه إشكال يزول بالتنبيه على أنه ليس مرادُهُ أن جميع هذا نزل في قولهم في الأنواء، كما توهّمه القاضي عياض على ما بلغنا عنه، فإن الأمر في معنى ذلك، وتفسيره يأبى ذلك، وإنما النازل من ذلك في ذلك قوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} ، والباقي نزل في غير ذلك، ولكن اجتمعا في وقت النزول، فذكر الجميع من أجل ذلك، ومما يَدُلّ على هذا أن في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك الاقتصار على هذا القدر اليسير فحسب. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قول ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فنزلت هذه الآية" هذا مما يُعطى حكم الرفع؛ لأن قول الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل في آية من القرآن: "إنها نزلت في كذا" مرفوع إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، وذلك كقول ابن عباس رضي الله عنهما هذا، وكقول جابر رضي الله عنه: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] الآية، رواه مسلم، وإلى هذا أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَهَكَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَدْ صَحِبَا
…
فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَوْ رَأْيًا أَبَى
تفسير هذه الآيات الكريمات:
قوله عز وجل: {فَلَا أُقْسِمُ} قال جُويبر عن الضحاك: إن الله تعالى لا يُقْسِم بشيء من خلقه، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه، قال ابن كثير: وهذا القول ضعيف، والذي عليه الجمهور أنه قَسَمٌ من الله تعالى، يُقسِم بما شاء من خلقه، وهو دليل على عظمته. انتهى
(2)
.
وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله تعالى في "المفهم": هذا وأشباهه قَسَم من الله تعالى على جهة التشريف للمُقْسَم به، والتأكيد للمُقْسَم له، ولله تعالى أن يُقسِم بما شاء من أسمائه، وصفاته، ومخلوقاته، تشريفًا وتنويهًا، كما قال تعالى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ،
(1)
"الصيانة" ص 252 - 253.
(2)
تفسير ابن كثير 13/ 389.
{وَالْمُرْسَلَاتِ} ، {وَالنَّازِعَاتِ} ونحو هذا، وقد تكلّف بعض العلماء، وقال: إن المقسَم به في مثل هذه المواضع محذوفٌ للعلم به، فكأنه قال: وربّ الشمس، وربّ الليل، والذي حمله على ذلك أنه لَمّا سمع الشرع قد نهانا أن نحلف بغير الله تعالى ظن أن الله تعالى يمتنع من ذلك، وهذا ظنّ قاصرٌ وفهم غير حاضر؛ إذ لا يلزم شيء من ذلك؛ لأن لله تعالى أن يحكم بما يشاء، ويفعل من ذلك ما يشاء؛ إذ لا يتوجّه عليه حكمٌ، ولا يترتّب عليه حقّ، وأيضًا فإن الشرع إنما منعنا من القَسَم بغير الله تعالى حماية عن التشبّه بالجاهليّة فيما كانوا يُقسمون به من معبوداتهم ومعظّماتهم الباطلة على ما يأتي الكلام عليه في "كتاب الأيمان" - إن شاء الله تعالى -. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.
ثم قال بعض المفسرين: "لا" ها هنا زائدة، وتقديره: أقسم بمواقع النجوم، رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير، ويكون جوابه:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} ، وقال آخرون: ليست "لا" زائدة لا معنى لها، بل يُؤتَى بها في أول القسم، إذا كان مُقْسَمًا به على منفيّ، كقول عائشة رضي الله عنها:"لا والله ما مست يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط"، متّفقٌ عليه، وهكذا ها هنا تقدير الكلام: لا أقسم بمواقع النجوم، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن، أنه سحرٌ أو كهانة، بل هو قرآن كريم، وقال ابن جرير: وقال بعض أهل العربية: معنى قوله: {فَلَا أُقْسِمُ} فليس الأمر كما تقولون، ثم استُؤْنِفَ القسمُ بعد ذلك، فقيل: أقسم
(2)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ في "تفسيره": قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ} : "لا" صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى: فأقسم بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} وقال الفراء: هي نفيٌ، والمعنى ليس الأمر كما تقولون، ثم استَأْنَفَ أُقسِمُ، وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا، فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم، أي ليس الأمر كما ذَكرتَ بل هو كذا، وقيل:"لا" بمعنى "ألا" للتنبيه، كما قال [من الطويل]:
أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ الْبَالِي
…
وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِي
(1)
"المفهم" 1/ 262.
(2)
"تفسير ابن كثير" 4/ 298.
ونَبَّهَ بهذا على فضيلة القرآن؛ ليتدبروه، وأنه ليس بشعر، ولا سحر، ولا كهانة، كما زَعَمُوا، وقرأ الحسن، وحميد، وعيسى بن عمر:"فلأقسم" بغير ألف بعد اللام على التحقيق، وهو فعلُ حالٍ، ويُقَدَّرُ مبتدأ محذوف التقدير: فلأنا أقسم بذلك، ولو أريد به الاستقبال لَلَزِمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يُراد به الاستقبال، وهو شاذّ.
وقوله: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، اختلفوا في معناه، فقال حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نَزَلَ جملةً ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مُفَرَّقًا في السنين بعدُ، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية، وقال الضحاك عن ابن عباس: نزل القرآن جملةً من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السَّفَرَة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فَنَجَّمَتْهُ السَّفَرَة على جبريل عشرين ليلة، ونجّمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فهو قوله:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} نجوم القرآن، وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والسُّدّيّ، وأبو حَزْرَة، وقال مجاهد أيضًا:{بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في السماء، ويقال: مطالعها ومشارقها، وكذا قال الحسن، وقتادة، وهو اختيار ابن جرير، وعن قتادة: مواقعها منازلها، وعن الحسن أيضًا: أن المراد بذلك انتشارها يوم القيامة، وقال الضحاك:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} يعني بذلك الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مُطِرُوا قالوا: مُطِرنا بِنَوْء كذا وكذا
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ: قوله تعالى: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} : مواقع النجوم مَساقِطها ومغاربها، في قول قتادة وغيره، وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها، وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، وقال الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مُطِروا، قالوا: مُطرنا بنوء كذا، قال الماوردي: ويكون قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ} مستعملًا على حقيقته من نفي القسم، وقال القشيريّ: هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.
(1)
"تفسير ابن كثير" 4/ 389 - 390.
قال القرطبيّ: يدل على هذا قراءة الحسن "فلأقسم"، وما أقسم به سبحانه وتعالى من مخلوقاته في غير موضع من كتابه.
وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجومًا، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين، فَنَجَّمه السَّفَرة على جبريل عشرين ليلة، ونَجّمه على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو يُنْزِله على الأحداث من أمته، حكاه الماورديّ عن ابن عباس والسُّدّيّ، وقال أبو بكر الأنباريّ: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا همام، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرض نُجومًا، وفرّق بعد ذلك خمس آيات، خمس آيات، وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} ، وحكى الفراء عن ابن مسعود: أن مواقع النجوم هو مُحْكَم القرآن.
وقرأ حمزة والكسائيّ: "بموقع" على التوحيد، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، والنخعيّ، والأعمش، وابن مُحيصن، ورُوَيس عن يعقوب، والباقون على الجمع، فمن أفرد فلأنه اسم جنس، يؤدي الواحد فيه عن الجمع، ومن جَمَعَ فلاختلاف أنواعه. انتهى
(1)
.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} أي وإن هذا القسم الذي أقسمتُ به لقسم عظيم، لو تعلمون عَظَمَته لعظمتم المقسم به عليه.
وقال القرطبيّ المفسّر: قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قاله ابن عبّاس وغيره، وقيل: ما أقسم الله به عظيم. انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} أي إن هذا القرآن الذي نَزَلَ على محمد صلى الله عليه وسلم لكتاب عظيم.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ: الكريم: الشريف الكثير المنافع السهلها.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر: قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} ذَكَرَ المقسم عليه، أي أُقسم بمواقع النجوم: إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 223 - 224.
بسحر، ولا كِهانة، وليس بِمُفْتَرىً، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين؛ لأنه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه، وقيل: كريم أي غير مخلوق، وقيل: كريم لما فيه من كريم الأخلاق ومعالي الأمور، وقيل: لأنه يُكْرِم حافظه ويُعْظِمُ قارئه. انتهى.
وقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} أي مُعَظّم في كتاب محفوظ مُوَقَّر، وقال القرطبيّ المفسّر: قوله: في كتاب مكنون: مَصُون عند الله تعالى، وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل، والكتابُ هنا كتاب في السماء، قاله ابن عباس، وقال جابر بن زيد، وابن عباس أيضًا: هو اللوح المحفوظ، وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، ومن يَنْزِل عليه، وقال السُّدّيّ: الزبور، وقال مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا. انتهى.
وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} قال ابن جرير: حدثني موسى بن إسماعيل، أخبرنا شريك، عن حكيم هو ابن جُبَير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ، قال: الكتاب الذي في السماء، وقال الْعَوْفيّ عن ابن عباس:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} يعني الملائكة، وكذا قال أنس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، وأبو الشَّعْثاء جابر بن زيد، وأبو نَهِيك، والسُّدّيّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، حدثنا معمر، عن قتادة:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا، فإنه يمسه المجوسيّ النَّجِس والمنافق الرِّجْس، قال: وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "ما يمسه إلا المطهرون"، وقال أبو العالية:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب، وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش، أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)} [الشعراء: 210 - 12]، وهذا القول قولٌ جَيِّدٌ، وهو لا يَخرُج عن الأقوال التي قبله.
وقال الفراء: لا يجد طَعْمه ونفعه إلا من آمن به.
وقال آخرون: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} أي من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن ها هنا المصحف، كما روى مسلم عن ابن عمر:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُسَافَرَ بالقرآن إلى أرض العَدُوّ، مخافةَ أن يناله العدو".
واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في "موطئه"(1199) عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنّ في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "أن لا يمس القرآن إلا طاهر"، وروى أبو داود في "المراسيل" من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يمس القرآن إلا طاهر".
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذه وجادة جَيِّدةٌ، قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي الأخذ به، وقد أسنده الدارقطني (111) عن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منها نظر، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ: اختُلِفَ في معنى {لَا يَمَسُّهُ} هل هو حقيقة في المسّ بالجارحة أو معنى، وكذلك اختُلِفَ في {الْمُطَهَّرُونَ} مَن هم؟.
فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب، وهم الملائكة، وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طُهِّرُوا من الذنوب، كالرسل من الملائكة، والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مُطَهَّر، والرسل الذين يجيئهم بذلك هم السَّفَرَة الكرام الْبَرَرَة، وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك، حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} أنها بمنزلة الآية التي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} : {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} ، يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وُصِفوا بالطهارة في سورة "عبس".
(1)
"تفسير ابن كثير" 13/ 390 - 391.
وقيل: معنى {لَا يَمَسُّهُ} لا ينزل به إلا المطهرون، أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء، وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري.
قال ابن العربي: وهذا باطل؛ لأن الملائكة لا تناله في وقت، ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك، لما كان للاستثناء فيه مجال، وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف، فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك.
وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر، وقد رَوَى مالك وغيره أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألّا يمس القرآن إلا طاهر"، وقال ابن عمر: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر"، وقالت أخت عُمر لعُمر عند إسلامه، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة:"لا يمسه إلا المطهرون"، فقام واغتسل، وأسلم، وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس، وقال الكلبيّ: من الشرك، وقال الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا، وقيل: معنى لا يمسه: لا يقرؤه إلا المطهرون إلا الموحِّدون، قاله محمد بن فُضيل، وعبدة، وقال عكرمة: كان ابن عباس يَنْهَى أن يُمَكَّن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن، وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن، وقال ابن العربي: وهو اختيار البخاريّ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا"، وقال الحسين بن الفضل: لا يَعْرِف تفسيره وتأويله، إلا من طهره الله من الشرك والنفاق، وقال أبو بكر الوَرّاق: لا يُوَفَّق للعمل به إلا السعداء، وقيل: المعنى: لا يمس ثوابه إلا المؤمنون، ورواه معاذ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع: أي لا يمسه إلا المطهرون شرعًا، فإن وُجِد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي، وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، وقال المهدويّ: يجوز أن يكون أمرًا، وتكون ضمة السين ضمة إعراب، ويجوز أن يكون نَهْيًا، وتكون=
ضمة السين ضمة بناء، والفعل مجزوم. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: المطهّرون بحكم عرف الشرع هم المطهّرون من الحدث، وعليه فتكون "لا" نهيًا، ويمسّه مجزوم بالنهي، وضُمّت سينه لأجل الضمير، ويجوز أن يكون خبرًا عن المشروعيّة، أي لا يجوز مسّه إلا لمن تطهّر من الحدث، ويكون هذا نحو قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وهذا تقرير وجه من استدلّ بالآية على تحريم مسّ القرآن على غير طهارة وهم الجمهور، وأما من أجاز ذلك وهم أهل الظاهر، فحملوا الآية على أنه خبرٌ عمّا في الوجود، أي لا يمسّه، ولا يناله، ولا يباشره إلا الملائكة، وهم المطهّرون بالحقيقة، وتكون الآية مثل قوله تعالى:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 13 - 16]، وإلى هذا صار مالك في تفسير هذه الآية، مع أن مذهبه أنه لا يجوز لمحدِثٍ مسّ المصحف أخذًا بهذا الحكم من السنّة عنده لا من الآية. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما سبق من سوق الأقوال وحججها، أن أرجح الأقول قول من فسّر الآية بأن المراد بقوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} أنه لا يمسّه إلا الملائكة، وهم المطهّرون كما صار إليه الإمام مالك رحمه الله تعالى واختاره، وقال: أحسن ما سمعت في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} وأنها بمنزلة الآية التي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} : {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} ، يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وُصِفوا بالطهارة في سورة "عبس".
أما مسألة مس المصحف للمحدث فإن مذهب الجمهور هو الأرجح، لا لهذه الآية، بل لكتاب عمرو بن حزم، فإنه وإن قيل بإرساله، إلا أنه مشهور عملت به الأئمة، وقرأه الزهريّ رحمه الله تعالى، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذه وجادة جَيِّدةٌ، قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي الأخذ به
(3)
.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 225 - 227.
(2)
"المفهم" 1/ 263.
(3)
"تفسير ابن كثير" 13/ 390 - 391.
وقد أشبعت الكلام في هذا، واستوفيته في "شرح النسائيّ"(171/ 265)"باب حَجْب الجنب من قراءة القرآن"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي إلى أقوم الطريق.
وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} أي هذا القرآن منزّل من عند رب العالمين، وليس هو كما يقولون: إنه سحرٌ، أو كهانة، أو شعرٌ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، وليس وراءه حقّ نافع، قاله ابن كثير.
وقال القرطبيّ: هو كقولهم ضَرْبُ الأمير، ونَسْجُ اليمن، وقيل: تنزيل صفة لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} ، وقيل: أي هو تنزيل. انتهى.
وقوله عز وجل: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)} قال الْعَوْفيّ عن ابن عباس: أي غير مُصَدِّقين، وكذا قال الضحاك، وأبو جَزْرَة، والسُّدّيّ، وقال مجاهد:{مُدْهِنُونَ} أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم. انتهى
(1)
.
وقال أبو العباس القرطبيّ: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني بالحديث القرآن؛ لأنه أحاديث عن الأمم الماضية، والوقائع الآتية، والأحكام الجارية، و {مُدْهِنُونَ} مكذّبون، وأصله من الدَّهْن، يقال: أدهن، وداهن: أي ترك ما هو عليه وتلبّس بغيره. انتهى
(2)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ: قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} ويعني القرآن {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} وأي مُكَذِّبون، قاله ابن عباس، وعطاء، وغيرهما، والْمُدْهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شُبِّهَ بالدهن في سهولة ظاهره، وقال مقاتل بن سليمان وقتادة:{مُدْهِنُونَ} وكافرون، نظيره:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9]، وقال المؤرِّج: المدهن المنافق، أو الكافر الذي يُلِين جانبه لِيُخفي كفره، والإدهان والمداهنة: التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللِّين، وأن يُسِرَّ خلاف ما يُظهر، وقال أبو قيس بن الأَسْلَت:
الحَزْمُ وَالْقُوَّةُ خَيْرٌ مِنَ الـ
…
إِدْهَاِن وَالْفُهَّةِ وَالْهَاعِ
(3)
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 4/ 298 - 300.
(2)
"المفهم" 1/ 263.
(3)
"الْفُهّة": الْعِيُّ، و"الْهَاعُ" هنا: سوء الحرص مع ضعف.
وأَدْهَنَ وداهن واحد، وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غَشَشْتُ، وقال الضحاك: مدهنون: معرضون، وقال مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به، وقال ابن كيسان: المدهن الذي لا يَعْقِل ما حَقُّ الله عليه ويدفعه بالعلل، وقال بعض اللغويين: مدهنون: تاركون للجزم في قبول القرآن. انتهى
(1)
.
وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} قال طائفة من المفسّرين: وتجعلون شكركم تكذيبكم بأن الرزاق هو الله تعالى، أي تجعلون التكذيب عِوَضَ الشكر، وتكذيبهم هو قولهم: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، روى الترمذي بإسناده
(2)
عن على بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم رفعه قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} قال: شكركم أنكم تُكذّبون، قال: يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريب صحيح
(3)
.
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 227 - 228.
(2)
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله لَيُصَبِّح القومَ بالنعمة أو يُمَسِّيهم بها، فَيُصبِح بها قوم كافرين، يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا".
قال الجامع عفا الله عنه: رجال هذا الإسناد ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاف، وهو مدلّس.
قال محمد - هو ابن إبراهيم -: فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب، فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة، وقد أخبرني مَن شَهِدَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يستسقي، فلما استسقى التفت إلى العباس، فقال: يا عباس، يا عم رسول الله، كم بَقِيَ من نَوْء الثُّرَيَا؟ فقال: العلماء يزعمون أنها تَعْتَرض في الأفق بعد سقوطها سبعًا، قال: فما مضت سابعة حتى مُطروا.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر، لا أن ذلك النوء مؤثّر بنفسه في نزول المطر، فإن هذا هو المنهيّ عن اعتقاده. انتهى "تفسير ابن كثير" 4/ 299.
(3)
بل هو ضعيف؛ لأن في سنده عبد الأعلى بن عامر الثعلبيّ، وهو ضعيف، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، كما في حديث الباب.
وحكى ابن جرير عن الهيثم بن عديّ: أن من لغة أزد شنوءة: ما رَزَق فلان فلانًا، بمعنى ما شكره.
وقال آخرون: معناه: وتجعلون شكر رزقكم، فحَذَف المضاف، وأقام المضاف إليه مُقامه، قاله الأزهريّ وأبو عليّ الفارسيّ، وقال الحسن: أي تجعلون حَظّكم، قال قتادة: أما الحسن فكان يقول: بئس ما أَخَذَ قوم لأنفسهم، لم يُرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب، فمعنى قول الحسن هذا: وتجعلون حَظَّكم من كتاب الله أنكم تُكذِّبون به، ولهذا قال قبله:{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ: قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} قال ابن عباس: تجعلون شكركم التكذيب، وذكر الهيثم بن عَديّ أن من لغة أسد شنوءة: ما رَزَقَ فلانٌ: أي ما شكره، وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره؛ لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه، فيكون الشكر رزقًا على هذا المعنى، فقيل:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي شكر رزقكم الذي لو وُجِد منكم لعاد رزقًا لكم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بالرزق، أي تَضَعُون الكذب مكان الشكر، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] أي لم يكونوا يصلون، ولكنهم كانوا يُصَفِّرون، وُيصَفِّقُون مكان الصلاة، ففيه بيانُ أن ما أصاب العباد من خير، فلا ينبغي أن يَرَوه من قبل الوسائط التي جَرَت العادة بأن تكون أسبابًا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر، إن كان نعمةً، أو صبر إن كان مكروهًا؛ تعبدًا له وتذللًا.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: "وتجعلون شكركم أنكم تكذبون" حقيقة
(2)
.
وعن ابن عباس أيضًا أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مُطِرنا بنوء كذا، رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا أُحبّ أحدًا أن يقول: مُطرنا بنوء كذا
(1)
"تفسير ابن كثير" 4/ 300.
(2)
تقدّم أنه لا يصحّ مرفوعًا، وإنما الصحيح وقفه على ابن عباس رضي الله عنهما.
وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقتَ المخلوقَ لا يَضُرُّ ولا ينفع، ولا يُمطر ولا يَحبس شيئًا من المطر، والذي أحب أن يقول: مُطرنا وقت كذا، كما تقول مُطرنا شهر كذا، ومن قال: مُطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عَنَى بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن الله سبحانه وتعالى: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"، فمعناه عندي على وجهين:
أما أحدهما: فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرًا صريحًا، يجب استتابته عليه وقتله إن أبى؛ لنبذه الإسلام وردّه القرآن.
والوجه الآخر أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدّره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجهًا مباحًا، فإن فيه أيضًا كفرًا بنعمة الله عز وجل، وجهلًا بلطيف حكمته في أن ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا وكثيرًا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء، وكذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول إذا أصبح وقد مُطِر: مُطِرنا بنوء الفتح، ثم يتلو {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2].
قال أبو عمر: وهذا عندي نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بفضل الله ورحمته".
ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا بعد سقوطها، فما مضت سابعةٌ حتى مُطِروا، فقال عمر: الحمد لله، هذا بفضل الله ورحمته
(1)
. وكأن عمر رضي الله عنه قد عَلِم أن نوء الثريا وقت، يُرجَى فيه المطر ويُؤَمَّل، فسأله عنه: أخرج منه أم بقيت منه بقية؟.
ورَوَى سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا
(1)
وقد تقدّم أن فيه محمد بن إسحاق، مدلس، وقد عنعنه.
في بعض أسفاره يقول: مُطرنا ببعض عَثَانين الأسد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل هو سقيا الله عز وجل"، قال سفيان: عثانين الأسد: الذراع والجبهة
(1)
.
وقراءة العامة {تُكَذِّبُونَ} من التكذيب، وقرأ المفضل، عن عاصم، ويحيى بن وَثّاب {تُكَذِّبُونَ} بفتح التاء مخففًا، ومعناه ما قدمناه، من قول من قال: مُطِرنا بنوء كذا. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[34/ 241](73)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(68)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(232)، و (ابن منده) في "الإيمان"(509)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون شكر النعمة من الإيمان، وهو وجه إيراد المصنّف رحمه الله تعالى للحديث هنا.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحرص الشديد على حماية التوحيد، وتنبيه أمته على دقائق الشرك، وأنه كثيرًا ما يتساهل الناس، فيقعون فيه جريًا على ما يألفونه من نسبة الأشياء إلى الأسباب دون أن ينتبهوا لخطره، وما يترتّب عليه من سلب التوحيد.
3 -
(ومنها): بيان أن الواجب على العبد إذا حصلت له نعمة أن يقول: هذه رحمة الله تعالى عليّ، دون أن أستحقّ عليه شيئًا، اللهم لك الحمد على
(1)
هذا منقطع؛ لأن إسماعيل بن أميّة من الطبقة السادسة التي لم تلق الصحابة، راجع:"التقريب" ص 32.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 17/ 228 - 230.
ما أنعمت، ولك الشكر على ما أوليت، سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
4 -
(ومنها) بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة.
5 -
(ومنها): بيان أن الله سبحانه وتعالى يُقسم بما شاء من خلقه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} ، وأما الخلق فلا يجوز لهم أن يقسموا إلا بالله سبحانه وتعالى.
6 -
(ومنها): بيان عظم مواقع النجوم على اختلاف المعاني السابقة؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يُقسم بشيء إلا لبيان عظمته وكرامته عنده سبحانه وتعالى.
7 -
(ومنها): بيان عظمة القرآن العظيم؛ لأنه الله سبحانه وتعالى أقسم عليه، فقال:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} .
8 -
(ومنها): بيان أن هذا القرآن كان في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، فأنزله الله تعالى منجّمًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع والأسباب.
9 -
(ومنها): بيان أن الآية دلّت على ذمّ من ينسب الأرزاق والنعم إلى غير الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك من التكذيب والكفر بالله تعالى.
10 -
(ومنها): أن مما يدخل تحت دلالة الآية الكريمة ما وقع فيه كثير من الناس الذين يعتقدون في الأولياء والصالحين، حيث يتساهلون فينسبون إليهم كلّ ما يحصل لهم من الخيرات، فيقول أحدهم إذا حصل له أي خير: هذا مما أعطاني سيدي فلان، فما أكثر هذا في الأمة اليوم، ومن المؤسف أن يكون هناك من ينتسب إلى العلم، فيسمع ويرى هذا كله، ثم يسكت ولا ينكره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، غربة في الإسلام وغربة في أهله، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، اللهم آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(35) - (بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ حُبَّ الأَنصَارِ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم مِنَ الإيمَانِ وَمِنْ عَلَامَاتِه، وَبُغْضُهُمْ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[242]
(74) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أنسًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آيةُ الْمُنَافِقِ بُغْضُ الْأنصَار، وَآيةُ الْمُؤْمِنِ حُبُّ الْأنصَارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الحافظ تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة ثبت حافظ إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام المشهور تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ) بن عَتِيك، وقيل: ابن جابر بن عَتِيك الأنصاريّ المدنيّ، وقيل: إنهما اثنان، ثقةٌ [4].
رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وجده لأمه عَتِيك بن الحارث، وعن أبيه عبد الله بن جَبْر إن كان محفوظًا.
وروى عنه مالك، وشعبة، ومِسْعَر، وأبو العُمَيس المسعوديّ، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: ثقةٌ، قلت له: عبد الله أحب إليك أو موسى الْجُهَنيّ؟ قال: عبد الله أحب إليّ، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو بكر بن منجويه: أهل العراق يقولون: جَبْر، ولا يصحّ، إنما هو جابر.
قال الحافظ: هذا نقله ابن منجويه من كلام البخاريّ، فإنه قال في "تاريخه": عبد الله بن عبد الله بن جابر، سمع ابن عمر، وأنسًا، قاله مالك، وقال شعبة، ومِسْعَر، وأبو العُمَيس، وعبد الله بن عيسى: عن عبد الله بن
عبد الله بن جَبْر، ولا يصح جَبْر، إنما هو جابر بن عَتِيك، قال: وقال بعضهم: عن عبد الله بن عيسى، عن جَبْر بن عبد الله - يعني قَلبه -.
وقال الخطيب في "رافع الارتياب": قال عمار بن رُزيق: عن عبد الله بن عيسى، عن جَبْر بن عبد الله بن عَتِيك، وكذا حُكِي عن الثوريّ، وحمزة الزيات في رواية، قال الخطيب: الصواب عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال: والكوفيون يضطربون فيه.
وقال الدارقطنيّ: لم يتابع مالكًا أحد على قوله: جابر بن عَتِيك، وهو مما يُعتَمد به عليه.
وذكر الحافظ شرف الدين الدمياطي أن قول من قال: جابر بن عتيك وَهَمٌ، وأن الصواب جَبْر بن عَتِيك.
وقد فَرّق بينهما ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، فحَكَى عن أبيه أنه وَثَّقَ ابنَ جابر، وكذا عن العباس الدُّوريّ، عن ابن معين، وحَكَى في ابن جَبْر عن إسحاق، عن ابن معين توثيقه، قال: وسألت أبي عنه، فذكر ما تقدم.
قال الحافظ: وممن فرّق بينهما أيضا النسائيّ في "الجرح والتعديل"، والصواب أنه رجل واحد، ووقع الخلاف في اسم جدّه، هل جَبْر أو جابر؟.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث وأعاده بعده، وحديث (325): "يغتسل بخمس مكاكيك، ويتوضأ بمكوك
…
" وأعاده بعده.
[تنبيه]: أخرج الشيخان من طريق مِسْعَر، عن ابن جَبْر، عن أنس حديث الوضوء بالمدِّ والاغتسال بالصاع، فلم يُسَمِّه مِسعر ولا نسبه، وأخرجه مسلم من طريق شعبة، فقال: عن عبد الله بن عبد الله بن جبر، عن أنس، وروى عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن فلان الأنصاريّ، عن أنس، هذه رواية أبي خالد الدالانيّ، وقال الثوريّ، وعمار بن رُزيق، عن عبد الله بن عيسى، عن جَبْر بن عبد الله بن عتيك، عن أنس، وهذا من مقلوب الأسماء.
وأخرج أبو داود من طريق شَرِيك القاضي، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن جبر نسبه لجده.
وأخرج مالك في "الموطأ" حديثين عن عبد الله بن جابر بن عَتيك، فقيل: هو هذا، فَوَهِم مالك في تسمية جدّه جابرًا، وقيل: هو آخر، وهو الراجح، والله أعلم. انتهى
(1)
.
5 -
(أنس) بن مالك الخادم الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير ابن جبر فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه راويًا وافق اسمه اسم أبيه، وهو عبد الله بن عبد الله بن جبر.
6 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنه بالبصرة، مات سنة (2) أو (93)، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشرين سنين، وهو من المعمّرين، فقد جاوز مائة سنة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَبْرٍ) بفتح الجيم وسكون الموحّدة، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أنسًا) رضي الله عنه (قَالَ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آيةُ الْمُنَافِقِ بُغْضُ الأنصَارِ) مبتدأ وخبر: أي علامة الشخص الذي فيه النفاق أن يُبغض أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبيّ رحمهم الله تعالى: الآية: العلامة والدلالة، وقد تكون ظنيّةً، وقد تكون قطعيّةً، وحُبُّ الأنصار من حيثُ كانوا أنصار الدين ومُظهريه، وباذلين أموالهم وأنفسهم في إعزازه وإعزاز نبيّه صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته دلالة قاطعةٌ
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 367 - 368.
على صحّة إيمان من كان كذلك، وصحّة محبّته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وبُغضُهُم كذلك دلالة قاطعةٌ على النفاق، وكذلك القو في حبّ عليّ رضي الله عنه وبُغْضه، فمن أحبّه لسابقته في الإسلام، وقِدَمِهِ في الإيمان، وغَنَائه فيه، وذَوْده عنه، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمكانته من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرابته، ومصاهرته، وعلمه، وفضائله كان ذلك منه دليلًا قاطعًا على صحّة إيمانه ويقينه ومحبّته للنبيّ صلى الله عليه وسلم ومن أبغضه لشيء من ذلك كان على العكس. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قوله: "آية المنافق بغض الأنصار
…
"، وقوله مثل ذلك في عليّ رضي الله عنه معناه بَيّنٌ؛ لأن من عرف حقّ الأنصار، ومكانهم من الدين، ومُبادرتهم إلى نصره وإظهاره، وقتال كافّة الناس دونه، وذبّهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونصرهم له أحبّهم ضرورةً بحكم صحّة إيمانه وحبّه للإسلام وأهله، وعَظُمُوا في نفسه بمقدار عِظَمِ الإسلام في قلبه، ومن كان منافق السريرة، غير مسرور بما كان منهم، ولا مُحبّ في إظهارهم للإيمان، ونصرهم له أبغضهم لا شكّ في ذلك، وكذلك في حقّ عليّ رضي الله عنه. انتهى باختصار
(2)
.
[فائدة]: "الأنصار" - بفتح الهمزة: جمع ناصر، كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير، كأشراف وشريف، واللام فيه للعهد: أي أنصار رسول صلى الله عليه وسلم، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يُعرفون ببني قَيلة - بقاف مفتوحة، وياء تحتانية ساكنة - وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصار ذلك علمًا عليهم، وأُطلق أيضًا على أولادهم، وحلفائهم، ومواليهم.
وقال في "القاموس" و"شرحه": وأنصار النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج نصروه في ساعة العسرة، غلبت عليهم الصفة، فجرى مَجْرَى الأسماء، وصار كأنه اسم الحيّ، ولذلك أضيف إليه بلفظ الجمع، فقيل: أنصاريّ. انتهى
(3)
.
وقوله: "أضيف إليه": أي نُسب إلى لفظه، فقيل: أنصاريّ، لكونه جاريًا مجرى العلم، قال في "الخلاصة":
(1)
"المفهم" 1/ 264.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 376 - 377.
(3)
"تاج العروس" 3/ 568.
وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ
…
إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ
يعني أنه إذا نُسب إلى المثنّى أو الجمع وجب ردّه إلى واحده، فنُسب إليه، كقولك في النسبة إلى الفرائض: فَرَضيٌّ، فأما إذا كان علَمًا، كأنمار اسم قبيلة، أو جاريًا مجرى العلم كأنصار، فتنسب إلى لفظه، فتقول: أنماريّ، وأنصاريّ
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": اسم إسلاميّ، سَمَّى به النبيّ صلى الله عليه وسلم الأوسَ والخزرجَ، وحُلفاءهم، والأوس يُنسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج يُنسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قَيْلَةَ، وهو اسم أمّهم، وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر الذي يجتمع إليه أنساب الأزد. انتهى
(2)
.
وقال السمعانيّ رحمه الله تعالى: هم جماعة من أهل المدينة من الصحابة من أولاد الأوس والخزرج، قيل لهم: الأنصار؛ لنصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} الآية [الأنفال: 72]، وقال عزّ من قائل:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]، وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية [التوبة: 100]، وفيهم كثرة وشُهْرة على اختلاف بطونهم وأفخاذهم. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(وَآيةُ الْمُؤْمِنِ حُبُّ الْأنصَارِ")"وفي الرواية التالية: "حُبُّ الأنصار آية الإيمان، وبُغضهم آية النفاق"، وفي رواية البخاريّ: "آية الإيمان حُبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنصار".
قال في "الفتح": قوله: "آية الإيمان" - هو بهمزة ممدودة، وياء تحتانية مفتوحة، وهاء تأنيث - و"الإيمان" مجرور بالإضافة، هذا هو المعتمد، في ضبط هذه الكلمة في جميع الروايات، في "الصحيحين"، و"السنن"، و"المستخرَجات"، و"المسانيد"، و"الآية": العلامة، كما ترجم به البخاريّ والنسائيّ.
(1)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" في هذا البيت 2/ 270 - 271.
(2)
"الفتح" 7/ 140.
(3)
"الأنساب" 1/ 228.
ووقع في "إعراب الحديث" لأبي البقاء الْعُكْبَريّ: "إنه الإيمان" - بهمزة مكسورة، ونون مشددة، وهاء - و"الإيمان" مرفوع، وأعربه، فقال:"إن" للتأكيد، والهاء ضمير الشأن، و"الإيمان": مبتدأ، وما بعده خبر، ويكون التقدير: إن الشأن الإيمانُ حُبُّ الأنصار.
وهذا تصحيف منه، ثم فيه نظر من جهة المعنى؛ لأنه يقتضي حصر الإيمان في حب الأنصار، وليس كذلك.
[فإن قيل]: واللفظ المشهور أيضا يقتضي الحصر، وكذا رواية البراء رضي الله عنه الآتية هنا، وقد أوردها البخاريّ في "فضائل الأنصار" قال في الأنصار:"لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق".
[فالجواب]: عن الأول: أن العلامة كالخاصّة تَطَّرِد ولا تنعكس، فإن أُخذ من طريق المفهوم، فهو مفهومُ لَقَب لا عبرة به.
سلمنا الحصر، لكنه ليس حقيقيًّا، بل ادعائيًا؛ للمبالغة، أو هو حقيقي، لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجواب يأتي فيما قاله أبو البقاء أيضًا، فله أن يُجيب بهذا، والصواب الردّ عليه بعدم ثبوت الرواية بما قاله، وإلا فالجواب له ظاهر، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.
[والجواب]: عن الثاني: أن غايته أن لا يقع حب الأنصار إلا لمؤمن، وليس فيه نفي الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبهم.
[فإن قيل]: فعلى الشق الأوّل، هل يكون من أبغضهم منافقًا وإن صَدّق وأقرّ؟. [فالجواب]: أن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكنه غير مراد، فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة، وهي كونهم نَصَروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَثَّر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق، ويُقَرِّب هذا الحمل زيادةُ أبي نعيم في "المستخرج" في حديث البراء بن عازب:"من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم"، ويأتي مثل هذا في الحبّ كما سبق.
وسيأتي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، رفعه:"لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر"، ولأحمد من حديثه:"حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق".
ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير، فلا يراد ظاهره، ومن ثَمَّ لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، بل قابله بالنفاق؛ إشارة إلى أن الترغيب والترهيب، إنما خوطب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا؛ لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "كتاب الإيمان"[35/ 242 و 243](74)، و (البخاريّ) في "كتاب الإيمان"(17) و"كتاب المناقب"(3784)، و (النسائيّ) في "كتاب الإيمان"(5021)، و (أحمد) في "مسنده"(11907 و 11961 و 13195)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(233 و 234)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان علامة الإيمان، وهو أن الشخص إذا أحب الأنصار دلّ على أنه مؤمنٌ، كما نصّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والعكس بالعكس.
2 -
(ومنها): بيان أن حبّ الأنصار، بل وحبّ الصحابة رضي الله عنهم جميعًا عنوان لحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن بغضهم عنوان لبغضه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "فبحبي أحبهم، وببغضي أبغضهم".
3 -
(ومنها): بيان أن حبّ الأنصار عنوان لمحبّة الله تعالى لمن أحبهم، وبغضه لمن أبغضهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم الآتي:"مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ".
4 -
(ومنها): بيان مناقب الأنصار رضي الله عنهم، حيث جعل الله سبحانه وتعالى حبهم شعبة من شعب الإيمان؛ لمبادرتهم بالاستجابة لدينه تعالى، ونصرهم رسوله صلى الله عليه وسلم وإيوائهم له وللمهاجرين في دينهم.
قال في "الفتح": وإنما خُصَّ الأنصار بهذه المنقبة العظمى؛ لما فازوا به دون غيرهم من القبائل، من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والقيام بأمرهم،
ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبًا لمعاداتهم جميع الفِرَق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تَجُرُّ الْبُغْضَ، ثم كان ما اختصوا به مما ذُكِر موجبًا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم، حتى جُعل ذلك آية الإيمان والنفاق؛ تنويهًا بعظيم فضلهم، وتنبيهًا على كريم فعلهم، وإن كان مَن شاركهم في معنى ذلك مشاركًا لهم في الفضل المذكور، كُلّ بقسطه، وقد ثبت في "صحيح مسلم" - يعني الحديث الآتي آخر الباب - عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق"، وهذا جار باطراد في أعيان الصحابة رضي الله عنهم؛ لتحقق مُشْتَرَكِ الإكرام في جميعهم؛ لما لهم من حسن الغَنَاء في الدين. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى - بعد ذكره مزايا الأنصار، وقد قدّمناه - ما نصّه: وهذا المعنى جار في أعيان الصحابة رضي الله عنهم، كالخلفاء الراشدين، والعشرة، والمهاجرين، بل وفي كلّ الصحابة رضي الله عنهم؛ إذ كلُّ واحد منهم له شاهد، وغَنَاءٌ في الدين، وأَثَرٌ حسنٌ فيه، فحُبُّهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبُغضهم له محضُ النفاق، وقد دلّ على صحّة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البزّار
(2)
في أصحابه كلّهم: "فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي
(1)
"فتح" 1/ 90 - 91.
(2)
بل أخرجه الترمذيّ رحمه الله تعالى، فكان الأولى عزوه إليه، ولفظه:
حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا عَبِيدة بن أبي رائطة، عن عبد الرحمن بن زباد، عن عبد الله بن مُغَفَّل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
هكذا قال، ولكن فيه عبد الرحمن بن زياد مجهول، لم يرو عنه إلا عبيدة بن أبي رائطة، لكن الحديث له شواهد، كأحاديث الباب، وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي للمصنّف في "فضائل الصحابة" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، =
أبغضهم"، لكنهم لَمّا كانوا في سَوَابقهم، ومراتبهم متفاوتين، فمنهم المتمكّن الأمكن، والتالي والمقدّم، خَصّ الأمكن منهم بالذكر في هذا الحديث، وإن كان كلٌّ منهم له في السوابق أشرف حديث، وهذا كما قال العليّ الأعلى سبحانه وتعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} إلى قوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95]. ثم قال:
[تنبيه]: من أبغض من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم من غير تلك الجهات التي ذكرناها، بل لأمر طارئ وحَدَثٍ واقعٍ، من مخالفة غرض أو ضرر حصل، أو نحو ذلك لم يكن كافرًا ولا منافقًا بسبب ذلك؛ لأنهم - رضي الله تعالى عن جميعهم - قد وقعت بينهم مخالفات عظيمة، وحروب هائلة، ومع ذلك لم يُكفّر بعضهم بعضًا، ولا حكم عليه بالنفاق لما جرى بينهم من ذلك، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام، فإما أن يكون كلهم مصيبًا فيما ظهر له، أو المصيب واحد، والمخطئ معذورٌ، بل مخاطب بالعمل على ما يراه ويظنّه مأجورٌ، فمن وقع له بغضٌ في واحد منهم لشيء من ذلك، فهو عاصٍ يجب عليه التوبة من ذلك، ومجاهدة نفسه في زوال ما وقع له من ذلك، بأن يذكر فضائلهم، وسوابقهم، وما لهم على كلّ من بعدهم من الحقوق الدينيّة والدنيويّة؛ إذ لم يصل إلى أحد ممن بعدهم شيء من الدنيا ولا الدين إلا بهم وبسببهم وأدبهم وصلت إلينا كلّ النعم، واندفعت عنا كلّ الجهالات والنقم، ومن حصلت به مصالح الدنيا والآخرة، فبغضه كفران النعم، وصفقة خاسرة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: هذا المعنى يرجع إلى ما تقدّم من أن من أحبّ المرء لا يحبّه إلا لله من علامات الإيمان، وأن الحبّ في الله من أوثق عُرى الإيمان، وأنه أفضل الإيمان، فالأنصار
= فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا، ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفه"، وغيره من الأحاديث الكثيرة، فتحسين الترمذي رحمه الله تعالى يكون من هذا الباب، والله تعالى أعلم.
نصروا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمحبّتهم من تمام محبّة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فمحبّة أولياء الله تعالى وأحبابه عمومًا من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبغضهم محرّم، فهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يُتَظاهر به غالبًا، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شرّ ممن كتمه وأخفاه، ومن كان له مزيّة في الدين لصحبته النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لقرابته، أو نصرته، فله مزيد خصوصيّة في محبّته وبغضه، ومن كان من أهل السوابق في الإسلام كالمهاجرين الأولين، فهو أعظم حقًّا مثل عليّ رضي الله عنه، وقد رُوي أن المنافقين إنما كانوا يُعرفون ببغض عليّ رضي الله عنه ومن هو أفضل من عليّ، كأبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما، فهو أولى بذلك، ولذلك قيل: إن حبهما من فرائض الدين، وقيل: إنه يرجى على حبّهما ما يُرجى على التوحيد من الأجر. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[243]
(
…
) - (حَدَّثنَا يَحْيىَ بْنُ حَبِيبِ الْحَارِثيُّ، حَدَّثنَا خَالِدٌ - يَعْني ابْنَ الْحَارِثِ - حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدَ الله، عَنْ أنسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "حُبُّ الأَنصَارِ آيةُ الإيمَان، وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النِّفَاقِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِ) البصريّ، ثقةٌ [10]، (ت 248)(م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سليمان، ويُقال: ابن الحارث بن سُليم بن عُبيد بن سُفيان الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقة ثبتٌ [8].
رَوَى عن حميد الطويل، وأيوب، وابن عون، وهشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة، والثوري، وعبد
(1)
"فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى 1/ 64 - 66.
الملك بن أبي سليمان، وابن جريج، وهشام بن حسان، وهشام الدستوائي، وجماعة.
ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ومسدد، وعارم، والفلاس، وعبد الله بن عبد الوهاب الْحَجَبيّ، وعبيد الله بن معاذ، ويحيى بن حبيب بن عربي، ونصر بن علي الْجَهْضَميّ، والحسن بن عرفة وهو آخر أصحابه، وغيرهم، وحَدَّثَ عنه شعبة، وهو من شيوخه.
قال ابن عَمّار عن القطان: ما رأيت خيرًا من سفيان وخالد بن الحارث، وقال الأثرم عن أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال الْمَرُّوذيُّ عن أحمد: كان خالد بن الحارث يجيء بالحديث كما يَسْمَع، وقال أبو زرعة: كان يقال له خالدُ الصدق، وقال ابن سعد: ثقة. وقال أبو حاتم: إمام ثقة، وقال النسائي: ثقة ثبت، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من عُقلاء الناس ودُهاتهم، وقال معاوية بن صالح: قلت ليحيى بن معين: من أثبت شيوخ البصريين؟ قال: خالد بن الحارث، مع جماعة سماهم، وقال الترمذي: ثقة مأمون، سمعت ابن مثنى يقول: ما رأيت بالبصرة مثله، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال فيه حماد بن زيد: ذاك الصدوق، وقال الآجري: سألت أبا داود عن خالد ومعاذ، فقال: معاذ صاحب حديث، وخالد كثير الشكوك، وذكر من فضله، وقال الدارقطني: رَوَى عنه حسان بن إبراهيم الكرماني، وهو أكبر من خالد، وأقدم وفاةً، وقال في موضع آخر: أحد الأثبات.
وقال عمرو بن عليّ: وُلد سنة عشرين ومائة، وقال هو وابن سعد: مات سنة (186)، وقال ابن حبّان: وُلد سنة (119).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (77) حديثًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله تقدّمت هناك.
وقوله: (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ) قد تقدّم سبب زيادة "يعني" عند قوله في الباب الماضي: "وهو ابن عمّار"، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[244]
(75) - (وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَني مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَاَ أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ فِي الْأنصَارِ:"لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ".
قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِعَدِيٍّ: سَمِعْتَهُ مِنَ الْبَرَاءِ؟ قَالَ: إِيَّايَ حَدَّثَ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10]، (ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ) بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة مُتقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بن مُعَاذٍ) بن معاذ الْعَنْبريّ، أبو عَمرو البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج المذكور في السند الماضي.
5 -
(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقة رُمي بالتشيّع [4].
رَوَى عن أبيه، وجده لأمه عبد الله بن يزيد الخطميّ، والبراء بن عازب، وسليمان بن صُرَد، وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد بن وهب، وزيد بن حبيش، وغيرهم.
ورَوَى عنه أبو إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وزيد بن أبي أُنيسة، وحجاج بن أَرْطاة، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، وكان إمام مسجد المشيعة وقاصَّهُم، وقال العجليّ والنسائيّ: ثقة، قال ابن عبد البر: عُبيد بن عازب هو جد عديّ بن ثابت، وقال غيره: هو عدي بن أبان بن ثابت بن قيس بن الْخَطِيم الأنصاري الظفَريّ، وثابت صحابيّ معروف.
قال الْبَرْقانيّ: قلت للدارقطنيّ: فعديّ بن ثابت عن أبيه، عن جده؟ قال: لا يثبت، ولا يعرف أبوه ولا جده، وعدي ثقة، وقال الطبريّ: عدي بن ثابت ممن يجب التثبت في نقله، وقال ابن معين: شيعيٌّ مُفْرِط، وقال الْجُوزجاني: مائل عن القصد، وقال عفان: قال شعبة: كان من الرَّفَّاعين، وقال ابن أبي داود: حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده معلول، وقال السلمي: قلت للدارقطني: فعدي بن ثابت؟ قال: ثقة، إلا أنه كان غاليًا - يعني في التشيع -، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد: ثقة، إلا أنه كان يتشيع، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية خالد على العراق، وقال ابن قانع: مات سنة ست عشرة ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (24) حديثًا.
6 -
(الْبَرَاءُ) بْنُ عَازِب بن الحارث بن عَدِيّ بن مَجْدَعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ، يُكنى أبا عُمارة، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الطُّفيل المدني الصحابي ابن الصحابي، نزل الكوفة، ومات بها زَمَنَ مصعب بن الزبير.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي أيوب، وبلال، وغيرهم.
وروى عنه عبد الله بن يزيد الْخَطْميّ، وأبو جُحَيفة، ولهما صحبة، وعُبيد، والربيع ويزيد ولوط أولاد البراء، وابن أبي ليلى، وعديّ بن ثابت، وأبو إسحاق، ومعاوية بن سُويد بن مُقَرّن، وأبو بُرْدة وأبو بكر بنا أبي موسى، وخلق كثير.
قال أحمد: حدّثنا يزيد، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: استصغرني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بَدْر أنا وابن عمر، فردّنا، فلم يشهدها
(1)
.
وقال أبو داود الطيالسيّ في "مسنده": حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء يقول: استُصغرتُ أنا وابن عمر يوم بدر. ورواه عبد الرحمن بن
(1)
قال الحافظ الهيثميّ في "الزوائد" 6/ 111: رواه الطبرانيّ، ورجاله رجال الصحيح.
عَوْسَجة عن البراء نحوه، وزاد:"وشهدت أحدًا" أخرجه السّرّاج. ورُوي عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة غزوة، وفي رواية: خمس عشرة. وإسناده صحيح. وعنه قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرًا. أخرجه أبو ذرّ الْهَرَويّ. وروى أحمد بإسناد صحيح، من طريق الثوريّ، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: ما كلّ ما نُحَدّثكموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، حدّثناه أصحابنا، وكان يشغلنا رَعِيّةُ الإبل.
وهو الذي افتتح الريّ سنة (24) في قول أبي عمرو الشَّيْبَانيّ، وخالفه غيره. وشهد غزوة تُسْتَر مع أبي موسى، وقيل: هو الذي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معه السهم إلى قليب الحديبية، فجاش بالريّ، والمشهور أن ذلك ناجية بن جُندب، قال ابن عبد البرّ: وأول مشاهده أُحُد. وقال العسكري: أول مشاهده الخندق، وشَهِد مع علي الْجَمَل وصفِّين والنَّهْرَوان، ونزل الكوفة، وابتنى بها دارًا، وكان يُلَقَّب ذا الْغُرّة، قال الحافظ: كذا قيل، وعندي أن ذا الغرة آخر. انتهى.
وقال ابن حبان: استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان هو وابن عمر لِدَةَ، مات سنة (72)
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (64) حديثًا
(2)
.
[تنبيه]: "البراء" رضي الله عنه بفتح الموحّدة، وتخفيف الراء، والمدّ، هذا هو المشهور عند أهل العلم من المحدّثين، وأهل اللغة والأخبار، وأصحاب الفنون كلّها، قال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: وحفظت فيه عن بعض أهل اللغة القصر والمدّ. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الإصابة" 1/ 411 - 412، و"تهذيب التهذيب" 1/ 215 - 216.
(2)
هكذا في برنامج الحديث، والذي ذكرته في "قرة العين" نقلًا عن ابن الجوزيّ أن له من الأحاديث (305) حديث، اتّفق الشيخان على (22) وانفرد البخاريّ بـ (15) ومسلم بـ (6)، ويمكن أن يقال: الاختلاف بسبب التكرار، لكن الفرق كبير، وإن رجحنا رجحنا ما في البرنامج؛ لأن أحاديثه مكتوبة مسلسلة بالأرقام، فيبعد الخطأ فيها، والله تعالى أعلم.
(3)
راجع: "الصيانة" ص 256، و"شرح النوويّ" 2/ 65.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة غير شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني، ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين غير زهير فنسائيّ ثم بغداديّ، والصحابي فمدنيّ ثم كوفيّ.
4 -
(ومنها): أن عديّ بن ثابت هذا أول محل ذكره في هذا الكتاب، وكذا صحابيّه صلى الله عليه وسلم وأبوه صحابيّ أيضًا رضي الله عنهما.
5 -
(ومنها): أنه لا يوجد في "الصحيحين" من اسمه براء غير هذا، وكذا ليس فيهما من اسمه عديّ غير ابن ثابت هذا وعديّ بن حاتم الطائيّ الصحابيّ رضي الله عنه.
6 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، فله في هذا الحديث إسنادان، يلتقيان في معاذ بن معاذ.
7 -
(ومنها): أن فيه قوله: "وَاللَّفْظُ لَهُ"، أي لعبيد الله بن معاذ، وهو إشارة إلى أن شيخيه لم يتفقا في اللفظ، فهذا اللفظ لعبيد الله، وأما زهير، فرواه بمعناه، وقد تقدّم بيان هذا غير مرّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ) الأنصاريّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ) بن عازب رضي الله عنهما (يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال، أو هو مفعول ثان لـ"سمعت"، على قول بعض النحاة (أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ فِي الأنصَارِ) متعلّقٌ بـ "قال"، أي قال هذا الكلام في بيان شأن الأنصار، ومناقبهم، ومزاياهم، وفضائلهم ("لَا يُحِبُّهُمْ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ)"من" شرطيّة أو موصولة، مبتدأ خبرها قوله:(أَحَبَّهُ اللهُ) قال السنديّ رحمه الله تعالى: أراد بمحبّتهم - والله أعلم - محبتهم لنصرة دين الله تعالى، وكذلك بغضهم إذا كان لذلك، وإلا فكثيرًا ما تجري معاملة تؤدّي إلى المحبّة والبغض، وهما خارجان
عما يقتضيه المقام
(1)
.
وقال ابن التين رحمه الله: المراد حبّ جميعهم، وبغض جميعهم؛ لأن ذلك إنما يكون للدين، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البغض له، فليس داخلًا في ذلك، وهو تقرير حسنٌ، كما قاله في "الفتح"
(2)
.
(وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ الله") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا على مقابلة اللفظ باللفظ، ومعناه أن من أحبّهم جازاه الله على ذلك جزاء المحبوب المحبّ من الإكرام، والترفيع، والتشفيع، وعكس ذلك في البغض، وظاهر هذا الكلام أنه خبرٌ عن مآل كلِّ واحد من الصنفين، ويصلح أن يُقال: إن ذلك الخبر خرج مخرج الدعاء لكلّ واحد من الصنفين، فكأنه قال: اللهم افعل بهم ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِعَدِيٍّ: سَمِعْتَهُ مِنَ الْبَرَاءِ؟ قَالَ: إِيَّايَ حَدَّثَ).
(قَالَ شُعْبَةُ) بن الحجاج (قُلْتُ لِعَدِيٍّ) أي ابن ثابت شيخه في هذا الحديث (سَمِعْتَهُ مِنَ الْبَرَاءِ؟) رضي الله عنه، بتقدير همزة الاستفهام، ولفظ ابن ماجه:"أَسَمِعْتَهُ مِنَ الْبَرَاءِ بن عازبٍ؟ "(قَالَ) عديّ (إِيَّايَ) مفعول مقدّم لـ (حَدَّثَ) هذا تأكّد من شعبة رحمه الله تعالى واستيثاق، لا شكّ في صدق عديّ رحمه الله، ولذا قدّم عديّ المفعول؛ لإفادة الحصر، ويحتمل أنه إنما سأله لاحتمال أن يكون بينهما واسطة، حيث لم يُصرّح بالتحديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[35/ 244](75)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3783)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3900)، و (النسائيّ) في
(1)
"شرح السندي" 1/ 106.
(2)
"الفتح" 7/ 144.
(3)
"المفهم" 1/ 266.
"فضائل الصحابة"(229)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(163)، و (علي بن الجعد) في "مسنده"(493)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 157)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 283 و 292)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(235)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7272)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3967)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن حبّ الأنصار من الإيمان، وبغضهم من النفاق، وهو وجه إيراد المصنّف رحمه الله تعالى له هنا.
2 -
(ومنها): بيان فضل الأنصار رضي الله عنهم.
3 -
(ومنها): أن محبة الأنصار سبب لمحبّة الله تعالى لمن أحبّهم، وبغضهم سبب لبغضه لمن أبغضهم - نعوذ بالله من بغضه -.
4 -
(ومنها): أن الجزاء من جنس العمل، فإن الأنصار لَمّا أحبوا رسول الله رضي الله عنه، وأصحابه الكرام رضي الله عنهم جازاهم الله تعالى بأن جعل حبهم علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[245]
(76) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ - عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُبْغِض الْأنصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عَبْدٍ القاريّ المدنيّ، حليف بني زُهْرَة، سكن الإسكندرية، ثقةٌ [8].
رَوَى عن أبيه، وزيد بن أسلم، وعمرو بن أبي عمرو، وموسى بن عقبة، وأبي حازم بن دينار، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابن وهب، وسعيد بن كثير بن عُفير، وسعيد بن منصور، وأبو صالح كاتب الليث، وأبو صالح عبد الغفار بن داود، ويحيى بن بكير، ويحيى بن يحيى، وقتيبة بن سعيد، ويزيد بن سعيد الصَّبَاحيّ، وغيرهم.
قال أحمد: ثقةٌ، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال ابن يونس: تُوفّي بالإسكندريّة سنة (181).
روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (48) حديثًا.
3 -
(سُهَيْل) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، ثقة [6](ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
4 -
(أَبُوهُ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
5 -
(أَبُو هُرَيرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
ومن لطائف هذا الإسناد أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه فبغلانيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[35/ 245](76)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 419)، و (النسائيّ) في "الكبرى" في "فضائل الصحابة"(218)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(238)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[246]
(77) - (وَحَدَّثنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُبْغِضُ الأنصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن عثمان بن خُوَاستِي الْعَبْسيّ، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفيّ، صاحب "المسند" و"التفسير"، ثقة حافظ شهير [10].
رَوَى عن هشيم، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسيّ، وطلحة بن يحيى الزُّرَقي، وعبدة بن سليمان، وأبي حفص عمر بن عبد الرحمن الأبار، ومحمد بن فُضيل، وخلق كثير.
ورَوَى عنه الجماعة، سوى الترمذي، وسوى النسائي، فرَوَى في "اليوم والليلة" عن زكريا بن يحيى السِّجْزيّ عنه، وفي "مسند علي" عن أبي بكر المروزي عنه، وروى عنه ابنه محمد، وابن سعد ومات قبله، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وزياد بن أيوب الطوسي، وعثمان بن خرزاذ، والذهلي، وخلق كثير.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: ابن أبي شيبة ما تقول فيه - أعني أبا بكر -؟ فقال: ما علمت إلا خيرًا، وكأنه أنكر المسألة عنه، قلت لأبي عبد الله: فأخوه عثمان؟ فقال: وأخوه عثمان ما علمت إلا خيرًا، وأثنى عليه، وقال: عثمان رجل سليم، وقال فضلك الرازي: سألت ابن معين عن محمد بن حميد الرازي، فقال: ثقة، وسألته عن عثمان بن أبي شيبة، فقال: ثقة، فقلت: من أحب إليك؛ ابن حميد أو عثمان؟ فقال: ثقتان أمينان مأمونان، وقال الحسين بن حيان عن يحيى: ابنا أبي شيبة: عثمان وعبد الله ثقتان صدوقان، ليس فيه شك، وقال أبو حاتم: سمعت رجلًا يسأل محمد بن عبد الله بن نمير عن عثمان، فقال: سبحان الله، ومثله يسأل عنه! إنما يسأل هو عنّا، وقال ابن
أبي حاتم عن أبيه: كان عثمان أكبر من أبي بكر إلا أن أبا بكر صَنّف، قال: وقال أبي: هو صدوق، وقال العجلي: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ثقة، وأخوه عثمان ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال الدارقطني في "كتاب التصحيف وأخبار المصحّفين": ثنا أبو القاسم علي بن محمد بن كاس النخعي القاضي، ثنا إبراهيم بن عبد الله الخصاف قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة في التفسير: فلما جهزهم بجهازهم جعل السفينة في رجل أخيه، فقيل له: إنما هو جعل السقاية في رحل أخيه، قال: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لعاصم، قال الدارقطني: وقيل: إنه قرأ عليهم في التفسير: واتبِعُوا ما تتلوا الشياطين بكسر الباء، قال: وثنا أحمد بن كامل، حدثني الحسن بن الحسن بن الحباب المقرئ أن عثمان بن أبي شيبة قرأ عليه في التفسير:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} قالها: الم، يعني كأول البقرة.
قال الحافظ الذهبيّ في "الميزان" - بعد أن حكى القصّة -: قلت: لعله سبق لسان، وإلا فقطعًا كان يحفظ سورة الفيل، وهذا تفسيره قد حمله الناس عنه.
قال الخطيب في "جامعه": لم يُحك عن أحد من المحدّثين من التصحيف في القرآن الكريم أكثر مما حُكي عن عثمان بن أبي شيبة، ثم ساق بسنده عن إسماعيل بن محمد التستريّ، سمعت عثمان بن أبي شيبة يقرأ: فإن لم يُصبها وابلٌ فظلٌّ، وقرأ مرّةً: الخوارج مكلبين، وقال أحمد بن كامل القاضي: حدثنا أبو شيخ الأصبهانيّ محمد بن الحسن قال: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة: بطشتم خبّازين، وقال محمد بن عبيد الله بن المنادي: قال لنا عثمان بن أبي شيبة: ن والعلم في أيّ سورة هو؟، وقال مطيّن: قرأ عثمان بن أبي شيبة: فضرب لهم بسنور له ناب، فردّوا عليه، فقال: قراءة حمزة عندنا بدعة.
ثم قال الذهبيّ قلت: فكأنه كان صاحب دُعابة، ولعله تاب وأناب. انتهى
(1)
.
(1)
"ميزان الاعتدال" 3/ 35 - 39.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الذهبيّ رحمه الله هو التأويل المتعيّن علينا تجاه هذا الإمام الذي اعتمده الشيخان في "صحيحيهما" إن صحّت الحكايات المذكورة عنه، والظاهر أنها لا تصحّ، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال محمد بن عبد الله الحضرمي وغيره: مات في المحرم سنة (239)، وقال السراج عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة: وُلد أبي سنة (56).
أخرج له الجماعة، وفي "الزهرة": روى عنه البخاري (53) ومسلم (135)
(1)
.
2 -
(جَرِيرٌ) بن عبد الحميد بن قُرط الضّبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقة، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، أخو عثمان الكوفيّ الحافظ، ثقة ثبتٌ [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(أَبُو أُسَامَةَ) هو: حماد بن أسامة بن زيد القرسيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، من كبار [9](201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
5 -
(الْأَعْمَش) سليمان بن مِهْران الإمام الحجة المشهور تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان المذكور في السند الماضي.
7 -
(أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ سعد بن مالك بن سِنَان الأنصاريّ الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (ت 63) أو (74) وقيل غيره (ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر فما أخرج له الترمذيّ.
(1)
هكذا في "تهذيب التهذيب" 3/ 78، والذي في برنامج الحديث (صخر) أن البخاريّ روى عنه (61) حديثًا، وأن مسلمًا روى عنه (117) حديثًا، ولعل الاختلاف حصل بالتكرار، أو لاختلاف النسخ، فالله أعلم.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، غير أبي صالح وأبي سعيد، فمدنيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن الأعمش أكثر من روى عن أبي صالح، روى عنه نحو ألف حديث.
6 -
(ومنها): أن أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
وأما شرح الحديث فواضح، يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[35/ 246](77)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(2182)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(12/ 163 - 164)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 34 و 45 و 72 و 93)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1007)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(236)، و (ابن منده) في "الإيمان"(536 و 537 و 538)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[247]
(78) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأميِّ صلى الله عليه وسلم إِليَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(يَحْيىَ بْنُ يَحْيىَ) التميميّ النيسابوريّ الحافظ الشهير تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقة ثبت، أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(وكيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقة حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](196)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
4 -
(زِرِّ - بكسر الزاي، وتشديد الراء - ابْنِ حُبَيْشٍ) بمهملة، فموحّدة، فمعجمة، مصغّرًا، ابن حُباشة - بضم المهملة، بعدها موحَّدة، ثم معجمة - ابن أَوْس بن بلال، وقيل: هلال الأسديّ، أبو مريم، ويقال: أبو مُطَرّف الكوفيّ، ثقة جليلٌ مخضرمٌ، أدرك الجاهلية [2].
رَوَى عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، وسعيد بن زيد، وحذيفة، وأبي بن كعب، وصفوان بن عَسّال، وعائشة رضي الله عنهم، وغيرهم.
ورَوَى عنه إبراهيم النخعي، وعاصم بن بَهْدَلة، والمنهال بن عمرو، وعدي بن ثابت، والشعبي، وزبيد اليامي، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال عاصم عن زِرّ: خرجت في وفد من أهل الكوفة، وايم الله إِنْ حَرَّضَني على الوفادة إلا لقاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلقيت عبدَ الرحمن بن عوف، وأُبَيّ بن كعب، فكانا جَلِيسيَّ، قال عاصم: وكان زِرّ من أعرب الناس، وكان عبد الله يسأله عن العربية، وقال العجليّ: كان من أصحاب عليّ، وعبد الله، ثقة، وقال أبو جعفر البغداديّ: قلت لأحمد: فزِرٌّ، وعلقمة، والأسود؟ قال: هؤلاء أصحاب ابن مسعود، وهم الثبت فيه، وقال عاصم: كان أبو وائل عثمانيًا، وكان زِرّ عَلَوِيًّا، وكان مصلاهما في مسجد واحد، وكان أبو وائل معظمًا لزِرّ، وقال ابن عيينة عن إسماعيل: قلت لزِرّ: كم أتى عليك؟ قال: أنا ابن عشرين ومائة.
قال أبو عمر الضرير: مات قبل الجماجم، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: مات سنة (81)، وقال عمرو بن علي: سنة (82)، وقال ابن زَبْر: سنة (83)، وقال أبو نعيم: مات وهو ابن (127) سنةً، وصحح ابن عبد البر في
"الاستيعاب" سنة (3)، وقال: كان عالمًا بالقرآن قارئًا فاضلًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (174): "رأى جبريل له ستمائة جناح
…
"، وكرّره ثلاث مرّات، وحديث (762): في ليلة القدر، وكرّره أربع مرّات.
5 -
(عَلِيّ) بن أبي طالب رضي الله عنه، تقدّم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة غير شيخيه، فالأول لم يُخرج له الترمذيّ، والثاني لم يخرج له أبو داود وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير شيخه يحيى فنيسابوريّ، وعديّ فمدنيّ، وعليّ رضي الله عنه سكن الكوفة.
4 -
(ومنها): أنه فيه ثلاثة من ثقات التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عديّ، عن زِرّ.
5 -
(ومنها): أنه لا يوجد في الكتب الستة من يُسمّى زِرًّا إلا المذكور هنا، وهذا أول محل ذكره في هذا الكتاب، وهو من المعمّرين أدرك الجاهليّة، ومات سنة (82) وهو ابن (120) سنة، وقيل:(122)، وقيل:(127)، وهو أسديّ كوفيّ، وقد ذكرت آنفًا جملة ما روى له المصنّف في هذا الكتاب.
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنة، وابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، وأبو الحسنين، جَمّ المناقب رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زِرّ) بن حُبيش رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ) أي شقّها بالنبات، يقال: فَلَقْتُهُ فَلْقًا، من باب ضَرَبَ: شَقَقتُهُ فانفلق، وفَلّقتُهُ بالتشديد مبالغة، قاله الفيّوميّ (وَبَرَأَ) بالهمزة: أي خلق (النَّسَمَةَ) بفتح النون والسين: الإنسان، وقيل: النفس، وحكى الأزهريّ: أن النسمة هي
النفس، وأن كلّ دابّة في جوفها روح فهي نسمة، قاله النوويّ
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: النَّسِيمُ: نَفَسُ الريح، والنَّسَمَةُ مثله، ثم سُمّيت بها النَّفْسُ بالسكون، والجمع نَسَمٌ، مثلُ قَصَبَة وقَصَبٍ، والله بارئ النَّسَمِ: أي خالق النفوس. انتهى
(2)
.
زاد في رواية أبي نعيم: "وتَرَدّى العظمة"، معنى تردّى العظمة: أي لبسها، يقال: تردّت الجارية: توشّحت ولبست الرداء، كارتدت، قاله في "القاموس"
(3)
.
وهذا في معنى الحديث الآخر الذي أخرجه مسلم في "صحيحه" عن أبي مسلم الأغر، عن أبي سعيد الخدريّ وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العزة إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته".
وأخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار"، وفي لفظ:"في جهنّم".
(إِنَّهُ) الضمير للشأن تُفسّره الجملة بعده (لَعَهْدُ) بفتح فسكون: أي وصيّةُ وميثاقُ (النَّبِيِّ الْأمَّيِّ صلى الله عليه وسلم) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: "الأميّ": هو الذي لا يَكتُبُ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنا أُمة أُميّة لا نكتب ولا نحسُبُ"، متّفقٌ عليه
(4)
. وهو منسوب إلى الأمّ؛ لأنه باق على أصل ولادتها؛ إذ لم يتعلّم كتابةً ولا حسابًا. وقيل: يُنسب إلى معظم أمّة العرب؛ إذ الكتابة كانت فيهم نادرةً، وهذا الوصف من الأوصاف التي جعلها الله تعالى من أوصاف كمال النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومدحه بها، وإنما كانت صفة نقص في غيره؛ لأن الكتابة والدراسة والدرْبة على ذلك هي الطرق الموصلة إلى العلوم التي بها تشرف نفس الإنسان، ويعظُم قدرها عادةً،
(1)
"شرح النووي" 2/ 64 - 65.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 608.
(3)
"القاموس المحيط" ص 1159.
(4)
أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 43 و 52 و 129، والبخاريّ (1913)، ومسلم (1080)، وأبو داود (2319 و 2320 و 2321)، والنسائيّ 4/ 139 و 140، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فلمّا خصّ الله تعالى نبيّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم بعلوم الأولين والآخرين من غير كتابة ولا مُدارسة، كان ذلك خارقًا للعادة في حقّه، ومن أوصافه الخاصّة به الدالّة على صدقه التي نُعِت بها في الكتب القديمة، وعُرف بها في الأمم السابقة، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} الآية [الأعراف: 157]، فقد صارت الأمّيّة في حقّه من أعظم معجزاته، وأجلّ كراماته، وهي في حقّ غيره نقصٌ ظاهرٌ، وعجزٌ حاضرٌ، فسبحان الذي صيّر نقصنا في حقّه كمالًا، وزاده تشريفًا وجلالًا صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
(إِلَيَّ) متعلّق بـ "عهد"(أَنْ) بفتح الهمزة، وسكون النون هي المصدريّة الناصبة للمضارع، قال القرطبيّ: ويحتمل أن تكون المخفّفةَ من الثقيلة، وكذلك رُوي "يُحبّني" بضم الباء وفتحها، وكذلك "يُبغضني"؛ لأنه معطوف عليه. انتهى
(2)
.
(لَا) نافية (يُحِبَّنِي) بضم أوله، من أحبّه رباعيًّا، ويجوز فتح أوله، وكسر ثالثه، من حبّه ثلاثيًّا، قال الفيّوميّ: أحببت الشئَ بالألف، فهو مُحَبّ، وحَبَبتُه أَحِبّه، من باب ضرب، والقياس أَحُبُّه بالضمّ، لكنه غير مستعمل
(3)
، وحَبِبْتُهُ أَحَبّهُ، من باب تَعِب لغة. انتهى
(4)
.
(إِلَّا مُؤْمِنٌ) أي خالص الإيمان من النفاق.
والمراد بحبه الحبّ اللائق به، لا على وجه الإفراط، فإن الخروج عن الحدّ غير مطلوب، وليس من علامات الإيمان، بل قد يؤدّي إلى الكفر والطغيان، فإن قومًا قد خَرَجُوا عن الإيمان بالإفراط في حبّ عيسى عليه السلام. قاله السنديّ
(5)
.
(1)
"المفهم" 1/ 267 "كتاب الإيمان".
(2)
"المفهم" 1/ 267.
(3)
هكذا قال، ومثله قول ابن مالك في "لاميّته" حينما يذكر ما خرج عن القياس:
فَذُو التَّعَدِّي بِكَسْرٍ حَبَّهُ وَعِ
…
ذَا وَجْهَيْنِ هَرَّ وَشَدَّ عَلّهُ عَلَلَا
يعني أن يحِبه بالكسر شاذّ، والقياس الضم؛ لأنه مضاعف معدّى. لكن ذكر شراح "اللامية" المذكورة، أنه سمع "يَحُبّه" بالضم أيضًا، فيكون مما فيه الوجهان، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 117.
(5)
"شرح السنديّ " 1/ 81.
وقال القاري: المعنى: لا يُحبّني حبًّا مشروعًا مُطابقًا للواقع من غير زيادة ونقصان؛ ليخرُج النصيريّ
(1)
والخارجيّ. انتهى
(2)
.
(وَلَا يُبْغِضَنِي) بضم أوله، وكسر ثالثه رباعيًّا من أبغضه بالألف لا غيرُ، قال الفيّوميّ: وأبغضته إبغاضًا، فهو مُبغَضٌ، قالوا: ولا يُقال: بَغَضته بغير ألف
(3)
. انتهى
(4)
.
(إِلَّا مُنَافِقٌ) أي إلا من ليس مؤمنًا باطنًا، وإن تظاهر بمظهر الإسلام.
والمنافق اسم فاعل من النفاق، وهو - كما قال ابن الأثير - اسم إسلاميّ، لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستُر كفره، ويُظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفًا، يقال: نافق ينافق منافقةً ويفاقًا، وهو مأخوذ من النافقاء، أحد جِحَر اليربوع، إذا طُلب من واحد هرب إلى الآخر وخرج منه. وقيل: من النَّفَق، وهو السَّرَب الذي يُستَتر فيه؛ لِسَتْرِهِ كُفْرَهُ
(5)
.
والمراد بالبغض هو البغض لأجل مزاياه الدينيّة، وأما البغض الناشئ بسبب أمر دنيويّ يفضي إليه بالطبع، كما يجري في التعامل، فليس نفاقًا أصلًا،
(1)
"النصيريّ" بالتصغير نسبة إلى نُصير اسم رجل، والنصيريّة طائفة من غلاة الشيعة، ينتسبون إلى رجل اسمه نُصير، وكان من جماعة قريبًا من سبعة عشر نفسًا، كانوا يزعمون أن عليًّا هو الله، وهؤلاء شرّ الشيعة، وكان ذلك في زمن عليّ، فحذّرهم، وقال: إن لم ترجعوا عن هذا القول، وتجدّدوا إسلامكم، وإلا عاقبتكم عقوبة ما سمعوا مثلها في الإسلام، ثم أمر بأخدود، وحفر في رحبة جامع الكوفة، فأشعل فيه النار، وأمرهم بالرجوع فما رجعوا، فأمر غلامه قنبر حتى ألقاهم في النار، فهرب واحد من الجماعة، اسمه نُصير، واشتهر هذا الكفر منه، وأن عليًّا لما ألقاهم في النار التفت واحد، وقال: الآن تحقّقت أنه هو الله؛ لأنه بلغنا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يعذّب بالنار إلا ربها". انتهى. "الأنساب" 5/ 498 - 500.
(2)
"المرقاة" 10/ 457.
(3)
وقال في "القاموس" و"شرحه" 5/ 9: قال أبو حاتم: وقولهم: أنا أبغُضُه، وَيبْغُضُني بالضمّ لغة رديئة. انتهى.
(4)
"المصباح" 1/ 56.
(5)
راجع: "النهاية" 5/ 98.
وقد سبّ العبّاس عليًّا رضي الله عنهما بسبب ما جرى بينهما من التعامل في مجلس عمر صلى الله عليه وسلم أشدّ سبّ
(1)
، وهو مشهور في "الصحيحين" وغيرهما، فلم ينقص ذلك من إيمانه رضي الله عنه
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: من أحبّ عليًّا رضي الله عنه لسابقته في الإسلام، وقِدَمه في الإيمان، وغَنَائه فيه، وذَوْده عنه، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمكانته من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرابته، ومصاهرته، وعلمه، وفضائله، كان ذلك منه دليلًا قاطعًا على صحّة إيمانه ويقينه، ومحبّته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضه لشيء من ذلك كان على العكس. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[35/ 247](78)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3736)، و"النسائيّ" في "الإيمان"(5020 و 5024 و 5037)، و"الكبرى" في "فضائل الصحابة"(8097)، وفي "الخصائص"(8431 و 8432 و 8433)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(114)، و (الحميديّ) في "مسنده"(58)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(56/ 12 و 57)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 84 و 95 و 128)، وفي "فضائل الصحابة"(948 و 961)، و (ابن أبي عاصم) في "السنة"(1325)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(291)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(237)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6924)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(3908 و 3909)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
ولفظه عند مسلم (1757): فقال عبّاس: "يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن
…
" الحديث.
(2)
راجع: "شرح السنديّ" 1/ 81.
(3)
"المفهم" 1/ 264 "كتاب الإيمان".
1 -
(منها): بيان علامة الإيمان، وهو أن الإنسان إذا أحبّ عليًّا رضي الله عنه دلّ ذلك على أنه مؤمن بشهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك في هذا الحديث، وهذا وجه إدخال المصنّف رحمه الله تعالى له في هذا الباب.
2 -
(ومنها): أن بغض عليّ رضي الله عنه علامة من علامات النفاق، أعاذنا الله تعالى منه.
3 -
(ومنها): أن فيه منقبة عظيمة لعليّ رضي الله عنه، حيث كان حبّه من الإيمان، وبغضه من النفاق، ومناقبه رضي الله عنه جمّة، قد كتب العلماء فيها كتُبًا كثيرة، ومنها "خصائص عليّ رضي الله عنه" للإمام النسائيّ رحمه الله تعالى.
4 -
(ومنها): فضل السبق إلى الإسلام، وفضل بذل المال والنفس في نشره والذّبّ عنه، فإن عليًّا رضي الله عنه وغيره من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم ما نالوا الفضائل العظيمة، والمناقب الجسيمة إلا بسبب مسارعتهم إلى الإسلام، وإبلائهم فيه بلاءً حسنًا، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] اللهم اهدنا كما هديتهم، وارزقنا اتّباع آثارهم، واحشرنا في زمرتهم، إنك أنت السميع العليم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(36) - (بَابُ بَيَانِ نُقْصَانِ الإيمَانِ بِنَقْصِ الطَّاعَات، وَبَيَانِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ الْكُفْرِ بِالله، كَكُفْرِ النِّعْمَةِ وَالْحُقُوقِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[248]
(79) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ:"يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ، وَ"كْثِرْنَ الاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكثَرَ أَهْلِ النَّارِ"، فَقَالَتِ امْرَأةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَكثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ
أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: "أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْل، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ الْمِصْرِيُّ) التَّجِيبيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 168/ 16.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
3 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) الْعَدَويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله تعالى عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة سوى شيخه، فتفرّد به هو وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المدنيين، سوى شيخه والليث فمصريّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن الهاد عن عبد الله بن دينار.
5 -
(ومنها): أن فيه "ابن الهاد"
(1)
سُمّي بالهاد؛ لأنه كان يوقد نارًا؛
(1)
وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، فالهاد والد لأسامة، هكذا في كتب الرجال، فما قاله النوويّ في "شرحه" من أن الهاد هو أسامة، محلّ نظرٌ، والله تعالى أعلم.
ليهتدي إليها الأضياف، ومن سلك الطريق، وهكذا يقوله المحدّثون "الهاد"، وهو صحيح على لغة، والمختار في العربيّة "الهادي" بالياء؛ لأن الأفصح في المنقوص إذا كان بـ "أل" الوقف عليه بالياء، كما أشار ابن مالك إلى ذلك في "الخلاصة" بقوله:
وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا
…
لَمْ يُنْصَبَ اوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا
وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ وَفِي
…
نَحْوِ "مُرٍ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِي
6 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبالة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، ومن المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ)"الْمَعْشَرُ" كلُّ جماعة أمرهم واحد، ونُقِل عن ثعلب أنه مخصوص بالرجال، وهذا الحديث يَرُدّ عليه، إلا إن كان مراده بالتخصيص حالة إطلاق المعشر لا تقييده كما في الحديث، قاله في "الفتح"، وقال في "العمدة":"المعشر" الجماعة، متخالطين كانوا أو غير ذلك، قال الأزهريّ: أخبرني المنذر، عن أحمد بن يحيى، قال: المعشر، والنفر، والقوم، والرَّهْطُ هؤلاء معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، للرجال دون النساء، وعن الليث: المعشر كلُّ جماعة أمرهم واحد، وهذا هو الظاهر، وقول أحمد بن يحيى مردود بالحديث، ويُجمع على معاشر. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قال أهل اللغة: "المعشر": هم الجماعة الذين أمرهم واحد، أي مُشترِكون، وهو اسم يتناولهم، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، والنساء معشر، ونحو ذلك، وجمعه معاشر. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "يا معشر النساء". هذا خطاب عامّ، غُلِّبت فيه الحاضراتُ على الغائبات، كما في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، واللام للاستغراق. انتهى
(3)
.
(1)
"عمدة القاري" 3/ 270.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 66.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 464.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "يا معشر النساء" هذا نداء لجميع نساء العالم إلى يوم القيامة، وإرشاد لهنّ إلى ما سيُخلّصهنّ من النار، وهو الصدقة مطلقًا واجبها وتطوّعها، والظاهر أن المراد هنا القدر المشترك بين الواجب والتطوّع؛ لقوله في بعض طرقه:"ولو من حليّكن"، متّفقٌ عليه.
(تَصَدَّقْنَ) أمرٌ لهنّ بالصدقة، وهي ما تُعطَى للفقراء في ذات الله تعالى
(1)
.
(وَأَكْثِرْنَ الاسْتِغْفَارَ) أي طَلَبَ سَتْرِ ذنوبكنّ، قال القرطبيّ: الاستغفار سؤال المغفرة، وقد يُعبّر به عن التوبة، كما قال الله تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، أي توبوا، وإنما عبّر عن التوبة بالاستغفار؛ لأنه إنما يصدُر عن الندَم وترك
(2)
الإصرار، وذلك هو التوبة، فأما الاستغفار مع الإصرار فحال المنافقين والأشرار، وهو جدير بالردّ وتكثير الأوزار، وقد قال بعض العارفين: الاستغفار باللسان توبة الكذابين. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف
(3)
.
(فَإنِّي) الفاء للتعليل، أي لأني (رَأَيْتُكُنَّ) الظاهر أنه أراد رؤية صِنْفِهنّ لا نفس المخاطبات، قال القرطبيّ: اطّلع على نساء آدميّات من نوع المخاطبات لا نفس المخاطبات، كما قال في الرواية الأخرى:"اطّلعت على النار، فرأيتُ أكثر أهلها النساء"، متّفق عليه.
[تنبيه]: يَحْتَمِلُ أن تكون رؤيته صلى الله عليه وسلم إياهنّ في النار ليلة الإسراء، ويَحْتَمِلُ أن يكون رآهنّ في صلاة الكسوف، كما سيجيء ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "ورأيت النارَ، فلم أر كاليوم منظرًا قطّ، ورأيت أكثر أهلها النساء
…
"، والله تعالى أعلم.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "أُريتكنّ" بصيغة الماضي المبنيّ للمفعول، قال الطيبيّ:"أريتكنّ" بمعنى أُخبرتُ، وأعلمتُ بأنكنّ أكثر أهل النار، فهو يتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل: الأول ضمير المتكلّم المتّصل به، والثاني: ضمير
(1)
راجع: "اللسان" 10/ 196.
(2)
وقع هنا في "المفهم": "وجل الإصرار" والظاهر أنه مصحّف، والله تعالى أعلم.
(3)
"المفهم" 1/ 268.
المخاطبات، وهو "كُنّ"، والثالث: قوله: "أكثر"، و"من" في قوله:"من ناقصات" مزيدة استغراقيّةٌ؛ لمجيئها بعد النفي، ومن ثمّ قيل:"من إحداكنّ"، و"من" فيه متعلّقةٌ بـ "أذهب"، والمفضّل عليه مقدّرٌ، ويحتمل أن تكون "من" بيانًا لـ"ناقصات" على سبيل التجريد
(1)
، كقولك: رأيتُ منك أَسَدًا، جَرَّدَ من "إحداكنّ" ناقصات، ووصفها بالجمع على طريقة {شِهَابًا رَصَدًا}
(2)
[الجن: 9]، و"أذهب" لمطلق الزيادة، صفة موصوف محذوف، أي ما رأيت أحدًا، و"أذهب" صفة "أحدًا"، و"ذلكَ" إشارة إلى الحكم المذكور، والكاف فيه للخطاب العامّ، وإلا لقال:"ذلكنّ"؛ لأن الخطاب للنساء. انتهى
(3)
.
(أكثَرَ أَهْلِ النَّارِ) بنصب "أكثر" إما على أن هذه الرؤية تتعدى إلى مفعولين، وإما على الحال على مذهب ابن السرّاج وأبي علي الفارسي وغيرهما ممن قال: إن أفعل لا يتعرف بالإضافة، وقيل: هو بدل من الكاف في "رأيتكن".
وأما قولها: "وما لنا أكثرَ أهل النار؟ "، فمنصوب إما على الحكاية، وإما على الحال
(4)
.
(فَقَالَتِ امْرَأةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ) - بفتح الجيم، وإسكان الزاي - قال ابن الأثير: أي تامّة الْخَلق، ويجوز أن تكون ذات كلام جَزْل: أي قويّ شديد. انتهى
(5)
، وقال القاضي عياض: أي ذات عقل ورأيٍ، قال ابن دُرَيد: الْجَزَالة الْعَقْلُ والْوَقَار، وفي "العين": امرأة جَزِيلة: أي ذاتً عَجِيزة عَظيمة، وأصله: العظيم من كلّ شيء، ومنه: عطاء جَزْل. انتهى
(6)
، وقال القرطبيّ: الجَزَالة: الشَّهامة والْجِدَةُ مع العقل والرفق. انتهى
(7)
.
(1)
التجريد: أن يُنتزع من متّصف بصفة آخرُ مثلُهُ فيها مبالغة في كمالها.
(2)
وجهه أنه وصف "شهابًا" وهو مفرد باسم الجمع، وهو "رصدًا".
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 465.
(4)
"شرح النوويّ" 2/ 66.
(5)
"النهاية" 1/ 270.
(6)
"إكمال المعلم" 1/ 378 - 379، و"الصيانة" ص 258.
(7)
"المفهم" 1/ 269.
فلما سمع النساء ذلك علمن أن ذلك كان بسبب ذنب لهنّ، فبادرت هذه المرأة لجزالتها وشدّة حرصها على ما يُخلّص من هذا الأمر العظيم، فسألت عن ذلك، فقالت:(وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أكثَرَ أَهْلِ النَّارِ؟) فأجابها صلى الله عليه وسلم فـ (قَالَ: "تُكثِرْنَ اللَّعْنَ) بضم حرف المضارعة، من الإكثار، والجملة في معنى التعليل، والمعنى لأنكنّ تكثرن اللعن.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "اللعن" في اللغة: الطرد والإبعاد، ومعناه في الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله تعالى: أصل اللعن: إبعاد الله تعالى العبد من رحمته بسخط، ومن الإنسان الدعاء عليه بالسخط. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "تُكثرن اللعن": أي يدور اللعنُ على ألسنتهنّ كثيرًا لمن لا يجوز لعنه، وكان ذلك عادةً جاريةً في نساء العرب، كما غلب بعد ذلك على النساء والرجال، حتى إنهم إذا استحسنوا شيئًا ربّما لعنوه، فيقولون: ما أشعره لعنه الله!، وقد حَكَى بعضهم أن قصيدة ابن دُريد تُسمّى عندهم الملعونةَ؛ لأنهم كانوا إذا سمعوها قالوا: ما أشعره لعنه الله!، وقد تقدّم أن اللعن: الطرد والبعد. انتهى
(3)
.
(وَتَكْفُرْنَ) قال الراغب: الكُفر في اللغة: ستر المشيء، وكُفر النعمة وكُفرانها سترها بترك أداء شُكرها، قال:{فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94]، وأعظم الكفر جحود الوحدانيّة، والربوبيّة، والنبوّة، والشريعة، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا، والكفر في الدين أكثر، والْكُفُور فيهما جميعًا، قال:{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان: 50] انتهى
(4)
.
(الْعَشِيرَ) بفتح العين وكسر المشين: هو في الأصل: المعاشر مطلقًا، والمراد هنا الزوج، قاله النوويّ
(5)
.
وقال الشيخ ابن الصلاح: وهذا قاض بأن نفس إكثار اللعن، ونفس
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 379.
(2)
راجع: "الكاشف" 2/ 465.
(3)
"المفهم" 1/ 269.
(4)
راجع: "الكاشف" 2/ 464 - 465.
(5)
"شرح مسلم" 2/ 66.
كفرهنّ إحسان الأزواج من الكبائر، أما اللعن فمن أعظم الجنايات القوليّة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن لعن المؤمن كقتله، متَّفقٌ عليه، وأما كفرانهنّ إحسان الزوج، فقد كان يمكن أن يقال: ليس هو نفسه السبب في ذلك، بل ما يستصحبه من معصية الزوج ونحو ذلك، لولا تفسيره صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الآخر بقوله:"لو أحسنت إلى إحداهنّ الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطّ"، متّفقٌ عليه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": أي تجحدن حقّ الخليط، وهو الزوج، أو أعمّ من ذلك
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "العشير" هنا الزوج، يُسمّى بذلك الذكر والأنثى؛ لأن كلّ واحد منهما يُعاشر صاحبه، و"العشير" أيضًا الخليط والصاحب، وقد قال الباجيّ: يحتمل أن يريد به الزوج خاصّةً، ويحتمل أن يريد به كلّ من يُعاشرهنّ، ودليل الحديث خلاف ما قاله من شرحه بمعنى الزوج بعد هذا دون غيره، واستحقاقهنّ النار بكفران العشير وجحد حقّه يدلّ على أنه الزوج؛ لعظيم حقّه عليهنّ. انتهى
(3)
.
(وَمَا) نافية (رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ) صفة موصوف محذوف: أي ما رأيت أحدًا من ناقصات، قاله الطيبيّ
(4)
(عَقْلٍ وَدِينٍ) المراد نُقصان كمالهما، قال الطيبيّ: العقل غريزة في الإنسان، يُدرك بها المعنى، ويمنعه عن القبائح، وهو نور الله في قلب المؤمن. انتهى
(5)
.
وقال القرطبيّ: والعقل الذي نقصه النساء هو: التثبّت في الأمور، والتحقيق فيها، والبلوغ فيها إلى غاية الكمال، وهنّ في ذلك غالبًا بخلاف الرجال، وأصل العقل: العلمُ، وقد يقال على الهدوء، والوقار، والتثبّت في الأمور، وللعلماء خلاف في حدّ العقل المشترط في التكاليف، ليس هذا موضع ذكره.
(1)
"الصيانة" 258 - 259.
(2)
"الفتح" 1/ 484.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 379 - 380.
(4)
"الكاشف" 2/ 465.
(5)
"الكاشف" 2/ 465.
قال: والدين هنا يُراد به العبادات، وليس نقصان ذلك في حقّهنّ ذمًّا لهنّ، وإنما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك من أحوالهنّ على معنى التعجّب من الرجال، حيث يغلبهم مَن نَقَصَ عن درجتهم، ولم يَبلُغ كمالهم، وذلك هو صريح قوله صلى الله عليه وسلم:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكنّ"
(1)
. انتهى
(2)
.
(أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ) أي صاحب عقل، ومنه تكرار النبيّ صلى الله عليه وسلم
(3)
قولَ الأعشى في امرأته:
وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبْ
وقول صاحبة أم زرع: "وَأَغْلِبُهُ، والنَّاسَ يَغْلِبُ"
(4)
، وقول معاوية
(5)
: "يَغْلِبْنَ الكرامَ، ويَغْلِبُهُنّ اللِّئَامُ"، قاله في "الإكمال"
(6)
.
وقال الطيبيّ: اللبّ: العقل الخالص من الشوائب، وسُمّي بذلك؛ لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زَكَى من العقل، وكلُّ لُبٍّ عقلٌ، وليس كلُّ عقل لُبًّا. انتهى
(7)
.
(مِنْكُنَّ") وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند البخاريّ: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبّ الرجل الحازم من إحداكنّ".
قال في "الفتح": قوله: "أذهب" أي أشد إذهابًا، واللُّبُّ أخص من العقل، وهو الخالص منه، والحازم: الضابط لأمره، وهذه مبالغةٌ في وصفهن بذلك؛ لأن الضابط لأمره إذا كان ينقاد لهنّ، فغير الضابط أولى، واستعمال
(1)
راوه البخاري من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه (304).
(2)
"المفهم" 1/ 269 - 270.
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في "المسند" من زياداته (2/ 201 و 202). قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد"(4/ 331 - 332): رجاله ثقات، وصححه العلامة أحمد محمد شاكر في "تحقيقه للمسند"(6/ 100).
(4)
هذه الزيادة ليست في رواية "الصحيحين"، بل هي عند النسائي في "الكبرى"، والطبرانيّ، والزبير بن بكار، قاله في "الفتح" 9/ 264.
(5)
ذكره الميدانيّ في "مجمع الأمثال" 2/ 426 غير معزوّ لمعاوية.
(6)
"إكمال المعلم" 1/ 381 - 382.
(7)
"الكاشف" 2/ 465.
أفعل التفضيل من الإذهاب جائز عند سيبويه، حيث جَوَّزه من الثلاثي والمزيد. انتهى
(1)
.
(قَالَتْ) تلك المرأة الجَزْلة مستفسرة عن وجه نقصان دينهنّ وعقلهنّ، وفي حديث أبي سعيد:"وقلن: وما نقصان ديننا"(يَا رَسُولَ الله، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟) وفي حديث أبي سعيد: "قُلْنَ: وما نقصان ديننا؟ "، قال في "الفتح": كأنه خفي عليهنّ ذلك، حتى سألن عنه، ونفس السؤال دالّ على النقصان؛ لأنهن سَلَّمن ما نُسِبَ إليهن من الأمور الثلاثة: الإكثار، والكفران، والإذهاب
(2)
ثم استشكلن كونهنّ ناقصات، وما ألطف ما أجابهنّ به صلى الله عليه وسلم من غير تعنيف ولا لَوْمٍ.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأتيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ) فيه إشارة إلى قوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]؛ لأن الاستظهار بأخرى مُؤْذِن بقلة ضبطها، وهو مُشْعِرٌ بنقص عقلها.
[تنبيه]: حَكَى ابنُ التين عن بعضهم أنه حَمَلَ العقل هنا على الدية، فقال: المراد أن دية المرأة على نصف دية الرجل، وهذا باطلٌ يُبطله قوله: "أما نُقصان العقل
…
إلخ"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وفي حديث أبي سعيد: "أليس شهادة المرأة
…
إلخ" وهذا جواب منه صلى الله عليه وسلم بلطف، وإرشادٌ من غير تعنيف ولا لومٍ، حيث خاطبهنّ على قدر فهمهنّ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جُبل على اللين والرحمة، كما تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [الآية][آل عمران: 159](فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ) أي هذا أمارة نقصان العقل، أو أثره.
قال المازريّ: هذا تنبيهٌ منه صلى الله عليه وسلم على ما وراءه؛ لأنه ليس في الوصف بقصور شهادتها عن شهادة الرجل بمجرّد دليلٌ على نقص العقل حتى يتمّ بما نَبَّهَ الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه من أن ذلك لأجل قلّة ضبطها، وذلك قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} الآية [البقرة: 282].
(1)
"فتح" 1/ 484.
(2)
أي في قوله في حديث أبي سعيد: "أذهب للبّ الرجل الحازم
…
".
(وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي) أي تمكث ليالي وأيامًا لا تصلي بسبب الحيض (وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ) أي تُفطر أيامًا من رمضان بسبب الحيض (فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ") وفي حديث أبي سعيد: "فذلك من نقصان دينها"، وهو بكسر الكاف خطابًا للواحدة، التي تولّت الخطاب، ويجوز فتح الكاف على أنه للخطاب العامّ
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[36/ 248 و 249](79)، و (أبو داود)(4679)، و (ابن ماجه)(4003)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 66 - 67)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(239 و 240 و 241)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان نقصان الدين الدالّ على إثبات نقصان الإيمان وزيادته، وما فيه من استعمال لفظ الكفر لا في الكفر السالب للإيمان، وهذ هو وجه إيراد المصنّف له في كتاب الإيمان.
2 -
(ومنها): الحثّ على الصدقة، وأفعال البرّ، والإكثار من الاستغفار، وسائر الطاعات.
3 -
(ومنها): بيان أن الصدقة تدفع العذاب، وأنها قد تكفّر الذنوب التي بين المخلوقين، وأن إكثار الحسنات سببٌ لتكفير السيئات، كما قال الله عز وجل:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
4 -
(ومنها): بيان أن كفران العشير والإحسان من الكبائر، فإن التوعد بالنار من علامة كون المعصية كبيرةً، كما سيأتي إيضاحه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
(1)
"فتح" 1/ 484، و"عمدة القاري" 3/ 272.
5 -
(ومنها): بيان أن اللَّعْن أيضًا من المعاصي الشديدة القبح، قال النوويّ رحمه الله تعالى: وليس فيه أنه كبيرة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"تكثرن اللعن"، والصغيرة إذا أُكثرت صارت كبيرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لعن المؤمن كقتله".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ظاهر هذا الحديث أن لعن المؤمن كبيرة؛ لأنه شبّهه بقتله، وقتله كبيرة بلا خلاف، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
قال: واتفق العلماء على تحريم اللعن، فإنه في اللغة الإبعاد والطرد، وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله تعالى، فلا يجوز أن يُبْعَد من رحمة الله تعالى مَن لا يُعْرَف حاله، وخاتمة أمره معرفةً قطعيّةً، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه، مسلمًا كان أو كافرًا أو دابة، إلا من عَلِمْنا بنص شرعيّ أنه مات على الكفر أو يموت عليه، كأبي جهل، وإبليس، وأما اللعن بالوصف، فليس بحرام، كلعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، والمصوِّرين، والظالمين، والفاسقين، والكافرين، ولَعْنِ مَن غيّر مَنَارَ الأرض، ومن تولّى غير مواليه، ومَن انتَسَبَ إلى غير أبيه، ومن أَحْدَث في الإسلام حَدَثًا أو آوى مُحْدِثًا، وغير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف، لا على الأعيان، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أن فيه إطلاقَ الكفر على غير الكفر بالله تعالى، ككفر العَشِير، والإحسان، والنعمة، والحقّ، وغيرها من الذنوب التي لا تُخرِج من الملة؛ تغليظًا على فاعلها، وهو كإطلاق نفي الإيمان، ويؤخذ من ذلك صحة تأويل الكفر في الأحاديث المتقدّمة في الأبواب السابقة على ما تأولناها.
7 -
(ومنها): أن فيه وعظَ الإمام، وأصحاب الولايات، وكُبَراء الناس رَعَاياهم، وتحذيرهم المخالفات، وتحريضهم على الطاعات.
8 -
(ومنها): مشروعيّة مراجعة المتعلم العالمَ، والتابع المتبوعَ فيما قاله، إذا لم يظهر له معناه، كمراجعة هذه الْجَزْلَة رضي الله عنهما.
9 -
(ومنها): جواز إطلاق "رمضان" من غير إضافة إلى الشهر، وفيه ردّ على من كره ذلك كما سيأتي في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
(1)
"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 2/ 67.
10 -
(ومنها): أن قوله: "وتمكث الليالي ما تصلّي" يدلّ على أن منع الحائض من الصوم والصلاة كان ثابتًا بحكم الشرع قبل ذلك المجلس.
11 -
(ومنها): بيان مشروعيّة أمر الإمام الناسَ بالصدقة.
12 -
(ومنها): جواز عِظَة الإمام النساءَ على حِدَةٍ.
13 -
(ومنها): بيان أن جَحْدَ النعم حرام، وكذا كثرة استعمال الكلام القبيح، كاللعن والشتم.
14 -
(ومنها): أن فيه مشروعيّة الإغلاظِ في النصح بما يكون سببًا لإزالة الصفة التي تُعَابُ، وأن لا يواجه بذلك الشخص المعين؛ لأن في التعميم تسهيلًا على السامع.
15 -
(ومنها): بيان أن العقل يقبل الزيادة والنقصان، وكذلك الإيمان كما تقدم، وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهنّ على ذلك؛ لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيرًا من الافتتان بهنّ، ولهذا رَتَّبَ العذاب على ما ذُكِر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس نقص الدين مُنحصِرًا فيما يَحصُل به الإثم بل في أعم من ذلك.
16 -
(ومنها): بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الْخُلُق العظيم، والصفح الجميل، والرفق والرأفة، فقد ظهر مصداق قوله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا، وزاده تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما وصفه صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان الدين لتركهنّ الصلاة والصوم في زمن الحيض، فقد يُسْتَشْكَل معناه، وليس بمشكل، بل هو ظاهرٌ، فإن الدين والإيمان والإسلام مشتركة في معنى واحد، كما قدمناه في مواضع، وقد قدمنا أيضًا في مواضع أن الطاعات تُسَمَّى إيمانًا ودينًا، وإذا ثَبَتَ هذا عَلِمنا أن من كثُرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نَقَصت عبادته نقص دينه، ثم نَقْصُ الدين قد يكون على وجه يأثم به، كمن ترك
الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر، وقد يكون على وجه لا إثم فيه، كمن ترك الجمعة، أو الغزو، أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر، وقد يكون على وجه هو مُكَلَّف به، كترك الحائض الصلاة والصوم.
[فإن قيل]: فإن كانت معذورةً فهل تثاب على الصلاة في زمن الحيض، وإن كانت لا تقضيها، كما يثاب المريض والمسافر، ويكتب له في مرضه وسفره مثلُ نوافل الصلوات التي كان يفعلها في صحته وحضره؟.
[فالجواب]: أن ظاهر هذا الحديث أنها لا تثاب، والفرق أن المريض والمسافر كان يفعلها بنيّة الدوام عليها مع أهليته لها، والحائض ليست كذلك، بل نيتها ترك الصلاة في زمن الحيض، بل يحرم عليها نية الصلاة في زمن الحيض، فنظيرها مسافر أو مريض كان يصلي النافلة في وقت ويترك في وقتٍ، غير ناو الدوام عليها، فهذا لا يُكتَب له في سفره ومرضه في الزمن الذي لم يكن يتنفل فيه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى بعد نقله كلام النوويّ هذا ما نصّه: وعندي في كون هذا الفرق مستلزمًا لكونها لا تُثاب وقفةٌ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أيضًا توقّف كما قال الحافظ، وذلك أن الحائض في هذا مثل المريض الذي منعه مرضه عن أداء ما كان يفعله في صحّته، وهذا المعنى موجود فيها؛ لأن من نيتها أن تُصلّي لولا مانع الحيض الذي هو عذر شرعيّ، ربما يكون المسافر أهون منها في ذلك؛ لأنه يمكنه أن يترك سفره ويؤدي العبادة، ومع ذلك عذره الشرع وجعل له ثواب ما كان يعمله في الحضر، فالحائض التي لا يمكنها أن تتخلّى عن الحيض حتى تؤدي الصلاة أولى بأن يعذرها الشرع، ويجعل لها ثواب ما كانت تعمله لولا المانع الشرعيّ، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في معنى "العقل" وفي مقرّه:
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قد اختَلَف الناس في العقل ما هو؟
(1)
"شرح مسلم" 2/ 68.
(2)
"فتح"485.
فقيل: العلم، وهذه طريقة من اتّبع حكم اللغة؛ لأن العلم والعقل في اللسان بمعنى واحد، ولا يُفرّقون بين قولهم: عَقَلتُ وعَلِمت، وقيل: العقل بعض العلوم الضروريّة، وقيل: هو قوّة يُميّز بها بين حقائق المعلومات، فأما على قول من قال: هو العلم، فيكون وصفهنّ بنقص العقل لأجل النسيان وقلّة الضبط على ظاهره؛ لأن ذلك نقصٌ العلوم، وعلى رأي من رأى أن العقل غير ذلك، يكون قلّةُ الضبط والنسيان وشِبْهُ ذلك عَلَمًا على القصور والنقص في ذلك المعنى الطبيعيّ الذي هو شرطٌ في تلقّي التكاليف وكثرة العلوم. انتهى
(1)
.
واختلفوا أيضًا في محله، فقال المتكلمون: هو في القلب، وقال بعض العلماء: هو في الرأس، قاله النوويّ
(2)
.
ولقد حقّق المسألة تحقيقًا بالغًا شيخ الإسلام الإمام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في رسالة قيّمة، لا نظير لها في بابها، أحببتُ إيرادها، وإن كانت طويلة إلا أن هذا الشرح ما وضعته إلا لاستيفاء المسائل حسب الإمكان، فلا يُستغرب طول مباحثه، كما أوضحته في أوائل شرح المقدّمة. ونصّ الرسالة:
سئل شيخ الاسلام الإمام العلامة، تقيّ الدين، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه عن "العقل" الذي للإنسان، هل هو عَرَضٌ، وما هي "الروح" المدَبِّرة لجسده، هل هي النفس، وهل لها كيفية تُعْلَمُ، وهل هي عَرَضٌ أو جوهرٌ، وهل يُعْلَم مسكنها من الجسد، ومسكن العقل؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، "العقل" في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وسائر أئمة المسلمين، هو أمر يقوم بالعاقل، سواء سُمّي عَرَضًا أو صفةً، ليس هو عينًا قائمةً بنفسها، سواءً سُمِّي جوهرًا أو جسمًا أو غير ذلك، وإنما يوجد التعبير باسم العقل عن الذات العاقلة التي هي جوهر قائم بنفسه في كلام طائفة من المتفلسفة الذين يتكلمون في العقل والنفس، ويَدَّعُون ثبوت عقول عشرة، كما يذكر ذلك مَنْ يذكره من أتباع أرسطو، أو غيره من المتفلسفة المشائين، ومن تَلَقَّى ذلك عنهم من المنتسبين إلى الملل.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 383.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 68.
وقد بُسِطَ الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبُيِّنَ أن ما يذكرونه من العقول، والنفوس، والمجردات، والمفارقات، والجواهر العقلية، لا يثبت لهم منه إلا نفس الإنسان، وما يقوم بها من العلوم وتوابعها، فإن أصل تسميتهم لهذه الأمور مفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس البدن بالموت، وهذا أمر صحيح، فإن نفس الميت تفارق بدنه بالموت، وهذا مبنيّ على أن النفس قائمة بنفسها، تبقى بعد فراق البدن بالموت مُنَعَّمةً أو مُعَذَّبةً، وهذا مذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم، وهو قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، وإن كان كثير من أهل الكلام يزعمون أن النفس هي الحياة القائمة بالبدن، ويقول بعضهم: هي جزء من أجزاء البدن، كالريح المترَدِّدة في البدن أو البخار الخارج من القلب.
ففي الجملة النفس المفارقة للبدن بالموت ليست جزءًا من أجزاء البدن، ولا صفة من صفات البدن عند سلف الأمة وأئمتها، وإنما يقول هذا وهذا من يقوله من أهل الكلام المبتدَع المحدَث من أتباع الجهمية والمعتزلة ونحوهم، والفلاسفةُ المشاؤون يُقِرّون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن، لكن يَصفون النفس بصفات باطلة، فيَدَّعُون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلًا، والعقل عندهم هو المجرد عن المادّة، وعلائقِ المادّة والمادّةُ عندهم هي الجسم، وقد يقولون: هو المجرد عن التعلق بالهيولى، والْهيُولَى في لغتهم هو بمعنى المحلّ، ويقولون: المادة والصورة، والعقلُ عندهم جوهر قائم بنفسه، لا يوصف بحركة ولا سكون، ولا تتجدد له أحوال البتة.
فحقيقة قولهم: إن النفس إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال، لا علوم، ولا تصورات، ولا سمع ولا بصر ولا إرادات، ولا فَرَخٌ وسرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلًا وأبدًا، كما يزعمونه في العقل والنفس، ثم منهم من يقول: إن النفوس واحدة بالعين، ومنهم من يقول: هي متعددة، وفي كلامهم من الباطل ما ليس هذا موضع بسطه، وإنما المقصود التنبيه على ما يناسب هذا الموضع، فهم يسمون ما اقترن بالمادّة التي هي الهيولى، وهي الجسم في هذا الموضع نفسًا كنفس الإنسان المدبرة لبدنه، ويزعمون أن للفلك نفسًا تحركه، كما للناس
نفوس، لكن كان قدماؤهم يقولون: إن نفس الفلك عَرَضٌ قائم بالفلك كنفوس البهائم، وكما يقوم بالإنسان الشهوة والغضب، لكن طائفة منهم كابن سينا وغيره زعموا أن النفس الفلكية جوهر قائم بنفسه، كنفس الإنسان، وما دامت نفس الإنسان مدبرة لبدنه سَمَّوها نفسًا، فإذا فارقت سَمَّوها عقلًا؛ لأن العقل عندهم هو المجرد عن المادّة وعن علائق المادّة، وأما النفس فهي المتعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصريف.
وأصل تسميتهم هذه مجردات، هو مأخوذ من كون الإنسان يُجَرِّد الأمور العقلية الكلية عن الأمور الحسية المعينة، فإنه إذا رأى أفرادًا للإنسان كزيد وعمرو، عَقَلَ قدرًا مشتركًا بين الأناسي وبين الإنسانية الكلية المشتركة المعقولة في قلبه، وإذا رأى الخيل والبغال والحمير وبهيمة الأنعام وغير ذلك من أفراد الحيوان عَقَلَ من ذلك قدرًا كليًّا مشتركًا بين الأفراد، وهي الحيوانية الكلية المعقولة، وإذا رأى مع ذلك الحيوان والشجر والنبات عَقَلَ من ذلك قدرًا مشتركًا كليًّا، وهو الجسم النامي المغتذي، وقد يسمون ذلك النفس النباتية، وإذا رأى مع ذلك سائر الأجسام العلوية الفلكية، والسفلية العنصرية عَقَلَ من ذلك قدرًا مشتركًا كليًّا، هو الجسم العام المطلق، وإذا رأى ما سوى ذلك من الموجودات عَقَل من ذلك قدرًا مشتركًا كليًّا، وهو الوجود العام الكلي، الذي ينقسم إلى جوهر وعرض، وهذا الوجود هو عندهم موضوع العلم الأعلى الناظر في الوجود ولواحقه، وهي الفلسفة الأولى، والحكمة العليا عندهم، وهم يقسمون الوجود إلى جوهر وعَرَض، والأعراض يجعلونها تسعة أنواع. هذا هو الذي ذكره أرسطو وأتباعه يجعلون هذا من جملة المنطق؛ لأن فيه المفردات التي تنتهي إليها الحدود المؤلفة، وكذلك من سلك سبيلهم، ممن صنف في هذا الباب، كابن حزم وغيره، وأما ابن سينا وأتباعه فقالوا: الكلام في هذا لا يختص بالمنطق، فأخرجوها منه، وكذلك من سلك سبيل ابن سينا كأبي حامد، والسهرورديّ المقتول، والرازيّ، والآمديّ، وغيرهم، وهذه هي المقولات العشر التي يُعَبِّرون عنها بقولهم: الجوهر، والكمّ، والكيف، والأين، ومتى، والإضافة، والوضع، والملك، وأن يفعل، وقد جمعت في بيتين، وهي:
زَيْدُ الطَّوِيلُ الأَسْوَدُ بْنُ مَالِكِ
…
فِي دَارِهِ بِالأَمْسِ كَانَ مُتَّكِي
فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فَانْتَضَا
…
فَهَذِهَ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سَوَا
وأكثر الناس - من أتباعه، وغير أتباعه - أنكروا حصر الأعراض في تسعة أجناس، وقالوا: إن هذا لا يقوم عليه دليل، ويثبتون إمكان ردّها إلى ثلاثة وإلى غير ذلك من الأعداد، وجعلوا الجواهر خمسة أنواع: الجسم، والعقل، والنفس، والمادّة، والصورةُ، فالجسم جوهر حسّي، والباقية جواهر عقلية، لكن ما يذكرونه من الدليل على إثبات الجواهر العقلية إنما يدُلّ على ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان، وهذه التي يسمونها المجردات العقلية، ويقولون: الجواهر تنقسم إلى مادّيّات ومجردات، فالمادّيّات القائمة بالمادّة، وهي الْهَيُولَى، وهي الجسم، والمجردات هي المجردات عن المادة، وهذه التي يسمونها المجردات أصلها هي هذه الأمور الكلية المعقولة في نفس الإنسان، كما أن المفارقات أصلها مفارقة النفس البدن، وهذان أمران لا يُنكران، لكن ادّعَوا في صفات النفس وأحوالها أمورًا باطلةً، وادّعوا أيضًا ثبوت جواهر عقلية قائمة بأنفسها، ويقولون فيها: العاقل والمعقولط والعقل شيء واحد، كما يقولون مثل ذلك في رب العالمين، فيقولون: هو عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق وعشق، ولذيذ وملتذ ولذة، ويجعلون الصفة عين الموصوف، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، فيجعلون نفس العقل الذي هو العلم نفس العاقل العالم، ونفس العشق الذي هو الحب نفس العاشق المحب، ونفس اللذة هي نفس العلم ونفس الحب، ويجعلون القدرة والإرادة هي نفس العلم، فيجعلون العلم هو القدرة، وهو الإرادة، وهو المحبة، وهو اللذة، ويجعلون العالم المريد المحب الملتذ هو نفس العلم الذي هو نفس الإرادة، وهو نفس المحبة، وهو نفس اللذة، فيجعلون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا، ويجعلون نفس الصفات المتنوعة هي نفس الذات الموصوفة، ثم يتناقضون فيثبتون له علمًا ليس هو نفس ذاته، كما تناقض ابن سينا في إشاراته وغيره من محققيهم، وبسط الكلام في الرد عليهم بموضع آخر.
والمقصود أنهم يعبرون بلفظ العقل عن جوهر قائم بنفسه، ويثبتون جواهر عقلية يسمونها المجردات والمفارقات للمادّة، وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن
عندهم غير نفس الإنسان التي يسمونها الناطقة وغير ما يقوم بها من المعنى الذي يسمى عقلًا.
وكان أرسطو وأتباعه يسمون الرب عقلًا وجوهرًا، وهو عندهم لا يَعْلَم شيئًا سوى نفسه، ولا يريد شيئًا، ولا يفعل شيئًا، ويسمونه "المبدأ" و"العلة الأولى"؛ لأن الفلك عندهم متحرك للتشبه به، أو متحرك للشبه بالعقل، فحاجة الفلك عندهم إلى العلة الأولى من جهة أنه متشبه بها، كما يتشبه المؤتم بالإمام، والتلميذ بالأستاذ، وقد يقول: إنه يحركه كما يحرك المعشوق عاشقه، ليس عندهم أنه أبدع شيئًا، ولا فعل شيئًا، ولا كانوا يسمونه واجب الوجود، ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن، ويجعلون الممكن هو موجودًا قديمًا أزليًّا كالفلك عندهم.
وإنما هذا فعل ابن سينا وأتباعه، وهم خالفوا في ذلك سلفهم وجميعَ العقلاء، وخالفوا أنفسهم أيضًا فتناقضوا، فإنهم صرّحوا بما صرّح به سلفهم وسائر العقلاء من أن الممكن الذي يمكن أن يكون موجودًا وأن يكون معدومًا لا يكون إلا محدثًا مسبوقًا بالعدم، وأما الأزليّ الذي لم يزل ولا يزال، فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنًا يقبل الوجود والعدم، بل كل ما قَبِل الوجود والعدم لم يكن إلا مُحْدَثًا، وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله فهو محدث، مسبوق بالعدم، كائن بعد أن لم يكن، كما بُسِط في موضعه.
لكن ابن سينا ومتبعوه تناقضوا فذكروا في موضع آخر أن الوجود ينقسم إلى: واجب وممكن، وأن الممكن قد يكون قديمًا أزليًا لم يزل ولا يزال يمتنع عدمه، ويقولون: هو واجب بغيره، وجعلوا الفلك من هذا النوع، فخرجوا عن إجماع العقلاء الذين وافقوهم عليه في إثبات شيء ممكن، يمكن أن يوجد وأن لا يوجد، وأنه مع هذا يكون قديمًا أزليًا أبديًا، ممتنع العدم واجب الوجود بغيره، فإن هذا ممتنع عند جميع العقلاء، وذلك بَيِّن في صريح العقل، لمن تصور حقيقة الممكن الذي يَقبل الوجود والعدم، كما بُسِط في موضعه.
وهؤلاء المتفلسفة إنما تسلطوا على المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم؛ لأن هؤلاء لم يَعْرِفوا حقيقة ما بَعَثَ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم
يَحتجّوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول، فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل، حتى قالوا: إن الله لم يزل لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بمشيئته، ثم حَدَث ما حَدَث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئته فَعّالًا لما يشاء؛ لزعمهم امتناع دوام الحوادث، ثم صار أئمتهم كالجهم بن صفوان وأبي الْهُذيل العلاف إلى امتناع دوامها في المستقبل والماضي، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما، وأنهم يبقون دائمًا في سكون، ويزعم بعض من سلك هذه السبيل أن هذا مقتضى العقل، وأن كل ما له ابتداء، فيجب أن يكون له انتهاء.
ولما رأوا الشرع قد جاء بدوام نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقال:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54] ظنوا أنه يجب تصديق الشرع فيما خالف فيه أهل العقل، ولم يعلموا أن الحجة العقلية الصريحة لا تناقض الحجة الشرعية الصحيحة، بل يمتنع تعارض الحجج الصحيحة، سواء كانت عقلية أو سمعية أو سمعية وعقلية، بل إذا تعارضت حجتان دلّ على فساد إحداهما أو فسادهما جميعًا.
وصار كثير منهم إلى جواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، وذكروا فروعًا عَرَف حُذّاقهم ضعفها، كما بُسط في غير هذا الموضع، وهو لزومهم أن يكون الربّ كان غير قادر، ثم صار قادرًا من غير تجدد سبب يوجب كونه قادرًا، وأنه لم يكن يمكنه أن يفعل ولا يتكلم بمشيئته، ثم صار الفعل ممكنًا له بدون سبب يوجب تجدد الإمكان، وإذا ذُكر لهم هذا، قالوا: كان في الأزل قادرًا على ما لم يزل، فقيل لهم: القادر لا يكون قادرًا مع كون المقدور ممتنعًا، بل القدرة على الممتنع ممتنعة، وإنما يكون قادرًا على ما يمكنه أن يفعله، فإذا كان لم يزل قادرًا فلم يزل يمكنه أن يفعل.
ولما كان أصل هؤلاء هذا صاروا في كلام الله على ثلاثة أقوال: فرقةٌ قالت: الكلام لا يقوم بذات الربّ، بل لا يكون كلامه إلا مخلوقًا، لأنه إما قديم وإما حادث، ويمتنع أن يكون قديمًا؛ لأنه متكلم بمشيئته وقدرته، والقديم لا يكون بالقدرة والمشيئة، وإذا كان الكلام بالقدرة والمشيئة كان مخلوقًا لا
يقوم بذاته، إذ لو قام بذاته كانت قد قامت به الحوادث، والحواث لا تقوم به؛ لأنها لو قامت به لم يَخْلُ منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: إذ بهذا الأصل أثبتنا حدوث الأجسام، وبه ثبت حدوث العالم، قالوا: ومعلوم أن ما لم يَسبِق الحادث لم يكن قبله، إما معه، وإما بعده، وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث.
وكثير منهم لم يتفطن للفرق بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين فإن الحادث المعين، والحوادث المحصورة يمتنع أن تكون أزلية دائمة، وما لم يكن قبلها فهو إما معها وإما بعدها، وما كان كذلك فهو حادث قطعًا، وهذا لا يخفى على أحد، ولكن موضع النظر والنزاع نوع الحوادث، وهو أنه هل يمكن أن يكون النوع دائمًا، فيكون الربّ لا يزال يتكلم، أو يفعل بمشيئته وقدرته، أم يمتنع ذلك؟ فلما تفطن لهذا الفرق طائفة، قالوا: وهذا أيضًا ممتنع؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وذكروا على ذلك حُجَجًا، كحجة التطبيق، وحجة امتناع انقضاء ما لا نهاية له وأمثال ذلك، وقد ذُكِر عامة ما ذكر في هذا الباب وما يتعلق به في مواضع غير هذا الموضع، ولكل مقام مقال.
وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يُعْلَم بطلانه بصريح العقل، وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث، ويمتنع كون الرب يصير فاعلًا بعد أن لم يكن، وأن المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه، ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول، فقد سَلِمَ لهم ما ادّعوه من قدم العالم كالأفلاك وجنس المولدات وموادّ العناصر، وضلوا ضلالًا عظيمًا، خالفوا به صرائح العقول وكذّبوا به كلَّ رسول، فإن الرُّسُل مطبقون على أن كلَّ ما سوى الله محدَث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والعقول الصريحة تعلم أن الحوادث لا بدّ لها من مُحْدِث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها، لم يكن في العالم شيء من الحوادث، فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع، فإنه إذا كان معلولها لازمًا لها كان قديمًا معها لم يتأخر عنها، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه، فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وهؤلاء فَرُّوا من أن يحدثها القادر بغير
سبب حادث، وذهبوا إلى أنها تحدث بغير مُحدِث أصلًا، لا قادر ولا غير قادر، فكان ما فَرُّوا إليه شرًّا مما فرّوا منه، وكانوا شَرًّا من المستجير من الرمضاء بالنار، واعتقد هؤلاء أن المفعول المصنوع المبتدع المعين كالفلك، يقارن فاعله أزلًا وأبدًا، لا يتقدم الفاعل عليه تقدمًا زمانيًا، وأولئك قالوا: بل المؤثر التام يتراخى عنه أثره، ثم يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه، فأقام الأولون الأدلة العقلية الصريحة على بطلان هذا، كما أقام هؤلاء الأدلة العقلية الصريحة على بطلان قول الآخرين، ولا ريب أن قول هؤلاء أهل المقارنة أشد فسادًا ومناقضة لصريح المعقول وصحيح المنقول من قول أولئك أهل التراخي.
[والقول الثالث]: الذي يدل عليه المعقول الصريح، ويُقِرّ به عامة العقلاء، ودلّ عليه الكتاب والسنة، وأقوال السلف والأئمة، لم يهتد له الفريقان، وهو أن المؤثر التام يستلزم وقوع أثره عقب تأثره التام، لا يقترن به ولا يتراخى، كما إذا طَلّقتُ المرأة فطُلِّقت، وأعتقت العبد فعَتَقَ، وكَسَرتُ الإناء فانكسر، وقطعتُ الحبل فانقطع، فوقوع العتق والطلاق ليس مقارنًا لنفس التطليق والإعتاق بحيث يكون معه، ولا هو أيضًا متراخٍ عنه، بل يكون عقبه متصلًا به، وقد يقال: هو معه، ومفارقٌ له باعتبار أنه يكون عقبه متصلًا به، كما يقال: هو بعده متأخر عنه، باعتبار أنه إنما يكون عقب التأثير التام، ولهذا قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82] فهو سبحانه يكوّن ما يشاء تكوينه، فإذا كوّنه كان عقب تكوينه متصلًا به، لا يكون مع تكوينه في الزمان، ولا يكون متراخيًا عن تكوينه، بينهما فصل في الزمان، بل يكون متصلًا بتكوينه، كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض، وهذا مما يُستَدَلُّ به على أن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن، وإن قيل مع ذلك بدوام فاعليّته ومتكلميته، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن هذا هو أصل من قال: القرآن محدَث، ومن قال: إن الربّ لم يقم به كلام ولا إرادة، بل ولا علم بل ولا حياة، ولا قدرة، ولا شيء من الصفات، فلما ظهر فساد هذا القول شرعًا وعقلًا، قالت طائفة ممن وافقتهم على أصل مذهبهم: هو لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه أمر لازم
لذاته، كما تلزم ذاته الحياة، ثم منهم من قال: هو معنى واحد؛ لامتناع اجتماع معاني لا نهاية لها في آن واحد، وامتناع تخصيصه بعدد دون عدد، وقالوا: ذلك المعنى هو الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مُخْبَر عنه، إن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عُبّر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وقالوا: إن الأمر والنهي صفات للكلام لا أنواع له، فإن معنى آية الكرسي، وآية الدين، وقل هو الله أحد، وتبت يدا أبي لهب معنى واحد.
فقال جمهور العقلاء لهم: تصوّر هذا القول يوجب العلم بفساده، وقالوا لهم: موسى سمع كلام الله كلّه أو بعضه؟ إن قلتم: كله لزم أن يكون قد عَلِمَ عِلْمَ الله، وإن قلتم: بعضه فقد تبعض، وقالوا لهم: إذا جوَّزتم أن تكون حقيقة الخبر هي حقيقة الأمر، وحقيقة النهي عن كل منهي عنه والأمر بكل مأمور به هو حقيقة الخبر عن كل مخبر عنه، فجَوِّزوا أن تكون حقيقة العلم هي حقيقة القدرة، وحقيقة القدرة هي حقيقة الإرادة، فاعترف حُذّاقهم بأن هذا لازم لهم لا محيد لهم عنه، ولزمهم إمكان أن تكون حقيقة الذات هي حقيقة الصفات، وحقيقة الوجود الواجب هي حقيقة الوجوب الممكن، والتزم ذلك طائفة منهم، فقالوا: الوجود واحد، وعين الوجود الواجب القديم الخالق هو عين الوجود الممكن المخلوق المحدث.
وهذا أصل قول القائلين بوحدة الوجود، كابن عربي الطائي، وابن سبعين، وأتباعهما كما بسط في مواضع.
ومن هؤلاء القائلين بأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته مع قيام الكلام به، مَن قال: كلامه المعين حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وزعموا أن كلًّا من القرآن والتوراة والإنجيل حروف وأصوات قديمة أزلية، لم تزل ولا تزال، فقال لهم جمهور العقلاء: معلوم بالاضطرار أن الباء قبل السين، والسين قبل الميم، فكيف يكونان معًا أزلًا وأبدًا، ومعلوم أن الصوت المعين لا يبقى زمانين، فكيف يكون أزليًا لم يزل ولا يزال.
فقالت الطائفة الثالثة ممن سلك مسلك أولئك المتكلمين: بل نقول: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، وإن لزم من ذلك قيام الحوادث به، فلا محذور في
ذلك لا شرعًا ولا عقلًا، بل هذا لازم لجميع طوائف العقلاء، وعليه دلّت النصوص الكثيرة، وأقوال السلف والأئمة، ونقول: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي، وإنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، كما دلّت على ذلك النصوص، وأقوال السلف، لكن نقول: إنه لم يكن في الأزل متكلمًا، ويمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؛ لأن ذلك يستلزم حوادث لا أول لها، وهو أصل هؤلاء.
فقيل لهم: معلوم أن الكلام صفة كمال لا صفة نقص، وأن من يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون قادرًا على الكلام بمشيئته وقدرته، وحينئذ فمن لم يزل متكلمًا بمشيئته أكمل ممن صار قادرًا على الكلام بعد أن كان لا يمكنه أن يتكلم.
وقالوا لهم: إذا قلتم تكلم بعد أن كان الكلام ممتنعًا من غير أن يكون هناك سبب أوجب تجدد قدرته وتجدد إمكان الكلام له، قلتم: إنه لم يزل غير قادر على الكلام، ولم يزل الكلام غير ممكن له، ثم صار قادرًا يمكنه أن يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء، وهذا مخالفة لصريح العقل، وسلب لصفات الكمال عن الباري، وجعله مثل المخلوق الذي صار قادرًا على الكلام بعد أن لم يكن قادرًا عليه.
والسلف والأئمة نَصّوا على أن الربّ تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء وكما شاء، كما نَصّ على ذلك عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة الدين وسلف المسلمين، وهم الذين قالوا بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، لم يقل أحد منهم: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم: إنه مخلوق بائن عنه، ولا قال أحد منهم: إنه صار متكلمًا أو قادرًا على الكلام بعد أن لم يكن كذلك، وقد بسطت هذه الأمور في موضع آخر.
والمقصود أن هذه الأقوال التي قالها هؤلاء المتكلمون من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والسالمية ومن وافقهم من المتأخرين الذين انتسبوا إلى بعض الأئمة الأربعة، وخالفوا بها إجماع السلف والأئمة، وما جاء به الكتاب والسنة، وخالفوا بها صريح المعقول الذي فطر الله عليه عباده هي التي سَلَّطت أولئك المتفلسفة الدهرية عليهم، لكن قول الفلاسفة أعظم فسادًا في المعقول والمنقول.
فصل:
والمقصود هنا أن اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة، وهو الذي يُسَمَّى عرضًا قائمًا بالعاقل، وعلى هذا دلّ القرآن في قوله تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]، وقوله:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وقوله:{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]، ونحو ذلك مما يدلّ على أن العقل مصدر عَقَلَ يَعْقِل عَقْلًا، وإذا كان كذلك فالعقل لا يُسَمَّى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنما يُسَمَّى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النار:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وقال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، والعقل المشروط في التكليف لا بُدّ أن يكون علومًا يُمَيِّز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فالمجنون الذي لا يُمَيِّز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل، أما مَن فهم الكلام، ومَيّز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل، ثم من الناس من يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول: العقل هو العمل بموجب تلك العلوم.
والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا، وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميّز ويَقْصِد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبيّ، وغيرهما: إن العقل غريزة، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء، كما أن في العين قوّة بها يُبْصِر، وفي اللسان قوة بها يذوق، وفي الجلد قوة بها يلمس عند جمهور العقلاء.
ومن الناس من يُنكر الْقُوَى والطبائع، كما هو قول أبي الحسن، ومن اتبعه من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهؤلاء المنكرون للقوى والطبائع، ينكرون الأسباب أيضًا، ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيقولون: إن الله لا يُشبع بالخبز، ولا يُروي بالماء، ولا يُنبت الزرع بالماء، بل يفعل عنده لا به، وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنة وإجماع السلف مع مخالفة صريح العقل والحسّ، فإن الله قال في كتابه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ
فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)} [الأعراف: 57]، فأخبر أنه يُنزل الماء بالسحاب، ويخرج الثمر بالماء، وقال تعالى:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164]، وقال:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، وقال:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، وقال:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15، 16]، وقال:{فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، ومثل هذا في القرآن كثير، والناس يعلمون بحسِّهم وعقلهم أن بعض الأشياء سبب لبعض، كما يعلمون أن الشِّبَعَ يحصل بالأكل لا بالعدّ، ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى، وأن الماء سبب لحياة النبات والحيوان، كما قال:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وأن الحيوان يُرْوَى بشرب الماء لا بالمشي، ومثل ذلك كثير، ولبَسْطِ هذه المسائل موضع آخر.
فصل
والروح المدبِّرة للبدن التي تفارقه بالموت، هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن الصلاة:"إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، ورَدّها حيث شاء"، وقال له بلال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وقال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42].
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يقبضها قبضين: قبض الموت وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، حتى يأتي أجلها وقت الموت، وقد ثبت في "الصحيحين" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا نام:"باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"، وقد ثبت في "الصحيح":"أن الشهداء جَعَل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، تَسْرَحُ في الجنة، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش"، وثبت أيضًا بأسانيد صحيحة: "إن الإنسان إذا قُبِضت روحه، فتقول الملائكة: اخرجي أيتها
النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي راضية مرضيًا عنك، ويقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ساخطة مسخوطًا عَليك"، وفي الحديث الآخر: "نَسَمَة المؤمن طائرٌ تَعْلُق من ثمر الجنة، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش"، فسمّاها نَسَمَةً.
وكذلك في الحديث الصحيح حديث المعراج: "إن آدم عليه السلام قِبَلَ يمينه أسودة، وقبل شماله أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، وإن جبريل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: هذه الأسودة نسم بنيه، عن يمينه السعداء، وعن يساره الأشقياء"، وفي حديث عليّ رضي الله عنه: "والذي فَلَقَ الحبة وبرأ النسمة
…
"، وفي الحديث الصحيح: "إن الروح إذا قُبض تبعه البصر"، فقد سَمَّى المقبوض وقت الموت، ووقت النوم روحًا ونفسًا، وسَمَّى المعروج به إلى السماء روحًا ونفسًا لكن يُسَمّى نفسًا باعتبار تدبيره للبدن، ويسمى روحًا باعتبار لطفه، فإن لفظ الروح يقتضي اللطف، ولهذا تسمى الريح روحًا، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الريح من روح الله"، أي من الروح التي خلقها الله، فإضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف؛ إذ كل ما يضاف إلى الله إن كان عينًا قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله.
فالأول كقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وقوله:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17]، وهو جبريل {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)} [مريم: 17 - 19]، وقال:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12]، وقال عن آدم عليه السلام:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29].
والثاني كقولنا: علم الله، وكلام الله، وقدرة الله، وحياة الله، وأمر الله، لكن قد يُعَبَّر بلفظ المصدر عن المفعول به، فيسمى المعلوم علمًا، والمقدور قدرةً، والمأمور به أمرًا، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقًا، كقوله:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45] وقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، ومن
هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده"، ومنه قوله في الحديث الصحيح للجنة:"أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي"، كما قال للنار:"أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكلّ واحدة منكما ملؤها".
فصل
ولكن لفظ الروح والنفس يعبّر بهما عن عِدّة معان، فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن، والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي تسميه الأطباء الروح الحيواني، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس.
ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، كما يقال: رأيت زيدًا نفسه، وقد قال تعالى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، وقال:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، وفي الحديث الصحيح إنه قال لأم المؤمنين:"لقد قلتُ بعدك أربع كلمات لو وُزنّ بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته"، وفي الحديث الصحيح الإلهيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".
فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء الله نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتًا منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفةً للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ.
وقد يُراد بلفظ النفس الدم يكون في الحيوان، كقول الفقهاء: ما له نَفْسٌ سائلة، وما ليس له نفس سائلة، ومنه يقال: نُفِست المرأة إذا حاضت، ونُفِست إذا نفسها ولدها، ومنه قيل: النفساء، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاةِ نُفُوسُنَا
…
وَلَيْسَتْ علَى غَيْرِ الظُّبَاةِ تَسِيلُ
فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح، ويراد بالنفس عند كثير من المتأخرين صفاتها المذمومة، فيقال: فلان له نفسٌ، ويقال: اترك نفسك، ومنه قول أبي مَرْثَد: رأيت رب العزة في المنام، فقلت: أي رب كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك، ومعلوم أنه لا يترك ذاته، وإنما يترك هواها وأفعالها المذمومة، ومثل هذا كثير في الكلام، يقال: فلان له لسان، فلان له يد طويلة، فلان له قلب، يراد بذلك لسان ناطق، ويد عاملة صانعة، وقلب حيّ عارف بالحق مريد له، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
كذلك النفس لما كانت حال تعلقها بالبدن، يكثر عليها اتّباع هواها صار لفظ النفس يعبَّر به عن النفس المتبعة لهواها، أو عن اتباعها الهوى بخلاف لفظ الروح، فإنها لا يعبر بها عن ذلك إذ كان لفظ الروح ليس هو باعتبار تدبيرها للبدن.
ويقال: النفوس ثلاثة أنواع:
وهي: النفس الأمّارة بالسوء التي يَغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي.
والنفس اللوامة، وهي التي تُذنب وتتوب، فعنها خير وشر، لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت، فتسمى لوّامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولأنها تتلوم أي تتردد بين الخير والشر.
والنفس المطمئنة، وهي التي تُحب الخير والحسنات وتريده، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خُلُقًا وعادةً وملكةً، فهذه صفات وأحوال لذات واحدة، وإلا فالنفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه.
وقد قال طائفة من المتفلسفة الأطباء: إن النفوس ثلاثة: نباتية محلها الكبد، وحيوانية محلها القلب، وناطقية محلها الدماغ، وهذا إن أرادوا به أنها ثلاثُ قُوًى تتعلق بهذه الأعضاء، فهذا مُسَلَّمٌ، وإن أرادوا أنها ثلاثة أعيان قائمة بأنفسها فهذا غلطٌ بَيِّنٌ.
فصل
وأما قول السائل: "هل لها كيفية تعلم؟ " فهذا سؤال مُجْمَلٌ، إن أراد أنه يعلم ما يُعلم من صفاتها وأحوالها فهذا مما يُعلم، وإن أراد أنها هل لها مثل من جنس ما يَشهده من الأجسام، أو هل لها من جنس شيء من ذلك؟ فإن أراد ذلك فليس كذلك، فإنها ليست من جنس العناصر: الماء والهواء والنار والتراب، ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعدن، ولا من جنس الأفلاك والكواكب، فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود، ولهذا يقال: إنه لا يُعلم كيفيتها، ويقال: إنه مَن عَرَف نفسه عَرَف ربه، من جهة الاعتبار، ومن جهة المقابلة، ومن جهة الامتناع.
فأما الاعتبار، فإنه يَعلَم الإنسان أنه حيّ عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه، من أنه حيّ عليم قدير سميع بصير، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه، لم يمكن أن يَفْهَم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لِمَا في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب، لَمَا أمكنه أن يتصور ما أُخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
فإن هذه الحقائق التي أُخبر بها أنها في الجنة ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا، بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع عليها ما يمتنع عليها، وتكون مادّتها مادّتها، وتستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يَفسد وَيأْسَنُ، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يُصَدَّع شاربها ولا يُنْزَف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب ولا نازلًا من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا، وأمثال ذلك، فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه عُلِم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا، فإذا وَصَفَ نفسه بأنه حيّ عليم سميع بصير قدير، لم يَلْزَم أن يكون مماثلًا لخلقه؛ إذ كان بُعْدُه عن مماثلة خلقه أعظم من بُعْد مماثلة كل مخلوق
لكل مخلوق، وكلُّ واحد من صغار الحيوان لها حياة وقوة وعمل، وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئًا من المخلوقين!.
والله سبحانه وتعالى سَمَّى نفسه وصفاته بأسماء، وسَمّى بها بعض المخلوقات، فسمى نفسه حيًّا عليمًا سميعًا بصيرًا عزيزًا جبارًا متكبرًا ملكًا رؤوفًا رحيمًا وسَمّى بعض عباده عليمًا، وبعضهم حليمًا رؤوفًا رحيمًا، وبعضهم سميعًا بصيرًا، وبعضهم مَلِكًا، وبعضهم عزيزًا، وبعضهم جبارًا متكبرًا، ومعلوم أنه ليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، وهكذا في سائر الأسماء، قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، وقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، وقال:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 101]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، وقال:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقال تعالى:{أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، وكذلك سائر ما ذُكر، لكن الإنسان يعتبر بما عَرَفه ما لم يَعْرِف، ولولا ذلك لانسدت عليه طُرُق المعارف للأمور الغائبة.
وأما من جهة المقابلة، فيقال: من عَرَف نفسه بالعبودية عَرَف ربه بالربوبية، ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم، ومن عرف نفسه بالذلّ عرف ربه بالعزّ، وهكذا أمثال ذلك، لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم، وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم، وأما الرب تعالى فله صفات الكمال، وهي من لوازم ذاته يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلًا وأبدًا، ويمتنع عدمها؛ لأنه واجب الوجود أزلًا وأبدًا، وصفات كماله من لوازم ذاته، ويمتنع ارتفاع اللازم إلا بارتفاع الملزوم، فلا يُعْدَم شيء من صفات كماله إلا بعدم ذاته، وذاته يمتنع عليها العدم، فيمتنع على شيء من صفات كماله العدم.
وأما من جهة العجز والامتناع، فإنه يقال: إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه، بل هي هويته، وهو لا يَعْرِف كيفيتها ولا يُحيط علمًا بحقيقتها، فالخالق جل جلاله أولى أن لا يَعلم العبد كيفيته ولا يحيط علمًا بحقيقته، ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ برضاك من
سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، وثبت في "صحيح مسلم" وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا في سجوده، وقد رَوَى الترمذيّ وغيره أنه كان يقوله في قنوت الوتر، وإن كان في هذا الحديث نظر، فالأول صحيح ثابت.
فصل
وأما سؤال السائل: "هل هو جوهرٌ أو عرضٌ؟ "، فلفظ "الجوهر" فيه إجمال، ومعلوم أنه لم يُرِد بالسؤال الجوهر في اللغة، مع أنه قد قيل: إن لفظ الجوهر ليس من لغة العرب وإنه مُعَرَّب، وإنما أراد السائل الجوهر في الاصطلاح من تقسيم الموجودات إلى جوهر وعَرَض، وهؤلاء منهم من يُريد بالجوهر الْمُتَحَيِّز، فيكون الجسم المتحيز عندهم جوهرًا، وقد يريدون به الجوهر الفرد، وهو الجزء الذي لا يتجزأ، والعقلاء متنازعون في إثبات هذا، وهو أن الأجسام هل هي مركبة من الجواهر المفردة أم من المادّة والصورة، أم ليست مركبة من هذا ولا من هذا؟ على ثلاثة أقوال:
أصحها الثالث أنها ليست مركبةً لا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، وهذا قول كثير من طوائف أهل الكلام، كالهشامية، والضرارية، والنجارية، والكلابية، وكثير من الكرامية، وهو قول جمهور الفقهاء، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم، بل هو قول أكثر العقلاء، كما قد بُسِط في موضعه.
والقائلون بأن لفظ الجوهر يقال على المتحيِّز، متنازعون هل يمكن وجود جوهر ليس بمتحيز؟ ثم هؤلاء منهم من يقول: كل موجود فإما جوهر وإما عَرَضٌ، وُيدخل الموجود الواجب في مسمى الجوهر، ومن هؤلاء من يقول: كل موجود فإما جسم أو عرض، ويُدخل الموجود الواجب في مسمى الجسم، وقد قال بهذا وبهذا طائفة من نظّار المسلمين وغيرهم، ومن المتفلسفة والنصارى مَن يسميه جوهرًا ولا يسميه جسمًا، وحَكَى عن بعض نظّار المسلمين أنه يسميه جسمًا ولا يسميه جوهرًا إلا أن الجسم عنده هو المشار إليه أو القائم بنفسه، والجوهر عنده هو الجوهر الفرد.
ولفظ "العرض" في اللغة له معنى وهو ما يَعْرِض ويزول، كما قال
تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]، وعند أهل الاصطلاح الكلامي قد يراد بالعَرَض ما يقوم بغيره مطلقًا، وقد يراد به ما يقوم بالجسم من الصفات، ويراد به في غير هذا الاصطلاح أمور أخرى.
ومعلوم أن مذهب السلف والأئمة وعامة أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله، وأن له علمًا وقدرةً وحياةً وكلامًا، ويسمون هذه الصفات، ثم منهم من يقول: هي صفات وليست أعراضًا؛ لأن العرض لا يبقى زمانين وهذه باقية، ومنهم من يقول: بل تسمى أعراضًا؛ لأن العرض قد يبقى، وقول من قال: إن كل عرض لا يبقى زمانين قول ضعيف، وإذا كانت الصفات الباقية تُسمى أعراضًا جاز أن تسمى هذه أعراضًا، ومنهم من يقول: أنا لا أُطلق ذلك بناءً على إن الإطلاق مستنده الشرع.
والناس متنازعون هل يُسَمَّى الله بما صَحّ معناه في اللغة والعقل والشرع، وإن لم يَرِد بإطلاقه نصّ ولا إجماع، أم لا يُطلَق إلا ما أطلَقَه نصّ أو إجماع؟ على قولين مشهورين.
وعامة النظّار يُطلقون ما لا نَصَّ في إطلاقه ولا إجماع، كلفظ القديم والذات
(1)
ونحو ذلك.
ومن الناس مَن يُفَصِّل بين الأسماء التي يُدْعَى بها، وبين ما يُخْبَر به عنه للحاجة، فهو سبحانه إنما يُدعَى بالأسماء الحسنى، كما قال:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
(1)
في هذا نظر لا يخفى، فقد ورد إطلاق الذات، والقديم في بعض الأحاديث الصحيحة، فلا مانع من إطلاقهما، فأما الذات ففيما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من الحديث الطويل في قصّة خبيب رضي الله عنه، وقوله:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
…
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِ
وذَلِكَ فِي ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
…
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وأما "القديم" ففيما أَخرجه أبو داود بإسناد صحيح، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم
…
" الحديث.
والحاصل أن إطلاق الذات، والقديم على الله جائزٌ؛ لأنه وارد في النصّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وأما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم، ولا موجود، ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك، فقيل في تحقيق الإثبات: هو سبحانه قديم موجود، وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: ليس بشيء، فقيل: بل هو شيء، فهذا سائغ، وإن كان لا يُدْعَى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يَدُلُّ على المدح، كقول القائل: يا شيء، إذا كان هذا لفظًا يعم كل موجود، وكذلك لفظ ذات وموجود ونحو ذلك، إلا إذا سُمِّي بالموجود الذي يجده من طلبه، كقوله:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39]، فهذا أخصّ من الموجود الذي يعم الخالق والمخلوق.
إذا تبيّن هذا فالنفس وهي - الروح المدبرة لبدن الإنسان - هي من باب ما يقوم بنفسه التي تُسَمَّى جوهرًا وعينًا قائمة بنفسها، ليست من باب الأعراض التي هي صفات قائمة بغيرها.
وأما التعبير عنها بلفظ الجوهر والجسم، ففيه نزاع، بعضه اصطلاحي وبعضه معنويّ، فمَن عَنَى بالجوهر القائم بنفسه فهي جوهر، ومن عَنَى بالجسم ما يشار إليه، وقال: إنه يشار إليها فهي عنده جسم، ومن عَنَى بالجسم المركب من الجواهر المفردة أو المادّة والصورة، فبعض هؤلاء قال: إنها جسم أيضًا، ومَن عَنَى بالجوهر المتحيز القابل للقسمة، فمنهم من يقول: إنها جوهر، والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها، فإنه يشار إليها، وتَصْعَد وتنزل، وتخرج من البدن، وتُسَلُّ منه كما جاءت بذلك النصوص، ودلت عليه الشواهد العقلية.
فصل
وأما قول القائل: "أين مسكنها من الجسد؟ "، فلا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد، كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة.
فصل
وأما قوله: "أين مسكن العقل فيه؟ "، فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلق بقلبه، كما قال تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وقيل لابن عباس: بماذا نِلْتَ العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، لكن لفظ القلب قد يراد به المضغة الصَّنَوْبَريّة الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن التي جوفها علقة سوادء، كما في "الصحيحين" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه"، وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة، ونحو ذلك، ومنه سُمّي القليب قليبًا؛ لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقلُ متعلق بدماغه أيضًا، ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء، ونُقِل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب، فإذا كَمُلَ. انتهى إلى الدماغ.
والتحقيق أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب.
والعقلُ يراد به العلم، فالعلم والعمل الاختياريّ أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلا بد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء، وكلا القولين له وجه صحيح، وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق، والله أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، لا تجده مفصّلًا عند غيره فاغتنمه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 9/ 271 - 304.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[249]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو عبد الله تقدّم قريبًا.
3 -
(بَكْرُ بْنُ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم بن سَلْمان، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الملك المصريّ، مولى رَبيعة بن شُرَحبيل، ثقةٌ ثبتٌ [8].
رَوَى عن جعفر بن ربيعة، وعمرو بن الحارث، ويزيد بن الهاد، وابن عجلان، وأبي قَبِيل، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه إسحاق، وابن وهب، وقتيبة، وابن عبد الحكم الأكبر، وأبو صالح، ويحيى بن بكير، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقةٌ، ليس به بأسٌ، وقال أيضًا: كان رجلًا صالحًا، وقال عثمان عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وأبو حاتم، وزاد: هو أحبّ إليّ من الْمُفَضّل بن فَضَالة، وبكر بن مضر ونافع بن يزيد متقاربان، وقال الخليليّ: هو وابنه ثقتان، وقال البخاريّ: كناه قتيبة، وأثنى عليه خيرًا، وقال العجليّ: مصريّ ثقةٌ.
وقال سعيد بن عُفَير: مولده سنة (102)، وقال غيره: سنة (100)، وقال يحيى بن عثمان بن صالح: مات سنة (173)، وقال ابن عُفَير وابن بُكير: سنة (74)، وكذا قال ابن يونس، وزاد: يوم الثلاثاء، وكان عابدًا، وكذا قال ابن حبان في "الثقات".
روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
4 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو يزيد بن عبد الله المذكور في السند الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الاسْنَادِ) أي بإلإسناد الماضي، وهو عن ابن الهادي، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل المتن السابق.
[تنبيه]: رواية بكر بن مضر هذه ساقها الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في "سننه" بسند المصنّف، فقال:
(4679)
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رأيت من ناقصات عقل ولا دين، أغلبَ لذي لُبٍّ منكنّ"، قالت
(1)
: وما نقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين شهادةُ رجل، وأما نقصان الدين، فإن إحداكنّ تُفطر رمضان، وتقيم أيامًا لا تصلي".
وأخرجها الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 66 - 67، فقال:
حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، وقال مرّة: حيوة، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار؛ لكثرة اللعن، وكُفْر العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أغلب لذي لُبّ منكنّ"، قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال:"أما نقصان العقل والدين، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[250]
(80) - (وحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
(1)
الرواية فيها اختصار، كما تقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الْهُذَليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكّة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
3 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224)(ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
5 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ مولى عمر بن الخطّاب، أبو عبد الله، أو أبو أُسامة المدنيّ، ثقة فقيه، كان يرسل [5].
رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر، وربيعة بن عباد الدِّيلي، وسلمة بن الأكوع، وأنس، وأبي صالح السمان، وبسر بن سعيد، والأعرج، وغيرهم.
ورَوَى عنه أولاده الثلاثة: أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن، ومالك، وابن عجلان، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وحفص بن ميسرة، وداود بن قيس الفراء، وأيوب السختياني، وجرير بن حازم، وعبيد الله بن عمر، وابن إسحاق، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، ومعمر، وهشام بن سعد، والسفيانان، والدَّرَاوَرْديّ، وجماعة.
قال الدُّوريّ عن ابن معين: لم يسمع من جابر ولا من أبي هريرة، وقال مالك عن ابن عجلان: ما هِبْتُ أحدًا قط هيبتي زيد بن أسلم، وقال العطاف بن خالد: حَدّث زيد بن أسلم بحديث، فقال له رجل: يا أبا أسامة عمّن هذا؟ فقال: يا ابن أخي ما كنا نجالس السفهاء، وقال أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي، وابن خراش: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالمًا بتفسير القرآن. وقال البخاري في "تاريخه": قال زكريا بن عدي: ثنا هشيم، عن محمد بن عبد الرحمن القرشي،
قال: كان علي بن الحسين يجلس إلى زيد بن أسلم، ويتخطى مجالس قومه، فقال له نافع بن جبير بن مُطعِم: تتخطى مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب؟ فقال علي: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه، وقال حماد بن زيد، عن عبيد الله بن عمر: لا أعلم به بأسًا إلا أنه يفسر برأيه القرآن ويكثر منه، وقال الساجي: ثنا أحمد بن محمد المعيطي، قال: قال ابن عيينة: كان زيد بن أسلم رجلًا صالحًا، وكان في حفظه شيء، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، تُوُفي قبل خروج محمد بن عبد الله بن الحسن، وقال أبو زرعة: لم يسمع من سعد، ولا من أبي أمامة، قال: وزيدُ بن أسلم عن عبد الله بن زياد، أو زياد عن علي مرسل، وقال أبو حاتم: زيد عن أبي سعيد مرسل، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر ابن عبد البر في مقدمة "التمهيد" ما يدل على أنه كان يدلس، وقال في موضع آخر: لم يسمع من محمود بن لبيد.
قال خليفة وغير واحد: مات سنة ست وثلاثين ومائة، زاد بعضهم: في العشر الأول من ذي الحجة، وقيل غير ذلك.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (38) حديثًا.
6 -
(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن سعد بن أبي سَرْح - بفتح السين المهملة، وسكون الراء، بعدها حاء مهملة - ابن الحارث بن حَبيب بن جَذِيمة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ القرشيّ العامريّ المكّي، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عمرو، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر.
ورَوَى عنه زيد بن أسلم، ومحمد بن عجلان، وسعيد المقبري، وبكير بن الأشجّ، وداود بن قيس الْفَرّاء، والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُبَاب، وإسماعيل بن أمية، وسعيد بن أبي هلال، وعبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حَكِيم، وغيرهم.
قال ابن معين والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن يونس: وُلد بمكة، ثم قَدِمَ مصر مع أبيه، ثم رجع إلى مكة، فلم يزل بها حتى مات.
روى له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، هذا الحديث، وحديث (889): "تصدّقوا تصدّقوا
…
"، و (985): "كنا نخرج زكاة
الفطر
…
"، وكرره خمس مرّات، و (1052): "لا والله ما أخشى عليكم
…
"، و (1556): "تصدّقوا عليه
…
".
7 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما المذكور في الباب الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له النسائيّ، والثاني ما أخرج له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المدنيين من محمد بن جعفر.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: زيد عن عياض، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: لم يسق المصنّف متن حديث أبي سعيد رضي الله عنه ولا أحاله كعادته، وقد ساقه البخاريّ في "صحيحه" من رواية سعيد بن أبي مريم:
(305)
حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد - هو ابن أسلم - عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فطر إلى المصلى، فمرّ على النساء، فقال:"يا معشر النساء تصدقن، فإني أُريتكنّ أكثر أهل النار"، فقلنَ: وبم يا رسول الله؟ قال: "تُكثرن اللعن وتَكفُرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكنّ"، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ " قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ " قلن: بلى، قال:"فذلكِ من نقصان دينها"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[36/ 250](80)، ويأتي من طريق آخر في "العيدين"(889)، و (البخاريّ) في "الحيض"(304) و"العيدين"(1462) و"الصوم"(1951) و"الزكاة"(2658)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1576 و 1579) وفي "الكبرى"(1785 و 1801)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1288)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 31 و 36 و 42 و 54 و 56)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(242)، و (ابن خزيمة)(143 و 1445)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[
…
] (
…
) - (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الْمَقَابريّ البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد المذكور في الباب الماضي.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر بن إياس السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقة ثبتٌ [8](180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو) واسمه ميسرة، مولى المطَّلِب بن عبد الله بن حَنْطَب المخزوميّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقة [6].
رَوَى عن أنس بن مالك، ومولاه المطَّلِب، وعكرمة، وأبي سعيد المقبريّ، وسعيد المقبريّ، وسعيد بن جبير، والأعرج، وعاصم بن عُمر بن قتادة، وغيرهم.
وروى عنه إبراهيم بن سُوَيد بن حَيَّان، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند،
وعبد الرحمن بن أبي الزناد، ويزيد بن الهاد، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كثير، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وفضيل بن سليمان، والدَّراوَرْديّ، وآخرون.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: في حديثه ضعفٌ ليس بالقويّ، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال البخاريّ: رَوى عن عكرمة في قصة البهيمة، فلا أدري سمع أم لا؟ وقال الآجريّ: سألت أبا داود عنه؟ فقال: ليس هو بذاك، حَدَّث عنه مالك بحديثين، رَوَى عن عكرمة، عن ابن عباس:"من أَتَى بهيمة، فاقتلوه"، وقد رَوى عاصم، عن أبي زرعة، عن ابن عباس:"ليس على من أتى بهيمة حَدّ"، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال ابن عديّ: لا بأس به؛ لأن مالكًا يروي عنه، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث صاحب مراسيل، وقال عثمان الدارميّ في حديثٍ رواه في الأطعمة: هذا الحديث فيه ضعف؛ من أجل عمرو بن أبي عمرو، وقال ابن حبان في "الثقات": ربما أخطأ، يُعْتَبر حديثه من رواية الثقات عنه، وقال العجليّ: ثقة، يُنْكَر عليه حديث البهيمة، وقال الساجيّ: صدوق إلا أنه يَهِمُ، وكذا قال الأزديّ، وقال الطحاويّ: تُكُلِّم في روايته بغير إسقاط، وقال الذهبيّ: حديثه حسنٌ مُنْحَطّ عن الرتبة العُلْيا من الصحيح، قال الحافظ: كذا قال، وحَقُّ العبارة أن يحذف العُلْيا.
قال ابن سعد: مات في أول خلافة أبي جعفر، وزيادُ بن عُبيد الله على المدينة.
وأَرَّخَ ابنُ قانع وفاته سنة (144).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث، وحديث (1365): "هذا جبلٌ يُحبّنا ونحبه
…
"، و (1640): "إن النذر لا يُقرّب من ابن آدم شيئًا
…
"، و (1643): "اركبها أيها الشيخ
…
".
6 -
(الْمَقْبُرِيُّ) سعيد بن أبي سعيد كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، وكان أبوه مكاتبًا لامرأة من بني ليث، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة، كان مجاورًا
لها، ثقة تغيّر قبل موته بأربع سنين
(1)
[3].
رَوَى عن سعد، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وعائشة، وأم سلمة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي شُريح، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وعن أبيه أبي سعيد، ويزيد بن هرمز، وأخيه عباد بن أبي سعيد، وعبد الله بن رافع مولى أم سلمة، وخلق كثير.
ورَوَى عنه مالك، وابن إسحاق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن عجلان، وابن أبي ذئب، وعبد الحميد بن جعفر، وعبيد الله بن عمر، وعمرو بن أبي عمرو مولى المطَّلِب وإسماعيل بن أمية، وأيوب بن موسى، وخلق كثير.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: سعيد أوثق - يعني من العلاء بن عبد الرحمن -، وقال ابن المدينيّ، وابن سعد، والعجليّ، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقة، وقال ابن خِرَاش: ثقة جليل أثبت الناس فيه الليث بن سعد، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال يعقوب بن شيبة: قد كان تغير وكَبِرَ، واختلط قبل موته، يقال: بأربع سنين، وكان شعبة يقول: ثنا سعيد المقبريّ بعدما كَبِرَ، وقال الواقديّ: اختَلَط قبل موته بأربع سنين. وقال ابن عديّ: إنما ذَكَرته لقول شعبة هذا، وأرجو أن يكون من أهل الصدق، وما تَكَلَّم فيه أحد إلا بخير، وقال البخاري: رَوَى عنه يحيى بن أبي كثير، فقال: عن أبي سعد، عن أبي شُريح، وقال ابن حبان في "الثقات": اختَلَط قبل موته بأربع سنين، وقال الساجي: قال ابن معين: أثبت الناس في سعيدٍ ابنُ أبي ذئب، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي: هل سمع المقبريّ من عائشة؟ فقال: لا، وذَكَر عبد الحق الإشبيليّ أنه لم يسمع من أم سلمة أيضًا، وقال ابن عساكر: قَدِم الشام مُرابطًا، وحَدّث بساحل بيروت، قال: وقد فَرّق الخطيب بين سعيد بن أبي سعيد الذي حَدّث ببيروت وبين المقبريّ، ووَهِمَ في ذلك
(2)
.
(1)
سيأتي الكلام على اختلاطه قريبًا.
(2)
قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/ 22 ما نصّه: وذكر الحافظ سعد الدين =
قال البخاريّ: مات بعد نافع، وقال نوح بن حبيب: مات سنة (117)، وقال يعقوب بن شيبة وغيره: مات في أول خلافة هشام، وقال ابن سعد وابن أبي خيثمة: مات في آخر خلافة هشام سنة (123)، وقال أبو عبيد: مات سنة (25)، وقال خليفة: سنة (26).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (33) حديثًا.
[تنبيهات]:
(الأول): أنه اختُلِف في المراد بـ"المقبريّ" هنا هل هو أبو سعيد المقبريّ أو ابنه سعيد؟، فإن كل واحد منهما يقال له: المقبريّ، وإن كان المقبريّ في الأصل هو أبا سعيد، فقال الحافظ أبو عليّ الغسانيّ الجيانيّ عن أبي مسعود الدمشقيّ: هو أبو سعيد المقبريّ والد سعيد، قال أبو عليّ: وهذا إنما هو في رواية إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، وقال أبو الحسن الدارقطنيّ: خالفه سليمان بن بلال، فرواه عن عمرو، عن سعيد المقبريّ، قال الدارقطنيّ: وقول سليمان بن بلال أصحّ.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: رواه أبو نعيم
= الحارثيّ أن ابن عساكر لم يُصِب في توهيم الخطيب، قد جاء في كثير من الروايات، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد الساحليّ، عن أنس، والرواية التي وقعت لابن عساكر، وفيها: عن ابن جابر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، كأنها وَهَمٌ من أحد الرواة، وهو سليمان بن أحمد الواسطي، فإنه ضعيفٌ جدًّا، وأن المقبري لم يقل أحدٌ أنه يُدعَى الساحلي، وهذا الساحليّ غير معروف، تفرد عنه ابن جابر، وقد روى ابن ماجه في "الجهاد"، عن عيسى بن يونس الرَّمليّ، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن سعيد بن خالد بن الصيداوي، ويقال: البيروتي، عن أنس، حديثًا فيحتمل أن يكون سعيد بن أبي سعيد الساحليّ هو سعيد بن خالد هذا، فقد أخرج له ابن ماجه حديثين، من رواية ابن شعيب، عن ابن جابر عنه، فيحتمل أن يكون ابن جابر سقط في حديث سعيد بن خالد، والله أعلم.
وفي الرواة سعيد بن أبي سعيد غير هذا أربعة عشر رجلًا، ذكر أكثرهم الخطيب في "المتفق والمفترق"، وتركتهم تخفيفًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى.
الأصفهانيّ في كتابه "المخرّج على صحيح مسلم" من وجوه مَرْضيّة، عن إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ هكذا مُبَيّنًا، لكن رَويناه في "مسند أبي عوانة: المخرّج على صحيح مسلم" من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سعيد، ومن طريق سليمان بن بلال عن سعيد، كما سبق عن الدارقطنيّ، فالاعتماد عليه إذًا. انتهى كلام ابن الصلاح
(1)
.
وقال الحافظ المزّي رحمه الله تعالى: حديث "يا معشر النساء تصدّقن
…
إلخ" أخرجه مسلم في "الإيمان"
…
إلخ، ثم قال: قال أبو مسعود: هو أبو سعيد المقبريّ، وقال ابن الفَلَكيّ: رواه إسماعيل بن أبي أُويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبريّ. انتهى
(2)
.
وكتب الحافظ في "نكته": الرواية التي أشار إليها أخرجها أبو عوانة في "صحيحه المستخرج على صحيح مسلم" عن محمد بن يحيى، عن إسماعيل بن أبي أويس المذكور، وكذا أخرجها من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو، وصرّح بأنه "عن سعيد المقبريّ"، فبطل ما قاله أبو مسعود، ثم وجدته في "الإيمان" لابن منده من طريق أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس كذلك. انتهى كلام الحافظ
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول الحافظ: "ثم وجدته
…
إلخ" الذي وجدته في "الإيمان" لابن منده (2/ 683) من الوجه الذي ذكره بلفظ "المقبريّ"، ولم يصرّح باسمه، إلا أن يكون لاختلاف النسخ.
والحاصل أن الصواب في "المقبريّ" في هذا السند - كما أشار إليه الدارقطنيّ في كلامه السابق - أنه سعيد بن أبي سعيد لا أبوه كيسان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"صيانة صحيح مسلم" ص 259 - 260.
(2)
"تحفة الأشراف" 9/ 482 - 483.
(3)
"النكت الظراف" من هامش "التحفة" 9/ 482 - 483.
(التنبيه الثاني): قال الإمام الذهبيّ في "التاريخ" في ترجمة سعيد المقبريّ: ثقة لكنه اختلط قبل موته بأربع سنين، وما أظنّه رَوَى شيئًا في الاختلاط، ولذلك احتجّ به مطلقًا أرباب الصحاح. انتهى.
وقال في "سير أعلام النبلاء"(5/ 217): قلت: ما أحسبه رَوَى شيئًا في مدّة اختلاطه، وكذلك لا يوجد له شيء منكر. انتهى.
وقال في "ميزان الاعتدال"(2/ 140): ما أحسب أن أحدًا أخذ عنه في الاختلاط، فإن ابن عيينة أتاه فرأى لُعابه يسيل، فلم يَحمِل عنه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه فائدة جليلة، لم أظفَر بها إلا عن هذا الإمام الذي له اليد الطولى في سبر أحوال الرجال، وفَحْص مروياتهم، فتمسّك به ينفعك في مواطن كثيرة، والله تعالى أعلم.
(التنبيه الثالث): "الْمَقْبُريّ" - بضم الباء، وفتحها - وجهان مشهوران فيه، وهي نسبة إلى الْمَقْبُرة، وفيها ثلاث لغات: ضم الباء، وفتحها، وكسرها، والثالثة غريبة، قال إبراهيم الحربيّ وغيره: كان أبو سعيد يَنْزِل المقابر، فقيل له: المقبريّ، وقيل: كان مَنْزِله عند المقابر، وقيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعله على حَفْر القبور، فقيل له: المقبريّ، وجَعَلَ نُعيمًا على إجمار المسجد، فقيل له: نعيم الْمُجْمِر، واسم أبي سعيد كَيْسان الليثيّ المدنيّ، والله تعالى أعلم
(1)
.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في "المقدمة" 2/ 4.
قوله: (بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يعني أن معنى حديث أبي هريرة رضي الله عنه مثل معنى حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإن اختلف لفظهما.
[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا قد ساقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"(2/ 4373)، فقال:
(8862)
حدثنا سليمان
(2)
، أنبأنا إسماعيل، أخبرني عمرو - يعني ابن
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 69.
(2)
هو ابن داود العتكيّ، أبو الربيع الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد الثقة، وإسماعيل: هو ابن جعفر بن أبي كثير.
أبي عمرو - عن سعيد
(1)
المقبريّ، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم انصرف من الصبح يومًا، فأتى النساء في المسجد، فوَقَفَ عليهنّ، فقال:"يا معشر النساء، ما رأيت من نواقص عقول ودين أذهب لقلوب ذوي الألباب منكنّ، وإني قد رأيتكن أكثر أهل النار يوم القيامة، فتقرّبن إلى الله ما استطعتنّ"، وكان في النساء امرأة عبد الله بن مسعود، فأتت إلى عبد الله بن مسعود، فأخبرته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذت حليًّا لها، فقال ابن مسعود: فأين تذهبين بهذا الحليّ؟ فقالت: أتقرب به إلى الله عز وجل ورسوله
(2)
، لعلّ الله أن لا يجعلني من أهل النار، فقال: ويلك هَلُمِّي، فتصدقي به عليّ وعلى وَلَدِي فإنا له موضع، فقالت: لا والله حتى أذهب به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذهبت تستأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: هذه زينب، تستأذن يا رسول الله، فقال:"أَيُّ الزيانب هي؟ " فقالوا: امرأة عبد الله بن مسعود، فقال: ائذنوا لها، فدخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني سمعت منك مقالةً، فرجعت إلى ابن مسعود، فحدثته، وأخذت حليًّا أتقرب به إلى الله وإليك، رجاء أن لا يجعلني الله من أهل النار، فقال لي ابن مسعود: تصدقي به عليّ وعلى وَلَدي، فإنا له موضع، فقلت: حتى أستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تصدقي به عليه وعلي بنيه، فإنهم له موضع"، ثم قالت: يا رسول الله، أرأيتَ ما سمعتُ منك حين وقفتَ علينا:"ما رأيتُ من نواقص عقول قط ولا دين أذهب بقلوب ذوي الألباب منكنّ"؟ قالت: يا رسول الله، فما نقصان ديننا وعقولنا؟ فقال: "أما ما ذكرتُ من نقصان دينكنّ، فالحيضة التي تصيبكنّ تمكث إحداكن ما شاء الله أن تمكث لا تصلي ولا تصوم، فذلك من نقصان دينكنّ، وأما ما
(1)
ووقع في بعض نسخ "المسند" بلفظ: "عن أبي سعيد"، والصواب الأول، فتنبّه.
(2)
كتب بعض من حقّق "المسند" على هذا، فقال: هذا لفظ منكر، فإنه لا يجوز التقرّب إلى غير الله عز وجل بشيء من القربات والطاعات. انتهى.
قال الجامع: هذا تعليق منكر، فإن هذا ثبت بهذا الحديث، وغيره، وليس معنى التقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا امتثال أمره، وهذا نظير الطاعة، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ذكرتُ من نقصان عقولكن فشهادتكنّ، إنما شهادة المرأة نصف شهادة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[36/ 250]، و (الترمذيّ)(2613)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6585)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1000 و 2461)، و (ابن منده) في "الإيمان"(675 و 676 و 677)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(243) و"الحلية"(2/ 69)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2728)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(37) - (بَابُ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُفْرِ عَلَى مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[251]
(81) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا ويلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي -، أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي النَّارُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قريبًا.
(1)
أي لم يخرجه البخاريّ.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير المذكور قريبًا.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران المذكور قبل باب.
5 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان المذكور قبل باب.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه المذكور في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن شيخه أبا كريب أحد التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
3 -
(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر فما أخرج له الترمذيّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، غير أبي صالح وأبي هريرة رضي الله عنه فمدنيّان.
5 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكنى غير الأعمش، وهو ممن اشتهر باللقب.
6 -
(ومنها): أنه اجتمع فيه الرواة الذين هم أثبت الناس في شيوخهم: أبو معاوية في الأعمش، وهو في أبي صالح، وهو في أبي هريرة رضي الله عنه.
7 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الأعمش عن أبي صالح.
8 -
(ومنها): أن صحابيه أحفظ من روى الحديث في دهره رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ) أي آية السجدة (فَسَجَدَ) قال السمين الحلبيّ رحمه الله تعالى: السجود في اللغة: التذلّل والخضوع، وغايته وضع الجبهة على الأرض، قال ابن السّكّيت: هو الميل، قال زيد الخيل [من الطويل]:
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ
…
تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
أي خاضعةً، و"الأُكْم": الجبال الصغار، جعلها سُجّدًا للحوافر؛ لقهر الحوافر إياها، وأنها لا تمتنع عليها، يعني أن الحوافر تطأ الأرض، فتجعل تأثُّر الأُكْم للحوافر سُجُودًا، وقال آخر [من المتقارب]:
فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسْجَدَتْ
…
سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِهَا
وقال: قال أبو عُبيدة: وأنشدني أعرابيّ من بني أسد:
وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا
يعني أن البعير طأطأ رأسه لأجلها، ودَرَاهِمُ الأَسجاد دراهمُ عليها صُوَرٌ كانوا يسجدون لها، قال الشاعر [من الكامل]:
مِنْ خَمْرِ ذِي نُطَفٍ أَغَنَّ مُنَطَّقٍ
…
وَافَى بِهَا كَدَرَاهِمِ الأَسْجَادِ
(1)
ويُطلق السجود أيضَّا عَلى الميل، يقال: سجدت النخلة: أي مالت، وسجدت الناقة: طأطأت رأسها، قال ابن السكّيت: أسجد الرجل: إذا طأطأ رأسه، وسجد: إذا وضع جبهته في الأرض، وقال ابن دُريد: أصل السجود: إدامة النظر مع إطراق إلى الأرض.
قال القرطبيّ: والحاصل أن أصل السجود: الخضوع، وسُمّيت هذه الأحوال سُجودًا؛ لأنها تُلازم الخضوع غالبًا، ثم قد صار في الشرع عبارةً عن وضع الجبهة على الأرض على نحوٍ مخصوص، والسجود المذكور في هذا الحديث هو سجود التلاوة؛ لقوله:"إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد". انتهى
(2)
.
(اعْتَزَلَ) بالبناء للفاعل، قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: أي تباعد، وكلُّ من عَدَلَ إلى جانب، فهو معتزل، ومنه سُمّيت الْفِرْقَةُ الْعَدْليّة معتزلةً، ورُوي أن الحسن البصريّ رحمه الله تعالى كان يُقرّر يومًا مع أصحابه مسألةً من الأصول، فاعترض عليه جماعة من أصحابه، فلَمّا قام الحسن من مجلسه اعتزل المعترضون إلى ناحية يُقرِّرون تلك المسألة على خلاف قول الحسن، فلما عاد الحسن ورآهم جالسين في ناحية قال: من المعتزلة؟، وفي رواية: فلما تكرّر
(1)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 1/ 274 - 275.
(2)
"المفهم" 1/ 273.
نكيرهم على قول الحسن قال لهم: اعتزلوا عنّا. انتهى كلام الطيبيّ
(1)
.
(الشَّيْطَانُ) قال الأبّيّ رحمه الله تعالى: الأظهر في الشيطان أنه إبليس؛ لقوله: "فأبيتُ"، قال: ولا يمتنع أن يكون بكاؤه حقيقةً لأنه جسم، ولا يتّفق له هذا دائمًا؛ لأن "إذا" ليست من ألفاظ العموم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وبكاء إبليس المذكور في الحديث ليس نَدَمًا على معصية ولا رجوعًا عنها، وإنما ذلك لفرْطِ حسده وغيظه، وألمه مما أصابه من دخول أحد من ذرّيّة آدم عليه السلام الجنّة ونجاته بالسبب الذي عصى هو به، وذلك نحو ما يعتريه عند الأذان والإقامة ويوم عرفة، على ما يأتي في محلّه - إن شاء الله تعالى -
(3)
.
[تنبيه]: قال السمين الحلَبيّ رحمه الله تعالى: "الشيطان": المتمرّد من الجنّ، وقال أبو عُبيدة: الشيطان اسم لكلّ عارم من الجنّ والإنس والحيوانات، وقد يُطلَقُ على كلّ قُوّة ذميمة في الإنسان، كما رُوي:"الحسدُ شيطان، والغضبُ شيطان"
(4)
، وذلك لأنهما ينشآن عنه.
واختَلَفَ أهل اللغة في اشتقاقه، فقال جمهورهم: هو مشتقّ من شَطَنَ يَشْطُنُ: أي بَعُدَ؛ لأنه بعيد من رحمة الله تعالى، وأنشدُوا [من الوافر]:
نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ شَطُونٌ
…
فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ
وقال آخر [من الخفيف]:
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ
…
ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالأَكْبَالِ
وحَكَى سِيبويه: تَشَيْطَنَ: أي فعل فعل الشياطين، فهذا كلّه يدلّ على أنه من شَطَنَ؛ لثبوت النون وسقوط الألف في تصاريف الكلمة، ووزنه على هذا فَيْعَالٌ.
وقيل: هو مشتقّ من شاط يَشيطُ: أي هاج، واختَرَقَ، ولا شكّ أن هذا المعنى موجود فيه، فأخذوا بذلك أنه مشتقّ من هذه المادّة، لكن لم يُسمع في
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 1026.
(2)
"إكمال إكمال المعلم" 1/ 187.
(3)
"المفهم" 1/ 274.
(4)
لم أر من أخرجه.
تصاريفه إلا ثابتَ النون محذوف الألف كما تقدّم، ووزنه على هذا فَعْلان، ويترتّب على القولين صرفه وعدم صرفه إذا سُمّي به، وأما إذا لم يُسمّ به فإنه منصرفٌ البتّةَ؛ لأن من شرط امتناع فَعْلان الصفةِ أن لا يُؤَنَّثَ بالتاء، وهذا يؤنّث بها، فيقال: شيطانةٌ. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَبْكِي) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "اعتَزَلَ"، وكذا قوله:(يَقُولُ) فهما حالان مترادفان أو متداخلان.
(يَا وَيْلَهُ) دُعاءٌ بالويل، وأصل الكلمة "وَيْ" وُصلت بـ"له"، و"الويل": الحزن والهلاك، وهي كلمة تقال: لمن وقع في هَلَكَة، ومعنى النداء فيه: يا حزني، ويا هلاكي احضر فهذا أوانك، كأنه ناداه لما عَرَضَ له من الأمر الفظيع، وهو الندم على ترك السجود لآدم عليه السلام، ولعلّ نداء الويل للتحزّن على ما فاته من الكرامة، وحصول اللعن والطرد والخيبة في الدارين، وللحسد على ما حصل لابن آدم من القرب والكرامة والفوز في الدارين
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: قوله: "يا ويله" هو من آداب الكلام، وهو أنه إذا عَرَضَ في الحكاية عن الغير ما فيه سُوء واقتضت الحكايةُ رجوعَ الضمير إلى المتكلم، صَرَفَ الحاكي الضمير عن نفسه تصاونًا عن صورة إضافة السوء إلى نفسه. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ) أراد به بيان الخلاف بين شيخيه، فأما أبو بكر فقال في روايته:"يا ويله" بَضمير الغائب، وأما أبو كُريب، فقال في روايته:(يَا وَيْلِي) بضمير المتكلّم، ويجوز فيه من حيث اللغة فتح لامه وكسرها، كما في نظائره
(4)
.
ووقع في "مختصر القرطبيّ لصحيح مسلم" بلفظ: "يا ويلتا"، فقال القرطبيّ: والألف فيه للندبة والتفجّع. انتهى
(5)
.
(1)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 1/ 10 - 11.
(2)
راجع: "لسان العرب" 11/ 739، و"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 1026 - 1027.
(3)
"شرح مسلم" 2/ 71.
(4)
"الصيانة" ص 260.
(5)
"المفهم" 1/ 274.
(أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ) ببناء الفعل للمفعول (فَسَجَدَ) أي امتثالًا لأمر الله سبحانه وتعالى له (فَلَهُ الْجَنَّةُ) أي جزاءً على امتثاله لأمره.
(وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا، أي أمرني الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام مع الملائكة الكرام عليهم السلام (فَأَبَيْتُ) أي امتنعتُ من فعل ما أُمرتُ به، قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: أَبَى الرجلُ يَأْبَى إِباءً بالكسر والمدّ، وإباءةً: امتنع، فهو آبٍ، وأَبيٌّ على فاعل، وفَعِيل، وتأبّى مثله، وبناؤه شاذٌّ؛ لأن باب فَعَلَ يَفْعَلُ - بفتحتين - يكون حلقيَّ العين أو اللام، ولم يأت من حلقيّ الفاء إلا أبي يأبَى، وعضَّ يَعَضُّ في لغة، وأثّ الشعرُ يَأَثُّ: إذا كثُر والْتَفَّ، وربما جاء في غير ذلك، قالوا: وَدّ يودّ في لغة، وأما لغةُ طيّئ في باب نَسِيَ يَنْسَ إذا قلبوا، وقالوا: نَسَى يَنْسَى، فهو تخفيف. انتهى
(1)
.
وقد حَكى ابن سِيدهْ عن قومٍ: أَبِيَ يَأْبَى، كنَسِيَ يَنْسَى، وحكى ابن جني وصاحب "القاموس": أَبَى يَأْبِي، كضرب يضرب، فعلى هذا يجوز أن يكون أَبَى يَأْبَى - بالفتح فيهما - من باب تداخل اللغتين، أي أن المتكلِّم بالفتح فيهما أخذ الماضي من لغةٍ والمضارع من لغةٍ. انتهى
(2)
.
وقال السمين الحلبيّ رحمه الله تعالى: "الإباء": الامتناع، قال الشاعر [من الطويل]:
وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا
…
وَشَرُّ مَوَاطِنِ الْحَسَبِ الإِبَاءُ
قال: والمشهور أَبَى يَأْبَى بالفتح فيهما، وكان القياس كسر عين المضارع، ولذلك اعتبره بعضهم، فكسر حرف المضارعة، فقال: تِئْبِي، ونِئْبِي، وقيل: لَمّا كانت الألف تُشبه حروف الحلق فُتِح لأجلها عين المضارع، وقيل: أَبَى يَأْبَى، بالفتح فيهما، وكان القياس كسر عين المضارع، ونُقل أَبِيَ يأبَى بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع، وهذا قياسٌ، فيحتَمِلُ أن يكون مَن قال: أَبَى يَأْبَى - بالفتح فيهما - استَغنَى بمضارع مَن قال: أَبِيَ بالكسر، ويكون من التداخل، نحوُ رَكِنَ يَرْكَنُ وبابِهِ. انتهى كلام السمين باختصار
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 3.
(2)
منقول من هامش "المصباح"13.
(3)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 1/ 277.
(فَلِي النَّارُ") أي فوجبت النار عليّ بسبب الامتناع عن امتثال الأمر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[37/ 251 و 252](81)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1052)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(549)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2759)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 443)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 521)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1/ 159)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(653)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، وهو وجه إيراد المصنّف رحمه الله تعالى له في "كتاب الإيمان"؛ لأنه يدلّ على نقيض الإيمان وهو الكفر.
2 -
(ومنها): بيان فضل السجود لله تعالى، حيث يكون سببًا لدخول الجنّة.
3 -
(ومنها): بيان شؤم التكبّر والإباء لأمر الله تعالى؛ فإنه سبب لحرمان الجنّة ودخول النار، وقد أخرج المصنّف رحمه الله تعالى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذَرّة من كِبْر"، قال رجل: إن الرجل يُحِبّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، قال:"إن الله جميلٌ، يحب الجمال، الكبرُ بَطَرُ الحقّ، وغَمْطُ الناس".
4 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
قال القاضي عياض: قال المفسّرون: إنما كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تحيّةً، لا عبادةً له، وطاعةً لله تعالى، وقد كان فيما ذُكم قبلُ السجود للتحيّة مباحًا، وقيل ذلك في قوله تعالى:{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] أي
ليوسف عليه السلام، وقيل: لله سبحانه وتعالى، والهاء في {لَهُ} عائدة عليه تعالى.
وقيل: أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام؛ ليَظْهَر فضله عليهم؛ إذ ظنّت الملائكة أنه لا يَفْضُلهم أحدٌ، وقيل: هو معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] ذُكِر هذا عن قتادة، فلما خَلَق الله تعالى آدم عليه السلام، وعلّمه أسماء ما لم يعلموه، بان لهم أنه أعلم منهم، فلما أمرهم بالسجود له، بان فضله عليهم. انتهى
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ في "تفسيره": اختَلَفَ الناسُ في كيفية سجود الملائكة لآدم عليه السلام بعد اتّفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور: كان هذا أمرًا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة؛ لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريمًا لآدم، وإظهارًا لفضله، وطاعةً لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا، ومعنى {لِآدَمَ} إلى آدم، كما يقال: صَلِّ للقبلة، أي إلى القبلة، وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض، ولكنه مُبْقًى على أصل اللغة فهو من التذلّل والانقياد، أي اخْضَعُوا لآدم، وأَقِرُّوا له بالفضل، فسجدوا، أي امتثلوا ما أمروا به.
واختُلِفَ أيضًا هل كان ذلك السجود خاصًّا بآدم عليه السلام، فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم، إلا لله تعالى، أم كان جائزًا بعد إلى زمان يعقوب عليه السلام؛ لقوله تعالى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]، فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحًا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم:"لا ينبغي أن يُسْجَد لأحد إلا لله رب العالمين"، روى ابن ماجهْ في "سننه"، والبستي في "صحيحه" عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: لما قَدِمَ معاذ من الشام، سجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما هذا يا معاذ؟ " قال: أتيت الشام، فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فَوَدِدتُ في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 389 - 390.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حقّ ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه"، لفظ ابن ماجه
(1)
.
قال القرطبيّ: ومعنى "القتب" أن العرب يَعِزّ عندهم وجود كُرْسيّ للولادة، فيحملون نساءهم على القَتَبِ عند الولادة
(2)
.
قال: وهذا السجود المنهي عنه، قد اتَّخَذه جُهّال المتصوفة عادةً في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم، فَيَرَى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقْدَمِ؛ لجهله، سواء أكان للقبلة أم غيرها، جهالةً منه، ضَلّ سعيهم، وخاب عملهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى
(3)
، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى: مقصود مسلم رحمه الله تعالى بذكر هذين الحديثين - يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وحديث جابر رضي الله عنه بعده - هنا أن من الأفعال ما تركه يوجب الكفر، إما حقيقةً، وإما تسميةً.
فأما كفر إبليس بسبب السجود، فمأخوذ من قول الله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} ، قال الجمهور: معناه: وكان في علم الله تعالى من الكافرين، وقال بعضهم: وصار من الكافرين، كقوله تعالى:{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].
وأما تارك الصلاة، فإن كان منكرًا لوجوبها، فهو كافر بإجماع المسلمين، خارجٌ من ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط
(1)
حديث حسن صحيح، انظر:"صحيح ابن ماجه" للشيخ الألباني رحمه الله تعالى 1/ 312 حديث (1503).
(2)
هكذا فسّر القرطبيّ "القَتَبَ"، والمشهور أن القتب بكسر، فسكون، أو بالتحريك، وهو الأكثر: الإكاف، أو الرَّحْلُ الصغير على قدر سَنَامِ البعير، جمعه أقتاب.
انظر: "القاموس" ص 113.
(3)
"الجامع لأحكام القرآن" 1/ 293 - 294.
المسلمين مُدّةً يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه، وإن كان تركه تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها، كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه، وسيأتي تحقيقه بعد هذا، والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أنه قد احتج أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله بقوله: "أُمِر ابن آدم بالسجود" على أن سجود التلاوة واجبٌ، ومذهب مالك، والشافعيّ، والكثيرين أنه سنةٌ، وأجابوا عن هذا بأجوبة:
[أحدهما]: أن تسمية هذا أمرًا، إنما هو من كلام إبليس، فلا حجة فيها، فإن قالوا: حكاها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُنكرها.
قلنا: قد حَكَى غيرها من أقوال الكفار، ولم يبطلها حال الحكاية، وهي باطلة.
[الوجه الثاني]: أن المراد أمر ندب لا إيجاب.
[الثالث]: المراد المشاركة في السجود، لا في الوجوب، والله تعالى أعلم، قاله النوويّ، رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يخفى عليك ما في الوجه الأول من الضعف، فالوجه الثالث هو الأقرب، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى ما حاصله: وجه احتجاج الحنفيّة به على وجوب سجود التلاوة، أن إبليس عصى بترك ما أُمر به من السجود، فذُمّ، ولُعِنَ، وابن آدم أطاع بفعله، فمُدِح، وأُثيب بالجنّة، فلو تركه لعصى؛ إذ السجود نوع واحدٌ، فلزم من ذلك كون السجود واجبًا.
وذهب الجمهور إلى أنه مندوب وفضيلة، وليس بواجب، وأجابوا عما قاله الحنفيّة بأن ذمّ إبليس ولعنه لم يكن لأجل ترك السجود فقط، بل لتركه عُتُوًّا على الله سبحانه وتعالى وكبرًا، وتسفيهًا لأمره تعالى، وبذلك كَفَرَ، لا بترك العمل بمطلق السجود، ألا ترى قوله تعالى مخبِرًا بذلك حين قال:{أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، وقال:{لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33]، وقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]؟.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 71 - 72.
سلّمنا أنه ذُمّ على ترك السجود، لكن لا نسلّم أن السجود نوع واحدٌ، فقد قال بعض المفسّرين: إن السجود الذي أمر الله تعالى به الملائكة إنما كان طأطأة الرأس لآدم عليه السلام تحيّةً له، وسجود التلاوة وضع الجبهة بالأرض على كيفيّة مخصوصة.
سلّمنا أنه نوع واحدٌ، لكن منقسمٌ بالإضافة، ومتغايرٌ بها، فيصحّ أن يؤمر بأحدها، ويُنهَى عن الآخر، كما يؤمر بالسجود لله تعالى، ويُنهى عن السجود للصنم، فما أُمر به الملائكة من السجود لآدم مُحَرَّم على ذرّيّته، كما قد حُرِّم ذلك علينا، وكيف يُستدلّ بوجوب أحدهما على وجوب الآخر
(1)
، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في أبواب سجود القرآن - إن شاء الله تعالى -.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم تارك الصلاة:
ذهب الإمامان: مالك والشافعيّ رحمهما الله تعالى، والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يَكْفُر، بل يَفْسُقُ، ويستتاب، فإن تاب، وإلا قتلناه حدًّا، كالزاني المحصن، ولكنه يُقْتَل بالسيف.
وذهب جماعة من السلف إلى أنه يَكْفُر، وهو مرويّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وبه قال عبد الله بن المبارك، وإسحاق ابن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعيّ رحمه الله تعالى.
وذهب أبو حنيفة، وجماعة من أهل الكوفة، والْمُزَنيّ، صاحب الشافعيّ رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يَكْفُر، ولا يُقْتَل، بل يُعَزَّر، ويُحبَس، حتى يُصلي.
واحتَجَّ من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور، وبالقياس على كلمة التوحيد.
واحتج من قال: لا يقتل، بحديث: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث
…
" الحديث، وليس فيه الصلاة.
واحتج الجمهور على أنه لا يَكْفُر بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله
(1)
"المفهم" 1/ 273 - 274.
إلا الله دخل الجنة، من مات، وهو يَعْلَم أن لا إله إلا الله، دَخَلَ الجنّة، ولا يَلْقَى الله تعالى عبد بهما غير شاكّ، فيحجبَ عن الجنة"، وحديث: "حَرَّم الله على النار من قال: لا إله إلا الله"، وغير ذلك.
واحتجوا على قتله بقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فَعَلُوا ذلك عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم"، وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم:"بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر، وهي القتل، أو أنه محمول على المستحلّ، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر، أو أن فعله فعل الكفار، قاله النوويّ رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، فليس كلّ من ترك الصلاة كافرًا كفرًا يخرج به عن الملّة، ويُحكم عليه بالردّة، بل الذي يظهر أن تارك الصلاة لا يكفر كفرًا مخرجًا عن الملّة إلا أن يجحدها، أو يتركها تركًا كليًّا، أو يُصرّ على الترك، وإن أفضى إلى قتله، وقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى، قد فصّلها تفصيلًا حسنًا، فقال خلال تحقيقه لمسألة الإيمان ما حاصله:
ولهذا فَرَضَ متأخرو الفقهاء مسألةً يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مُقِرًّا بوجوب الصلاة، فدُعِي إليها، وامتنع، واستتيب ثلاثًا مع تهديده بالقتل، فلم يُصَلّ حتى قُتِل هل يموت كافرًا أو فاسقًا؟ على قولين.
وهذا الفرض باطلٌ، فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن الله فرضها عليه، وأنه يعاقبه على تركها، ويصبر على القتل، ولا يسجد لله سجدة من غير عذر له في ذلك، هذا لا يفعله بَشَرٌ قط، بل ولا يُضرَب أحد ممن يُقِرّ بوجوب الصلاة إلا صلى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك أن القتل ضَرَرٌ عظيم، لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لِدِين يعتقد أنه إن فارقه هلك، فيصبر عليه حتى يُقْتَل، وسواء كان الدّين حقًّا أو باطلًا، إما
(1)
"شرح مسلم" 2/ 70 - 71.
مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطنًا وظاهرًا، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط. انتهى
(1)
.
وقال أيضًا في موضع آخر: فأما من كان مصرًّا على تركها لا يصلي قطّ، ويموت على هذا الإصرار والترك، فهذا لا يكون مسلمًا، بل أكثر الناس يصلّون تارةً، ويتركونها تارةً، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في "السنن"، حديث عبادة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهنّ، كان له عهد عند الله أن يُدخله الجنة، ومن لم يُحافظ عليهنّ لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذّبه، وإن شاء غفر له".
فالمحافظ عليها الذي يُصلّيها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى، والذي ليس يؤخّرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، قد يكون لهذا نوافل تكمّل بها فرائضهم، كما جاء في الحديث. انتهى
(2)
.
وقال في "شرح العمدة": فأما إذا لم يُدْعَ، ولم يمتنع فهذا لا يجري عليه شيء من أحكام المرتدّين في شيء من الأشياء، ولهذا لم يُعلم أن أحدًا من تاركي الصلاة تُرك غسله، والصلاة عليه، ودفنه مع المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا إهدار دمه بسبب ذلك، مع كثرة تاركي الصلاة في كلّ عصر، والأمة لا تجتمع على ضلالة، وقد حَمَل بعض أصحابنا أحاديث الرجاء على هذا الضرب.
[فإن قيل]: فالأدلّة الدالّة على تكفيره عامّة عُمُومًا مقصودًا، وإن حملتموها على هذه الصور كما قيل قلّت فائدتها، وإدراك مقصودها الأعظم، وليس في شيء منها هذه القيود.
[قلنا]: الكفر على قسمين:
[قسم]: تنبني عليه أحكام الدنيا، من تحريم المناكح، والذبائح، ومنع التوارث، والعقل، وحِلّ الدم والمال، فهذا إنما يثبت لنا كفره إما بقول يوجب الكفر، أو عمل، مثل السجود للصنم، وإلى غير القبلة، والامتناع عن الصلاة،
(1)
"مجموع الفتاوى" 7/ 219.
(2)
"مجموع الفتاوى" 22/ 49.
وشبه ذلك، فهذا النوع لا نُرتّبه على تارك الصلاة حتى يحقّق امتناعه الذي هو الترك؛ لجواز أن يكون قد نوى القضاء فيما بعد، أو له عذر، وشبه ذلك.
[والثاني]: ما يتعلّق بأحكام الآخرة، والانحياز عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللحاق بأهل الكفر، ونحو ذلك، فهذا قد يجوز على كثير ممن يَدّعي الإسلام، وهم المنافقون الذين أمرُهُم بالكتاب والسنة معلوم الذين قيل فيهم:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} إلى قوله: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 13 - 14].
فمن لم يصلّ، ولم يُرد أن يصلي قط، ومات على ذلك من غير توبة، فهذا تارك الصلاة، مندرج في عموم الأحاديث، وإن لم يظهر في الدنيا حكم كفره، ومن قال من أصحابنا: لا يُحكم بكفره إلا بعد الدعاء والامتناع، فينبغي أن يُحمل قوله على الكفر الظاهر، فأما كفر المنافقين، فلا يُشترط له ذلك، فإن أحمد وسائر أصحابنا لم يشترطوا لحقيقة الكفر هذا الشرط.
فأما إن أخّرها عن وقتها، وفعلها فيما بعدُ فمات، أو كان ممن يلزمه أن يفعلها فيما بعدُ فمات، فهذا مع أنه فاسقٌ من أهل الكبائر، ليس بكافر، كالأمراء الذي يؤخّرون الصلاة عن وقتها حتى يخرج الوقت، ولذلك أمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن نُصلّي معهم النافلة، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 5]: أخّروها حتى يخرج وقتها، ولو تركوها لكانوا كفّارًا.
وهذا الضرب كثير في المسلمين، وهم من أهل الكبائر الذين ادّخرت لهم الشفاعة، وما جاء من الرجاء لمن يتهاون في الصلاة، فإليهم ينصرف، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ومن لم يُحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد"، ونفيُ المحافظة لا ينفي الفعل، بخلاف من لم .....
(1)
فإنه يكون تاركًا بالكليّة كما تقدّم.
فأما من يترك الصلاة بعض الأوقات لا يقضيها، ولا ينوي قضاءها، أو
(1)
قال محقق الكتاب في الحاشية: فراغ في المخطوط، ولعل تقديره: من لم يصلّ مطلقًا. اهـ.
يُخلّ ببعض فرائضها، ولا يقضيها، ولا ينوي قضاءها، فمقتضى ما ذكره كثير من أصحابنا أنه يكفر بذلك، فإن دُعي إليها وامتنع، حُكم عليه بالكفر الظاهر، وإلا لحقه حكم الكفر الباطن بذلك، ثم إذا صلّى الأخرى صار مؤمنًا، كما دلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من ترك صلاة العصر متعمّدًا حبِط عمله"، وقوله:"من ترك الصلاة عمدًا فقد برئت منه الذمّة"، ولا يلزم من ذلك أحكام الكفر في حقّه، كالمنافقين، والأشبه في مثل هذا أنه لا يكفر بالباطن أيضًا حتى يعزِمَ على تركها بالكليّة، كما لم يكفر في تأخيرها عن وقتها كما تقدّم من الأحاديث، ولأن الفرائض تُجبر يوم القيامة بالنوافل، ولأنه متى عزم على بعض الصلاة فقد أتى بما هو مجرّد إيمان. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحث دقيق، وتحرير أنيق
(2)
.
وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر خلال تحقيقه لهذه المسألة أيضًا ما نصّه: وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرًا من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار، لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحيانًا، وَيدَعُون أحيانًا، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتَجرِي عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام، فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض، كابن أُبَيّ وأمثاله من المنافقين، فلأن تَجري على هؤلاء أولى وأحرى.
وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيرًا من الفقهاء يَظُنّ أن مَن قيل: هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد رِدّةً ظاهرةً، فلا يرث،
(1)
"شرح عمدة الأحكام" 2/ 92 - 93.
(2)
قال الشيخ أبو الحسن في "سبيل النجاة" ص 219: وقد نصر هذا المذهب أيضًا الإمام ابن القيّم رحمهُ الله تعالى. انظر: "الصلاة" ص 60 - 82، وقوّاه المرداويّ في "الإنصاف" 1/ 378، واحتمله الإمام أحمد في حديث:"بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"، فقال: فقد يحتمل أن يكون تاركًا أبدًا. اهـ. من "الجامع" للخلال 2/ 543/ 1394، وذهب إليه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله كما في "الشرح الممتع" 2/ 26، و"فتاوى منار الإسلام" 1/ 130/ 99، وعزاه ابن رشد في "البيان والتحصيل" 16/ 393 لأصبغ، وعدّ الإصرار جحودًا، والله أعلم. انتهى.
ولا يورث، ولا يناكَح، حتى أجروا هذه الأحكام على من كفّروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام، مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل من لا يشكّون في نفاقه، ومن نزل القرآن ببيان نفاقه، كابن أُبَيّ وأمثاله، ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تُعصَم دماؤهم حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته. انتهى كلامه رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.
وقد لخّص بعض المحقّقين
(2)
كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فقال: المتتبّع لكلام شيخ الإسلام ابن تيميّة في هذه المسألة يجد الآتي:
1 -
أن شيخ الإسلام يكفّر من جحد وجوب الصلاة وإن صلى، وعلى هذا إجماع أهل العلم كما نقله غير واحد.
2 -
أن من أقرّ بوجوبها، لكنه لم يلتزمها، أي يقرّ بأنها لازمة له، فهو كافر أيضًا اتفاقًا، وانظر:"مجموع الفتاوى"(20/ 97 - 98).
3 -
أن من أقرّ بوجوبها، والتزمها، لكنه لم يفعلها بالكلّيّة، فمات، ولم يسجد لله سجدةً، فهو كافر أيضًا باطنًا، طالما أنه يُدْعى إليها، ويُصرّ على الترك، ويرضى بالقتل، انظر:"شرح العمدة"(2/ 94) مع أنه قد أطلق التكفير، أي في الظاهر والباطن في غير هذا الموضع، انظر:"مجموع الفتاوى"(22/ 49) إلا أن يُحمل كلامه هنا على أنه أراد الكفر الباطن، لا الظاهر، فيلتئم الكلام إذًا، والله أعلم.
قال الجامع: هذا التأويل متعيّنٌ؛ لأن شيخ الإسلام قد صرّح به في كثير من المواطن، فينبغي حمل ما أطلقه عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
4 -
أنه إذا دُعي إلى الصلاة، وأصرّ على تركها، حتى قُتل، فهو كافر ظاهرًا
(1)
"مجموع الفتاوى" 7/ 617.
(2)
هو الشيخ الفاضل أبو الحسن المصرفي، ثم اليمانيّ في كتابه "سبيل النجاة في بيان حكم تارك الصلاة" ص 229.
وباطنًا، كما مرّ في غير موضع، وانظر:"مجموع الفتاوى"(22/ 48 - 49).
5 -
أن من أقرّ بوجوبها، ولم يفعلها بالكليّة، لكنه عازم على القضاء، فلا يُكفّر باطنًا، ولا ظاهرًا، كما في "شرح العمدة"(2/ 94). انتهى
(1)
، وهو تفصيلٌ حسنٌ جدًّا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي
(2)
أن تارك الصلاة متعمّدًا كافر مطلقًا، كما وردت النصوص الصحيحة الصريحة بذلك، لكن كفره يختلف، فمنه ما يكون كفرًا دون كفر، ومنه ما يكون كفرًا مخرجًا عن الملّة فلا بدّ من تفصيله، على الوجه المذكور.
والحاصل أن تارك الصلاة عمدًا كافرٌ يُقاتل على تركها، لكن إن كان مقرًّا بوجوبها، بل أحيانًا يصلي بعضها، فيكون كفره كفرًا دون كفر، وإن كان جاحدًا لوجوبها، فهو كافر مطلقًا بلا خلاف، وإن كان مقرًّا بوجوبها إلا أنه تارك لها تركًا كلّيًّا عازمًا على تركها فهو كافرٌ مطلقًا أيضًا، وإن كان يصلي بعضًا، ويترك بعضًا، ودعاه الإمام أو من أمره إلى الصلاة، فأبى، وأصرّ على الترك حتى قُتل، فإنه يكون كافرًا مطلقًا أيضًا؛ لأن إصراره على تركها حتى يُقتل دليل على عدم إقراره بوجوبها، وأما إذا تركها، ولم يُدْعَ إليها، ولم يصرّ على تركها حتى القتل، فإنه يكون كافرًا ظاهرًا، لا باطنًا، فيرث ويورث، ويُدفن في مقابر المسلمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم من امتنع من فعل بقيّة الأركان غير الشهادتين:
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: قد تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئًا من هذه الفرائض الأربع - يعني الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ - بعد
(1)
راجع: "سبيل النجاة في بيان حكم تارك الصلاة" للشيخ الفاضل أبي الحسن المأربيّ.
(2)
قد سبق لي أن رجّحت في "شرح النسائيّ" أن تارك الصلاة كافر، يُقتل، ولكن كفره كفر دون كفر، من غير تفصيل، ثم ترجّح لديّ الآن التفصيل الذي ذكرته هنا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
الإقرار بوجوبها، فأما الشهادتان، إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطنًا وظاهرًا عند سلف الأمة وأئمتها، وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة، كجهم والصالحيّ، وأتباعهما، إلى أنه إذا كان مُصَدّقًا بقلبه كان كافرًا في الظاهر دون الباطن، وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام، لم يقله أحد من الأئمة، وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر، بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقًا وحُبًّا وانقيادًا بدون الإقرار الظاهر ممتنع.
وأما الفرائض الأربع، فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة، فهو كافر، وكذلك مَن جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك، وأما مَن لم تَقُم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام، ونحو ذلك، أو غَلِطَ فظَنّ أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يُستثنَوْن من تحريم الخمر، كما غَلِطَ في ذلك الذين استتابهم عمر رضي الله عنه، وأمثال ذلك، فإنهم يُستتابون، وتُقام الحجة عليهم، فإن أصرُّوا كفروا حينئذ، ولا يُحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يَحكُم الصحابة رضي الله عنهم بكفر قُدامة بن مظعون وأصحابه لَمّا غَلِطُوا فيما غَلِطوا فيه من التأويل.
وأما مع الإقرار بالوجوب، إذا ترك شيئًا من هذه الأركان الأربعة، ففي التكفير أقوال للعلماء، هي روايات عن أحمد:
[أحدهما]: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحجّ، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء، فمتى عَزَمَ على تركه بالكلية كَفَرَ، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد، اختارها أبو بكر.
[والثاني]: أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك، مع الإقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء، من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وهو إحدى الروايات عن أحمد، اختارها ابن بَطّة وغيره.
[والثالث]: لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد، وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعيّ، وطائفة من أصحاب أحمد.
[والرابع]: يكفر بتركها، وترك الزكاة فقط.
[والخامس]: يكفر بتركها وترك الزكاة، إذا قاتل الإمامَ عليها، دون ترك الصيام والحج، وهذه المسألة لها طرفان:
[أحدهما]: في إثبات الكفر الظاهر.
[والثاني]: في إثبات الكفر الباطن، فأما الطرف الثاني، فهو مبنيّ على مسألة كون الإيمان قولًا وعملًا كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدةً، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاةً، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم: 42، 43]، وقد ثبت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما رضي الله عنهم في الحديث الطويل، حديث التجلي: أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سَجَد له المؤمنون، وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق، لا يستطيع السجود، فإذا كان هذا حال من سجد رياءً، فكيف حال من لم يسجد قط؟ وثبت أيضًا في "الصحيح": أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود، فإن الله حَرّم على النار أن تأكله، فعُلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله، وكذلك ثبت في "الصحيح" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِف أمته يوم القيامة غُرًّا محجلين من آثار الوضوء، فدلّ على أن من لم يكن غُرًّا محجلًا لم يعرفه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يكون من أمته، وقوله تعالى:{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} [المرسلات: 46 - 48]، وقوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)} [الانشقاق: 20 - 23]، وكذلك قوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)} [القيامة: 31، 32]، وكذلك قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى
أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42 - 47]، فوصفه بترك الصلاة كما وصفه بترك التصديق، ووصفه بالتكذيب والتولي، والمتولي هو العاصي الممتنع من الطاعة، كما قال تعالى:{سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16]، وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين، وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله:{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق: 11 - 16]، وأيضًا في القرآن علق الأُخُوَّة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما عَلَّق ذلك على التوبة من الكفر فإذا انتَفَى ذلك انتفت الأُخوّة، وأيضًا فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"، وفي "المسند":"من ترك الصلاة مُتَعَمِّدًا فقد برئت منه الذمة"، وأيضًا فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يُعَبَّر عنهم بها، فيقال: اختَلَفَ أهل الصلاة، واختَلَف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين، يقولون: مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين، وفي "الصحيح":"من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا"، وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
وأما الذين لم يُكَفِّروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد، كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد، كان جوابًا لهم عن التارك، مع أن النصوص عَلَّقَت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، أدخله الله الجنة"، ونحو ذلك من النصوص.
وأجود ما اعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خمسُ صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهنّ، كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهنّ، لم يكن له عند الله عهدٌ، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة"، قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافرُ لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا، فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظةُ فعلها في أوقاتها كما أُمِر،
كما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخّر النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها، وعلى غيرها من الصلوات، وقد قال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59]، فقيل لابن مسعود وغيره: ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نظن ذلك إلا تركها، فقال: لو تركوها لكانوا كفارًا، وكذلك قوله:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5]، ذمهم مع أنهم يصلون لأنهم سَهَوْا عن حقوقها الواجبة من فعلها في الوقت، وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في "صحيح مسلم " عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا"، فجعل هذه صلاة المنافقين؛ لكونه أخّرها عن الوقت، ونقرها، وقد ثبت في "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما يُنكَر، وقالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال:"لا، ما صَلَّوا"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة"، فنَهَى عن قتالهم إذا صَلَّوا، وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبَيَّن أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها، لا تركها.
وإذا عُرِف الفرق بين الأمرين، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صَلَّوا، ولم يحافظوا عليها، ولا يتناول من لم يحافظ، فإنه لو تناول ذلك قُتِلوا كفارًا مرتدين بلا ريب، ولا يُتَصَوَّر في العادة أن رجلًا يكون مؤمنًا بقلبه مُقِرًّا بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزمًا لشريعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، يأمره وليّ الأمر بالصلاة، فيمتنع حتى يُقْتَل، ويكون مع ذلك مؤمنًا في الباطن قط، لا يكون إلا كافرًا، ولو قال: أنا مُقِرّ بوجوبها غير أني لا أفعلها كان هذا القول مع هذه الحال كذبًا منه، كما لو أخذ يُلقي المصحف في الْحُشّ، ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيًّا من الأنبياء، ويقول: أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي، مع هذه الحال، كان كاذبًا فيما أظهره من القول.
فهذا الموضع ينبغي تدبُّره، فَمَن عَرَف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعَلِمَ أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقرّ بالوجوب، وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على مَن جَعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة، لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواءٌ جُعِل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزءًا من الإيمان، كما تقدم بيانه.
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات، ويترك بعضها، كان معه من الإيمان بحسب ما فعله، والإيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق، كما ثبت عنه في "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أربع من كُنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حَدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرًا من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحيانًا ويدعون أحيانًا، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، في المواريث ونحوها من الأحكام، فإن هذه الأحكام إذا جَرَت على المنافق المحض، كابن أُبيّ وأمثاله من المنافقين، فلأن تَجْرِي على هؤلاء أولى وأحرى.
وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيرًا من الفقهاء يَظُن أن مَن قيل: هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتدّ ردةً ظاهرةً، فلا يَرِث، ولا يورث، ولا يناكَح، حتى أَجْرَوا هذه الأحكام على مَن كَفّروه بالتأويل، من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام، مبطن للكفر، وكان في المنافقين مَن يعلمه الناس بعلامات ودلالات، بل مَن لا يشكّون في نفاقه، ومَن نَزَل القرآن ببيان نفاقه، كابن أُبيّ وأمثاله، ومع هذا فلما مات هؤلاء
ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تُعْصَم دماؤهم حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته.
ولَمّا خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واعتزلوا جماعة المسلمين، قال لهم: إن لكم علينا أن لا نَمْنَعكم المساجد، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء، فلَمّا استحلوا قتل المسلمين، وأخذ أموالهم، قاتلهم بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:"يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قرائتهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يَمْرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة"، فكانت الحرورية قد ثَبَت قتالهم بسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واتفاق أصحابه، ولم يكن قتالهم قتالَ فتنة، كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين من المسلمين، بل قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، أنه قال للحسن ابنه:"إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، وقال في الحديث الصحيح:"تَمْرُق مارقة على حين فرقة من المسلمين، فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحقّ"، فدَلَّ بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال، إما واجبًا أو مستحبًّا لم يمدحه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ترك واجب أو مستحب، ودَلّ الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج، وهم عليّ وأصحابه، كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن قتال الخوارج أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين، الذي ليس فيه أمر من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه رضي الله عنهم لم يَحْكُموا بكفرهم، ولا قاتلوهم حتى بدؤوهم بالقتال.
والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء، وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا مَن حُكي عنه في ذلك قولان، كمالك، والشافعيّ، وأحمد، وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يُحْصَى، وقابله بعضهم، فصار يَظُنّ أنه لا يُطْلَق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أَتَوا من الإلحاد، وأقوال أهل التعطيل والاتحاد.
والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا، كمقالات الجهمية، الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يُرَى في الآخرة، ولكن قد يَخفى على بعض الناس أنه كُفْرٌ، فيُطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكَفَّر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جَحَد وجوب الصلاة والزكاة، واستحل الخمر والزنا، وتأَوَّل، فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأوّل المخطئ في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له، واستتابته كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر، ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يُخَرَّج الحديث الصحيح في الذي قال:"إذا أنا مُتُّ، فاحرقوني، ثم اسحقوني، في اليمّ، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا من العالمين"، وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حَرّقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع.
[فإن قيل]: فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن، فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر، فكيف يمكن مجاهدته؟.
[قيل]: ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق، لابد أن يَظْهَر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أَسَرَّ أحد سريرةً إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفَلَتات لسانه، وقد قال تعالى في حق المنافقين:{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات، وفعل المحرمات، ما يستحق عليه العقوبة عوقب على الظاهر، ولا يعاقب على ما يُعْلَم من باطنه بلا حجة ظاهرة، ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم من المنافقين مَنْ عَرَّفه الله بهم، وكانوا يحلفون له، وهم كاذبون، وكان يَقْبَل علانيتهم، ويَكِلُ سرائرهم إلى الله، وأساس النفاق الذي بني عليه، وإن المنافق
(1)
لا بد أن تختلف سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه،
(1)
هكذا النسخة، ولعل الأولى حذف الواو، وأنه خبر لـ"أساسُ"، والله تعالى أعلم.
ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب، كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى:{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]، وقال:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وأمثال هذا كثير، وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15] وقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [:] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وبالجملة فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر، وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا، فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين.
وقد تبيّن أن الدين لا بُدّ فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤدّ واجبًا ظاهرًا ولا صلاةً ولا زكاةً ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها مثل أن يؤدي الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين، وأهل الكتاب، يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازمًا له، أو جزءًا منه، فهذا نزاع لفظيّ، كان مخطئًا خطأً بَيِّنًا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلفُ والأئمةُ الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها، وأعمّها، وأوّلها، وأجلّها. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
(1)
، وهو بحثٌ دقيقٌ، وتحقيق أنيقٌ، فتمسّك به، تُرشَدْ سواء السبيل، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي لأقوم الطريق.
(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في عقوبة تارك الصلاة:
(اعلم): أن القائلين بعدم كفر تارك الصلاة اختلفوا في عقوبته، وأما من
(1)
"مجموع الفتاوى" 7/ 609 - 621.
كفّره، فلا خلاف عندهم في قتله على تفاصيل في قتله - ستأتي إن شاء الله تعالى -، وقد عزا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى القول بقتله إلى أكثر السلف
(1)
.
وأما القائلون بعدم كفره، فقد ذهب مالك، والشافعيّ، وجماعة إلى قتل تارك الصلاة، وإن كان مسلمًا عندهم.
وذهب أبو حنيفة، والزهريّ، والْمُزَنيّ من الشافعيّة، وأهل الظاهر إلى أنه لا يُقتل، ولكن يُحبس، ويُعزّر.
واحتج الأولون بأدلة:
(الأول): قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى: فأمر بالقتل مطلقًا، واستثنى منه ما إذا تابوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فمن لم يفعل ذلك بقي على العموم؛ لأنه علّق تخلية السبيل على ثلاثة شروط، والحكم المعلّق بشرط ينعدم عند عدمه، ولأن الحكم المعلّق بسبب عُرِف أنه يدلّ على أن ذلك السبب علّة له، فإذا كان علّة التخلية هذه الأشياء الثلاثة لم يجُز أن تُخَلَّى سبيلهم دونها. انتهى من "شرح العمدة"(2/ 60)، وبنحوه مختصرًا قاله ابن القيّم في "الصلاة"(ص 31 - 32)، والقرافيّ في "الذخيرة"(2/ 483) وغيرهم.
وأجاب القائلون بعدم قتله بأجوبة:
(منها): أن المراد بذلك الالتزام بالصلاة، لا مجرّد الأداء والفعل
(2)
.
وأجيب بأن هذا خلاف ظاهر الآية، فإنها ظاهرة في الإقرار والالتزام والفعل، لا في الالتزام فقط.
(ومنها): أن الآية عامّة في الصلاة والزكاة، وهم لا يرون قتل تارك الزكاة.
وأجيب بأن الزكاة يمكن أخذها منه بالقوّة، فإن نصب قتالًا قوتل، وإن
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 28/ 308.
(2)
"المحلّى" 11/ 378.
أفضى ذلك إلى قتله، بخلاف الصلاة، فلا تكون إلا بإقامته إياها.
(ومنها): ما قاله أبو حيّان في "البحر المحيط"(5/ 13): والظاهر أن مفهوم الشرط لا ينهض أن يكون دليلًا على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمّدًا، غير مستحلّ، ومع القدرة؛ لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره، فلا يتعيّن القتل. انتهى.
والجواب أن الآية تتكلّم عن قتلهم إن يقوموا بعدّة أمور، فإن لم يقوموا بها كلّها، فلا يُخلّى سبيلهم من القتل، فليس الكلام مطلقًا؛ فتأمّل.
(الثاني): ما رواه عُبيد الله بن عديّ بن الخيار، أن عبد الله بن عديّ الأنصاريّ حدّثه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس بين ظهراني الناس، إذ جاءه رجلٌ يستأذنه أن يُسارّه، فسارّه في قتل رجل من المنافقين، فجهر النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلامه، وقال:"أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، قال:"أليس يشهد أني رسول الله؟ "، قال: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، قال:"أليس يُصلي؟ "، قال: بلى، ولا صلاة له، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أولئك الذين نُهيت عنهم"، وفي رواية:"عن قتلهم"، أخرجه مالك، وأحمد، والشافعيّ، وسنده صحيح
(1)
.
قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى: ولو كانت الشهادتان موجبة للعصمة مع ترك الصلاة، لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها، ولم يسقها مع الشهادتين مساقًا واحدًا، وقوله بعد ذلك:"أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" يوجب حصر الذين نُهي عن قتلهم في هذا الصنف. انتهى
(2)
.
وأجاب ابن حزم عن هذا بأن هذا استدلال بالمفهوم.
وتُعُقّب بأن الاستدلال بالمفهوم قول المحقّقين من العلماء، كما هو مبسوط في محلّه من أصول الفقه، فلا التفات إلى ما قاله.
(الثالث): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في حديث الخوارج، فقال ذو الخويصرة التميميّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله اتّق الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويلك، ألست
(1)
انظر تخريجه والكلام عليه عند محقّق: "صحيح ابن حبّان" 13/ 309 و 310.
(2)
"شرح العمدة" 2/ 63 - 64.
أحقّ أهل الأرض أن يتّقي الله؟ "، قال: ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟، فقال: "لا لعلّه أن يكون يصلّي"، قال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أُومَر أَنْ أَنقُب عن قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم"، متّفق عليه.
قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى: فلما نُهي عن قتله، وعلّل ذلك باحتمال صلاته، كُلم أن ذاك هو الذي حقَنَ دمه، لا مجرّد الإقرار بالشهادتين، فإنه قد قال: يا رسول الله، ومع هذا لم يجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك وحده موجبًا لحقن الدم. انتهى
(1)
.
وتعقّبه ابن حزم كسابقه بأنه مفهوم، وردّ بأنه دليل على الراجح.
(الرابع): حديث الاستئذان في الخروج على الأمراء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا ما صلّوا"، أخرجه مسلم.
قال الإمام ابن عبد البرِّ رحمه الله تعالى: فدلّ أنهم لا يُقاتلون، ولا يُقتَلون إذا صلّوا الخمس، ودلّ ذلك على أن من لم يُصلّ الخمس قوتل، وقُتِل. انتهى
(2)
.
وتُعُقّب بأن الإذن في المقاتلة، ولا يلزم من الإذن فيه الإذن في القتل
(3)
.
وأجيب بأن المقاتلة قد تُفضي إلى القتل، فلو كان القتل غير مأذون فيه أصلًا لَمَا أذن في المقاتلة من باب سدّ الذرائع.
(الخامس): قول أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: "لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة
…
" الحديث، متّفقٌ عليه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وفي هذا إشارة إلى أن قتال تارك الصلاة أمر مُجمع عليه؛ لأنه جعله أصلًا مقيسًا عليه. انتهى
(4)
.
واحتجّ القائلون بالحبس والتعزير، دون القتل بأدلّة:
(الأول): حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُمرتُ أن أقاتل
(1)
"شرح العمدة" 2/ 64.
(2)
"الاستذكار" 5/ 351.
(3)
"الفتح" 1/ 76، و"عمدة القاري" 1/ 273.
(4)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 233، وأشار إليه القرافيّ في "الذخيرة" 2/ 283.
الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقّها"، متّفقٌ عليه، حيث لم تُذكر فيه الصلاة.
وأجيب بأن الصلاة والزكاة قد ثبت ذكرهما في روايات أخرى، في "الصحيحين"، فيُحمل المطلق على المقيّد، بل هذا من أدلّة الفريق الأول، كما لا يخفى على بصير.
(الثاني): حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة
(1)
"، متّفق عليه.
وأجيب بأن هذا عامّ، يُخصّص بالأدلّة السابقة
(2)
.
وأجيب أيضًا بأن مفهوم العدد لا يُعمل به هنا؛ لثبوت أدلّة أخرى بقتل من عَمِل عَمَل قوم لوط، والمحارب، ونحوهما، وقد ثبتت أدلّة بقتل تارك الصلاة، وحمله بعضهم على أن التارك لدينه هو تارك الصلاة، وعدّه ابن القيّم من أدلّة من قال بقتل تارك الصلاة، بل من أقوى الأدلّة في ذلك
(3)
.
(الثالث): ما ذكره الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى من أن تارك الصلاة قد كان مؤمنًا عند الجميع بيقين، فلا يجب قتله إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، فالواجب القول بأقلّ ما قيل في ذلك، وهو الضرب والسجن، وأما القتل ففيه اختلاف، والحدود تدرأ بالشبهات. انتهى
(4)
.
وأجيب بأن من قتله بالأدلّة السابقة لم يقتله برأي ولا بهوى، والعمل بغلبة الظنّ معمول به في الشرع، والقول بأنه لا يُقتل إلا بيقين فيه توسّع؛ إذ ثبت في الشرع أنه لو شهد عدلان على قتل رجل لآخر، يقتل القاتل
(1)
[فائدة]: الحكمة من قتل المرتدّ دون الكافر الأصليّ، أنه لو لم يُقتل لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص، ويمنعهم من الخروج عنه، بخلاف من لم يدخل فيه، أفاده شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. انظر:"مجموع الفتاوى" 20/ 102.
(2)
قاله القرافي في "الذخيرة" 2/ 483، وصاحب "الشرح الكبير" 1/ 188.
(3)
انظر: "الصلاة" ص 36.
(4)
"التمهيد" 4/ 241 - 242.
بشهادتهما، مع أن المتيقّن أنه معصوم الدم قبل القتل، وإنما قُتل بغلبة الظنّ، وما سبق من أدلّة قتل تارك الصلاة كافٍ للعمل به؛ فتأمّل، والله تعالى أعلم.
واستدلّوا أيضًا بأدلّة أخرى عقليّة، لكنها مما لا يُلتفت إليها؛ لكونها في مقابلة النصوص السابقة.
وخلاصة القول أن قول من قال بقتل تارك الصلاة بعد استتابته هو الأرجح؛ لما سبق من الأدلّة
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة السابعة): في حكم من ترك شرطًا، أو رُكنًا من الصلاة عمدًا ذاكرًا:
قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى: وأما من أخلّ بشيء من شرائطها، وأركانها التي لا يسوغ فيها الخلاف، فهذا بمنزلة التارك لها، فيما ذكره أصحابنا، كما ثبت في حديث حذيفة رضي الله عنه
(2)
، ولأن هذه الصلاة وجودها كعدمها في منع الاكتفاء بها، فأشبه من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض. انتهى
(3)
.
وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى: حكم ترك الوضوء والغسل من الجنابة، واستقبال القبلة، وسترة العورة حكم ترك الصلاة، وكذلك حكم ترك القيام للقادر عليه، وكذلك ترك الركوع والسجود، وإن ترك ركنًا أو شرطًا مختلفًا فيه، وهو يعتقد وجوبه، فقال ابن عقيل: حكمه حكم تارك الصلاة، ولا بأس أن نقول بوجوب قتله، وقال الشيخ أبو البركات ابن تيميّة: عليه الإعادة، ولا يُقتل من أجل ذلك بحال، قال ابن القيّم: فوجه قول ابن عقيل: أنه تارك للصلاة عند نفسه، وفي عقيدته، فصار كتارك الزكاة، والشرط المجمع
(1)
وقد أجاد الشيخ الفاضل أبو الحسن المأربيّ في كتابه "سبيل النجاة في بيان حكم تارك الصلاة" وساق أدلّة الفريقين، وأطال في ذلك، فجزاه الله خير الجزاء.
(2)
أي حيث قال عندما رأى رجلًا يصلي صلاةً، ولا يتمّ ركوعها، ولا سجودها:"إن متّ على هذا متّ على غير الفطرة".
(3)
"شرح العمدة" 2/ 94.
عليه، ووجه قول أبي البركات أنه لا يباح الدم بترك المختلف في وجوبه. قال ابن القيّم: وهذا أقرب إلى مأخذ الفقه، وقول ابن عقيل أقرب إلى الأصول، فإن تارك ذلك عازم وجازم على الإتيان بصلاة باطلة، فهو كما لو ترك مجمعًا عليه انتهى
(1)
.
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في "أضوائه": والظاهر أن ترك ما لا تصحّ الصلاة دونه، كالوضوء، وغسل الجنابة، كتركها، وجحد وجوبه كجحد وجوبها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله أبو البركات أرجح، فمن ترك ما لا خلاف فيه من الشروط والأركان فهو كمن تركها، وأما من ترك مختلفًا فيه، فإنه لا يُقتل، بل يؤمر بإعادتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[252]
(
…
) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ المذكور في الباب الماضي.
2 -
(وَكِيع) بن الْجَرّاح المذكور في الباب الماضي أيضًا.
3 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران المذكور في السند الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أشار به إلى الإسناد الذي قبله، وهو:"عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه".
وقوله: (مِثْلَهُ) يعني رواية زهير بن حرب مثل رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كُريب.
(1)
انظر: "الصلاة" ص 42 - 43.
(2)
"أضواء البيان" 4/ 311.
(غَيْرَ أنهُ قَالَ) أي إلا زهيرًا قال في روايته بدل "فأبيتُ فلي النار": ("فَعَصَيْتُ فَلِي النَّارُ").
[تنبيه]: هذه الرواية التي أحالها المصنّف رحمه الله تعالى هنا، ساقها الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"، فقال:
حدثنا وكيع، ويعلى، ومحمد ابنا عُبيد، قالوا: أخبرنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة، اعتَزَلَ الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أُمِر بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت، فلي النار"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[253]
(82) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَن الْأَعْمَش، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ المذكور قبل باب.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ المذكور قبل باب أيضًا.
3 -
(جَرِيرٌ) بن عبد الحميد الضبّيّ المذكور قبل باب أيضًا.
4 -
(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران المذكور في الحديث الماضي.
5 -
(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ الإِسْكاف، نزيل مكة، صدوقٌ [4] تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
6 -
(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن جملة من اشتهر بكنية أبي سفيان نحو أحد عشر رجلًا، ومنهم في "الصحيحين" اثنان فقط، هذا، وأبو سفيان مولى ابن أبي أحمد، سيأتي للمصنّف في "كتاب الصلاة"(573) رقم محمد فؤاد.
4 -
(ومنها): أن في قوله: "قال يحيى: أخبرنا جرير" فائدة نفيسة، وهي تصريحه بالإخبار، وأن تحمّله كان بالقراءة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن أبي سفيان.
6 -
(ومنها): أن فيه جابرًا صلى الله عليه وسلم أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سُفْيَانَ) طلحة بن نافع رحمه الله تعالى، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ") بنصب "تركَ" على أنه اسم "إنّ"، وخبرها الظرف قبله.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: هكذا هو في جميع الأصول من "صحيح مسلم": "الشرك والكفر" بالواو، وفي "مُستخَرَجي أبي عوانة الإسفراييني، وأبي نعيم الأصبهانيّ": "أو الكفر" بـ "أو"، ولكل واحد منهما وجه.
ومعنى "بينه وبين الشرك ترك الصلاة" أن الذي يَمْنَع من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل، بل دخل فيه، ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحدٍ، وهو الكفر بالله تعالى، وقد يُفرَّق بينهما، فيُخَصّ الشرك بعَبَدَة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى، ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الشيخ ابن الصلاح رحمه الله تعالى: الفرق بين الشرك والكفر فرق
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 71.
ما بين الأخصّ والأعمّ، فكلّ شرك كفر، وليس كلُّ كفر شركًا من حيث الحقيقة، والصحيح وهو مذهب الأكثرين أن ترك الصلاة لا يوجب حقيقة ذلك، بل اسم الكفر فحسب بالمعنى الذي سبق قريبًا بيان وجهه، ومنها أن المراد بين الرجل وبين مشابهة أهل الشرك ترك الصلاة، وذلك أن ترك الصلاة شأن أهل الكفر، وهو أخصّ معاصيهم التي وقع التمايز بينهم وبين المسلمين، وعلى هذا تقرب رواية من رواه بحرف الواو، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق في المسائل المتقدّمة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه تحقيق القول في حكم تارك الصلاة مستوفًى، فارجع إليه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله تعالى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[37/ 253 و 254](82)، و (أبو داود) في "السنّة"(4678)، و (الترمذيّ) في "الإيمان"(2618 و 2620)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(1/ 232) كما في بعض نسخ "المجتبى"، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1078)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 33 و 34)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 389)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1022)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 280)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1453)، و"الطبرانيّ" في "الصغير"(1/ 134)، و (ابن منده) في "الإيمان"(217 و 219)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(172 و 173 و 177)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(245 و 246 و 247)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 366)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(347)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 53)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الصيانة" ص 261.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[254]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْر، تَرْكُ الصَّلَاةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) هو: مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقة [10]، (ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ) أبو عاصم النبيل، ثقة ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقة فقيه فاضلٌ، يدلّس ويرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119، والصحابيّ تقدّم في السند الماضي، وكذا شرح الحديث، ومسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(38) - (بَابُ بَيَانِ كَوْنِ الإيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى أفضَلَ الأَعْمَالِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[255]
(83) - (وَحَدَّثنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، (ح) حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زَيادٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ - يَعْني ابْنَ سَعْدٍ - عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمالِ أفضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ بِاللَّهِ"، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"،
قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ:"حَجٌّ مَبْرُورٌ"، وَفي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ:"إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) واسم أبيه بَشِير - بفتح الباء - التُّرْكيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، مولى الأزد، ثقةٌ [10].
رَأى شعبةَ، ورَوى عن مالك، وفليح بن سليمان، وأبي أويس، وأبي سعيد بن أبي الوضاح، ويحيى بن حمزة الحضرمي، وابن المبارك، وأبي حفص الأبّار، وابن أبي الزناد، وأبي الأحوص، وأبي المحياة، يحيى بن يعلى التيمي، وأبي بكر بن عياش، وإبراهيم بن سعد، وعدة.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى النسائي، عن أحمد بن علي المروزي، عنه، وحفيده أبو طالب، أحمد بن محمد بن منصور بن أبي مزاحم، وأبو زرعة الرازي، وعثمان بن خُرّزاذ، وأبو حاتم، وأبو معاوية بن صالح الأشعري، وموسى بن هارون، والحسن بن علي بن شبيب المعمري، وأحمد بن محمد بن الجعد الوَشّاء، وأحمد بن يونس الضبي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأحمد بن علي بن المثنى الْمَوْصلي، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، وأبو القاسم البغوي، وآخرون.
قال عبد الله بن أحمد: حدثنا منصور بن بشير، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن قتادة، عن أنس في الافتتاح بالحمد لله، قال عبد الله: فحدثت به أبي، فقال: ثنا إسماعيل ابن علية، عن سعيد، وليس هو عن أيوب، فأنكر. وقال عثمان الدارمي، عن ابن معين: صدوق إن شاء الله تعالى، وقال عبد الخالق: سئل ابن معين عنه، فقال: صدوق، قيل: من أين تعرفه؛ قال: أعرفه وهو كاتب، وقال ابن محرز، عن ابن معين: لا بأس به، وقال أبو زرعة، عن ابن معين؛ تركي ثبت، وقال أحمد بن أبي يحيى، عن ابن معين: ليس به بأس، إذا حدث عن الثقات، وقال أبو حاتم: سألت ابن معين عنه، فأثنى عليه، وقال: كتبت عنه، قال: وسئل أبي عنه، فقال: صدوق، وقال
الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحسين بن فهم: منصور بن بشير، وهو ابن أبي مزاحم، كان له ديوان، فتركه، وكان ثقة، صاحب سنَّة، تُوُفّي في ذي القعدة، سنة خمس وثلاثين ومائتين، وهو ابن ثمانين سنة، أو أكثر، وفيها أرخه ابنُ أبي خيثمة، وغير واحد.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ) بن أبي هاشم الْوَرَكَانيّ - بفتحتين -، أبو عمران الْخُرَاسانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10].
رَوَى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، ومالك بن أنس، وفضيل بن عياض، وشَريك بن عبد الله، وأبي معشر المدني، وأيوب بن جابر اليمامي، ومعمر بن سليمان الرَّقّي، والمعافى بن عمران الموصلي، ومعتمر بن سليمان التيمي، في آخرين.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، وروى النسائي عن أبي بكر بن علي المروزي عنه، ويحيى بن معين، وابن أبي خيثمة، وابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد، وموسى بن هارون، وإبراهيم بن الجنيد الختلي، والمعمري، وعباس الدوري، والحارث بن أبي أسامة، وأحمد بن علي الأبار، وأبو يعلى، وأبو القاسم البغوي، وآخرون.
قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عنه، وقال أبو زرعة: كان جار أحمد بن حنبل، وكان يرضاه، وكان صدوقًا ما علمته، وقال صالح بن محمد: كان أحمد يوثقه، ويشير به، وقال عبد الخالق بن منصور، عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال ابن سعد، وغيره: مات في رمضان سنة ثمان وعشرين ومائتين، وفيها أرخه ابن قانع، وقال: كان ثقة.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ، ثقة ثبتٌ حجة [4](125)(ع) تقدّم في "المقدّمة" جـ 1 ص 348.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ المدنيّ الفقيه الحجة الثبت، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 71.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه 2/ 3 والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فقد تفرّد بهما هو، وأبو داود، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أن شيخيه هذا أول محلّ ذكرهما، في هذا الكتاب، وقد ذكرت آنفًا جملة ما رواه لهما في هذا الكتاب من الأحاديث.
4 -
(ومنها): ما ذكره النوويّ رحمه الله تعالى في "شرحه" قال: وأما منصور بن أبي مُزاحم، فبالزاي والحاء، وجميع ما في "الصحيحين" مما هذه صورته فهو مزاحم، بالزاي والحاء، ولهم في الأسماء مراجم، بالراء والجيم، ومنه الْعَوّام بن مُراجم. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخيه، فبغداديّان.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: ابن شهاب، عن ابن المسيّب.
7 -
(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، المجموعين في قول بعضهم:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
8 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى تحويل الإسناد، وملتقَى الإسنادين هو إبراهيم بن سعد، فكلّ من منصور بن أبي مزاحم، ومحمد بن جعفر يرويان عن إبراهيم بن سعد.
(1)
"شرح النووي" 2/ 76.
[فإن قلت]: لِمَ طوّل المصنّف رحمه الله تعالى هذا الإسناد، ولم يختصره بقوله:"حدثنا منصور بن أبي مُزاحِم، ومحمد بن جعفر بن زياد، قالا: حدثنا إبراهيم بن سعد"؟.
[قلت]: إنما سلك المصنّف مسلك التطويل؛ إشارةً إلى صناعة حديثيّة التي طالما تميّز بها هو عن غيره من مَهَرَة الحديث حتى عن البخاريّ إمام هذا الفنّ رحمه الله تعالى، فقد اشتمل صنيعه هذا على ثلاثة أمور:
(أحدها): أن شيخه منصورًا حدثه مع غيره، ولذا قال: "وحدثنا منصور
…
إلخ"، وأما شيخه محمد بن جعفر، فحدّثه وحده، ولذا قال: "حدّثني محمد بن جعفر
…
إلخ".
(والثاني): أن منصورًا أخذه عن شيخه بالسماع، ولذا قال:"حدّثنا إبراهيم"، وأما محمد بن جعفر، فأخذه بالقراءة، ولذا قال:"أخبرنا إبراهيم".
(والثالث): أن منصورًا نسب شيخه إلى أبيه، فقال:"حدّثنا إبراهيم بن سعد"، وأما محمد بن جعفر، فلم ينسبه، بل قال:"أخبرنا إبراهيم"، ولذا احتاج المصنّف إلى زيادة "يعني"، فقال:"يعني ابن سعد"، وقد سبق أن نَبَّهْتُ على هذه القاعدة غير مرّة، ولا سيّما في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
والصحابيّ تقدّم الكلام فيه قريبًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سئلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أُبهِم السائل، وهو أبو ذرّ رضي الله عنه، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في هذا نظر؛ لأن حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مخالف لهذا الحديث، كما سيأتي بعدُ، فتأمله، والله تعالى أعلم.
(أَيُّ الْأَعْمَالِ أفضَلُ؟) ولفظ البخاريّ: "أيّ العمل أفضل" بإفراد العمل، وفي رواية الترمذيّ:"أي الأعمال خير".
و"أَيّ " هنا استفهاميّة، ولا تُستعمل إلا مضافةً، وهي هنا مضافة إلى الأعمال، و"أفضل" اسم تفضيل من فضَلَ يفضُلُ من باب نصر، ويقال: فَضِلَ
يَفْضَلُ، من باب سَمِعَ يَسْمَعُ، حكاها ابن السّكّيت، وفيه لغة ثالثةٌ، فَضِلَ يَفْضُل بكسر العين في الماضي، وضمّها في المضارع، وهي من باب تداخل اللغتين، وليست لغة مستقلّةً، يقال: فضَلَ فَضْلًا: زاد، والفضل والفضيلة: الخير، وهو خلاف النّقْص والنقيصة
(1)
.
[فإن قلت]: إن أفعل التفضيل لا يستعمل إلا بأحد الأوجه الثلاثة: الإضافة، واللام، و"من"، فلا يقال: زيد أفضل، فكيف جاز هنا؟.
[أجيب]: بأنه يجوز استعماله مجرّدًا إذا عُلِمَ، نحو "الله أكبر"، أي أكبر من كلّ شيء، ومنه قوله تعالى:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، وقوله:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] الآية
(2)
، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِيمَانٌ بِاللَّهِ") برفع "إيمان" على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو إيمان بالله، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا يدلّ على أن الإيمان من جملة الأعمال، وهو داخل فيها، وهو إطلاق صحيح لغةً وشرعًا، فإنه عمل القلب وكسبه، وقد بيّنّا أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه منقسم إلى ما يكون عن برهان، وعن غير برهان، ولا يُلتفتُ لخلاف من قال: إن الإيمان لا يُسمّى عملًا؛ لجهله بما ذكرناه، ولا يخفى أن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال كلّها؛ لأنه متقدّم عليها، وشرطٌ في صحّتها، ولأنه من الصفات المتعلّقة، وشرفها بحسب متعلّقاتها، ومتعلّق الإيمان هو الله تعالى، وكتبه ورسله، ولا أشرف من ذلك، فلا أشرف في الأعمال من الإيمان، ولا أفضل منه انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وقد بيّنّا أن الإيمان هو التصديق بالقلب" فيه ما تقدّم غير مرّة أن الحقّ أن الإيمان ليس مجرّد التصديق القلبيّ فقط، بل يتناول الأعمال أيضًا، فتنبّه لذلك، وراجع لذلك كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فإنه قد ردّ على من زعم أن الإيمان هو مجرّد التصديق، وأطال النفس في ذلك، وناقش القائلين بذلك، وغلّطهم، وبيّن أن الإيمان في
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 475 - 476.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 188.
(3)
"المفهم" 1/ 275.
اللغة أعمّ من مجرّد التصديق، وأن العمل داخل في مسمّاه
(1)
، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) السائل (ثُمَّ مَاذَا؟) أي ثمّ بعد الإيمان ما هو الأفضل؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ")"الجهاد" بالكسر: مصدر جاهد يُجاهد جهادًا، ومجاهدَةً، وهو من الْجَهْد بالفتح، وهو المشقّة، وهو قتال الكفّار لإعلاء كلمة الله تعالى.
و"السبيل": الطريق، يُذكّر، ويؤنّث.
ووقع في "مسند الحارث بن أبي أُسامة"، عن إبراهيم بن سعد:"ثم جهادٌ"، فواخى بين الثلاثة في التنكير، بخلاف ما عند "الصحيحين"، وقال الكرمانيّ: الإيمان لا يتكرر كالحجّ، والجهادُ قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصيّ، والتعريف للكمال؛ إذ الجهاد لو أَتَى به مرّة مع الاحتياج إلى التكرار لَمَا كان أفضل.
وتُعُقِّب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيمُ، وهو يعطي الكمال، وبأن التعريف من جملة وجوهه العهدُ وهو يعطي الإفراد الشخصيّ، فلا يُسَلَّمُ الفرق
(2)
.
وقال الطيبيّ: قوله: "إيمان بالله، والجهاد، وحجّ مبرور" أخبار مبتدأ محذوف، ونكّر الإيمان؛ ليُشعر بالتعظيم والتفخيم، أي التصديق المقارن بالإخلاص المستتبع للأعمال الصالحة، وعَرَّفَ الجهاد؛ ليدلّ على الكمال؛ لأن الخبر المعرَّفَ باللام يدلّ على الاختصاص، كما قال: "فذالكم الرباط،
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 7/ 117 و 118 و 121 و 143 و 186 و 189 و 289، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص 331 - 334.
(2)
واعترض الحافظ على الفرق المذكور، فقال: وقد ظهر من رواية الحارث التي تقدّمت أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة؛ لأن مخرجه واحد، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة. راجع:"الفتح" 1/ 99.
وتعقّبه العينيّ على عادته المُسْتَمِرَّة، فإن شئت فراجع:"عمدته" 1/ 188 - 189، وقد ذكرت في "شرح النسائي" ما يؤيّد رأي الحافظ في هذا، فراجعه 23/ 308.
فذالكم الرباط"، ووَصَفَ الحجّ بالمبرور؛ ليُدلي بما يُدلي التنكير في "الإيمان"، والتعريف في "الجهاد".
[فإن قلت]: لِمَ لا نحمِلها على الابتداء محذوفة الأخبار؟.
[قلت]: يأبى التنكير في الإيمان ذلك، على أن المقدّر في الكلّ:"أفضلُ الأعمال"، وهو أعرف من "حجّ مبرور"، ومن "إيمانٌ بالله"، فأُجري الجهاد مجراهما مراعاة للتناسب. انتهى
(1)
.
(قَالَ) السائل (ثُمَّ مَاذَا؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("حَجٌّ) في اللغة: القصد، وأصله من قولك: حججتُ فلانًا أحُجّه حجًّا: إذا عُدتَ إليه مرّةً بعد أخرى، فقيل: حج البيت؛ لأن الناس يأتونه في كلّ سنة، قاله الأزهريّ، وقال في "العباب": رجلٌ محجوجٌ: أي مقصود، وقد حجّ بنو فلان فلانًا: إذا أطالوا الاختلاف إليه، قال الْمُخَبَّلُ السعديّ [من الطويل]:
وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً
…
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانَ الْمُزَعْفَرَا
(2)
قال ابن السّكّيت: يقول: يُكثرون الاختلاف إليه، هذا هو الأصل، ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكّة - حرسها الله تعالى - للنسك، تقول: حَجَجتُ البيت أَحُجُّهُ حجًّا، فأنا حاجّ، ويُجمَع على حجج، مثلُ بازل وبُزُل، وعائذ وعُوذ. انتهى.
وفي الشرع الحجّ: قصد زيارة البيت على وجه التعظيم، وقال الكرمانيّ: الحجّ قصد الكعبة للنسك بملابسة الوقوف بعرفة
(3)
.
(مَبْرُورٌ") أي مقبول، ومنه: بُرَّ حجُّك، وقيل: المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، قاله في "الفتح"
(4)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1938.
(2)
قوله: "الحلول" بضم الحاء المهملة، يقال: قوم حُلُولٌ: أي نُزولٌ، وكذلك حِلال بالكسر، و"السِّبّ" بكسر السين المهملة، وتشديد الباء الموحّدة: العمامة، و"الزبرقان": بكسر الزاي، وسكون الموحّدة، وكسر الراء، وبالقاف: لقب، واسمه الحصين، لُقّب به لصفرة عمامته. راجع:"عمدة القاري" 1/ 187 - 188.
(3)
"عمدة القاري" 1/ 187.
(4)
"فتح" 1/ 99.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قال شَمِر: هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، كما قال تعالى:{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، ومنه بَرَّت يَمِينُهُ: إذا سَلِمَ من الحنث، وبَرَّ بيعُهُ: إذا سَلِمَ من الخِدَاع، والخلابة، وقيل: المبرور الْمُتَقَبَّلُ، وقال الحربيّ: بُرَّ حَجُّك بضم الباء، وبَرَّ الله حَجَّك بفتحها: إذا رجع مبرورًا مأجورًا، وفي الحديث: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بِرُّ الحجّ؟ قال: "إطعامُ الطعام، وطيب الكلام"
(1)
، فعلى هذا يكون من البرّ الذي هو فعل الجميل، ومنه بِرُّ الوالدين والمؤمنين، قال: ويكون أيضًا في هذا كلّه بمعنى الطاعة، ويكون بمعنى الصدق، وضدّ الفجور، ومنه بَرَّت يمينه، فيكون الحجّ المبرور الصادق الخالص لله تعالى على هذا. انتهى كلام القاضي
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى: الحجّ المبرور هو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، وقيل: هو المقبول المقابَلُ بالبرّ، وهو الثواب، يقال: بَرَّ حَجُّهُ - أي بفتح الباء - وبُرَّ حَجُّهُ - أي بضمّها - وبَرّ الله حَجَّهُ، وأبرّه بِرًّا بالكسر، وإبرارًا. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: البرّ بالكسر: الخير والفضل، وبَرَّ الرجُلُ يَبَرُّ بِرًّا، وزانُ عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا، فهو بَرَّ بالفتح، وبارٌّ أيضًا: أي صادقٌ، أو تقيٌّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع الأوّل أبرار، وجمع الثاني بَرَرَةٌ، مثلُ كافرٍ وكَفَرَةٍ، ومنه قوله للمؤذّن:"صَدَقْتَ، وبَرِرْتَ"
(4)
أي صدّقتَ في دعواك إلى
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 483 وقال: صحيح الإسناد؛ إلا أنهما لم يحتجّا بأيوب بن سُويد، ولم يُخرجاه، وقال الذهبيّ: صحيح. انتهى.
لكن في سنده أيوب بن سُويد ضعفه الجمهور، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 3/ 207، وعزاه إلى الطبرانيّ في "الأوسط"، وقال: إسناده حسن. انتهى. وأخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 325 - 334) وفي سنده محمد بن ثابت البنانيّ، وهو ضعيف.
قال الجامع: تصحيح هذا الحديث، أو تحسينه محلّ نظر، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 401 - 403.
(3)
"النهاية" 1/ 117.
(4)
هذا يذكره الفقهاء أثرًا عند قول المؤذّن: "الصلاة خير من النوم"، ولا يصحّ فيه حديث، كما سيأتي إيضاحه في محلّه - إن شاء الله تعالى -.
الطاعات، وصِرْتَ بارًّا، دُعاءٌ له بذلك، ودعاء له بالقبول، والأصلُ: بَرَّ عَمَلُك، وبَرِرتُ والدي أَبَرُّهُ بِرًّا، وبُرُورًا: أحسنت الطاعة إليه، ورَفَقْتُ به، وتحرّيتُ مَحابّه، وتَوَقَيتُ مكارهه، وبَرَّ الحجُّ واليمينُ، والقول بِرًّا أيضًا، فهو بَرّ وبارّ أيضًا، ويُستَعْمَلُ متعدّيًا أيضًا في الحجّ، وبالحرف في اليمين والقول، فيقال: بَرَّ الله تعالى الحَجّ يَبَرُّهُ بُرُورًا: أي قَبِلَهُ، وبَرِرْتُ في القول واليمين أَبَرُّ فيهما بُرُورًا أيضًا: إذا صَدَقْتُ فيهما، فأنا بَرٌّ وبارٌّ، وفي لغة - يتعدّى بالهمزة، فيقال: أبرّ الله تعالى الحجَّ، وأبررتُ القولَ واليمينَ. انتهى
(1)
.
[فإن قلت]: قول من قال: "المبرور الْمُتَقَبَّل" فيه إشكال؛ إذ لا اطّلاع لأحد على القبول.
[أجيب]: بأنه يُعرف بعلاماته، فقد قيل: من علامات القبول الإتيان بجميع أركانه، وواجباته، مع إخلاص النيّة، واجتناب ما نُهي عنه، وأن يزداد بعده خيرًا، فيكون حاله أحسن مما كان قبله
(2)
، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ) يعني أن شيخه محمد بن جعفر خالف منصور بن أبي مُزاحم في سياق هذا الحديث فـ (قَالَ: "إِيمَانٌ بِاللهِ) تعالى (وَرَسُولِهِ") صلى الله عليه وسلم، فزاد "ورسوله"، هذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فلا اختلاف بين روايتيهما؛ لأن الإيمان بالله تعالى مستلزم للإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ووافق محمدًا على الزيادة أحمد بن يونس، وموسى بن إسماعيل عند البخاريّ، فقد رواه عنهما، عن إبراهيم بن سعد، بسند المصنّف، فقالا:"إيمان بالله ورسوله"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 43 - 44.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 75، و"عمدة القاري" 1/ 188، و"الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيّ 6/ 1938.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[38/ 255 و 256](83)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(26)، و"الحجّ"(1519)، و (الترمذيّ)(1658)، و (النسائيّ) في "المناسك"(5/ 113) و"الجهاد" 6/ 19 و"الإيمان وشرائعه"(8/ 93)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 264 و 268 و 287 و 330 و 348 و 388 و 531)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 201)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(175 و 176)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(248 و 249)، و (ابن منده) في "الإيمان"(227)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(153)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 157)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1840)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون الإيمان أفضل الأعمال.
2 -
(ومنها): أن الإيمان قول وعمل.
3 -
(ومنها): بيان أن نيل الدرجات تكون بالأعمال.
4 -
(ومنها): بيان أن أفضل الأعمال بعد الإيمان الجهاد في سبيل الله تعالى، وبعده الحجّ المبرور.
5 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله تعالى: في قوله صلى الله عليه وسلم: " إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم" تصريح بأن العمل يُطلق على الإيمان، والمراد به - والله أعلم - الإيمان الذي يُدخَل به في ملة الإسلام، وهو التصديق بقلبه، والنطق بالشهادتين، فالتصديق عمل القلب، والنطق عمل اللسان، ولا يدخل في الإيمان ها هنا الأعمال بسائر الجوارح؛ كالصوم، والصلاة، والحج، والجهاد، وغيرها؛ لكونه جُعِلَ قَسيمًا للجهاد والحج، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إيمان بالله ورسوله"، ولا يقال هذا في الأعمال، ولا يمنع هذا من تسمية الأعمال المذكورة إيمانًا، فقد قَدّمنا دلائله، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ
(1)
.
6 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الاهتمام بسؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم عما هو الأفضل، فالأفضل من الأعمال حتى يعملوا به، فينالوا الأجر الأعظم بذلك.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 78.
7 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة اهتمامه بتعليم أمته كلّ خير، وحثّها عليه.
8 -
(ومنها): أن هذا السؤال ليس مما يشمله النهي الوارد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الآية؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، متّفقٌ عليه؛ لأن هذا من مهمات أمور الدين، والنهي إنما ورد في السؤال الذي لا فائدة فيه، أو لا علاقة له بالدين، كسؤال من أبي؟، وأين أبي؟، وأين أنا أفي الجنّة، أم في النار؟، ونحو ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في التوفيق بين الأحاديث المختلفة في جواب السؤال عن أفضل الأعمال:
قال النوويّ رحمه الله تعالى: قد يُستَشكَل الجمع بينها، مع ما جاء في معناها من حيث إنه جَعَلَ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الأفضل الإيمان بالله، ثم الجهاد، ثم الحج، وفي حديث أبي ذَرّ رضي الله عنه الإيمان والجهاد، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه الصلاة، ثم بِرُّ الوالدين، ثم الجهاد، وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أيُّ الإسلام خير؟ قال:"تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عَرَفتَ ومن لم تعرف"، وفي حديث أبي موسى، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم: أيُّ المسلمين خير؟ قال: "مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده"، وصح في حديث عثمان رضي الله عنه:"خيرُكم مَن تَعَلَّم القرآن وعلمه"، وأمثالُ هذا في "الصحيح" كثيرة.
واختلف العلماء في الجمع بينها، فذكر الإمام الجليل، أبو عبد الله الْحَلِيميّ الشافعيّ عن شيخه الإمام العلامة المتقن، أبي بكر القَفّال الشاشيّ الكبير - وهو غير القَفّال الصغير المروزيّ المذكور في كتب متأخري أصحابنا الخراسانيين، قال الحليميّ: وكان القَفَّال أعلم مَن لقيته من علماء عصره - أنه جَمَعَ بينها بوجهين:
[أحدهما]: أن ذلك اختلاف جواب جَرَى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص، فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا، ولا يراد به خيرُ جميع الأشياء من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال،
أو نحو ذلك، واستشهد في ذلك بأخبار، منها: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حجةٌ لمن لم يَحُجَّ أفضل من أربعين غزوة، وغزوةٌ لمن حَجَّ أفضل من أربعين حجة"
(1)
.
[الوجه الثاني]: أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا، أو من خيرها، أو من خيركم مَن فَعَل كذا، فحُذِفت "مِنْ"، وهي مرادة، كما يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم، ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم.
ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُكم خيرُكم لأهله"
(2)
، ومعلوم أنه لا يصير ذلك خير الناس مطلقًا.
ومن ذلك قولهم: أزهد الناس في العالم جيرانه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه: هذا كلام القَفّال رحمه الله تعالى.
وعلى هذا الوجه الثاني يكون الإيمان أفضلها مطلقًا، والباقيات متساوية في كونها من أفضل الأعمال والأحوال، ثم يُعْرَف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها، وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
[فإن قيل]: فقد جاء في بعض هذه الروايات: أفضلها كذا، ثم كذا بحرف "ثم"، وهي موضوعة للترتيب.
[فالجواب]: أن "ثم" هنا للترتيب في الذكر، كما قال تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12 - 16]، ومعلوم أنه ليس
(1)
حديث ضعيف جدًّا، أخرجه أبو نُعيم في "الحلية" 5/ 188 من حديث ابن عمر مرفوعًا، وفي سنده محمد بن عمر الكلاعيّ، وهو منكر الحديث جدًّا، وفيه انقطاع أيضًا، وأخرجه البزار في "مسنده" 2/ 258 و 1651 من حديث ابن عباس مرفوعًا بنحوه، وفي سنده عنبسة بن هبيرة مجهول، وقد أجاد الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" 7/ 479 رقم (3481) فراجعه تستفد.
(2)
أخرجه الترمذيّ في "الجامع"(3895) بسند صحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وإذا مات صاحبكم فَدَعُوه"، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وأخرجه أبو داود في "سننه"(4253)، والدارميّ في "سننه"(216).
المراد هنا الترتيب في الفعل، وكما قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} [الأنعام: 151]، إلى قوله:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154]، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] الآية، ونظائر ذلك كثيرة، وأنشدوا فيه [من الخفيف]:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ
…
ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
وذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى في الجمع بينها وجهين:
[أحدهما]: نحو الأول من الوجهين اللذين حكيناهما، قال: قيل: اختَلَفَ الجواب؛ لاختلاف الأحوال، فأَعْلَمَ كُلَّ قوم بما بهم حاجة إليه، وترك ما لم تدع حاجتهم إليه، أو مما كان السائل علمه قبلُ، فأُعلِم بما تدعو الحاجة إليه، أو بما لم يُكَمّله بَعْدُ من دعائم الإسلام، ولا بَلَغَهُم عِلْمُه.
أوالثاني،: أنه قَدَّم الجهاد على الحج؛ لأنه كان أول الإسلام، ومحاربةِ أعدائه، والجدّ في إظهاره
(1)
.
وذكر صاحب "التحرير" هذا الوجه الثاني، ووجهًا آخر أَنّ "ثم" لا تقتضي ترتيبًا، وهذا قول شاذّ عند أهل العربية والأصول، ثم قال صاحب "التحرير": والصحيح أنه محمول على الجهاد في وقت الزَّحْفِ الْمُلْجِئ، والنفير العام، فإنه حينئذ يحب الجهاد على الجميع، وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض، والتقديم من الحجّ؛ لما في الجهاد من المصلحة العامة للمسلمين، مع أنه مُتعيِّنٌ مُتَضَيّق في هذا الحال، بخلاف الحجّ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر هذا الحديث أن الجهاد أفضل من سائر الأعمال بعد الإيمان، وظاهر حديث أبي ذرّ رضي الله عنه أن الجهاد مُساو للإيمان في الفضل، وظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه يخالفهما؛ لأنه أخّر الجهاد عن الصلاة، وعن برّ الوالدين، وليس هذا بتناقض؛ لأنه إنما اختلفت أجوبته لاختلاف أحوال السائلين، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجيب كلّ سائل بالأفضل
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 401.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 77 - 78.
في حقّه، وبالمتأكّد في حقّه، فمن كان متأهّلًا للجهاد، وراغبًا فيه كان الجهادُ في حقّه أفضل من الصلاة وغيرها، وقد يكون هذا الصالح للجهاد له أبوان يحتاجان إلى قيامه عليهما، ولو تركهما لضاعا، فيكون برّ الوالدين في حقّه أفضل من الجهاد، كما قد استأذن رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال:"أحيٌّ والداك؟ " قال: نعم، فقال:"ففيهما فجاهد"، متّفقٌ عليه، وهكذا سائر الأعمال، وقد يكون الجهاد في بعض الأوقات أفضل من سائر الأعمال، وذلك في وقت استيلاء العدوّ وغلبته على المسلمين، كحال هذا الزمان، فلا يخفى على من له أدنى بصيرة أن الجهاد اليوم أوكد الواجبات، وأفضل الأعمال؛ لِمَا أصاب المسلمين من قهر الأعداء، وكثرة الاستيلاء شرقًا وغربًا - جبر الله صدعنا، وجدّد نصرنا -.
والحاصل من هذا البحث أن تلك الأفضليّة تختلف بحسب الأشخاص والأحوال، ولا بُعد في ذلك، فأما تفصيل هذه القواعد من حيث هي، فعلى ما تقدّم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي قال فيه: "بني الإسلام على خمس
…
" الحديث، متّفق عليه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبى رحمه الله تعالى
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[256]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مثلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) الْقُشيريّ النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّي، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وعبد لقبه، ثقة حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
(1)
"المفهم" 1/ 275 - 176.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنّفٌ، يتشيّع، عَمِي فتغيّر [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(مَعْمَرٌ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18. وابن شهاب تقدّم في السند الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) إشارة إلى السند الذي قبله، وهو عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل الحديث الماضي.
[تنبيه]: رواية معمر هذه ساقها النسائيّ عن شيخ المصنّف، فقال:
(2624)
- أخبرنا محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: سأل رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال:"الإيمان بالله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم الحج المبرور"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم
الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[257]
(84) - (حَدَّثَني أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيه، عَنْ أَبِي مُرَاَوحٍ اللَّيْثِيّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الْأَعْمَالِ أفضَلُ؟ قَالَ:"الإيمانُ بِالله، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ"، قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أفضَلُ؟ قَالَ: "أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَكثَرُهَا ثَمَنًا"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أفعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ صَانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ:"تَكُفُّ شَرَّكَ عَن النَّاس، فَإنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) هو سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقة ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربّما دلّس [5](ت 145)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
5 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَام) بن ثعلب البزّار المقرئ البغداديّ، ثقة، له اختيارات في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
6 -
(أَبُو مُرَاوحٍ
(1)
اللَّيْثيِّ) ويقال: الغفاريّ المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبي ذر الغفاريّ، وأبي واقد الليثيّ، وحمزة بن عمرو الأسلميّ.
وروى زيد بن أسلم، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وعمران بن أبي أنس، والصحيح عمران بن أبي أنس، عن سليمان بن يسار، عنه.
قال العجليّ: مدني تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحاكم، أبو أحمد: يُعَدّ في النفر الذين وُلدوا في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمّاهم، وقال مسلم: اسمه سَعْد
(2)
.
وقال النوويّ في "شرحه": قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة، وليس يوقف له على اسم، واسمه كنيته، قال: إلا أن مسلم بن الحجاج ذكره في "الطبقات"، فقال: اسمه سَعْدٌ، وذكره في "الكنى"، ولم يذكر اسمه، ويقال في نسبه: الغفاريّ، ويقال: الليثيّ، قال أبو عليّ الْغَسّانيّ: هو الغفاريّ، ثم الليثيّ. انتهى
(3)
.
(1)
بضمّ الميم، وبالراء والحاء المهملة، والواو مكسورة.
(2)
"تهذيب التهذيب" 4/ 584.
(3)
"شرح مسلم" 2/ 76.
رَوَى له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه
(1)
، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث، وحديث (1121): "هي رخصةٌ من الله، فمن أخذ بها، فحسن
…
".
7 -
(أَبُو ذَرٍّ) اختُلِفَ في اسمه، فالأشهر جُنْدَب - بضم الدال وفتحها - ابن جُنَادة - بضم الجيم - وقيل: اسمه بُرَير - بضم الباء الموحدة، وبراءين مهملتين - والأول هو الأصحّ، الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (ت 32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب"(4/ 584 - 585) في ترجمة أبي مُراوح هذا ما نصّه: قال فيه أبو داود: إنه أبو مُراوح الليثيّ له صحبة، وذكره ابن منده في "الصحابة"، لكن سماه واقد بن أبي واقد، وعزاه لأبي داود، فالله تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع: هذا يخالف ما قاله في "الفتح"(5/ 177) حيث جزم بأنه غيره، ونصّه: وفي الصحابة أبو مُراوح الليثيّ غير هذا، سمّاه ابن منده واقدًا، وعزاه لأبي داود. انتهى.
وهذا هو الذي رجحه في الإصابة" (7/ 305) حيث قال: أبو مراوح الليثيّ، قال أبو داود: له صحبة، وذكره ابن منده، وعزاه لأبي داود، وسمّاه واقد بن أبي واقد، وهو غير أبي مُراوح الغفاريّ، فيُردّ على المزّيّ حيث قال في ترجمة الغفاريّ: الليثيّ، فجعلهما واحدًا. انتهى ما في "الإصابة".
قال الجامع: كونهما اثنين هو الذي يظهر لي، كما صرّح به الحافظ في "الفتح"، و"الإصابة"، وأما الردّ على المزيّ في قوله:"الليثيّ" فلا وجه له؛ لأنه يقال له: الليثيّ أيضًا، كما وقع التصريح به في رواية مسلم في هذا السند، ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج"(1/ 161) بلفظ "الغفاريّ" في الموضعين، وكذا وقع عند أبي عوانة في "مسنده"(1/ 65) في رواية حبيب مولى عروة الآتية، فتبيّن بهذا أنه ينسب إلى كليهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
قال في "تهذيب التهذيب": له عندهم حديثان.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجاله الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني تفرّد به هو، وأبو داود، وغير أبي مُراوح، فما أخرج له أبو داود والترمذيّ.
3 -
(ومنها): أن أبا ذرّ رضي الله عنه لا مشارك له في هذه الكنية، وقد اختُلف في اسمه واسم أبيه، والصحيح ما قدّمته، وكذلك أبو مُراوح لا يوجد له مشارك في هذه الكنية
(1)
، والصحيح أنه لا اسم له غيرها، وهذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، ويأتي في "كتاب الصيام"، وليس له غير هذين، كما أسلفته في ترجمته.
4 -
(ومنها): أن فيه شيخين للمصنّف، كالسند الماضي، وفيه كتابة (ح) وقد مرّ الكلام عليها.
5 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخيه، فبغداديّان.
6 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: هشام، عن أبيه، عن أبي مُراوح، ووقع في الإسناد التالي أربعة منهم يروي بعضهم عن بعض: الزهريّ، عن حبيب مولى عروة، عن عروة، عن أبي مُراوح.
7 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وأن عروة من الفقهاء السبعة، وفيه من صيغ الأداء التحديث، والعنعنة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُرَاوحٍ) بضم الميم، بعدها راء خفيفة، وكسر الواو، بعدها حاء مهملة (اللَّيْثِيِّ) ويقال أيضًا: الغفاريّ، قال في "الفتح": هو مدنيّ من كبار التابعين، لا يُعرف اسمه، وشذّ من قال: اسمه سعد، قال الحاكم أبو أحمد: أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وما له في البخاريّ سوى هذا الحديث. انتهى
(2)
.
(1)
وذكر في "الفتح" 5/ 177 ما نصّه: وفي الصحابة أبو مراوح الليثيّ غير هذا، سمّاه ابن منده واقدًا، وعزاه لأبي داود. انتهى، فهذا ليس في الكتب الستة، فلا يعارض ما ذكرناه، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 5/ 176.
قال الجامع: تقدّم أنه ليس له عند المصنّف سوى حديثين.
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه، ووقع عند أحمد في "مسنده" من طريق يحيى بن سعيد، حدثنا هشام، حدثني أبي، أن أبا مراوح الغفاريّ أخبره، أن أبا ذر أخبره، وكذا هو في رواية الإسماعيلي، وذكر الإسماعيلي عددًا كثيرًا نحو العشرين نفسًا رووه عن هشام بهذا الإسناد، وخالفهم مالك فأرسله في المشهور عنه، عن هشام، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورواه يحيى بن يحيى الليثيّ، وطائفة عنه، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، ورواه سعيد بن داود عنه، عن هشام، كرواية الجماعة، قال الدارقطنيّ: الرواية المرسلة عن مالك أصحّ، والمحفوظ عن هشام كما قال الجماعة. انتهى
(1)
.
(قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الْأَعْمَالِ أفضَلُ؟ قَالَ: "الإيمَانُ بِالله، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ") ولفظ البخاريّ: "إيمان بالله، وجهاد في سبيله"، والواو هنا بمعنى "ثمّ"، كما قاله ابن حبّان، رحمه الله تعالى.
وقال العينيّ رحمه الله تعالى: وإنما قرن الجهاد بالإيمان؛ لأنه كان عليهم أن يُجاهدوا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي الْعُليا، وكان الجهاد في ذلك الوقت أفضل الأعمال
(2)
.
(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (قُلْتُ: أَيُّ الرِّقّابِ أفضَلُ؟) أي للعتق، حتى يكون ثوابها أكثر عند الله تعالى، ولأبي عوانة في "مسنده":"فأيّ العتاقة أفضل؟ "(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْفَسُهَا) خبر لمحذوف، أي هي أنفسها (عِنْدَ أَهْلِهَا) أي أغبطها، وأجودها، وأرفعها عندهم، والمال النفيس: هو المرغوب فيه، قاله الأصمعيّ، وأصله من التنافس في الشيء الرفيع
(3)
، وإنما كان أنفسها أفضل؛ لأن عتق مثل ذلك ما يقع غالبًا إلا خالصًا، وهو كقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(4)
، (وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا") منصوب على التمييز، أي من حيث الثمن، وهذا تفسير لما وقع عند أكثر رواة البخاريّ بلفظ:"أعلاها ثمنًا" بالعين المهملة، وهي رواية النسائيّ أيضًا، وللكشميهنيّ: بالغين المعجمة، وكذا
(1)
"فتح" 5/ 177.
(2)
"عمدة القاري" 12/ 114.
(3)
"المفهم" 1/ 277.
(4)
"الفتح" 5/ 177.
للنسفيّ، وهي رواية أبي عوانة في "مسنده"، قال ابن قرقول: معناهما متقارب. انتهى. وعند أبي نعيم في "المستخرج": "أغلاها ثمنًا، وأنفعها عند أهلها".
وقال النووي رحمه الله تعالى: المراد به - والله أعلم - إذا أراد أن يُعتق رقبةً واحدةً، أما إذا كان معه ألفُ درهم، وأمكن أن يشتري بها رقبتين مفضولتين، أو رقبة نفيسة مثمنة، فالرقبتان أفضل، وهذا بخلاف الأضحية، فإن التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن، قال البغويّ من أصحابنا رحمه الله تعالى في "التهذيب" بعد أن ذكر هاتين المسألتين كما ذكرتُ: قال الشافعيّ رحمه الله تعالى: في الأضحية استكثارُ القيمة مع استقلال العدد أحبّ إليّ من استكثار العدد مع استقلال القيمة، وفي العتق استكثارُ العدد مع استقلال القيمة أحبّ إليّ من استكثار القيمة مع استقلال العدد؛ لأن المقصود من الأضحية اللحمُ، ولحمُ السمين أوفر وأطيب، والمقصود من العتق تكميلُ حال الشخص، وتخليصه من ذُلّ الرِّقّ، فتخليص جماعة أفضل من تخليص واحد، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" بعدما ذكر نحو هذا: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فربّ شخص واحد إذا أُعتق انتفع بالعتق، وانتفع به أضعاف ما يَحصُل من النفع بعتق أكثر عددًا منه، وربّ محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم.
فالضابط أن ما كان أكثر نفعًا كان أفضل، سواء قلّ أو كثر، واحْتُجّ به لمالك في أن عتق الرقبة الكافرة إذا كانت أغلى ثمنًا من المسلمة أفضل، وخالفه أصبغ وغيره، وقالوا: المراد بقوله: "أغلى ثمنًا" من المسلمين.
ويؤيّد ما قالوه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "أيما رجل أعتق امرءًا مسلمًا، استنقذ الله بكلّ عضو منه عضوًا منه من النار"، متّفقٌ عليه
(2)
.
قَالَ أبو ذرّ رضي الله عنه (قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أفعَلْ؟) أي لم أقدر عليه، ولا تيسّر لي؛ لأن المعلوم من أحوالهم أنهم لا يمتنعون من فعل مثل هذا إلا إذا تعذّر عليهم
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 79.
(2)
"الفتح" 5/ 177.
(3)
"المفهم" 1/ 277.
وفي رواية الإسماعيليّ: "أرأيتَ إن لم أفعل"، أي إن لم أقدر على ذلك، فأطلق الفعل، وأراد القدرة، ولأبي عوانة في "مسنده":"أفرأيت إن لم أجد"، ولأبي نعيم في "المستخرج":"أرأيت إن ضعفت"، وللدارقطنيّ في "الغرائب" بلفظ "فإن لم أستطع"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تُعِينُ) بضمّ أوله، من الإعانة رباعيًّا (صَانِعًا) قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: الرواية المشهورة بالضاد المعجمة وبالياء من تحتها، ورواه عبد الغافر الفارسيّ "صانعًا" بالصاد المهملة، والنون، وهو أحسن؛ لمقابلته لأخرق، وهو الذي لا يُحسن العمل. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وأما قوله: "صانعًا"، وفي الرواية الأخرى:"الصانع"، فرُوِيَ بالصاد المهملة فيهما وبالنون من الصَّنْعَة، ورُوي بالضاد المعجمة، وبهمزة بدل النون، تُكتَب ياءً من الضَّيَاع، والصحيح عند العلماء رواية الصاد المهملة، والأكثر في الرواية بالمعجمة:"فَتُعِين ضَائِعًا"
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: روايتنا في هذا الحديث من طريق هشام أوّلًا "ضائعًا" بالمعجمة، وبياء بعد الألف، وكذلك في الرواية الأخرى "فتعين الضائع" من جميع طُرُقنا عن مسلم، في حديث هشام والزهريّ، إلا من رواية أبي الفتح الشاسيّ، عن عبد الغافر الفارسي، فإن شيخنا أبا بَحْر حَدَّثَنَا عنه فيهما بالصاد المهملة، كما تقدّم، وهو صوابُ الكلام؛ لمقابلته بالأخرق، وإن كان المعنى من جهة معونة الضائع أيضًا صحيحًا، لكن صحت الرواية هنا عن هشام بالصاد المهملة، وكذلك رويناه في "صحيح البخاريّ".
قال ابن المدينيّ: الزهريّ يقول: "الصانع" بالصاد المهملة، وَيرَون أنّ هشامًا صَحَّفَ في قوله:"ضائعًا" بالمعجمة.
وقال الدارقطنيّ عن معمر: كان الزهريّ يقول: صَحَّفَ هشام، قال الدارقطنيّ: وكذلك رواه أصحاب هشام عنه بالضاد المعجمة، وهو تصحيف، والصواب ما قاله الزهريّ، وفي "الموطّا" من رواية التِّنِّيسيّ، وابن وهب، وغيرهما عن الزهريّ:"أن تصنع لضائع" بالمعجمة، وقد يُصحّح هذه الرواية
(1)
"المفهم" 1/ 277.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 75.
أيضًا قولُهُ في حديث أبي موسى: "وأَعِنْ ذا الحاجة". انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: قوله: في رواية هشام: "تُعِين صانعًا" هو بالمهملة والنون في أصل الحافظ أبي عامر العبدريّ، وأبي القاسم ابن عساكر، قال: وهذا هو الصحيح في نفس الأمر، ولكنه ليس رواية هشام بن عروة، إنما روايته بالمعجمة، وكذا جاء مقيدًا هذا الوجه في كتاب مسلم، في رواية هشام، وأما الرواية الأخرى عن الزهريّ:"فتُعِين الصانع"، فهي بالمهملة، وهي محفوظة عن الزهريّ كذلك، وكان يَنْسُبُ هشامًا إلى التصحيف، قال الشيخ: وذكر القاضي عياض أنه بالمعجمة في رواية الزهريّ لرواة كتاب مسلم، إلا رواية أبي الفتح السمرقنديّ، قال الشيخ: وليس الأمر على ما حكاه، في رواية أصولنا لكتاب مسلم، فكلها مُقَيَّدة في رواية الزهريّ بالمهملة على ما هو الصواب، والله تعالى أعلم. انتهى كلام ابن الصلاح رحمه الله تعالى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "تعين ضائعًا" بالضاد المعجمة، وبعد الألف تحتانية، لجميع الرواة في البخاريّ، كما جزم به عياض وغيره، وكذا هو في مسلم إلا في رواية السمرقنديّ، كما قاله عياض أيضًا، وجزم الدارقطنيّ وغيره بأن هشامًا رواه هكذا، دون من رواه عن أبيه، وقال أبو عليّ الصدفيّ، ونقلته من خطه: رواه هشام بن عروة بالضاد المعجمة والتحتانية، والصواب بالمهملة والنون، كما قال الزهريّ.
وإذا تقرر هذا فقد خَبَطَ من قال من شُرّاح البخاريّ: إنه رُوي بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه، ورَوَى الدارقطنّي من طريق معمر، عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة، قال معمر: كان الزهريّ يقول: صَحَّفَ هشام، وإنما هو بالصاد المهملة والنون، قال الدارقطنيّ: وهو الصواب؛ لمقابلته بالأخرق، وهو الذي ليس بصانع، ولا
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 405 - 406.
(2)
"الصيانة" ص 266 - 267، و"شرح النوويّ" 2/ 75.
يُحسن العمل، وقال علي بن المدينيّ: يقولون: إن هشامًا صَحَّف فيه. انتهى.
ورواية معمر عن الزهريّ عند مسلم كما تقدم، وهي بالمهملة والنون، وعكس السمرقنديّ فيها أيضًا، كما نقله عياض، وقد وُجِّهَت رواية هشام بأن المراد بالضائع ذو الضَّيَاع، من فَقْر أو عِيَال، فيرجع إلى معنى الأول. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
(أَوْ) الظاهر - والله أعلم - أنها للتنويع، لا للشكّ، أي تعين صانعًا، إن شئت، وإن شئت (تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ") بفتح الهمزة، وسكون الخاء المعجمة، بالراء والقاف: هو الذي ليس بصانع، يقال: رجلٌ أخرق، وامرأة خرقاء، لمن لا صنعة له، فإن كان صانعًا حاذقًا قيل: رجل صَنَع بفتح النون، وامرأة صَنَاعٌ بفتح الصاد، قاله النوويّ
(2)
.
وقال في "الصيانة": الأخرق ها هنا هو الذي لا يُحسن العمل، والأخرق أيضًا الذي لا رِفْقَ، ولا سياسة له في أمره، والمعنى: إذا رأيت من يُحاول عملًا، فإن كان يُحسنه فأعنه عليه، وإن لم يُحسن، فاعْمَلْه له. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قال أهل اللغة: رجل أخرق لا صنعة له، والجمع خُرْق بضم ثم سكون، وامرأة خرقاء كذلك، ورجل صانع وصَنَعٌ بفتحتين، وامرأة صَنَاعٌ بزيادة ألف. انتهى
(4)
.
وقال في "المفهم": الأخرق: هو الذي لا يُحسن العمل، يقال: رجل أخرق، وامرأةٌ خرقاء، وهو ضدّ الحاذق بالعمل، ويقال: رجلٌ صَنَعٌ، وامرأة صَنَاعٌ بألف بعد النون، قال أبو ذؤيب في المذكّر [من الكامل]:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا
…
دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وقال آخر في المؤنّث [من الطويل]:
صَنَاعٌ بِأَشْفَاهَا حَصَانٌ بِشَكْرِهَا
…
جَوَادٌ بِقُوتِ الْبَطْنِ وَالْعِرْقُ زَاخِرُ
(5)
(1)
"الفتح" 1/ 177 - 178.
(2)
"شرح مسلم" 2/ 75.
(3)
"صيانة صحيح مسلم" ص 266.
(4)
"فتح" 5/ 178.
(5)
البيت لأبي شهاب الهذلي يمدح هذه المرأة بالحذق والعفّة والجود والإيثار وعَرَاقة النسب.
و"الشَّكْرُ" بفتح الشين: الفرج، وبضمّها: الثناء بالمعروف
(1)
.
(قَالَ) أبو ذرّ رضي الله عنه (قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (إِنْ ضَعَفْتُ) بضمّ العين المهملة، وفتحها، من بابي كرُمَ، ونَصَرَ
(2)
(عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟) أي من الصناعة، أو الإعانة، أي فماذا أعمل (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("تَكُفُّ شَرَّكَ عَن النَّاسِ) أي تمنع وصول شرّك إليهم، يقال: كفّ عن الشيء يكفّ بضمّ الكاف كفًّا، من باب نصر: تركه، وكفَفْتُهُ كَفًّا: منعته، فَكَفَّ هو، يتعدَّى، ولا يتعدّى
(3)
.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: فيه دليل على أن الكفّ عن الشرّ داخل في فعل الإنسان وكسبه، ويؤجرُ عليه، ويُعاقب على تركه؛ خلافًا لبعض الأصوليين القائل: إن الترك نفيٌ محضٌ، لا يدخل تحت التكليف ولا الكسب، وهو قولٌ باطلٌ بما ذكرناه هنا، وبما بسطناه في الأصول، غير أن الثواب لا يحصل على الكف إلا مع النية والقصد، وأما مع الغفلة والذهول فلا. انتهى
(4)
.
(فَإِنَّهَا) أي فإن الخصلة التي هي كفّ الشرّ، وقال الطيبي: الضمير للمصدر الذي دلّ عليه الفعل، وأنّثه لتأنيث الخبر. انتهى
(5)
. (صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ") ولفظ البخاريّ: "تَصَدَّق بها على نفسك"، وهو: بفتح التاء والصاد المهملة الخفيفة، على حذف إحدى التاءين، والأصل تتصدق، ويجوز تشديدها على الإدغام، أي تتصدّق بهذه الصدقة على نفسك، أي تحفظها عما يُرديها، ويعود وباله عليها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 403 - 404، و"المفهم" 1/ 277.
(2)
"القاموس" ص 747.
(3)
راجع: "المصباح" 2/ 536.
(4)
"المفهم" 1/ 278.
(5)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2425.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[38/ 257 و 258](84)، و (البخاريّ) في "العتق "(2518)، و (النسائيّ) في "الجهاد"(3130)، وفي "العتق" من "الكبرى"(4337)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2523)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(20298 و 20299)، و (الحميديّ) في "مسنده"(131)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 150 و 163)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 307)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(178 و 179 و 180 و 181)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(250 و 251)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 273 و 9/ 272 و 10/ 273)، و (ابن منده) في "الإيمان"(232 و 233)، و (ابن الجارود)(969)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2418)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون الإيمان أفضل الأعمال على الإطلاق.
2 -
(ومنها): بيان كون الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان، قال الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى: الواو في حديث أبي ذر رضي الله عنه هذا بمعنى "ثُمّ"، وهو كذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أي المتقدم قبل هذا، وقد تقدم الكلام فيه على طريق الجمع بين ما اختلف من الروايات في أفضل الأعمال هناك، وقيل: قَرَن الجهاد بالإيمان هنا؛ لأنه كان إذ ذاك أفضل الأعمال، وقال القرطبيّ: تفضيل الجهاد في حال تعيّنه، وفضل بر الوالدين لمن يكون له أبوان، فلا يجاهد إلا بإذنهما، وحاصله أن الأجوبة اختَلَفَت باختلاف أحوال السائلين.
3 -
(ومنها): أن فيه حسنَ المراجعة في السؤال، وصبر المفتي والمعلم على التلميذ، ورفقه به، وقد رَوَى ابن حبان، والطبريّ، وغيرهما من طريق أبي إدريس الخولاني وغيره، عن أبي ذرّ رضي الله عنه حدَّثنا حديثًا طويلًا، فيه أسئلة كثيرة وأجوبتها، تشتمل على فوائد كثيرة، منها سؤاله عن أيّ المؤمنين أكمل، وأيّ المسلمين أسلم، وأيّ الهجرة والجهاد والصدقة والصلاة أفضل، وفيه ذكر الأنبياء وعددهم، وما أنزل عليهم، وآداب كثيرة من أوامر ونواهي وغير ذلك.
4 -
(ومنها): بيان تفاضل الأعمال الصالحات فيما بينها، فبعضها لا يوازيه شيء، كالإيمان.
5 -
(ومنها): ما قاله ابن الْمُنَيِّر: وفي الحديث إشارة إلى أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع؛ لأن غير الصانع مَظِنَّة الإعانة، فكل أحد يُعينه غالبًا، بخلاف الصانع، فإنه لشهرته بصنعته يَغْفُل عن إعانته، فهي من جنس الصدقة على المستور. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[258]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ، مَوْلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ أَبِي مُرَاوحٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِه، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "فَتُعِينُ الصَّانِعَ، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة، وكلهم تقدّموا في الإسنادين الماضيين، غير:
1 -
(حَبِيبٍ، مَوْلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) هو: حبيبٌ الأعور المدنيّ، مقبول [3].
رَوَى عن عروة بن الزبير، وعن أمه أسماء بنت أبي بكر، ونَدَبة مولاة ميمونة.
ورَوَى عنه الزهريّ، وعبد الواحد بن ميمون، مولى عروة، وأبو الأسود يتيم عروة، وعبيد الله بن عروة، والضحاك بن عثمان.
قال ابن سعد: مات قديمًا في آخر سلطان بني أمية، وكان قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، قال: وإن لم يكن هو ابن هند بن أسماء، فلا أدري من هو؟.
روى له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
وقوله: (بِنَحْوِهِ) بنحو حديث هشام (غَيْرَ أنَّهُ قَالَ) يعني أن الزهري قال في روايته بدل قول هشام: "فتعين صانعًا، أو تصنع لأخرق"("فَتُعِينُ الصَّانِعَ، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ) فذكر "الصانع" معرّفًا.
(1)
راجع: "الفتح" 5/ 178.
[تنبيه]: روايةُ الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(20524)
- حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن حبيب مولى عروة بن الزبير، عن عروة، عن أبي مُراوح الغِفَاريّ، عن أبي ذرّ، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال:"إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله"، فقال: أيُّ الْعَتَاقة أفضل؟ قال: "أَنْفَسُها"، قال: أفرأيتَ إن لم أجد؟ قال: "فتعين الصانع، أو تصنع لأخرق"، قال: أفرأيتَ إن لم أستطع؟ قال: "فَدَعِ الناس من شرّك، فإنها صدقة، تَصَدَّق بها عن نفسك"
(1)
، وكذا ساق هذه الرواية أبو عوانة في "مسنده" (180) إلا أنه وقع عنده:"فتُعين الضائع" بالضاد المعجمة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[259]
(85) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَن الشَّيْبَانِيِّ، عَن الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِيَاسٍ، أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أفضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا"، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"، فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور أول الباب.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القُرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعدما أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(الشَّيْبَانِيُّ) هو: سليمان بن أبي سليمان، واسمه فَيْرُوز، ويقال:
(1)
أي على نفسك، فـ "عن" بمعنى "على"، ووقع في "مصنّف عبد الرزاق" رقم (2098) بلفظ:"على نفسك".
خاقان، ويقال: عمرو أبو إسحاق الشيبانيّ مولاهم الكوفي، وقيل: مولى ابن عباس، والأول أصح، ثقة، [5].
رَوَى عن عبد الله بن أبي أوفى، وزِرَ بن حُبَيش، وأشعث بن أبي الشعثاء، وبكير بن الأخنس، وجَبَلَة بن سُحَيم، وحبيب بن أبي ثابت، وأبي بردة بن أبي موسى، وابنه سعيد بن أبي بردة، وأبي الزناد، وعبد الله بن شداد بن الهاد، والوليد بن العيزار، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه إسحاق، وأبو إسحاق السبيعي، وهو أكبر منه، وعاصم الأحول، وهو من أقرانه، وإبراهيم بن طهمان، وأبو إسحاق الفزاريّ، والثوريّ، وشعبة، والمسعوديّ، وعبد الواحد بن زياد، وهشيم، وأبو بكر، والحسن ابنا عَيّاش، وحفص بن غياث، وابن عيينة، وابن إدريس، وعباد بن العوام، وخالد بن عبد الله، وعليّ بن مُسْهِر، والعوّام بن حَوْشَب، ومحمد بن فُضيل، وأبو عوانة، وأسباط بن محمد، وجعفر بن عون، وهو خاتمة أصحابه.
قال الْجُوزَجانيّ: رأيت أحمد يُعجبه حديث الشيباني، وقال: هو أهل أن لا نَدَعَ له شيئًا، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقة حجة، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق صالح الحديث، وقال النسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: كان ثقة، من كبار أصحاب الشعبيّ، وقال ابن أبي خيثمة: ثنا الأخنسيّ، سمعت أبا بكر بن عياش يقول: كان الشيبانيّ فقيه الحديث، وقال ابن عبد البر: هو ثقة حجة عند جميعهم، وحَكَى الخطيب في "المتفق" أن اسم أبيه مِهْرَان.
وقال يحيى بن بكير: مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقال عمرو بن عليّ: مات سنة (38)، وقال ابن نُمَير: مات سنة (39)، وقال البخاريّ: مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتب (34) حديثًا.
4 -
(الْوَلِيدُ بْنُ الْعَيْزَار) بن حُرَيث العبديّ الكوفيّ، ثقة [5].
رَوَى عن أبيه، وأنس، وعكرمة، وأبي عمرو الشيبانيّ.
ورَوَى عنه يونس بن أبي إسحاق، وأبو يعفور الصغير، ومالك بن مِغْوَل، وإسرائيل، والمسعوديّ، وشعبة، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو حاتم: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: كوفي ثقة.
أخرج له الجماعة، سوى أبي داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتب هذا الحديث فقط، كرره أربع مرّات.
5 -
(سَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ، أَبو عَمْرٍو الشَّيْبَانِي) الكوفيّ، ثقةٌ مخضرَمٌ [2]، مات سنة (98)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 469.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) بن غافل بن حَبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن، الصحابيّ المشهور رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله تعالى.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فما أخرج له ابن ماجه، وغير الوليد بن العيزار، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين.
4 -
(ومنها): أن فيه التحديث، والعنعنة، والسؤال.
5 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: الشيبانيّ، عن الوليد، عن أبي عمرو الشيبانيّ، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة.
6 -
(ومنها): أن الوليد بن الْعَيْزار روى عن الشيباني، وروى عنه الشيبانيّ، وهذا مما يُعتنى بمعرفته، فقد ذكره المحدّثون في كتب مصطلح الحديث، ونبّهوا على أن معرفته مهمّة؛ لكونه مما يوهم وقوع القلب والتكرار في السند، فقال السيوطيّ في "ألفية الحديث":
أَوْ شَيْخَهُ وَالرَّاوِي عَنْهُ الْجَارِي
…
يَرْفَعُ وَهْمَ الْقَلْبِ وَالتَّكْرَارِ
مِثْلُ الْبُخَارِي رَاوِيا عَنْ مُسْلِمِ
…
وَمُسْلِمٌ رَوَى عَنْهُ فَقَسِّمِ
وَفِي "الصَّحِيحِ" قَدْ رَوَى الشَّيْبَانِي
…
عَنِ ابْنِ عَيْزَارٍ عَنِ الشَّيْبَانِي
فمسلم شيخ البخاريّ، فهو مسلم بن إبراهيم الأزديّ الفراهيديّ البصريّ،
ومسلم الراوي عن البخاريّ، فهو صاحب "الصحيح"، و"الشيبانيّ" الأول، هو سليمان بن فيروز، والثاني سعد بن إياس، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن أبا عمرو الشيبانيّ مخضرم، معمّر عاش مائة وعشرين سنة، قال الإمام ابن حبّان رحمه الله تعالى في "صحيحه" عقب هذا الحديث: أبو عمرو الشيباني كان من المخضرمين، والرجل إذا كان في الكفر ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، يُدعَى مخضرمًا. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد السابقين إلى الإسلام، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وممن كان مشهورًا بتجويد القرآن، أثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن زِرّ بن حُبيش، عن عبد الله بن مسعود أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهم بَشّراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب أن يقرأ القرآن غَضًّا كَما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، وفي "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا القرآن من أربعة
…
"، فذكره فيهم، وفيهما أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "اقرأ عليّ، فقرأ عليه سورة النساء
…
"، وكان رضي الله عنه صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعله، وطهوره ووساده في سفره صلى الله عليه وسلم، ومناقبه رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَألتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إنما سأل رضي الله عنه عن أفضل الأعمال؛ طلبًا لمعرفة ما ينبغي تقديمه منها، وحرصًا على علم الأصل؛ ليتأكّد القصد إليه، وتشتدّ المحافظة عليه، قاله ابن دقيق العيد
(2)
. (أَيُّ الْعَمَلِ أفضَلُ؟) وفي رواية أبي يعفور التالية: "قلت: يا نبيّ الله أيُّ الأعمال أقرب إلى الجنّة؟ "، وفي رواية شعبة الآتية:"أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ "، و"أي العمل أحب إلى الله"، وعزا في "الفتح" الرواية الأولى لأكثر الرواة، قال: فإن كان هذا اللفظ هو المسؤول به، فلفظ حديث الباب - يعني لفظ:"أيّ العمل أحبّ إلى الله" - ملزوم عنه.
(1)
"صحيح ابن حبان" بترتيب ابن بلبان 4/ 341 - 342 رقم الحديث (1477).
(2)
"إحكام الأحكام" بنسخة الحاشية 2/ 6 - 7.
قال: ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره مما اختلفت فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبةٌ، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال؛ لأنه الوسيلة إلى القيام بها، والتمكن من أدائها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل، أو أن لفظ أفضل ليست على بابها، بل المراد بها الفضل المطلق، أو المراد: من أفضل الأعمال، فحذفت "من"، وهي مرادة.
وقال ابن دقيق العيد: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان؛ لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذٍ بينه وبين حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أفضل الأعمال إيمان بالله
…
" الحديث.
وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين؛ لأنه يتوقف على إذن الوالدين، فيكون برّهما مقدمًا عليه. انتهى
(1)
.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: "الأعمال" هنا لعلها محمولة على الأعمال البدنيّة، كما قال الفقهاء: أفضل عبادات البدن الصلاة، واحترزوا بذلك عن عبادة المال، وقد تقدّم لنا كلام في العمل، هل يتناول عمل القلب، أم لا؛، فإذا جعلناه مخصوصًا بأعمال البدن تبيّن من هذا الحديث أنه لم يُرد أعمال القلوب، فإن من عملها ما هو أفضل كالإيمان، وقد ورد في بعض الأحاديث
(2)
ذكره مصرّحًا به - أعني الإيمان - فتبيّن بذلك الحديث أنه أريد بالأعمال ما يدخل فيه أعمال القلوب، وأريد بها في هذا الحديث ما يختصّ بعمل الجوارح. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 2/ 13.
(2)
هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم أول الباب، وهو متّفقٌ عليه.
(3)
"إحكام الأحكام" بنسخة الحاشية 2/ 7 - 8.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (الصَّلَاةُ) مبتدأ حُذف خبره؛ لدلالة السؤال عليه، كما قال في "الخلاصة":
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا
…
تَقُولُ "زَيْدٌ" بَعْدَ "مَنْ عِنْدَكُمَا؟ "
أي أفضل العمل إلى الله تعالى الصلاة لوقتها.
وقوله: (لِوَقْتِهَا") قال القرطبيّ: هذه اللام للتأقيت، كما قال تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، أي عند ذلك، كما قال في الرواية الآتية:"الصلاة على مواقيتها". انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ: اللام فيه مثلها في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أي مستقبلات لعدّتهنّ، وقولك: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبل الثلاث، وليست كما في قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، و {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] بمعنى الوقت؛ لئلا يتكرّر الوقت. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أراد الطيبيّ بكلامه هذا الردّ على قول القرطبيّ السابق من أن اللام للتوقيت، وأجاد في ذلك، ولكنه حملها على معنى فاسد؛ لأنه يؤدّي إلى أن يكون المراد إيقاع الصلاة قبل الوقت؛ لأن هذا هو معنى الآية التي مثّل بها؛ فإن تطليق المرأة لا يكون إلا قبل وقت العدّة، وهذا في الصلاة معنى فاسد، فالأولى أن تكون اللام بمعنى "في"، أي في وقتها، أو بمعنى "على"، كما هو الرواية الآتية، وهو راجع إلى معنى "في"، فتأمّله بإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال ابن بطال رحمه الله تعالى: فيه أن البِدَار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها؛ لأنه إنما شُرِط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب.
قال الحافظ: وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر، قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أوّلًا ولا آخرًا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاءً.
(1)
"المفهم" 1/ 278 - 279.
(2)
"الكاشف" 3/ 866 - 867.
وتُعُقِّب بأن إخراجها عن وقتها مُحَرَّم، ولفظ "أحب" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت.
وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله تعالى من غيرها من الأعمال، فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور، كالنائم، والناسي، فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال، مع كونه محبوبًا، لكن إيقاعها في الوقت أحب.
[تنبيه]: اتفق أصحاب شعبة على اللفظ المذكور في الباب، وهو قوله:"على وقتها"، وخالفهم عليّ بن حفص، وهو شيخ صدوق، من رجال مسلم، فقال:"الصلاة في أول وقتها"، أخرجه الحاكم، والدارقطنيّ، والبيهقيّ من طريقه. قال الدارقطنيّ: ما أحسبه حفظه؛ لأنه كَبِر وتغير حفظه.
قال الحافظ: ورواه الحسن بن عليّ المعمريّ في "اليوم والليلة" عن أبي موسى، محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة كذلك، قال الدارقطنيّ: تفرد به المعمريّ، فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه، بلفظ:"على وقتها"، ثم أخرجه الدارقطنيّ عن المحامليّ، عن أبي موسى، كرواية الجماعة، وهكذا رواه أصحاب غندر عنه، والظاهر أن المعمريّ وَهِمَ فيه؛ لأنه كان يُحَدِّث من حفظه.
وقد أطلق النووي في "شرح المهذّب" أن رواية: "في أول وقتها" ضعيفة انتهى.
لكن لها طريق أخرى، أخرجها ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم وغيرهما، من طريق عثمان بن عُمر، عن مالك بن مِغْوَل، عن الوليد، وتفرد عثمان بذلك، والمعروف عن مالك بن مِغْول كرواية الجماعة، كذا أخرجه البخاريّ وغيره، وكأنّ مَن رواها كذلك ظَنَّ أن المعنى واحد.
ويمكن أن يكون أخذه من لفظة "على"؛ لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت، فيتعين أوله. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 2/ 13 - 14.
[تنبيه آخر]: أخرج الإمام الترمذيّ رحمه الله تعالى في "جامعه"، فقال: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يعقوب بن الوليد المدنيّ، عن عبد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الآخر عفو الله".
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. انتهى، وقال ابن حبّان في "كتاب الضعفاء": تفرّد به يعقوب بن الوليد، وكان يضع الحديث، وقال أبو حاتم الرازيّ: هو موضوع، وقال الميمونيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: لا أعرف شيئًا يثبُتُ في أوقات الصلاة أولها كذا، وآخرها كذا، يعني مغفرة ورضوانًا. انتهى
(1)
.
(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟) قال الفاكهانيّ: إنه غير مُنَوَّنٍ؛ لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفةً لطيفةً، ثم يؤتى بما بعده.
وقال ابن الجوزيّ: في هذا الحديث "أيّ" غير مشدّد منوّنٌ، كذلك سمعتُ من ابن الخشاب، وقال: لا يجوز إلا تنوينه؛ لأنه معربٌ غير مضاف.
وتُعُقِّب بأنه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف لفظًا، والتقدير: ثم أيّ العمل أحبّ؟، فيوقف عليه بلا تنوين.
وقال العينيّ: قال النحاة: إن أيّا الموصولة، والشرطيّة، والاستفهاميّة معربة دائمًا، فإذا كانت "أيّ" هذه معربةً عند الإفراد، فكيف يقال: إنها مبنيّة عند الإضافة؟، ولَمّا نَقَل عن سيبويه هذا أنكر عليه الزجّاج، فقال: ما تبيّن لي أن سيبويه غلط إلا في موضعين: هذا أحدهما، فإنه يسلّم أنها تُعرب إذا أُفردت، فكيف يقول ببنائها إذا أُضيفت؟. انتهى
(2)
.
وإلى حالة بناء "أَيّ" الموصولة أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
"أَيٌّ" كـ"مَا" وَأُعْرِبَتْ مَا لَمْ تُضَفْ
…
وَصَدْرُ وَصْلِهَا ضَمِيرٌ انْحَذَفْ
وَبَعْضُهُمْ أَعْرَبَ مُطْلَقَا وَفِي
…
ذَا الْحَذْفِ "أَيًّا" غَيْرُ "أَيٍّ" يَقْتَفِي
(1)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 21.
(2)
"عمدة القاري" 5/ 20.
وأشار إلى لزوم إضافتها بقوله:
وَلَا تضِفْ لِمُفْرَدٍ مُعَرَّفِ
…
"أَيًّا" وَإِنْ كَرَّرْتَهَا فَأَضِفِ
أَوْ تَنْوِ الاجْزَا وَاخْصُصنْ بِالْمَعْرِفَهْ
…
مَوْصُولَةً "أَيًّا" وَبِالْعَكْسِ الصِّفَهْ
وَإِنْ تَكُنْ شَرْطًا أَوِ اسْتِفْهَامَا
…
فَمُطْلَقًا كَمِّلْ بِهَا الْكَلَامَا
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("بِرُّ الْوَالِدَيْنِ") إعرابه كسابقه، وفي رواية عند البخاريّ:"ثم برّ الوالدين" بزيادة "ثُمّ"، و"البِرِّ" بكسر الباء: الإحسان، قال أهل اللغة: يقال: بَرِرْتُ والدي بكسر الراء، أَبَرُّه بضمها، مع فتح الباء بِرًّا، وأنا بَرٌّ به، بفتح الباء، وبارّ، وجمع البَرّ الأَبْرَار، وجمع البارّ الْبَرَرَة.
فمعنى بِرّ الوالدين: الإحسان إليهما، وفِعْلُ الجميل معهما، وفِعْلُ ما يَسُرُّهما، ويَدْخُل فيه الإحسان إلى صديقهما، كما جاء في "الصحيح":"إنّ من أَبَرِّ الْبِرّ أن يَصِلَ الرجلُ أهلَ وُدّ أبيه"، وضد الْبِرّ العقوق، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا تفسيره، قاله النوويّ
(1)
.
وقال القرطبيّ: معنى برّ الوالدين: هو القيام بحقوقهما، والتزام طاعتهما، والرفق بهما، والتذلّل لهما، ومراعاة الأدب معهما في حياتهما، والترحّم عليهما، والاستغفار لهما بعد موتهما، وإيصال ما أمكنه من الخير والأجر لهما. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال بعضهم: هذا الحديث موافق لقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وكأنه أخذه من تفسير ابن عيينة حيث قال: مَن صلَّى الصلوات الخمس، فقد شكر لله، ومن دعا لوالديه عقبها، فقد شكر لهما. انتهى
(3)
.
(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ") أي محاربة الكفّار؛ لإعلاء كلمة الله عز وجل، وإظهار شعائر الإسلام بالنفس والمال.
قال ابن مسعود رضي الله عنه (فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ) قال النوويّ رحمه الله تعالى:
(1)
"شرح مسلم" 2/ 76.
(2)
"المفهم" 1/ 279.
(3)
"الفتح" 2/ 14.
كذا هو في الأصول: "تركتُ أستزيده" من غير لفظ "أَنْ" بينهما، وهو صحيح، وهي مرادة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حذف "أن" ورفع الفعل واقع في فصيح الكلام، كما هو مذهب الأخفش من النحاة، وهو ظاهر مذهب ابن مالك في "شرح التسهيل"
(2)
، وليس شاذًّا، كما ادّعاه بعض النحاة، ومن ذلك قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] الآية؛ إذ تقديره: "أن يريكم
…
إلخ"، وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] الآية، أي أن أعبد، وقولهم: "تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه"، أي أن تسمع، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله تعالى في "الخلاصة" بقوله:
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
فقوله: "وشذّ
…
إلخ " إشارة أنه إنما يكون شاذًّا إذا نُصب الفعل بعد حذفها، وأما إذا رُفع كهذه الأمثلة فلا شذوذ، وهذا هو الأصحّ، فقول بعض النحاة: إنه شاذّ مع الرفع مردود بالآيتين السابقتين، وحديث الباب، ونحو ذلك من الأمثلة، فتفطّن، فإنه مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ) بكسر الهمزة، إسكان الراء، وبالعين المهملة، والمدّ في آخره: أي إلَّا إبقاءً عليه، ورفقًا به؛ كي لا أُكثر عليه، فأُحرجه، وأنتقص من حُرمته، قال صاحب "الأفعال"
(3)
: الإرعاء: الإبقاء على الإنسان، ففيه من الفقه احترام العالم والفاضل، ورعاية الأدب معه، وإن وَثقَ بحلمه وصَفْحِه، قاله القرطبيّ
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 76.
(2)
راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 183.
(3)
هو: علي بن جعفر المعروف بابن القطّاع، عالم بالأدب واللغة، تُوفّي سنة (515 هـ).
(4)
"المفهم" 2/ 279.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[38/ 259 و 260 و 261 و 262 و 263](85)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(527)، و"الجهاد والسير"(2782)، و"الأدب"(5970)، و"التوحيد"(7534)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(173)، و"البرّ والصلة"(1898)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(610 و 611)، وفي "الكبرى"(1580)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(372)، و (الحميديّ) في "مسنده"(103)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 316)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 409 و 410 و 421 و 451)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 278)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(182 و 183 و 184 و 185 و 186)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(252 و 253 و 254 و 255 و 256 و 257)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(327) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1474 و 1475 و 1476 و 1477 و 1478 و 1479)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 188 و 189)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(1/ 246)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 215)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 28)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون الصلاة من أفضل الأعمال، وأنها شعبة من شُعَب الإيمان، وهذا هو وجه إيراد المصنّف لهذا الحديث هنا؛ ليبيّن أن الأعمال من الإيمان ردًّا على المرجئة الذين يقولون: إنه مجرّد تصديق، وهو مذهب باطلٌ منابذٌ لنصوص الكتاب والسنّة.
2 -
(ومنها): بيان فضل برّ الوالدين، وتعظيمهما، والقيام بحقوقهما.
3 -
(ومنها): بيان أن أعمال البر تتفاضل فيما بينها، فيكون بعضها أكثر ثوابًا.
4 -
(ومنها): أن فيه مشروعيّة السؤال عن مسائل شَتّى في وقت واحد.
5 -
(ومنها): الرفق بالعالم، والتوقف عن الإكثار عليه؛ خشيةَ مَلاله.
6 -
(ومنها): ما كان هو عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسن إرشاد المسترشدين، ولو شَقّ عليه.
7 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم، والشفقة عليه.
8 -
(ومنها): ما قاله ابن بزيزة رحمه الله تعالى: الذي يقتضية النظر
تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن؛ لأن فيه بذلَ النفس، إلَّا أن الصبر على المحافظة على الصلوات، وأدائها في أوقاتها، والمحافظة على بِرّ الوالدين أمر لازم متكرر دائم، لا يصبر على مراقبة أمر الله فيه إلَّا الصديقون.
9 -
(ومنها): ما قيل: الحكمة في تخصيص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر، أن هذه الأشياء الثلاثة أفضل الأعمال بعد الإيمان؛ وأنها عنوان لغيرها من أنواع البرّ والطاعة، فمن حافظ عليها، حافظ على ما سواها، ومن ضيّعها كان لما سواها أضيع، فإنّ من ضيّع الصلاة التي هي عماد الدين مع العلم بفضيلتها كان لغيرها من أمر الدين أشدّ تضييعًا، وأشدّ تهاونًا واستخفافًا، وكذا من ترك برّ والديه مع علمه بكونهما أشدّ الناس حقوقًا عليه، كان لحقوق غيرهما من الناس أشدّ تركًا، وكذا من ترك الجهاد مع علمه بفضله، وقدرته عليه عند تعيّنه، فهو لغيره من الأعمال التي يُتقرّب بها إلى الله تعالى أشدّ تركًا، والله تعالى أعلم
(1)
.
10 -
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: دلّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا على أن أفضل الأعمال، وأقربها إلى الله، وأحبها إليه الصلاة على مواقيتها المؤقّتة لها، وقد روي في هذا الحديث زيادة، وهي:"الصلاة على أول وقتها"، وقد خَرَّجها ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما"، والحاكم، والدارقطنيّ من طرق متعدّدة، ورُويت من حديث عثمان بن عمر، عن مالك بن مِغْول، ومن حديث عليّ بن حفص المدائنيّ، عن شعبة، ورُويت عن شعبة من وجه آخر، وفيه نظر، ورُويت من وجوه أُخر. واستُدل بذلك على أن الصلاة في أول الوقت أفضل كما استُدل بحديث أم فروة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أيّ العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لأول وقتها"، خرّجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وفي إسناده اضطراب، قاله الترمذيّ، والْعُقيليّ، وقد روي نحوه من حديث ابن عمر، إلَّا أن إسناده وَهَمٌ، وإنما هو حديث أم فروة، قاله الدارقطنيّ في "العلل"، وروي نحوه من حديث الشِّفَاء بنت عبد الله.
وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الصلاة" على وقتها"، أو "على مواقيتها" دليل أيضًا
(1)
راجع: "عمدة القاري" 5/ 20.
على فضل أول الوقت للصلاة؛ لأن "على" للظرفيّة، كقولهم: كان كذا على عهد فلان، والأفعال الواقعة في الأزمان المتّسعة عنها لا تستقرّ فيها، بل تقع في جزء منها، لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت، فقد صار الوقت كلّه ظرفًا لها حكمًا، ولهذا يُسمّى المصلّي مصلّيًا في حال صلاته، وبعدها، إما حقيقةً، أو مجازًا على اختلاف في ذلك، وأما قبل الفعل في الوقت، فليس بمصلّ حقيقةً، ولا حكمًا، وإنما هو مصلّ بمعنى استباحة الصلاة فقط، فإذا صلّى في أول الوقت
(1)
، فإنه لَمْ يُسمّ مصليًا إلَّا في آخر الوقت.
وقوله: "ثم برّ الوالدين" لَمّا كان ابن مسعود رضي الله عنه له أمّ احتاج إلى ذكر برّ والديه بعد الصلاة؛ لأن الصلاة حقّ الله، وحقّ الوالدين متعقّب لحقّ الله عز وجل كما قال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].
وقوله: "ثم الجهاد في سبيل الله"؛ لأن الجهاد فرض كفاية، والدخول فيه بعد قيام من سَقَط به حقّ فرض الكفاية تطوّعٌ إذا لَمْ يتعيّن بحضور العدوّ، ولهذا تقدّم برّ الوالدين على الجهاد، إذا لَمْ يتعيّن، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن أراد الجهاد معه:"ألك والدان؟ " قال: نعم، قال:"ففيهما فجاهد"، رواه البخاريّ، وفي رواية: فأمره أن يرجع إليهما، رواه أبو داود.
فذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه أن أفضل الأعمال القيام بحقوق الله تعالى التي فرضها على عباده، وأفضلها الصلاة لوقتها، ثم القيام بحقوق عباده، وآكده برّ الوالدين، ثم التطوّع بأعمال البرّ، وأفضلها الجهاد في سبيل الله، وهذا مما يَستدلّ به الإمام أحمد، ومن وافقه على أن أفضل أعمال التطوّع الجهادُ. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى
(2)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في إتمام البحث في اختلاف الروايات في أفضل الأعمال:
(اعلم): أنه قد تقدّم هذا البحث مستوفًى، ولكن رأيت لبعض المحقّقين
(1)
هكذا النسخة "في أول الوقت" فليُنظر.
(2)
"شرح البخاريّ" للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى 4/ 208 - 210.
تحقيقًا نفيسًا مكمّلًا لما سبق، فأحببت إيراده، وإن كان فيه طولٌ؛ لأن الكتاب إنما وُضع لاستيفاء البحوث العلميّة بقدر المستطاع، حتى لا يحتاج الطالب إلى غيره، بل يأخذ كفايته منه - إن شاء الله تعالى -.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: قد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والذي قيل في هذا: إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو مثل حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنَّها المراد.
ومثال ذلك أن يُحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "إلا أُخبركم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم؟ "
(1)
، وفسّره بذكر الله تعالى، على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو مثل حالهم، أو من هو في صفاتهم، ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهّل للنفع الأكبر في القتال لقيل له: الجهاد، ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال، ولا يتمحّض حاله لصلاحية التبتّل لذكر الله تعالى، وكان غنيًّا يُنْتَفَعُ بصدقة ماله لقيل له: الصدقة، وهكذا في بقيّة أحوال الناس، قد يكون الأفضل في حقّ هذا مخالفًا للأفضل في حقّ ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به.
وأما برّ الوالدين، فقد قُدّم في هذا الحديث على الجهاد، وهو دليلٌ على تعظيمه، ولا شكّ في أن أذاهما بغير ما يجب ممنوع منه، وأما ما يجب من البرّ في غير هذا ففي ضبطه إشكالٌ كبير
(2)
.
(1)
حديث صحيح أخرجه الترمذيّ، وصححه، وابن ماجة، والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، راجع:"صحيح الترمذيّ" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى 3/ 139.
(2)
قال الصنعانيّ رحمه الله تعالى: قوله: "ففي ضبطه إشكال كبير" أقول: وذلك أن البرّ هو الإحسان، ودرجات الإحسان متفاوتة، والواجب منها للوالدين غير منضبط.
وقد ضبط ابن عطيّة الدرجات المتفاوتات في المباحات فِعلًا وتركًا، واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفايات كذلك، ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين، وهو كمن دعته أمّه ليمرّضها مثلًا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمرّ عندها، ويفوت ما قصد به من تأنيسه لها، وغير ذلك لو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة، كالصلاة أول وقتها، وفي جماعة. انتهى كلامه. =
وأما الجهاد في سبيل الله تعالى، فمرتبته في الدين عظيمة، والقياس يقتضي أنه أفضل من سائر الأعمال التي هي وسائل، فإن العبادات على قسمين: منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو وسيلة إلى غيره، وفضيلة الوسيلة بحسب المتوسَّل إليه، فحيث تعظُم فضيلة المتوسَّل إليه تعظُم فضيلة الوسيلة، ولما كان الجهاد في سبيل الله وسيلة إلى إعلان الإيمان ونشره، وإخمال الكفر ودحضه، كانت فضيلة الجهاد بحسب فضيلة ذلك، والله أعلم.
انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى:
[فإن قيل]: فقد روي خلافُ ما يُفهم منه ما دلّ عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: سئل أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثمّ أيُّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثمّ أيّ؟ قال: "حجٌّ مبرور"، وفيهما أيضًا عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله"، ولم يذكر في هذين الحديثين الصلاة، ولا برّ الوالدين، ورويت نصوص أُخر بأن الجهاد أفضل الأعمال مطلقًا، ورُوي ما يدلّ على أن أفضل الأعمال ذكر الله عز وجل، وجاء ذلك صريحًا عن جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم.
[قيل]: هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس، وذكروا في توجيهه، والجمع بين النصوص الواردة به وجوهًا غير مرضيّةً.
فمنهم من قال: أراد بقوله: أفضل الأعمال كلّها، أي أن ذلك من أفضل الأعمال، لا أنه أفضلها مطلقًا، وهذا في غاية البعد.
ومنهم من قال: أجاب كلّ سائل بحسب ما هو أفضل الأعمال له خاصّةً، كما خَصّ ابن مسعود رضي الله عنه ببرّ الوالدين لحاجته إليه، ولم يذكر ذلك لغيره، لكن أبو هريرة كانت له أم أيضًا.
= قال الصنعانيّ: وليس بواضح، ولا شكّ أن ترك العقوق برّ، وفقدان هذا المذكور من واجب البرّ، وليس هو كلّ ما يجب منه. انتهى.
(1)
"إحكام الإحكام" بنسخة حاشية "العدّة" 2/ 11 - 15.
وظهر لي في الجمع بين نصوص هذا الباب ما أنا ذاكره بحمد الله وفضله، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله، فنقول:
لا ريب أن أفضل الأعمال ما افترضه الله على عباده كما ذكرنا الدليل عليه في أول الكلام على هذا الحديث، وأولى الفرائض الواجبة على العباد، وأفضلها الإيمان بالله ورسوله تصديقًا بالقلب، ونُطقًا باللسان، وهو النطق بالشهادتين، وبذلك بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأُمر بالقتال عليه، ثم بعد ذلك الإتيان ببقيّة مباني الإسلام الخمس التي بُني عليها، وهي الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر من يبعثه يدعو إلى الإسلام أن يدعو أَوّلًا إلى الشهادتين، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الصيام، ثم إلى الزكاة، كما أمر بذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه لَمّا أرسله إلى اليمن، وكان يُعلّم من يسأله عن الإسلام مبانيه الخمس، كما في حديث سؤال جبريل عليه السلام له عن الإسلام، وكما في حديث طلحة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علّم الأعرابيّ الذي سأله عن الإسلام المباني.
فإذا تقرّر هذا، فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لَمّا سُئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، فهذا وجهٌ ظاهرٌ لا إشكال فيه، فإن الإيمان بالله ورسوله أفضل الأعمال مطلقًا، ويُسمّى الشهادتين مع التصديق بهما عَمَلًا لما في ذلك من عمل القلب واللسان.
وقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ثم الجهاد في سبيل الله"، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"والجهاد" بالواو يشهد له أن الله قرن بين الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله في مواضع، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11].
فالإيمان بالله ورسوله التصديق بهما في القلب مع الإقرار بذلك باللسان، والجهاد هو دعاء الناس إلى ذلك بالسيف والسنان بعد دعائهم بالحجة والبيان، ولهذا يُشرع الدعاء إلى الإسلام قبل القتال.
وقد قيل: إن الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين على المسلمين كلّهم، لا يَسَعُ أحدًا التخلّف عنه، كما قال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}
[التوبة: 41]، ثم بعد ذلك رُخّص لأهل الأعذار، ونزل قوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، رُوي ذلك عن ابن عبّاس وغيره، وحينئذ، فيَحتمل جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال بعد الإيمان الجهاد معنيين:
[أحدهما]: أن يقال: إنما كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، فكان حينئذ أفضل الأعمال بعد الإيمان، وقرينًا له، فلما نزلت الرخصة، وصار الجهاد فرض كفاية تأخّر عن فرض العين.
وقد اختلَفَ ابنُ عمر وعبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهم في عدّ الجهاد من فرائض الإسلام، فعدّه عبد الله بن عمرو منها بعد الحجّ، وأنكر ذلك ابن عمر عليه، وقال: فرائضه تنتهي إلى الحجّ، وقد رَوَى اختلافهما في ذلك أبو عُبيدة في "كتاب الناسخ والمنسوخ"، وغيره، وعدّ حُذيفة بن اليمان الجهاد من سهام الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأضافهما إلى مباني الإسلام الخمس، وجعلها ثمانية سهام، وكأنه جعل الشهادتين سهمين.
[والثاني]: - وهو أشبه - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سُئل عن أفضل الأعمال، فتارة يذكر الإيمان بالله ورسوله لدخوله في مسمّى الأعمال، كما سبق تقريره، وتارة يذكر أعمال الجوارح؛ لأن المتبادر إلى الفهم عند ذكر الأعمال مع الإطلاق أعمالُ الجوارح دون عمل القلب واللسان، فكان إذا تبيّن له أن ذلك هو مراد السائل ذكر الصلاة له، كما ذكرها في حديث ابن مسعود هذا، فإن الصلاة أفضل أعمال الجوارح، وحيث أجاب بذكر الإيمان، أو بذكر الصلاة، فإنما مقصوده التمثيل بأفضل مباني الإسلام، ومراده المباني بجملتها، فإن المباني الخمس كالشيء الواحد، وكلّ من دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين، أو بالصلاة على رأي من يرى فعلها إسلامًا، فإنه يؤمر ببقيّة المباني، ويُلزم بذلك، ويقاتَلُ على تركه.
وفي حديث خرّجه الإمام أحمد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أربعٌ فرضهنّ الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لَمْ يُغنين عنه شيئًا حتى يأتي بهنّ جميعًا: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحجّ البيت"
(1)
.
(1)
سقط من النسخة "وحج البيت"، وهو موجود في "مسند أحمد" 4/ 200 - 201، وفي سنده ابن لهيعة.
وفي حديث آخر: "الدين خمس لا يقبل الله منهنّ شيئًا دون شيء"
(1)
، فذكر مباني الخمس، وأن من أتى ببعضها دون بعض لَمْ يُقبل منه.
ونفي القبول هنا بمعنى نفي الرضا بذلك، واستكمال الثواب عليه، وحينئذ فذكر بعض المباني مشعر بالباقي منها، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وتارةً يكتفي في جواب من سأله عن أفضل الأعمال بالشهادتين، وتارة بالصلاة، ومراده في كلا الجوابين سائر المباني، لكنه خصّ بالذكر أشرفها، فكأنه قال: الشهادتان، وتوابعهما، والصلاة، وتوابعها ولوازمها، وهو بقيّة المباني الخمس، ويشهد لهذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، فتوهّم طائفةٌ من الصحابة أن مراده أن مجرّد هذه الكلمة يعصم الدم حتى توقّفوا في قتال من منع الزكاة حتى بيّن لهم أبو بكر رضي الله عنه، ورجع الصحابة رضي الله عنهم إلى قوله: إن المراد الكلمتان بحقوقهما ولوازمهما، وهو الإتيان ببقيّة مباني الإسلام، وقد تبيّن صحّة قولهم بروايات أُخر تصرّح بإضافة إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة إلى الشهادتين في شرط عصمة الدم، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من قال: لا إله إلَّا الله لَمْ تمسّه النار - أو دخل الجنّة"، إنما أراد الشهادتين بلوازمهما وتوابعهما، وهو الإتيان ببقيّة أركان الإسلام ومبانيه.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قَدّم برّ الوالدين على الجهاد إشارة إلى أن حقوق العباد اللازمة التي هي من فروض الأعيان تُقدَّم على التطوّع بالجهاد، وحديث أبي هريرة وأبي ذرّ فيهما اقتران الجهاد بالإيمان، لكنه في حديث أبي هريرة جعله بعد الإيمان، وجعل بعده الحجَّ المبرور، فيحتمل أن يقال: كان ذلك في زمان كان الجهاد فيه فرض عين، فكان مقدمًا على الحجّ، ويحتمل أن يقال: فُهم دخول الحجِّ من ذكر الإيمان بالله ورسوله؛ لأن ذلك يتبعه بقيّة مباني الإسلام، ومنها الحجّ، ولا سيّما وقد تقرّر في أول الكتاب أن الإيمان قول وعمل، ويكون المراد بالجهاد الجهاد المتطوَّع، وهذا أشبه بقواعد الشريعة، فإن من معه مالٌ، وعليه زكاة، أو حجّ، وأراد التطوّع بالجهاد، فإنه
(1)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 201 - 202، وقال أبو حاتم في "العلل": هذا حديث منكر، يحتمل أن يكون هذا من كلام عطاء الخراسانيّ.
لا خلاف أنه يقدّم الزكاة والحجّ على التطوّع بالجهاد، كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حجة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات، ورُوي مرفوعًا من وجوه في أسانيدها مقال
(1)
.
فتبيَّن بهذا التقرير أن الأحاديث كلّها دالّةٌ على أن أفضل الأعمال الشهادتان مع توابعهما، وهي بقيّة مباني الإسلام، أو الصلاة مع توابعها أيضًا من فراض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل، ثم يلي ذلك في الفضل حقوق العباد التي هي من فروض الأعيان، كبرّ الوالدين، ثم بعد ذلك التطوّع المقرّبة إلى الله، وأفضلها الجهاد.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه تأخير الحجِّ على الجهاد، ولعله إنما ذكره بعد الجهاد حيث كان تطوّعًا، فإن الصحيح أن فرضه تأخّر إلى عام الوفود.
وقد يقال: حديث أبي هريرة رضي الله عنه دلّ أن جنس الجهاد أشرف من جنس الحجّ، فإن عَرَضَ للحجّ وصف يمتاز به على الجهاد، وهو كونه فرض عين كان ذلك الحجّ المخصوص أفضل من الجهاد، وإلا فالجهاد أفضل منه.
فهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث هي رأس الإسلام، وعموده، وذِروة سنامه، كما في حديث معاذ لبه، فرأسه الشهادتان، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، والجهاد أفضل ما تُطُوّع به من الأعمال على ما دلّت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة، وهو مذهب الإمام أحمد.
وفي "الصحيحين" عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل الناس مؤمن آخذٌ بعِنَان فرسه في سبيل الله، ثم رجلٌ يعتزل في شِعْبٍ من الشعاب يعبد ربّه، ويَدَعُ الناس من شرّه".
فهذا نصّ في أن المجاهد أفضل من المتخلّي لنوافل العبادات من الصلاة وغير ذلك.
فأما النصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد، وغيره من الأعمال، وأن الذاكرين لله هم أفضل الناس عند الله مطلقًا، فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات، وليس الذكر مما يَقطع عن غيره من
(1)
تقدّم الكلام عليه، فلا تغفل.
الأعمال، كبقيّة الأعمال، بل يمكن اجتماع الذكر مع سائر الأعمال، فمن عمل عملًا صالحًا، وكان أكثر لله ذكرًا فيه من غيره، فهو أفضل ممن عمل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله معه.
وقد ورد في نصوص متعدّدة أن أفضل المصلّين، والمتصدّقين، والمجاهدين، والحاجّ، وغيرهم من أهل العبادات أكثرهم لله ذكرًا.
وقد أخرجه الإمام أحمد متَّصلًا، وأخرجه ابن المبارك وغيره مرسلًا.
فهؤلاء أفضل الناس عند الله، ثم يليهم الذين يذكرون الله كثيرًا، وليس لهم نوافل من غير الذكر، كالجهاد وغيره، بل يقتصرون مع الذكر على فرائض الأعيان، فهؤلاء هم الذاكرون لله كثيرًا المفضّلون على المجاهدين، ويليهم قوم يقومون بالفرائض، وبالنوافل كالجهاد وغيره من غير ذكر كثير لهم.
وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله عما يَعدِل الجهاد: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم، ولا تفطر، وتقوم، ولا تفتر؟ "، قال: لا، قال:"فذلك الذي يعدل الجهاد"؛ لأنه سأله عن عمل يتشبّث به عند خروج المجاهد يقاوم فضل الجهاد.
وأما الذاكرون الله كثيرًا، فإنما فُضِّلوا على المجاهدين بغير ذكر؛ لأن لهم عملًا مستمرًّا دائمًا قبل جهاد المجاهدين ومعه وبعده، فبذلك فُضّلوا على المجاهدين بغير ذكر كثير، وبهذا تجتمع النصوص الواردة في ذلك.
وأما حديث: "خيرُ الإسلام إطعام الطعام، وإفشاء السلام"، فليس المراد به تفضيل هذين الخصلتين على سائر خصال الإسلام من الشهادتين والصلاة وغيرها، بل المراد أن أفضل أهل الإسلام القائمين بخصاله المفروضة من الشهادتين، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحجّ، من قام بعد ذلك بإطعام الطعام، وإفشاء السلام.
[فإن قيل]: فيكون التطوّع بذلك أفضل من التطوّع بالجهاد والحجّ.
[قيل]: فيه تفصيلٌ، فإن كان إطعام الطعام فرض عين، كنفقة من تلزم نفقته من الأقارب، فلا ريب أنه أفضل من التطوّع بالنفقة في الجهاد، والحجّ، فإن كان تطوّعًا، فإن كان صلة رحم، فهو أفضل من الجهاد، والحجّ، نصّ
عليه أحمد، وكذا إن كان في عام مجاعة، ونحوها، فهو أفضل من الحجِّ عند الإمام أحمد، وقد يقال في الجهاد ذلك إذا لَمْ يتعيّن.
وهذا الكلام كلّه في تفضيل بعض الأعمال على بعضها لذاتها، فأما تفضيل بعض الأعمال على بعض لزمانها، أو مكانها، فإنه قد تقترن بالعمل المفضول من زمان، أو مكان ما يصير به فاضلًا، فهذا فيه كلام آخر، نذكره في موضع آخر - إن شاء الله سبحانه وتعالى. انتهى كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا حقّق الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى الجمع بين هذه الأحاديث المختلفة في أفضل الأعمال، وطوّل نفسه في ذلك حسبما ظهر له، ولكن الذي يظهر لي، ويترجّح عندي، وإن لَمْ يره هو ما تقدّم من أن أجوبة النبيّ صلى الله عليه وسلم "اختلفمت بحسب اختلاف الأشخاص السائلين، والمخاطبين، وبحسب الأوقات، والأمكنة، وهذا هو الذي يظهر من تحقيق ابن رجب، وتحريره، وبسطه الكلام، فإن من تأمل ذلك، ولا سيّما أواخر كلامه ظهر له أنه يرى أن الأجوبة صدرت بحسب ما قلنا، فهو وإن لَمْ يصرّح به، لكنه مُفاد ما ساقه، ومقتضى ما حقّقه، فتأمله بإنصاف.
والحاصل أنه لا اختلاف في الحقيقة بين النصوص المذكورة، لهذا الذي بيّنّاه، فأمعن نظرك في التحقيق، يظهر لك الفهم الدقيق، وبالله تعالى التوفيق، وهو سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[260]
(
…
) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيّ، حَدَّثنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثنَا أَبُو يَعْفُورٍ، عَن الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَار، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا"، قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيَّ اللهِ؟، قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ").
(1)
راجع: "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" للحافظ ابن رجب 4/ 210 - 220.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن ابن أبي عمر كنية يحيي، ثقةٌ، صنّف المسند، وكان يلازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) هو: مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
3 -
(أَبُو يَعْفُورٍ) - بفتح التحتانيّة، وسكون المهملة، بعدها فاءٌ مضمومة - هو: عبد الرَّحمن بن عُبيد بن نِسْطاس - بكسر النون، وسكون السين المهملة - بن أبي صَفِيّة الثَّعْلبيّ - بالثاء المثلّثة - العامريّ البكائيّ، ويقال: البكاليّ، ويقال: السّلميّ، أبو يعفور الصغير الكوفيّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن السائب بن يزيد، وأبي الضُّحَي، والوليد بن العيزار، وإبراهيم النخعيّ، وأبي ثابت أيمن بن ثابت، وأبي الشَّعْثَاء المحاربيّ، وأبيه عبيد بن نِسطاس.
ورَوَى عنه الحسن بن صالح، والسفيانان، وابن المبارك، ومروان بن معاوية، ومحمد بن فُضيل بن غَزْوان، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر أنه رَوَى عن عبد الله بن أبي أوفى، وأنس بن مالك، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا، وحديث (1174): "إذا دخل العشر أحيى الليل
…
".
[تنبيه]: قال النوويّ في "شرحه" تبعًا لابن الصلاح
(1)
: أبو يعفور هذا هو الأصغر، وقد ذكره مسلم أيضًا في "باب التطبيق في الركوع"، ولهم أبو يعفور الأكبر العبديّ الكوفيّ التابعيّ، واسمه واقد، وقيل: وَقْدان، وقد ذكره مسلم
(1)
راجع: "الصيانة" ص 269.
أيضًا في "باب صلاة الوتر"، وقال: اسمه واقد، ولقبه وَقْدان، وله أيضًا أبو يعفور ثالث، اسمه عبد الكريم بن يعفور الجعفيّ البصريّ، يروي عنه قتيبة، ويحيى بن يحيى، وغيرهما، وآباء يعفور هؤلاء الثلاثة ثقات. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ذكر النوويّ في "شرحه" أنهم ثلاثة، وأنهم كلّهم ثقات، لكني لَمْ أجد أبا يعفور الثالث، فإنه ليس من رجال الكتب الستّة، ولذلك لَمْ يذكره في "التهذيبين"، ولا في "التقريب"، وإنما ذكره البخاريّ في "التاريخ الكبير" 6/ 91 فقال: عبد الكريم بن يعفور، أبو يعفور الجعفيّ، عن عروة بن عبد الله، والمشمرج بن جرير، سمع منه قتيبة بن سعيد. انتهى.
وذكره أيضًا ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 6/ 61 فقال: عبد الكريم بن يعفور، أبو يعفور الجعفيّ، روى عن جابر بن زيد، وعن المشمرج، سمع منه قتيبة، وأبو موسى الأنصاريّ، سمعت أبي يقول ذلك، نا عبد الرَّحمن، قال: سألت أبي عنه، فقال: هو من عتّقي الشيعة، قلت: ما حاله؟، قال: هو شيخ ليس بالمعروف. انتهى.
وذكره ابن حبّان في "الثقات" 8/ 423 فقال: عبد الكريم بن يعفور الجعفيّ، أبو يعفور، يروي عن عروة بن عبد الله بن عبد الله، روى عنه قتيبة بن سعيد. انتهى.
وذكره الذهبيّ في "ميزان الاعتدال" 2/ 647، فقال: عبد الكريم الخزّاز عن جابر الجعفي، قال الأزديّ: واهي الحديث جدًّا، ثم ذكر بعد ترجمة ما نصّه: عبد الكريم بن يعفور الخزّاز هو المذكور، قال أبو حاتم: من عُتَّق الشيعة. انتهى
(2)
.
فتبيّن بهذا أن قول النوويّ: وآباء يعفور الثلاثة ثقات، غير صحيح، فإن الثالث حاله ما بيّنه أبو حاتم، والأزديّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
وقوله: (أَيُّ الْأَعْمَالِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ؟) أي أكثر ثوابًا بحيث يكون من عمل بها سريع الدخول في الجنّة مع أوائل الداخلين فيها.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 76 - 77.
(2)
راجع: "ميزان الاعتدال" 2/ 647.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعد أن ذكر اختلاف ألفاظ هذا الحديث: وهذه الألفاظ متقاربة المعنى، أو متّحدة؛ لأن ما كان من الأعمال أحبّ إلى الله تعالى، فهو أفضل الأعمال، وهو أقرب إلى الجنّة من غيره، فإن ما كان أحبّ إلى الله، فعامله أقرب إلى الله من غيره، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربّه قال: "ما تقرّب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه
…
" الحديث، أخرجه البخاريّ.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما فرض الله، وكذا قال عمر بن عبد العزيز في خطبته. انتهى
(1)
.
وقوله: ("عَلَى مَوَاقِيتِهَا") قيل: "على" بمعنى اللام، ففيه ما تقدم، وقيل: لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقُّق دخول الوقت؛ ليقع الأداء فيه، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقوله: (وَمَاذَا يَا نَبِي اللهِ؟) أي وما الذي يلي الصلاة في الفضل؟، وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[261]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو الشَّيْبَانِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّار، وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ الله، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟، قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟، قَالَ: "ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"، قَالَ: حَدَّثَني بِهِنَّ، وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ، حافظٌ [10]
(1)
"شرح صحيح البخاريّ" لابن رجب 4/ 208.
(2)
"الفتح" 2/ 14.
(ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) هو: معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقة متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة المثبت المشهور البصريّ [7](ت 160)(ع) المذكور قريبًا، والباقون تقدّموا قبل حديث.
وقوله: (وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ) أي أشار أبو عمرو الشيبانيّ إلى دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفيه أن الإشارة تُتَنَزَّل منزلة التصريح، إذا كانت مُعَيِّنة للمشار إليه، مميزة له عن غيره، إلا ترى أن الأخرس إذا طلَّق امرأته بالإشارة المفهمة يقع طلاقه بحسب الإشارة، وكذا سائر تصرّفاته
(1)
.
وقوله: (حَدَّثَنِي بِهِنَّ) أي بهؤلاء الجمل الثلاث، وهو مقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من أنه باشر السؤال، وسمع الجواب؛ إذ لا ريب أنه صريحٌ في ذلك، وهو أرفع درجات التحمّل.
وقوله: (وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي) أي ولو طلبت منه صلى الله عليه وسلم أن يعلّمني زيادةً على ما سألته لزادني؛ لسعة خلقه، وحسن عشرته، ثم طلبه الزيادة يحتمل أن يكون أراد من هذا النوع، وهي مراتب أفضل الأعمال، ويحتمل أن يكون أرادها من مطلب المسائل المحتاج إليها، وفي رواية الترمذيّ من طريق المسعوديّ، عن الوليد:"فسكت عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني"، فكأنه استشعر منه مشقة وسآمة، فلذلك قال ما قاله، ويؤيّده ما في رواية المصنّف الماضية:"في تركت أن أستزيده إلَّا إرعاءً عليه"، أي شفقةً عليه؛ لئلا يسأم
(2)
.
وقال النوويّ في "شرحه": قوله: ("ولو استزدته لزادني") فيه جواز استعمال "لو"، وجواز إخبار الإنسان عما لَمْ يقع أنه لو كان كذا لوقع؛ لقوله:"لو استزدته لزادني". انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"عمدة القاري" 5/ 21 - 22.
(2)
"فتح" 2/ 14، و"عمدة القاري" 5/ 20 - 21.
(3)
"شرح مسلم" 2/ 79.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[262]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ الله، وَمَا سَمَّاهُ لنَا).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) أبو بكر البصريّ المعروف ببُندار، ثقة حافظ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقة صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2، وشعبة ذُكر في السند الماضي.
وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) أي بالإسناد المذكور قبله، وهو سند شعبة، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل الحديث الماضي.
وقوله: (وَرادَ) الضمير لشيخه محمد بن بشار، أي زاد محمد بن بشار في روايته على رواية عبيد الله وغيره قوله:(وَمَا سَمَّاهُ لَنَا) فالزيادة هي قوله: "وما سمّاه لنا"، أي لَمْ يسمّ أبو عمرو صاحب الدار، بل اكتفى بالإشارة إلى داره؛ لعدم التباسه بغيره.
[تنبيه]: رواية شعبة التي أحالها المصنّف هنا على ما قبلها، ساقها الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "مسنده"، فقال:
(4175)
- حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، وحجاج، حدثنا شعبة، عن الوليد بن العيزار، قال حجاج: سمعت أبا عمرو الشيبانيّ، وقال محمد، عن أبي عمرو الشيبانيّ، قال: حدثنا صاحب هذه الدار، وأشار بيده إلى دار عبد الله، وما سمّاه لنا، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله عز وجل؟ فقال: "الصلاة على وقتها"، قال الحجاج:"لوقتها"، قال: ثم أيّ؟ قال: "ثم بِرّ الوالدين"، قال: ثم أيّ؟ قال: "ثم الجهاد في سبيل الله"، ولو استزدته لزادني. انتهى.
وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما قبل حديثين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[263]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَن الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ الله، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ - أَوْ الْعَمَلِ - الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ المذكور قبل بابين.
- (جَرِيرٌ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ المذكور قبل بابين أيضًا.
3 -
(الحسن بن عبيد الله) بن عُرْوة النخعيّ، أبو عُرْوة الكوفيّ، ثقة فاضل [6].
رَوَى عن إبراهيم بن يزيد، وإبراهيم بن سُويد النخعيين، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وزيد بن وهب، وأبي عمرو الشيباني، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، والسفيانان، وزائدة، وأبو إسحاق الفزاري، وعبد الله بن إدريس، وعبد الواحد بن زياد، وجرير بن عبد الحميد، وجعفر بن غياث، ومحمد بن فضيل، وغيرهم.
قال ابن المديني: له نحو ثلاثين حديثًا أو أكثر، وقال ابن معين: ثقة صالح، وقال العجلي، وأبو حاتم: ثقة، وقال الساجيّ: صدوق، وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: أيما أعجب إليك، الحسن بن عبيد الله، أو الحسن بن عمرو كان قال: الحسن بن عمرو أثبتهما، وهما جميعًا ثقتان صدوقان، وقال يعقوب بن سفيان: كان من خيار أهل الكوفة، وقال البخاري: لَمْ أُخرِج حديث الحسن بن عبيد الله؛ لأن عامة حديثه مضطرب، وضعّفه الدارقطني بالنسبة للأعمش، فقال في "العلل" بعد أن ذكر حديثًا للحسن خالفه فيه الأعمش: الحسن ليس بالقوي، ولا يقاس بالأعمش.
قال عمرو بن علي: مات سنة (139)، وكذا قال ابن حبان في "الثقات"، وزاد: وقيل سنة (42).
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث فقط،
هذا الحديث، وحديث (572): "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون
…
"، و (1080): "الشهر هكذا، وهكذا
…
"، و (1175): "يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد
…
"، و (1190): "كأني أنظر إلى وبيص المسك
…
"، و (2169): "إذنك عليّ أن يُرفع الحجاب
…
"، و (2723): "أمسينا، وأمسى الملك لله
…
"، وكرره ثلاث مرّات.
وشرح الحديث، وبيان مسائله تقدّما قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيت من كتابة الجزء الثاني من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله تعالى ليلة السبت 7/ 1/ 1425 هـ الموافق 27/ فبراير / 2004 م.
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثالث مفتتحًا بـ (39) - (بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوب، وَبَيَانِ أَعْظَمِهَا بَعْدَهُ) رقم الحديث (264)(86).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".