المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليلة الجمعة المباركة 1/ 5/ 1428 هـ - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٢٠

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

ليلة الجمعة المباركة 1/ 5/ 1428 هـ أول الجزء العشرين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" رحمه الله تعالى.

(37) - (بَابُ بَيَانِ مَنْ تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلةُ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2404]

(1044) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِيَاب، حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيُّ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ، قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلهُ فِيهَا، فَقَالَ: "أَقِمْ حَتَّى تَأَتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلةُ، حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَقُومَ ثَلَاَثَة مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَة، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلةُ، حَتى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُن مِنَ الْمَسْأَلةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا، يَأَكلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 9/ 3.

2 -

(قُتَيْبَة بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

ص: 5

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

4 -

(هَارُونُ بْنُ رَيابٍ) -بكسر الراء، وبمثنّاة تحتانيّة، ثم ألف، بعدها موحَّدة

(1)

التميميّ، ثم الأُسيديّ، أبو بكر، ويقال: أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ عابد [6].

روى عن أنس، وقيل: لم يسمع منه، والأحنف بن قيس، وقَبِيصة بن ذُؤيب، وكنانة بن نعيم، وابن المسيّب، وغيرهم.

وروى عنه أيوب، من أقرانه، والأوزاعيّ، والحمادان، ومعمر، وابن عيينة، وهمام بن يحعص، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين: ثقةٌ. وقال الآجرّيّ، عن أبي داود: يقال: إنه أجلّ أهل البصرة، قال ابن عُيينة: كان عنده أربعة أحاديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال البخاريّ في "تاريخه": روى عن أنس. وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال: لم يسمع من أنس شيئًا

(2)

، وكان من العبّاد، ممن يُخفِي الزهد، وقال أبو محمد بن حزم: اليمانُ، وهارون، وعلئ بنو رئاب، كان هارون من أهل السنّة، واليمان من أئفة الخوارج، وعليّ من أئمة الروافض، وكانوا متعادين كلهم، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ قليل الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: ثقةٌ. أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيُّ) أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [4].

روى عن أبي برزة الأسلميّ، وقَبِيصة بن المخارق.

وروى عنه ثابت البُنانيّ، وعبد العزيز بن صُهيب، وهارون بن رئاب، وعديّ بن ثابت.

(1)

هكذا ضبطه النوويّ في "شرحه"، وضبطه في "التقريب" بكسر الراء، بعدها تحتانيّة مهموزة، وآخره باء موحَّدة.

(2)

قال الحافظ: تناقض فيه كلام ابن حبّان، فذكره في التابعين، وقال: سمع من أنس، وكنانة بن نعيم، ثم ذكره في طبقة أتباع التابعين، وقال: لم يسمع من أنس شيئًا. انتهى. "تهذيب التهذيب" 4/ 253.

ص: 6

قال ابن سعد: كان معروفًا، ثقةٌ، إن شاء الله، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبّان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1044)، وحديث (2472): "هذا مني، وأنا منه

. ".

6 -

(قَبِيصَةُ بْنُ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيُّ) صحابيّ سكن البصرة رضي الله عنه تقدم في "الإيمان" 95/ 512.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فرّق في التفصيل؛ لما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى قُتيبة، فبغلانيّ.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا نحو خمسة أحاديث

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ قَبِيصَةَ) - بفتح القاف، وكسر الموحّدة، فمثنّاة تحتيّة، فصاد مهملة- (ابْنِ مُخَارِقٍ) -بضمّ الميم، وتخفيف المعجمة- ابن عبد الله رضي الله عنه (الْهِلَالِيِّ) بكسر الهاء: نسبة إلى هلال بن عامر بن صَعْصَعة بن معاوية بن بكر بن هَوَازن، قبيلة كبيرة، يُنسب إليها كثير من العلماء، قاله في "اللباب"

(2)

(قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً) زاد ابن حبّان في "صحيحه" قصّة في أول هذا الحديث، فساق بسنده إلى كنانة العدويّ، قال: كنت عند قبيصة بن المخارق، فاستعان به نفرّ من قومه في نكاح رجل من قومه، فأبى أن يعطيهم شيئًا، فانطلقوا من عنده، قال كنانة: فقلت له: أنت سيد قومك، وأتوك يسألونك، فلم تعطهم شيئًا، قال: أما في هذا فلا أعطي شيئًا، وسأخبرك عن ذلك، تحملت بحمالة في قومي، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، وسألته أن يعينني،

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 512 - 514.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 454.

ص: 7

فقال: "بل نحملها عنك يا قبيصة، ونؤديها إليهم من إبل الصدقة -ثم قال-: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة

" الحديث

(1)

.

(قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً) أي تكلّفت دينًا، قال في "النهاية":"الحمالة"- بفتح الحاء المهملة- كسَحَابة: ما يتحمّله الإنسان عن غيره، من دية، أو غَرَامة، مثل أن يقع حربٌ بين فريقين، تُسفَك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجلٌ يتحمّل ديات القتلى؛ ليُصلح ذات البين، والتحمّل أن يحملها عنهم على نفسه -أي يتكفلها، ويلتزمها في ذمّته-. انتهى

(2)

.

وقال الخطّابيّ رحمه الله: تفسير الْحَمَالة أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال، وَيحدُث بسببهما العداوة، والشحناء، ويُخاف من ذلك الفتق العظيم، فيتوسّط الرجل فيما بينهم، ويسعى في إصلاح ذات البين، ويتضمن مالًا لأصحاب الطوائل، يترضّاهم بذلك حتى تسكن الثائرة، وتعود بينهم الألفة. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله ما حاصله: الحمالة -بالفتح- هو المال الذي يتحمّله الإنسان؛ أي يستدينه، ويدفعه في إصلاح ذات البين، كالإصلاح بين قبيلتين، ونحو ذلك، وإنما تحل له المسألة، ويُعطَى من الزكاة بشرط أن يستدينه لغير معصية. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تحمّلت حَمَالةً" أي ألزمتها نفسي، والحمالة: ما لزم الإنسان تحمّله من غُرْم، أو دية، وكانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية، أو غيرها، قام أحدهم، فتبرعّ بالتزام ذلك، والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شكّ أن هذا من مكارم الأخلاق، ولا يصدر مثله إلا عن سادات الناس وخيارهم، وكانت العرب لكرمها إذا عَلِمَت بأن أحدًا تحمّل حَمالةً بادروا إلى معونته، وأعطوه ما يُتمّ به وجه مكرُمته، وتبرأ به ذمّته، ولو سأل المتحمّل في تلك الحمالة لم يُعَدَّ ذلك نقصًا

(1)

"صحيح ابن حبان" 8/ 85 - 86.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 442.

(3)

"شرح النوويّ على صحيح مسلم" 7/ 134.

ص: 8

في قدره، بل شرفًا وفخرًا، ولذلك سال هذا الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمالته التي تحمّلها على عادتهم، فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بحكم المعونة على المكرُمة، ووعده طو بمال من الصدقة؛ لأنه غارم من جملة الغارمين المذكورين في آية الصدقات. انتهى

(1)

.

(فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلهُ فِيهَا) أي في الحمالة؛ أي لأجلها (فَقَالَ: "أَقِمْ) أمر من الإقامة، بمعنى اثبت، واصبر. وقال السندي: أي كن في المدينة مقيمًا (حَتَّى تَأَتِيَنَا الصَّدَقَةُ) بنصب الفعل بـ "أن" مضمرةً وجوبًا بعد "حتّى"، لكونه مستقبلًا، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ "حَتَّى" حَالًا اوْ مُؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

والمعنى: حتى يَحْضُر لدينا مال الصدقة (فَنَأَمُرَ لَكَ بِهَا") بالنصب عطفًا على "تأتي"(قَالَ) قبيصة (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا قَبِيصَةُ إِن الْمَسْأَلةَ) وفي رواية للنسائيّ: "إن الصدقة"(لَا تَحِل إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاَثةٍ) أي لا تحلّ إلا لصاحب ضرورة مُلْجِئة إلى السؤال، كهؤلاء الثلاثة، وقال القرطبيّ رحمه الله: لَمّا قَرّر النبيّ صلى الله عليه وسلم منعَ قاعدة المسألة من الناس بما تقدّم من الأحاديث، وبمبايعتهم على ذلك، وكانت الحاجات والفاقات تنزل بهم، فيحتاجون إلى السؤال، بَيَّن لهم صلى الله عليه وسلم من يخرُج من عموم تلك القاعدة، وهم هؤلاء الثلاثة. انتهى

(2)

.

(رَجُل) بالجرّ بدلًا من "أحد"، أو من "ثلاثة"، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف، اي أحدهم، ويجوز نصبه بتقدير فعل، كـ "أعني"، على لغة ربيعة الذين يقفون على المنصوب المنوّن بالسكون (تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلةُ) أي جاز له سؤال الناس (حَتَّى يُصِيبَهَا) أي ينال من المال ما يقضي به تلك الحمالة.

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يُصيبها" الضمير ليس يرجع إلى المسألة، ولا إلى الحمالة نفسِها، بل إلى معناهما؛ أي يُصيب ما حصل له من المسألة، أو ما أدَّى من الحمالة، وهي الصدقة. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 3/ 87.

(2)

"المفهم" 3/ 87.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1509.

ص: 9

(ثُمَّ يُمْسِكُ) أي يترك مسألة الناس؛ لانقضاء سبب حلّ مسألتهم، وهو تحمّله الحمالة، فلما أصاب حاجته ارتفعت الإباحة، فيجب أن يمسك عنها.

(وَرَجُلٌ) يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة على ما تقدّم في الذي قبله (أَصَابَتْهُ جَائِحَة) هي الآفة التي تُهلك الثمار، والأموال، وتستأصلها، كالغَرَق، والْحَرْق، والبرد، المفسد للزروع والثمار، قال الفيّوميّ رحمه الله: الجائحة الآفة، يقال: جاحت الآفة المالَ تَجُوحُهُ جَوْحًا، من باب قال: إذا أهلكته، وتَجِيحه جيَاحةً لغة، فهي جائحةٌ، والجمع الجوائح، والمال مَجُوحٌ، ومَجِيحٌ، وأجاحته بالألف لغة ثالثةٌ، فهو مُجَاحٌ، واجتاحتِ المالَ، مثلُ جاحته. انتهى.

(اجْتَاحَتْ) أي استأصلت، وأتلفت (مَالَهُ) من ثمار بستانه، أو غيرها من الأموال (فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ) وفي رواية النسائيّ: "حتى يُصيبها" أي حتى يصيب بدل ماله المجتاح، وأنّث ضميره لتأويله بالحاجة، والله تعالى أعلم.

وقوله: "قَوَامًا من عيش" قال ابن الأثير: أي ما يقوم بحاجته الضروريّة، وقِوام الشيء: عماده الذي يقوم به، يقال: فلان قِوام أهل بيته، وقِوام الأمر ملاكه. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": والقَوَام، كسَحَاب: العَدْل، وما يُعاش به. وبالضمّ: داءٌ في قوائم الشاء. وبالكسر: نظام الأمر، وعماده، وملاكه.

وقال في "المصباح": القوام -بكسر القاف-: ما يُقيم الإنسان من القوت، والقوام بالفتح: العدل، والاعتدال، قال تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أي عَدْلًا، وهو حسن القَوَام: أي الاعتدال. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: تبيّن مما ذُكر أن القَوَام هنا يجوز ضبطه بالفتح، والكسر، على ما في "القاموس"، ومعناه: ما يقوم بحاجته الضروريّة، والله تعالى أعلم.

(أَوْ) للشكّ من بعض الرواة (قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ) أي ما يكفي حاجته، و" السِّدَاد" -بالكسر-: كلّ شيء سَدَدْتَ به خَلَلًا، وبه سمّي سِدَادُ الثَّغْر، والقارورةِ، والحا جةِ، قاله ابن الأثير

(2)

.

(1)

"النهاية" 4/ 124.

(2)

"النهاية" 2/ 353.

ص: 10

وقال الفيّوميّ: والسَّدَادُ -بالكسر-: ما تُسدّ به القارورة وغيرها، وسِدَاد الثَّغْر -بالكسر- من ذلك، واختلفوا في سِدَادٍ من عيشي، وسِدَاب من عَوَزٍ لما يُرمَق به العيش، وتُسدّ به الْخَلَّة، فقال ابن السَّكِّيت، والفارابيّ، وتبعه الجوهريّ: بالفتح، والكسر، واقتصر الأكثرون على الكسر، منهم ابن قُتيبة، وثعلبٌ، والأزهريّ؛ لأنه مستعار من سِدَاد القارورة، فلا يُغيّر، وزاد جماعةٌ، فقالوا: الفتح لحنٌ، وعن النضر بن شُمَيلٍ: سِدَادٌ من عَوَزٍ؛ إذا لم يكن تامًّا، ولا يجوز فتحه، ونَقَل في "البارع" عن الأصمعيّ: سِدَاد من عَوَزٍ بالكسر، ولا يقال: بالفتح، ومعناه: إن أعوز الأمر كلُّهُ ففي هذا ما يَسُدُّ بعضَ الأمر. انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الصواب في قوله: "سِدَادًا من عيش" في هذا الحديث بالكسر، وإن جوّز بعضهم الفتح فيه أيضًا، والله تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: أقول: بالغ في الكفّ عن المسألة حتى شبّه السائل بالمضطرّ الذي يَحِلّ له أكل الميتة إلى أن يسُدّ رمقه، وأبلغ منه قوله:"حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى" حيث "يقوم" وُضع موضع "يقول"؛ لأن قوله: "لقد أصابت فلانًا فاقةٌ" مقول للقول، فلا يناسب أن يقال:"يقوم لقد أصابت فلانًا فاقةٌ"، لكن لاهتمام الشأن وَضَعَ "يقوم" بدل "يقول"، جاعلًا المقول حالًا؛ أي يقوم ثلاثة قائلين هذا القول، ولمزيد الاهتمام أبرزه في معرض القسم، وقيّدهم بذوي العقول حتى لا يشهدوا عن تخمين، وجعلهم من قومه؛ لأنهم أعلم بحاله. انتهى

(2)

.

(وَرَجُلٌ) يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، كسابقيه (أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) اسم من افتاق يفتاق: إذا احتاج. أي رجلٌ كان غنيًّا موسرًا، ثم افتقر، وأصابته حاجة، ولم يُعرَف حاله (حَتَّى يَقُومَ ثَلَاَنة) وفي رواية النسائيّ:"حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا في جميع النسخ -أي نسخ صحيح مسلم"-: "حتى يقوم ثلاثة"، وهو صحيح؛ أي يقومون بهذا الأمر، فيقولون: لقد أصابته فاقة.

(1)

المصباح المنير في مادة سدد.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1509.

ص: 11

انتهى، ولفظ أبي داود:"حتى يقول" باللام من القول، ولا يحتاج إلى تقدير محذوف.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يقوم" هكذا في جميع نسخ مسلم، وهو صحيح، وقال الصنعانيّ

(1)

: كذا وقع في كتاب مسلم، والصحيح "يقول" باللام، وكذا أخرجه أبو داود، قال الطيبيّ: قد سبق أن "يقوم" أبلغ، والمقام له أدعى، وحذف القول في الكلام الفصيح شائع، قال تعالى:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا} الآية [الكهف: 48]. انتهى

(2)

.

(مِنْ ذَوِي الْحِجَا) -بكسر الحاء المهملة، وفتح الجيم، بعدها ألف مقصورة-: أي العقل والفِطْنة، قال القرطبيّ: واشترط الحجا؛ لأن من عَدِمه لا يحصل بقوله ثقةٌ، ولا يصلح للشهادة، أو لعلّه عبّر به عما يُشرط في المخبِر والشاهد من الأمور التي توجب الثقة بأقوالهم، ويكون الموصوف بها عَدْلًا مرضيًّا. انتهى

(3)

.

(مِنْ قَوْمِهِ) إنما قيّدهم بقومه؛ لأنهم أعلم بدَخِيلة أمره، واستظهر بالثالث ليُلحق بالمنتشر، ولم يحتج فيمن أصابته الجائحة إلى مثل هذا؛ لظهور أمر الجائحة، وأما أمر الفاقة، فقد تخفى، قاله القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وإنما قال صلى الله عليه وسلم: "من قومه" لأنهم من أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يُخفَى في العادة، فلا يعلمه إلا من كان خبيرًا بصاحبه، وإما اشترط الحجا تنبيهًا على أنه يشترط في الشاهد التيقّظ، فلا تُقبل من مغفّل، وأما اشتراط الثلاثة، فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار، فلا يُقبل إلا من ثلاثة؛ لظاهر هذا الحديث، وقال الجمهور: يقبل من عدلين، كسائر الشهادة، غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب، وهذا محمول على من عُرِف له مالٌ، فلا يُقبل قوله في تلفه، والإعسار إلا ببيّنة، وأما من لم يُعرف له مالى، فالقول قوله في عدم المال. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: يؤيّد هذا قوله في الحديث: "اجتاحت

(1)

هكذا النسخة: "الصنعاني"، والظاهر أنه تصحيف من "الصغاني"، فليُحزر.

(2)

"الكاشف" 5/ 1510.

(3)

"المفهم "3/ 88.

(4)

"المفهم" 3/ 88.

ص: 12

ماله"، فإنه يدلّ على أن الذي يشهد له الثلاثة هو الذي كان له مالٌ، فاجتاحته آفة، فاحتاج للمسألة، والله تعالى أعلم.

وقال السنديّ رحمه الله: وهذا كنايةٌ عن كون تلك الفاقة محقّقةً، لا مُخَيّلةً، حتى أَبُو استُشهِد عقلاء قومه بتلك الفاقة لشهدوا بها، والفرق بين هذا القسم، والقسم السابق، أن الفاقة في القسم الأول ظاهرة بَينَ غالب الناس، وفي هذا القسم خفيّةٌ عنهم. انتهى.

(لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ) أي يقومون قائلين: قد أصابت إلخ.

(فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلةُ، حَتى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْش، أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُن) أي سوى هذه الأمور الثلاثة (مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ "سُحْتًا"، ورواية غير مسلم:"سُحْت"، وهذا واضح، ورواية مسلم صحيحة، وفيه إضمار؛ أي اعتقده سُحْتًا، أو يؤكل سُحْتًا. انتهى

(1)

.

و"السُّحُتُ" -بضم السين، والحاء المهملتين، أو بضمّ السين، وسكون الحاء، تخفيفًا-: هو كلّ مالٍ حرام، لا يَحِلّ كسبه، ولا أكله، وسُمّي بذلك؛ لأنه يَسْحَتُ البركة: أي يُذهبها، وَيمحَقها.

وقال القرطبيّ في رحمه الله: قوله: "سُحُتٌ" السحت: الحرام، وسمّي به لأنه يسحت وَيمحَقُ، وفيه لغتان: سكون الحاء وضمّها، وروايتنا في "سحت" الأول الرفع على أنه خبر المبتدأ الذي هو "ما" الموصولة، وقد وقع لبعضهم "سحتًا" بالنصب، وليس وجهه ببيِّنٍ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: توجيهه بيِّنٌ، كما سبق في قول النوويّ رحمه الله، وذلك أن يُقدّر له ناصب؛ أي اعتقده سحتًا، أو نحو ذلك، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال أيضًا: قولهْ "فما سواهنّ سحتٌ" أي ما سوى هؤلاء الثلاثة، ثم هو بعد ذلك مخصوص بحديث سمُرة رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود باسناد صحيح مرفوعًا:"المسائل كُدُوح يَكْدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يَجِد منه بُدًّا"

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 134.

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود في "سننه"(1639).

ص: 13

قال: وما تدعو الحاجة والضرورة إلى المسألة فيه يزيد على الثلاثة المذكورين في هذا الحديث الذي نحن باحثون فيه. انتهى

(1)

.

(يَكلُهَا) أي يأكل ما يحصل له بالمسألة، قاله الطيبيّ رحمه الله، وقال الصنعانيّ رحمه الله:"يأكلها": أي الصدقة، أنّث الضمير؛ لأنه جعل السحت عبارة عنها، وإلا فالضمير له. انتهى. (صَاحِبُهَا) أي صاحب المسألة (سُحْتًا") منصوب على الحال، أو بدل من الضمير المنصوب في "يأكلها".

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يأكلها صاحبها سُحتًا" صفة لـ"سُحْتٌ" الماضي، والضمير الراجع إلى الموصوف مؤنّثٌ على تأويل الصدقة، وفائدة الصفة أن آكل السحت لا يجد للسحت الذي يأكله شبهة تجعله مباحًا على نفسه، بل يأكلها من جهة السحت، كما في قوله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} الآية [البقرة: 61]؛ أي يقتلونهم على اعتقاد أن قتلهم غير مباح

(2)

، وليس لهم حقّ عليهم، والتعريف في "المسألة" إما للعهد، فيكون الكلام في الزكاة، وإما للجنس، فيشمل التطوّع والفرض، وقرينة الأولى التفصيل؛ لأن التحمّل لا يكون إلا للغارم، وإصابة الجائحة للثمار إنما يُتصوّر في المساكين، وإصابة الفاقة للفقير.

[فإن قلت]: ما وجه تخصيص من أصابته الجائحة بالمساكين، ومن أصابته الفاقة بالفقير، وقد عَقَب كلًّا بقوله:"حتى يُصيب قوامًا من عيش"؟.

[قلنا]: الفرق ظاهرٌ، فإن من أصابته الآفة السماويّة، واستأصلت ثماره قد تبقى له الأرض والزرع، فيُعطَى ما يتقوم به من العيش، ولا يؤمر ببيع ما بقي وإنفاقه على نفسه، ولا يُعْنَى بالمسكين إلا هذا، ومن ثَمَّ لم تُطلب البيّنة في إصابة الحقّ الجائحة لظهورها كما تطلب في إصابة الفاقة، وتبيّن من هذا الفرق بين الفقير والمسكين، فلما خصّصت المسألة بالزكاة المفروضة عُلِم أن حكم التطوّع غير هذا.

[فإن قلت]: فلم خُصّ هؤلاء بالذكر دون سائرهم؟.

(1)

"المفهم" 3/ 89.

(2)

وقع في النسخة: "أن على اعتقاد أن قتلهم مباح"، والظاهر أن كلمة "غير" سقطت منه، فتنبّه.

ص: 14

[قلت]: لاندراج البقيّة فيهم، فإن الغارم، والغازي، والعامل، والمؤلّفة قلوبهم يجمعهم معنى السعي في مصالح المسلمين، وأن الرقاب، وابن السبيل من جنس الفقير والمسكين. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث قبيصة بن مُخَارق رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 2404](1044)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1640)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2579 و 2580) و"الكبرى"(2360 و 2361)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2008)، و (الحميديّ) في "مسنده"(819)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 477 و 5/ 60)، و (الدارميّ) في "سننه"(1678)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2359 و 2360 و 2375)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3291 و 3395)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(367)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 946 و 947 و 948 و 949 و 950 و 951 و 952 و 953 و 954 و 955)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(2/ 17 - 18)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 110 - 111)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 73)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 119 و 120)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1626)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم مسألة الناس لغير هؤلاء المذكورين في هذا الحديث، ومن كان بمعناهم، كما تقدّم في حديث سمرة رضي الله عنه مرفوعًا:"المسائل كُدُوح يَكْدَح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يَجِد منه بُدًّا".

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1510.

ص: 15

2 -

(ومنها): بيان أن من تحمّل حَمالة يستحقّ الصدقة، وهو معنى (الغارم) المذكور في آية الصدقة.

3 -

(ومنها): ما قاله الخطّابيّ رحمه الله: في هذا الحديث علم كثيرٌ، وفوائد جمّة، ويدخل في أبواب من العلم والحكم، وذلك أنه قد جعل من تحلّ له المسألة من الناس أقسامًا ثلاثة: غنيًّا، وفقيرين، وجعل الفقر على ضربين: فقرًا ظاهرًا، وفقرًا باطنًا، فالغنيّ الذي تحلّ له المسألة هو صاحب الحمالة، وهي الكفالة، والْحَمِيل: الضمين، والكفيل، ثم ذكر تفسير الحمالة كما تقدّم، ثم قال: فهذا الرجل صنع معروفًا، وابتغى بما أتاه صلاحًا، فليس من المعروف أن تترك الغرامة في ماله، ولكن يُعان على أداء ما تحمّله منه، ويُعطى من الصدقة قدر ما تبرأ به ذمّته، ويخرج من عهدة ما تضمّنه منه.

وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة، فهو رجلٌ أصابته جائحةٌ في ماله، فأهلكته، والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر من الآفات، كالسيل يُغرق متاعه، والنار تُحرقه، والبرد يُفسد زرعه، وثماره، ونحو ذلك من الأمور، وهذه أشياء لا تخفى آثارها عند كونها، ووقوعها، فإذا أصاب الرجل شيء منها، فذهب ماله، وافتقر، حلّت له المسألة، ووجب على الناس أن يُعطوه الصدقة من غير بيّنة، يطالبونه بها على ثبوت فقره، واستحقاقه إياها.

وأما النوع الآخر، فإنما هو فيمن كان له ملك ثابث، وعُرف له يسار ظاهر، فادَّعَى تَلَفَ ماله من لصّ طَرَقه، أو خيانة ممن أودعه، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثرٌ ظاهر في المشاهدة والعيان، فإذا كان ذلك، ووقعت في أمره الرّيبة في النفوس لم يعط شيئًا من الصدقة إلا بعد استبراء حاله، والكشف عنه بالمسألة من أهل الاختصاص به، والمعرفة بشأنه، وذلك معنى قوله:"حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: قد أصابت فلانًا الفاقة"، واشتراطه الحجا تأكيد لهذا المعنى؛ أي لا يكونون من أهل الغباوة والغفلة، ممن يخفى عليهم بواطن الأمور، ومعانيها، وليس هذا من باب الشهادة، ولكن من باب التبيّن والتعرّف، وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه، أو جيرانه، أو من ذوي الخبرة بشانه: إنه صادق فيما يدّعيه، أُعطي الصدقة.

ص: 16

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "ليس من باب الشهادات" فيه نظر لا يخفى، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أنّ فيه من العلم أن من ثبت عليه حقّ عند حاكم، فطلب المحكوم له حبسه، واذعَى المحكوم عليه الإفلاس والفقر، لا تسمع دعواه إلا ببيّنة، إن كان المحكوم عليه به لزمه بدل مال حصل في يده، كثمن مبيع، وقرض؛ لثبوت غناه بحصول المبيع، والقرض في يده، وتُقبل دعواه الإفلاس فيما ليس بدل مال، كبدل الغصب، وضمان المتلفات، ونفقة من يلزمه الإنفاق عليه، فلا يُحبس فيما ذُكِر إن ادّعى الفقر؛ لأن الأصل في الآدميّ العسر، وقد قال الله تعالى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} الآية [البقرة: 280]، إلا إذا بَرْهَن خصمه أنّ له مالًا، فيُحْبَس حسبما يراه القاضي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَطْلُ الغنيّ ظلم"، متّفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لَيُّ الواجد يُحِلّ عِرْضَهُ، وعقوبته" حديث حسن، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه.

وهذا إذا لم يكن له مالٌ ظاهر، وإلا انتُرع منه الحقّ، إن كان من جنسه، أو بَيعَ عليه، إن لم يكن من جنسه، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أنه يدلّ على جواز نقل الصدقة من بلدة إلى أخرى، حيث قال:"أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها"، وقد استوفيت البحث في اختلاف العلماء في ذلك في "شرح النسائيّ"، وأن الأصحّ جواز نقلها؛ إذا كان هناك مصلحة راجحة

(1)

.

6 -

(ومنها): أن الحدّ الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قِوام العيش، وسِداد الخلّة، وذلك يعتبر في كلّ إنسان بقدر حاله، ومعيشته، وليس فيه حدّ معلوم، يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف أحوالهم

(2)

.

7 -

(ومنها): ما قال المظهر رحمه الله: من لم يقدر على كسب لزمانة، ونحوها جاز له السؤال بقدر قوت يومه، ومن قدر على الكسب، وتركه

(1)

راجع: "شرح النسائيّ" 22/ 322 - 324.

(2)

راجع: "معالم السنن" للخطابيّ رحمه الله 2/ 237 - 239.

ص: 17

لاشتغاله بتعلّم العلم تجوز له الزكاة والصدقة، ومن تركه للتطوّع من الصلاة والصيام، ونحوهما فلا تجوز له الزكاة، ويكره له صدقة التطوّع، ومن تخلّى في نحو رباط، واشتغل بالطاعة والرياضة، وتصفية الباطن، فيُستحبّ لواحد منهم أن يسأل صدقة التطوّع، وكسرات الخبز، واللباس لهم، وينبغي للسائل أن ينوي الكفاف لهم لا لنفسه، إن لم يكن منهم، لكن لا يُكره أن يأكل معهم، وأن يترك الإلحاح، بل يقول: من يُعطي شيئًا لرضى الله؟، ولا يواجه أحدًا بعينه، فإن أُعطي دعا، وإن لم يُعط لم يَسْخَط، ومن لم يَقُم بهذه الشرائط كان إثمه أكثر من أجره، ولا يجوز للسائل أن يأخذ لهم الزكاة؛ لاقتدارهم على الكسب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره من جواز السؤال لأجل من تجرّد للطاعة، وتصفية الباطن محلّ نظر، فمانه ممن يستطيع الكسب، فلا وجه للسؤال له؛ لدخوله في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب:"فما سواهنّ من المسألة سحتٌ"، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(38) - (بَابُ بَيَانِ الأَمْرِ بِأَخْذِ الْمَالِ الَّذِي جَاءَ بِغَيْرِ سُؤَالٍ، وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2405]

(1045) - (وَحَدَّثنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُول: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1511.

ص: 18

إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أفقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(خُذْهُ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) عن (74) سنة (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ الحافظ، تقدّم قبل باب.

3 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل باب.

6 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

7 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3، أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة التحمّل والأداء، على ما أسلفنا بيانه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول تفرّد به هو والبخاريّ، وأبو داود، والثاني، تفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، غير هارون، فمروزيّ، ثم بغدادي، والنصف الثاني مسلسل بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن سالمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

ص: 19

شرح الحديث:

(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ) أي بسبب عمله، كما سيأتي في الرواية الآتية (فَأَقُولُ: أَعْطِهِ) أي العطاء الذي تعطينه (أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي) أي شخصًا أحوج إليه مني (حَتى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (خُذْهُ) أي ما أعطيته لك (وَمَا) موصولة؛ أي الذي (جَاءَكَ) وقوله: (مِنْ هَذَا الْمَالِ) بيان لـ "ما"(وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول، و"المشرف": المتطلّع للشيء، وهو اسم فاعل من الإشراف -بالمعجمة- وهو التعرّض للشيء، والحرص عليه، من قولهم: أشرف على كذا: إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع: شَرَفٌ؛ لذلك.

قال أبو داود: سألت أحمد عن إشراف النفس؟ فقال: بالقلب، وقال يعقوب بن محمد: سألت أحمد عنه؟ فقال: هو أن يقول مع نفسه: يبعث إليّ فلان بكذا، وقال الأثرم: يَضِيق عليه أن يردّه إذا كان كذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إشراف النفس: تطلّعها، وتشوّفها، وشَرَهُهَا لأخذ المال، ولا شكّ أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال؛ كان ذلك من أدلّ دليل على شدّة الرغبة في الدنيا، والحبّ لها، وعدم الزهد فيها، والركون إليها، والتوسّع فيها، وكلّ ذلك أحوالٌ مذمومة، فنهاه عن الأخذ على هذه الحالة؛ اجتنابًا للمذموم، وقَمْعًا لدواعي النفس، ومخالفة لها في هواها، فإن لم يكن كذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة.

قال الطحاويّ: وليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم. انتهى كلام القرطبيّ

(2)

.

(1)

"الفتح" 15/ 54 في "كتاب الأحكام"، و 4/ 100 في "الزكاة".

(2)

راجع: "المفهم" 3/ 90.

ص: 20

(وَلَا سَائِلٍ) أي غير طالب له، قال النوويّ رحمه الله: فيه النهي عن السؤال، وقد اتفق العلماء على النهي عنه لغير الضرورة، واختُلف في مسألة القادر على الكسب، والأصحّ التحريم، وقيل: يباح بثلاثة شروط: أن لا يُذِلّ نفسه، ولا يُلحّ في السؤال، ولا يؤذي المسؤول، فإن فُقد شرط من هذه الشروط، فهي حرام بالاتفاق. انتهى، وسيأتي تمام البحث في هذه المسألة قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

(فَخُذْهُ) أي وجوبًا على ما قاله بعضهم؛ عملًا بظاهر الأمر، وهو الأظهر، أو استحبابًا على ما عليه الجمهور، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

(وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ) مِن أَتْبع مخفّفًا؛ أي ما لم يُؤْتِك الله بالشرط المذكور، فلا تجعل نفسك تابعةً له، ناظرةً إليه؛ لأجل أن يحصل عندك.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: ما لم يوجد فيه هذا الشرط لا تُعلّق النفس به. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أي لا تعلّقها، ولا تُطمعها في ذلك، فإذا فعلت ذلك بها سكنت، ويئست. انتهى.

وفيه إشارة إلى أن الْمَدَار على عدم تعلّق النفس بالمال، لا على عدم أخذه وردّه على المعطي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 2405 و 2406 و 2407 و 2408 و 2409، (1045)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1473) و"الأحكام"(7164)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1647) و"الخراج"(2944)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2604 و 2605 و 2506 و 2607 و 2608) وفي "الكبرى" (2385 و 2386 و 2387

ص: 21

و 2388 و 2389)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 17 و 21 و 2/ 99)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 12)، و (أحمد) في "مسند العشرة"(101 و 137)، و (الدارميّ) في "سننه"(1647)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 135) و"مسند الشاميين"(1/ 84 و 4/ 156 و 234)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 111)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 183 و 184 و 354) و"المعرفة"(5/ 21)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حكم من رزقه الله تعالى مالًا من غير مسألة، والجمهور على استحباب أخذه على تفصيل في المسألة، لكن القول بالوجوب هو الأقرب؛ لأنه الذي تدلّ عليه ظواهر النصوص، كما سيأتي في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

2 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث أصلٌ في أنّ كلّ مَن عَمِلَ للمسلمين عملًا من أعمالهم العامّة، كالولاية، والقضاء، والْحِسْبة، والإمامة، فارزاقهم في بيت مال المسلمين، وأنهم يُعْطَون ذلك بحسب عملهم. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن للإمام أن يعطي بعض رعيّته إذا رأى لذلك وجهًا، وإن كان غيره أحوج إليه منه.

4 -

(ومنها): أن ردّ عطيّة الإمام ليس من الأدب، ولا سيّما من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7].

5 -

(ومنها): أن فيه منقبةً لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وبيانَ فضله، وزُهده، وإيثاره، وكذا لابن السعديّ رضي الله عنه، فقد طابق فعلُه فعلَه، كما سيأتي بعد حديث.

6 -

(ومنها): أنّ أخذ ما جاء من المال من غير سؤال، ولا إشراف نفس أفضلُ من ردّه؛ لأن أخذه يكون أعون على العمل، وألزم للنصيحة؛ لأنه إذا لم

(1)

"المفهم" 3/ 91.

ص: 22

يأخذ كان عند نفسه متطوّعًا بالعمل، فقد لا يجدّ جدّ من أخذ، ركونًا إلى أنه غير ملتزم، بخلاف الذي يأخذ، فإنه يكون مستشعرًا بأن العمل واجبٌ عليه، فيجدّ جدَّه فيه.

7 -

(ومنها): أن التصدّق بالمال بعد قبضه أفضل من التصدّق قبله؛ لأدن الإنسان إذا دخل المال في يده يكون أحرص عليه، فإذا تصدّق به طيّبة نفسه، كان أدلّ على حبة للخير، وقوة إيمانه، بخلاف ما إذا تصدّق قبل قبضه، فإن النفس لا تطمع إليه كثيرًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم أخذ الشخص ما جاءه من المال، من غير مسألة، ولا إشراف، وفي عطيّة السلطان:

قال النوويّ رحمه الله: اختَلَفَ العلماء فيمن جاءه مالٌ، هل يجب قبوله، أم يُندبُ؟ على ثلاثة مذاهب، حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، وآخرون، والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه يستحبّ في غير عطيّة السلطان، أما عطيّة السلطان، فحرّمها قوم، وأباحها قوم، وكرهها قوم، والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت، وكذا إن أَعطَى من لا يستحقّ، وإن لم يغلب الحرام، فمباحٌ، إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ، وقالت طائفة: الأخذ واجبٌ من السلطان وغيره.

وقال آخرون: هو مندوبٌ في عطيّة السلطان، دون غيره، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال الحافظ: والتحقيق في المسألة أن من عُلِمَ كون ماله حلالًا، فلا تردّ عطيّته، ومن عُلم كون ماله حرامًا، فتحرم عطيّته، ومن شُكّ فيه، فالاحتياط ردّه، وهو الورع، ومن أباحه أَخَذَ بالأصل.

قال ابن المنذر: واحتجّ من رخّص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، وقد رهن الشارع درعه عند يهوديّ، مع علمه بذلك، وكذلك أَخَذَ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير، والمعاملات الفاسدة. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح صحيح مسلم" 7/ 135.

(2)

راجع: "الفتح" 15/ 101.

ص: 23

قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأقوال عندي في مسألة القبول القولُ بالوجوب؛ لظواهر النصوص؛ إذ هي بصيغة الأمر، ولا صارف له إلى الندب، وما ادّعاه بعضهم من الإجماع على الندب غير صحيح؛ لما عرفت من الخلاف.

وأما عطيّة السلطان، فالتفصيل الذي ذكره الحافظ رحمه الله، هو الصواب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في حكم أخذ الراتب لمن يقوم بمصالح المسلمين: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب رزق

(1)

الحاكم، والعاملين عليها، وكان شُرَيح القاضي يأخذ على القضاء أجرًا، وقالت عائشة رضي الله عنها: يأكل الوصيّ بقدر عُمالته، وأكل أبو بكر، وعمر، ثم أورد حديث عمر رضي الله عنه المذكور في الباب محتجًّا به على جواز ذلك.

قال الطبريّ رحمه الله: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شُغِل بشيء من أعمال المسلمين أَخْذَ الرزق على عمله ذلك، كالولاة، والقضاة، وجُبَاة الفيء، وعُمّال الصدقة، وشبههم؛ لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العُمَالةَ على عمله.

وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت رضي الله عنه، كان يأخذ الأجر على القضاء.

واحتجّ أبو عبيد في جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة، وجعل لهم منها حقًّا؛ لقيامهم، وسعيهم فيها.

وقال ابن المنذر: وحديث ابن السعديّ حجة في جواز أرزاق القضاة من وجهها.

وقال النوويّ: في هذا الحديث جواز أخذ العوض على أعمال المسلمين، سواء كانت لدين، أو لدنيا، كالقضاء، والحسبة، وغيرهما. انتهى

(2)

.

(1)

الرزق: ما يرتّبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين. وقال المطرّزيّ: الرزق ما يخرجه الإمام كلّ شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يُخرجه كلّ عام. ذكره في "الفتح" 15/ 51.

(2)

"شرح مسلم" 7/ 138.

ص: 24

وقال الطبريّ: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم؛ لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، ولم يحرّموه مع ذلك.

وقال أبو عليّ الكرابيسيّ: لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبةً، من الصحابة، ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار، لا أعلم بينهم اختلافًا، وقد كره ذلك قوم، منهم مسروق، ولا أعلم أحدًا منهم حرمه.

وقال المهلّب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، فأرادوا أن يجري الأمر على الأصل الذي وضعه الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقّه، فيتحيّل على أموال الناس.

وقال غيره: أخذ الرزق على القضاء؛ إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائز إجماعًا، ومن تركه إنما تركه تورُّعًا، وأما إذا كانت هناك شبهة، فالأولى الترك جزمًا، ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختُلِف إذا كان الغالب حرامًا، وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطًا، لا بدّ منها.

قال الحافظ: وقد جرّ القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذّر إزالة ذلك، والله المستعان. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحاصل أن أخذ الراتب على العمل جائزٌ مطلقًا، على الوجه الذي سبق تقريره آنفًا، ولا ينافي ذلك إخلاص العمل لله تعالى، كما اتّضح ذلك من حديث عمر رضي الله عنه المذكور في الباب، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2406]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 51 - 56.

ص: 25

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْعَطَاءَ، فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: أَعْطِهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ، وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تتبِعْهُ نَفْسَكَ"، قَالَ سَالِمٌ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الحافظ المصريّ، تقدّم قبل باب أيضًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فتَمَوَّلْهُ) أي اتّخذه مالًا.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2407]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَني ابْن شِهَابٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّعْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَابِ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) بن سعيد بن ثُمامة الْكِنديّ الصحابيّ الصغير، مات سنة (91) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 17/ 1712.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّعْدِيِّ) القرشيّ العامريّ، واسم أبيه عمرو.

وقيل: قُدامة، وقيل: عبد الله بن وقدان بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيّ العامريّ، أبو محمد، ويقال له: السعديّ؛ لأنه كان مسترضعًا في بني سعد، وقال فيه بعضهم: ابن الساعديّ، سكن الأردنّ.

ص: 26

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطّاب حديث الْعُمَالة، وعن محمد بن حبيب المصريّ، إن كان محفوظًا. وروى عنه حُويطب بن عبد الْعُزّى، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن مُحيريز، ومالك بن يُخامِر، وأبو إدريس، وبُسْر بن سعيد، وحسّان بن الضمريّ.

قال الواقديّ: توفّي سنة (54)، وقال ابن حبّان: مات في خلافة عمر، قال ابن عساكر: لا أراه محفوظًا.

أخرج له الجماعة، سوى الترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وأعاده بعده.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ عَمْرٌو) معناه: قال: قال عمرو، فحُذف كتابة "قال"، ولا بُدَّ للقارئ من النطق بـ "قال" مرتين، وإنما حَذَفُوا إحداهما في الكتاب اختصارًا، قاله النوويّ رحمه الله.

وقوله: (قَالَ عَمْرٌو: وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ "وحدثني" بالواو، وهو صحيحٌ مَلِيحٌ، ومعناه أن عمرًا حَدَّث عن ابن شهاب بأحاديث عَطَفَ بعضَها على بعض، فسمعها ابنُ وهب كذلك، فلما أراد ابن وهب رواية غير الأول أَتَى بالواو العاطفة؛ لأنه سَمِعَ غير الأول من عمرو معطوفًا بالواو، فَأَتَى به كما سمعه، وقد سبق بيان هذه المسألة في أول الكتاب. انتهى

(1)

.

وقوله: (بِمِثْلِ ذَلِكَ) أي بمثل حديث ابن شهاب الماضي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه؛ يعني أن ابن شهاب حدّث عمرو بن الحارف بهذا الحديث من طريقين: طريق سالم، عن أبيه، وطريق السائب بن يزيد، عن حويطب بن عبد العزّى

(2)

، عن عبد الله بن السعديّ، عن عمر رضي الله عنهم، والطريق الثاني أنزل من الأول بثلاث وسائط؛ لأن الأول وصل فيه ابن شهاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بواسطتين، والثاني وصل فيه بأربع وسائط: السائب، وحُويطب، وابن السعديّ، وعمر رضي الله عنهم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 135.

(2)

وهذا سقط من سند المصنّف، وقد سبق أن الصواب إثباته، فتنبّه.

ص: 27

[تنبيهات]:

[التنبيه الأول]: وقع للإمام مسلم رحمه الله في هذا الإسناد خطأ، حيث قال: عن السائب بن يزيد، عن عبد الله بن السعديّ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأسقط حويطبًا.

قال النوويّ في "شرحه": واعلم أن هذا الحديث مما استُدرك على مسلم، قال القاضي عياض: قال أبو عليّ بن السكن: بين السائب بن يزيد، وعبد الله بن السعديّ رجلٌ، وهو حُويطب بن عبد العزّى، قال النسائيّ: لم يسمعه السائب من ابن السعديّ، بل إنما رواه عن حويطب عنه، وقال غيره: هو محفوظ من طريق عمرو بن الحارث، رواه أصحاب شُعيب، والزبيديّ، وغيرهما، عن الزهريّ، قال: أخبرني السائب بن يزيد أن حويطبًا أخبره أن عبد الله بن السعديّ أخبره، أن عمر أخبره، وكذلك رواه يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب. انتهى كلام القاضي رحمه الله.

قال: وقد رواه النسائيّ في "سننه" كما ذُكِر عن ابن عيينة، عن الزهريّ، عن السائب، عن حويطب، عن ابن السعديّ، عن عمر رضي الله عنه.

قال: ورويناه عن الحافظ عبد القادر الرُّهَاويّ في كتابه "الرباعيّات"، قال: وقد رواه هكذا عن الزهريّ: محمدُ بن الوليد الزبيديّ، وشعيب بن أبي حمزة الحمصيّان، وعُقيل بن خالد، ويونس بن يزيد الأيليان، وعمرو بن الحارث المصريّ، والْحَكَم بن نافع الحمصيّ، ثم ذكر طرقهم بأسانيدها مطوّلةً مطرّقة، كلهم عن الزهريّ، عن السائب، عن حُويطب، عن ابن السعديّ، عن عمر، وكذا رواه البخاريّ من طريق شعيب.

قال عبد القادر: ورواه النعمان بن راشد، عن الزهريّ، فأسقط حويطبًا.

ورواه معمر، عن الزهريّ، واختُلف عنه فيه، فرواه عنه سفيان بن عيينة، وموسى بن أعين، كما رواه الجماعة، عن الزهريّ، ورواه ابن المبارك، عن معمر، فأسقط حويطبًا، كما رواه النعمان بن راشد، عن الزهريّ، ورواه عبد الرزّاق، عن معمر، فأسقط حويطبًا، وابن السعديّ.

ثم ذكر الحافظ عبد القادر طرقهم كذلك، قال: فهذا ما انتهى من طرق هذا الحديث، قال: والصحيح ما اتفق عليه الجماعة -يعني عن الزهريّ، عن

ص: 28

السائب، عن حويطب، عن ابن السعديّ، عن عمر. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الحافظ: ومقتضاه أن يكون سقوط حويطب من رواية مسلم وَهَمًا منه، أو من شيخه، وإلا فذِكْرُه ثابت من رواية غيره كما تقدّم، والله أعلم. انتهى

(2)

.

[التنبيه الثاني]: هذا الإسناد اجتمع فيه أربعة من الصحابة، يروي بعضهم عن بعض: السائب، وحُويطب، وابن السعديّ، وعمر رضي الله عنهم، وقد ذكر بعضهم السند المذكور في بيتين، فقال:

وَفِي الْعُمَالَةِ إِسْنَادٌ بِأَرْبَعَةٍ

مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ عَنْهُمْ ظَهَرَا

السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُوَيْطِبٍ عَبْـ

بدُ اللهِ حَدَّثَهُ بِذَاكَ عَنْ عُمَرَا

(3)

وقد جاءت جملة من الأحاديث، فيها أربعةٌ صحابيّون يروي بعضهم عن بعض، وأربعةٌ تابعيّون يروي بعضهم عن بعض

(4)

.

[التنبيه الثالث]: "حُويطب بن عبد العزّى" بن أبي قيس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤيّ العامريّ، أبو محمد، ويقال: أبو الأصبغ، مكيّ من مسلمة الفتح، وشهد حُنينًا، وكان من المؤلّفة، وجدّد أنصاب الحرم في عهد عمر.

روى عن عبد الله بن السعديّ. وعنه السائب بن يزيد، وابنه أبو سفيان بن حُويطب، وعبد الله بن ئريدة، وغيرهم، قال الدُّوريّ، عن ابن معين: لا أحفظ عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا ثابتًا، وقال الزبير بن بكّار: هو الذي افتدت أمه يمينه، وقال أحمد: بلغني عن الشافعيّ، قال: كان حويطب حَميد الإسلام

(5)

.

وقال الواقديّ: حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، حدّثنا عبد الله بن أبي بكر بن حزم: وكان حويطب يقول: انصرفت من صلح الحديبية، وأنا مستيقن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيظهر، فذكر قصة طويلة.

(1)

"شرح صحيح مسلم" 7/ 136 - 137.

(2)

"الفتح" 15/ 55.

(3)

"الفتح" 15/ 54 - 55.

(4)

"شرح النوويّ" 7/ 136.

(5)

راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 507.

ص: 29

وروى ابن سعد في "الطبقات" من طريق المنذر بن جَهم وغيره، عن حويطب، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة خِفْتُ خوفًا شديدًا، فذكر قصّة طويلة، فَفَرَّقْتُ أهلي بحيث يأمنون، وانتهيت إلى حائط عوف، فأقمت فيه، فإذا بأبي ذرّ، وكانت لي به معرفة -والمعرفة أبدًا نافعة- فسلّمت عليه، فذكرت له، فقال: اجمع عيالك، وأنت آمن، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فاطمأننتُ، فقال لي أبو ذرّ: حتى متى يا أبا محمد؟ قد سُبِقتَ، وفاتك خير كثير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أبرّ الناس، وأحلم الناس، وشرفه شرفك، وعزّه عزّك، فقلت: أنا أخرج معك، فقال: إذا رأيته، فقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله، فقلتها، فقال:"وعليك السلام"، فتشهدتُ، فسُرّ بذلك، وقال:"الحمد لله الذي هداك"، قال: واستقرضني مالًا، فأقرضته أربعين ألفًا، وشهدتُ معه حُنينًا، وأعطاني من الغنائم، ثم قدم حُويطب المدينة، فنزلها إلى أن مات، وباع داره بمكة من معاوية باربعين ألف دينار، فاستكثرها بعض الناس، فقال حويطب: وما هي لمن عنده خمس من العيال؟. وروى عبد الرزاق من طريق أبي نَجِيح، عن حويطب: أن امرأة جذبت أمتها، وقد عاذت منها بالبيت، فشُلّت يدها، فلقد جاء الإسلام، وإن يدها شلّاء.

ورواه الطبرانيّ من وجه آخر من طريق ابن أبي نَجيح، عن أبيه، عن حُويطب، لكن قال: إن العائذة امرأة، وإن الذي جذبها زوجها

(1)

.

قال الواقديّ: كان قد بلغ عشرين ومائة سنة، ستين في الإسلام، وستين في الجاهليّة، قال خليفة: مات سنة (54).

وذكر في "الفتح" أنه كان من أعيان قريش، وأسلم في الفتح، وكان حَمِيد الإسلام، وكانت وفاته بالمدينة سنة (54) من الهجرة، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وهو ممن أُطلق عليه أنه عاش ستين في الجاهليّة، وستين في الإسلام تجوّزًا، ولا يتمّ ذلك تحقيقًا؛ لأنه إن أريد بزمان الإسلام أول البعثة، فيكون عاش سبعًا وستين، أو الهجرة، فيكون عاش فيه أربعًا وخمسين، أو زمن إسلامه هو، فيكون ستًّا وأربعين، والأول أقرب إلى الإطلاق على طريقة

(1)

راجع: "الإصابة" 2/ 304 - 305.

ص: 30

جبر الكسر تارةً، وإلغائه أخرى. انتهى

(1)

.

روى له الشيخان، والنسائيّ حديث الباب فقط، وهو الذي اجتمع فيه أربعة من الصحابة، ثم سقط ذكرُ حُويطب ص كتاب مسلم في جميع النسخ، قاله في "تهذيب التهذيب"

(2)

.

[التنبيه الرابع]: رواية عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّعْدِيِّ هذه ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(7164)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيبٌ، عن الزهريّ، أخبرني السائب بن يزيد ابن أخت نَمِر، أن حُوَيطب بن عبد الْعُزَّى أخبره، أن عبد الله بن السعدي أخبره، أنه قَدِمَ على عمر في خلافته، فقال له عمر: ألم أُحَدَّث أنك تَلِي من أعمال الناس أعمالًا، فإذا أُعطيت الْعُمَالة كرهتها؟ فقلت: بلى، فقال عمر: فما تريد إلى ذلك؟ قلت: إن لي أَفراسًا، وأعبدًا، وأنا بخير، وأريد أن تكون عُمَالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل، فإني كنت أردتُّ الذي أردتَّ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مَرَّةً مالاً، فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"خذه، فتموَّله، وتصدَّق به، فما جاءك من هذا المال، وأنت غير مُشْرِف ولا سائل فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2408]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ الْمَالِكِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَفْتُ مِنْهَا، وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ، أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ، وَأَجْرِي عَلَى اللهِ، فَقَالَ: "خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ، وَتَصَدَّقْ").

(1)

راجع: "الفتح" 15/ 52.

(2)

"تهذيب التهذيب" 1/ 507.

ص: 31

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد، تقدّم قبل باب.

3 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) العابد المدنيّ، مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ جليل [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

والباقون ذكروا قبله.

وقوله: (عَنِ ابْنِ السَّاعِدِيِّ) هكذا وقع في هذا الإسناد "عن أبن الساعديّ" عند المصنّف، من طريق الليث، عن بُكير بن الأشجّ، وخالفه عمرو بن الحارث، عن بكير، في الإسناد التالي، فقال:"عن ابن السعديّ"، وهو المحفوظ، كما سبق تحقيقه، فتنبّه.

قال النوويّ رحمه الله: وإنما قيل له ابن السعديّ؛ لأن أباه استُرْضِعٍ في بني سعد بن بكر بن هَوَازن، صَحِبَ ابن السعديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قديمًا، وقال: وَفَدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سَكَن الشام، رَوَى عنه السائب بن يزيد، وروى عنه جماعات من كبار التابعين. انتهى

(1)

.

وقوله: (الْمَالِكِيّ) نسبة إلى مالك بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ.

وقوله: (بِعُمَالَةٍ) بضمّ العين المهملة، وتخفيف الميم: هي المال الذي يُعطاه العامل على عمله.

وقوله: (فَعَمَّلَنِي) بتشديد الميم: أي أعطاني أُجرة عَمَلي.

وقوله: (فَكُلْ، وَتَصَدَّقْ) فيه دليلٌ على أنه حلالٌ طيّبٌ، يصلح للأكل، والتصدّق، وغيرهما، فأما ما لا يكون كذلك فلا يصلح لشيء من ذلك، كما تقدّم

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 136.

(2)

"المفهم" 3/ 91.

ص: 32

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2409]

(

) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ ابْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ السَّعْدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَلَى الصَّدَقَةِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ) أي حدّث عمرو بن الحارث، عن بكُير ابن الأشجّ بمثل ما حدّث به الليث بن سعد، عنه.

[تنبيه]: رواية عمرو بن الحارث، عن بُكير ابن الأشجّ هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 112) فقال:

(2332)

- حدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، أخبرني ابن وهب، أخبرني عمرو، عن بُكير ابن الأشج، عن بُسْر

(1)

بن سعيد، عن ابن السَّعديّ، قال: استَعْمَلني عمر بن الخطاب على الصدقة، فلما أدّيتها إليه أعطاني عُمَالتي، فقلت: إنما عَمِلتُ لله، وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيتك، فإني عَمِلتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَمَّلَني، فقلت مثل ما قلت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أُعطيتَ شيئًا من غير أن تَسْأَل فَكُلْ، وتصدّق". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وقع في النسخة "بشر" بالشين المعجمة، وهو تصحيف، فتنبّه.

ص: 33

(39) - (بَابُ كَرَاهِيَةِ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2410]

(1046) - (حَدَّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: حُبِّ الْعَيْشِ، وَالْمَالِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الثبت الفقيه الكوفيّ، ثم المكيّ، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وسفيان، فمكيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أنه أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 34

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَبْلُغُ بِهِ) أي بهذا الحديث (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) يعني أنه رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم غير مرّة أن هذه الصيغة من صِيَغ الرفع حكمًا، وإنما عدل التابعيّ، عن التصريح بقول الصحابيّ:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو نحو ذلك؛ لتردّده في الصيغة، هل هي "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو نحو ذلك؟ مع كونه متيقّنًا رفعه، فأتى بصيغة تَحْتَمِل الجميع، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم "قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ) أي قويّ نَشِطٌ (عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ) إنما أنّثه مع قوله: "حبّ العيش والمال" بتأويه بخصلتين؛ أي كائن على حب خصلتين، والمراد استمراره على ذلك، ودوامه عليه، وأن حبة لهاتين الخصلتين لم ينقطع عنه بشيخوخته، وقوله: (حُبِّ الْعَيْشِ، وَالْمَالِ") يجوز فيه الجرّ على البدليّة، والرفع على أنه خبر لمحذوف؛ أي هو العيش والمال، والنصب مفعولًا لفعل مقدّر؛ أي أعني حبّ العيش والمال.

وقوله: "حبّ العيش" هو بمعنى قوله في الرواية التالية: "طول الحياة"؛ أي طول العمر، وقوله:"والمال" هو بمعنى قوله في الرواية التالية أيضًا: "وحبّ المال"؛ يعني أنه يحبّ جمعه، ومنعه.

قال النوويّ رحمه الله: هذا مجاز، واستعارة، ومعناه: أن قلب الشيخ كاملُ الحب للمال، محتكم في ذلك كاحتكام قوّة الشاب في شبابه، هذا صوابه، وقيل في تفسيره غير هذا مما لا يُرتضى. انتهى

(1)

.

وقال في "الطرح": وقيل: وصفه بكونه شابًّا؛ لوجود هذين الأمرين فيه اللذين هما في الشباب أكثر، وبهم أليق؛ للرجاء في طول أعمارهم، ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا، وحب الدنيا هو كثرة المال، وطول الأمل هو طول الحياة المذكوران في الرواية الأخرى، وكذا حب العيش المذكور في رواية مسلم هو طول الحياة، وقوله في رواية البخاريّ من حديث أنس:"وتكبر معه اثنتان" المراد كبرهما في المعنى، وقوّتهما، وعدم ضعفهما، فهو بمعنى

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 138.

ص: 35

قوله في رواية مسلم: "وتَشِبّ منه اثنتان"، وبذلك يندفع قول القائل: كونهما تشبّان منافي لكبرهما؛ لأن المراد بكبرهما قوّتهما، وذلك موافق لشبابهما، وليس المراد كِبَرأ يؤدي إلى الهرم والضعف، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل": المراد بالأمل هنا محبة طول العمر، فسّره حديث أنس الذي بعده في آخر الباب، وسمّاه شابًّا؛ إشارة إلى قوّة استحكام حبة للمال، أو هو من باب المشاكلة والمطابقة.

وقال أيضًا بعد نقل قول النوويّ: "هذا صوابه، وقيل في تفسيره غير هذا، مما لا يرتضى" ما نصّه: وكأنه أشار إلى قول عياض: هذا الحديث فيه من المطابقة، وبديع الكلام الغاية، وذلك أن الشيخ من شأنه أن تكون آماله، وحرصه على الدنيا قد بَلِيَت على بلاء جسمه؛ إذا انقضى عمره، ولم يبق له إلا انتظار الموت، فلما كان الأمر بضدّه ذُمَّ، قال: والتعبير بالشابّ إشارة إلى كثرة الحرص، وبُعْد الأمل الذي هو في الشباب أكثر، وبهم أليق؛ لكثرة الرجاء عادةً عندهم في طول أعمارهم، ودوام استمتاعهم، ولذاتهم في الدنيا. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 2410 و 2411](1046)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6420)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2338)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4233)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 358 و 394 و 443 و 447)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3219)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 328)، و (أبو نعيم) في

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 82.

(2)

الفتح" 11/ 240.

ص: 36

"مستخرجه"(3/ 112 - 113)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 368)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4088)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما جُبل عليه الإنسان، وهو حبّ العيش والمال.

2 -

(ومنها) بيان ذمّ طول الأمل، والحرص على جمع المال، وذلك يقتضي فضل الصدقة للغني، والتعفف للفقير، قاله وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

3 -

(منها): بيان فضل الزهد في الدنيا.

4 -

(ومنها): ما قاله المازريّ رحمه الله: فيه إشارة إلى أن الإرادة في القلب؛ خلافًا لمن رأى أنه في الرأس. انتهى.

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: أحاديث الباب كلّها متواردة على الإخبار عمّا جُبِل الإنسان عليه، من حبّ المال، والحرص على البقاء في الدنيا، وعلى أن ذينك ليسا بمحمودين، بل هما مذمومان، ويُحقّق الذمّ في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ويتوب الله على من تاب"، وقد نصّ الله تعالى على ذمّ ذلك في قوله:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} الآية [البقرة: 96]، وغيره مما في معناه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"

(2)

. انتهى

(3)

.

وقال غيره: الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، فهو راغب في بقائها، فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال؛ لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبًا طولُ العمر، فكلما أحسّ بقرب نفاد ذلك اشتدّ حبة له، ورغبته في دوامه، قاله في "الفتح"

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 82.

(2)

حديث صحيح أخرجه أحمد، والترمذيّ، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ، وهو كما قال.

(3)

"المفهم" 3/ 92.

(4)

"الفتح" 11/ 240.

ص: 37

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2411]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) المخزوميّ المدنيّ الإمام الحجة الفقيه، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وما قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2412]

(1047) - (وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ، وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميمي تقدّم قبل باب.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنّف، كان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدّة وُثُوقه به [10](ت 227) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

3 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

ص: 38

5 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، مدلّسٌ، من كبار [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

6 -

(أَنَسُ) بن مالك بن النضر الأنصاريّ النجّاريّ الصحابيّ الخادم المشهور، مات سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (150) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: ("يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ) بفتح حرف المضارعة، والراء، يقال: هَرِمَ هَرَمًا، من باب تَعِبَ، فهو هَرِمٌ: كبِرَ، وضَعُفَ، وشُيُوخٌ هَرْمَى، مثلُ زَمِنٍ وزَمْنَى، وامرأةٌ هَرِمةٌ، ونسوة هَرْمَى، وهَرِمَاتٌ أيضًا، والْمَهْرَمةُ مثلُ الْهَرَمِ، ومنه قولهم: تركُ العَشَاء مَهْرَمةٌ، ويعدّى بالهمزة، فيقال: أهرمه: إذا أضعفه، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَتَشِبُّ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، يقال: شَبَّ الصبيّ يَشِبّ، من باب ضَرَبَ شَبَابًا، وشَبِيبة، وهو شابّ، وذلك سنّ قبل الكُهُولة، وقومٌ شُبّان، مثلُ فارس وفُرْسان، والأنثى شابّة، وجمعها شوابُّ، مثلُ دابّة ودوابّ

(2)

.

وقوله: (اثْنَتَانِ) تقدّم أنه إنما أنّث "اثنتان" مع كون "الحرص" مذكّرًا بتأويله بخصلتان.

وفي رواية البخاريّ: "يكبر ابن آدم، ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر".

وقال في "العمدة": قوله: "يَكْبَرُ" بفتح الباء الموحدة؛ أي يطعن في السن، قوله:"ويَكْبُرُ معه" بضم الباء؛ أي يَعْظُم، ولو صحت الرواية في الكلمة الثانية بالفتح، فالتوفيق بينه وبين الحديث السابق الذي ذكر فيه الشباب، أن المراد بالشباب الزيادة في القوّة، وبالْكِبَر الزيادة في العدد، فذاك باعتبار الكيف، وهذا باعتبار الكمّ، قالوا: التخصيص بهذين الأمرين، هو أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نَفْسُهُ، فاحب بقاءها، وهو العمر، وسبب بقائها، هو المالُ، فإذا أحسّ بقرب الرحيل قَوِيَ حبة لذلك، كما قيل:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 637.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 302.

ص: 39

وَالْكَرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ يَطِيبُ

(1)

وقال في "الفتح": قوله: "يَكْبَرُ" بفتح الموحدة؛ أي يطعن في السنّ، وقوله:"ويَكْبُر معه" بضم الموحدة؛ أي يَعْظُم، ويجوز الفتح، ويجوز الضم في الأول؛ تعبيرًا عن الكثرة، وهي كثرة عدد السنين بالعِظَمِ. انتهى، وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 2412 و 2413 و 2414](1047)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6421)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2455) و"الزهد"(4234)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4234)، و (الطيالسيّ) في (مسنده)(2005)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 192 و 256)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 113)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3229)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2857)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 368)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4087)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2413]

(

) - (وَحَدَّثَنِي

(2)

أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَني أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الْعَنَزيّ، أبو موسى البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 23/ 36.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 40

3 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَام) الدستوائيّ البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ ربما وَهِم [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدّسْتُوَائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية هشام الدستوائي، عن قتادة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله

(1)

في "صحيحه"، فقال:

(6421)

- حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا هشام، حدّثنا قتادة، عن أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يَكْبَر ابن آدم، ويَكْبُر معه اثنان: حبُّ المال، وطول العمر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2414]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُنْدر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج البصريّ، الإمام الحجة الناقد الشهير [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

أي مع اختلاف في ألفاظه قليلًا، وليس كما قال المصنّف: مثله، فتنبّه.

ص: 41

[تنبيه]: رواية شعبة، عن قتادة هذه، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(11792)

- حدّثنا وكيعٌ، ومحمد بن جعفر، قالا: حدّثنا شعبة، قال ابن جعفر في حديثه: سمعت قتادة، عن أنس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَهْرَم ابن آدم، ويبقى منه اثنتان: الحرص والأمل". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2415]

(1048) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَقتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ، لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ").

رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم تقدّموا قبل حديثين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (151) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ) بن مالك رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ) أي فرضًا وتقديرًا (وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ) وفي الرواية التالية: "من ذهب".

وقال في "الفتح": قوله: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا"، في الرواية الثانية:"لو أن لابن آدم واديًا مالًا لأحبّ أن له إليه مثله"، ونحوه في حديث أنس في الباب، وجمع بين الأمرين في الباب أيضًا، ومثله في مرسل جُبير بن نُفَير، وفي حديث أُبَي.

وقوله: "من مال" فسّره في حديث ابن الزبير بقوله: "من ذهب"، ومثله في حديث أنس في الباب، وفي حديث زيد بن أرقم عند أحمد، وزاد:"وفضّة"، وأوَّله مثل لفظ رواية ابن عباس الأولى، ولفظه عند أبي عبيدة في "فضائل القرآن": كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان

ص: 42

من ذهب وفضة، لابتغى الثالث"، وله من حديث جابر بلفظ: "لو كان لابن آدم وادي نخل". انتهى

(1)

.

(لَابْتَغَى) بالغين المعجمة، وهو افتعالٌ، بمعنى الطلب، ومثله في حديث زيد بن أرقم، وفي الرواية الثانية:"أحبّ"، وفي حديث ابن عبّاس:"لأحبّ"، وقال في حديث أنس:"لتمنى مثله، ثم تمنى مثله، حتى يتمنى أوديةً"(وَادِيًا ثَالِثًا) أي واديًا آخر أعظم منهما ذُخْرًا، وهَلُمّ جَرًّا، كما يشير إليه بقوله:(وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ) أي بطنه، وفي رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج عند الإسماعيليّ:"نفس" بدل "جوف"، وفي حديث جابر كالأول، وفي مرسل جُبير بن نُفير:"ولا يُشْبع -بضم أوله- جوف"، وفي حديث ابن الزبير:"ولا يَسُدّ جوف"، وفي رواية عند البخاريّ:"ولا يملأ عين"، وفي حديث أنس فيه:"ولا يملأ فاه"، ومثله في حديث أبي واقد عند أحمد، وله في حديث زيد بن أرقم:"ولا يملأ بطن".

قال الكرمانيّ رحمه الله: ليس المراد الحقيقة في عضو بعينه بقرينة عدم الانحصار في التراب؛ إذ غيره يملؤه أيضًا، بل هو كناية عن الموت؛ لأنه مستلزم للامتلاء، فكأنه قال: لا يشبع من الدنيا حتى يموت، فالغرض من العبارات كلها واحد، وهي من التفنن في العبارة.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله فقال: وهذا يَحْسُن فيما إذا اختلفت مخارج الحديث، وأما إذا اتحدت فهو من تصرف الرواة، ثم نسبة الامتلاء للجوف واضحة، والبطنُ بمعناه، وأما النفس فعبّر بها عن الذات، وأطلق الذات وأراد البطن، من إطلاق الكل وإرادة البعض، وأما النسبة إلى الفم، فلكونه الطريق إلى الوصول للجوف، وَيحْتَمِل أن يكون المراد بالنفس العين، وأما العين فلأنها الأصل في الطلب؛ لأنه يَرَى ما يُعجبه فيطلبه؛ ليحوزه إليه، وخص البطن في أكثر الروايات؛ لأن أكثر ما يُطلب المال لتحصيل المستلذات، وأكثرها يكون للأكل والشرب. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 531/ 14 - 532 "كتاب الرقاق" رقم (6436 - 6440).

(2)

"الفتح" 14/ 532 "كتاب الرقاق" رقم (6440).

ص: 43

(إِلَّا التُّرَابُ) أي تراب القبر، قال القاري رحمه الله: فيه تنبيه نَبِيه على أن البخل الْمُوَرِّث للحرص مركوز في جِبِلّة الإنسان، كما أخبر الله عز وجل عنه في القرآن، حيث قال أبلغ من هذا الحديث:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} [الإِسراء: 100]، فهذا يدلّ على أن حرص ابن آدم، وخوفه من الفقر الباعث له على البخل، حتى على نفسه أقوى من الطير الذي يموت عَطَشًا على ساحل البحر؛ خوفًا من نفاده، ومن الدودة التي قُوتُها التراب، وتموت جوعاً خشية من فراغه؛ لأن ما ذُكر من الماء والتراب في جنب خزائن رحمة رب الأرباب كقطرة من السحاب. انتهى

(1)

.

(وَيَتُوبُ اللهُ) أي يرجع بالرحمة (عَلَى مَنْ تَابَ") أي رجع إليه بطلب العصمة، أو يتفضل الله بتوفيق التوبة، وتحقيق استعادة العقبى على من تاب؛ أي من محبة الدنيا، والغفلة عن حضرة المولى.

قال النوويّ رحمه الله: معنى "لا يملأ جوفه إلا التراب" أنه لا يزال حريصًا على الدنيا حتى يموت، ويمتلئ جوفه من تراب قبره، وهذا الحديث خرج على حكم غالب بني آدم في الحرص على الدنيا، ويؤيده قوله:"ويتوب الله على من تاب"، وهو متعلِّق بما قبله، ومعناه: أن الله تعالى يقبل التوبة من الحرص المذموم، وغيره من المذمومات

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ويتوب الله على من تاب" أي إن الله يقبل التوبة من الحريص، كما يقبلها من غيره، قيل: وفيه إشارة إلى ذمّ الاستكثار من جمع المال، وتمني ذلك، والحرص عليه؛ للإشارة إلى أن الذي يترك ذلك يُطلَق عليه أنه تاب.

ويَحْتَمِل أن يكون تاب بالمعنى اللغويّ، وهو مطلق الرجوع؛ أي رَجَع عن ذلك الفعل والتمني. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله -بعد نقل كلام النوويّ المتقدّم-: أقول: ويمكن أن

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 456.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 139 - 140.

(3)

"الفتح" 14/ 533.

ص: 44

يقال: معناه إن بني آدم كلهم مجبولون على حب المال، والسعي في طلبه، وأنه لا يَشْبَعُ منه إلا من عصمه الله تعالى، ووفّقه لإزالة هذه الجبِلّة عن نفسه، وقليلٌ ما هم، فوضع "ويتوب الله على من تاب" موضعه؛ إشعارًا بأن هذه الجبِلَّة المركوزة فيه مذمومةٌ، جاريةٌ مَجْرَى الذنب، وأن إزالتها ممكنةٌ، ولكن بتوفيق الله وتسديده، ونحوه قوله تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] أضاف الشحّ إلى النفس؛ دلالة على أنها غَرِيزة فيها، وبَيَّن إزالته بقوله:{يُوقَ} ، ورَتَّب عليه قوله:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

قال: وهاهنا نُكْتةٌ دقيقةٌ، فإنه ذكر ابن آدم تلويحًا إلى أنه مخلوق من التراب، ومن طبيعته القبض واليبس، فيمكن إزالته بأن يُمْطِر الله عليه السحائب من غمائم توفيقه، فَيُثْمِرُ حينئذ الْخِلال الزكيّة، والخصال المرضيّة، كما قال عز وجل:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} الآية [الأعراف: 58] فمن لم يتداركه التوفيق، وتركَهُ وحِرْصَهُ لم يزدد إلا حرصًا، وتهالكًا على جمع المال.

وموقع قوله: "ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" موقع التذييل والتقرير للكلام السابق، ولذلك أعاد ذكر ابن آدم، ونِيطَ به حكمٌ أشملُ وأعمُّ، كأنه قيل: ولا يَشْبَع مَن خُلِق من التراب إلا بالتراب، وموقع "ويتوب الله على من تاب" موقع الرجوع؛ يعني أن ذلك لعسيرٌ صَعْبٌ، ولكن يسير على من يسّره الله تعالى عليه، فحقيق أن لا يكون هذا من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القُوَى والقَدَر. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح" -بعد ذكر كلام الطيبيّ المذكور-: ويَحْتَمِل أن تكون الحكمة في ذكر التراب دون غيره، أن المرء لا ينقضي طمعه حتى يموت، فإذا مات كان من شأنه أن يُدْفَن، فإذا دُفِن صُبّ عليه التراب، فملأ جوفه وفاه وعينيه، ولم يبق منه موضع يحتاج إلى تراب غيره، وأما النسبة إلى الفم،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3322 - 3323.

ص: 45

فلكونه الطريق إلى الوصول للجوف. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 2415 و 2416 و 2417، (1048)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6439)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2337)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19624)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2196)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 122 و 168 و 176 و 236 و 272 و 247)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 318 و 319)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2951 و 3143 و 3181 و 3266 و 3267)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3235 و 3236)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 113 - 115)، و (الضياء) في "المختارة"(3/ 369 و 412)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 184) و"الأوسط"(3/ 188)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن أحاديث الباب تدلّ على ذمّ الحرص والشَّرَه، ومن ثم آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا، والقناعة باليسير، والرضا بالكَفَاف.

2 -

(ومنها): أنه ينبغي للعبد أن يكون قصير الأمل، حتى يُقبل على الآخرة إقبالًا كلّيًّا؛ لأنه إذا كان طويل الأمل في الدنيا فترت همّته في الآخرة.

3 -

(ومنها): بيان كون الإنسان مجبولًا على حبّ الدنيا، والاستكثار منها، وطول البقاء فيها.

4 -

(ومنها): الحثّ على التوبة من هذه الخصال الذميمة.

5 -

(ومنها): بيان سعة كرم الله عز وجل، وفضله حيث إنه إذا تاب العبد إليه تاب عليه، وسَتَرَ ما مضى من عيوبه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ

(1)

"الفتح" 14/ 532.

ص: 46

عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 25 - 26].

وقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لله أشدّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دَوّيّة مُهْلِكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ، وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشدّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته".

وأخرجاه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشدّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فاع يِس منها، فأَتَى شجرةً، فاضطجع في ظلها، قد أَيِس من راحلته، فبينا هو كذلك؛ إذا هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2416]

(

) - (وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَلَا أَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ، أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة، وقد تقدّموا قبل حديث.

وقوله: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) مقول القول هو ما تقدّم في الرواية الماضية، وهو قوله:"لو كان لابن آدم واديان إلخ".

وقوله: (فَلَا أَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ، أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ) ببناء أُنزل للمفعول، هذا من كلام أنس رضي الله عنه بيّن به أنه لم يعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم:"لو كان لابن آدم إلخ" هل هو مما نزل من القرآن المتلوّ، أو هو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوله من عنده، وليس متلوًّا؟.

ص: 47

وحاصل ما أشار إليه أنس رضي الله عنه في هذا أنه شكّ هل هذا الحديث الذي سمعه منه صلى الله عليه وسلم من جملة ما بلّغه عن الله تعالى على أنه قرآن يُتلى، أم من جملة ما بلّغه عنه تعالى، وليس مما يتلى؟.

وقد ذكر الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه حديث أنس رضي الله عنه الآتي بعدُ من رواية ابن شهاب عنه ما نصّه: وقال لنا أبو الوليد

(1)

: حدّثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن أُبَيّ، قال: كنا نَرَى هذا من القرآن حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} . انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "كنا نُرَى" بضم النون: أي نظنّ، ويجوز فتحها من الرأي أي نعتقد، قوله:"هذا" لم يبين ما أشار إليه بقوله: "هذا"، وقد بيّنه الإسماعيليّ، من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، ولفظه: كنّا نرى هذا الحديث من القرآن: "لو أن لابن آدم واديين من مال، لتمنى واديًا ثالثًا

" الحديث، دون قوله: "ويتوب الله إلخ".

وقوله: "حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} "، زاد في رواية موسى بن إسماعيل:"إلى آخر السورة"، وللإسماعيليّ أيضًا، من طريق عفّان، ومن طريق أحمد بن إسحاق الحضرميّ قالا: حدّثنا حماد بن سلمة، فذكر مثله، وأوّله:"كنا نُرى أن هذا من القرآن إلخ".

(1)

قال في "الفتح": قوله: "وقال لنا أبو الوليد" هو الطيالسيّ هشام بن عبد الملك، وشيخه حماد بن سلمة لم يَعُدُّوه فيمن خرّج له البخاري موصولًا، بل عَلَّم المزي على هذا السند في الأطراف علامة التعليق، وكذا رقّم لحماد بن سلمة في "التهذيب" علامة التعليق، ولم ينبّه على هذا الموضع، وهو مصير منه إلى استواء "قال فلان"، و"قال لنا فلان"، وليس بجيّد؛ لأن قوله:"قال لنا" ظاهر في الوصل، وإن كان بعضهم قال: إنها للإجازة، أو للمناولة، أو للمذاكرة، فكل ذلك في حكم الموصول، وإن كان التصريح بالتحديث أشدّ اتصالًا، والذي ظهر لي بالاستقراء من صنيع البخاريّ أنه لا يأتي بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن ليس على شرطه في أصل موضوع كتابه، كان يكون ظاهره الوقف، أو في السند مَن ليس على شرطه في الاحتجاج، ثم ذكر أمثلة لذلك، فراجعه 14/ 534 تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 48

قال ابن بطال وغيره: قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} خرج على لفظ الخطاب؛ لأن الله فَطَر الناس على حب المال والولد، فلهم رغبة في الاستكثار من ذلك، ومِن لازم ذلك الغفلة عن القيام بما أُمروا به، حتى يفجأهم الموت.

ووجه ظنّهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال، والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك، ولا بدّ لكل أحد منه، فلما نزلت هذه السورة، وتضمّنت معنى ذلك مع الزيادة عليه، عَلِموا أن الأول من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد شرحه بعضهم على أنه كان قرآنًا، ونسخت تلاوته لَمّا نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} ، فاستمرت تلاوتها، فكانت ناسخة لتلاوة ذلك، وأما الحكم فيه والمعنى فلم ينسخ؛ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء.

ويؤيد ما ردّه ما أخرجه الترمذيّ، من طريق زِرّ بن حُبيش، عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن"، فقرأ عليه:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]، وقرأ فيها:"إن ذات الدين عند الله الحنيفية المسلمة، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية، ومن يعمل فيه خيرًا فلن يُكْفَره"، وقرأ عليه:"لو أنّ لابن آدم واديًا من مال لابتغى إليه ثانيًا، ولو أن له ثانيًا لابتغى إليه ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"

(1)

، وسنده جيّد.

والجمع بينه وبين حديث أنس عن أُبَيّ المذكور آنفًا أنه يَحْتَمِل أن يكون أُبَيّ لَمّا قرأ عليه النبيّ {لَمْ يَكُنِ} ، وكان هذا الكلام في آخر ما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم احْتَمَلَ عنده أن يكون بقية السورة، واحتَمَلَ أن يكون من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يتهيأ له أن يَستَفْصِل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} ، فلم ينتف الاحتمال.

(1)

حديث حسنٌ، أخرجه الترمذيّ (3793) في "المناقب".

ص: 49

ومنه ما وقع عند أحمد، وأبي عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أَبِي واقد الليثيّ قال: كنا نأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه، فيحدثنا، فقال لنا ذات يوم: "إن الله قال: إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم وادٍ لأحب أن يكون له ثانٍ

" الحديث بتمامه، وهذا يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويَحْتَمِل أن يكون من الأحاديث القدسية، والله أعلم.

وعلى الأول فهو مما نُسخت تلاوته جزمًا، وإن كان حكمه مستمرًّا، ويؤيد هذا الاحتمال ما أخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أبي موسى قال: قرأت سورة نحو براءة، فَغِبتُ وحفظت منها: "ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديًا ثالثًا

" الحديث، ومن حديث جابر: "كنا نقرأ: لو أن لابن آدم ملء وادٍ مالًا لأحب إليه مثله

" الحديث. انتهى

(1)

، وهو بحثٌ مفيدٌ.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ) يعني أن شعبة حدّث عن قتادة بمثل ما حدّث به أبو عوانة في الرواية السابقة.

[تنبيه]: رواية شعبة، عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(12392)

- حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، ولا أدري أشيء أُنزِل، أو كان يقوله؟:"لو أن لابن آدم واديين من مال، لتمنى، أو لابتغى واديًا ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2417]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ

(1)

"الفتح" 14/ 535 - 536 "كتاب الرقاق" رقم (6441).

ص: 50

كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ

(1)

، أَحَبَّ أَنَّ لَهُ وَادِيًا آخَرَ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَاللهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا أيضًا في الباب الماضي، و"أنس بن مالك" رضي الله عنه ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2418]

(1049) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْ أَن لِابْنِ آدَمَ مِلْءَ وَادٍ مَالًا لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَلَا يَمْلَأُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَاللهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا أَدْرِي أَمِنَ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا؟ وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَمِنَ الْقُرْآنِ؟ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله) الْحَمَّال، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيه فًاضلٌ، كان يدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ

(1)

وفي نسخة: "وادي ذهب".

ص: 51

فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لما أسلفناه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين من ابن جريج.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع، في غير موضع.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً) هو: ابن أبي رباح (يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": هذا من الأحاديث التي صرّح فيها ابن عبّاس بسماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي قليلة بالنسبة لمرويّه عنه، فإنه أحد المكثرين، ومع ذلك، فتحمّله كان أكثره عن كبار الصحابة رضي الله عنهم. انتهى

(1)

.

(يَقُولُ: "لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِلْءَ وَادٍ) بالنصب على أنه اسم "أَنّ" مؤخَّرًا (مَالًا) منصوب على التمييز (لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَلَا يَمْلَأُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ) ولفظ البخاريّ: "ولا يملأ جوف ابن آدم"، وفي لفظ له:"ولا يملأ عين ابن آدم"(إِلَّا التُّرَابُ، وَاللهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَلَا أَدْرِي) أي لا أعلم، فـ"لا" نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها (أَمِنَ الْقُرْآنَ هُوَ) أي الحديث المذكور (أَمْ لَا؟) أي أم ليس من القرآن، وقد سبق البحث في هذا مستوفًى في حديث أنس رضي الله عنه الماضي.

(1)

"الفتح" 14/ 531 "كتاب الرقاق" رقم (6436 و 6437).

ص: 52

وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ) أي ابن حرب شيخه الأول (قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَمِنَ الْقُرْآنِ؟) أي قال عطاء: "فلا أدري إلخ"(لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسِ) يعني أنه جعله من كلام عطاء، والصواب أنه من كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما قال هارون بن عبد الله، وقد رواه البخاريّ عن محمد بن سلام، عن مخلد، عن ابن جريج، فقال: قال ابن عبّاس

، فذكره، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 2418](1049)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6436 و 6437)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 370)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3231)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 448)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 247) و"مسند الشاميين"(3/ 314)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 403)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(114)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 368)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4090)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(3/ 324)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2419]

(1050) - (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدِّةِ بِبَرَاءَةَ، فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا:"لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ، لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ"، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً،

ص: 53

كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ، فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا

(1)

: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، فَتُكْتَبُ شَهَادَةً في أَعْنَاقِكُمْ، فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثانيّ، أبو محمد، صدوقٌ، إلا أنه عَمِي، فتلقّن ما ليس من حديثه، من قُدماء [10](240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القشيريّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

4 -

(أَبُو حَرْبِ بْنُ أَيِي الْأَسْوَدِ) الدِّيليّ البصريّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وأبي ذَرٍّ والصحيح عن أبيه، وعن عمة، وعن مِحْجن عنه، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن فَضَالة الليثيّ، وعُمير بن يَثْرِبي قاضي البصرة، وعبد الله بن قيس البصريّ.

وروى عنه قتادة، وداود بن أبي هند، والقطان، وعثمان بن عمير البجليّ، وعثمان بن قيس البجليّ، وسيف بن وهب، وابن جريج، وغيرهم.

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من قراء أهل البصرة، وقال: كان معروفًا، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو وعمرو بن عليّ: مات سنة تسع ومائة، وقال خليفة في "الطبقات": إن اسمه كنيته، وذكر أنه مات سنة ثمان ومائة، وذكر عبد الواحد بن علي في "أخبار النحاة" عن أبي حاتم السجستانيّ قال: تعلّم النحو من أبي الأسود ابنُهُ عطاء، فإن صح هذا فيَحْتَمِلُ أن يكون هو اسم أبي حرب؛ لأنهم لم يذكروا لأبي الأسود ولدًا غيره، وقال ابن قتيبة: كان أبو حرب شاعرًا عاقلًا ولاه الحجاج جَوْخَى

(2)

،

(1)

وفي نسخة: "قد حفِظت منها".

(2)

"جَوْخَى" كسكرَى: اسم موضع. اهـ. "ق".

ص: 54

فلم يزل عليها حتى مات الحجاج، وقال ابن عبد البرّ في "الكنى": هو بصريّ ثقةٌ.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ في "خصائص عليّ"، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(أَبُوهُ) أبو الأسود الدِّيليّ، أو الدُّؤَليّ البصريّ، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، وقيل: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، وقيل غير ذلك، ثقةٌ فاضل مخضرم [2](ت 69)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

6 -

(أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصتف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكنى.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين روى بعضهم عن بعض، والابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ) الدّيليّ أنه (قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ) رضي الله عنه (إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) أي أرسل إليهم ليجتمعوا إليه، فيَعِظَهم (فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ) وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج: "جمع أبو موسى القرَّاء، فقال: لا تدخلوا عليّ إلا من جمع القرآن، قال: فدخلنا عليه زُهاء ثلاثمائة رجل، فوعظنا

" (فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) أي أفضلهم، وأرفعهم درجة عند الله بسبب عنايتكم بالقرآن، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلّم القرآن، وعَلَّمه".

وفي رواية أبي نعيم المذكورة: "وقال: أنتم قرّاء أهل البلد".

(وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ) أي اقرؤوا القرآن، مِن تلا القرآن تلاوةً: إذا قرأه،

ص: 55

ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: اتّبعوه، واعملوا بما فيه، مِن تلا الرجلَ يتلوه تُلُوًّا، على فُعُول: إذا تبعه

(1)

. (وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ) بفتحتين: أي الزمن (فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ) بنصب "تقسوَ" بـ "أن" مضمرة بعد الفاء السببيّة الواقعة في جواب النهي، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

قال القرطبيّ رحمه الله: يعني به: لا تستطيبوا مُدّة البقاء في الدنيا؛ فإن ذلك مُفسد للقلوب بما يجرّه إليها من الحرص والقسوة حتى لا تلين لذكر الله، ولا تنتفع بموعظة، ولا زجر. انتهى

(2)

.

(كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) من الأمم السابقة: اليهود والنصارى، وهذا إشارة إلى قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الحديد: 16].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": يقول تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله؛ أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه، وتنقاد له، وتسمع له وتطيعه.

أخرج مسلم في "صحيحه" من طريق عون بن عبد الله، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان ما كان بين إسلامنا، وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية إلا أربع سنين.

وقال سفيان الثوريّ، عن المسعوديّ، عن القاسم، قال: مَلّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: حدّثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] قال: ثم مَلّوا مَلّةً، فقالوا: حدّثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ، الآية [الزمر: 23]، ثم مَلُّوا ملة، فقالوا: حدّثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}

(3)

.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 76.

(2)

"المفهم" 3/ 93.

(3)

صححه الشيخ الألباني رحمه الله من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه في "صحيح موارد الظمآن"(1462).

ص: 56

وقال قتادة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} ذُكِر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما يُرفع من الناس الخشوع"

(1)

.

وقوله تعالى: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} نَهَى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حُمِّلوا الكتاب من قبلهم، من اليهود والنصارى، لَمّا تطاول عليهم الأمد بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلّدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] أي في الأعمال فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} الآية [المائدة: 13] أي فسدت قلوبهم، فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي امروا بها، وارتكبوا ما نُهوا عنه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.

وأخرج ابن أبي حاتم بسند حسن عن الربيع بن عَمِيلة الفزاريّ، قال: حدّثنا عبد الله بن مسعود حديثًا ما سمعت أعجب إلي منه إلا شيئًا من كتاب الله، أو شيئًا مما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، اختَرَعوا كتابًا من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم، واستحلته ألسنتهم، واستلذّته، وكان الحقّ يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، فقالوا: تعالوا ندعو بني إسرائيل إلى كتابنا هذا، فمن تابعنا عليه تركناه، ومن كَرِه أن يتابعنا قتلناه، ففعلوا ذلك، وكان فيهم رجل فقيه، فلما رأى ما يصنعون عَمَدَ ما يَعْرِف من كتاب الله، فكتبه في شيء لطيف، ثم أدرجه، فجعله في

(1)

صححه الشيخ الألباني رحمه الله من حديث أبي الدرداء وشداد بن أوس رضي الله عنهما في "صحيح الترغيب والترهيب"(542 - 543).

ص: 57

قرن، ثم عَلَّق ذلك القرن في عنقه، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل، فادعوا فلانًا، فاعرضوا عليه كتابكم، فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس، وإن أبى فاقتلوه، فدَعَوا فلانًا ذلك الفقيه، فقالوا: أتؤمن بما في كتابنا هذا؟ قال؟ وما فيه؟ اعرضوه عليّ، فعرضوه عليه إلى آخره، ثم قالوا: أتؤمن بهذا؟ قال: نعم آمنت بما في هذا، وأشار بيده إلى القرن، فتركوه، فلما مات فتَّشُوه، فوجدوه معلقًا ذلك القرن، فوجدوا فيه ما يُعْرَف من كتاب الله، فقال بعضهم لبعض: يا هؤلاء ما كنا نسمع هذا أصابته فتنة، فافترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن"، قال ابن مسعود: هانكم أوشك بكم إن بَقِيتم، أو بقي من بقي منكم أن تروا أمورًا تنكرونها، لا تستطيعون لها غِيَرًا، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره

(1)

.

وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} [الحديد: 17] فيه إشارة إلى أن الله تعالى يُلِين القلوب بعد قسوتها، ويَهْدي الْحَيَارى بعد ضِلّتها، ويُفَرّج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الْهَتّان الوابل، كذلك يَهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مُقْفَلة، لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضِلّ لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعّال، وهو الحكيم العدل في جميع الفِعَال، اللطيف الخبير الكبير المتعال. انتهى

(2)

.

(وَاِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ) وفي رواية أبي نعيم المذكورة: "لقد أنزلت سورة كنّا نشبّهها ببراءة طولًا وتشديدًا، فنسيتها، غير أني قد حفظت منها آية فيها: لو كان لابن آدم

".

(1)

صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" برقم (2694) وقال: في حكم المرفوع.

(2)

"تفسير ابن كثير" 4/ 311 - 312.

ص: 58

(فَأُنْسِيتُهَا) بالبناء للمفعول، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا ضرب من النسخ، فإن النسخ على ما نقله علماؤنا على ثلاثة أضرُب:

أحدها: نسخ الحكم، وبقاء التلاوة.

والثاني: عكسه، وهو نسخ التلاوة، وبقاء الحكم.

والثالث: نسخ الحكم والتلاوة، وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما أبو موسى رضي الله عنه، فإنهما رُفع حكمهما وتلاوتهما، وهذا النحو من النسخ هو الذي ذكره الله تعالى حيث قال:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية [البقرة: 106] على قراءة من قرأ بضمّ النون، وكسر السين، وكذلك قوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 - 7]، وهاتان السورتان مما قد شاء الله تعالى أن يُنسيه بعد أن أنزله، وهذا لأن الله تعالى فعّالٌ لما يريد، قادرٌ على ما يشاء؛ إذ كلّ ذلك ممكنٌ، ولا يَتَوهّم متوهّمٌ من هذا وشبهه أن القرآن ضاع منه شيءٌ، فإن ذلك باطلٌ بدليل قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تُعُبِّدنا بتلاوته، وبأحكامه هو ما ثبت بين دَفّتي المصحف، من غير قلادة ولا نقصان. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: جعله هاتين السورتين مما نسخ حكمًا وتلاوةً لا يخفى ما فيه، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ، لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ"، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً، كنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ) بصيغة الفاعل؛ أي السور التي في أولها لفظ التسبيح، كـ {سَبَّحَ لِلَّهِ} ، و {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} .

وفي رواية أبي نعيم: "وأنزلت سورة كنّا نشبّهها بالمسبِّحات، أولها "سبّح لله"، فنسيتها

".

(1)

"المفهم" 3/ 93 - 94.

ص: 59

(فَأُنْسِيتهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا

(1)

: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) هو استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي فيكون كذبًا، أو في المستقبل فيكون خُلْفًا، وكلاهما مذموم، وهذا معنى ما في قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3]، وأما في هذا الحديث فإنما يتناول أن يُخبر عن نفسه بشيء فعله فيما مضى، ويتمدّح به فقط، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فَتُكْتَبُ) بالرفع؛ أي فهي تكتب، وَيحْتَمِل أن يكون منصوب بعد الفاء السببيّة، لكن الأول أظهر، كما يدلّ عليه رفع قوله: "فتُسألون"، والله تعالى أعلم. (شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ، فَتُسْأَلُونَ) ولفظ أبي نعيم: "ثم تسألون" (عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ") هو معنى قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 13 - 14].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال معمر: وتلا الحسن البصريّ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} يا ابن آدم بُسِطَت لك صحيفتك، وَوُكِّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مُتَّ طُوِيت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتابأ تلقاه منشورًا:{اقْرَأْ كِتَابَكَ} الآية، فقد عَدَلَ والله مَن جعلك حسيب نفسك، قال ابن كثير رضي الله عنه: هذا من أحْسَن كلام الحسن رحمه الله. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

وفي نسخة: "قد حفِظت منها".

(2)

"تفسير ابن كثير" 3/ 29.

ص: 60

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 2419](1050)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 115)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كراهة الحرص على الدنيا، والتكالب عليها.

2 -

(ومنها): بيان فضل أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه حيث كان يعتني بالدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في الزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة.

3 -

(ومنها): بيان فضل البصرة حيث كان من أهلها علماء قرّاء لكتاب الله تعالى.

4 -

(ومنها): بيان جواز النسخ في كتاب الله تعالى، ووقوعه، وهو مجمع عليه بين المسلمين.

5 -

(ومنها): الإشارة إلى انقسام النَّسخ إلى الأقسام المذكورة، وقد استوفيت البحث في ذلك بما فيه الكفاية في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فراجعه تستفد علومًا جمّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(40) - (بَابُ بَيَانِ فَضْلِ غِنَى النَّفْسِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2420]

(1051) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ").

ص: 61

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

والباقون كلّهم تقدّموا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لما أسلفناه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه زُهير، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من أبي الزناد، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ، وزُهير نسائيّ، ثم بغداديّ، وابن نمير كوفيّ.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ) -بفتح العين، والراء المهملتين، وبالضاد المعجمة-: متاع الدنيا، وحُطامها، من أيّ نوع كان، سُمِّي بذلك؛ لزواله، ومنه قوله تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} ، وفي الحديث:"الدنيا عرضٌ حاضرٌ، يأكل منه البرّ والفاجر"، وأما العَرْض بإسكان الراء، فهو ما عدا النقد، والنقدُ هو الدراهم والدنانير، قاله أبو زيد، والأصمعيّ، وغيرهما، وقال أبو عبيد: العَرْض: المتاع الذي لا يدخله كيل ولا وزن، ولا يكون حيوانًا ولا عقارًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وأما العَرَض فهو ما يُنتفَع به، من متاع الدنيا، ويُطلق

(1)

"طرح التثريب" 4/ 80.

ص: 62

بالاشتراك على ما يقابل الجوهر، وعلى كل ما يَعْرِض للشخص، من مرض ونحوه.

وقال أبو عبد الملك البونيّ فيما نقله ابن التين عنه قال: اتَّصل بي عن شيخ من شيوخ القيروان أنه قال: العرض بتحريك الراء: الواحد من العُرُوض التي يُتَّجَر فيها، قال: وهو خطأ، فقد قال الله تعالى:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} الآية [الأعراف: 169]، ولا خلاف بين أهل اللغة في أنه ما يَعْرِض فيه، وليس هو أحد العروض التي يُتَجَر فيها، بل واحدها عَرْض بالإسكان، وهو ما سوى النقدين.

وقال أبو عبيد: العروض: الأمتعة، وهي ما سوى الحيوان والعقار، وما لا يدخله كيل ولا وزن، وهكذا حكاه عياض وغيره.

وقال ابن فارس: العرض بالسكون: كلُّ ما كان من المال غير نقد، وجمعه عُرُوضٌ، وأما بالفتح فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا، قال تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الآية [الأنفال: 67]، وقال:{وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الآية [الأعراف: 169]. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: "عن كثرة العرض""عن" هنا سببيّة، قاله في "الفتح"، وقال في "الطرح":"عن" هنا يَحْتَمِل معناها أوجهًا:

[أحدها]: أن تكون للتعليل، كما قيل في قوله تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53]، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114]؛ أي ليس عِلّيّة الغنى وسببه كثرة العرض.

[ثانيها]: أن تكون للظرفية؛ أي ليس الغنى في كثرة العرض.

[ثالثها]: أنها بمعنى الباء، كما في قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} أي بالهوى؛ أي ليس الغنى بكثرة العرض. انتهى

(2)

.

(وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ") معنى الحديث: ليس الغنى الحقيقيّ المعتبر من كثرة المال، بل هو من استغناء النفس، وعدم الحرص على الدنيا، ولهذا

(1)

"الفتح" 14/ 558 "كتاب الرقاق" رقم (6446).

(2)

"طرح التثريب" 4/ 80 - 81.

ص: 63

ترى كثيرًا من المتموِّلين فقير النفس، مجتهدًا في الزيادة، فهو لشدّة شَرَهِهِ، وشدّة حِرْصه على جمعه، كانه فقيرٌ، وأما غنى النفس، فهو من باب الرضا بقضاء الله؛ لعلمه أن ما عند الله لا ينفد، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: الغنى المحمود غنى النفس، وشِبَعُها، وقلّة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبًا للزيادة لم يستغن بما معه، فليس له غنى، وسبقه القاضي عياض رحمه الله إلى ذلك، ثم حَكَى عن الإمام المازريّ أنه قال: يَحْتَمِل أن يريد الغنى النافع، والذي يَكُفّ عن الحاجة، وليس ذلك على ظاهره؛ لأنه معلوم أن كثير المال غنيّ. انتهى.

وحاصل هذا إثبات الغنى لغنيّ النفس، والمبالغة فيه، حتى ينفي الغنى عمن فقده، وإن كثر ماله، مع أنه غنيّ بالحقيقة، لكنه نُفِي لانتفاء ثمرته، فإنه وإن وجد الغنى بالمال مع الحرص، فهو غير محمود، ولا نافع، كما يُسَمَّى العالم الذي لا يعمل بعلمه جاهلًا؛ لانتفاء ثمرة العلم في حقه، والله أعلم

(2)

.

وقال في "الفتح" عند قوله: "إنما الغنى غنى النفس" ما نصّه: في رواية الأعرج، عن أبي هريرة، عند أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما:"إنما الغنى في النفس"، وأصله في مسلم، ولابن حبان من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرّ أترى كثرة المال هو الغنى؟ " قلت: نعم، قال:"وترى قلة المال هو الفقر؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال:"إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب".

قال ابن بطال رحمه الله: معنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسّع الله عليه في المال، لا يقنع بما أُوتي، فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه؟ فكأنه فقيرٌ؛ لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي، وقَنِعَ به، ورَضِي، ولم يَحْرِص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فكأنه غني.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى الحديث: إن الغِنَى النافعَ، أو العظيم، أو

(1)

"عمدة القاري" 23/ 55.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 81.

ص: 64

الممدوح، هو غِنَى النفس، وبيانه: أنه إذا استغنت نفسه كَفَّت عن المطامع، فَعَزَّت، وعَظُمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله مَن يكون فقير النفس؛ لحرصه، فإنه يُوَرّطه في رذائل الأمور، وخسائس الأفعال؛ لدناءة همته، وبخله، ويكثر من يذمّه من الناس، ويَصْغُر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل.

والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعًا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يُلِحّ في الطلب، ولا يُلْحِف في السؤال، بل يرضى بما قَسم الله له، فكأنه واجد أبدًا، والمتصف بفقر النفس على الضدّ منه؛ لكونه لا يقنع بما أُعطِي، بل هو أبدًا في طلب الازدياد، من أيّ وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حَزِن وأَسِف، فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغن بما أُعطِي، فكأنه ليس بغنيّ.

ثم غِنَى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمره؛ علمًا بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو مُعْرِض عن الْحِرْص والطلب وما أحسن قول القائل [من الطويل]:

غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ منْ سَدِّ حَاجَةٍ

فَإِنْ زادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرَا

وقال الطيبيّ رحمه الله: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وإلى ذلك أشار القائل [من الطويل]:

وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ

مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ

أي ينبغي أن يُنفق أوقاته في الغنى الحقيقي، وهو تحصيل الكمالات، لا في جمع المال، فإنه لا يزداد بذلك إلا فقرًا. انتهى.

وهذا وإن كان يمكن أن يراد، لكن الذي تقدَّم أظهر في المراد، وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب، بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره، فيتحقق أنه المعطي المانع، فيرضى بقضائه، ويشكره على نعمائه، ويَفْزَع إليه في كشف ضَرَّائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه تعالى، والغنى الوارد في قوله:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8] يتنزل على غنى النفس، فإن الآية مكية، ولا يَخْفَى ما كان فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن تُفْتَح عليه خيبر وغيرها، من قلة

ص: 65

المال، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ حسنٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 2420](1051)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6446)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2373)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(13861)، و (النسائيّ) في "الرقاق" من "الكبرى"(11786)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1063)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 243)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 115)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2/ 453)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 203)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 133 و 478)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل القناعة، والحثّ عليها، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

2 -

(ومنها): بيان انقسام الغنى إلى قسمين: غنى قلبيّ، وغني ماليّ، ولا ينفع هذا إلا من كان عنده الأول.

3 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى المعنى المراد بالحياة الطيّبة في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الآية [النحل: 97]، فليست الحياة الطيّبة بكثرة المال والجاه، وإنما هي بحياة القلب، وغناه بربّه، واطمئنانه بذكره، وعدم الالتفات إلى ما سواه إلا ما كان طاعة لله عز وجل، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن فيه بيان ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الفهم الدقيق لمراد الشارع الحكيم، فلذا تقرأ في سيرهم وتراجمهم

(1)

"الفتح" 14/ 558 - 559 "كتاب الرقاق" رقم (6446).

ص: 66

شدّة حذرهم من الدنيا، والتقلّل منها، وزهدهم فيها؛ لعلمهم أن كثرتها يُفسد قلوبهم، ويورثهم فقرًا أبديًّا، ومن فتح الله عليه منهم الدنيا تراه يبذلها، وينفقها في وجوه الخير، ولا يدّخر لنفسه، ولا لأهله إلا ما لا بدّ له منه، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهوديّ بسبب طعام أخذه لأهله، مع أن الله تعالى فتح عليه خيبر وغيرها من البلدان، ولكنه أنفق ذلك في سبيل الله تعالى، اللهم ارزقنا اتّباع سنّته، وأحينا، وأمتنا، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار أهلها أحياءً وأمواتًا، إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات، برحمتك يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(41) - (بَابُ التَّحْذِيرِ مِنَ الاغْتِرَارِ بِزِينَةِ الذُنْيَا، وَمَا يُبْسَطُ مِنْهَا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2421]

(1052) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ، قَالَ: حَدَّثنا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ:"لَا وَاللهِ مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:"كَيْفَ قُلْتَ؟! قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، أَوَ خَيْرٌ هُوَ؟ إِنَّ كُلَّ مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ

(1)

خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثَلَطَتْ، أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، فَعَادَتْ، فَأَكَلَتْ، فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ، يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ").

(1)

وفي نسخة: "حتى امتلأت".

ص: 67

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمام الفقيه المصريّ، تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب أيضًا.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ) واسم أبيه كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3] مات في حدود (120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ) بن أبي سَرْح القرشيّ العامريّ المكيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلافهما في كيفيّة التحمّل والأداء، وذلك أن الظاهر أن يحيى أخذه من الليث قراءة، ولذا قال: أخبرنا الليث بن سعد، ونسبه أيضًا إلى أبيه، وقتيبة أخذه سماعًا، ولذا قال: حدّثنا ليثٌ، ولم ينسبه إلى أبيه، وقد أسلفت هذا غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن فيه قوله: "وتقاربا في اللفظ"، وذلك إشارة إلى القاعدة المعروفة عند المحدّثين، وهي أنه إذا روى عن شيخين، فأكثر، واتفقا في المعنى دون اللفظ، فله جمعهما في الإسناد، ثم يسوق الحديث على لفظ أحدهما، فيقول: أخبرنا فلان وفلان، واللفظ لفلان، أو هذا لفظ فلان، قال، أو قالا: أخبرنا فلان، ونحوه من العبارات، فمان لم يخص، فقال: أخبرنا فلان وفلان، وتقاربا في اللفظ، قالا: حدّثنا فلان جاز على جواز الرواية بالمعنى، فإن لم يقل: تقاربا فلا بأس به، على جواز الرواية بالمعنى، وإن كان قد عيب به البخاريّ، أو غيره، قاله النوويّ في "التقريب"

(1)

.

(1)

راجع: "التقريب" مع شرحه "التدريب" 2/ 111 - 112.

ص: 68

وإلى ذلك أشرت بقولي:

وَلَوْ رَوَى عَنِ الشُّيُوخِ مَا اتَّفَقْ

مَعْنَى حَدِيثِهِمْ وَلَفْظُهُ افْتَرَقْ

يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ فِي السَّنَدِ

وَيُورِدُ الْمَتْنَ بِلَفْظِ وَاحِدِ

مُبَيِّنًا وَإِنْ يَكُنْ قَدْ أَجْمَلَهْ

مَعَ إِشَارَةِ للْمُرَادِ جَازَ لَهْ

فَقَالَ "قَدْ تَقَارَبُوا فِي اللَّفْظِ" أَوْ

"واتَّحَدَ الْمَعْنَى" فَحَقِّقْ مَا رَأَوْا

وَكَانَ ذَا رِوَايَةً بِالْمَعْنَى

وَتَرْكُهُ "تَقَارَبَا" فِي الْمَبْنَى

لَا بَأْسَ كَالْمَاضِي وَإِنْ عِيبَ بِهِ

مِثْلُ الْبُخَارِيِّ الإِمَامِ النَّبِهِ

(1)

3 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من المقبريّ، والليث مصريّ، ويحيى نيسابوريّ، وقتيبة بَغْلانيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

6 -

(ومنها): أن فيه أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ) القرشيّ العامريّ المكيّ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الآتية من رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد "قال: "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم

" (فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: "لَا وَاللهِ مَا) نافية مؤكّدة لـ "لا" فُصل بينهما بالقسم (أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَّا مَا يُخْرِجُ) بضمّ أوله، من الإخراج (اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا") بيان لـ "ما"، قال في "اللسان": وزَهْرة الدنيا -بفتح الزاي، وسكون الهاء، وفتحها-: حُسنها، وبَهْجتها، وغَضَارتها، وفي التنزيل العزيز:{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131]، قال أبو حاتم السجستانيّ: زَهَرة الدنيا -بالفتح-، وهي قراءة العامّة بالبصرة، قال:

(1)

بفتح، فكسر: كفرِحَ فهو فَرِحٌ. "المصباح".

ص: 69

وزَهْرة هي قراءة أهل الحرمين، وأكثر الآثار على ذلك. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": "الزهرة" -بفتح الزاي، وسكون الهاء-، وقد قُرئ في الشاذّ عن الحسن وغيره بفتح الهاء، فقيل: هما بمعنى، مثلُ جَهْرَة، وجَهَرَة، وقيل: بالتحريك جمع زاهر، كفاجر وفَجَرَة، والمراد بالزهرة الزينة، والبهجة، كما في الحديث، والزهرة مأخوذة من زَهْرة الشجر، وهو نَوْرُها -بفتح النون- والمراد ما فيها من أنواع المتاع، والعين، والثياب، والزرع، وغيرهما مما يفتخر الناس بحسنه مع قلّة البقاء. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟) وفي رواية مالك التالية: "وهل يأتي الخير بالشرّ؟ "، وفي رواية هلال بن ميمونة الآتية:"أوَ يأتي الخير بالشرّ؟ " بفتح واو "أَوَ"، والهمزة للاستفهام، والواو عاطفة على مقدّر؛ أي أتصير النعمة عقوبة؟؛ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله تعالى، فهل تعود هذه النعمة نقمةً؟، وهو استفهام استرشاد، لا إنكار، والباء في قوله:"بالشرّ" صلة ليأتي؛ أي هل يستجلب الخيرُ الشرّ؟

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وهل يأتي الخير بالشرّ؟ " سؤالُ مَنِ استبعد حصول شرّ من شيء سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم "بركات"، وسمّاه خيرًا في قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8] وشِبْهِهِ مما سُمّي المال فيه خيرًا، فلما فَهِم صلى الله عليه وسلم سؤاله هذا الاستبعاد أجابه جواب من بقي عنده اعتقاد أن الخير الذي هو المال قد يَعرِض له أن يحصل عنه شرّ؛ إذا تعدّى به حدّه، وأسرف فيه، ومنع من حقّه، ولذلك قال:"أَوَ خيرٌ هو؟ " -بهمزة الاستفهام، وواو العطف الواقعة بعدها المفتوحةِ على الرواية الصحيحة- مُنكِرًا على من توهّم أنه يحصل منه شرّ أصلًا، لا بالذات، ولا بالْعَرَض. انتهى

(4)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أوَ يأتي الخير بالشرّ؟ " الاستفهام فيه استرد منهم، ومن ثَمَّ حَمِدَ صلى الله عليه وسلم السائل، والباء في "بالشرّ" صلة "يأتي"؛ يعني هل

(1)

لسان العرب في مادّة زهر.

(2)

"الفتح" 13/ 23 - 24.

(3)

"الفتح" 24/ 13.

(4)

المفهم 3/ 96.

ص: 70

يَستجلِب الخيرُ الشرَّ؟ وجوابه صلى الله عليه وسلم بـ"لا يأتي الخير بالشرّ" معناه: لا يأتي الخير بالشرّ، ولكن قد يكون سببًا له، ومؤدّيًا إليه، فإن الربيع قد يُنبت أحرار العُشب والكلأ فهي كلّها خير في نفسها، وإنما يأتي الشرّ من قِبَل الآكل، فمن آكلٍ مستلذّ مفرطٍ منهمك فيها بحيث تنتفخ فيه أضلاعه، وتمتلئ خاصرتاه، ولا يُقلع عنه، فيُهلكه سريعًا، ومن آكلٍ كذا فيُشرفه إلى الهلاك، ومن آكلٍ مسرف حتى تنتفخ خاصرتاه، لكنه يتوخّى إزالة ذلك، ويتحيّل في دفع مضرّتها حتى ينهضم ما أكل، ومن آكلٍ غير مفرط، ولا مسرف، يأكل منها ما يسُدّ جَوْعته، ولا يُسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه.

الأول مثال الكافر، والثاني مثال المؤمن الظالم لنفسه المنهمك في المعاصي، والثالث مثال المقتصد، والرابع مثال السابق الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(فَصَمَتَ) أي سكت، يقال: صَمَتَ صَمْتًا، من باب نصر: إذا سكت، وصُمُوتًا، وصُمَاتًا، فهو صامت، وأصمته غيره، وربّما استُعمل الرباعيّ لازمًا أيضًا

(1)

. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالرفع على الفاعليّة (سَاعَةً) أي قدرًا قليلًا من الزمن، وإنما سكت صلى الله عليه وسلم منتظرًا للوحي، كما يدلّ عليه قوله في الرواية الثالثة:"ورُئينا أنه يُنزَل عليه، فأفاق يمسح الرُّحَضَاء"(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم مستثبتًا لما قاله الرجل ("كَيْفَ قُلْتَ؟ " قَالَ) الرجل (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) وفي رواية مالك التالية: "قال: لا يأتي الخير إلا بالخير"، وكرّره ثلاث مرّات.

قال في "الفتح": ويؤخذ منه أن الرزق ولو كَثُر فهو من جملة الخير، وإنما يَعرِض له الشرّ بعارض البخل به عمن يستحقّه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يُشْرَع، وأن كلّ شيء قَضَى الله أن يكون خيرًا، فلا يكون شرًّا، وبالعكس، ولكن يُخْشَى على من رُزِق الخير أن يَعرِض له في تصرّفه فيه ما يجلب له الشرّ. انتهى.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 346 - 347.

ص: 71

(أَوَ خَيْرٌ هُوَ؟) ووقع في مرسل سعيد المقبريّ، عند سعيد بن منصور:"أو خيرٌ هو؟ " مكرّرًا ثلاث مرّات، وهو استفهام إنكار؛ أي إن المال ليس خيرًا حقيقيًّا، وإن سُمّي خيرًا؛ لأن الخير الحقيقيّ هو ما يَعْرِض له من الإنفاق في الحقّ، كما أنّ الشرّ الحقيقيّ فيه ما يَعرِض له من الإمساك عن الحقّ، والإخراج في الباطل، وما ذُكر في الحديث بعد ذلك من قوله:"وإن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوة" كضرب المثل بهذه الجملة. انتهى

(1)

.

(إِنَّ كُل مَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ) -بفتح الراء، وكسر الموحّدة-: قيل: هو الفصل المشهور بالإنبات، وقيل: النهر الصغير المنفجر عن النهر الكبير.

وقال القرطبيّ. الْجَدْوَل الذي يُسقَى به، والجمع أربعاء، والجدول: النهر الصغير الذي ينفجر من النهر الكبير.

وقال في "المصباح": والرَّبِيع الجدولُ، وهو النهر الصغير، قال الجوهريّ: وجمع ربيع أَرْبِعَاءُ، وأَرْبِعَةٌ، مثلُ نصيبٍ، وأنصباءَ، وأنصبةٍ، وقال الفرّاء: يُجمع رَبيع الكلإِ، وربيع الشهور أَرْبِعَةً، وربيع الجدول أَرْبِعَاء، ويصغّر رَبيع على رُبَيِّعٍ، وبه سمّيت المرأة، ومنه الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عَفْراء. انتهى.

ويَحْتَمِل أن يكون معنى الربيع: المطر النازل في وقت الربيع، ففي "اللسان": والرَّبيع أيضًا لمطر الذي يكون في الربيع. انتهى.

[تنبيه]: لفظ هذه الرواية "إن كلَّ ما يُنبت الربيع"، ولفظ الرواية التالية:"إن كلّ ما أنبت الربيع"، هاتان الروايتان محمولاتان على الرواية الثالثة بلفظ:"وإن مما يُنبت الربيع"، فتقدّر فيهما "من"، فهو من باب:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، أفاده النوويّ رحمه الله. انتهى

(2)

.

وجعل في "الفتح""مِن" في قوله: "مما ينبت" للتكثير، لا للتبعيض ليوافق رواية:"كلّ ما أنبت".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذكره النوويّ من حمل رواية "كلّ" على رواية "مما"، من كون المقصود هنا التبعيض أوضح مما قاله في "الفتح"، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 13/ 24.

(2)

"شرح مسلم" 7/ 144.

ص: 72

وإسناد الإنبات إلى الربيع مجازيّ؛ إذ المنبت في الحقيقة هو الله تعالى، وهذا الكلام كلّه وقع كالمثل للدنيا، وقد وقع التصريح بذلك في مرسل سعيد المقبريّ

(1)

.

(يَقْتُلُ حَبَطًا) -بفتح الحاء المهملة، والموحّدة، والطاء المهملة أيضًا-: هو انتفاخ البطق من كثرة الأكل، يقال: حَبِطَتِ الإبلُ تَحْبَطُ حَبَطًا، من باب تَعَبَ: إذا أصابت مَرْعًى طيّبًا، فأمعنت في الأكل، حتى تنتفخ، فتموت، وذلك أن الربيع يُنبت أحرار العشب، فتستكثر منها الماشية

(2)

.

قال في "الفتح": وروي بالخاء المعجمة، من التخبّط، وهو الاضطراب، والأول المعتمد. انتهى.

(أَوْ يُلِمُّ) بضم أوله، وكسر ثانية، من الإلمام، وهو القرب؛ أي يقارب القتل.

(إِلَّا) -بكسر الهمزة، تشديد اللام- على الاستثناء، وهذا هو المشهور الذي قاله الجمهور، من أهل الحديث، واللغة، وغيرهم، قال القاضي عياض: ورواه بعضهم "أَلَا" بفتح الهمزة، وتخفيف اللام، على الاستفتاح

(3)

.

(آكِلَةَ الْخَضِرِ) -بالمدّ، وكسر الكاف- بصيغة اسم الفاعل، منصوب على الاستثناء المتّصل، والمستثنى منه محذوف؛ أي يَقْتُلُ كلَّ آكلة، إلا آكلة الْخَضِر، ويَحْتَمِل أن يكون الاستثناء منقطعًا، بمعنى "لكن"، و"آكلة" مبتدأ محذوف الخبر؛ أي لكن آكلة الْخَضِر تنتفع بأكلها، فإنها تأخذ الكلأ على الوجه الذي ينبغي.

وأما ما قاله بعضهم من أن الاستثناء مفرغّ في الإثبات، فضعيف؛ لأن الاستثناء المفرّغ لا يقع في الإثبات، إلا على رأي ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال في "الكاشف": قال البيضاويّ: والاستثناء مفرغّ، و"آكلةَ" منصوب على أنه مفعول "يَقْتُلُ"، والأصل: إن مما يُنبت الربيع ما يَقْتُلُ آكله إلا آكل

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 25.

(2)

"الكاشف" 10/ 3275 - 3276.

(3)

"شرح مسلم للنوويّ" 7/ 143.

ص: 73

الخَضِرِ على هذا الوجه، وإنما صحّ الاستثناء المفرَّغ من الْمُثْبَت؛ لقصد التعميم فيه، ونظيره: قرأت إلا يوم كذا.

قال الطيبيّ: وعليه ظاهر كلام المظهر، والأظهر أن الاستثناء منقطع؛ لوقوعه في الكلام المثبَت، وهو غير جائز عند صاحب "الكشّاف" إلا بالتأويل، ولأن ما يَقتُلُ حَبَطًا بعض ما يُنبت الربيع؛ لدلالة "من" التبعيضيّة عليه، والتقسيم في قوله:"إلا آكلة الخَضِرِ"؛ لأن الخَضِر غير ما يَقتُلُ حَبَطًا، يشهد له ما في "شرح السنّة". انتهى

(1)

.

و"الخَضِرُ" بفتح الخاء، والضاد المعجمتين، وكذا لأكثر رواة البخاريّ، وهو ضرب من الكلأ، يُعجب الماشية، وواحده خَضِرَة، وفي رواية الكشميهني:"خُضْرَة" بضمّ الخاء، وسكون الضاد، وزيادة الهاء في آخره، وفي رواية السرخسيّ:"الخَضْرَاء" بفتح أوّله، وسكون ثانية، وبالمدّ، ولغيرهم:"خُضَر" بضمّ أوله، وفتح ثانية، جمع خُضْرَة، أفاده في "الفتح".

وقال الطيبيّ رحمه الله: "الخضر" بكسر الضاد: نوع من البقول ليس من أحرارها وجيّدها، وإنما ترعاه المواشي إذا لم تجد سواه، فلا تكثر من أكله، ولا تستمرئ به. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَكَلَتْ) حال بتقدير "قد"، وفي رواية مالك التالية:"فإنها تأكل"، وفي رواية هلال الثالثة:"فإنها أَكَلَت"(حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ) وفي نسخة: "حتى امتلأت"، وفي رواية مالك:"حتى إذا امتدّت"(خَاصِرَتَاهَا) تثنية خاصرة، بخاء معجمة، وصاد مهملة: وهما جانبا البطن، من الحيوان، وفي رواية الكشميهني:"خاصرتها" بالإفراد، والمعنى: حتى إذا شَبِعَت (اسْتَقْبَلَتِ) وفي رواية للبخاريّ: "أتت"(الشَّمْسَ) وفي رواية هلال: "استقبلت عين الشمس"، وقوله:(ثَلَطَتْ) جواب الشرط، وفي رواية هلال:"فثلطت" بالفاء، وهو بمثلّثة، ولام مفتوحتين، ثم طاء، من باب ضَرَب، كما تفيده عبارة "القاموس"، وضبطها ابن التين: بكسر اللام: أي ألقت ما في بطنها رقيقًا، وقال النوويّ:

(1)

"الكاشف" 10/ 3276.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3276.

ص: 74

الثَّلْط

(1)

، وهو الرجيع الرقيق، وأكثر ما يقال للإبل، والبقر، والفيلة. انتهى.

(أَوْ بَالَتْ) وفي رواية هلال: "وبالت" بالواو، وهي واضحة، ويَحْتَمِل أن تكون "أو" هنا بمعنى الواو، ويبعد كونها للشك (ثُمَّ اجْتَرَّتْ) بالجيم؛ أي استرفعت ما أدخلته في كَرْشها من العَلَف، فأعادت مَضْغَه، قال النوويّ: قال أهل اللغة: الجِرَّة بكسر الجيم: ما يُخرجه البعير من بطنه ليمضعه، ثمّ يبلعه، والقصع: شدّة المضغ. انتهى.

(فَعَادَتْ) أي إلى الأكل، وفي رواية مالك:"ثم عادت"(فَأَكَلَتْ) وفي رواية هلال: "ثُمَّ رَتَعَتْ" يقال: رَتَعت الماشيةُ، من باب نفع، رُتُوعًا: رَعَت كيف شاءت. قاله في "المصباح".

والمعنى: أنها إذا شبعت، فثقل عليها ما أكلت، تحيّلت في دفعه، بأن تجترّ، فيزداد نُعُومةً، ثم تستقبل الشمس، فتَحْمَى بها، فيسهل خروجه، فإذا خرج زال الانتفاخ، فسَلِمَت، وهذا بخلاف من لم تتمكّن من ذلك، فإن الانتفاخ يقتلها سريعًا.

وقال الأشرف: في قوله: "حتى امتدّت خاصرتاها استقبلت عين الشمس" أن المقتصد المحمود العاقبة، وإن جاوز حدّ الاقتصاد في بعض الأحيان، وقرُب من الإسراف المذموم؛ لغلبة الشهوة المركوزة في الإنسان، وهو المعنى بقوله:"أكلت حتى امتدّت خاصرتاها"، لكنه يرجع عن قريب عن الحدّ المذموم، ولا يثبُت عليه، بل يلتجئ إلى الدلائل النيِّرة، والبراهين الواضحة الدافعة للحرص المهلك القامعة له، وهو المدلول عليه بقوله:"استَقْبَلتْ عين الشمس، وثَلَطَتْ، وبالت"، فحذف ما حذف في المرّة الثانية؛ لدلالة ما قبلها عليه، وفيه إشارة إلى أن المحمود العاقبة، وإن تكرّر منه الخروج عن حدّ الاقتصاد، والقرب من حدّ الإسراف مرّة بعد أولى، وثانية بعد أخرى؛ لغلبة الشهوة عليه، وقوّتها فيه، لكنه يمكن أن يبعد بمشيئه الله تعالى عن الحدّ المذموم الذي هو الإسراف، ويقرب من الاقتصاد الذي هو الحدّ المحمود.

قال الطيبيّ رحمه الله: فعلى هذا الاستثناءُ متّصلٌ، لكن يجب التأويل في

(1)

الثلْطُ -بفتح، فسكون-: رقيق سَلْح الفيل ونحوه. القاموس.

ص: 75

المستثنى، والمعنى: أن من جملة ما يُنبت الربيع شيئًا يَقتُل آكله إلا الْخَضِرَ منه إذا اقتَصَدَ فيه آكله، ودَفَع ما يؤدّيه إلى الهلاك. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال الأزهريّ رحمه الله: وأما قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع ما يَقتُلُ حَبَطًا، أو يُلمّ"، فإن أبا عُبيد فَسّر الْحَبَط، وترك من تفسير هذا الحديث أشياء، لا يستغني أهل العلم عن معرفتها، فذكرتُ الحديث على وجهه لأفسّر منه كلّ ما يُحتاج من تفسيره، ثمّ أورد الحديث بتمامه، ثم قال: وإنما تقصّيت رواية هذا الخبر؛ لأنه إذا بُتِرَ استَغْلَق معناه، وفيه مثلان: ضَرَب أحدَهما للْمُفْرِطِ في جمع الدنيا، مع منع ما جَمَع من حقّه، والمثل الآخر ضربه للمقتصد في جمع المال، وبذله في حقّه.

فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطًا"، فهو مثل الحريص، والْمُفْرِط في الجمع والمنع، وذلك أن الربيع يُنبت أحرار العُشْب التي تَحْلَوْلِيها

(2)

الماشيةُ فتستكثر منها، حتى تَنتَفِخ بطونها، وتَهْلِكَ، كذلك الذي يجمع الدنيا، ويَحْرِص عليها، وَيشِحّ على ما جمع حتى يمنع ذا الحقّ حقّه منها يَهلِكُ في الآخرة بدخول النار، واستيجاب العذاب.

وأما مثلُ المقتَصِدِ المحمود، فقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا آكلة الْخَضِرِ، فإنها أكلت، حتى إذا امتلأ خَواصرها استقبلت عين الشمس، فثَلَطت، وبالت، ثم رتعت"، وذلك أن الْخَضِرَ ليس من أحرار البقول التي تستكثر منها الماشيةُ، فتُهلكه أكلًا، ولكنّه من الْجَنْبَة

(3)

التي تَرعاها بعد هَيْجِ العُشْب

(4)

، ويُبْسه، قال: وأكثر ما رأيت العرب يجعلون الْخَضِرَ ما كان أخضر من الْحَلِيّ

(5)

الذي لم يَصفرّ،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3277.

(2)

أي تجده حلوًا.

(3)

الْجَنْبةُ: عاقة الشجر التي تتربّلُ في الصيف. قاله في "القاموس". ومعنى تتربّل: أي تنبت.

(4)

أي يبسه، فـ"يبسه " عطف تفسير له.

(5)

الْحَلِيّ كغَنيّ: نبات بعينه، وهو من خير مراتع أهل البادية للنعم، والخيل، وإذا ظهرت ثمرته، أشبه الزرع؛ إذا أسبل. أفاده في "اللسان".

ص: 76

والماشيةُ ترتعِ منه شيئًا، فشيئًا، ولا تستكثر منه، فلا تَحْبَط بطونها عنه، قال: وقد ذكره طَرَفة، فبيّن أنه من نبات الصيف في قوله:

كَبَنَاتِ الْمَخْرِ يَمْأَدْنَ

(1)

إِذَا

أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ

(2)

الْخَضِرْ

فالْخَضِر من كلأ الصيف في القَيْظِ، وليس من أحرار بُقول الربيع، والنَّعَمُ لا تَسْتَوبله

(3)

، ولا تحبط بُطونها عنه، قال: وبنات مَخْرٍ أيضًا، وهي سحائبُ يأتين قُبُلَ الصيف، قال: وأما الْخُضَارةُ، فهي من البقول الشِّتَويّة، وليست من الْجَنْبَة، فضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم آكلة الخضر مثلًا لمن يقتصد في أخذ الدنيا، وجَمْعِها، ولا يُسرف في قَمّها

(4)

والحرص عليها، وأنه ينجو من وَبَالها، كما نَجَت آكلة الْخَضِر، ألا تراه قال: فإنها إذا أصابت من الخضر، استقبلت عين الشمس، فثلطت، وبالت، وإذا ثلطت، فقد ذهب حَبَطُها، وإنما تَحْبَط الماشية إذا لم تَثلِطْ، ولم تَبُل، وأْتُطِمت

(5)

عليها بطونها، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا آكلة الخضر" معناه: لكن آكلة الخضر.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَة" هاهنا الناعمة الْغَضّة، وحَثَّ على إعطاء المسكين، واليتيم منه، مع حلاوته، ورغبة الناس فيه؛ ليقيه الله تبارك وتعالى وَبَالَ نَعْمَتِها في دنياه وآخرته. انتهى كلام الأزهريّ رحمه الله

(6)

.

(فَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِحَقِّهِ) أي بأن اكتسبه من وجه حلال، وفي رواية مالك:"إن هذا المال خَضِرةٌ حُلْوَةٌ"، وفي رواية هلال:"وإن هذا المال خَضِرٌ حُلْوٌ"، ومعنى "خَضِرَةٌ" بفتح، فكسر: أي كبقلة خَضِرة في المنظر، ومعنى:"حُلْوَةٌ" بضمّ، فسكون: أي كفاكهة حُلْوة في الذَّوْق، فلكثرة ميل الطبع يأخذ الإنسان بكلّ وجه، فيؤدّيه ذلك إلى الوجه الذي لا ينبغي، فيهلك.

(1)

مأد النبات، كمنع: اهتزّ، وتروّى، وجرى فيه الماء. قاموس.

(2)

جمع عُسْلُوج، قال في "القاموس: الْعُسْلُجُ، والْعُسْلُوج: ما لان، واخضرّ من الْقُضْبان. انتهى.

(3)

أي لا تشتهيه.

(4)

أي جمعها.

(5)

بالبناء للمفعول: أي انتفخت بطونها.

(6)

راجع: "لسان العرب" في مادّة (حبط).

ص: 77

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فمن أخذه بحقّه" أي باحتياجه، وحلّه، "ووضعه في حقّه" بأن أخرج منه حقّه الواجب فيه شرعًا كالزكاة، فنعم المعين هو لصاحبه، يبلغ به الخير، وينجو به من الشرّ.

قال الشيخ أبو حامد: مثال المال مثال الحيّة التي فيها ترياق نافع، وسمّ ناقعٌ، فإن أصابها المغرم الذي يعرف وجه الاحتراز عن شرّها، وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة عليه، وإن أصابها السواديّ الغبيّ، فهي عليه بلاء مُهلك. انتهى

(1)

.

(يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ) بالبناء للمفعول؛ أي يجعل الله تعالى البركة في ذلك المال، وفي رواية مالك:"فَنِعْم المعونة هو"، وفي رواية هلال:"إن هذا المال خَضِرٌ حُلْوٌ، وبعم صاحب المسلم هو لمن أعطَى منه المسكين، واليتيم، وابن السبيل".

(وَمَنْ يَأْخُذْ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ) بأن أخذه ظلمًا، أو اكتسبه من وجه حرام، أو من غير احتياج إليه، ولم يخرج منه حقه الواجب (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ") يعني أنه كلما نال منه شيئًا ازدادت رغبته، واستَقَلَّ ما في يده، ونظر إلى ما فوقه فينافسه.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" ذُكر في مقابلة قوله: "فنعم المعونة هو"، ومعناه أن أخذ المال بغير حقّه بان جمعه من الحرام، ومن غير احتياج إليه، ولم يخرج منه حقه الواجب فيه، فيكون ذلك وبالًا عليه، لا معونة له، فيصير كالداء العضال الذي يُهلك صاحبه، وهو الحرص الباعث على من به جوع الكلب، فإن مصيره إلى الهلاك. انتهى.

زاد في رواية هلال: "ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة"؛ أي يكون ذلك المال حجة عليه، يشهد يوم القيامة على حرصه وإسرافه، وكونه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى، ولم يؤدّ حقه، وهذه هي الفضيحة الكبرى، وذلك الخزي العظيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3278.

ص: 78

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 2421 و 2422 و 2423](1052)، و (البخاريّ) في "الجمعة"(922) و"الزكاة"(1465) و"الجهاد"(2842) و"الرقاق"(6427)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(5/ 608)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2581) وفي "الكبرى"(2362)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3995)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 290)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 21 و 91)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 454)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 15 - 16)، و (البيهقيّ)(3/ 198)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان استحباب جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة في غير خطبة الجمعة، ونحوها.

2 -

(ومنها): بيان استحباب جلوس الناس حول الإمام؛ ليمكنهم السماع لموعظته.

3 -

(ومنها): التحذير من المنافسة في الدنيا.

4 -

(ومنها): استفهام العالم عمّا يُشكل، وطلب الدليل لدفع المعارضة.

5 -

(ومنها): تسمية المال خيرًا، ويؤيّده قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]، وقوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180].

6 -

(ومنها): ضرب المثل بالحكمة، وإن وقع في اللفظ ذكر ما يُستَهْجَن، كالبول والغائط، فإن ذلك يُغتفر لما يترتّب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام.

7 -

(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي عند إرادة الجواب عما يُسال عنه، وهذا على ما ظنّه الصحابة رضي الله عنهم، ويَحْتَمِل أن يكون سكوته ليأتي بالعبارة

(1)

المراد فوائده المستفادة من طرقه المختلفة المشار إليها في الشرح، لا خصوص السياق المذكور، فتنبّه.

ص: 79

الوجيزة الجامعة المفهمة، وقد عدّ ابن دُريد هذا الحديث، وهو قوله:"إنّ مما يُنبت الربيع يقتل حبطًا، أو يُلمّ" من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يُسبق صلى الله عليه وسلم إلى معناه، وكلّ من وقع شيء منه في كلامه، فإنما أخذه منه. قاله في "الفتح".

8 -

(ومنها): ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلقاه من شدّة الوحي من العناء، حتى يتصبّب منه العرق، وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"إن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الْجَرَس، وهو أشدّه عليّ، فيُفْصَم عنّي، وقد وَعَيتُ منه ما قال، وأحيانًا يمثّل لي الملك رجلًا، فيكلّمني، فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيُفصَم عنه، وإن جبينه، ليتفصّد عَرَقًا".

9 -

(ومنها): أنه يستفاد منه ترك الْعَجَلة في الجواب؛ إذا كان يحتاج إلى التأمّل.

10 -

(ومنها): لوم من ظُنّ به تعثّتٌ في السؤال، وحَمْدُ من أجاد فيه.

11 -

(ومنها): ما قيل: إن فيه تفضيلَ الغنيّ على الفقير. قال الحافظ رحمه الله: ولا حجة فيه؛ لأنه لا يمكن التمسّك به لمن لم يرجّح أحدهما على الآخر، والعجب أن النوويّ قال: فيه حجة لمن رجّح الغنيّ على الفقير، وكان قبل ذلك شرح قوله:"لا يأتي الخير إلا بالخير" على أن المراد أن الخير الحقيقيّ لا يأتي إلا بالخير، لكن هذه الزهرة ليست خيرًا حقيقيًّا؛ لما فيها من الفتنة، والمنافسة، والاشتغال عن كمال الإقبال على الآخرة، قال الحافظ: فعلى هذا يكون حجّة لمن يفضّل الفقر على الغنى، والتحقيق أن لا حجّة فيه لأحد القولين. انتهى

(1)

.

12 -

(ومنها): الحضّ على إعطاء المسكين، واليتيم، وابن السبيل.

13 -

(ومنها): أن المكتسب للمال من غير حلّه لا يُبارَك له فيه؛ لتشبيهه بالذي يأكل، ولا يشبع.

(1)

"الفتح" 13/ 27.

ص: 80

14 -

(ومنها): ذمّ الإسراف، وكثرة الأكل، والنَّهَم فيه.

15 -

(ومنها): أن اكتساب المال من غير حلّه، وكذا إمساكه عن إخراج الحقّ منه سبب لمحقه، فيصير غير مبارك، كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء في بيان التمثيل الذي ورد في هذا الحديث:

قال في "الفتح": يؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف؛ لأن الماشية إذا رَعَت الخَضِر للتغذية، إما أن تقتصر منه على الكفاية، وإما أن تستكثر، الأول الزهّاد، والثاني، إما أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضرّ، فإذا أخرجه زال الضرّ، واستمرّ النفع، وإما أن يُهمل ذلك، الأول العاملون في جمع الدنيا بما يجب من إمساك وبذل، والثاني العاملون في ذلك بخلاف ذلك.

وقال الطيبيّ رحمه الله: يؤخذ منه أربعة أصناف:

فمن أكل منه أَكْلَ مُستَلِذّ، مُفرِط، منهمك، حتى تنتفخ أضلاعه، ولا يُقلع، فيسرع إليه الهلاك.

ومن أكل كذلك، لكنه أخذ في الاحتيال لدفع الداء بعد أن استحكم، فغلبه، فأهلكة.

ومن أكل كذلك، لكنه بادر إلى إزالة ما يضرّه، وتحيّل في دفعه، حتى انهضم، فيسلم.

ومن أكل غير مفرط، ولا منهمك، وإنما اقتصر على ما يسدّ جوعته، ويُمسك رَمَقَه.

فالأول: مثال الكافر، والثاني: مثال العاصي الغافل عن الإقلاع، والتوبة، إلا عند فواتها، والثالث: مثل للمخلّط المبادر للتوبة، حيث تكون مقبولة، والرابع: مثال الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، وبعضها لم يُصرَّح به في الحديث، وأخذُهُ منه مُحْتَمِل.

وقال الزين ابن الْمُنير رحمه الله: في هذا الحديث وجوه من التشبيه بديعة: (أولها): تشبيه المال، ونموّه بالنبات وظهوره.

ص: 81

(ثانيها): تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب، بالبهائم المنهمكة في الأعشاب.

(ثالثها): تشبيه الاستكثار منه، والادّخار به بالشَّرَه في الأكل، والامتلاء منه.

(رابعها): تشبيه الخارج من المال مع عظمته في النفوس حتى أدّى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السَّلْح، ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعًا.

(خامسها): تشبيه المتقاعد عن جمعه، وضمّه بالشاة إذا استراحت، وحطّت جانبها، مستقبلة عين الشمس، فإنها من أحسن حالاتها سكونًا، وسكينةً، وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها.

(سادسها): تشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرّها.

(سابعها): تشبيه المال بالصاحب الذي لا يُؤمن أن ينقلب عدوًّا، فإن المال من شأنه أن يُحرَز، ويُشدّ وَثَاقه حبًا له، وذلك يقتضي منعه من مستحقّه، فيكون سببًا لعقاب مقتنيه.

(ثامنها): تشبيه آخذه بغير حقّ بالذي يأكل، ولا يشبع. انتهى.

وقال الغزاليّ رحمه الله: مثَلُ المال مَثَلُ الحيّة التي فيها ترياقٌ نافعٌ، وسمّ ناقع، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرّها، ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبيّ، فقد لقي البلاء المهلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2422]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 26 - 27.

ص: 82

الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ، مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا"، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "بَرَكَاتُ الْأَرْضِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ:"لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلَّا بالْخَيْرِ، إِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ، أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ، فَإِنَّهَا تَأْكُلُ، حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، وَبَالَتْ، وَثَلَطَتْ، ثُمَّ عَادَتْ، فَأَكَلَتْ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ، حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بحَقِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، أبو عبد الله الفقيه الحجة المشهور، إمام المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

4 -

(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ فقيه [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

5 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) مولى ميمونة رضي الله عنها المدنيّ، ثقةٌ فاضل عابدٌ، من صغار [2](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

و"أبو سعيد" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا) أي حسنها وبهجتها، وكثرة خيرها.

وقوله: (إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ، حُلْوَةٌ) قال التوربشتيّ: هكذا على التأنيث، وقد روي أيضًا:"خَضِرٌ حُلْوٌ"، والوجه فيه أن يقال: إنما أُنّث على معنى تأنيث المشبّه به؛ أي إن هذا المال شيء كالخَضِرة، وقيل: معناه كالبَقْلة الخَضِرة، أو يكون على معنى فائدة المال؛ أي إن الحياة به، أو المعيشة خَضِرة.

قال الطيبيّ: ويُمكن أن يعبّر عن المال بالدنيا؛ لأنه أعظم زينتي الحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [الكهف: 46]،

ص: 83

فيوافق حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: "الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2423]

(

) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ

(2)

، أَخْبَرَنَا

(3)

إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَالَ: "إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ

(4)

مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ تُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يُكَلِّمُكَ، قَالَ: وَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ، وَقَالَ: "إِن هَذَا السَّائِلُ"، وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ، فَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ، أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ، فَإِنَّهَا أَكَلَتْ، حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ، فَثَلَطَتْ، وَبَالَتْ، ثُمَّ رَتَعَتْ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ، حُلْوٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ، لِمَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ، وَالْيَتِيمَ، وَابْنَ السَّبِيلَ -أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ، كَانَ كَالَّذِي يَأْكَلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

(1)

أشار به إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".

(2)

وفي نسخة: "ابن حجر السعديّ".

(3)

وفي نسخة: "حدّثنا".

(4)

وفي نسخة: "ما يفتح الله عليكم".

ص: 84

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ فاضلٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(هِشَامٌ صَاحِبُ الدَّسْتَوَائِيِّ) هو: ابن أبي عبد الله سَنْبَر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل البصريّ، ثم الياميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

5 -

(هِلَالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ) هو: هلال بن عليّ بن أُسامة العامريّ المدنيّ، ثقة [5] مات سنهُ بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1204.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: ("إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ)"ما" يَحْتَمِل أن تكون موصولة؛ أي من الذي أخاف عليكم، وأن تكون مصدريّة؛ أي من خوفي عليكم.

وقوله: (مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ) بالبناء للمفعول، وفي بعض النسخ:"ما يَفْتَح الله عليكم"، وعليه فالفعل مبنيّ للفاعل، و"ما" تَحْتَمل الوجهين أيضًا، وهي في محل النصب؛ لأنه اسم "إنّ"، و"مما أخاف" خبرها مقدمًا.

وقوله: (مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا") أي من حسنها وبهجتها، فقوله:"وَزِينَتِهَا" عطف تفسير.

وقوله: (فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي انتظارًا للوحي.

وقوله: (وَرَأَيْنَا) من الرؤية، ولفظ البخاريّ:"فرَأَينا"، وفي رواية الكشميهنيّ:"فأُرِينا" بضم الهمزة، وكسر الراء، ويُرْوَى "فرُإينا" بضم الراء؛ أي ظننا وكلُّ ما جاء من هذا اللفظ بمعنى رؤية العين فهو مفتوح الأول، وما كان من الظن والحسبان، فهو أُرِيَ، وأُرِيتُ بضم الهمزة، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقوله: (يُنْزَلُ عَلَيْهِ) بالبناء للمجهول؛ يعني الوحي.

(1)

"عمدة القاري" 9/ 39.

ص: 85

وقوله: (يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ) -بضم الراء، وفتح الحاء المهملة، والضاد المعجمة-: هو عَرَقٌ يغسل الجلد لكثرته، وكثيرًا ما يُستَعْمَل في عرق الْحُمَّى والمرضى، وقال الأصمعيّ: الرُّحَضاء: الْعَرَق حتى كأنه رُحِضَ جَسَدُه من العَرَق: أي غسل، ووزنه فُعَلاء -بضم الفاء، وفتح العين- وجاءت أمثلة على هذا الوزن منها الْعُدَواء: الشغل، والْعُرَواء: الرِّعْدة، والخيلاء، من الاختيال والتكبر، والصُّعَداء، من قولهم: هو يتنفس الصُّعَداء من غم؛ أي يصاعد نفسه، قاله في "العمدة".

وقوله: ("إِنَّ هَذَا السَّائِلُ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ، وفي بعضها "أَيْنَ"، وفي بعضها "أَنَّى"، وفي بعضها "أي " وكله صحيح، فمن قال:"أنَّى"، أو "أين" فهما بمعنى، ومن قال:"إنّ" فمعناه -والله أعلم- إن هذا هو السائلُ الممدوحُ الحاذقُ الفَطِنُ، ولهذا قال:"وكأنه حمده"، ومن قال:"أيّ" فمعناه أيكم، فحذف الكاف والميم، والله أعلم. انتهى كلام النووي رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر قول النوويّ رحمه الله: "إن هذا هو السائل

إلخ" أن "السائل " مرفوع، على الخبريةّ لـ"إنّ"، واسمها اسم الإشارة، وَيحْتَمِلُ أن يكون "السائل" بالنصب نعتًا لاسم الإشارة، وخبر "إنّ" محذوف؛ أي ممدوح، أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ) أي وكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ السائل، وكان الناس ظَنُّوا أنه صلى الله عليه وسلم أنكر مسألته، فلما رأوه يَسأل عنه سُؤال راضٍ عَلِمُوا أنه حمده.

وقوله: (إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ) أي إن ما قضى الله أن يكون خيرًا يكون خيرًا، وما قضاه أن يكون شرًّا يكون شرًّا، وإن الذي خِفْتُ عليكم تضييعُكُم نعم الله، وصرفُكُم إياها في غير ما أمر الله، ولا يتعلق ذلك بنفس النعمة، ولا يُنسَب إليها، ثم ضَرَب لذلك مثلًا، فقال: "وإن مما يُنبت الربيع

" إلخ.

وقوله: (يَقْتُلُ، أَوْ يُلِمُّ) هكذا هو في هذه الرواية، فلا بدّ من تقدير "ما"

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 144.

ص: 86

لأن قوله: "ينبت الربيع" فعلٌ وفاعلٌ، ولا يصلح أن يكون لفظ "يقتُلُ" مفعولًا إلَّا بتقدير "ما"، وتقدّم بلفظ:"إن كلّ ما يُنبت الربيع يقتُل حَبَطًا، أو يُلمّ"، أفاده في "العمدة".

وقيل في توجيهه: إمّا أن تكون "مِنْ" في قوله: "مما ينبت" تبعيضيّة، وهي اسم عند بعض النحاة، وجعلوا منه قوله تعالى:{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} الآية [البقرة: 22] فأعربوا "من الثمرات" مفعولَ "أخرج"، ورزقًا مفعولًا لأجله

(1)

، فتكون "من" هنا اسم "إنّ"، و"يَقتُل" خبرها.

ويَحْتَمِل أن كلمة "ما" مقدّرة، والموصول مع صلته اسم "إنّ"، وحَذفُ الموصول، وإبقاء صلته جائز في كلام العرب، كقول حسّان رضي الله عنه[من الطويل]: أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ

وَيَمْدَحُهُ وَنْصْرُهُ سَوَاءُ

إذ تقديره: ومن يمدحه إلخ

(2)

، والجارّ والمجرور في قوله:"مما يُنبت" خبر مقدّم، والله تعالى أعلم.

وقوله: "حَبَطًا" -بفتح الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة- وانتصابه على التمييز، وهو داءٌ يصيب الإبل، وقال ابن سِيدَهْ: هو وَجَعٌ يأخذ البعير في بطنه، من كلأ يستوبله. انتهى.

وقوله: "أو يُلِمّ" من الإلمام؛ أي: أو يَقْرُب ويدنو من الهلاك.

وقوله: (حَتى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا) أي امتلأت شِبَعًا، وعَظَم جَنْبَاها، والخاصرة الجنب.

وقوله: (ثُمَّ رَتَعَتْ) أي رَعَتْ.

وقوله: (خَضِرٌ، حُلْوٌ) -بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين- وإنما سُمّي الخضر خَضِرًا؛ لحسنه، ولإشراق وجهه، والْخضر عبارة عن الحسن، وهي من أحسن الألوان، ويروى خَضِرَة بتاء التانيث، وتقدّم توجيهه.

(ونِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ

إلخ) يقول: إن من أُعطي مالًا، وسُلِّط على هَلَكته في الحقّ، فأعطى مِن فضله المسكين وغيره، فهذا المال المرغوب فيه.

(1)

راجع: "همع الهوامع" للسيوطي في النحو في باب المجرورات 2/ 382.

(2)

راجع: حاشية الخضري على ابن عقيل في باب الموصول 1/ 104.

ص: 87

وقوله: (أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) شكّ من يحيى، وعند البخاريّ في "الجهاد" من طريق فُليح، عن هلال بلفظ:"فجعله في سبيل الله، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل"، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يَحْتَمِل البقاء على ظاهره، وهو أنه يُجاء بماله يوم القيامة، فَيَنطِق الصامت منه ما فَعَل به، أو يُمَثَّل له بمثال حيوان، أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والأنفاق، وقيل: معنى قوله: "ويكون عليه شهيدًا": أي حجةً عليه يوم القيامة، يَشهد على صرفه وإسرافه، وأنه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى، ولم يؤدِّ حقه

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(42) - (بَابُ فَضْلِ التَّعَفُّفِ، وَالصَّبْرِ، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال: [2424](1053) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا فُرِئَ عَلَيْهِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَن نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ: "مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ، فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"الفتح" 4/ 304 "كتاب الزكاة" رقم (1465).

(2)

"عمدة القاري" 9/ 41.

ص: 88

2 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل بابين.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ) الْجُنْدعيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، ومن المكثرين السبعة، كما تقدّم قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ) قال الحافظ رحمه الله: لم يتعيّن لي أسماؤهم، إلا أن النسائيّ رَوَى من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدريّ، عن أبيه ما يدلّ على أن أبا سعيد راوي الحديث خوطب بشيء من ذلك، ففي حديثه: سَرَّحَتني أمي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم -يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته، وقعدت، فاستقبلني، فقال: "من استغنى أغناه الله

" الحديث، وزاد فيه: "ومن سأل، وله أوقيّةٌ، فقد ألحف"، فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت، ولم أسأله.

وتعقّبه العينيّ بأنه ليس فيه شيء يدلّ على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وعند الطبرانيّ من حديث حَكِيم بن حِزَام أنه ممن خوطب ببعض ذلك،

ص: 89

ولكنّه ليس أنصاريًّا، إلا بالمعنى الأعمّ

(1)

.

(سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي شيئًا من المال (فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ) بتكرير السؤال، والإعطاء مرّتين (حَتَّى إِذَا نَفِدَ) بكسر الفاء، وإهمال الدال، من باب تَعِبَ، نَفَادًا: أي فَنِيَ، وانقطع (مَا عِنْدَهُ)"ما" موصولة مفعول "نَفِدَ"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ)"ما" هنا شرطيّة، ولذا جُزم الفعل بعدها، وهي مبتدأ، وجوابها، وهو الخبر قوله:"فلن أدّخره"؛ أي كلّ شيء، من مال، موجوب عندي (فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ) بتشديد الدال المهملة، بعدها خاء معجمة؛ أي فلن أحبسه، وأخبأه، وأمنعكم إياه منفردًا به عنكم، أو لن أجعله ذخيرةً لغيركم، مُعْرِضًا عنكم.

وقال في "العمدة": والفصيح فيه -يعني في "أدّخره"- إهمال الدال، وجاء بإعجامها، مُدْغَمًا، وغير مدغم، لكن تقلب التاء دالًا مهملة، ففيه ثلاث لغات، ويقال: معناه لن أحبسه عنكم. انتهى

(2)

.

(وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ)"من" هنا شرطيّة، ولذا جُزم الفعلان بعدها، و"يستعفف" بفاءين، وكذا عند البخاريّ في رواية الكشميهنيّ، ووقع عند البخاريّ في رواية الحمويّ، والمستملي "يَسْتَعِفّ" بفاء واحدة مشدّدة.

والمعنى: من يَطلُبْ من نفسه العفّة عن السؤال، قال الطيبيّ: أو يطلب العفّة من الله تعالى، فليست السين لمجرّد التأكيد، وقال الجزريّ: الاستعفاف طلب العَفَاف، والتعفّف، وهو الكفّ من الحرام، والسؤال من الناس؛ أي مَن طَلَب العفّة، وتكلّفها أعطاه الله إياها، وقيل: الاستعفاف الصبر، والنزاهة عن الشيء، يقال: عَفّ يعِفّ عِفّةً، فهو عفيف. انتهى.

(يُعِفَّهُ اللهُ) بضمّ التحتانيّة، وكسر المهملة، وتشديد الفاء المفتوحة للتخلّص من التقاء الساكنين؛ إذ هو مجزوم على أنه جواب الشرط، ويجوز ضم فائه إتباعًا لضم الهاء.

والمعنى: يرزقه الله تعالى العفّة؛ أي الكفّ عن السؤال والحرام، وقال القاري: يعفّه الله: أي يجعله عفيفًا، من الإعفاف، وهو إعطاء العفّة، وهي

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 98.

(2)

"عمدة القاري" 9/ 49.

ص: 90

الحفظ عن المناهي؛ يعني أن مَن قنع بأدنى قوت، وترك السؤال تَسهُل عليه القناعة، وهي كنز لا يفنى. انتهى.

وقال ابن التين: معناه إما أن يرزقه من المال ما يستغني به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: "ومن يستعفف" أي عن السؤال للخلق، "يُعفّه الله" أي يُجازه على استعفافه بصيانة وجهه، ورفع فاقته. انتهى

(2)

.

(وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ) أي من يَستغن بالله تعالى عمن سواه، أو يُظهِر الغنى بالاستغناء عن أموال الناس، والتعفّف عن السؤال، حتى يخبسه الجاهل بحاله غنيًّا من التعفّف، يرزقه الله غنى القلب، كما في الحديث الماضي:"ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنّ الغنى غنى النفس"، ولو حُمل على غنى المال لما بَعُد؛ أي يعطيه الله تعالى ما يُغنيه عن سؤال الناس، والله تعالى أعلم.

(وَمَنْ يَصْبِرْ)"من" شرطيّة أيضًا كسابقتها، و"يصبر" بفتح الياء، وكسر الباء ثلاثيًّا، من باب ضرب، وفي رواية:"يتصبّر" بفتح الفوقيّة، وتشديد الموحّدة المفتوحة: أي يعالج الصبر على ضيق العيش وغيره، من مكاره الدنيا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "ومن يتصبّر" أي يستعمل الصبر، "يُصبّره" أي يقوّه، ويُمكّنه من نفسه حتى تنقاد له، وتُذعن لتحمّل الشدائد، وعند ذلك يكون الله معه، فيُظفّره بمطلوبه، ويوصله إلى مرغوبه. انتهى

(3)

.

وقال السنديّ: أي يتكلّف في تحمّل مشاقّ الصبر، وفي التعبير بباب التكلّف إشارة إلى أنّ مَلَكَة الصبر تحتاج في الحصول إلى الاعتبار، وتحمّل المشاقّ من الإنسان.

وقال القاري: أي يَطْلُب توفيق الصبر من الله تعالى؛ لأنه تعالى قال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، أو يأمر نفسه بالصبر، ويتكلّف في

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 262.

(2)

"المفهم" 3/ 99.

(3)

"المفهم" 3/ 99.

ص: 91

التحمّل عن مشاقّه، وهو تعميم بعد تخصيص؛ لأن الصبر يشتمل على صبر الطاعة، والمعصية، والبليّة، أو من يتصبّر عن السؤال، والتطلّع إلى ما في أيدي الناس بأن يتجرعّ مرارة ذلك، ولا يشكو حاله لغير ربّه (يُصَبِّرْهُ اللهُ) - بضمّ أوّله، وتشديد الموحّدة المكسورة- من التصبير: أي يُسَهِّل عليه الصبر، فتكون الجمل مؤكّدات، ويؤيّد إرادة معنى العموم قوله:"وما أعطي أحد إلخ"، وقال الباجيّ: معناه من يتصدّ للصبر، ويؤثره يعينه الله تعالى عليه، ويوفّقه. انتهى.

(وَمَا أُعْطِيَ)"ما" هنا نافية، والفعل مبنيّ للمفعول، و (أَحَدٌ) نائب فاعله، وهو المفعول الأول (مِنْ عَطَاءٍ)"من" زائدة، و"عطاء" هو المفعول الثاني، وقوله:(خَيْرٌ) هكذا هو في جميع نسخ "صحيح مسلم" بالرفع، وهو صحيح، وتقديره: هو خير، كما هو عند النسائيّ: ولفظه: "وما أُعطي أحد عطاءً، هو خير

إلخ"؛ أي أفضل، والجملة في محلّ نصب صفة لـ"عطاء"، وفي رواية البخاريّ "خيرًا" بالنصب، وإسقاط لفظ "هو"، فيكون صفة و"عطاءً" أيضًا.

وقوله: (وَأَوْسَعُ) بالرفع عطفًا على "خيرٌ"، وقوله:(مِنَ الصَّبْرِ) تنازعاه "خير"، و"أوسع"، ثم إن الكلام على تقدير "مِنْ": أي الصبرُ من أفضل ما يعطاه أحد، وأوسعه؛ لأن الإيمان أفضل الجميع، حيث إنه لا اعتداد بالصبر وغيره إلا بالايمان، أو يقدّر "هو خير، وأوسع بعد الإيمان"، والله تعالى أعلم.

قال الطيبيّ رحمه الله: يريد أن من طلب من نفسه العفّة عن السؤال، ولم يُظهر الاستغناء يعفّه الله؛ أي يصيّره عفيفًا، ومن ترقّى عن هذه المرتبة إلى ما هو أعلى، من إظهار الاستغناء عن الخلق، لكن إذا أُعطي شيئًا لم يردّه، يملأ الله تعالى قلبه غنى، ومن فاز بالقَدَح المعَلَّى، وتصبّر، ولم يسأل، وإن أُعطي لم يقبل، فهذا هو الصبر الجامع لمكارم الأخلاق. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وإن أُعطِي لم يقبل" فيه نظر؛ إذ فيه مخالفة أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف،

(1)

"شرح الزرقاني على الموطّأ" 4/ 422.

ص: 92

ولا سائل، فخذه، فتموّله، وتصدّق به"، فكيف يكون من ردّ ما أُمر بأخذه أعلى مرتبة؟، هذا غريب، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: إنما جُعل الصبر خيرَ العطاء؛ لأنه حَبْسُ النفس عن فعل ما تحبّه، وإلزامها بفعل ما تكره في العاجل مما لو فعله، أو تركه لتأذّى به في الآجل.

وقال القاريّ رحمه الله: وذلك لأن مقام الصبر أعلى المقامات؛ لأنه جامع لمكارم الصفات والحالات، ولذا قُدّم على الصلاة في قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ومعنى كونه أوسع أنه تتّسع به المعارف، والمشاهد، والأعمال، والمقاصد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2424 و 2425](1053) وسيعيده في "كتاب الزهد والرقائق"(1053)، (والبخاريّ) في "الزكاة"(1469) و"الرقاق"(6470)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1644)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(2024)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2588) وفي "الكبرى"(2369)، و (مالك) في "الموطّأ"(1880)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20014)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 12 و 47 و 93)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 293)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 387)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3400)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(9/ 31)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 505)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 117)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 195)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1613)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 262 - 263.

ص: 93

1 -

(منها): بيان فضل الاستعفاف عن مسألة الناس أموالَهُم.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من السخاء والجود والكرم وإنفاذ أمر الله تعالى، حيث قال له:{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى: 10].

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا الحديث ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السخاء، والكرم، هذا إن كان عطاؤه ذلك من سهم ما أفاء الله عليه، وإن يكن من مال الله فحسبك ما عليه من إنفاذ أمر الله، وإيثار طاعته، وقسمة مال الله بين عباده، وقد فاز من اقتدى به فوزًا عظيمًا. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): إعطاء السائل مرّتين.

4 -

(ومنها): الاعتذار إلى السائل.

5 -

(ومنها): الحضّ التعفّف.

6 -

(ومنها): جواز السؤال للحاجة، وإن كان الأولى تركه، والصبر على الفاقة حتى يرزقه الله تعالى بغير مسألة.

7 -

(ومنها): الحضّ على الصبر، على ضيق العيش وغيره، من مكاره الدنيا، وأنه أفضل ما يُعطاه المرءُ؛ لكون الجزاء عليه غير مقدّر، ولا محدود، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

8 -

(ومنها): بيان أن الاستغناء، والعفّة، والصبر بفعل الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2425]

(

) - (حَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

(1)

"التمهيد لابن عبد البر" 10/ 132 - 133.

ص: 94

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف، تغيّر بآخره، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقة حافظ فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

و"الزهريّ" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه" (11/ 92) فقال:

(20014)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: جاء ناس من الأنصار، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، قال: فجعل لا يسأله أحد منهم إلا أعطاه، حتى نَفِدَ ما عنده، ثم قال لهم حين أنفق كل شيء عنده:"ما يكن عندنا من خير، فلن نَدَّخِره عنكم، وإنه من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ولن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2426]

(1054) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ، وَهُوَ ابْنُ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ) عبد الله بن يزيد المكيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ فاضل، أقرأ القرآن نيّفًا وسبعين سنةً [9](ت 213) وقد قارب المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

ص: 95

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) الْخُزاعيّ مولاهم، أبو يحيى المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.

4 -

(شُرَحْبِيل بْنُ شَرِيكٍ) ويقال: شُرَحبيل بن عمرو بن شريك المعافريّ، أبو محمد المصريّ، صدوقٌ [6].

رَوَى عن أبي عبد الرحمن الْحُبلّي، وعبد الرحمن بن رافع التَّنُوخيّ، وعُليّ بن رَبَاح، والنعمان بن عامر.

ورَوى عنه حَيْوَة بن شريح، وسعيد بن أبي أيوب، وأبو هانئ الخولانيّ، والليث، وابن لَهِيعة.

قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو الفتح الأزديّ: شُرحبيل بن شَرِيك ضعيف، وقال ابن يونس: شُرَحبيل بن عمرو بن شَرِيك.

[تنبيه]: سمّى أبو داود في روايته شُرحبيل هذا بشُرَحبيل بن يزيد، قاله في حديثه عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعًا: "ما أُبالي ما أتيتُ إن أنا شَرِبتُ تِرْيَاقًا

" الحديث، قاله أبو داود، عن عبيد الله القواريريّ، عن المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، عنه، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة، وغير واحد عن المقرئ، فقالوا: شُرحبيل بن شَريك على الصواب.

قال الحافظ رحمه الله: أخشى أن يكون شُرحبيل بن يزيد تصحيفًا من شَراحيل بن يزيد؛ لأنه أيضًا معافريّ، وَيروِي عن عبد الرحمن بن رافع وغيره، ويروي عنه سعيد بن أبي أيوب وغيره، ومن الجائز أن يكون الحديث عندهما جميعًا، فأما شُرحبيل بن يزيد، فإن كان محفوظًا فلا يُدْرَى من هو؟. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا برقم (1054)، وحديث (1467):"الدنيا متاع، وخير متاعها الدنيا المرأة الصالحة"، و (1883):"غدوة في سبيل الله، أو رَوْحة خير مما طلعت عليه الشمس، وغربت".

(1)

"تهذيب التهذيب" 4/ 284.

ص: 96

5 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ) -بضم المهملة، والموحّدة-

(1)

عبد الله بن يزيد المعافريّ المصريّ، ثقةٌ [3](ت 100)(بخ م 4).

رَوَى عن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عُمَر، وعقبة بن عامر، وأبي ذرّ، وفَضَالة بن عُبيد، وعُمارة بن شَبيب، وأبي أيوب الأنصاري، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو هانئ حميد بن هانئ، وشُرَحبيل بن شَريك، وعقبة بن مسلم، وعبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، وربيعة بن سيف، ويزيد بن عَمْرو الْمَعَافري، وغيرهم.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال ابن يونس: يقال: تُوُفّي بإفريقية سنة مائة، وكان صالِحًا فاضلًا، وقال ابن سعد، والعجلي: ثقة، وقال ابن خلفون: يقال: إنه تُوُفّي بقرطبة، وقال أبو بكر المالكي في "تاريخ القيروان": بعثه عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية؛ لِيُفَقِّههم، فَبَثَّ فيها علمًا كثيرًا، ومات بها، ودُفِن بباب تونس.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والباقون، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما، مات ليالي الحرّة على الأصحّ بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمصريين من سعيد بن أبي أيوب.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْ

(1)

قال النوويّ رحمه الله في "شرحه"(7/ 145): هو منسوب إلى بنى الْحُبُل، والمشهور في استعمال المحدثين ضم الباء منه، والمشهور عند أهل العربية فتحها، ومنهم من سكّنها. انتهى.

ص: 97

أَفْلَحَ) أي فاز بالبغية (مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا) -بفتح الكاف، وتخفيف الفاء-: هو الكفاية بلا زيادة ولا نقص؛ أي رزقه الله تعالى ما يَكُفّ من الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يُلْحِقه بأهل التَّرَفُّهات (وَقَنَّعَهُ) بتشديد النون (اللهُ بِمَا آتَاهُ) بمد الهمزة: أي جعله قانعًا بما أعطاه إياه، ولم يطلب الزيادة؛ لمعرفته بان رزقه مقسوم، لن يَعْدُو ما قُدِّر له.

قال الطيبيّ رحمه الله: الفلاح الفوز بالبغية في الدارين، والحديث قد جَمَعَ بينهما، والمراد بالرزق الحلال منه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَدَح المرزوق، وأثبت له الفلاح، وذكر أمرين، وقيد الثاني بـ "قَنَّعَهُ"؛ أي رُزِق كفافًا، وقَنَّعه الله بالكفاف، فلم يطلب الزيادة، وأطلق الأول؛ ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام، كما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام:{أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131].

قال الراغب: رحمه الله: والإسلام على ضربين:

[أحدهما]: دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقَن الدم، حَصَلَ معه الاعتقاد، أو لم يَحْصُل.

[والثاني]: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله تعالى في جميع ما قَضَى وقدَّرَ، كما ذكره عن إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131]، والحديث كما ترى جامع للحسنيين، حاوٍ لنعمة الدارين، فحقيقٌ بأن يقال: إنه من جوامع الكلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3279 - 3280.

ص: 98

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2426](1054)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 168)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 137)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 118)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 136)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل القناعة، والحثّ عليها.

2 -

(ومنها): بيان فضيلة هذه الأوصاف، وقد يُحْتَجّ به لمذهب من يقول: الْكَفَاف أفضل من الفقر ومن الغنى، قاله النوويّ رحمه الله.

3 -

(ومنها): أن من اتّصف بهذه الأمور، فقد حصل على مطلوبه، وظَفِرَ بمرغوبه في الدنيا والآخرة.

4 -

(ومنها): أن هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم عن الطيبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2427]

(1055) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، قَالُوا: حَدَّثنَا وَكِيعٌ، حَدَّثنَا الْأَعْمَشُ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، كِلَاهُمَا عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا").

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبله.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

3 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

4 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

ص: 99

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ ورعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

6 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة

(1)

، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

8 -

(أَبُوهُ) فُضيل بن غَزْوَان

(2)

بن جرير الضَّبّيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

9 -

(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة الضّبّيّ الكوفيّ، ثقة [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

10 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، اسمه هَرِم، أو عمرو، أو غير ذلك، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

11 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة التحمّل والأداء، كما أوضحناه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة: أبي بكر، وزهير، فما أخرج لهما الترمذيّ، وعمرو الناقد، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وأما شيخه أبو سعيد، فإنه من المشايخ التسعة الذين اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، سوى عمرو وزهير، فبغداديّان، وأبي هريرة رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

(1)

قال في "التقريب": صدوق، والحقّ أنه ثقةٌ، فقد وثّقه الأئمة، كما في "تهذيب التهذيب".

(2)

بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي.

ص: 100

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ) أي زوجاته، ومن في نفقته، أو هم مؤمنو بني هاشم والمطلب (قُوتًا") أي بُلْغَة تَسُدّ رَمَقَهم، وتُمسك قُوَّتهم، بحيث لا تُرهقهم الفاقة، ولا يكون فيه فُضول يُفضي إلى تَرَفُّه وتبَسُّط؛ ليسلموا من آفات الفقر والغنى

(1)

.

وسيأتي في "كتاب الزهد والرقائق" بلفظ: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفَافًا"، وهذه الرواية هي المعتمدة من حيث المعنى، فإن لفظ "قوتًا" صالح لأن يكون دعاء بطلب القوت في ذلك اليوم، وأن يكون طلب لهم القوت، بخلاف لفظ "كَفَافًا"، فإنه يُعَيِّن الاحتمال الثاني، وهو الدلالة على الكفاف، أفاده في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معناه: ارزقهم ما يقوتهم، ويكفيهم، بحيث لا يشوّشهم الجهد، ولا ترهقهم الفاقة، ولا تُذلّهم المسألة والحاجة، ولا يكون أيضًا في ذلك فُضُول يُخرِج إلى الترفّه، والتبسّط في الدنيا، والركون إليها. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: الكفاف: هو الذي لا يفضل عن الشيء، ويكون بقدر الحاجة إليه، قال: هذه الرواية -يعني رواية "كفَافًا"- مفسّرة للرواية الأولى؛ لأن القوت ما يُسَدّ به الرَّمَقُ، قيل: سُمّي قوتًا؛ لحصول القوّة منه، سَلَك صلى الله عليه وسلم طريق الاقتصاد المحمود، فان كثرة المال تُلهي، وقِلّته تُنسي، فما قلّ منه وكَفَى خير مما كَثُر وألهى. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

راجع: "التيسير بشرح الجامع الصغير"(1/ 206).

(2)

"الفتح" 14/ 594 "كتاب الرقاق" رقم (6468).

(3)

"المفهم" 3/ 100.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 2279.

ص: 101

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2427](1055) وسيعيده في "الزهد والرقائق" بعد رقم (2969)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6460)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2361)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4139)، و (النسائيّ) في "الكبرى" في "الرقاق"(11809)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 118)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 84)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 232 و 446 و 481)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 489)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 219)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 150 و 7/ 46)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الكفاف، وأخذ البلغة من الدنيا، والزهد فيما فوق ذلك؛ رغبةً في توفر نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى، واقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك.

2 -

(ومنها): بيان استحباب الدعاء بالكفاف؛ إذ به توجد السلامة من آفات الغنى والفقر جميعًا.

3 -

(ومنها): أنه يدلّ على زهد النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وعلى تقلّله منها، وهو حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الفقر والغنى، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: وفي دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إرشاد لأمته كلَّ الإرشاد إلى أن الزيادة على الكفاف لا ينبغي أن يَتْعَب الرجل في طلبه؛ لأنه لا خير فيه، وحكم الكفاف يَختلِف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمنهم من يعتاد قلّة الأكل، ويصبر على الأكل مرّة مدّة طويلة، فكفافه يكون بتلك المرّة، ومنهم من يعتاد الأكل في يوم مرّة، أو مرّتين، فكفافه يكون كذلك؛ لأنه إن ترك ذلك أضرّ بنفسه، ولم يَقْوَ على الطاعة، ومنهم من يكون كثير العيال، فكفافه ما يسدّ رَمَق عياله، ومنهم من يَقِلّ عياله، فلا يَحتاج إلى طلب الزيادة، وكثرة الأشغال، فبهذا يتّضح أن قدر الكفاف غير مقدَّر، ومقداره غير معيّن،

(1)

"المفهم" 3/ 100.

ص: 102

إلا أن المحمود منه ما به القوّة على الطاعة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(43) - (بَابُ إِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَ بِفُحْشٍ وَغِلْظَةٍ، وَتَحَمُّلِ جَفَائِهِ؛ لِجَهْلِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2428]

(1056) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَابِ رضي الله عنه: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ

(2)

لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُمْ، قَالَ:"إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ، أَوْ يُبَخِّلُونِي، فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ).

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ اِبرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ مجتهد [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2](ت 82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3279.

(2)

وفي نسخة: "فقلت: يا رسول الله".

ص: 103

7 -

(سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن يزيد بن عَمْرو بن سَهْم بن ثعلبة الباهليّ، أبو عبد الله، وهو سلمان الخيل، يقال: إن له صحبةً، وكان قاضي الكوفة، ثقةٌ [2].

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه سُوَيد بن غَفَلَة، والصُّبَيّ بن مَعْبد، وأبو وائل، وأبو ميسرة، وأبو عثمان النَّهْديّ، وعِدّةٌ، وشَهِد فتوح الشام مع أبي أُمامة، ثم سكن العراق، وولاه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي غزو أرمينية في زمن عثمان، فقتل ببلنجر سنة خمس وعشرين، وقيل:(29) وقيل: (30) وقيل: (31)، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: كان ثقةً قليل الحديث، وقال العجليّ: كوفيّ ثقةٌ، من كبار التابعين، وقال الآجريّ، عن أبي داود: رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما أقل ما رَوَى، وقال سلمة بن كُهيل، عن سُويد بن غَفَلة: وجدت سَوْطًا، فأخذته، فعاب عليّ زيد بن صُوْحَان وسلمان بن ربيعة، فذكرته لأبي، فقال: أحسنت، وأصبت السنة، وقال ابن عبد البرّ في "الاستيعاب": ذكره أبو حاتم، والعُقيليّ في الصحابة، وإنما قيل له: سلمان الخيل؛ لأنه كان يَلِي الخيول في خلافة عمر، وهو أول من فرّق بين العِتَاق والْهَجِين

(1)

فيما قيل، ذكره ابن حبان في "الثقات" في التابعين، وقال: كان رجلًا صالحًا يحج كل سنة، وهو أول قاضٍ استُقْضِي بالكوفة.

تفرّد به المصنّف، وليس في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

8 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتحاد كيفية التحمّل والأداء، ثم فرّق؛ لاختلافهم فيها.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير زُهير، وإسحاق، وعمر رضي الله عنه.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأخيرين من رواية الأقران.

(1)

هو ما ولدته بِرْذونة من حِصَان عربيّ. "مصباح" 2/ 635.

ص: 104

شرح الحديث:

(عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ) الباهليّ أنه (قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا رويناه بفتح القاف، وهو المصدر، ومعناه: فَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فِعْلَ القَسْمِ، والْقِسْمُ بالكسر: الحظّ والنصيب، وهو غير مراد هنا، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يَقسِم نصيب أحد، وإنما فَعَل الْقَسْم في المقسوم. انتهى

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: القسم بفتح القاف مصدر قسمت، وبكسرها: الحظّ والنصيب، يقال: هذا قسمك وهذا قسمي. انتهى

(2)

.

(فَقُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ) وفي نسخة: "فقلت: يا رسول الله"(لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ) اللام هي الموطّئة للقسم؛ أي والله لغير هؤلاء الذين قسمت لهم (كَانَ أَحَقَّ بِهِ) أي بالمال المقسوم (مِنْهُمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّهُم خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ) بضمّ، فسكون، يقال: فَحَشَ الشيءُ فُحْشًا، مثلُ قَبُحَ قُبْحًا وزنًا ومعنًى، وفي لغة من باب قَتَلَ، وهو فاحشٌ، وكلُّ شيء جاوز الحدّ فهو فاحشٌ، ومنه غَبْنٌ فاحشٌ: إذا جاوزت الزيادة ما يُعْتاد مثلُهُ، وأفحش الرجل: أتى بالفُحْش، وهو القول السيّئُ، وجاء بالفحشاء مثله، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: الفحش: الزائد في الخروج عن حدّ الصواب، وكلُّ شيء جاوز قدره فهو فاحش، ويُشْبِه أن يكون هؤلاء الذين أعطاهم من المؤلفة قلوبهم. انتهى

(4)

.

(أَوْ يُبَخِّلُونِي) بضم أوله، وتشديد الخاء المعجمة: أي ينسبوني إلى البخل، يقال: بَخِل بَخْلًا، وبُخْلًا، من بأبي تَعِبَ وقَرُبَ، والاسم الْبَخْلُ بالفتح، وِزانُ فَلْسٍ، فهو بخيلٌ، والجمع بُخَلاء، ورجلٌ باخلٌ؛ أي ذو بَخْل، والْبُخْلُ في الشرع: منع الواجب، وعند العرب: منع السائل مما يَفْضُل عنده، وأبخلته بالألف: وجدته بخيلًا

(5)

.

(1)

"المفهم" 3/ 100.

(2)

"كشف المشكل" 1/ 155 - 156.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 463.

(4)

"كشف المشكل" 1/ 155 - 156.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 38.

ص: 105

وقال في "القاموس": الْبُخْلُ، والْبُخُولُ بضمّهما، وكجَبَل، ونَجْمٍ، وعُنُقٍ: ضدُّ الكَرَم، بَخِلَ كفَرِحَ، وكَرُمَ بُخْلًا بالضمّ، والتحريك، فهو باخلٌ، من بُخَّلٍ، كرُكَّع، وبَخِيلٌ من بُخَلاء، ورجلٌ بَخَلٌ محرَّكةً وصفٌ بالمصدر، وبَخَالٌ كسَحَابٍ، وشَدَّادٍ، ومُعَظَّمٍ، وأبخله: وجده بَخِيلْا، وبَخَّلَهُ تبخيلًا: رماه به. انتهى

(1)

.

(فَلَسْتُ ببَاخِلٍ") قال النوويّ رحمه الله: معناه أنهم أَلَحُّوا في المسألة؛ لضعف إيمانهم، وألجأَوني بمقتضى حالهم إلى السؤال بالفُحْش، أو نِسْبتي إلى البخل، ولست بباخل، ولا ينبغي احتمال واحد من الأمرين، ففيه مداراة أهل الجهالة والقسوة، وتألُّفهم إذا كان فيهم مصلحة، وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معناه: أنهم ألحّوا عليه في المسألة، واشتطّوا في السؤال، وقَصَدوا بذلك أحد شيئين:

إما أن يَصلُوا إلى ما طَلَبُوه، أو يَنسُبُوه إلى البخل، فاختار النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يَقتضيه كَرَمه، من إعطائهم ما سألوه، وصبرِه على جفوتهم، فسَلِمَ من نسبة البخل إليه؛ إذ لا يليق به، وحَلُم عنهم كي يتألّفهم، وكان عمر رضي الله عنه عَتَبَ عليه في ذلك؛ نظرًا إلى أنّ أهل الدين، والْغَنَاء فيه أحقّ بالمعونة منهم، وهذا هو الذي ظهر لسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، فأعلمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم بمصالح أُخَر لم تخطُر لهما، هي أولى مما ظهر لهما. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 2428](1056)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 35)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 118)، والله تعالى أعلم.

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 333.

(2)

راجع: "المفهم" 3/ 101.

ص: 106

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز إعطاء من سأل بفحش وغِلظة، وتحمّل ذلك منه.

2 -

(منها): بيان جواز الإعطاء لحفظ العِرْض.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة التحمّل لأذى المنافقين، وضعفاء الإيمان، وكثرة عفوه وصفحة عنهم؛ امتثالًا لأمر الله عز وجل له بقوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199].

4 -

(ومنها): مداراة أهل الجهالة والقسوة، وتألّفهم إذا كان في ذلك مصلحة، وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2429]

(1057) - (حَدَّثنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا (ح) وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَني مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيُّ، غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيُّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ، مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ).

رجال هذا الإسناد:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ) أبو يحيى العبديّ، كوفيّ الأصل، ثقةٌ فاضلٌ [9].

رَوَى عن مالك، وابن أبي ذئب، وحَرِيز بن عثمان، وحنظلة بن أبي

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 146.

ص: 107

سفيان، وأفلح بن حميد، وداود بن قيس الفَرّاء، وأبي جعفر الرازيّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه قتيبة، وعمرو الناقد، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، والحسن بن مكرم البزار، آخر أصحابه، وابن نُمَير، وأبو كريب، وغيرهم، وروى عنه محمد بن بِشْر العبدفي، وهو من أقرانه.

قال أبو أسامة: كنا نستسقي به، وأثنى عليه أحمد، وقال أبو مسعود: يقال: كان من الأبدال، وقال محمد بن سعيد الأصبهانيّ: ثنا إسحاق بن سليمان، وكان ثقةً، وقال أبو الأزهر: كان من خيار المسلمين، وقال العجليّ: ثقةٌ رجل صالحٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ لا بأس به، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن قانع: صالح، ووثقه ابن نمير، وقال الحاكم: ثقةٌ، وقال ابن وضاح الأندلسيّ: ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، متعبدٌ كبيرٌ، وقال الخليلي في "الإرشاد": ثقة، وذكره ابن حبان في الطبقة الرابعة من "الثقات"، وأرخه سنة مائتين، وقال محمد بن سعد: كان ثقةً، له فضل في نفسه وورع، مات بالري سنة (199)، وقال أبو الحسين بن قانع: مات سنة (200).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1057) و (1211) و (2085) وبعد حديث (2672) وفي حديث (2905).

3 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله (96) سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قبل بابين.

5 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

6 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 132) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

7 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل؛ لما أسلفناه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج

ص: 108

له الترمذيّ، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من مالك.

4 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وقد جاوز عمره المائة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي) وفي رواية الأوزاعيّ: "أدخل المسجد"(مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ) جملة حاليّة، والرداء بالكسر والمدّ: ما يُرْتدى به، مذكَّرٌ، ولا يجوز تأنيثه، والتثنية رداءان بالهمز، وربّما قُلبت الهمزة واوًا، فقيل: ردا وان، والجمع أرديةٌ، مثل سِلاح وأسلحة

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "وعليه بُرْد"، والْبُرْد -بضم الباء الموحدة- نوع من الثياب معروف، والجمع أَبْرادٌ، وبُرُودٌ.

(نَجْرَانِيٌّ) بالنون المفتوحة، وسكون الجيم، وبالراء: نسبة إلى نَجْران بلد معروفٌ بين الحجاز واليمن، قاله في "الفتح". وقال الفيّوميّ رحمه الله: ونجران: بلد من بلاد هَمْدَانَ من اليمن، قال الطبريّ: سُمِّيَت باسم بانيها نجران بن زيد بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قَحْطان. انتهى

(2)

.

(غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ) أي الطرف، وفي رواية الأوزاعيّ:"الصَّنِفَة" بفتح الصاد المهملة، وكسر النون، بعدها فاء، وهي طرف الثوب مما يلي طُرَّته

(3)

. (فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ) أي لحقه من ورائه، زاد همّام:"من أهل البادية"، وفي رواية الأوزاعيّ:"فجاء أعرابيّ من خلفه"، وهذا الأعرابيّ: لا يُعرف اسمه، كما قاله صاحب "التنبيه"

(4)

. (فَجَبَذَهُ) أي جبذ الأعرابيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بفتح الجيم، والموحّدة، بعدها ذال معجمة، وفي رواية الأوزا عيّ:"فجذب"، وهو بمعنى "جبذ"، قاله في "الفتح"، وقال الفيّوميّ رحمه الله: جبذه جَبْذًا، من باب ضرب، مثلُ جذبه جذبًا، قيل: مقلوب منه، لغةٌ تميميّةٌ، وأنكره ابن السّرّاج،

(1)

راجع: "المصباح" 1/ 225.

(2)

"المصباح" 2/ 594.

(3)

"الفتح" 13/ 665 "كتاب الأدب" رقم (6088).

(4)

"تنبيه المعلم" ص 193.

ص: 109

وقال: ليس أحدهما مأخوذًا من الآخر؛ لأن كلَّ واحد متصرّف في نفسه. انتهى

(1)

. (بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً) وفي الرواية الآتية: "ثم جبذه إليه جبذةً، رجع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابيّ".

قال أنس رضي الله عنه: (نَظَرْتُ) وفي رواية البخاريّ: "فنظرتُ" بالفاء (إِلَى صَفْحَةِ عُنقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) كذا هو بلفظ "عُنُق" عند جميع الرواة عن مالك، وكذا في رواية الأوزاعيّ، ووقع عند البخاريّ بلفظ "عاتق".

والصفحة -بالفتح وبالهاء، وبدونها- من كلّ شيء جانبه، والجمع: صفحات، مثلُ سجدة وسَجَدَات.

و"الْعُنُق": الرقبة، وهو مذكّرٌ، ويؤنّثه أهل الحجاز، فيقولون: هي العنُقُ، والنون مضمومة؛ للإتباع في لغة الحجاز، وساكنة في لغة تميم، والجمع أعناق

(2)

.

و"العاتق": ما بين المنكب والعُنُق، وهو موضع الرداء، ويذكّر ويؤنّث، والجمع عواتق

(3)

.

وقوله: (وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا) أي في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم، فالباء بمعنى "في"(حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ) جملة حاليّة، وفي رواية همّام:"فجاذبه حتى انشقّ البُرد، وحتى بقيت حاشيته في عُنُق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": وزاد أن ذلك وقع من الأعرابيّ لَمّا وَصَل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، ويُجْمَع بأنه لقيه خارج المسجد، فأدركه لَمّا كاد يدخل، فكلمه، أو مسك بثوبه لما دخل، فلما كاد يدخل الحجرة خَشِي أن يفوته فجبذه. انتهى

(4)

.

(مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ) الأعرابيّ (يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي) وفي رواية الأوزاعيّ: "أعطنا"؛ أي مُرْ وكلاءك بأن يعطوا لي، أو مر بالعطاء لأجلي (مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ) أي من غير صنيع لك في إعطائك، كما صرح في رواية، حيث قال:"لا من مالك، ولا من مال أبيك"، قيل: المراد به مال الزكاة، فإنه كان يُصرَف بعضه إلى المؤلفة

(5)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 89.

(2)

"المصباح" 2/ 432.

(3)

"المصباح" 2/ 392.

(4)

"الفتح" 13/ 666.

(5)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 479.

ص: 110

(فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ) وفي رواية الأوزاعيّ: "فتبسّم، ثم قال: مُرُوا له"(ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ) وفي رواية همّام: "وأمر له بشيء"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 2429 و 2430، (1057)، و (البخاريّ) في "الخمس"(3149) و"اللباس"(5809) و"الأدب"(6088)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3553)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 103 و 153 و 210 و 224)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 214)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 119)، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال الدارقطنيّ رحمه الله: لم أر هذا الحديث عند أحد من رواة "الموطأ" إلا عند يحيى بن بكير، ومَعْن بن عيسى، ورواه جماعة من رواة "الموطأ" عن مالك، لكن خارج "الموطأ"، وزاد ابن عبد البر أنه رواه في "الموطأ" أيضًا مصعب بن عبد الله الزبيريّ، وسليمان بن صُرَد.

قال الحافظ رحمه الله: ولم يخرجه البخاريّ إلا من رواية مالك، وأخرجه مسلم أيضًا من رواية الأوزاعيّ، ومن رواية همام، ومن رواية عكرمة بن عمار، كلهم عن إسحاق بن أبي طلحة، وساقه على لفظ مالك، وبَيَّن بعض لفظ غيره. انتهى

(1)

.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز إعطاء من سأل بفُحش وغِلظة.

2 -

(ومنها): بيان حلمه صلى الله عليه وسلم، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألُّفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل، من الصفح، والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن.

قال القرطبيّ رحمه الله: يدلّ الحديث على ما وصف الله تعالى به نبيّه صلى الله عليه وسلم أنه

(1)

"الفتح" 13/ 665 "كتاب الأدب" رقم (6088).

ص: 111

على خلق عظيم، وأنه رؤوف رحيم، فإن هذا الجفاء العظيم الذي صدر من هذا الأعرابيّ لا يصبر عليه، ولا يحلُم عنه مع القدرة عليه إلا مثله صلى الله عليه وسلم، ثم ضحكه عند هذه الجبذة الشديدة التي انشقّ البرد لها، وتأثّر عنقه بسببها حتى انفلت عن وجهته، ورجع إلى نحر الأعرابيّ دليل على أن الذي تمّ له من مقام الصبر والحلم ما تمّ لأحد، وهذا نظير صبره صلى الله عليه وسلم، وحلمه يوم أُحد حيث كُسِرت رَبَاعيته، وشُجّ في وجهه، وهو في هذا الحال يقول:"اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"، صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم. انتهى

(1)

.

وأخرج أبو داود، والنسائيّ، واللفظ له، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فإذا قام قمنا، فقام يومًا، وقمنا معه، حتى لَمّا بلغ وسط المسجد أدركه رجل، فجبذ بردائه من ورائه، وكان رداؤه خَشِنًا، فحَمَّر رقبته، فقال: يا محمد احمل لي على بعيريَّ هذين، فإنك لا تَحْمِل من مالك، ولا من مال أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا، وأستغفر الله، لا أحمل لك حتى تُقِيدني مما جبذت برقبتي"، فقال الأعرابيّ: لا والله لا أُقيدك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كلُّ ذلك يقول: لا والله لا أقيدك، فلما سمعنا قول الأعرابيّ أقبلنا إليه سِرَاعًا، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"عَزَمتُ على من سمع كلامي أن لا يَبْرح مقامه حتى آذن له"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من القوم:"يا فلان احمل له على بعيرٍ شعيرًا، وعلى بعير تمرًا"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انصرفوا"، وفي سنده هلال بن أبي هلال المدنيّ وثّقه ابن حبّان، وقال الذهبيّ: لا يُعرف.

3 -

(ومنها): أن قوله: "غليظ الحاشية" يدلّ على إيثار النبيّ صلى الله عليه وسلم من الدنيا، والتبلّغ منها بما أمكن من اللباس، والمطعم، وغيره، وأنه لم يكن بالذي يترفّه في الدنيا، ولا يتوسّع فيها.

4 -

(ومنها): بيان جفاء الأعراب، وغلظة طبيعتهم، فهم كما أخبر الله تعالى بقوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

(1)

"المفهم" 3/ 101 - 102.

ص: 112

عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: 97]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2430]

(

) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثنا هَمَّامٌ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ (ح) وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ مِنَ الزِّيَادَةِ: قَالَ: ثُمَّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً، رَجَعَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ، وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ: فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ، وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) العنبريّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(هَمَّامُ) بن يحيى العوذيّ البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

4 -

(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

5 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل، ثقة إلا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فمضطرب [5] مات قبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

6 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع (240)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

7 -

(أَبُو الْمُغِيرَةِ) عبد القدّوس بن الحجّاج الْخَولانيّ الحمصيّ، ثقةٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 26/ 1774.

ص: 113

8 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: "كُلُّهُمْ إلخ" أي كلّ هؤلاء الثلاثة: همّام، وعكرمة، والأوزاعيّ رووا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ.

وقوله: (رَجَعَ نَبِىُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ) النحر: أعلى الصدر، أو وقع صلى الله عليه وسلم على صدر الأعرابيّ من شدة جبذته، قال الطيبيّ رحمه الله: أي استَقْبَل نَحْرَهُ استقبالًا تامًّا، وهو معنى قوله:"وإذا التَفَتَ التفت معًا"

(1)

، وهذا يدل على أنه لم يتغير، ولم يتأثر من سوء أدبه.

وقوله: (فَجَاذَبَهُ) هو بمعنى جبذه في الرواية السابقة.

وقوله: (وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال القاضي عياض: رحمه الله: يَحْتَمِل أنه على ظاهره، وأن الحاشية انقطعت، وبقيت في العنق، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: بقي أثرها؛ لقوله في الرواية الأخرى: "أَثَّرَت بها حاشية الرداء". انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(44) - (بَابُ إِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَمَنْ يُخَافُ عَلَى إِيمَانِهِ إِنْ لَمْ يُعْطَ، وَتَصَبُّرِ مَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2431]

(1058) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أنَّهُ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أقبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ

(1)

أشار به إلى ما أخرجه أحمد، والترمذيّ عن عليّ رضي الله عنه في حديثه الطويل، وهو حديث ضعيف، قال الترمذيّ رحمه الله: ليس إسناده بمتّصل.

(2)

"إكمال المعلم" 3/ 595.

ص: 114

مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، قَالَ: ادْخُلْ، فَادْعُهُ لِي، قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ:"خبَّأتُ هَذَا لَكَ"، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قبل بابين.

3 -

(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله التيميّ المكيّ، ثقة فقيه فاضل، أدرك ثلاثين صحابيًّا [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.

4 -

(الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ) بن نوفل الزهريّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (64)(ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (152) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه ابنُ صحابيّ رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) وفي رواية أحمد، عن أبي النضر هاشم، عن الليث، حدّثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة (عَنِ الْمِسْوَرِ) بكسر الميم، وإسكان السين المهملة، وفتح الواو (ابْنِ مَخْرَمَةَ) بفتح الميمين، بينهما خاء معجمة ساكنة.

[تنبيه]: قوله: "عن المسور بن مَخْرَمة إلخ": هكذا أسنده الليث بن سعد، وتابعه حاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة، كما في الرواية التالية، وأرسله حماد بن زيد، كما عند البخاريّ في "الخمس"، وتابعه ابن عليّة، كما عنده أيضًا في "الأدب"، كلاهما عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن

ص: 115

النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد رجّح الإمام البخاري الموصول؛ لحفظ من وصله، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(أنَّهُ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية حاتم التالية: "قَدِمت على النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبية"، وفي رواية حماد:"أهديت للنبيّ صلى الله عليه وسلم أقبية، من ديباج مُزرُورة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه"(أقبِيَةً) جمع قَبَاءٍ، قال الفيّوميّ: الْقَبْوُ: معروف، والجمع أَقْبَاءٌ، والْقَبَاءُ ممدودًا عربيّ، والجمع: أقبية، وكأنه مشتقّ من قَبَوتُ الحرف أَقبوه قَبْوًا: إذا ضممته. انتهى

(2)

.

(وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا) أي في حال تلك القسمة، وإلا فقد وقع في رواية حماد بن زيد، عند البخاريّ متصلًا بقوله:"من أصحابه، وعَزَل منها واحدًا لمخرمة".

[تنبيه]: مخرمة هذا والد المسور رضي الله عنهما هو ابن نوفل الزهري، كان من رؤساء قريش، ومن العارفين بالنسب، وأنصاب الحرم، وتأخر إسلامه إلى الفتح، وشهد حُنينًا، وأُعطي من تلك الغنيمة مع المؤلفة، ومات سنة أربع وخمسين، وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة، ذكره ابن سعد، قاله في "الفتح"

(3)

.

وقال في "الإصابة": مخرمة بن نوفل بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب، أبو صفوان، وأبو المسور الزهري، أمه رُقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهو والد المسور بن مخرمة الصحابي المشهور، قال الزبير بن بكار: كان من مسلمة الفتح، وكانت له سنّ عالية، وعلم بالنسب، فكان يؤخذ عنه النسب. وزاد ابن سعد: وكان عالِماً بأنصاب الحرم، فبعثه عمر، هو وسعيد بن يربوع، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، فجددوها، وذكر أن عثمان بعثهم أيضًا، وأخرج الزبير بن بكار، من حديث ابن عباس: أن جبريل عليه السلام أَرى إبراهيم عليه السلام، أنصاب الحرم، فنصبها، ثم جددها إسماعيل عليه السلام، ثم جددها قصي بن كلاب، ثم جددها

(1)

راجع: "الفتح" 6/ 353 "كتاب فرض الخمس"، و 11/ 444 "كتاب اللباس".

(2)

"المصباح المنير" 2/ 489.

(3)

راجع: "الفتح" 11/ 444.

ص: 116

النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم بعث عمر الأربعة المذكورين، فجدّدوها، وفي سنده عبد العزيز بن عمران، وفيه ضعف. انتهى المقصود من "الإصابة"

(1)

.

(فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ) بضم أوله: تصغير "ابن"(انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية حاتم: "عسى أن يُعطينا منها شيئًا" فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، قَالَ:(اذخُلْ، فَادْعُهُ لِي) وفي رواية حاتم: "فقام أبي على الباب، فتكلم، فعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم صوته"، قال ابن التين: لعل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم، عند سماع صوت مخرمة، صادف دخول المسور إليه.

(قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ) أي دعوت النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجل أبي (فَخَرَجَ إِلَيْهِ) أي إلى مخرمة (وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا) جملة حالية؛ أي والحال أن على النبيّ صلى الله عليه وسلم قباء من تلك الأقبية.

ثم إن ظاهره استعمالُ الحرير، قيل: ويجوز أن يكون قبل النهي، ويَحْتَمِل أن يكون المراد أنه نشره على أكتافه؛ ليراه مخرمة كُلَّه، ولم يقصد لبسه، ولا يتعين -كما قال الحافظ- كونه على أكتافه، بل يكفي أن يكون منشورًا على يديه، فيكون قوله:"عليه" من إطلاق الكل على البعض، وقد وقع في رواية حاتم:"فخرج، ومعه قباء، وهو يريه محاسنه"، وفي رواية حماد:"فتلقاه به، واستقبله بأزراره".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم من باب التألّف ("خَبَأْتُ هَذَا لَكَ") وفي رواية حاتم، تكراره مرّتين، زاد في رواية حماد:"يا أبا المسور"، هكذا دعاه أبا المسور، وكأنه على سبيل التأنيس له ذكر ولده الذي جاء صُحْبَتَهُ، وإلا فكنيته في الأصل أبو صفوان، وهو أكبر أولاده، ذكر ذلك ابن سعد.

(قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ) وفي رواية البخاريّ: "فنظر إليه مخرمة"(فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ) قال في "الفتح": زاد في رواية هاشم: "فأعطاه إياه"، وجزم الداوديّ أن قوله:"رضي مخرمة" من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم على جهة الاستفهام: أي هل رضيت؟ وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يكون من قول مخرمة، قال الحافظ: وهو المتبادر للذهن، وزاد حماد في آخر الحديث:"وكان في خُلُقه شِدَّة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الإصابة" 6/ 50.

ص: 117

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المِسور بن مخرمة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 2431 و 2432](1058)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2599) و"الشهادات"(2657) و"فرض الخمس"(3127) و"اللباس"(5800) و"الأدب"(6132)، و (أبو داود) في "اللباس"(4028)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2818)، و (النسائيّ) في "الزينة"(5326) و"الكبرى"(9663)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4817 و 4818)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 601)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 120)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 38 و 8/ 255)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 182)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز إعطاء المؤلّفة قلوبهم، ومن يُخاف على إيمانه إن لم يُعط.

2 -

(ومنها): استئلاف من كان سيّئ الأخلاق بالعطية، والكلام الطيب، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع مخرمة، حيث كان في خلقه شدّة.

3 -

(ومنها): بيان جواز لبس الأقبية.

4 -

(ومنها): أن فيه الاكتفاءَ في الهبة بالقبض.

5 -

(ومنها): أن البخاريّ رضي الله عنه استدلّ به على جواز شهادة الأعمى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، عَرَف صوت مخرمة، فاعتمد على معرفته به، وخرج إليه، ومعه القباء الذي خبأه له.

6 -

(ومنها): أن بعض المالكية استنبط منه جواز الشهادة على الخط، وتُعُقّب بأن الخطوط تشتبه أكثر مما تشتبه الأصوات.

7 -

(ومنها): أن فيه ردًّا على من زعم أن المسور لا صحبة له. قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"الفتح" 13/ 277 - 278 "كتاب اللباس" رقم (5800).

ص: 118

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم دفع الزكاة للمؤلّفة قلوبهم:

قال العلّامة القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": اختلف العلماء في بقائهم، فقال عمر، والحسن، والشعبيّ، وغيرهم: انقطع هذا المصنف بعزّ الإسلام، وظهوره، وهذا مشهور مذهب مالك، وأصحاب الرأي، قال بعض علماء الحنفيّة: لما أعزّ الله الإسلام، وأهله، وقطع دابر الكافرين -لعنهم الله- اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم.

وقال جماعة من العلماء: هم باقون؛ لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام. وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين، قال يونس: سألت الزهريّ عنهم؟ فقال: لا أعلم نسخًا في ذلك. قال أبو جعفر النحّاس: فعلى هذا الحكمُ فيهم ثابتٌ، فإن كان أحد يُحتاج إلى تألّفه، ويُخاف أن تَلحَق المسلمين منه آفةٌ، أو يُرجى أن يحسن إسلامه بعدُ دُفع إليه. قال القاضي عبد الوهّاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة. وقال القاضي ابن العربىّ: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أُعطُوا سهمهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم، فإن في "الصحيح":"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذا الذي قاله ابن العربيّ رحمه الله هو الأرجح.

وحاصله: أن نصيب المؤلّفة قلوبهم باقٍ على حسب الحاجة، فحيث وُجدت حاجة إلى تأليفهم، أُعطوا، وإلا فلا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2432]

(

) - (حَدَّثَنَا

(2)

أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيى الْحَسَّانِىُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثنَا أيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ،

(1)

راجع: "جامع الأحكام" 8/ 181.

(2)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 119

عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ، فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ، وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:"خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الْخَطَّابِ زِيادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ) النُّكْريّ -بضمّ النون- البصريّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن معتمر بن سليمان، وحاتم بن وَرْدان، وبشر بن المفضل، وأبي داود الطيالسيّ، وعبد الوهاب الثقفىّ، ومحمد بن سواد، ومالك بن سُعير بن الْخِمْس، وأزهر بن سعد السمان.

ورَوَى عنه الجماعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وإبراهيم بن أبي طالب، وحسين بن محمد الْقَبَّانيّ، وابن جرير، وابن أبي الدنيا، وابن أبي داود، وأبو عروبة، وابن صاعد، وغيرهم.

قال أبو حاتم، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة أربع وخمسين ومائتين.

روى عنه الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، برقم (1058) و (1409) و (1962) و (2688).

[تنبيه]: زياد بن يحيى هذا أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد نظمتهم بقولي:

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وعَمْرٌو السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيادٌ يُحْتَذَى

2 -

(حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ أَبُو صَالِحٍ) هو: حاتم بن وَرْدان بن مروان السَّعْديّ، أبو صالح البصريّ، إمام مسجد أيوب، ثقةٌ [8].

ص: 120

رَوَى عن أيوب، وابن عون، والْجُريريّ، ويونس بن عبيد، وبُرد بن سِنَان، وغيرهم.

وروى عنه عفان، وإسحاق ابن راهويه، وعليّ ابن المدينيّ، وأبو الخطاب زياد بن يحيى، وابنه صالح بن حاتم، ونصر بن عليّ الجهضميّ، وغيرهم.

قال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال البخاريّ، عن عمرو بن محمد: مات سنة (184).

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1058) و (1962): "من كان ذبح قبل الصلاة، فليُعد

".

3 -

(أيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ) ابن أبي تميمة كيسان، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (قَدِمَتْ) بكسر الدال.

وقوله: (أَقْبِيَةٌ) جمع قباء، وهو فارسيّ معرّبٌ، وقيل: هو عربيّ، واشتقاقه من الْقَبْوِ، وهو الضمّ والجمع، حكاه أبو الفرج الجوزيّ

(1)

عن شيخه أبي منصور اللغويّ، قاله في "المفهم"

(2)

.

وقوله: (أَبِي مَخْرَمَةُ) بالرفع بدل من "أبي".

وقوله: (أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا) هكذا النسخ عندنا "منها"، وهو واضح، ووقع عند القرطبيّ بلفظ "منه"، فقال: كذا وقع من رواية "منه" بضمير الواحد، وكأنه عائد على نوع الأقبية في المعنى، ووقع في رواية أخرى:"منها"، وهي الظاهرة. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، كسابقه، ولاحقه، قال في "القاموس": و"المحاسن": المواضع الحسنة من البدن،

(1)

هكذا النسخة، ولعله "ابن الجوزيّ"، فليُحرّر.

(2)

3/ 103.

(3)

"المفهم" 3/ 102.

ص: 121

الواحدة كمَقْعَد، أو لا واحد له. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَهُوَ يَقُولُ) جملة حاليّة أيضًا.

وقوله: ("خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، خَبَأْتُ هَذَا لَكَ") مكرّرًا للتأكيد، يقال: خبأتُ الشيءَ مهموزًا، من باب نَفَعَ: سترته، وخبّأته: حفظته، والتشديد للمبالغة والتكثير

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[2433]

(150) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ، أنَّهُ أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا، وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ رَجُلًا، لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: "أَوْ مُسْلِمًا"، فَسَكَت قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: "أَوْ مُسْلِمًا"، فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: "أَوْ مُسْلِمًا"، قَالَ: "إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ"، وَفِي حَدِيثِ الْحُلْوَانِيُّ تَكْرِيرُ الْقَوْلِ مَرَّتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكّة، أبو عليّ الْخَلال، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قبل باب.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 214.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 163.

ص: 122

3 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(أَبُوهُ) هو: إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ بن إبراهيم عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

5 -

(صَالِحُ) بن كيسان المدنيّ، أبو محمد، أو أبو الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [4](ت بعد 130، وقيل: 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

6 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المشهور، تقدّم قبل باب.

7 -

(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

8 -

(سَعْدُ) بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: صالح، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، ورواية صالح عن الزهريّ من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن صالحًا أكبر من الزهريّ.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعْدِ) بن أبي وقّاص رضي الله عنه (أنَّهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ، وهو صحيح، وتقديره: قال: أعطى، فحذف لفظة "قال". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ويَحْتَمِل أن يكون الضمير للشأن، تفسّره الجملة بعده؛ أي أن الأمر والشأن (أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا) أي جماعة، وفي الرواية المتقدّمة في "كتاب الإيمان":"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطًا"؛ أي عددًا من الرجال، من ثلاثة إلى عشرة (وَأنَا جَالِسٌ فِيهِمْ) جملة حاليّة (قَالَ) سعد (فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ رَجُلًا) هو: جُعَيل بن سُرَاقة الضَّمْريّ، سماه

ص: 123

الواقديّ في "المغازي"، قاله في "الفتح"

(1)

. (لَمْ يُعْطِهِ، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ) أي أفضلهم عندي (فَقُمْتُ إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَارَرْتُهُ) أي كلّمته سرًّا، فيه التأدب مع الكبار، وأنهم يُسَارُّون بما كان من باب التذكير لهم، والتنبيه، ونحوه، ولا يُجاهَرُون به، فقد يكون في المجاهرة به مفسدة

(2)

.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟) أي أيُّ شيء حملك على العدول عن إعطاء فلان؟ إلى إعطاء غيره (وَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الهمزة؛ أي لأعمله، ولا يجوز ضمها، فيصيرَ بمعنى أظنه؛ لأنه قال بعد ذلك:"غَلَبني ما أعلم منه"، ولأنه راجع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات، ولو لم يكن جازمًا باعتقاده لَمَا كرّر المراجعة. انتهى.

وقد تعقّبتُ قول النوويّ هذا في "كتاب الإيمان"، فارجع إليه، وبالله تعالى التوفيق.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوْ مُسْلِمًا")"أَوْ" هنا للإضراب، بمعنى "بل"، قال القرطبىّ رحمه الله: الرواية بسكون الواو، وقد غَلِطَ مَن فَتَحها، وأحال المعنى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُرِد استفهامه، وإنما أشار له إلى القسم الآخر المختصّ بالظاهر الذي يُمكن أن يُدرَكَ، فجاء بـ "أو" التي للتقسيم والتنويع. انتهى

(3)

.

قَالَ سعد رضي الله عنه (فَسَكَتُّ قَلِيلًا) نُصب على أنه صفة لمصدر محذوف: أي سُكوتًا قليلًا (ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ)"ما" موصولة في محلّ رفع على الفاعليّة بـ "غلبني"(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: "أَوْ مُسْلِمًا"، فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: "أَوْ مُسْلِمًا" قَالَ: "إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ) فيه حذف المفعول الثاني؛ للتعميم، أَيْ أَيَّ عَطاء كان (وَغيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول (خَشْيَةَ) منصوب على أنه مفعول لأجله لـ "أُعطي"؛ أي لأجل خشية أن يكبّه الله في النار، فـ "خشيةَ" مضاف إلى (أَنْ يُكَبَّ) و"أن" مصدريّة، و"يُكبّ" بالبناء

(1)

"الفتح" 1/ 100 "كتاب الإيمان" رقم (27).

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 149.

(3)

"المفهم" 1/ 366.

ص: 124

للمفعول، يقال: أكبّ الرجلُ يُكبّ، لازم، وكبّه الله يكبّه، من نصر، متعدّ، وهو بناء غريب، جاء على خلاف العادة؛ إذ هي أن يكون الثلاثيّ لازمًا، والرباعيّ متعدّيًا، وهنا بالعكس، فالثلاثيّ متعدّ، والرباعيّ لازم، وقد قدّمنا تمام البحث فيه في "كتاب الإيمان" فارجع إليه.

(فِي النَّارِ) متعلّق بـ "يُكبّ"، وكذا قوله:(عَلَى وَجْهِهِ") قال العينيّ رحمه الله: "خشية" مضاف إلى ما بعده، "وأن" مصدريّة، والتقدير: لأجل خشية كبّ الله إياه في النار.

قال النوويّ رحمه الله: معنى هذا الحديث أن سعدًا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي ناسًا، ويترك من هو أفضل منهم في الدين، وظَنَّ أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين، وظنّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان المتروك، فأعلمه به، وحَلَف أنه يعلمه مؤمنًا، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أو مسلمًا"، فلم يَفْهَم منه النهي عن الشفاعة فيه مرّة أخرى، فسكت، ثم رآه يعطي من هو دونه بكثير، فغلبه ما يَعْلَم من حسن حال ذلك الإنسان، فقال: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ تذكيرًا، وجَوَّز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بعطائه من المرة الأولى، ثم نسيه، فأراد تذكيره، وهكذا المرة الثالثة، إلى أن أعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم:"إني لأعطي الرجلَ، وغيره أحبّ إليّ منه؛ مخافةَ أن يَكُبّه الله في النار"، معناه أني أعطي ناسًا مؤلفة في إيمانهم ضعف، لو لم أعطهم كفروا، فيكبَّهم الله في النار، وأترك أقوامًا هم أحبّ إلي من الذين أعطيتهم، ولا أتركهم احتقارًا لهم، ولا لنقص دينهم، ولا إهمالًا لجانبهم، بل أَكِلُهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من النور، والإيمان التامّ، وأَثِقُ بأنهم، لا يتزلزل إيمانهم؛ لكماله، وقد ثبت هذا المعنى في "صحيح البخاريّ" عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بمال، أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالًا، وترك رجالًا، فبلغة أن الذين ترك عَتَبُوا، فحمد الله تعالى، ثم أثنى عليه، ثم قال:"أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من الذي أُعطي، ولكني أعطي أقوامًا لِمَا أرى في قلوبهم من الجزَع والهَلَع، وأكِل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب"، فوالله ما أُحِبّ أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 125

حُمْرَ النَّعَم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَفي حَدِيثِ الْحُلْوَانِيِّ تَكْرِيرُ الْقَوْلِ مَرَّتَيْنِ) يعني أن شيخه الحسن بن عليّ الْحُلْوانيّ كرّر في روايته قول سعد رضي الله عنه: "فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان

إلخ".

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الإيمان" برقم [385 - 388](150) فارجع إليه، تستفد علومًا جمّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[2434]

(

) - (حَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ (ح) وَحَدَّثناه إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإسْنَادِ، عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ صَالِحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَنيّ، ثم المكيّ، ثقة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ أَخى ابْنِ شِهَابٍ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قبل باب.

6 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قبل باب.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 148 - 149.

ص: 126

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ) أي كلّ من سفيان بن عيينة، وابن أخي ابن شهاب، ومعمر، رووا هذا الحديث عن الزهريّ.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة هذه قد تقدّمت للمصنّف في "كتاب الإيمان" برقم [385](150)، وكذا رواية ابن أخي ابن شهاب تقدّمت برقم (386)(150).

وأما رواية معمر، فساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4685)

- حدّثنا أحمد بن حنبل، حدّثنا عبد الرزاق (ح) وحدّثنا إبراهيم بن بشار، حدّثنا سفيان، المعنى قالا: حدّثنا معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ بين المسلمين قَسْمًا، فقلت: أعط فلانًا، فإنه مؤمنٌ، قال:"أو مسلم، إني لأعطي الرجل العطاء، وغيره أحب إليّ منه؛ مخافة أن يُكَبَّ على وجهه".

[تنبيه آخر]: ظاهر رواية المصنّف رحمه الله هنا، وأصرح منها ما مرّ في "كتاب الإيمان" أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث عن الزهريّ، وليس كذلك، بل إنما رواه عن معمر، عن الزهريّ؛ لأن معظم الروايات في الجوامع، والمسانيد، عن ابن عيينة، عن معمر، عن الزهريّ بزيادة معمر بينهما، وكذا حدّث به ابن أبي عمر، شيخُ المصنّف في "مسنده" عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" من طريقه، وقد تقدّم تحقيق ذلك في "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد علمًا جَمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2435]

(

) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ،

ص: 127

قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ

(1)

، يَعْنِي حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثمَّ قَالَ:"أَقِتَالًا أَيْ سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطي الرَّجُلَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ) بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4](ت 134)(ع) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص القرشيّ الزهريّ، أبو القاسم المدنىّ، نزيل الكوفة، كان يُلقّب ظلّ الشيطان؛ لقصره، ثقةٌ [3](خ م مد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (ثُمَّ قَالَ: "أَقِتَالًا) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، و"قتالًا" بالتاء من القتل، وهو مفعول مطلق لعامل محذوف؛ أي: أتقاتلني قتالًا.

وفي رواية البخاريّ: "ثم قالْ أَقْبِلْ أي سعد"، أمر من الإقبال، أو القبول، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقوله: (أَيْ سَعْدُ)"أي" حرف نداء؛ أي يا سعد.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2436]

(1059) - (حَدَّثَنى حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِىُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي

(3)

يُونسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أنسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ أُناسًا مِنَ الْأنصَارِ، قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أفاءَ،

(1)

وفي نسخة: "يحدّث هذا الحديث".

(2)

"الفتح" 3/ 401 "كتاب الزكاة" رقم (1478).

(3)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 128

فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ، يُعْطِي قُرَيْشًا، ويَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، قَالَ أنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَحُدِّثَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأنصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ "، فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الْأنصَارِ: أمَّا ذَوُو رَأيِنَا

(1)

يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، قَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِهِ، يُعْطِي قُرَيْشًا، وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإنِّي أُعْطِي رِجَالًا، حَدِيثى عَهْدٍ بِكُفْرٍ، أتألَّفُهُمْ، أفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللهِ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ"، فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَضِينَا، قَالَ:"فَإنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ"، قَالُوا: سَنَصْبِرُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يُونسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى يونس، والباقيان مدنيّان.

4 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

(1)

وفي نسخة: "أما ذوو آرائنا".

ص: 129

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه (أَخْبَرَنِي أنسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَن أُنَاسًا) المراد بعض الأناس، وهم قومٌ حديثة أسنانهم، فلم يرسخ الإيمان في قلوبهم، كما يدلّ عليه قولهم الآتي: "فقال فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منّا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم

".

وقوله: (مِنَ الْأنصَارِ) جمع ناصر، أو نصير، واللام فيه للعهد، والمراد أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، وكانوا يعرفون قبل الإسلام بأبناء قَيْلَةَ، وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصار عَلَمًا لهم، ونَزَلَ القرآن بمدحهم، وقد أُطلق على أولادهم، وحلفائهم ومواليهم، وإنما فازوا بهذه المنقبة؛ لأجل إيوائهم النبىّ صلى الله عليه وسلم، ونصرته، حيث تبوؤوا الدار والإيمان، وجعلوه مُسْتَقَرًّا ومُتَوَطَّنًا لهم؛ لتمكنهم منه، واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك، فكان ذلك موجبًا لمحبّتهم، فكانت محبّتهم علامة الإيمان، وبغضهم علامة النفاق، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"آية الإيمان حبّ الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار"، فسبحان من يختصّ برحمته من يشاء، اللهمّ اختصّنا بفضلك ورحمتك، وأنت أرحم الراحمين.

(قَالُوا) مقول القول قوله الآتي: "يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم "، وما بينهما اعتراض (يَوْمَ حُنَيْنٍ) بصيغة التصغير؛ أي يوم غزوة حُنَين، وهو: وادٍ بين مكة والطائف، وهو مذكّر منصرف، وقد يؤنث على معنى البقعة، وقصّة حنين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، ثم خرج منها لقتال هَوَازن وثقيف، وقد بقيت أيام من رمضان، فسار إلى حُنين، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون، ثم أمدّهم الله بنصره، فعطفوا، وقاتلوا المشركين، فهزموهم، وغَنِموا أموالهم وعيالهم، ثم صار المشركون إلى أوطاس، فمنهم من سار على نَخْلة اليمانية، ومنهم من سلك الثنايا، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن سَلَك نَخْلَة، ويقال: أقام صلى الله عليه وسلم عليها يومًا وليلة، ثم صار إلى أوطاس، فاقتتلوا، وانهزم المشركون إلى الطائف، وغَنِم المسلمون منها أيضًا أموالهم وعيالهم،

ص: 130

ثم صار إلى الطائف، فقاتلهم بقية شوال، فلما أَهَلّ ذو القعدة ترك القتال؛ لأنه شهرٌ حرامٌ، ورحل راجعًا، فنزل الْجِعْرانة، وأمر بحبس الغنائم بها، فلما رجع من الطائف وصل إلى الجعرانة في خامس ذي القعدة، وإنما أخّر القسمة رجاءَ أن يُسلموا، وكانوا ستة آلاف نفس من النساء والأطفال، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألفًا، والغنم أربعين ألف شاة

(1)

.

(حِينَ أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) أي أعطاه غنائم الذين قاتلهم يوم حنين، وأصل الفيء الردّ والرجوع، ومنه سُمّي الظل بعد الزوال فيئًا؛ لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئًا؛ لأنها كانت في الأصل للمؤمنين؛ إذ الإيمان هو الأصل، والكفر طارئ عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من المال، فهو بطريق التعدي، فإذا غَنِمَه المسلمون منهم، فكأنه رجع إليهم ما كان لهم.

وقوله: (مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ) بيان مقدّم لـ"ما" في قوله: "ما أفاء".

و"هَوَازن": اسم قبيلة من قيس، وهو هوازن بن سعد بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَةَ بن قيس عيلان، قال الأزهريّ: لا أدري ممّ اشتقاقه، والنسبة إليه هَوَازنيّ؛ لأنه قد صار اسمًا للحيّ، ولو قيل: هَوْزنيّ لكان وجهًا، قاله في "التاج"

(2)

.

(مَا أفَاءَ)"ما" موصولة، والعائد محذوف؛ أي الذي أفاءه؛ أي ردّه الله عليه (فَطَفِقَ) أي شرع، وأخذ، وهو بكسر الفاء، وفتحها، يقال: طَفِقَ يفعل كذا، كفَرِحَ وضَرَبَ طَفْقًا وطُفُوقًا: إذا واصل الفعل، وهو خاصّ بالإثبات، فلا يقال: ما طَفِقَ، وطَفَقَ بمراده: ظَفِرَ، وأطفقه الله به، وطَفِقَ الموضعَ، كفرحَ: لَزِمَه، قاله في "القاموس"

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فطَفِق

إلخ" أي جعل، وهي من أخوات "كاد"، إلا أنها متّصلة بالفعل الذي هو خبرها، و"كاد" مقاربة مفارقة. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 456 بزيادة من غيره.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 9/ 367.

(3)

"القاموس المحيط" 3/ 258.

(4)

"المفهم" 3/ 103 - 104.

ص: 131

(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ) هم المؤلّفة قلوبهم، وقد سَرَدَ أبو الفضل بن طاهر في "المبهات" له أسماء المؤلَّفة، وهم: أبو سفيان بن حرب (س)، وسهيل بن عمرو، وحُويطب بن عبد العزَّى (س)، وحكيم بن حِزَام، وأبو السنابل بن بَعْكَك، وصفوان بن أمية، وعبد الرحمن بن يربوع، وهؤلاء من قريش.

وعُيينة بن حِصْن الفزاريّ، والأقرع بن حابس التميميّ، وعمرو بن الأيهم التميميّ (س)

(1)

، والعباس بن مِرداس السّلميّ (س)، ومالك بن عوف النصريّ، والعلاء بن حارثة الثقفيّ، قال الحافظ: وفي ذكر الأخيرين نظرٌ، فقيل: إنهما جاءا طائعين من الطائف إلى الجعرانة.

وذكر الواقديّ في المؤلفة (س) معاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وأُسيد بن حارثة، ومَخْرَمة بن نوفل (س) وسعيد بن يربوع (س) وقيس بن عديّ (س) وعمرو بن وهب (س) وهشام بن عمرو.

وذكر ابن إسحاق مَن كُتب عليه السين، وزاد: النضر بن الحارث، والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم.

وممن ذكره فيهم أبو عُمر: سفيان بن عبد الأسد، والسائب بن أبي السائب، ومطيع بن الأسود، وأبو جهم بن حُذيفة.

وذكر ابن الجوزيّ فيهم: زيد الخيل، وعلقمة بن عُلاثة، وحكيم بن طلق بن سفيان بن أمية، وخالد بن قيس السهميّ، وعمير بن مِرداس، وذكر غيرهم فيهم: قيس بن مخرمة، وأُحيحة بن أمية بن خلف، وابن أبي شَرِيق، وحرملة بن هَوْذة، وخالد بن هَوْذة، وعكرمة بن عامر العبدريّ، وشيبة بن عُمارة، وعمرو بن ورقة، ولبيد بن ربيعة، والمغيرة بن الحارث، وهشام بن الوليد المخزوميّ، فهؤلاء زيادة على أربعين نفسًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

، وهو بحث مفيدٌ.

وقوله: (الْمِائَةَ مِنَ الإبِلِ) بنصب "المائةَ" على أنه مفعول ثانٍ لـ "أَعْطَى"،

(1)

هذه السين إشارة إلى أن ابن إسحاق ذكره في "السيرة" من المؤلّفة قلوبهم.

(2)

"الفتح" 9/ 457 "كتاب المغازي" رقم (4330).

ص: 132

وقوله: (فَقَالُوا) تأكيد لـ "قالوا" السابق أعاده لطول الفصل، فهو كقوله عز وجل:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} الآية [البقرة: 89] أعاد "لَمَا"؛ لما ذُكر؛ أي قال أناس من الأنصار (يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللهِ) صلى الله عليه وسلم أي حيث أخطأ في زعمهم، فأعطى قريشًا، وتركهم.

قال الطيبيّ رحمه الله: قولهم: "يغفر الله" توطئة وتمهيد لما يَرِد بعده من العِتاب كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية [التوبة: 43]. انتهى.

وقوله: (يُعْطِي قُرَيْشًا) جملة حاليّة من "رسول الله"؛ أي حال كونه يُعطي رجالًا من قريش (وَيَتْرُكُنَا) أي لا يُعطينا معهم، وقوله:(وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ) جملة حاليّة من الضمير المنصوب، وهو من المقلوب، والأصل: ودماؤنا تقطر من سيوفنا، ويَحْتَمل أن تكون "من" بمعنى الباء الموحّدة، وبالغ في جعل الدم قطّر السيوف، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "المرقاة": قولهم: "وسيوفنا تقطر" بضم الطاء؛ أي والحال أن سيوفنا نحن معاشر الأنصار، تقطُر من دماء كفار قريش، بمحاربتنا إياهم حتى يُسْلِموا.

وقال الطيبيّ: قولهم: "وسيوفنا تقطر من دمائهم" من باب قول العرب: عَرَضْتُ الناقةَ على الحوض، وأنشد:

لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى

وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا

ولا يبعد أن يكون التقدير: وسيوفنا باعتبار ما عليها تقطر من دمائهم، وهو إشعار بقرب قتلهم كفارَ قريش، وإيماءٌ إلى أنهم أولى بزيادة البرّ، فالجملة حالٌ مقررة لجهة الإشكال. انتهى

(2)

.

(قَالَ أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فَحُدِّثَ) بضمّ الحاء، وتشديد الدال المكسورة، مبنيًّا للمفعول؛ أي أُخبر (ذَلِكَ) أي ما قاله أناس من الأنصار: "يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ" (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (مِنْ قَوْلهِمْ) متعلّق

(1)

"الفتح" 8/ 484 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3778).

(2)

"مرقاة المفاتيح" 11/ 357.

ص: 133

بحال من اسم الإشارة؛ أي حال كونه من جملة مقولهم (فَأَرْسَلَ إِلَى الأنصَارِ) ببناء الفعل للفاعل؛ أي أرسل النبىّ صلى الله عليه وسلم رسولًا ليجتمعوا عنده (فَجَمَعَهُمْ) ذلك الرسول، أو أمر صلى الله عليه وسلم بجمعهم (فِي قُبَّةٍ) أي خيمة (مِنْ أَدَمٍ) بفتحتين؛ أي من جلد (فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا حَدِيثٌ) أي أَيُّ شيء خبر عظيم (بَلَغَني عَنْكُمْ؟ "، فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الأنصَارِ) أي علماؤهم (أمَّا ذَوُو رَأيِنَا) أي أصحاب عقولنا وفهومنا، وفي بعض النسخ:"أما ذوو آرائنا" بالجمع (يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا) أي مما بلغك (وَأمَّا أُنَاسٌ) أي جماعة (مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ) أي جديدةٌ أسنانهم، جمع سِنّ، بمعنى العمر، والمراد منهم الشبان (قَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم (يُعْطِي قُرَيْشًا، وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإنِّي أُعْطِي رِجَالًا) حذف المفعول الثاني؛ أي من هذا المال (حَدِيثى عَهْدٍ بِكُفْرٍ) أي قريبي زمن بكونهم كفّارًا (أتألَّفُهُمْ) جملة حاليّة؛ أي حال كوني تألّفًا لهم؛ أي طالبًا إلفتهم بالإسلام بإعطاء المال، لا لكونهم من قريش، أو لغرض آخر من الأحوال.

(أفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ) أي غيركم من المتألَّفة قلوبهم (بِالْأَمْوَالِ) أي بالغنائم التي أُعطوها (وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ) بكسر الراء: جمع رَحْل، بفتح، فسكون: أي منازلكم في المدينة (بِرَسُولِ اللهِ) صلى الله عليه وسلم (فَوَاللهِ لَمَا) بفتح اللام، وهي الموطّئة للقسم، و"ما" موصولة؛ أي للّذي (تَنْقَلِبُونَ بهِ) أي ترجعون به إلى رحالكم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم (خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ") أَي من المال؛ لأنه عرض الحياة الدنيا الفانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذُخر وكنز عظيم يبقى في الدنيا والآخرة (فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ) أي بلى إن الذي ننقلب به خير من الذين ينقلبون به (قَدْ رَضِينَا) أي رضينا بك عِوَضًا من المال، وفيه تأكيد لما فُهِم من "بلى"، وما أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الوافر]:

رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ فِينَا

لَنَا عِلْمٌ وَلِلأعْدَاءِ مَالُ

فَإِنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ

وَإِنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لَا يَزَالُ

(1)

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أثَرَةً شَدِيدَةً)"الأَثَرَةُ" -بضم الهمزة، وسكون

(1)

راجع: "مرقاة المفاتيح" 11/ 359.

ص: 134

الثاء المثلثة، وبفتحتين- وهو اسم من آثر يؤثر إيثارًا: إذا أعطى، قال ابن الأثير رحمه الله: أراد أنه يُؤثَر عليكم، فيُفَضَّل غيركم من نصيبه من الفيء، ويُرْوَى إِثْرةً -بكسر أوله، مع الإسكان- وهو الانفراد بالشيء المشترَك دون من يشاركه فيه، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال في "الفتح": والمعنى أنه يُستأثر عليهم بما لهم فيه اشتراك في الاستحقاق، وقال أبو عبيد: معناه يُفَضَّل نفسه عليكم في الفيء، وقيل: المراد بالأثرة الشِّدّة، ويرده سياق الحديث وسببه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أثرة شديدة" رُوي عن العذريّ، والطبريّ، وهي روايتنا "أَثَرَةً" بفتح الهمزة والثاء، قال أبو عبيد: أي يُستأثَر عليكم، فيُفَضِّل غيركم نفسَهُ عليكم في الفيء، والأثرة: اسم من آثر يُؤثر إيثارًا، قال الأعشى:

اسْتَأثَرَ اللهُ بِالْبَقَاءِ وبِالـ

ـعَدْلِ وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا

قال: وسمعت الأزهريّ يقول: الأثرة: الاستئثار، والجمع الأَثَر، وعند أبي بحر في هذا الحرف بضمّ الهمزة، وسكون الثاء، وأصل الأثْرة: الفضلُ، قال أبو عبيد: يقال: له عليّ أُثْرةٌ؛ أي فضل، ومعناه قريبٌ من الأول، وقُيّد عن عليّ أبي الحسين بن سراج بالوجهين. انتهى

(3)

.

(فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ) عز وجل (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم؛ أي يوم القيامة (فَإنِّي عَلَى الْحَوْضِ") أي اصبروا حتى تموتوا، فإنكم ستجدونني عند الحوض، فيَحْصُل لكم الانتصاف ممن ظلمكم، والثواب الجزيل على الصبر (قَالُوا: سَنَصْبِرُ) أي على ما يلقانا من الإيثار علينا، ويواجهنا من المكروه، وسيأتي في الرواية التالية قول أنس رضي الله عنه في آخر الحديث:"فلم نَصْبِر"، وفي رواية:"فلم يَصْبِروا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"عمدة القاري" 17/ 309.

(2)

"الفتح" 9/ 463.

(3)

"المفهم" 3/ 104 - 105.

ص: 135

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 2436 و 2437 و 2438 و 2439 و 2440 و 2441 و 2442](1059)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3147) و"مناقب الأنصار"(3778) و"المغازي"(4331 و 4332 و 4333 و 4334 و 4337) و"اللباس"(5860) و"التوحيد"(7441)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(390)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 88)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19908)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 522)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1201)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 157 - 158 و 169 و 172 و 188 و 201 و 246 و 249 و 275 و 279 - 280)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3594)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 122 - 125)، وفي "الحلية"(3/ 84)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4769)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 153)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 337 - 338)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان إعطاء المؤلّفة قلوبهم من الغنائم.

2 -

(ومنها): بيان إقامة الحجة على الخصم، وإفحامه بالحقّ عند الحاجة إليه.

3 -

(ومنها): بيان حسن أدب الأنصار رضي الله عنهم في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء، وبيان أن الذي نُقِل عنهم إنما كان عن شُبّانهم، لا عن شيوخهم وكهولهم.

4 -

(ومنها): أن فيه مناقبَ عظيمةً للأنصار رضي الله عنهم لِمَا اشتمل من ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم البالغ عليهم.

(1)

المراد فوائد الحديث بسياقاته المختلفة، لا خصوص سياق المتن المذكور هنا، بل يشمل كلّ ما ذُكر في الباب، وغيره، فتنبّه.

ص: 136

5 -

(ومنها): بيان أن الكبير ينبه الصغير على ما يَغْفُل عنه، ويوضِّح له وجه الشبهة؛ ليرجع إلى الحقّ.

6 -

(ومنها): أن فيه المعاتبةَ، واستعطافَ المعاتب، وإعتابه عن عَتْبِه بإقامة حجةِ مَن عَتَبَ عليه، والاعتذار، والاعتراف.

7 -

(ومنها): أن فيه علمًا من أعلام النبوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ستلقون بعدي أَثَرَةً"، فكان كما قال.

8 -

(ومنها): وفيه أن للإمام تفضيلَ بعض الناس على بعض في مصارف الفيء.

9 -

(ومنها): أن للإمام أيضًا أن يُعْطِي الغنيّ من الفيء للمصلحة.

10 -

(ومنها): أن مَن طَلَب حقه من الدنيا لا عَتْبَ عليه في ذلك.

11 -

(ومنها): مشروعية الخطبة عند الأمر الذي يَحْدُث، سواءٌ كان خاصًّا أم عامًّا.

12 -

(ومنها): جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة.

13 -

(ومنها): تسلية من فاته شئ من الدنيا بما حَصَل له من ثواب الآخرة، والحضّ على طلب الهداية والألفة والغنى، وأن المنة لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.

14 -

(ومنها): تقديم جانب الآخرة على الدنيا، والصبر عما فات منها؛ ليُدَّخَر ذلك لصاحبه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2437]

(

) - (حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أنسُ بْنُ مَالِكٍ، أنَّهُ قَالَ: لَمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مَا أفَاءَ، مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: قَالَ أنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ، وَقَالَ: فَأمَّا أُنَاسٌ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ).

ص: 137

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم بعينه قبل ثلاثة أحاديث.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ) فاعل "اقتصّ" ضمير صالح بن كيسان.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" (5/ 88) فقال:

(8335)

- أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: أنا عمي، قال: أنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدّثني أنس بن مالك، أنه قال: لَمّا أفاء الله على رسوله ما أفاء، من أموال هوازن، طَفِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رجلًا من قريش المائة من الإبل، فقال رجل من الأنصار: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا، ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الأنصار، فجَمَعهم في قبة من أدم، ولم يَدَع معهم أحدًا، فلما اجتمعوا قال:"ما حديث بلغني عنكم؟ " قال فقهاء الأنصار: أما ذوو الرأي منّا، فلم يقولوا شيئًا، وإنما أناس حديثة أسنانهم، فقال

(1)

: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا، ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لأعطي رجالًا حديثٌ عهدُهُم بالكفر، فأتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به"، قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم:"إنكم ستلقون بعدي أَثَرَةً شديدةً، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض"، قال أنس: فلم نصبر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2438]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أنسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، إِلَّا أنَّهُ قَالَ: قَالَ أنسٌ: قَالُوا: نَصْبِرُ، كَرِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ).

(1)

هكذا النسخة، والظاهر:"فقالوا".

ص: 138

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم بعينه قبل حديثين.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ) فاعل "ساق" ضمير ابن أخي ابن شهاب، واسمه محمد بن عبد الله بن مسلم.

[تنبيه]: رواية ابن أخي ابن شهاب، عن عمّه هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" (6/ 282) فقال:

(3594)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي الزهريّ، عن عمة، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن ناسًا من الأنصار، قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله، من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل، قالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشًا، ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يَدْعُ معهم أحدًا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما حديثٌ بلغني عنكم؟ "، فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئًا، وأما ناس منّا حديثةٌ أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ أيعطي قريشًا، ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر، أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به"، قالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا، قال لهم:"فإنكم ستجدون بعدي أثرةً شديدةً، فأبصروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض"، قال أنس: قالوا: نعم.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2439]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أنَسِ بْنِ

ص: 139

مَالِكٍ، قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْأنصَارَ، فَقَالَ:"أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ " فَقَالُوا: لَا، إِلَّا ابْنُ أُخْتٍ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ"، فَقَالَ:"إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ، وَأتألَّفَهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى بُيُوتكُمْ؟ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَ الْأنصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأنْصَارِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقّدم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(قتادَةَ) بن دِعامة، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

و"أنس بن مالك" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: ("أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ ") أي غير الأنصار.

وقوله: (إِلَّا ابْنُ أُخْتٍ لنا) هو النعمان بن مُقَرِّن الْمُزَنيّ رضي الله عنه، كما أخرجه أحمد، من طريق شعبة، عن معاوية بن قُرّة في حديث أنس رضي الله عنه هذا، ووقع ذلك في قصة أخرى، كما أخرجه الطبرانيّ، من حديث عُتْبة بن غَزْوان رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يومًا لقريش:"هل فيكم من ليس منكم؟ " قالوا: لا، إلا ابن أختنا عُتبة بن غَزْوان، فقال:"ابن أخت القوم منهم"، وله من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بيته، قال:"ادخلوا عليّ، ولا يدخل عليّ إلا قرشيّ"، فقال:"هل معكم أحد غيركم؟ " قالوا: معنا ابن الأخت، والمولى، قال:"حليف القوم منهم، ومولى القوم منهم"، وأخرج أحمد نحوه، من حديث أبي موسى رضي الله عنه، والطبرانيّ نحوه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 8/ 182 "كتاب المناقب" رقم (3528).

ص: 140

وقوله: (إِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ) أي فيما يَرْجع إلى المناظرة والتعاون، ونحو ذلك، وأما بالنسبة إلى الميراث ففيه نزاع بين العلماء.

قال النوويّ رحمه الله: استَدَلّ بهذا الحديث من يُوَرِّث ذوي الأرحام، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد، وآخرين، ومذهب مالك، والشافعيّ، وآخرين أنهم لا يَرِثون، وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضي توريثه، وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطًا، وقرابةً، ولم يتعرض للإرث، وسياق الحديث يقتضي أن المراد أنه كالواحد منهم في إفشاء سرّهم بحضرته، ونحو ذلك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: "مِنْ" في قوله: "منهم" اتصالية؛ أي ابن الأخت متصل بأقربائه في جميع ما يجب أن يتصل به، من التولي، والنصر، والتوريث، وما أشبه ذلك، وهو نحو قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} الآية [الأحزاب: 6]؛ أي في أحكامه، وفرائضه، والكتاب كثيرًا ما يجيء بمعنى الفريضة، واستَدَلّ به أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على توريث ذوي الأرحام، ويؤيّده ما رواه أحمد، وأصحاب السنن عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه مرفوعًا:"والخالُ وارث من لا وارث له"، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيحٌ، وهو كما قال

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بتوريث ذوي الأرحام -كما هو مذهب أبي حنيفة، وأحمد رحمهما الله تعالى- هو الأرجح عندي؛ لحديث المقدام رضي الله عنه المذكور، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وقوله: (حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ) قال في "الفتح": كذا وقع بالإفراد في "الصحيحين"، والمعروف:"حديثو عهد"، وكتبها الدمياطيّ بخطّه:"حديثو عهد"، وفيه نظر، وقد وقع عند الإسماعيليّ:"أن قريشًا كانوا قريب عهد". انتهى

(3)

.

والجاهليّة هي ما كانوا عليه قبل الإسلام؛ أي كانوا قريب زمن بكفر.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 152.

(2)

راجع: "مرقاة المفاتيح" 11/ 359 - 360.

(3)

"الفتح" 9/ 467 "كتاب المغازي" رقم (4334).

ص: 141

وقوله: (وَمُصِيبَةٍ) والمصيبة ما أصابهم بسبب غزو المسلمين ديارهم، واستيلائهم عليها، وقتل بعض أقاربهم.

وقوله: (أَنْ أَجْبُرَهُمْ) بضمّ الموحّدة، من باب نصر؛ أي أجبر كسرهم الذي لحقهم بسبب الغزو، فأعطيهم ما يجبر خاطرهم، ويُنسيهم مصائبهم.

وقال في "الفتح": قوله: "أن أجبرهم" كذا للأكثر بفتح أوله، وسكون الجيم، بعدها موحّدة، ثمّ راء مهملة، وللسرخسيّ والمستملي بضمّ أوله، وكسر الجيم، بعدها تحتانيّة ساكنة، ثم زاي، من الجائزة. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَأتألّفَهُمْ) قال ابن الأثير رحمه الله: التألف: المداراة، والإيناس؛ ليَثْبُتوا على الإسلام؛ رغبةً فيما يَصِل إليهم من المال. انتهى

(2)

.

وقوله: (لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا) هو المكان المنخفض، وقيل: هو الذي فيه ماءٌ، والمراد به هنا بلدهم.

وقوله: (وَسَلَكَ الأنصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأنصَارِ) -بكسر الشين المعجمة- هو اسم لما انفرج بين جبلين، وقيل: الطريق في الجبل، وقال الخطابيّ: لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرقت في السفر الطُّرُق سلك كل قوم منهم واديًا وشعبًا، فأراد أنه مع الأنصار، قال: ويَحْتَمِل أن يريد بالوادي المذهب، كما يقال فلان في وادٍ، وأنا في وادٍ، قاله في "العمدة"

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2440]

(

) - (حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ أنسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ، قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي قُرَيْشٍ، فَقَالَتِ الْأنصَارُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ، إِنَّ سُيُوفَنَا تَقْطُرُ مِنْ

(1)

"الفتح" 9/ 467.

(2)

"النهاية" 1/ 60.

(3)

"عمدة القاري" 17/ 308.

ص: 142

دِمَائِهِمْ، وَإِنَّ غَنَائِمَنَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ:"مَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " قَالُوا: هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ، وَكَانُوا لَا يَكْذِبُونَ، قَالَ:"أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا إِلَى بُيُوتهِمْ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟، لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأنْصَارِ، أَوْ شِعْبَ الْأنصَارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ) بن عبد الحميد القُرشيّ الْبُسْريّ البصريّ، يُلقّب حمدان، ثقة [10](ت 250) أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.

2 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ) بفتحتين؛ أي المجاوز حدّ الإعجاب، قال في "القاموس": وأمرٌ عَجِبٌ، وعَجِيبٌ، وعُجَابٌ، وعُجَّابٌ، وعَجَبٌ عَاجِبٌ، وعُجابٌ، أو العَجِيب كالعَجَبِ، والعُجَاب: ما جاوز حدَّ العَجَبِ. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2441]

(

) - (حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ الْحَرْفَ بَعْدَ الْحَرْفِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أنسٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، أقبَلَتْ هَوَازِنُ، وَغَطَفَانُ، وَغَيْرُهُمْ بِذَرَارِّيهِمْ، وَنَعَمِهِمْ، وَمَعَ النَّبِيُّ يَوْمَئِذٍ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ، فَأَدْبَرُوا عَنْهُ، حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ، قَالَ:

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 101.

ص: 143

فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ، لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، قَالَ: فَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ:(يَا مَعْشَرَ الْأنصَارِ"، فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأنصَارِ؟ " قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ، قَالَ: وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، فَنَزَلَ، فَقَالَ: "أنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ، وَالطُّلقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الأنصَارَ شَيْئًا، فَقَالَتِ الْأنصَارُ: إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ، فَنَحْنُ نُدْعَى، وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا، فَبَلَغهُ ذَلِكَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأنصَارِ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ " فَسَكَتُوا، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأنصَارِ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُونَ بِمُحَمَّدٍ، تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، رَضِينَا، قَالَ: فَقَالَ: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأنصَارُ شِعْبًا، لَأَخَذْتُ شِعْبَ الأنصَارِ"، قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ: يَا أبا حَمْزَةَ، أنْتَ شَاهِدٌ ذَاكَ؟ قَالَ: وَأينَ أَغِيبُ عَنْهُ؟).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ) الساميّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ، تكلّم أحمد في بعض سماعه [10](ت 231)(م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذِ) بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

4 -

(هِشَامُ بْنُ زَيْدِ بنِ أنسِ) بن مالك الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الحيض" 6/ 714.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (بِذَرَارِيِّهِمْ) -بتشديد الياء، وتخفيفها- وكانت عادتهم إذا أرادوا الثبات في القتال استصْحَبُوا الأهالي وثَقَلَهم معهم إلى موضع القتال.

ص: 144

وقوله: (وَنَعَمِهِمْ) بفتح النون والعين، واحد الأنعام، وهي الأموال الراعية، وأكثر ما يقع على الإبل.

وقوله: (وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ) هذه هي الرواية الصحيحة، ووقع في رواية للبخاريّ:"ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من الطلقاء"، وهي غلط؛ لأن الطلقاء لم يبلغوا هذا القدر، ولا عشر عشرة، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (وَمَعَهُ الطُّلَقَاءُ) بضمّ الطاء وفتح اللام، وبالمدّ: جمع طَلِيق، وهم: الذين أسلموا يوم فتح مكّة، ويقال ذلك لمن أُطلق من إسار، أو وَثَاق، قال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قيل لمسلمي الفتح: الطُّلقاء لمنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يأسُرهم، ولم يقتلهم

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الطُّلَقاء: هم الذين مَنَّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخَلَّى سبيلهم يوم فتح مكة، وأصله أنه أطلقهم بعدما حَصَلُوا في وَثاقه. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَأَدْبَرُوا عَنْهُ، حَتَّى بَقِيَ وَحْدَهُ) يعني أنهم ولَّوه أدبارهم، وما أقبلوا معه صلى الله عليه وسلم على العدوّ، بل بقي وحده.

وقوله: (فَنَادَى يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ، لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) مفسَّر بما بعده؛ يعني أنه صلى الله عليه وسلم نادى الأنصار يومئذ نداءين متعاقبين، ملتفتًا يمينًا وشمالًا.

وقوله: (وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ) هذا من كمال شجاعته صلى الله عليه وسلم؛ فإن البغال لا تُركب في القتال، وإنما يركب الخيل.

وقوله: (فَقَالَ: "أنا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) يعني أنه ينصرني كما وعد بقوله عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [غافر: 51].

وقوله: (إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ) وفي رواية البخاريّ: "إذا كانت شديدة"؛ يعني قضية شديدةٌ مثل حرب.

وقوله: (فنحْنُ نُدْعَى) على صيغة المجهول؛ أي نُطْلب.

وقوله: (وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا) فعلٌ ونائب فاعله، وفي رواية البخاريّ:"ويُعطِي غيرنا"؛ أي يعطي النبيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم لقريش.

(1)

9/ 467.

(2)

شرح النوويّ 7/ 153.

(3)

"المفهم" 3/ 105 - 106.

ص: 145

قوله: (فبلغة ذلك) أي فبلغ النبي ذلك أي ما قالوه، ويروى "ذاك" بدون اللام.

وقوله: (تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟) بالحاء المهملة والزاي، يقال: حازه يحوزه: إذا قبضه، ومَلَكه، واستَبَدّ به.

وقال في "الفتح": قوله: "تحوزونه" كذا للجميع بالحاء المهملة، من الحوز، ووقع عند الكرمانيّ:"تُجِيرونه" بالتحتانية بدل الواو، وضبطه بالجيم والراء المهملة، وفسره بقوله: أي تُنقِذونه، وكل ذلك خطأ نقلًا وتفسيرًا، وقد أخرجه مسلم، والإسماعيلىّ من هذا الوجه بلفظ:"فتذهبون بمحمدٍ تحوزونه"، كما في الرواية المعتمدة. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ هِشَامٌ) هو هشام بن زيد الراوي عن أنس رضي الله عنه، وهو موصول بالإسناد المذكور.

وقوله: (فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ) كنية أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقوله: (أنتَ شَاهِدٌ ذَاكَ؟) وفي رواية للبخاريّ: "شاهدٌ ذلك" باللام، وهو بتقدير همزة الاستفهام؛ أي أأنت شاهد هذا الذي حدّثتنا به من قصّة غزوة حنين؟.

وقوله: (قَالَ: وَأينَ أَغِيبُ عَنْهُ؟) استفهامٌ إنكاريٌّ، يقرّر أنه ما كان ينبغي لهشام أن يظنّ أن أنسًا يغيب عن ذلك.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2442]

(

) - (حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ ابْنُ مُعَاذٍ: حَدَّثنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَني السُّمَيْطُ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: افْتَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ، قَالَ: فَصُفَّتِ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّتِ النِّسَاءُ

(1)

"الفتح" 9/ 467.

ص: 146

مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّتِ الْغَنَمُ، ثُمَّ صُفَّتِ النَّعَمُ، قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلَافٍ، وَعَلَى مُجَنِّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلْوِي خَلْفَ ظُهُورِنَا، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا، وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ، وَمَنْ نَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَنَادَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَالَ الْمُهَاجِرِينَ، يَالَ الْمُهَاجِرِينَ"، ثُمَّ قَالَ:"يَالَ الأنصَارِ، يَالَ الْأنصَارِ"، قَالَ: قَالَ أنسٌ: هَذَا حَدِيثُ عِمّيَّةٍ، قَالَ: قُلْنَا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَايْمُ اللهِ، مَا أتيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ، قَالَ: فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الطَّائِفِ، فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلْنَا، قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَاقيَ الْحَدِيثِ، كَنَحْوِ حَدِيثِ قتَادَةَ، وَأَبِي التَّيّاحِ، وَهِشَامِ بْنِ زيدٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ ولد معاذ بن معاذ المذكور في السند الماضي، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

4 -

(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

5 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طرخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

6 -

(السُّمَيْطُ) -مصغّرًا- ابن عُمير، ويقال: ابن سُمير السدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، صدوقٌ [3].

ص: 147

رَوَى عن أبي موسى الأشعريّ، وعمران بن حُصين، وأنس، وأبي الأحوص الْجُشَميّ، وأبي السَّوّار الْعَدَويّ.

وروى عنه سليمان التيميّ، وعاصم الأحول، وعِمران بن حُدير، ووثّقه العجليّ، وابن حبّان

(1)

.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

و (أنسُ بْنُ مَالِكٍ) ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلَافٍ) قال القاضي عياض وغيره: هذا وَهَمٌ من الراوي عن أنس؛ يعني أن الرواية الأولى بأنهم كانوا عشرة آلاف، ومعهم الطلقاء أصحّ؛ لأن المشهور في كتب المغازي أن المسلمين كانوا يومئذ اثني عشر ألفًا، عشرةُ آلاف شَهِدوا الفتح، وألفان من أهل مكة، ومن انضاف إليهم، وهذا معنى قوله: ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، ومعه الطلقاء. انتهى.

وقوله: (وَعَلَى مُجَنِّبةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) الْمُجَنِّبَة -بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر النون المشدّدة- قال شَمِر: الْمُجَنِّبة هي الْكَتِيبة من الخيل التي تأخذ جانب الطريق الأيمن، وهما مُجَنِّبتان: مَيْمَنةٌ، ومَيْسَرةٌ، بجانبي الطريق، والقلب بينهما. انتهى.

وقوله: (فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلْوِي خَلْفَ ظُهُورِنَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ، وفي بعضها "تَلُوذ"، وكلاهما صحيح. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَلَمْ نَلْبَثْ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ: أي لم نتأخّر.

وقوله: (أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل بدل من الضمير الفاعل بدل اشتمال، كما قال في "الخلاصة":

وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا

تُبْدِلْهُ إِلَّا مَا إِحَاطَةً جَلَا

(1)

ذكر في "تهذيب التهذيب" الخلاف هل سُميط بن عمير، وسُميط بن سُمير رجل واحدٌ، أم اثنان؟، فراجعه في 4/ 210.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 154.

ص: 148

أَوِ اقْتَضَى بَعْضًا أَوِ اشْتِمَالَا

كَأَنَّكَ ابْتِهَاجَكَ اسْتَمَالَا

والمعنى أنه لم يتأخر انكشاف الفُرسان، وتولّيهم عن مواجهة العدّو عن وقت ملاقاتهم، بمعنى أنهم بمجرّد ابتدائهم القتال تولَّوا.

وقوله: (وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ) بفتح الهمزة، وفيه إشارة إلى الانكشاف إنما أتى من جهة أسافلة الناس، لا من أكابر الصحابة، وأفاضلهم.

وقوله: (وَمَنْ نَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ) تعميم بعد تخصيص.

وقوله: ("يَالَ الْمُهَاجِرِينَ") هكذا في جميع النسخ في المواضع الأربعة "يال" بلام مفصولة مفتوحة، والمعروف وصلها بلام التعريف التي بعدها. انتهى.

[تنبيه]: قوله: "يالَ المهاجرين" هذا هو المسمّى عند النحاة بالاستغاثة، وهو نداء من يُخلّص من شِدّة، أو يُعين على دفعها، قال في "الخلاصة":

إِذَا اسْتُغِيثَ اسْمٌ مُنَادًى خُفِضَا

بِاللَّامِ مَفْتُوحًا كـ "يَا لَلْمُرْتَضَى"

وَافْتَحْ مَعَ الْمَعْطُوفِ إِنْ كَرَّرْتَ "يَا"

وَفِي سِوَى ذَلِكَ بِالْكَسْرِ ائتِيَا

[فإن قلت]: نداؤه صلى الله عليه وسلم المهاجرين هنا يعارض ما سبق في الحديث الذي قبله من قول أنس رضي الله عنه: "فنادى يومئذ نداءين، لم يخلط بينهما شيئًا

إلخ" حيث يدلّ على أنه لم يناد مع الأنصار غيره، فكيف الجواب عنه؟.

[قلت]: يمكن أن يجاب بأن المنفيّ هناك النداء المخلوط بين نداءي الأنصار، وأما ما كان قبله كما في هذه الرواية فلم ينفه.

والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم نادى أولًا المهاجرين نداءين والى بينهما، ثم نادى الأنصار بعدهم نداءين والى بينهما، والله تعالى أعلم.

وقوله: (هَذَا حَدِيثُ عِمِّيَّةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هذه اللفظة ضبطوها في "صحيح مسلم" على أوجه:

[أحدهما]: "عِمِّيَّة" -بكسر العين، والميم، وتشديد الميم، والياء -قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف عن عامّة شيوخنا، قال: وفُسِّر بالشِّدَّة.

[والثاني]: "عُمّيّة" كذلك، إلا أنه بضم العين.

[والثالث]: "عَمِّيَهْ" -بفتح العين، وكسر الميم المشددة، وتخفيف الياء، وبعدها هاء السكت- أي حَدَّثني به عَمِّي، وقال القاضي: على هذا الوجه

ص: 149

معناه عندي: جماعتي؛ أي هذا حديثهم، قال صاحب "العين": العمّ الجماعة، وأنشد عليه ابن دريد في "الجمهرة":

أَفْنَيْتُ عَمًّا وَجَبَرْتُ عَمَّا

قال القاضي: وهذا أشبه بالحديث.

[والوجه الرابع]: كذلك، إلا أنه بتشديد الياء، وهو الذي ذكره الحميديّ صاحب "الجمع بين الصحيحين"، وفَسَّره بعمومتي؛ أي هذا حديث فضل أعمامي، أو هذا الحديث الذي حدّثني به أعمامي، كأنه حدَّث بأول الحديث عن مشاهدة، ثم لعله لم يضبط هذا الموضع؛ لتفرق الناس فحدّثه به مَن شَهِده من أعمامه، أو جماعته الذين شَهِدوه، ولهذا قال بعده: قال: قلنا: لبيك يا رسول الله، والله أعلم. انتهى.

وقوله: (فَايْمُ اللهِ)"ايم" اسم مستعمل في القسم، مختصر من "أيمن"، قال الفيّوميّ رحمه الله: و"أيمن" اسم مستعمل في القسم، والتُزِم رفعه، كما التُزم رفع لَعَمْرُ الله، وهمزته عند البصريين وصلٌ، واشتقاقه عندهم من الْيُمْن، وهو البركة، وعند الكوفيين قَطْعٌ؛ لأنه جمع يمين عندهم، وقد يُختصر منه، فيقال: وايْمُ الله، بحذف الهمزة، والنون، ثم اختُصِر ثانيًا، فقيل: مُ الله، بضمّ الميم وكسرها. انتهى

(1)

.

وقال الخضريّ رحمه الله في "حاشيته": وأيمن عند البصريين اسم مفرد من اليُمْن، وهو البركة، وهمزته وصل خلافًا للكوفيين فيهما، والهمزة عِوَضٌ عن نونه المحذوفة في بعض لغاته، كأيم، ثم ثبتت مع النون؛ لأنها بصدد الحذف، كما في امرئ، وفيه لغات: أيمن بفتح الهمزة، وكسرها، مع ضمّ الميم وفتحها، وأيم، وأم بفتح الهمزة وكسرها، مع ضمّ الميم فيهما، ومُ، ومُن بتثليث الميم فيهما، ويجب إضافة الكل للفظ الجلالة، وكونها مبتدأ محذوف الخبر؛ أي أيمن الله قسمي، قيل: أو خبرًا لمحذوف؛ أي قسمي أيمن الله، كما في "المغني"

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 682.

(2)

"حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 2/ 295.

ص: 150

وقوله: (مَا أتيْنَاهُمْ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللهُ) أي ما رجعنا إلى المشركين حتى نصرنا الله، فانهزموا.

وقوله: (فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ) أي غنائم هوازن، وقد تقدّم عدد ما غَنِموه من السبي والأنعام.

وقوله: (ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ) المراد رجوعهم إلى الجعرانة؛ لأنهم لم يدخلوا مكة بالغنائم، وإنما حُبِست في الجعرانة، حتى رجعوا من حصار الطائف، ثم قُسمت هناك.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ) الضمير يرجع إلى السُّمَيط.

[تنبيه]: رواية السُّميط، عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها بتمامها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(12197)

- حدّثنا عارمٌ، حدّثنا معتمر بن سليمان التيميّ، قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا السُّميط السَّدُوسيّ، عن أنس بن مالك، قال: فتحنا مكة، ثم إنا غزونا حُنينًا، فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، أو رأيت، فصُفّ الخيل، ثم صُفّت المقاتلة، ثم صُفّت النساء من وراء ذلك، ثم صُفّت الغنم، ثم صُفّت النَّعَم، قال: ونحن بشر كثير، قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، قال: فجعلت خيولنا تلوذ خلف ظهورنا، قال: فلم نلبث أن انكشفت خيولنا، وفَرَّت الأعراب، ومن نعلم من الناس، قال: فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا للمهاجرين، يا للمهاجرين -ثم قال-: يا للأنصار، يا للأنصار"، قال أنس: هذا حديث عمية، قال: قلنا: لبيك يا رسول الله، قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فايم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله، قال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف، فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة، قال: فنزلنا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة، ويعطي الرجل المائة، قال: فتحدث الأنصار بينها، أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه، قال: فرُفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أَمَر بِسَرَاة المهاجرين والأنصار أن يدخلوا عليه، ثم قال:"لا يدخل عليّ إلا أنصاريّ، أو الأنصار"، قال: فدخلنا القبة حتى ملأنا القبة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الأنصار -أو كما قال- ما حديث أتاني؟ " قالوا: ما أتاك يا رسول الله؟ قال:

ص: 151

"ما حديث أتاني؟ " قالوا: ما أتاك يا رسول الله؟ قال: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تدخلوا بيوتكم؟ " قالوا: رضينا يا رسول الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أخذ الناس شِعْبًا، وأخذت الأنصار شعبًا، لأخذت شِعْب الأنصار"، قالوا: يا رسول الله رضينا، قال:"فارْضَوْا"، أو كما قال. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2443]

(1060) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكَّىّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَة بْنَ حِصْنٍ، وَالْأقرَعَ بْنَ حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ [من المتقارب]:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْـ

ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأقرَعِ

فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ

يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا

وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ

قَالَ: فَأَتمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّىِّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، ذُكر في الباب.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام المشهور، ذُكر في الباب أيضًا.

3 -

(عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ) الثوريّ، أخو سفيان الثوريّ، ثقةٌ [7](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 46/ 1491.

4 -

(أَبُوهُ) سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 19/ 1738.

ص: 152

5 -

(عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ) هو: عباية -بفتح أوّله، والموحّدة الخفيفة، وبعد الألف تحتانيّة خفيفة- ابن رِفَاعة بن رافع بن خَدِيج الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو رِفَاعة المدنيّ، ثقة [3].

رَوَى عن جده، وعن أبيه عن جده على خلاف في ذلك، وعن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبي عَبْس بن جَبْر.

ورَوَى عنه سعيد بن مسروق الثوري، وأبو حَيّان يحيى بن سعيد التيميّ، ويزيد بن أبي مريم الشامي، وأبو بِشْر جعفر بن أبي وَحْشِيّة، وعاصم بن كُليب، ومُحارب بن دِثَار وجماعة.

قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وكذا قال النسائي. وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1060) و (1968) و (2212) وأعاده بعده.

6 -

(رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ) بن رافع بن عَدِيّ بن يزيد بن جُشَم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الصحابيّ الأنصاريّ الأوسيّ الحارثيّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو خَدِيج، عُرِض على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بَدْر، فاستصغره، وأجازه يوم أحدٍ، فخرج بها، وشَهِد ما بعدها، ومات سنة (3 أو 74) وقيل: قبل ذلك، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 489.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وعمر بن سعيد.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الراوي عن جدّه، فرافع جدّ عباية.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ) جدّه (رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) -بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدال المهملة- أنه (قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ) صخر بن حرب بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف الأُمويّ، والد معاوية، وإخوته، كان رئيس المشركين يوم أُحُد، ورئيس الأحزاب يوم الخندق، أسلم

ص: 153

زمن الفتح، ولَقِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بالطريق قبل دخول مكة، وشَهِد حُنينًا، والطائف، رَوَى عنه ابن عباس حديث هرقل، وقيسُ بن أبي حازم، وابنه معاوية، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:"من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، وقال إبراهيم بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه: خَمَدت الأصوات يوم اليرموك، والمسلمون يقاتلون الروم إلا صوت رجل، يقول: يا نصر الله اقترب، يا نصر الله اقترب، فرفعت رأسي أنظر، فإذا أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد بن أبي سفيان.

قال علي ابن المدينيّ: مات لستّ خَلَت من خلافة عثمان، وقال الهيثم: لتسع، وقال الزبير بن بكار: في آخرها، وقال الواقديّ، وخليفة: سنة (31)، وكذا قال أبو عبيد، وزاد: ويقال: سنة (32)، وبه جزم ابن سعد، وأبو حاتم الرازيّ، وابن الْبَرْقىّ، وقال المدائنيّ: سنة أربع وثلاثين، وكذا قال ابن مندهْ، وزاد: وكان مولده قبل الفيل بعشر سنين.

وذكر ابن إسحاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مناة بقديد، فهدمها، وقال العسكريّ: ولاه نجران، وصدقات الطائف.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ

(1)

، وله حديث قصّة هرقل، سيأتي -إن شاء الله تعالى- في "كتاب الجهاد" برقم (1773).

(وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ) بن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح القرشىّ الْجُمَحيّ، أبو وهب، وقيل: أبو أميّة المكيّ الصحابيّ، قُتل أبوه يوم بدر كافرًا، وأسلم هو بعد الفتح، وكان من المؤلّفة قلوبهم، وشَهِد يوم اليرموك، وكان من أشراف قريش في الجاهليّة والإسلام، قيل: إنه مات أيام قتل عثمان، وقيل: سنة (1 أو 42) في أوائل خلافة معاوية.

علّق له البخاريّ، وأخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديث واحد، يأتي برقم (2313)

(2)

.

(1)

الظاهر أن النسائيّ أخرج له في "الكبرى:.

(2)

2313 - وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا عبد الله بن وهب=

ص: 154

(وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ) بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جُوَيّة -بالجيم مصغرًا - ابن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة الفزاريّ، أبو مالك، يقال: كان اسمه حذيفة، فلقب عيينة؛ لأنه كان أصابته شَجَّة، فجحظت عيناه، قال ابن السَّكَن: له صحبة، وكان من المؤلفة، ولم يصحّ له رواية، أسلم قبل الفتح، وشهدها، وشَهِد حُنينًا، والطائف، وبعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم لبني تميم، فسَبَى بعضَ بني العنبر، ثم كان ممن ارتدّ في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ومال إلى طُليحة فبايعه، ثم عاد إلى الإسلام، وكان فيه جفاءُ سكان البوادي، قال إبراهيم النخعي: جاء عيينة بن حصن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فقال: من هذه؟ وذلك قبل أن ينزل الحجاب، فقال: هذه عائشة، فقال: ألا أنزل لك عن أم البنين؟ فغضبت عائشة، وقالت: من هذا؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هذا الأحمق المطاع"؛ يعني في قومه، رواه سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عنه مرسلًا، ورجاله ثقات، وأخرجه الطبرانيّ موصولًا من وجه آخر، عن جرير، أن عيينة بن حصن دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال -وعنده عائشة-: من هذه الجالسة إلى جانبك؟ قال: "عائشة"، قال: أفلا أنزل لك عن خير منها؟؛ يعني امرأته، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اخرج، فاستأذِنْ"، فقال: إنها يمين علىَّ أن لا أستأذن على مضريّ، فقالت عائشة: من هذا؟ فذكره

(1)

، وليس له في الكتب الستّة رواية، وإنما له ذكرٌ فقط.

(وَالْأقرَعَ بْنَ حَابِسٍ) بن عقال بن محمد بن سفيان التميميّ المجاشعيّ الدراميّ، وَفَد على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشَهِد فتح مكة، وحُنينًا، والطائف، وهو من

= أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، فتح مكة ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة ثم مائة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 767 - 769.

ص: 155

المؤلفة قلوبهم، وقد حَسُن إسلامه، وكان حَكَمًا في الجاهلية.

ورَوَى البخاريّ في "تاريخه الصغير"، ويعقوب بن سفيان بإسناد صحيح، من طريق محمد بن سيرين، عن عَبِيدة بن عمرو السَّلْمانيّ، أن عيينة والأقرع استقطعا أبا بكر أرضًا، فقال لهما عمر: إنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتألفكما على الإسلام، فأما الآن فاجَهَدَا جهدكما، وقطع الكتاب. قال علي ابن المدينيّ في "العلل": هذا منقطع؛ لأن عَبِيدة لم يدرك القصة، ولا رَوَى عن عمر أنه سمعه منه، قال: ولا يُرْوَى عن عمر بأحسن من هذا الإسناد، ورواه سيف بن عمر في "الفتوح" مطوّلًا، وزاد: وشهدا مع خالد بن الوليد اليمامة وغيرها، ثم مضى الأقرع، فشَهِد مع شُرَحبيل ابن حسنة دُومة الْجَندل، وشَهِد مع خالد حرب أهل العراق، وقال ابن دريد: اسم الأقرع بن حابس فِراس، وإنما قيل له: الأقرع؛ لقرع كان برأسه، وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام، واستعمله عبد الله بن عامر على جيشٍ سَيَّره إلى خُراسان، فأصيب بالْجُوزَجَان هو والجيش، وذلك في زمن عثمان، وذكر ابن الكلبيّ أنه كان مجوسيًّا قبل أن يُسلم

(1)

.

وليس له في الكتب الستّة رواية، وإنما له ذكرٌ فقط.

(كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ) بنصب "كلَّ" بدلًا من "أبا سفيان"، وما عُطف عليه، وقوله:(مِائَةً مِنَ الإبِلِ) بنصب "مائةً" على أنه المفعول الثاني لـ"أعطَى".

(وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسِ) بن أبي عامر بن حارثة بن عبد قيس بن رفاعة بن الحارث بن يحيى بن الحارث بن بهثة بن سليم أبو الهيثم السّلمىّ، مات أبوه، وشريكه حرب بن أمية والد أبي سفيان في يوم واحد قتلهما الجنّ، ولهما في ذلك قصةٌ، وشهد العباس بن مرداس مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الفتح، وحُنينًا، وقال ابن سعد: لَقِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بالْمُشَلَّل، وهو متوجه إلى فتح مكة، ومعه سبعمائة من قومه، فشهد بهم الفتح، وذكر ابن إسحاق أن سبب إسلامه رؤيا رآها في صنمه، وكان ينزل البادية بناحية البصرة

(2)

.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 101 - 102.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 3/ 633.

ص: 156

وليس له في هذا الكتاب رواية، وإنما له ذكر فقط، وأخرج له أبو داود، وابن ماجه حديثًا في ضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وأخرجه ابن ماجه مطوّلًا في "المناسك" في دعائه صلى الله عليه وسلم عشيّة عرفة لأمته، وأخرجه أحمد أيضًا مطوّلًا.

(دُونَ ذَلِكَ) أي أقلّ من المائة (فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ) مخاطبًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم في إعطائه أقلّ مما أعطى هؤلاء الأربعة (أتجْعَلُ نَهْبِي) أي غنيمتي، قال في "القاموس": النَّهْبُ: الغنيمة، جمعه نِهابٌ -أي بالكسر، كسهم وسِهام-، ونَهَبَ النَّهْبَ، كجعل، وسَمِعَ، وكَتَبَ: أخذه، كانتهبه. انتهى

(2)

.

والمعنى: أي تجعل نصيبي من الغنيمة (وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ) بالتصغير اسم فرسه، وكان هو يُدعى فارس العبيد، كما في "خِزَانة الأدب"؛ أي وتجعل نصيب فرسي العبيد (بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأقرَعِ) أي بين نصيبهما؛ يعني أنه لا ينبغي أن تجعل نصيبي أقلّ من نصيبيهما؛ لأنهما ليسا بأكبر مني قدرًا، كما أشار إليه بقوله:(فَمَا كَانَ بَدْرٌ) والفاء للتعليل، و"ما" نافية، و"بدرٌ" هو جدّ والد عُيينة، قال الأبيّ رحمه الله: لم تختلف الرواية في البيت أنه بدرٌ، وإنما اختَلَفت في غير البيت، فقال مرّةً: عُيينة بن حِصْن، ومرّةً: عُيينة بن بدر، فمرّةً نسبه إلى أبيه حِصْن، ومرّةً نسبه إلى أبيه بدر؛ لأنه عُيينة بن حِصْن بن حُذيفة بن بدر. انتهى

(3)

.

(وَلَا حَابِسٌ) هو والد الأقرع؛ أي لأنهما لم يكونا (يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ) يعني والده، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع الروايات "مِرْداسَ" غير مصروف، وهو حجةٌ لمن جوّز ترك الصرف بعلّة واحدة، وأجاب الجمهور بأنه في ضرورة الشعر. انتهى

(4)

. (فِي الْمَجْمَعِ) أي في محلّ اجتماع العشائر والقبائل.

(وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا) أي لست أنا أيضًا أقلّ رُتبةً من عُيينة والأقرع، لا في النسب، ولا في المجد، أما في النسب فلأن الجميع من

(1)

هو حديث واحد اختصره أبو داود، وطوّله ابن ماجه وأحمد، فتنبّه.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 311.

(3)

"شرح الأبّيّ" 3/ 190.

(4)

"شرح النوويّ" 7/ 155 - 156.

ص: 157

مضر؛ لأن تميمًا الذي ينتسب إليه الأقرع بن حابس هو تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وفزارة التي ينتسب إليها عُيينة، هو فزارة بن ذبيان بن نغيض بن ردف بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وسليم الذي ينتسب إليه مِرداس هو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، وفي قيس هذا تجتمع قبائل قيس كلّها، من مازن، وهوازن، وسليم، وغيرهم من قبائل قيس.

وأما أنه ليس دونهما في المجد فلأن كلًّا من الثلاثة رئيس عشيرته

(1)

.

(وَمَنْ) شرطيّةٌ، ولذا جُزم الفعلان بعدها بها (تَخْفِضِ الْيَوْمَ) بنقص عطيّته (لَا يُرْفَعِ) أي لا يرفعه الناس بعد هذا اليوم؛ لأنهم يقتدون بك.

(قَالَ) رافع بن خَدِيج رضي الله عنه (فَأتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً) ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلّفة قلوبهم، وكانوا أشرافًا من أشراف الناس، يتألّفهم، ويتألّف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم بن حِزام مائة بعير، وأعطى الحارث بن الحارث بن كَلَدة أخا بني عبد الدار مائة بعير، وأعطى الحارث بن هشام مائة بعير، وأعطى سُهيل بن عمرو مائة بعير، وأعطى حُويطب بن عبد العُزَّى بن أبي قيس مائة بعير، وأعطى العلاء بن جارية الثقفيّ حليف بني زُهْرة مائة بعير، وأعطى عُيينة بن حِصن بن حُذيفة بن بدر مائة بعير، وأعطى الأقرع بن حابس التميميّ مائة بعير، وأعطى مالك بن عوف النصريّ مائة بعير، وأعطى صفوان بن أُميّة مائة بعير، فهؤلاء أصحاب المئين.

وأعطى دون المائة رجالًا من قُريش، منهم مَخرمة بن نوفل الزهريّ، وعُمير بن وهب الْجُمحىّ، وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لُؤيّ، لا أحفظ ما أعطاهم، وقد عرفت أنها دون المائة، وأعطى سعيد بن يَرْبوع بن عَنْكَثَة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل، وأعطى السَّهْميّ

(2)

خمسين من الإبل، وأعطى عبّاس بن مِرْداس أباعر، فسَخِطها، فعاتب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في عتابه:

(1)

"شرح الأبيّ" 3/ 190 - 191.

(2)

قال ابن هشام: واسمه عديّ بن قيس.

ص: 158

كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا

بَكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الأَجْرَعِ

وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا

إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ

فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعُبَيْـ

ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأقْرَعِ

وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْب ذَا تُدْرَإ

(1)

فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ

(2)

إِلَّا أَفَائِلَ أُعْطِيَتُهَا

(3)

عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الأَرْبَع

وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ

يَفُوقَانِ شَيْخِيَ فِي الْمَجْمَعِ

(4)

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا

وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفعِ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به، فاقطعوا عنّي لسانه"، فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن هشام: وحدّثني بعض أهل العلم أن عباس بن مرداس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت القائل:

فَأصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الأَقْرَعِ وَعُيَيْنَة؟ ".

فقال أبو بكر الصديق: بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هما واحدٌ"، فقال أبو بكر: أشهد أنك كما قال الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]

(5)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

وقوله "تُدْرَأ" تفعل بضم التاء وفتح العين، مهموز، من الدرء وهو الدفع، قال في "الصحاح": وقولهم: السلطان ذو تدرإ أي ذو عُدَّة وقُوّة على دفع أعدائه عن نفسه، وهذا اسم موضوع للدفع. انتهى. "خزانة الأدب" 1/ 162.

(2)

أي لم أعط شيئًا طائلًا، أو شيء أستحقّه.

(3)

"الأفائل": جمع أَفِيل بالفاء، كالفصيل وزنًا ومعنى، وقال الأصمعيّ: هو ابن سبعة أشهر، أو ثمانية، ويُجمَع على إفال أيضًا بكسر الهمزة. انتهى. "خزانة الأدب" 1/ 162.

(4)

قال ابن هشام: أنشدني يونس النحويّ:

فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ

يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ

(5)

"السيرة النبوية" 5/ 171.

ص: 159

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 2443 و 2444 و 2445](1060)، و (الحميديّ) في "مسنده"(412)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 125)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 17) و"المعرفة"(5/ 199)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز إعطاء المؤلّفة قلوبهم.

2 -

(ومنها): أن للإمام أن يفضّل بعضهم على بعض إذا رأى في ذلك مصلحة.

3 -

(ومنها): جواز إنشاد الشعر، وجواز الاستماع إليه.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، حيث أعطى لهذا الشاعر ما ساوى فيه أصحابه حتى رضي عنه، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2444]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّىّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، أَن النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَأعطَى أبا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ، وَزَادَ: وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاَئةَ مِائَةً)

(1)

.

(1)

وفي نسخة: "مائة من الإبل".

ص: 160

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ) فاعل "ساق" ضمير أحمد بن عبدة؛ أي ساق الحديث عن سفيان بن عيينة بنحو حديث محمد بن أبي عمر المكيّ، عئه.

وقوله: (وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاَثَةَ مِائَةً).

و"علقمة بن عُلاثة" بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامريّ، ثبت ذكره في "الصحيح"، وروى ابن أبي الدنيا في "كتاب الشكر"، وأبو عوانة في "صحيحه"، من طريق بن أبي حدرد الأسلميّ، قال: قال محمد بن سلمة: كنا يومًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا حسان أنشدني من شعر الجاهلية"، فأنشده قصيدة الأعشى التي هجا بها علقمة بن عُلاثة، ومدح عامر بن الطفيل، فقال:"يا حسان لا تَعُدْ تنشدني هذه القصيدة"، فقال: يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك، مقيم عند قيصر؟، فقال:"إن قيصر سأل أبا سفيان عني، فتناول مني، وسأل علقمة فأحسن القول، فإنَّ أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى".

وقال ابن قتيبة: كان ارتد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَحِقَ بقيصر، ثم انصرف عنه، وعاد إلى الإسلام، واستعمله عمر رضي الله عنه على حُوران، وقال أبو عبيدة: شَرِب علقمة الخمر، فحدّه عمر، فارتدّ، ولحق بالروم، فأكرمه ملك الروم، وقال: أنت ابن عمّ عامر بن الطفيل، فغضب، وقال: لا أراني أُعْرَف إلا بعامر، فرجع، وأسلم.

[تنبيه]: رواية أحمد بن عبدة، عن ابن عُيينة هذه لم أر من ساقها بتمامها، فليُنظر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 161

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2445]

(

) - (وَحَدَّثنا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ الشَّعِيرِيُّ، حَدَّثنا سُفْيَانُ، حَدَّثَني عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ، بِهَذَا الإسنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاَثةَ، وَلَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ فِي حَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ الشَّعِيرِيُّ) -بفتح الشين المعجمة، وكسر العين

(1)

- ابن يزيد، أبو محمد الْعَسْقلانيّ، نزيل طَرَسُوس، ثقةٌ [10].

رَوَى عن أبي معاوية، وابن عيينة، وابن نُمير، وأبي أسامة، وعمر بن يونس، وإبراهيم بن خالد، وعبد الرزاق، ورَوْح بن عُبادة، ويزيد بن هارون، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وعبد الله بن أحمد، وأحمد بن خالد الخلال، ومحمد بن إسحاق بن يزيد البصريّ، والمنذر بن شاذان، وغيرهم.

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لا أعرفه، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة.

وقد أنكر القاضي عياض في "شرحه"، هذا الاسم، وقال: لم أجد له ذكرًا عند أحد ممن صنّف رجال "الصحيحين"، ولا ممن صنّف في المؤتلف، ولا أصحاب التقييد، وبالغ في ذلك، حتى قال: ليس في الرواة أحدٌ يسمى مخلد بن خالد، وقد بالغ النوويّ في الردّ عليه، وأجاد وأفاد، ودونك نصّه: قال: هو مخلد بن خالد بن يزيد، أبو محمد بغداديّ سكن طَرَسُوس، رَوَى عن عبد الرزاق بن همام، وإبراهيم بن خالد الصنعانيين، وسفيان، رَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وابن عوف البزدويّ، وابنه أحمد بن أبي عوف، والمنذر بن شاذان، قال أبو داود: وهو ثقةٌ، وذكر هذه الجملة من أحواله الحافظ عبد الغنيّ المقدسيّ، وذكره أبو محمد بن أبي حاتم في كتابه المشهور

(1)

منسوب إلى الشَّعِير الحبّ المعروف.

ص: 162

في الجرح والتعديل مختصرًا، وذكره الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسيّ في كتابه "رجال الصحيحين"، فقال: مخلد بن خالد الشَّعِيريّ سمع سفيان بن عيينة في الزكاة.

قال النوويّ رحمه الله: وإنما ذكرت هذا كله؛ لأن القاضي عياض قال: لم أجد أحدًا ذكر مخلد بن خالد الشَّعِيريّ في رجال الصحيح، ولا في غيرهم، قال: ولم يذكره الحاكم، ولا الباجيّ، ولا الجيانيّ، ومن تكلم على رجال الصحيح، ولا أحد من أصحاب المؤتلف والمختلف، ولا من أصحاب التقييد، ولا ذكروا مخلد بن خالد غير منسوب أصلًا، وبسط القاضي الكلام في إنكار هذا الاسم وأنه ليس في الرواة أحد يسمى مخلد بن خالد، لا في الصحيح ولا في غيره، وضم إليه كلامًا عجيبًا، وهذا الذي ذكره من العجائب، فمخلد بن خالد مشهور، كما ذكرناه أولًا، وبالله التوفيق. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تعقّب جيّد.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وروى عنه أبو داود ثلاثين حديثًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ في الْحَدِيثِ) الفاعل ضمير مخلد بن خالد.

[تنبيه]: رواية مخلد بن خالد، عن سفيان بن عيينة هذه لم أر من ساقها تامّة، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2446]

(1061) - (حَدَّثنا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا، قَسَمَ الْغَنَائِمَ، فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأنصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَهُمْ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأنصَارِ، ألَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا،

ص: 163

فَهَدَاكُمُ الله بِي؟ وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ، فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي؟ " وَيَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: "أَلَا تُجِيبُونِي؟

(1)

" فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنَ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا"، لِأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا، زَعَمَ عَمْروٌ أَنْ لَا يَحْفَظَهَا، فَقَالَ: "أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا

(2)

، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 95/ 202.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

3 -

(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ) بن أبي حسن المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد (130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.

4 -

(عَبَّادُ بْنُ تَمِيمِ) بن غَزِيّة الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [3] وقد قيل: إن له رؤية (ع) تقدم في "الحيض" 25/ 810.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ) بن عاصم بن كعب الأنصاريّ المازنيّ، أبو محمد الصحابيّ الشهير، استُشهِد رضي الله عنه بالحرّة سنة (63)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 561.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما مرّ آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، كما مرّ أيضًا.

(1)

وفي نسخة: "ألا تجيبونني؟ ".

(2)

وفي نسخة: "أو شِعبًا".

ص: 164

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا، قَسَمَ الْغَنَائِمَ) أي غنائم حنين، وقد تقدّم أنها كانت ستة آلاف من النساء والأطفال، وأربعة وعشرين ألفًا من الإبل، وأربعين ألف شاة (فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ) المراد بالمؤلفة ناسٌ من قريش أسلموا يوم الفتح إسلامًا ضعيفًا، وقيل: كان فيهم من لم يُسلم بعد كصفوان بن أمية.

وقد اختُلِف في المراد بالمؤلفة قلوبهم الذين هم أحد المستحقّين للزكاة، فقيل: كُفّار يُعْطَون ترغيبًا في الإسلام، وقيل: مسلمون لهم أتباع كفّار؛ ليتألفوهم، وقيل: مسلمون أول ما دخلوا في الإسلام؛ ليتمكن الإسلام من قلوبهم.

وأما المراد بالمؤلفة هنا فهذا الأخير؛ لقوله في رواية الزهريّ في الباب: "فإني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر أتألفهم".

ووقع في حديث أنس المتقدّم ذكره في الباب: "لَمّا فُتحت مكة قسم الغنائم في قريش"، والمراد بهم مَن فُتِحت مكة، وهم فيها، وفي رواية له:"فقسم في المهاجرين، والطّلقاء"، والمراد بالطلقاء جمع طَلِيق من حَصَّل من النبيّ صلى الله عليه وسلم المنّ عليه يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم، والمراد بالمهاجرين من أسلم قبل فتح مكة، وهاجر إلى المدينة، وقد تقدّم سرد أسماء المؤلّفة قلوبهم، في شرح حديث أنس رضي الله عنه الماضي، فراجعه تستفد.

(فَبَلَغَهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا مَا أَصَابَ النَّاسُ) أي من الغنائم، وفي رواية البخاريّ:"ولم يُعط من الأنصار شيئًا، فكأنهم وَجَدوا؛ إذ لم يُصبهم ما أصاب الناس".

قال في "الفتح": قوله: "ولم يُعْطِ الأنصار شيئًا" ظاهرٌ في أن العطية المذكورة كانت من جميع الغنيمة.

وقال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": واختُلف في هذا العطاء الذي أعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المؤلّفة قلوبهم، هل كان من الخمس؟ أو كان من صُلب الغنيمة؟، والإجراء على أصول الشريعة أن يكون من الخمس، ومنه كان أكثر عطاياه صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة للأعرابيّ: "ما لي مما أفاء الله عليكم

ص: 165

إلا الخمس، والخمس مردود فيكم"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عن -، والظاهر من مراجعة الأنصار، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم" أنه كان من صُلْب الغنيمة، وأن ذلك إنما كان لِمَا يعلم من رضا أصحابه بذلك، ولطيب قلوبهم به، أو يكون هذا مخصوصًا بتلك الواقعة، وله أن يفعل ما شاء في الأموال والرقاب، والأصل التمسّك بقواعد الشريعة على ما تقرّرت، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح - كما في "الفتح"- كون العطاء من صلب الغنيمة، يؤيّد ذلك ما تقدّم في رواية قتادة، عن أنس رضي الله عنه، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم، وأتألفهم".

وقيل: إنما تصَرَّف في الغنيمة؛ لأن الأنصار كانوا انهزموا، فلم يرجعوا حتى وقعت الهزيمة على الكفار، فردّ الله أمر الغنيمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى القول السابق بأنه خاصّ بهذه الواقعة، واختار أبو عبيد أنه كان من الخمس.

وقال ابن القيم رحمه الله: اقتَضَت حكمة الله تعالى أن فتح مكة كان سببًا لدخول كثير من قبائل العرب في الإسلام، وكانوا يقولون: دعوه وقومَه، فإن غلبهم دخلنا في دينه، وإن غلبوه كَفَونا أمره، فلما فتح الله عليه استمرّ بعضهم على ضلاله، فجمعوا له، وتأهبوا لحربه، وكان من الحكمة في ذلك أن يَظْهَر أن الله نصر رسوله صلى الله عليه وسلم لا بكثرة من دخل في دينه من القبائل، ولا بانكفاف قومه عن قتاله، ثم لَمّا قدّر الله له من غلبته إياهم قدَّر وقوع هزيمة المسلمين مع كثرة عَدَدهم، وقوّة عُدَدِهم؛ ليتبين لهم أن النصر الحقّ إنما هو من عنده، لا بقوّتهم، ولو قدّر أن لا يَغلبوا الكفار ابتداء لرجع مَن رجع منهم شامخ الرأس متعاظمًا، فقدّر هزيمتهم، ثم أعقبهم النصر ليدخلوا مكة، كما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح متواضعًا، متخشعًا، واقتضت حكمته أيضًا أن غنائم الكفار لَمّا حَصَلت، ثم قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه لِمَا بقي فيه من

(1)

"المفهم" 3/ 107.

ص: 166

الطبع البشريّ في محبة المال، فقسمه فيهم؛ لتطمئن قلوبهم، وتجتمع على محبته؛ لأنها جُبِلت على حبّ من أحسن إليها، ومَنَع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين، ورؤساء الأنصار، مع ظهور استحقاقهم لجميعها؛ لأنه لو قَسَم ذلك فيهم، لكان مقصورًا عليهم، بخلاف قسمته على المؤلّفة؛ لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلما كان ذلك العطاء سببًا لدخولهم في الإسلام، ولتقوية قلب من دخل فيه قبلُ تَبِعهم من دونهم في الدخول، فكان في ذلك عظيم المصلحة، ولذلك لم يقسم فيهم من أموال أهل مكة عند فتحها قليلًا ولا كثيرًا مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يُعينهم على ما هم فيه، فحرّك الله قلوب المشركين لغزوهم، فرأى كثيرةم أن يَخرجوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم، فكانوا غنيمة للمسلمين، ولو لم يَقذف الله في قلب رئيسهم أن سوقها معهم هو الصواب، لكان الرأي ما أشار إليه دُرَيد فخالفه، فكان ذلك سببًا لتصييرهم غنيمة للمسلمين، ثم اقتضت تلك الحكمة أن تُقسم تلك الغنائم في المؤلفة، ويُوكَل مَن قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه، ثم كان من تمام التأليف ردُّ من سُبي منهم إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام، فدخلوا طائعين راغبين، وجَبَر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة عما حصل لهم من الكسر والرعب، فصَرَّف عنهم شرَّ من كان يجاورهم من أشدّ العرب من هوازن وثقيف بما وقع بهم من الكسر، وبما قيّض لهم من الدخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدّتها وكثرتها.

وأما قصة الأنصار، وقول من قال منهم، فقد اعتَذَر رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم، ولما شَرَح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم، فسَلَوا عن الشاة والبعير والسبايا من الأنثى والصغير بما حازوه من الفوز العظيم، ومجاورة النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم لهم حيًّا وميتًا، وهذا دأب الحكيم، يعطي كل أحد ما يناسبه. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله ملخصًا

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس.

(1)

راجع: "زاد المعاد" 3/ 477 - 479، والتلخيص من "الفتح" 9/ 458 - 459.

ص: 167

(فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَطَبَهُمْ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ) وفي رواية الزهريّ، عن أنس:"فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، فلم يَدْعُ معهم غيرهم، فلما اجتمعوا، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال له فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئًا، وأما ناس منا حديثةٌ أسنانهم، فقالوا

إلخ، وفي رواية هشام بن زيد:"فجمعهم في قبة من أدم، فقال: "يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني؟ " فسكتوا".

ويُحْمَل على أن بعضهم سكت، وبعضهم أجاب، وفي رواية أبي التيّاح عن أنس، عند الإسماعيليّ:"فجمعهم، فقال: "ما الذي بلغني عنكم"؟ قالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يَكْذِبون"، ولأحمد من طريق ثابت، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان، وعيينة، والأقرع، وسهيل بن عمرو في آخرين يوم حنين، فقالت الأنصار: "سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم

"، فذكر الحديث، وفيه: "ثم قال: "أقلتم كذا وكذا؟ " قالوا: نعم"، وإسناده على شرط مسلم، وكذا ذكر ابن إسحاق، عن أبي سعيد الخدريّ أن الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بمقالتهم سعد بن عبادة، ولفظه: "لَمّا أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وَجَدَ هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بن عبادة، فذكر له ذلك، فقال له:"فأين أنت من ذلك يا سعد؟ " قال: ما أنا إلا من قومي، قال:"فاجمع لي قومك"، فخرج، فجمعهم

" الحديث.

وأخرجه أحمد من هذا الوجه، وهذا يعكُر على الرواية التي فيها:"أما رؤساؤنا، فلم يقولوا شيئًا"؛ لأن سعد بن عبادة من رؤساء الأنصار بلا ريب، إلا أن يُحْمَل على الأغلب الأكثر، وأن الذي خاطبه بذلك سعد بن عبادة، ولم يُرد إدخال نفسه في النفي، أو أنه لم يقل لفظًا، وإن كان رضي بالقول المذكور، فقال: ما أنا إلا من قومي، وهذا أوجه، والله أعلم، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 9/ 660.

ص: 168

(ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا) بالضمّ، والتشديد: جمع ضالّ، والمراد هنا ضلالة الشرك (فَهَدَاكُمُ الله بِي) المراد بالهداية الإيمان، وقد رتّب صلى الله عليه وسلم ما مَنَّ الله تعالى عليهم على يده من النِّعَم ترتيبًا بالغًا، فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازيها شيء من أمر الدنيا، وثَنّى بنعمة الأُلْفة، وهي أعظم من نعمة المال؛ لأن الأموال تُبْذَل في تحصيلها، وقد لا تحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع؛ لِمَا وقع بينهم منِ حرب بُعَاثَ، وغيرها، فزال ذلك كله بالإسلام، كما قال الله تعالى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} الآية [الأنفال: 63].

(وَعَالَةً) بالعين المهملة: أي فقراء لا مال لهم، والْعَيْلة الفقر (فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي) أي بسبب اتّباعكم لي، وجهادكم معي، ففتح الله تعالى عليكم من الغنائم، فصرتم أغنياء (وَمُتَفَرِّقِينَ) أي بسبب العصبيّة الجاهليّة، فإنهم كانوا متحاربين من سنين طويلة (فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي؟ " وَيَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ) - بفتح الهمزة والميم والتشديد: أفعلُ تفضيل من الْمَنّ.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَلَا تُجِيبُونِي؟ ") وفي نسخة: "ألا تجيبونني"(فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ) وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "فقالوا: ماذا نُجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله الْمَنُّ والفضل".

(فَقَالَ: "أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنَ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا) وفي رواية البخاريّ: "قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا"(لِأشْيَاءَ عَدَّدَهَا) الفاعل ضمير عبّاد بن تميم الراوي عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه (زَعَمَ عَمْرٌو) أي ابن يحيى الراوي عن عبّاد (أَنْ لَا يَحْفَظَهَا)"أن" مخفّفة من الثقيلة؛ أي أنه لا يحفظ تلك الأشياء التي عدّدها شيخه، وفي هذا ردٌّ على من قال: إن الراوي كَنَى عن ذلك عمدًا على طريق التأدب، وقد جوّز بعضهم أن يكون المراد: جئتنا ونحن على ضلالة، فهُدينا بك، وما أشبه ذلك، وفيه بُعْدٌ، فقد فُسِّر ذلك في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ولفظه:"فقال: أما والله لو شئتم لقلتم، فَصَدَقْتُم، وصُدِّقتم: أتيتنا مُكَذَّبًا فصَدَّقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فواسيناك"، ونحوُه في مغازي أبي الأسود، عن عروة مرسلًا وابنِ عائذ من حديث ابن عباس موصولًا، وفي مغازي سليمان التيميّ أنهم

ص: 169

قالوا في جواب ذلك: رضينا عن الله ورسوله، وكذا ذكر موسى بن عقبة في "مغازيه" بغير إسناد، وأخرجه أحمد عن ابن أبي عديّ، عن حُميد، عن أنس، بلفظ:"أفلا تقولون: جئتنا خائفًا فآمناك، وطريدًا فآويناك، ومخذولًا فنصرناك"، فقالوا: بل الْمَنّ علينا لله ولرسوله، وإسناده صحيح.

ورَوَى أحمد من وجه آخر، عن أبي سعيد قال: قال رجل من الأنصار لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أن لو استقامت الأمور لقد آثر عليكم، قال: فردوا عليه ردًّا عنيفًا، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم الحديث.

وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعًا منه، وإنصافًا، وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك له عليهم، فإنه لولا هجرته صلى الله عليه وسلم إليهم، وسكناه عندهم، لَمَا كان بينهم وبين غيرهم فرق، وقد نَبَّهَ على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا ترضون إلخ"، فنبههم على ما غَفَلوا عنه من عظيم ما اختَصُّوا به منه بالنسبة إلى ما حَصَل عليه غيرهم من عَرَض الدنيا الفانية، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْإِبِلِ) ولفظ البخاريّ: "بالشاة والبعير" وهو اسم جنس فيهما، والشاة تقع على الذكر والأنثى، وكذا البعير، وفي رواية الزهريّ:"أن يذهب الناس بالأموال"، وفي رواية قتادة، وأبي التيّاح:"أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا"(وَتَذْهَبُونَ برَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟) -بالحاء المهملة-: أي بيوتكم، وهي رواية قتادة وأبَي التيّاح، زاد في رواية الزهريّ، عن أنس:"فوالله لَمَا تنقلبون به خير مما ينقلبون به"، وزاد فيه أيضًا:"قالوا: يا رسول الله قد رضينا"، وفي رواية أبي التيّاح:"قالوا: بلى"

(2)

، وذكر الواقديّ أنه حينئذ دعاهم ليكتب لهم بالبحرين تكون لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فُتِح عليه من الأرض، فَأَبَوا، وقالوا: لا حاجة لنا بالدنيا

(3)

.

(1)

"الفتح" 9/ 461 - 462 "كتاب المغازي" رقم (4330).

(2)

هذه الزيادة في رواية أبي التيّاح ليست عند المصنّف في الرواية الماضية، بل هي عند البخاريّ، فتنبّه.

(3)

"الفتح" 9/ 462.

ص: 170

(الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ)"الشعار"- بكسر المعجمة، بعدها مهملة خفيفة-: الثوب الذي يلي الجلد من الجسد، و"الدثار"- بكسر المهملة، ومثلثة خفيفة-: الذي فوقه، وهي استعارة لطيفة لِفَرْط قربهم منه صلى الله عليه وسلم، وأراد أيضًا أنهم بطانته وخاصته، وأنهم ألصق به، وأقرب إليه من غيرهم، زاد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لِحَاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحَظًّا".

(وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ) أي لولا وجود الهجِرة (لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأنْصَارِ) قال الخطابيّ رحمه الله: أراد صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام تألف الأنصار، واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، حتى رضي أن يكون واحدًا منهم، لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه، منها: الولادة، كالقرشيّة، والبلادية، كالكوفيّة، والاعتقادية، كالسنّية، والصناعية، كالصيرفيّة، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد الانتقال عن نسب آبائه؛ لأنه ممتنع قطعًا، وكيف وأنه أفضل منهم نسبًا، وأكرمهم أصلًا، وأما الاعتقاديّ فلا معنى للانتقال فيه؛ إذ كان دينه ودينهم واحدًا، فلم يبق إلا القسمان الآخران، الجائز فيهما الانتقال، وكانت المدينة دار الأنصار، والهجرة إليها أمرًا واجبًا؛ أي لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم.

قال الخطابيّ: وفيه وجه آخر، وهو أن العرب كانت تعظم شأن الخؤولة، وتكاد تلحقها بالعمومة، وكانت أم عبد المطلب امرأة من بني النجار، فقد يكون صلى الله عليه وسلم ذهب هذا المذهب، وأراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة، لولا مانع الهجرة.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: لم يرد صلى الله عليه وسلم تغير نسبه، ولا محو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجر لانتسب إلى المدينة، وإلى نصرة الدين، فالتقدير: لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية، لا يسع تركها، لانتسبت إلى داركم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معناه: لتسميت باسمكم، وانتسبت إليكم، كما كانوا ينتسبون بالْحِلْف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها سبقت، فمنعت من

ص: 171

ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تتبدل بغيرها، وقيل: معناه: لكنت من الأنصار في الأحكام والعداد، وقيل: التقدير: لولا أن ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار، ولم يرد ظاهر النسب أصلًا، وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة، ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاث لاخترت أن أكون من الأنصار، فيباح لي ذلك. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله القرطبيّ رحمه الله أوّلًا هو الأقرب، وقريب مما قاله الخطّابيّ، وابن الجوزيّ، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

(وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا) هو المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء، والمراد هنا بلدهم (وَشِعْبًا) وفي نسخة:"أو شِعبًا"، وعليها فتكون "أو" للشك من الراوي، أو هي بمعنى الواو، وهذا أولى، فقد وقع عند البخاريّ بالواو، و"الشِّعْب"- بكسر الشين المعجمة-: اسم لما انفرج بين جبلين، وقيل: الطريق في الجبل.

(لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ) أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا، وبما سبق من قوله:"الأنصار شعار إلخ" التنبيهَ على جزيل ما حَصَل لهم من ثواب النصرة، والقناعة بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا، ومَن هذا وصفه فحقّه أن يُسْلَك طريقه، ويُتَّبَع حاله.

قال الخطابيّ رحمه الله: لَمّا كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرقت في السفر الطُّرُق سلك كل قوم منهم واديًا وشعبًا، فأراد صلى الله عليه وسلم أنه مع الأنصار.

قال: ويَحْتَمِل أن يريد بالوادي المذهب، كما يقال: فلان في وادٍ، وأنا في وادٍ. انتهى، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.

وقال في "المرقاة": وقيل: أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حسن موافقته إياهم، وترجيحهم في ذلك على غيرهم؛ لِمَا شاهد منهم حسن الوفاء بالعهد، وحسق الجوار، وما أراد بذلك وجوب متابعته إياهم، فإن متابعته حقّ على كل مؤمن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع، لا التابع المطيع. انتهى

(1)

.

(1)

"المرقاة" 11/ 359.

ص: 172

(إِنَّكُمْ) التفاتٌ إليهم، متضمن للترحّم عليهم (سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً) - بضم الهمزة، وسكون المثلثة، وبفتحتين، ويجوز كسر أوله، مع الإسكان- هو: أي الانفراد بالشيء المشترَك دون من يَشْرَكه فيه، وفي رواية الزهريّ:"أثرةً شديدةً".

والمعنى: ستلقون بعد موتي استئثارًا صعبًا عليكم، يستأثر عليكم أمراؤكم بأمور الدنيا من المغانم والفيء، ونحوهما، ويفضلون عليكم أنفسهم، أو من هوأدنى إليهم منكم.

(فَاصْبِرُوا) على ذلك الاستئثار (حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ) أي يوم القيامة، وفي رواية الزهريّ:"حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض"؛ أي اصبروا حتى تموتوا، فإنكم ستجدوني عند الحوض، فيحصل لكم الانتصاف ممن ظلمكم، والثواب الجزيل على الصبر، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال القاري: أي فحينئذ يحصل جبر خاطركم المتعطشِ إلى لقائي بسقيكم شَرْبةً لا تظمؤون بعدها أبدًا

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأول): حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 2446](1061)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4330) و"التمنّي"(7245)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 42)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 125)، والله تعالى أعلم.

وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت في شرح حديث أنس بن مالك رضي الله عنه المذكور أول الباب، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"عمدة القاري" 17/ 309.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 11/ 360.

ص: 173

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2447]

(1062) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ

(1)

، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ

(2)

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ، ثُمَّ قَالَ:"فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ؟ "، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، قَدْ أوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ"، قَالَ: قُلْتُ: لَا جَرَمَ لَا أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) ذُكر في الباب.

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر السَّلَميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

6 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة، تقدّم في الباب الماضي.

7 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه مات سنة (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ

(1)

وفي نسخة: "في الغنيمة".

(2)

وفي نسخة: "لأخبرنّ بها".

ص: 174

قرن بينهم" لاتحاد كيفيّة تلقّيه عنهم، ثم فصل بينهم؛ لاختلافهم فيها، وقد سبق بيان هذا غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثاني ما أخرج لهما الترمذيّ، والثالث ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، سوى شيخه زُهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وقد دخل الكوفة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ صغير عن تابعيّ كبير مخضرم، على قول من يقول: إن منصورًا من صغار التابعين.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، وقد ذكر بعضها غير مرّة.

6 -

(ومنها): أن فيه القاعدة التي تأتي في كثير من الأسانيد، وهي أنه إذا أُطلق عبد الله من الصحابة في السند يُنظر إلى السند، فإن كان كوفيًّا، كهذا السند فهو ابن مسعود رضي الله عنه، وإن كان مدنيًّا، فهو ابن عمر، وإن كان مكيًّا فهو ابن الزبير، وإن كان بصريًّا، فهو ابن عبّاس، وإن مصريًّا أو شاميًّا فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

وَحَيْثُمَا اُطْلِقَ عَبْدُ اللهِ فِي

طَيْبَةَ فَابْنُ عَمَرٍ وَإِنْ يَفِ

بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى

بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى

وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ

وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ)"كان" هنا تامّة، و"يوم" مرفوع على الفاعليّة؛ أي جاءت غزوة يوم حنين، ويَحْتَمل أن تكون تامّة، و"يومُ" اسمها، وخبرها محذوف؛ أي واقعًا أو حاضرًا (آثَرَ) بالمدّ: أي فضّل (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاسًا) الناس: اسمٌ وُضع للجمع، كالقوم، والرَّهْط، وواحده إنسانٌ من غير لفظه، مشتقّ من ناس ينوس: إذا تدلّى وتحرّك، فيُطلق على الجنّ والإنس، وقد سبق تمام البحث فيه (فِي الْقِسْمَةِ)

ص: 175

بالكسر اسم من الاقتسام، ويُطلق أيضًا على النصيب، ويُجمع على القِسَم، مثلُ سِدْرة وسِدَرٍ، وهو المناسب هنا؛ أي فضّلهم على غيرهم في الحظّ من الغنيمة، وفي نسخة:"في الغنيمة"؛ أي آثرهم في قسمة الغنيمة (فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ) تقدّم أسماء الذين أعطاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء في شرح الحديث الماضي، وقوله:(وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ) جملة مؤكّدة لما قبلها (فَقَالَ رَجُلٌ) قال في "الفتح": في رواية الأعمش: "فقال رجل من الأنصار"، وفي رواية الواقديّ: إنه معتّب بن قُشير من بني عمرو بن عوف، وكان من المنافقين، وفيه تعقّب على مغلطاي حيث قال: لم أر أحدًا قال: إنه من الأنصار إلا ما وقع هنا، وجزم بأنه حرقوص بن زُهير السعديّ، وتبعه ابن الملقِّن، وأخطأ في ذلك، فإن قصّة حرقوص غير هذه، كما سيأتي قريبًا من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

(وَاللهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا) بالبناء للمفعول (وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللهِ) بالبناء للمفعول أيضًا، وفي رواية الأعمش عند البخاريّ:"ما أراد بها وجه الله".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله" هذا قول جاهل بحال النبيّ صلى الله عليه وسلم، غليظ الطبع، حريصٌ، شَرِه، منافقٌ، وكان حقّه أن يُقتَل؛ لأنه آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] والعذاب في الدنيا هو القتل، لكن لم يقتله النبيّ صلى الله عليه وسلم للمعنى الذي قاله، وهو ما في حديث جابر رضي الله عنه الآتي:"معاذ الله أن يتحدّث الناس أني أقتل أصحابي"، ولهذه العلّة امتنع النبيّ صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين، مع علمه بأعيان كثير منهم، وبنفاقهم، ولا يُلتفت لقول من قال بإبداء علّة أخرى؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه وغيره نصّ في تلك العلّة، وقد أُمنت تلك العلّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفاق بعده، وإنما هو الزندقة، كذلك قال مالك رحمه الله، فمن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سبّه قُتل، ولا يُستتاب، وهذا هو الحقّ والصواب.

(1)

"الفتح" 9/ 469.

ص: 176

انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو كلام نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (فَقُلْتُ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّ

(2)

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "لأُخبرنّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم"(قَالَ: فَأَتَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ) ذلك الرجل (قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ) صلى الله عليه وسلم (حَتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ) -بكسر الصاد المهملة-: هو صبغ أحمر تُصْبَغ به الجلود، قال ابن دُريد: وقد يُسَمَّى الدم أيضًا صِرْفًا

(3)

، وفي الرواية التالية:"فغضِبَ من ذلك غضبًا شديدًا، واحمرّ وجهه، حتى تمنّيتُ أني لم أذكره له".

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَمَنْ يَعْدِلُ)"من" استفهاميّة (إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللهُ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولُهُ؟) صلى الله عليه وسلم، وجواب "إن" محذوف دلّ عليه ما قبله؛ أي فمن يعدل؟. ذكر الله عز وجل إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مبلّغ عن الله تعالى، فإذا لم يعدل هو لم يعدل الله سبحانه وتعالى، فالاعتراض عليه صلى الله عليه وسلم اعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى.

والاستفهام هنا إنكاريّ بمعنى النفي، والمعنى أنه لا أحد يعدل إذا لم يَعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القاضي عياض رحمه الله: حُكْمُ الشرع أن من سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَفَرَ، وقُتِل، ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قُتِل.

وقال المازريّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون لم يَفْهَم منه الطعن في النبوة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، والمعاصي ضربان: كبائر، وصغائر، فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر بالإجماع، واختلفوا في إمكان وقوع الصغائر، ومن جَوَّزها منع من إضافتها إلى الأنبياء على طريق التنقيص، وحينئذ فلعله صلى الله عليه وسلم لم يعاقب هذا القائل؛ لأنه لم يثبت عليه ذلك، وإنما نقله عنه واحد، وشهادة الواحد لا يراق بها الدم.

قال القاضي: هذا التأويل باطلٌ يدفعه قوله: "اعْدِلْ يا محمد"، و"اتق الله يا محمد"، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ، حتى استأذن عمر وخالد النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل

(1)

"المفهم" 3/ 107.

(2)

وفي نسخة: "لأخبرنّ بها".

(3)

"شرح النووي" 7/ 158.

ص: 177

أصحابه"، فهذه هي العلة، وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه، وسَمِع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنه صَبَر؛ استبقاءً لانقيادهم، وتأليفًا لغيرهم؛ لئلا يتحدث الناس أنه يَقتل أصحابه فينفروا، وقد رأى الناس هذا المصنف في جماعتهم، وعَدُّوه من جملتهم. انتهى كلام القاضي رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ.

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (ثُمَّ قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ("يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى) بن عمران عليه السلام (قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ") أي آذاه قومه بأكثر من هذا الإيذاء، فصبر على أذاهم، ففيه تسلية لنفسه صلى الله عليه وسلم، وتحريض لأمته على الصبر على الأذى، وذلك امتثال لأمر الله تعالى بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية [الأنعام: 90].

[تنبيه]: أشار بقوله: "قد أوذي موسى" إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية [الأحزاب: 69]، وقد حُكِي في صفة أذاهم له ثلاث قِصَص:

[إحداهما]: قولهم: هو آدر، وهو ما أخرجه الشيخان

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن موسى عليه السلام كان رجلًا حَيِيًّا سَتِيرًا لا يُرَى من جلده شيءٌ؛ استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما بَرَصٍ، وإما أُدْرة، وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام فخلا يومًا وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتَسَل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجرُ ثوبي حجرُ حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله عز وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطَفِق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أوأربعًا أو خمسًا، قال: فذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب: 69].

(1)

هذا الحديث متّفقٌ عليه، وأما قول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: إنه مما تفرّد به البخاريّ، ففيه نظر لا يخفى، فتنبّه.

ص: 178

وفي رواية: كانت بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ، وكان مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: والله ما يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلا أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ

الحديث.

[ثانيها]: في قصة موت هارون عليه السلام، فقد روى أحمد بن منيع في "مسنده"، والطحاويّ، وابن مردويه، من حديث عليّ رضي الله عنه أن الآية المذكورة نزلت في طعن بني إسرائيل على موسى بسبب هارون؛ لأنه توجَّه معه إلى زيارة، فمات هارون، فدفنه موسى، فطَعَن فيه بعض بني إسرائيل، وقالوا: أنت قتلته، فبرأه الله تعالى بأن رفع لهم جسد هارون، وهو ميت، فخاطبهم بأنه مات.

قال الحافظ رحمه الله: وفي الإسناد ضعف، ولو ثبت لم يكن فيه ما يمنع أن يكون في الفريقين معًا؛ لصدق أن كلًّا منهما آذى موسى، فبرأه الله مما قالوا. انتهى.

[ثالثها]: في قصته مع قارون، حيث أمر الْبَغِيّ أن تزعم أن موسى عليه السلام راودها، حتى كان ذلك سبب هلاك قارون.

أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان موسى يقول لبني إسرائيل: إن الله يأمركم بكذا، حتى دخل عليهم في أموالهم، فشَقَّ ذلك على قارون، فقال لبني إسرائيل: إن موسى يقول: من زنى رُجم، فتعالوا نجعل لبغيّ شيئًا، حتى تقول: إن موسى فعل بها، فيرجم، فنستريح منه، ففعلوا ذلك، فلما خطبهم موسى قالوا له: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، فقالوا: فقد زنيتَ، فجَزعَ، فأرسلوا إلى المرأة، فلما جاءت عَظُم عليها موسى، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل إلا صدقت، فأقَرَّت بالحقّ، فخرَّ موسى ساجدًا يبكي، فأوحى الله إليه: إني أمرت الأرض أن تطيعك، فأْمرها بما شئت، فأمرها، فخسفت بقارون ومن معه

(1)

.

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه (قُلْتُ: لَا جَرَمَ) قال في "القاموس": "لا جرم"

(1)

"الفتح" 8/ 17 - 18.

ص: 179

أي لا بُدّ، أو حقًّا، أو لا محالة، أو هذا أصله، ثم كثر حتى تحوّل إلى معنى القسم. انتهى.

وقال في "النهاية": هذه كلمة تَرِدُ بمعنى تحقيق الشيء، وقد اختُلِف في تقديرها، فقيل: أصلها التبرئة، بمعنى لا بُدّ، ثم استُعمِلت في معنى حَقًا، وقيل: جَرَمَ بمعنى كَسَبَ، وقيل: بمعنى وَجَبَ، وحَقَّ و"لا" رَدٌّ لما قبلها من الكلام، ثم يُبتدأ بها، كقوله تعالى:{لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [النحل: 62]؛ أي ليس الأمر كما قالوا، ثم ابتدأ فقال: وجب لهم النار، وقيل في قوله تعالى:{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} [هود: 89]: أي لا يحملنكم، ويَحْدُوكم، وقد تكررت في الحديث. انتهى

(1)

.

وقال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله: أن معنى "لا جرم" عند الفرّاء: لا بُدّ من كذا، أو لا محالة في كذا، فحذفت "من"، أو "في"، وقال قُطْرُب:"لا" رَدٌّ لما قبلها؛ أي ليس الأمر كما وصفوا، ثم ابتدئ ما بعده، و"جَرَمَ" فِعْلٌ، لا اسمٌ، ومعناه: وَجَبَ، وما بعده فاعلٌ، وقال قوم:"لا" زائدة، و"جَرَمَ" وما بعدها فعلٌ وفاعلٌ، كما قال قُطْرُب، وردّه الفراء بأن "لا" لا تزاد في أول الكلام. انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: حقًّا والتزامًا أن لا أرفع إليه صلى الله عليه وسلم حديثًا أسمعه من الناس بعد هذه الحادثة؛ لئلا أُغضبه كما أغضبته في هذه المرّة، وفي الرواية التالية:"حتى تمنيتُ أني لم أذكره له".

(لَا أَرْفَعُ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (بَعْدَهَا) أي بعد هذه المقالة، أو بعد هذه الواقعة التي غَضِب النبيّ صلى الله عليه وسلم من أجلها (حَدِيثًا) إنما قال ذلك؛ لئلا يؤذيه بإبلاغ كلام المنافقين، فيتأثّر به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 263.

(2)

"مغني اللبيب" 1/ 314.

ص: 180

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 2447 و 2448](1062)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3150) و"أحاديث الأنبياء"(3405) و"المغازي"(4335 و 4336) و"الأدب"(6059 و 6100) و"الدعوات"(6291 و 6336)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3831)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 380 و 411 و 435 و 441 و 453)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 126)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 412)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 433)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 55)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز إعطاء المؤلّفة قلوبهم من الغنيمة؛ تأليفًا لهم.

2 -

(ومنها): جواز إخبار الإمام، وأهل الفضل بما يقال فيهم، مما لا يليق بهم؛ ليحذروا القائل.

3 -

(ومنها): بيان ما يباح من الغيبة والنميمة؛ لأن صورتهما موجودة في صنيع ابن مسعود رضي الله عنه هذا، ولم ينكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قَصْدَ ابن مسعود رضي الله عنه كان نصحَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإعلامه بمن يَطْعَن فيه، ممن يُظْهِر الإسلام، ويُبطِن النفاق؛ ليحذر منه، وهذا جائز، كما يجوز التجسس على الكفار؛ ليُؤْمَنَ من كيدهم، وقد ارتكب الرجل المذكور بما قال إثْمًا عظيمًا، فلم يكن له حرمة.

4 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ إلخ" تسليةً لنفسه صلى الله عليه وسلم، وتحريضًا لأمته على الصبر على الأذى.

5 -

(ومنها): بيان ما كان في الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من الصبر على الجهّال، واحتمال أذاهم، وجعل الله تعالى العاقبة لهم على من آذاهم.

6 -

(ومنها): بيان أن أهل الفضل قد يُغضِبهم ما يقال فيهم، مما ليس فيهم، ومع ذلك، فيتلقون ذلك بالصبر والحلم، كما صنع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ اقتداءً بموسى عليه السلام.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 181

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2448]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَارَرْتُهُ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "قَدْ أَوُذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَصَبَرَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، تغيرّ حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا) منصوب على المصدريّة، يقال: قَسَمت الشيءَ قسمًا، من باب ضرب: فَرَزته أجزاءً، فانقسم، والقِسْم بالكسر اسم منه، ثمّ أُطلق على الحصّة والنصيب، فيقال: هذا قِسْمي، والجمع أقسام، مثلُ حِمْل وأَحْمال، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: القَسْم مصدر قَسَمْتُ الشيءَ، فانقَسَمَ، سُمِّي الشيءُ المقسومُ، وهو الغنيمة بالمصدر، والقِسْم بالكسر: الحظّ والنصيب، ولا وجه للمكسور في الحديث؛ لأنه يختصّ بما إذا تفرد نصيبٌ، وهذا القَسْم كان في غنائم خيبر قسمها بالجعرانة

(2)

.

وقوله: (فَسَارَرْتُهُ) أي كلّمته سرًّا.

[تنبيه]: رواية الأعمش، عن شقيق هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 503.

(2)

راجع: "المرقاة" 11/ 34.

ص: 182

(4080)

- حدّثنا قَبِيصَةُ، حدّثنا سُفْيَانُ، عن الْأَعْمَشِ، عن أبي وَائِلٍ، عن عبد اللهِ، قال: لَمَّا قَسَمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةَ حُنَيْنٍ، قال رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ: ما أَرَادَ بها وَجْهَ اللهِ، فَأَتَيْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قال:"رَحْمَةُ اللهِ على مُوسَى، لقد أُوذِيَ بِأَكْثَرَ من هذا، فَصَبَرَ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(45) - (بَابُ ذِكْرِ الْخَوَارجِ، وَبَيَانِ صِفَاتِهِمْ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2449]

(1063) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بن الْمُهَاجِرِ، أخبرنا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد اللهِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ، مُنْصَرَفَهُ من حُنَيْنٍ، وفي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ منها، يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، قَالَ: "وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟، لقد خِبْتَ وَخَسِرْتَ، إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"، فَقَال عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه: دَعْنِي يا رَسُولَ اللهِ، فَأَقْتُلَ هذا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: "مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ الناس أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يقرأون الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بن الْمُهَاجِرِ) التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ، أبو سعيد القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، إلا أنه يُدَلِّس [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

ص: 183

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْد اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن شيخه والليث مصريّان، ويحيى والصحابيّ مدنيّان، وأبو الزبير مكيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وقد غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) كذا رواه المصنّف، ورواه البخاريّ عن مسلم بن إبراهيم، عن قرّة بن خالد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

قال في "الفتح": وقد خالف زيدُ بن الْحُبَاب مسلم بن إبراهيم فيه، فقال: عن قُرَّة، عن أبي الزبير، بدل عمرو بن دينار، أخرجه مسلم -يعني الرواية التالية- وسياقه أتمّ، ورواية البخاريّ أرجح، فقد وافق شيخه على ذلك عن قرة عثمانُ بنُ عمرو، عند الإسماعيليّ، والنضرُ بنُ شُمَيل عند أبي نعيم، فاتفاق هؤلاء الحفاظ الثلاثة أرجح من انفراد زيد بن الحباب عنهم.

ويَحْتَمِل أن يكون الحديث عند قُرّة عن شيخين، بدليل أن في رواية أبي الزبير زيادةً على ما في رواية هؤلاء كلهم عن قرة، عن عمرو. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير هو المتعيّن، كما هو رأي

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 416.

ص: 184

المصنّف رحمه الله، حيث أخرجه من رواية ابن الحباب عن أبي الزبير أيضًا، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَتَى رَجُلٌ) قيل: هو ذو الْخُوَيصرة التميميّ، واعترضه الحافظ رحمه الله بأن القصة التي في حديث جابر رضي الله عنه صُرِّح في حديثه بأنها كانت مُنْصَرَف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان، وكان الذي قسمة النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ فضةً كانت في ثوب بلال رضي الله عنه، وكان يُعطي كلَّ من جاء منها، والقصة التي في حديث أبي سعيد رضي الله عنه صَرِّح في رواية أبي نعيم عنه أنها كانت بعد بعث عليّ رضي الله عنه إلى اليمن، وكان ذلك في سنة تسع، وكان المقسوم فيها ذهبًا، وخَصَّ به أربعة أنفس، فهما قصّتان في وقتين، اتَّفَقَ في كل منهما إنكار القائل، وصُرِّح في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه ذو الخويصرة التميميّ، ولم يُسَمَّ القائل في حديث جابر رضي الله عنه، ووَهِمَ من سماه ذا الخويصرة ظانًّا اتحاد القصتين.

قال: ووجدت لحديث جابر شاهدًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل يوم حنين، وهو يَقْسِم شيئًا، فقال: يا محمد اعدل، ولم يُسَمّ الرجل أيضًا، وسماه محمد بن إسحاق بسند حسن، عن عبد اللُّه بن عمر

(1)

وأخرجه أحمد والطبري أيضًا، ولفظه: "أتى ذو الخويصرة التميميّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم الغنائم بحنين، فقال: يا محمد

"، فذكر نحو هذا الحديث المذكور، فيمكن أن يكون تكرر ذلك منه في الموضعين، عند قسمة غنائم حنين، وعند قسمة الذهب الذي بعثه عليّ رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن الرجل هو ذو الخويصرة التميميّ، ولا يُستبعد أن يقع له هذا الكلام في الموضعين، كما أشار إليه الحافظ في آخر كلامه، ومما يؤيّد ذلك أن في مسند أحمد رحمه الله لحديث جابر رضي الله عنه هذا ما نصّه: "لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بين الناس

(1)

لعل الصواب عبد الله بن عَمْرو المذكور قبله.

(2)

"الفتح" 16/ 177.

ص: 185

بالجعرانة، قام رجل من بني تميم، فقال: اعدل يا محمد

"، والله تعالى أعلم.

(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ) قال ابن الأثير رحمه الله: هو موضعٌ قريبٌ من مكّة، وهي في الحلّ، وميقاتٌ للإحرام، وهي بتسكين العين، والتخفيف، وقد تكسر العين، وتُشدّد الراء. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": "الْجِعْرانة" -بكسر، فسكون، وقد تكسر العين، وتُشدّد الراء، وقال الشافعيّ: التشديد خطأ- موضع بين مكة والطائف، سُمِّي برَيْطَة بنت سعد، وكانت تُلَقَّب بالْجِعْرانة، وهي المرادة في قوله تعالى:{كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} الآية [النحل: 92]. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْجِعْرَانَة": موضع بين مكة والطائف، وهي على سبعة أميال من مكة، وهي بالتخفيف، واقتَصَرَ عليه في "البارع"، ونقله جماعة عن الأصمعيّ، وهو مضبوط كذلك في "المحكم"، وعن ابن المدينيّ: العراقيون يُثَقِّلُون "الجعرانة"، و"الحديبية"، والحجازيون يخففونهما، فأخذ به المحدِّثون، على أن هذا اللفظ ليس فيه تصريح بأن التثقيل مسموع من العرب، وليس للتثقيل ذكر في الأصول المعتمدة عن أئمة اللغة، إلا ما حكاه في "المحكم" تقليدًا له في الحديبية، وفي "العباب": والجعرانة -بسكون العين- وقال الشافعيّ: المحدثون يخطئون في تشديدها، وكذلك قال الخطابيّ، انتهى

(3)

.

(مُنْصَرَفَهُ) ظرف زمان من الانصراف، وهو بصيغة اسم المفعول يصلح، لظرفي الزمان والمكان، واسم المفعول، وللمصدر الميميّ، والمراد به هنا الزمان؛ أي وقت انصرافه (من) غزوة (حُنَيْنٍ) بصيغة التصغير: وادٍ بين مكة والطائف، وهو مذكّر منصرفٌ، وقد يؤنّث على معنى البُقْعَة، وكان ذلك بعد فتح مكة في شوّال سنة ثمان من الهجرة، كما تقدّم تمام البحث فيه قريبًا (وفي ثَوْبِ بِلَالٍ) هو ابن رَبَاح، مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتوفَّى سنة (7 أو 8 أو 20)

(1)

"النهاية" 1/ 276.

(2)

"القاموس المحيط" 1/ 467.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 102.

ص: 186

وقد تقدّمت ترجمته رضي الله عنه في "الطهارة" 23/ 643. (فِضَّةٌ) فيه تصريح بأن الذي قسمة صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه هي الفضّة، وكان في سنة ثمان، بخلاف ما سيأتي في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فإنه ذهب، وكان ذلك في سنة تسع (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبضُ منها، يُعْطِي النَّاسَ) أي عامّة الناس، فلم يخُصّ أشخاصًا معيّنين، كما فعل في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فإنه قسم الذهب بين أربعة أشخاص، كما سيأتي (فَقَالَ) ذلك الرجل (يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَيْلَكَ) أي هلاكك، بمعنى هلكت، قال السمين الحلبيّ رحمه الله: هو منصوب على المصدريّة بفعل مُلاقٍ له في المعنى دون الاشتقاق، ومثلُهُ: وَيْحَه، وويْسَهُ، وويْبَهُ، وإما على المفعول به بتقدير: ألزمك الله ويلك. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: الويل: الحزن، والهلاك، والمشقّةُ من العذاب، وكلُّ من وقع في هَلَكَة دعا بالويل، ومعنى النداء فيه: يا حزني، ويا هلاكي، ويا عذابي احضُر، فهذا وقتك، وأوانك، قاله في "النهاية"

(2)

.

(وَمَنْ) استفهاميّة، كما مرّ في الحديث الماضي (يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟، لقد خِبْتُ وَخَسِرْتُ)" قال النوويّ رحمه الله: رُوي بفتح التاء في "خِبْتُ"، و"خَسِرتُ"، وبضمهما فيهما، ومعنى الضم ظاهرٌ، وتقدير الفتح خبتَ أنت أيها التابع؛ إذا كنتُ لا أعدل؛ لكونك تابعًا ومقتديًا بمن لا يعدل، والفتح أشهر، والله أعلم. انتهى

(3)

.

ووقع عند البخاريّ بلفظ: "لقد شَقِيتُ"، قال في "الفتح": وقوله في هذه الرواية: "لقد شقيتُ" بضم المثناة للأكثر، ومعناه ظاهرٌ، ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممن لا يَعْدِل، حتى يحصل له الشَّقَاء، بل هو عادل، فلا يَشْقَى، وحَكَى عياض فتحها، ورجحه النوويّ، وحكاه الإسماعيليّ عن رواية شيخه الْمَنِيعِيِّ من طريق عثمان بن عُمَر، عن قُرَّة، والمعنى: لقد شقيتَ؛ أي ضَلَلْتَ أنت أيها التابع، حيث تقتدي بمن لا يعدل،

(1)

راجع: "حاشية الجمل على الجلالين" في "سورة الأحقاف" عند قوله تعالى: {وَيْلَكَ آمِنْ} الآية (4/ 130).

(2)

"النهاية" 5/ 236.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 159.

ص: 187

أو حيث تعتقد في نبيّك هذا القول الذي لا يصدر عن مؤمنٍ. انتهى

(1)

.

وقوله: (إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ") جوابه مقدّرٌ دلّ عليه ما قبله؛ أي فلقد خبت وخسرت (فَقَال عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه) وجاء في روايات أخرى أن خالد بن الوليد رضي الله عنه هو الذي استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتله، ولا تعارض في ذلك لإمكان أن يستأذن كلٌّ منهما، فتنبّه

(2)

، والله تعالى أعلم.

(دَعْنِي) أي اتركني، ولا تمنعني من قتله؛ لأنه يستحقّ القتل (يا رَسُولَ اللهِ، فَأَقْتُلَ هذا الْمُنَافِقَ) بالنصب على جواب الأمر، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ

مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَعَاذَ اللهِ) منصوب على المصدريّة لفعل محذوف، ومضاف إلى المفعول؛ أي أعوذ بالله من (أَنْ يَتَحَدَّثَ الناس أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي) والمراد بالناس هم المشركون، فقد أخرج أحمد، والطبريّ من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: "أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمُويل، فقعد يقسمه، فأتاه رجلٌ، وهو على تلك الحال

" فذكر الحديث، وفيه: "فقال أصحابه: ألا تضرب عنقه؟ فقال: لا أريد أن يسمع المشركون أني أقتل أصحابي".

(إِنَّ هَذَا) أي الرجل الذي قال: "يا محمد اعدل"(وَأَصْحَابَهُ يقرأون الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) بالفتح: جمع حَنْجَر: رأس الْغَلْصَمة حيث تراه ناتئًا من خارج الحلق

(3)

.

قال القاضي عياض رحمه الله: فيه تأويلان:

[أحدهما]: معناه لا تَفْقَهه قلوبهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ سوى تلاوة الفم، والحنجرةِ، والحلقِ؛ إذ بهما تقطيع الحروف.

[والثاني]: معناه لا يصعد لهم عمل، ولا تلاوة، ولا يُتَقَبَّل. انتهى

(4)

.

(يَمْرُقُونَ) أي يخرجون، يقال: مَرَق السهم من الرَّميّة مُرُوقًا، من باب قعد: خرج منه من غير مدخله

(5)

. (مِنْهُ) الضمير للإسلام، أو الدين، كما

(1)

"الفتح" 7/ 416 "كتاب فرض الخمس" رقم (3138).

(2)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 159.

(3)

"النهاية" 1/ 449.

(4)

"إكمال المعلم" 3/ 609.

(5)

"المصباح" 2/ 569.

ص: 188

تفسّره الروايات الآتية (كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ") بفتح الراء، وتشديد الياء: فَعِيلة بمعنى مفعهولة، وهي ما يُرْمَى من الحيوان ذكرًا كان أو أنثى، والجمع رَمِيَّات، ورَمَايَا، مثلُ عطيّة وعَطَايا

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية"، وفي الرواية الأخرى:"يمرقون من الإسلام"، وفي الرواية الأخرى:"يمرقون من الدين"، قال القاضي عياض: معناه يخرجون منه خروج السهم إذا نَفَذ الصيد من جهة أخرى، ولم يتعلق به شيء منه.

قال: والدين هنا هو الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال الخطابيّ: هو هنا الطاعة؛ أي من طاعة الإمام.

وفي هذه الأحاديث دليلٌ لمن يُكَفِّر الخوارج، قال القاضي عياض رحمه الله: قال المازريّ: اختَلَف العلماء في تكفير الخوارج، قال: وقد كادت هذه المسألة تكون أشدّ إشكالًا من سائر المسائل، ولقد رأيت أبا المعالي، وقد رَغِب إليه الفقيه عبد الحقّ -رحمهما الله تعالى- في الكلام عليها، فَرَهِبَ له من ذلك، واعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه؛ لأن إدخال كافر في الملة، وإخراج مسلم منها عظيمٌ في الدين، وقد اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر الباقلّانيّ، وناهيك به في علم الأصول، وأشار ابن الباقلانيّ إلى أنها من المعوصات؛ لأن القوم لم يُصَرِّحوا بالكفر، وإنما قالوا أقوالًا تؤدِّي إليه، وأنا أكشف لك نكتة الخلاف، وسبب الإشكال، وذلك أن المعتزليّ مثلًا يقول: إن الله تعالى عالم، ولكن لا علم له، وحيّ، ولا حياة له يوقع الالتباس في تكفيره؛ لأنّا علمنا من دين الأمة ضرورة أن من قال: إن الله تعالى ليس بحيّ، ولا عالم، كان كافرًا، وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له، فهل نقول: إن المعتزليّ إذا نفى العلم نَفَى أن يكون الله تعالى عالِمًا، وذلك كفر بالإجماع، ولا ينفعه اعترافه بأنه عالم، مع نفيه أصل العلم، أو نقول: قد اعترف بأن الله تعالى عالم، وإنكاره العلم لا يُكَفِّره، وإن كان يؤدي إلى أنه ليس بعالم، فهذا موضع الإشكال، هذا كلام المازريّ، ومذهب الشافعيّ،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 240.

ص: 189

وجماهير أصحابه العلماءِ، أن الخوارج لا يُكَفَّرون، وكذلك القَدَريّة، وجماهير المعتزلة، وسائر أهل الأهواء، قال الشافعيّ رحمه الله: أَقْبَلُ شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، وهم طائفة من الرافضة يَشهَدون لموافقيهم في المذهب بمجرد قولهم، فرَدَّ شهادتهم لهذا، لا لبدعتهم، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في هذه المسألة في شرح حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه الآتي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 2449 و 2450](1063)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3138) وفي "الأدب المفرد"(774)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(112 و 113)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 353 و 354)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1271)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 127)، والله تعالى أعلم.

وأما فوائد الحديث، وبقيّة المسائل ستأتي في شرح حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه-إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2450]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بن عبد اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بن الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي قُرَّةُ بن خَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ مَغَانِمَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

ص: 190

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) هو: ابن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(زَيْدُ بن الْحُبَابِ) أبو الحسن العكليّ الكوفيّ، خُرَاسانيّ الأصل، صدوقٌ يُخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

4 -

(قُرَّةُ بن خَالِدٍ) السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ ضابظٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير لقرّة بن خالد، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن أبي الزير، ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 127) فقال:

(2372)

- حدّثنا أبو بكر الطلحيّ، ثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، حدّثني قرة بن خالد، عن أبي الزبير، عن جابر (ح) وحدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، ثنا عبد الجبار، حدّثنا عبد الوهاب الثقفي (ح) وحدّثنا سليم بن عصام، ثنا حفص بن عمرو

(1)

، ثنا عبد الوهاب، سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا يقول: بَصَرُ عيني، وسَمْعُ أذني، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالجعرانة، وفي ثوب بلال فضةٌ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضها للناس يعطيهم، فقال له رجل: يا رسول الله اعدل، فقال:"ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل"، فقال عمر: يا رسول الله دعني فأقتل هذا المنافق الخبيث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن تتحدث قريش أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن، لا يجاوز حلوقهم، أو حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، لفظ يحيى بن سعيد. انتهى.

وأما رواية قرّة بن خالد، عن أبي الزبير، فلم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

هكذا النسخة "ابن عمرو"، ولعل الصواب "ابن عُمر"، فليُحرّر.

ص: 191

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2451]

(1064) - (حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ في تُرْبَتِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الْأَقرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُ، وَعَلْقَمَةَ بَنُ عُلَاَثةَ الْعَامِرِيُ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كِلَابٍ، وَزَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِيُ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ، قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: أَيُعْطِي

(1)

صَنَادِيدَ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لأتَأَلَّفَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إن عَصَيْتُهُ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأرض، وَلَا تَأْمَنُونِي؟ " قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ من الْقَوْمِ في قَتْلِهِ، يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:": إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يقرأون الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَامِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) -بكسر الراء الخفيفة- ابن مصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله (91) سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُلَيم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ) الثوريّ، والد سفيان، ثقةٌ [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 19/ 1738.

(1)

وفي نسخة: "يُعطي" بحذف الهمزة.

ص: 192

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي نُعْمٍ)

(1)

-بضم النون، وسكون المهملة- البجليّ، أبو الحكم الكوفيّ العابد، صدوقٌ [3].

رَوَى عن أبي هريرة، وأبي سعيد، ورافع بن خَدِيج، والمغيرة بن شعبة، وابن عمر، وسفينة.

ورَوَى عنه سعيد بن مسروق الثوريّ، ومحمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبيّ، ويزيد بن أبي زياد، ومغيرة بن مقسم، وعُمَارة بن القعقاع، وفُضيل بن غَزْوان، وغيرهم.

قال مِنْدَل بن عليّ، عن بكير بن عامر: لو قيل لعبد الرحمن: قد توجه ملك الموت إليك، يريد قبض روحك، ما كانت عنده زيادة على ما هو فيه، وقال محمد بن فضيل، عن أبيه: كان عبد الرحمن يُحْرِم من السنة إلى السنة

(2)

، وكان يقول: لبيك، لو كان رياء لاضْمَحَلَّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من عُبّاد أهل الكوفة، ممن يصبر على الجوع الدائم، أخذه الحجاج ليقتله، وأدخله بيتًا مظلمًا، وسَدَّ الباب خمسة عشر يومًا، ثم أمر بالباب ففُتِحَ ليخرجَ، فيُدْفَنَ، فدخلوا عليه فإذا هو قائم يصلي، فقال له الحجاج: سِرْ حيث شئت، وروى عبد الرحمن بن أحمد في "زيادات الزهد" من طريق مغيرة بن مقسم، قال: دخل ابن أبي نُعْم على الحجاج أيام الجماجم فوعظه، وقال ابن سعد: كان يُحْرِم من السنة إلى السنة، وكان ثقةً، وله أحاديث، وقال ابن أبي حاتم: ذكر أبي عبدَ الرحمن بن أبي نُعْم، فذَكَر له فضلًا وعبادةً، وقال النسائيّ في "التمييز": ثقةٌ، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيف.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1064) وأعاده بعده، و (1538) و (1588) و (1660).

(1)

لم أجد من ذكر اسم أبي نُعم، فليُنظر.

(2)

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون هذا خلاف السنّة، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فعدّ مثل هذا في مناقبه محلّ نظر، وما أكثر نقل المؤرّخين لمثل هذا؛ لجهلهم بالسنّة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 193

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابي ابن الصحابيّ، مات رضي الله عنه بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد مالك بن سِنَان رضي الله عنهما أنه (قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رضي الله عنه) ابن أبي طالب (وَهُوَ بِالْيَمَنِ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي حال كونه كائنًا باليمن؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولّاه قاضيًا بها.

(بِذَهَبَةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا "بذَهَبَة" -بفتح الذال- وكذا نقله القاضي عن جميع رُواة مسلم، وفي رواية ابن ماهان:"بذُهيبة" على التصغير. انتهى

(1)

.

وبالتصغير وقع عند البخاريّ، قال الخطابيّ: إنما أنّثها على نية القطعة من الذهب، وقد يؤنث الذهب في بعض اللغات، وقال ابن الأثير: قيل: هي تصغير ذهب، وأدخل الهاءَ فيها؛ لأن الذهب يؤنّث، والمؤنّث الثلاثيّ إذا صُغِّر أُلْحِق في تصغيره الهاءُ، نحو فُريسة، وشُميسة، وقيل: هو تصغير ذَهَبة على نيّة القطعة منها، فصغّرها على لفظها. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الذهب": معروف، ويؤنَّث، فيقال: هي الذهب الحمراء، ويقال: إن التأنيث لغة الحجاز، وبها نزل القرآن، وقد يؤنَّث بالهاء،

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 161.

(2)

"النهاية" 2/ 173.

ص: 194

فيقال: ذهبةٌ، وقال الأزهريّ: الذهب مذكَّرٌ، ولا يجوز تأنيثه، إلا أن يُجْعَل جمعًا لذَهَبَةٍ، والجمع: أَذْهابٌ، مثلُ سبب وأسباب، وذُهْبان، مثلُ رُغْفَان، وأذهبته بالألف: مَوَّهْتُهُ بالذهب. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: هذه القصة غير القصة المتقدمة في غزوة حنين، ووَهِمَ مَن خَلَطها بها، واختُلِف في هذه الذَّهَبَة، فقيل: كانت خمس الخمس، وفيه نظرٌ، وقيل: من الخمس، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يضعه في صنف من الأصناف للمصلحة، وقيل: من أصل الغنيمة، وهو بعيدٌ، قاله في "الفتح"

(2)

.

(في تُرْبَتِهَا) لغة في التراب؛ إذ فيها لغات، جمعتها بقولي:

اعْلَمْ بِأنَّ لِلتُّرَابِ سُمِعَا

مِنَ اللُّغَاتِ مَا يَلِي فَانْتَفِعَا

تُرَابٌ التُّرْبَةُ وَالتَّرْبَاءُ جَا

وَتَيْرَبٌ وَتُرَبَاءُ أُدْرِجَا

وَتَوْرَبٌ وَتَيْرَبٌ تَيْرَابُ

كَذَا تَرِيبٌ مَعَهُ تَوْرَابُ

وَيُجْمَعُ التُّرَابُ بِالأتْرِبَةِ

كَذَا بِتُرْبَانٍ بِغَيْرِ مِرْيَةِ

وفي رواية البخاريّ: "لم تُحَصَّل من ترابها"؛ أي لم تُخَلَّص من تراب المعدن، فكأنها كانت تِبْرًا، وتخليصها بالسَّبْك.

(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "بَبَعَثَ"(فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "النفر"-بفتحتين-: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة. وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نفرٌ فيما زاد على العشرة. انتهى.

(الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ) بالجرّ بدل من "أربعة"، أو من "نفر"، أو عطف بيان، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي أحدهم الأقرع، والنصب على أنه مفعول لفعل مقدّر؛ أي أعني.

و"الأقرع "- بفتح الهمزة، وسكون القاف، وبالراء، وبالعين المهملة -ابن حابس- بالحاء المهملة، وكسر الباء الموحّدة، وبالسين المهملة- ابن عقال بن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 210.

(2)

"الفتح" 9/ 489.

ص: 195

محمد بن سفيان بن مُجاشع المجاشعيّ الدارميّ أحدُ المؤلفة قلوبهم، وقد تقدّم الكلام فيه مطوّلًا في شرح حديث رافع بن خَدِيج رضي الله عنه الماضي.

وقوله: (الْحَنْظَلِيُ) نسبة إلى حنظل بن مالك بن زيد مناة بن تميم، زاد في رواية للبخاريّ:"ثم المجاشعيّ"، نسبة إلى مجاشع بن دام بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.

[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ: "وأقرع بن حابس"، بدون "أل"، فقال ابن مالك رحمه الله: فيه شاهد على أن ذا الألف واللام من الأعلام الغالبة قد يُنزعان عنه في غير نداء، ولا إضافة، ولا ضرورة، وقد حَكَى سيبويه عن العرب: هذا يومُ اثنين مباركٌ، وقال: ومما جاء منه في الشعر قول مسكين الدارميّ [من الطويل]:

وَنَابِغَةُ الْجَعْدِيُّ فِي الرَّمْلِ بَيْتُهُ

عَلَيْهِ صَفِيحٌ مِنْ رِجَامٍ مُوَضَّعِ

وإلى القاعدة المذكورة أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَقَدْ يَكُونُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مُضَافٌ اوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَالْعَقَبَهْ

وَحَذْفَ "أَلْ" ذِي إِنْ تُنَادِ أَوْ تُضِفْ

أَوْجبْ وَفِي غَيْرِهِمَا قَدْ تَنْحَذِفْ

(وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ) كذا نُسِب لجدّه الأَعلى، وهو عيينة بن حِصْن بن حُذيفة بن بدر الفزاريّ.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عيينة بن بدر الفزاريّ"، وكذا في الرواية التي بعد هذه، روايةِ قتيبة قال فيها:"عيينة بن بدر"، وفي بعض النسخ في الثانية:"عيينة بن حِصْن"، وفي معظمها:"عيينة بن بدر"، ووقع في الرواية التي قبل هذه، وهي الرواية التي فيها الشعر:"عيينة بن حِصْن" في جميع النسخ، وكله صحيحٌ، فحصن أبوه، وبدر جد أبيه، فنُسب تارة إلى أبيه، وتارة إلى جد أبيه؛ لشهرته، ولهذا نسبه إليه الشاعر في قوله:

فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ

وقد تقدّم الكلام فيه مطوّلًا في شرح حديث رافع بن خديج رضي الله عنه أيضًا. وقوله: (الْفَزَارِيُ) بفتح الفاء، وتخفيف الزاي، وبالراء نسبة إلى فزارة المذكورة في نسبه.

(وَعَلْقَمَةُ بَنُ عُلَاَثَةَ) -بضم العين المهملة، وتخفيف اللَّام، وبالثاء المثلثة-

ص: 196

ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، كان من أشراف قومه حليمًا عاقلًا، ولم يكن فيه ذلك الكرم، وارتدَّ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ثم أسلم أيام الصديق رضي الله عنه، وحسن إسلامه، واستعمله عمر رضي الله عنه على حُوران، فمات بها.

ووقع في رواية البخاريّ من طريق عبد الواحد بن زياد، عن عُمارة بن القعقاع، عن ابن أبي نُعْم:"إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل". فقال في "الفتح": وجزم في رواية سعيد بن مسروق بأنه علقمة بن عُلاثة العامريّ، ثم أحد بني كلاب، وهو من أكابر بني عامر، وكان يتنازع الرياسة هو وعامر بن الطفيل، وأسلم علقمة، فحسن إسلامه، واستعمله عمر على حَوْران، فمات بها في خلافته، وذكرُ عامر بن الطفيل غلطٌ من عبد الواحد، فإنه كان مات قبل ذلك. انتهى

(1)

.

وقوله: (الْعَامِرِيُ) منسوب إلى عامر بن صعصعة بن مالك المذكور في نسبه.

(ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كِلَابٍ) هو كلاب بن ربيعة المذكور في نسبه.

(وَزَيْدُ الْخَيْرِ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في جميع النسخ "الخير" بالراء، وفي الرواية التي بعدها "زيد الخيل" باللام، وكلاهما صحيح، يقال بالوجهين، كان يقال له في الجاهلية: زيد الخيل؛ لكرائم الخيل التي كانت له، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام: زيد الخير. انتهى

(2)

.

وهو: زيد الخيل بن مُهَلهل بن زيد بن منهب بن عبد رضا بن أفصى بن المختلس بن ثوب بن كنانة بن مالك بن نابل بن عمرو بن الغوث بن طيّئ الطائيّ، كان شاعرًا خطيبًا، شُجاعًا كريمًا، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وأقطع له أرضين في ناحيته، يكنى أبا منذر، مات منصرفه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: في خلافة عمر رضي الله عنه.

وقال في "الفتح": وقيل له: زيد الخيل؛ لكرائم الخيل التي كانت له، وسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم زيد الخير بالراء بدل اللام، وأثنى عليه، فأسلم، فحسن إسلامه، ومات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(1)

"الفتح" 8/ 395.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 161.

ص: 197

وذكر في "القاموس" أن زيد الخير كان يُدعى زيد الخيل؛ لشجاعته، فسمّاه صلى الله عليه وسلم لَمَّا وَفَدَ زيد الخير؛ لأنه بمعناه، وأيضًا أزال توهّم أنه سُمّي به لما اتّهمه كعب بن زُهير من أخذ فرس له. انتهى

(1)

.

(الطَّائِيُ) نسبة إلى طيّئ المذكور في نسبه، وهو من النسب الشواذّ؛ لأن القاعدة أنه إذا نُسب إلى نحو طيّب، وطيّئ تُحذف الياء الثانية، فيقال: طَيْبيّ، وطَيْئِي، لكن ثبت عن العرب أنهم قالوا: طاليّ بإبدال الياء ألفًا، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَثَالِثٌ مِنْ نَحْوِ طَيِّبٍ حُذِفْ

وَشَذَّ طَائِيٌّ مَقُولًا بِالأَلِفْ

(ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ) -بفتح النون، وسكون الباء الموحّدة- ونبهان هو: ابن أسودان بن عمرو بن الغوث بن طيء.

(قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ) وفي رواية البخاريّ: "فغضبت قريش، والأنصار"(فَقَالُوا) وفي الرواية التالية: "فقال رجل من أصحابه"(أَيُعْطِي) الاستفهام للإنكار، وفي نسخة "يُعطي" بحذف همزة الاستفهام (صَنَادِيدَ نَجْدٍ) بالصاد المهملة، والنون: جمع صِنْديد، وهم الأشراف، والعظماء، والرؤساء، وكلُّ عظيم غالبٍ صِنْدِيدٌ، أفاده في "النهاية"

(2)

.

وقال في "القاموس": "الصِّنْدِدُ" كزِبْرِجٍ: السيّد الشجاع، كالصِّنْدِيد، أو الحليم، أو الجواد، أو الشريف. انتهى

(3)

.

و"نَجْد" -بفتح النون، وسكون الجيم- هو ما بين الحجاز إلى الشام، إلى الْعُذيب، فالطائف من نجد، والمدينة من نجد، وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان إلى العروض، وقال ابن دريد: نجد بلد للعرب، وإنما سُمِّي نجدًا؛ لعلوه عن انخفاض تهامة. انتهى

(4)

.

(وَيَدَعُنَا) أي يتركنا (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ) أي إعطاء صناديد نجد (لأَتَأَلَّفَهُمْ) من التألّف، وهو المداراة، والإيناس؛ ليثبتوا

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 373.

(2)

"النهاية" 3/ 55.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 309.

(4)

"عمدة القاري" 15/ 230.

ص: 198

على الإسلام رغبةً فيما يَصِل إليهم من المال؛ يعني أنه إنما أعطاهم ليستميل قلوبهم بالإحسان والمودّة.

[فائدة]: "المؤلّفة" بصيغة اسم المفعول، و"قلوبُهُم" بالرفع على أنه نائب الفاعل: أي المستمالَةُ قلوبهم بالإحسان، والمودّة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات، وكانوا من أشراف العرب، فمنهم من كان يُعطيه دفعًا لأذاه، ومنهم من كان يعطيه طَمَعًا في إسلامه، وإسلام أتباعه، ومنهم من كان يُعطيه ليَثْبُت على إسلامه؛ لقرب عهده بالجاهليّة، قاله الفيّوميّ رحمه الله.

وقال العلّامة القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": هم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يُظهر الإسلام، يُتَألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم، قال الزهريّ: المؤلّفة مَن أسلم من يهوديّ، أو نصرانيّ، وإن كان غنيًّا.

وقال بعض المتأخّرين: اختُلِف في صفتهم؛ فقيل: هم صنف من الكفّار يُعطَون ليتألّفوا على الإسلام، وكانوا لا يُسلمون بالقهر والسيف، ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان. وقيل: هم قوم أسلموا في الظاهر، ولم تستيقن قلوبهم، فيُعْطَون ليتمكّن الإسلام في صدورهم. وقيل: هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يُعطَون ليتألفوا أتباعهم على الإسلام. قال: وهذه الأقوال متقاربة، والقصد بجميعها الإعطاءُ لمن لا يتمكّن إسلامه حقيقةً إلا بالعطاء؛ فكأنه ضربٌ من الجهاد، والمشركون ثلاثة أصنافٌ: صنف يرجع بإقامة البرهان، وصنفٌ بالقهر، وصنفٌ بالإحسان، والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كلّ صنف ما يراه سببًا لنجاته، وتخليصه من الكفر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

(فَجَاءَ رَجُلٌ) هذا الرجل هو ذو الْخُويصرة التميميّ، كما سيأتي صريحًا بعد أربعة أحاديث، وعند أبي داود اسمه نافع، ورجحه السهيليّ، وقيل: اسمه حُرْقوص بن زهير السعديّ (كَثُّ اللِّحْيَةِ) بفتح الكاف، وتشديد الثاء المثلّثة: أي كثير شعرها، غير مسبلة، وقال ابن الأثير: الكثاثة في اللحية أن تكون غير رقيقة، ولا طويلة، ولكن فيها كثافة، يقال: رجل كَثّ اللحية، بفتح الكاف،

(1)

"الجامع لأحكام القرآن" 8/ 178 - 179.

ص: 199

وقوم كُثٌّ بالضم. انتهى

(1)

.

(مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ) بشين معجمة، وفاء: أي بارزهما، و"الوجنتان": العظمان المشرِفان على الخدين

(2)

.

وقال النوويّ: "الوجنة": بفتح الواو، وضمّها، وكسرها، ويقال أيضًا: أُجنة، وهي لحم الخدّ.

وقال الفيّوميّ: الوجنة من الإنسان ما ارتفع من لحم خدّه، والأشهر فتح الواو، وحكي التثليث، والجمع وَجَنَات، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات. انتهى.

وقال في "اللسان": الوجنة مثلّثةً، والوَجَنَة محرّكةً، والأُجْنة مثلثةً: ما انحدر من الْمَحْجِرِ

(3)

، ونَتَأَ من الوجه، وقيل: ما نتأ من لحم الخدّ بين الصدغين، وكَنَفي الأنف. وقيل: هو فَرَقُ ما بين الخدّين والْمَدْمع من العظم الشاخص في الوجه؛ إذا وضعت عليه يدك وجدت حجمه. وحكى اللحيانيّ: إنه لحسن الوَجَنَات، كأنه جعل كلّ جزء منها وجنة، ثم جمع على هذا. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "مشرف الوجنتين": أي غليظهما، ويقال: أي ليس بسهل الخدّ، وقد أشرفت وجنتاه؛ أي عَلَتا، وأصله من الشرف، وهو العلوّ، و"الوجنتان": العظمان المشرفان على الخدّين، وقيل: لحم الخدّ، وكل واحدة وجنة، فإذا عظمتا فهو موجنٌ، والوجنة مثلثة الواو، حكاها يعقوب، وبالألف بدل الواو، فهذه أربع لغات، وقال ابن جني: أرى الرابعة على البدل، وفي الجيم لغتان: فتحها، وكسرها، حكاهما في "البارع" عن كراع، والإسكان هو الشائع، فصار ثلاث لغات في الجيم، وقال ثابت: هما فوق الخدين إذا وضعت يدك، وجدت حجم العظم تحتها، وحجمه نتؤه، وقال أبو حاتم: هو ما نتئ من لحم الخدين بين الصُّدْغين، وكنفي الأنف. انتهى

(4)

.

(1)

"النهاية" 4/ 152.

(2)

"الفتح" 9/ 490.

(3)

المحجِر مثال مجلِس: ما ظهر من النقاب من الرجل والمرأة، من الْجَفْن الأسفل، وقد يكون من الأعلى. وقال بعض العرب: هو ما دار بالعين من جميع الجوانب، وبدا من البرقع، والجمع: المحاجر. اهـ. المصباح.

(4)

"عمدة القاري" 15/ 230.

ص: 200

(غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ) بِالغين المعجمة، والتحتانية، من اْلَغْور، والمراد أن عينيه داخلتان في مَحَاجرهما، لاصقتين بقعر الْحَدَقة، وهو ضدّ الجحوظ.

(نَاتِئُ الْجَبِينِ) بهمز ناتئ: أي مرتفع الجبين، والجبين -بفتح الجيم، وكسر الموحّدة-: جانب الجبهة، ولكلّ إنسان جبينان يكتنفان الجبهة، وجمعه جُبُن -بضمّتين-، مثل بريد وبُرُد، وأَجْبِنة، مثلُ أَسْلِحَة. وفي "الكبرى":"قاني الجبين" بالقاف بدل "ناتئ"، والظاهر أنه بمعناه؛ لأن قَنَا الأنفِ: ارتفاع أعلاه، واحْدِيدَاب وسطه، كما في "القاموس".

(مَحْلُوقُ الرَّأْسِ) وفي رواية للبخاريّ في "التوحيد" من طريق معبد بن سيرين، عن أبي سعيد رضي الله عنه:"قيل: ما سيماهم؟ قال: سيماهم التحليق"، أو قال:"التسبيد"، و"التسبيد" بمعنى التحليق، أو أبلغ منه.

قال في "الفتح": وكان السلف يُوَفِّرون شعورهم، لا يَحلقونها، وكانت طريقة الخوارج حلق جميع رؤوسهم. انتهى

(1)

.

قال الكرمانيّ رحمه الله: فيه إشكالٌ، وهو أنه يلزم من وجود العلامة وجود ذي العلامة، فيستلزم أنّ كلّ من كان محلوق الرأس، فهو من الخوارج، والأمر بخلاف ذلك اتفاقًا، ثم أجاب بأنّ السلف كانوا لا يحلقون رؤوسهم، إلا للنسك، أو في الحاجة، والخوارج اتخذوه دَيْدنًا، فصار شِعَارًا لهم، وعُرفوا به، قال: ويَحْتَمِل أن يُراد به حلق الرأس واللحية، وجميع شعورهم، وأن يراد به الإفراط في القتل، والمبالغة في المخالفة في أمر الديانة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: الأول باطل؛ لأنه لم يقع من الخوارج، والثاني مُحْتَمِلٌ، لكن طرق الحديث المتكاثرة كالصريحة في إرادة حلق الرأس، والثالث كالثاني، والله أعلم. انتهى

(2)

. وزاد في رواية: "مشمّر الإزار".

(فَقَالَ) ذلك الرجل (اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ يُطِعِ اللهَ) هكذا النسخ التي عندي بجزم "يُطع"، والوجه أن يُرفع؛ لأن "من" هنا استفهاميّة، لا شرطيّة، والاستفهاميّة لا تجزم، وكذا وقع عند النسائيّ في "المجتبى"، فقال السنديّ رحمه الله في "شرحه":"من" استفهاميّة لا شرطيّة، فالوجه

(1)

"الفتح" 9/ 490.

(2)

راجع: "الفتح" 15/ 520 - 521.

ص: 201

إثبات الياء؛ أي من يطيعُ الله، كما في "الكبرى"

(1)

.

والمعنى: أيُّ شخص يتّقيه؟؛ أي لا أحد يتقي الله إذا عصاه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ الخلق مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم، فإذا عصى يتبعونه في العصيان، فلا أحد يتّقيه.

(إن عَصَيْتُهُ) أي مع عصمتي، وثبوت نبوّتي، وفي الرواية التالية:"أوَ لست أحقّ أهل الأرض أن يَتّقِيَ اللهَ؟ ".

(أَيَأْمَنُنِي) أي أيجعلني أمينًا (عَلَى أَهْلِ الأرض) أي يجعلني الله تعالى مؤتمنًا على شرعه الذي يُنزله على أهل الأرض، حيث بعثني رسولًا إليهم، ومعلوم أن مدار الرسالة على الأمانة.

(وَلَا تَأْمَنُونِي؟ ") يَحْتَمِل أن يكون بتشديد النون الثانية، وتخفيفها؛ أي ألا تعتقدون كوني أمينًا؛ إذ آمنتم برسالتي؛ لأن ذلك مقتضى الإيمان بها، والخطاب على وجه العتاب لذي الخويصرة وأصحابه.

(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ) أي ولّى عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ من الْقَوْمِ في قَتْلِهِ) أي قتل ذلك الرجل (يُرَوْنَ) يَحْتَمِل أن يكون "يَرَوْن" بالبناء للفاعل بمعنى يعلمون، ويَعتقدون، وَيحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول بمعنى يظنّون؛ أي يظنّون الرجل المستأذِن (أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ) هكذا في هذه الرواية بالشكّ، وفي الرواية التالية:"فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عُنُقه؟ " بدون شكّ، وفي الرواية الثالثة:"فقام إليه عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله إلخ"، ولا تنافي بين الروايتين؛ لاحتمال أن يكون كلّ منهما استأذن في ذلك.

وفي الرواية التالية: لَمّا استأذن خالد في ضرب عنقه، قال صلى الله عليه وسلم:"لا، لعله أن يكون يصلّي"، فقال خالد: وكم من مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّي لم أومر أَن أَنقُب عن قلوب الناس، ولا أشُقّ بطونهم"، قال: ثم نظر إليه، وهو مُقَفٍّ، فقال:"إنه يخرج من ضئضئ هذا إلخ".

قال في "الفتح": قال القرطبي: إنما منع قتله، وإن كان قد استوجب

(1)

"شرح السندي على سنن النسائي" 7/ 118.

ص: 202

القتل؛ لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه، ولا سيّما من صلّى، كما ثبت نظيره في قصّة عبد الله بن أُبيّ. وقال المازريّ: يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفهم من الرجل الطعن في النبوّة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، وليس ذلك كبيرة، والأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، واختُلف في جواز وقوع الصغائر منهم، أو لعلّه لم يعاقب هذا الرجل؛ لأنه لم يثبت ذلك عنه، بل نقله عنه واحدٌ، وخبر الواحد لا يُراق به الدم. انتهى.

وأبطله عياض بقوله في الحديث: "اعدل يا محمّد"، فخاطبه في الملأ بذلك حتى استأذنوه في قتله، فالصواب ما تقدّم. انتهى.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا) قال النوويّ رحمه الله: هو بضادين معجمتين، مكسورتين، وآخره مهموز، وهو أصل الشيء، وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وحكاه القاضي عن الجمهور، وعن بعضهم أنه ضبطه بالمعجمتين، والمهملتين جميعًا، وهذا صحيحٌ في اللغة، قالوا: ولأصل الشيء أسماءٌ كثيرةٌ، منها: الضئضئ بالمعجمتين، والمهملتين، والنَّجَار، بكسر النون، والنِحَاس

(1)

، والسِّنْخ، بكسر السين، وإسكان النون، وبخاء معجمة، والعُنْصَر بضم العين، وضمّ الصاد، وتُفتح، والعِيصُ بكسر العين، والأرومة بفتح الهمزة، وضمّها. انتهى بزيادة

(2)

.

وقد نظمت هذا فقلت:

لِلأَصْلِ أَسْمَاءٌ فَقُلْ ضِئْضِيئُ

بِمُعْجَمَيْنِ وَكَذَا الصِّئْصِيئُ

بِمُهْملَيْنِ وَالنِّحَاسُ وَالنِّجَارْ

كَذَلِكَ السِّنْخُ فَخُذْهَا بِاخْتِصَارْ

وقال في "الفتح": قوله: "من ضئضئ" كذا للأكثر بضادين معجمتين، مكسورتين، بينهما تحتانية مهموزة ساكنة، وفي آخره تحتانية مهموزة أيضًا، وفي رواية الكشميهني بصادين مهملتين، فأما بالضاد المعجمة فالمراد به النسل والعقب، وزعم ابن الأثير أن الذي بالمهملة بمعناه، وحكى ابن الأثير أنه رُوي

(1)

ذكر في "القاموس" ما يُفيد أن النُحاس مثلّث الأول، وبتخفيف الحاء المهملة، وذكر من معانيه: مبلغُ أصل الشيء.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 192.

ص: 203

بالمدّ بوزن قِنديل، وفي رواية للبخاريّ في "أحاديث الأنبياء" أنه "من ضئضئ هذا، أو من عقب هذا". انتهى

(1)

.

وعبارة ابن الأثير رحمه الله: "الضِّئْضِئ: الأصلُ، يقال: ضِئضئُ صِدْقٍ، وضُوضُؤُ صِدْق، وحَكَى بعضهم ضِئْضئ، بوزن قِنْدِيل، يريد أنه يخرُج من نسله وعَقِبِهِ، ورواه بعضهم بالصاد المهملة، وهو بمعناه. انتهى

(2)

.

(قَوْمًا يقرأون الْقُرْآنَ) وفي الرواية التالية: "يتلون كتاب الله رَطْبًا"، وفي الرواية الثالثة:"يتلون كتاب الله لَيِّنًا رَطْبًا"(لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) أي حلقهم بالصعود إلى محل القبول، أو بالنزول إلى القلوب؛ ليفقهوه.

وقال في "العمدة": "الحناجر": جمع حَنْجَرة، وهي رأس الْغَلْصَمة، حيث تراه ناتئًا من خارج الحلق، وقال ابن التين: معناه لا يُرْفَع في الأعمال الصالحة، وقال عياض: لا تَفْقَهُهُ قلوبهم، ولا ينتفعون بما يتلو منه، ولا لهم حظٌّ سوى تلاوة الفم، وقيل: معناه لا يَصْعَد لهم عَمَلٌ، ولا تلاوةٌ، ولا تُتَقَبَّل

(3)

.

(يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ) أي يتركون (أَهْلَ الْأَوْثَانِ) جمع وَثَن، وهو كلُّ ما له جُثّةٌ معمولة من جواهر الأرض، أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدميّ، يُعْمَل، ويُنْصَب، فيعبد، وهذا بخلاف الصنم، فإنه الصورة بلا جُثّة، ومنهم من لم يفرّق بينهما، قاله في "العمدة"

(4)

.

وهذا مما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من المغيبات، فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم.

قيل: لَمّا خرج إليهم عبد الله بن خَبّاب رسولًا من عند عليّ رضي الله عنه، فجعل يَعِظهم، فمَرَّ أحدهم بتمرة لمعاهد، فجعلها في فيه، فقال بعض أصحابه: تمرة معاهد، فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أدلكم على ما هو أعظم، حرمةُ رجل مسلم؛ يعني نفسه، فقتلوه، فأرسل إليهم عليّ رضي الله عنه أن أقيدونا به، فقالوا: كيف نُقيدك به، وكلنا قتله؟ فقاتلهم عليّ، فقتل أكثرهم، قيل: كانوا خمسة آلاف، وقيل: كانوا عشرة آلاف

(5)

.

(1)

"الفتح" 9/ 491.

(2)

"النهاية" 3/ 69.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 230.

(4)

"عمدة القاري" 15/ 230.

(5)

"عمدة القاري" 15/ 230.

ص: 204

(يَمْرُقُونَ) من باب قعد (من الْإِسْلَامِ) أي يخرجون منه، وفي الرواية التالية:"يمرقون من الدين"، قال في "الفتح": وفي قوله: "من الإسلام" رَدٌّ على من أَوَّلَ الدين هنا بالطاعة، وقال: إن المراد أنهم يخرجون من طاعة الإمام، كما يخرج السهم من الرَّمِيّة، وهذه صفة الخوارج الذين كانوا لا يُطيعون الخلفاء، والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام، كما فسرته الرواية الأخرى، وخرج الكلام مخرج الزجر، وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل. انتهى

(1)

.

(كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ) أي يخرجون من الإسلام خروجَ السهم إذا نَفَذَ من الصيد من جهة أخرى، ولم يتعلق بالسهم من دمه شيءٌ، وبهذا سُمِّيت الخوارج: الْمُرَّاق.

و"الرمِيَّة" بفتح الراء، على وزن فَعِيلة، من الرمي، بمعنى مفعولة، فقال الداوديّ: الرّمِيّة: الصيد المرميّ، وهذا الذي ذكره صفات الخوارج الذين لا يدينون للأئمة، ويخرجون عليهم.

(لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ") أي قتلًا عامًّا، مستأصلًا، كما قال تعالى:{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} [الحاقة: 8]، وفي الرواية التالية:"قتل ثمود". قال القرطبيّ رحمه الله: ووجه الجمع أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قال كليهما، فذكر أحد الرواة أحدهما، وذكر الآخرُ الآخرَ، ومعنى هذا أنه كان يقتلهم قتلًا عامًّا، بحيث لا يُبقِي منهم أحدًا في وقت واحد، لا يؤخّر قتل بعضهم عن بعضٍ، ولا يُقيل أحدًا منهم، كما فَعَل الله بعاد، حيث أهلكهم بالريح العقيم، وبثمود، حيث أهلكهم بالصَّيْحَة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": وقد استُشكل قوله: "لئن أدركتهم لأقتلنّهم" مع أنه نهى خالدًا عن قتل أصلهم.

وأجيب بأنه أراد إدراك خروجهم، واعتراضهم على المسلمين بالسيف، ولم يكن ظهر ذلك في زمانه صلى الله عليه وسلم، وأوّل ما ظهر في زمان

(1)

"الفتح" 9/ 491.

(2)

المفهم 3/ 113.

ص: 205

عليّ رضي الله عنه، كما هو مشهور. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 2451 و 2452 و 2453 و 2454](1064)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3344) و"المغازي"(4315) و"التوحيد"(7432)، و (أبو داود) في "السنّة"(4136)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(2578) و"تحريم الدم"(4101) و"الكبرى"(2/ 46 و 311 و 6/ 356)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 296)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 4 و 68 و 73)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 128)، و (أبو يعلى) في "معجمه"(1/ 44)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 339 و 7/ 18 و 8/ 169)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 374)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 156)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 56)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن المؤلّفة قلوبهم من مصارف الزكاة، فيُعطون منها؛ استمالة لقلوبهم إلى الإسلام، وفيه خلاف بين العلماء، سيأتي بيانه في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.

2 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من العفو، والصفح، والتجاوز، وإن كانت الإساءة إليه كبيرة.

3 -

(ومنها): أنّ ملازمة قراءة القرآن لا يدلّ على صدق إيمان الشخص حتى يقوم بالعمل به كما ينبغي.

4 -

(ومنها): أن فيه بيانَ صفات الخوارج التي يتميّزون بها عن المسلمين، فهم كثيرو العبادة، وعداوتهم للمسلمين أكثر من عداوة غيرهم.

(1)

"الفتح" 9/ 491 - 492.

ص: 206

5 -

(ومنها): مشروعيّة قتال الخوارج، سواء قلنا: إنهم مرتدّون عن الإسلام، أو قلنا: إنهم بُغَاة، خرجوا على أهل العدل.

6 -

(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن أمرٍ غيبٍ، وقع نحوَ ما أخبر عنه، فكان دليلًا من أدلّة نبوّته صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم لَمّا حَكَموا بكفر مَن خَرَجُوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذّمّة، وقالوا: نفي بذمّتهم، وعَدَلُوا عن قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين.

وهذا كلّه من آثار عبادات الجهّال الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم، ولم يتمسّكوا بحبل وثيق، ولا صَحِبهم في حالهم ذلك توفيق، وكفى بذلك أن مُقَدَّمهم ردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، ونَسَبَه إلى الْجَوْر، ولو تبصّر لأبصر عن قرب أنه لا يُتَصَوَّر الظلم والْجَوْر في حقّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لا يُتصوّر في حقّ الله تعالى؛ إذ الموجودات كلّها ملكٌ لله تعالى، ولا يستحقّ أحد عليه حقًّا، فلا يُتصوّر في حقّه شيءٌ من ذلك، والرسول مُبلّغٌ حكمَ الله تعالى، فلا يُتصوّر في حقّه من ذلك ما لا يتصوّر في حقّ مُرْسِلِه.

ويكفيك من جهلهم، وغُلُوّهم في بدعتهم حكمُهُم بتكفير مَن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحّة إيمانه، وبأنه من أهل الجنّة، كعليّ، وغيره، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما وَقَعَ في الشريعة، وعُلم على القطع والثبات من شهادات الله، ورسوله لهم، وثنائه على عليّ، والصحابة عمومًا وخصوصًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

7 -

(ومنها): ما قال ابن هُبيرة رحمه الله: إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتلهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظُ رأس المال أولى.

8 -

(ومنها): التحذير من الغلوّ في الديانة، والتنطّع في العبادة، وقد وَصَف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدّة على الكفّار، والرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، فقتلوا المؤمنين، وتركوا الكفّار.

(1)

انظر: "المفهم" 3/ 114 - 115.

ص: 207

9 -

(ومنها): أن فِيهِ الزَّجْرَ عَنْ الأَخْذ بِظَوَاهِر جَمِيع الآيَات الْقَابِلَة لِلتَّأْوِيلِ، الَّتِي يُفْضِي الْقَوْل بِظَوَاهِرِهَا، إِلَى مُخَالَفَة إِجْمَاع السَّلَف؛ لأن هؤلاء الخوارج ما خرجوا عن جادّة الإسلام إلا عن هذا الطريق.

10 -

(ومنها): جواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل، ونَصَبَ الحرب، فقاتل على اعتقاد فاسد.

11 -

(ومنها): بيان أن من المسلمين مَن يخرج من الدِّين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام.

12 -

(ومنها): أن فيه منقبةً لعمر بن الخطّاب، وخالد بن الوليد رضي الله عنه؛ لشدّة غيرتهما على الدين حيث استأذنا بقتل ذلك الرجل.

13 -

(ومنها): أنه لا يُكتَفَى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ الشهود بتعديله الغاية في العبادة، والتقشّف، والورع حتى يُختَبَرَ باطن حاله.

14 -

(ومنها): ما قيل: إن فيه ذَمَّ اسْتِئْصَال شَعْر الرَّأس، قال الحافظ رحمه الله: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون الْمُرَاد بَيَان صِفَتهمْ الْوَاقِعَة، لا لإِرَادَةِ ذَمّهَا، وَتَرْجَمَ أَبُو عَوَانَة فِي "صَحِيحه" لِهَذِهِ الأَحَادِيث:"بَيَان أَنَّ سَبَب خُرُوج الْخَوَارِج، كَانَ بِسَبَبِ الأَثَرَة فِي الْقِسْمَة، مَعَ كَوْنهَا كَانَتْ صَوَابًا، فَخَفِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ".

15 -

(ومنها): أن فيه إِبَاحَةَ قِتَال الْخَوَارِج بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَة، وَقَتْلهمْ فِي الْحَرْب، وَثُبُوت الأَجْر لِمَنْ قَتَلَهُمْ.

16 -

(ومنها): ما قيل: إنَّ الْخَوَارِج شَرّ الْفِرَق الْمُبْتَدِعَة، مِن الأُمَّة الْمُحَمَّدِيَّة، وَمِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى.

قال الحافظ رحمه الله: وَالأَخِير مَبْنِيّ عَلَى الْقَوْل بِتَكْفِيرِهِمْ مُطْلَقًا.

17 -

(ومنها): أنه احتجّ به من قال بتكفير الخوارج، وإليه ميل الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيث قرنهم بالملحدين، وبذلك صرّح ابن العربيّ في شرح الترمذيّ، فقال: الصحيح أنهم كفّار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يمرقون من الإسلام"، ولقوله:"لأقتلنّهم قتل عاد"، وفي لفظ:"ثمود"، وكلّ منهما إنما هلك بالكفر، وبقوله:"هم شرّ الخلق"، ولا يوصف بذلك إلا الكفّار، ولقوله:"إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى".

ص: 208

وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الخوارج فُسّاق، وأنهم يُجرَى عليهم حكم الإسلام؛ لتلفّظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام.

قال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئًا. انتهى.

وسيأتي تحقيق الخلاف في هذه المسألة، وبيان حجة كلّ قول، وترجيح الراجح بدليله في المسألة الخامسة- إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في معنى الخوارج، ومتى خرجوا؟، وبيان سبب خروجهم:

(اعلم): أن الخوارج جمع خارجة؛ أي طائفة، وهم قوم مبتدعون، سُمُّوا بذلك لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعيّ في "الشرح الكبير" أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يَعْرِف قَتَلَة عثمان رضي الله عنه ويَقْدِر عليهم، ولا يَقْتَصّ منهم لرضاه بقتله، أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار، فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا ينكرون عليه أشياء، ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سِيرة بعض أقارب عثمان، فطَعَنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم: القرّاء؛ لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأوّلون القرآن المراد منه، ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع، وغير ذلك، فلما قُتِل عثمان قاتلوا مع عليّ، واعتقدوا كُفْرَ عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة عليّ وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليًا، فلقيا عائشة وكانت حجّت تلك السنة، فاتفقوا. على طلب قَتَلَة عثمان، وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليًا، فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر عليٌّ، وقتل طلحة في المعركة، وقُتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك، وكان أمير الشام إذ ذاك، وكان عليٌّ أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشام، فاعتَلَّ بأن عثمان

ص: 209

قُتل مظلومًا، وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قَتَلته، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يُمَكِّنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه الناس، وحاكمهم إليّ أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبًا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام قاصدًا إلى قتاله، فالتقيا بصِفِّين، فدامت الحرب بينهما أشهرًا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا، فرفعوا المصاحف على الرماح، ونادَوْا: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك باشارة عمرو بن العاص، وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي، وخُصُوصًا القراءُ القتالَ بسبب ذلك تديُّنًا، واحتجوا بقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [آل عمران: 23]، فراسلوا أهل الشام في ذلك، فقالوا: ابعثوا حَكَمًا منكم، وحَكَمًا مِنّا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب عليّ ومن معه إلى ذلك، وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج، وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين عليّ معاوية، فامتنع أهل الشام من ذلك، وقالوا: اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك، فأنكره عليه الخوارج أيضًا، ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان، ومن معهما بعد مدة عيّنوها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام، ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج، وهم ثمانية آلاف، وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف، وقيل: ستة آلاف، ونزلوا مكانًا، يقال له: حَرُوراء -بفتح المهملة، وراءين الأولى مضمومة- ومن ثَمَّ قيل لهم: الحرورية، وكان كبيرهم عبد الله بن الْكَوَّاء -بفتح الكاف، وتشديد الواو، مع المد -اليشكريّ، وشَبَث- بفتح المعجمة، والموحدة، بعدها مثلثة- التميميّ، فأرسل إليهم عليٌّ ابنَ عباس، فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم عليّ فأطاعوه، ودخلوا معه الكوفة، معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليًا تاب من الحكومة، ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليًّا، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: لكم علينا ثلاث، أن

ص: 210

لا نَمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تُحْدِثوا فسادًا، وخرجوا شيئًا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع، فأصروا على الامتناع حتى يُشْهِد على نفسه بالكفر؛ لرضاه بالتحكيم، ويتوب، ثم راسلهم أيضًا فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومرَّ بهم عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان واليًا لعلي على بعض تلك البلاد، ومعه سُرِّيَّة وهي حامل، فقتلوه وبَقَروا بطن سُرِّيته عن ولد، فبلغ عليًا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنَّهْرَوان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولا قُتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم.

ثم انضم إلى من بقي منهم مَنْ مال إلى رأيهم، فكانوا مختفين في خلافة علي، حتى كان منهم عبد الرحمن بن مُلْجِم الذي قَتَل عليًا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لَمّا وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له: النجيلة، ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق، طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق، وولي الخلافة عبد الله بن الزبير، وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان، فادَّعَى الخلافة، وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نَجْدَة بن عامر، وزاد نَجْدة على مُعتَقَد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم، وعَظُم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكَفَّروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرًا، وإن لم يكن قادرًا فقد ارتكب كبيرة، وحُكْمُ مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكَفُّوا عن أموال أهل الذمة، وعن التعرض لهم مطلقًا، وفَتَكُوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنَّهْب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقًا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولًا ثم يَفتِك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر الْمُهَلَّب بن أبي صُفْرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم، وتقلل

ص: 211

جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب.

وقد صنّف في أخبارهم أبو مِخْنَف -بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح النون، بعدها فاء- واسمه لوط بن يحيى كتابًا لخصه الطبري في "تاريخه"، وصنّف في أخبارهم أيضًا الهيثم بن عديّ كتابًا، ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج "الصحيح" كتابًا كبيرًا، وجَمَعَ أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه "الكامل" لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله.

قال القاضي أبو بكر ابن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعليًا وأصحاب الْجَمَل وصِفِّين وكلُّ من رَضِي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدًا.

وقال غيره: بل المصنف الأول مُفَرَّع عن المصنف الثاني؛ لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم.

وقال ابن حزم: ذهب نَجْدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عُذِّب بغير النار، ومن أَدْمَن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد، فأنكر الصلوات الخمس، وقال: الواجب صلاة بالغداة، وصلاة بالعشي، ومنهم من جوّز نكاح بنت الابن، وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون "سورة يوسف" من القرآن، وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه.

وقال أبو منصور البغدادي في "المقالات": عِدَّة فِرَق الخوارج عشرون فرقة.

وقال ابن حزم: أسوؤهم حالًا الغلاة المذكورون، وأقربهم إلى قول أهل الحق الإباضية، منهم بقية بالمغرب.

وقد وردت بما ذُكِر من أصل حال الخوارج أخبار جياد، منها ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، وأخرجه الطبري من طريق يونس كلاهما عن الزهري، قال: لَمّا نشر أهل الشام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص، حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم، هاب أهل الشام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كل إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدُومَة الجندل،

ص: 212

وافترقا عن غير شيء، فلمّا رجعوا خالفت الحرورية عليًا، وقالوا: لا حكم إلا لله.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي رَزِين قال: لَمّا وقع الرضا بالتحكيم، ورجع علي إلى الكوفة اعتزلت الخوارج بحروراء، فبعث لهم عبدَ الله بنَ عباس فناظرهم، فلما رجعوا جاء رجل إلى علي، فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر؛ لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله.

ومن وجه آخر أن رءوسهم حينئذ الذين اجتمعوا بالنهروان: عبدُ الله بن وهب الراسي، وزيد بن حِصْن الطائي، وحُرْقُوص بن زهير السعدي، فاتفقوا على تأمير عبد الله بن وهب، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج:

قال النوويّ رحمه الله: وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيث دَلِيل لِمَنْ يُكَفِّرُ الْخَوَارِجَ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رحمه الله: قَالَ الْمَازِرِيّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَكْفِير الْخَوَارِجِ، قَالَ: وَقَدْ كَادَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة تَكُون أَشَدّ إِشْكَالًا مِنْ سَائِر الْمَسَائِل، وَلَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْمَعَالِي، وَقَدْ رَغِبَ إِلَيْهِ الْفَقِيه عَبْد الْحَقّ رَحِمَهُمَا الله تَعَالَى فِي الْكَلام عَلَيْهَا، فَرَهبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْغَلَط فِيهَا يَصْعُبُ مَوْقِعُهُ؛ لأَنَّ إِدْخَال كَافِر فِي الْمِلَّة، وَإِخْرَاج مُسْلِم مِنْهَا عَظِيم فِي الدِّين، وَقَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْر الْبَاقِلّانِيّ، وَنَاهِيك بِهِ فِي عِلْم الأُصُول، وَأَشَارَ ابْن الْبَاقِلّانِيّ إِلَى أَنَّهَا مِنْ الْمُعَوِّصَات؛ لأَنَّ الْقَوْم لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا قَالُوا أَقْوَالًا تُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَأَنَا أَكْشِف لَك نُكْتَة الْخِلاف، وَسَبَب الإِشْكَال، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ مَثَلًا يَقُول: إِنَّ الله تَعَالَى عَالِم، وَلَكِنْ لا عِلْمَ لَهُ، وَحَيٌّ وَلا حَيَاةَ لَهُ، يُوقِع الالْتِبَاس فِي تَكْفِيره؛ لأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ دَيْن الأُمَّة ضَرُورَةً، أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الله تَعَالَى لَيْسَ بِحَيٍّ، وَلا عَالِم كَانَ كَافِرًا، وَقَامَتْ الْحُجَّة عَلَى اسْتِحَالَة كَوْن الْعَالَم، لا عِلْم

(1)

"الفتح" 12/ 354 - 357 "كتاب استتابة المرتدين" رقم الحديث (6930 - 6932).

ص: 213

لَهُ، فَهَلْ نَقُول: إِنَّ الْمُعْتَزِلِيَّ، إِذَا نَفَى الْعِلْم، نَفَى أَنْ يَكُون الله تَعَالَى عَالِمًا، وَذَلِكَ كُفْر بِالإِجْمَاعِ، وَلَا يَنْفَعُهُ اعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ عَالِم، مَعَ نَفْيِهِ أَصْل الْعِلْم، أَوْ نَقُول: قَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الله تَعَالَى عَالِم، وَإِنْكَاره الْعِلْم لا يُكَفِّرهُ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَالِم، فَهَذَا مَوْضِع الإِشْكَال. هَذَا كَلام الْمَازِرِيّ.

وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ، وَجَمَاهِير أَصْحَابه الْعُلَمَاء، أَنَّ الْخَوَارج لا يَكْفُرُونَ، وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّة، وَجَمَاهِير الْمُعْتَزِلَة، وَسَائِر أَهْل الأَهْوَاء. قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: أَقْبَلُ شَهَادَة أهْل الأَهْوَاء إِلا الْخَطَّابِيَّة، وَهُمْ طَائِفَة مِنَ الرَّافِضَة، يَشْهَدُونَ لِمُوَافِقِيهِمْ فِي الْمَذْهَب بِمُجَرَّدِ قَوْلهمْ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ لِهَذَا، لا لِبِدْعَتِهِمْ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": استُدِلّ بحديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا لمن قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاريّ، حيث قَرَنهم بالملحدين، وأفرد عنهم المتاولين بترجمة، وبذلك صَرّح القاضي أبو بكر ابن العربي في "شرح الترمذي"، فقال: الصحيح أنهم كُفّار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يَمْرُقون من الإسلام"، ولقوله:"لأقتُلَنَّهم قتل عاد"، وفي لفظ:"ثمود" وكل منهما إنما هلك بالكفر، وبقوله:"هم شر الخلق"، ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولقوله:"إنهم أبغض الخلق إلى الله تعالى"، ولحكمهم على كل من خالف مُعتَقَدَهم بالكفر، والتخليدِ في النار، فكانوا هم أحقَّ بالاسم منهم.

وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي، فقال في "فتاويه": احتَجَّ من كَفَّر الخوارج، وغُلاة الروافض بتكفيرهم أعلامَ الصحابة؛ لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة، قال: وهو عندي احتجاجٌ صحيحٌ، قال: واحتَجَّ من لم يكفرهم بأن الحكم بتكفيرهم يَستَدْعِي تقدُّم علمهم بالشهادة المذكورة علمًا قطعيًّا، وفيه نظر؛ لأنا نعلم تزكية من كفَروه علمًا قطعيًا إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفَّرهم، ويؤيده حديث:"مَن قال لأخيه كافر، فقد باء به أحدهما"، وفي لفظ مسلم:"مَنْ رَمَى مسلمًا بالكفر، أو قال: عدو الله إلا حاد عليه"، قال: وهؤلاء قد

(1)

"شرح مسلم" 7/ 160 "كتاب الزكاة".

ص: 214

تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر، ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يُحكَم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سَجَدَ للصنم ونحوه، ممن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فَسَّروا الكفر بالجحود، فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك، قلنا: وهذه الأخبار الواردة في حق هؤلاء تقتضي كفرهم، ولو لم يعتقدوا تزكية من كَفَروه علمًا قطعيًّا، ولا يُنجيهم اعتقاد الإسلام إجمالًا، والعملُ بالواجبات عن الحكم بكفرهم، كما لا يُنجي الساجد للصنم ذلك.

وممن جَنَحَ إلى بعض هذا المحبّ الطبري في "تهذيبه"، فقال بعد أن سرد أحاديث الباب: فيه الرذُ على قول من قال: لا يَخرُج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالمًا فإنه مبطل؛ لقوله في الحديث: "يقولون الحقّ، ويقرءون القرآن، وَيمرُقون من الإسلام، ولا يتعلقون منه بشيء"، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلالَ دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطإ منهم فيما تأولوه من آي القرآن المرادَ منه، ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس، وذَكَرَ عنده الخوارج، وما يَلْقَون عند قراءة القرآن، فقال: يؤمنون بمحكمه، وَيهْلِكون عند متشابهه.

ويؤيد القول المذكور الأمرُ بقتلهم مع ما تقدم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وفيه:"التارك لدينه المفارقُ للجماعة".

قال القرطبي في "المفهم": يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد رضي الله عنه -يعني الآتي بعد حديث، فإن ظاهر مقصوده أنهم خَرَجُوا من الإسلام، ولم يتعلقوا منه بشيء، كما خرج السهم من الرَّمِيَّة؛ لسرعته، وقُوَّة راميه، بحيث لم يتعلق من الرَّمِيَّة بشيء، وقد أشار إلى ذلك بقوله:"سَبَقَ الفَرْثَ والدمَ".

وقال صاحب "الشفاء" فيه: وكذا نقطع بكفر كُلِّ من قال قولًا يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة، وحكاه صاحب "الروضة" في "كتاب الردة" عنه، وأقرّه. وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فُسَّاق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم؛ لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على

ص: 215

أركان الإسلام، وإنما فَسَقُوا بتكفيرهم المسلمين، مُستندين إلى تأويل فاسد، وجَرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم، وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك.

وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فِرَق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يُكَفَّرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام.

وقال عياض: كادت هذه المسألة تكون أشدَّ إشكالا عند المتكلمين من غيرها، حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمامَ أبا المعالي عنها، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة، وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين، قال: وقد توقف قبله القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال: لم يُصَرِّح القوم بالكفر، وإنما قالوا أقوالًا تؤدي إلى الكفر.

وقال الغزالي في "كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة": والذي ينبغي الاحترازُ عن التكفير ما وَجَدَ إليه سبيلًا، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطا، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد.

ومما احتج به من لم يُكَفِّرهم قوله في حديث أبي سعيد أيضًا بعد وصفهم بالمروق من الدين كمروق السهم: "فينظر الرامي إلى سهمه

" إلى أن قال: "فيتمارى في الفُوقة هل عَلِقَ بها شيء".

قال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين؛ لقوله: "يتمارى في الفُوق"؛ لأن التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يُقطَع عليهم بالخروج من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين، لم يَخرُج منه إلا بيقين، قال: وقد سئل علي رضي الله عنه عن أهل النَّهْرِ، هل كفروا؟ فقال: مِنَ الكفر فَرُّوا.

قال الحافظ: وهذا إن ثبت عن علي رضي الله عنه حُمِل على أنه لم يكن يتحقق على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كَفَّرهم، وفي احتجاجه بقوله:"يتمارى في الفوق" نظر؛ فإن في بعض طرق الحديث المذكور: "لم يَعلَق منه بشيء"، وفي بعضها:"سبق الفرث والدم".

ص: 216

وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا؟ ثم تحقق أثه لم يَعلَق بالسهم ولا بشيء منه من الرمي بشيء.

ويمكن أن يُحمَل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويكون في قوله:"يتمارى" إشارة إلى أن بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء.

قال القرطبي في "المفهم": والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث، قال: فعلى القول بتكفيرهم يُقاتَلون، ويُقتلون، وتُسبَى أموالهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى القول بعدم تكفيرهم يُسلَك بهم مسلك أهل البغي إذا شَقُّوا العصا، ونَصَبُوا الحرب، فأما من استسرّ منهم ببدعة، فإذا ظهر عليه هل يُقتَل بعد الاستتابة، أو لا يُقتَل بل يُجتَهد في رد بدعته، اختُلِف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم، قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نَعْدِل بالسلامة شيئًا. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يخفى رُجحان قول من قال بتكفير الخوارج؛ لقوّة أدلّته، ووُضوحها، لكن السلامة لا يعادلها شيءٌ -كما قال القرطبيّ رحمه الله فالتوقّف في مثل هذا أولى للحريص على دينه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2452]

(

) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الزَحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْم، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْيَمَنِ بِذَهَبَةٍ، فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ، لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزيدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَلا تَأْمَنُونِي، وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً"، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الْإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،

ص: 217

اتَّقِ اللهَ، فَقَالَ:"ويلَكَ، أَوَ لَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ؟ "، قَالَ: ثُمَّ وَلِى الرَّجُلُ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ:"لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي"، قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ عليه السلام: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أنقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُق بُطُونَهُمْ"، قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُقَفٍّ، فَقَالَ:"إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"، قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ)"الأديم": الجلد. و"المقروظ": المدبوغ بالقَرَظ، وهو شجر يُدبَغ به. قاله في "المفهم"

(1)

.

وقوله: (لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا) أي لم تُخلّص من تراب معدنها، فكانها كانت تِبْرًا، وتخليصها بالسبك.

وقوله: (وَالرَّابعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ) قال العلماء: ذِكْرُ عامر هنا غلط ظاهرٌ؛ لأنه تُوُفِّي قبل هذا بسنين، والصواب الجزم بأنه علقمة بن عُلاثة كما هو مجزوم في باقي الروايات، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (فَقَالَ رَجُل مِنْ أَصْحَابِهِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه.

وقوله: ("أَلَا تَأْمَنُونِي

إلخ) في رواية سعيد بن مسروق الماضية أنه صلى الله عليه وسلم

(1)

"المفهم" 3/ 111.

(2)

"شرح النووي" 7/ 162 - 163.

ص: 218

إنما قال هذا عقب قول الخارجيّ الذي يُذكر بعد هذا، وهو المحفوظ، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ

الخ) قال القرطبيّ في "المفهم": لا حجّة فيه لمن يرى أن الله مختصّ بجهة فوقُ؛ لما تقدّم من استحالة الجسميّة، وأيضًا فيَحْتَمِل أن يراد بـ "من في السماء" الملائكة، فإنه أمين عندهم، معروف بالأمانة، والسماء بمعنى العلوّ والرفعة المعنويّة. وهكذا القول في قوله تعالى تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وقد تقدم أن التسليم في المشكلات أسلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره القرطبيّ في معنى هذا الحديث غير صحيح، والصواب إثبات الفوقية لله تعالى على ما يليق بجلاله، فهو سبحانه تعالى استوى على عرشه استواء حقيقيًا، يليق بجلاله، كما أخبر به في عدّة آيات الكتاب، وكما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة. ولا يلزم من ذلك تجسيم، ولا تكييف، فإن قياس الغائب بالشاهد باطلٌ، فربنا سبحانه وتعالى هو الأعلى "سبحان ربي الأعلى"، وكلّ ما ثبت في النصّ من صفاته العليا فهو ثابت له على ظاهره، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، وقد أشبعت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (فَقَامَ رَجُلٌ

الخ) هذا الرجل تقدّم أنه ذو الْخُويصرة التميميّ.

وقوله: (نَاشِزُ الْجَبْهَةِ) بِنُونٍ، وَشِيْنٍ مُعْجَمَة، وَزَاي: أَيْ مُرْتَفِعهَا، فِي رِوَايَة سَعِيد بْن مَسْرُوق الماضية:"نَاتِئ الْجَبِين"، وهو بمعناه.

وقوله: (مُشَمَّرُ الْإِزَارِ) التشمير في الأمر: السُّرْعة فيه، والخفّةُ، وشَمّر ثوبَهُ: رفعه، ومنه قيل: شَمَّر في العبادة: إذا اجتهد، وبالغ، وشَمَّر السهمَ: أرساه مُصَوَّبًا على الصيد

(3)

.

وقوله: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ) تقدّم في رواية سعيد بن مسروق: "فقال: يا محمد"، ولعلّ ما هنا من الرواية بالمعنى، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 9/ 489.

(2)

راجع: "المفهم" 3/ 111 - 112.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 322.

ص: 219

وقوله: (فَقَالَ: "لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي") فيه استعمال "لَعَلَّ" استعمال "عَسَى"، نبَهَ عليه ابن مالك.

وقوله: (يَكُونَ يُصَلِّي) قيل: فيه دلالة من طريق المفهوم على أن تارك الصلاة يُقْتَلُ، وفيه نظر، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فيه نظرٌ" فيه نظرٌ، فإن الاستدلال المذكور صحيح، تؤيّده الأدلة الأخرى التي تدلّ على قتل تارك الصلاة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لعله يكون يصلي" هو مردود للمعنى الذي قدّمناه من أنه إنما امتنع من قتله؛ لئلا يُتَحَدَّث أنه يَقتُل أصحابه المصلِّين، فيكون ذلك منفِّرًا، وإلا فقد صَدَر عنه ما يوجب قتله لولا المانع. انتهى

(2)

.

وقوله: ("إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ

إلخ) بنون، وقاف ثقيلة، بعدها موحدة، يقال: نَقَبتُ الحائط ونحوه نَقْبًا، من باب نصر: إذا خرقته؛ أي إنما أمرت أن آخذ بظواهر أمورهم، والله تعالى يتولّى سرائرهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عَصَمُوا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله"، وفي الحديث:"هلّا شَقَقت عن قلبه"

(3)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: إنما مَنَعَ قتله، وإن كان قد استوجب القتل؛ لئلا يتحدث الناس أنه يَقْتُل أصحابه، ولا سيما من صلى، كما تقدم نظيره في قصة عبد الله بن أبيّ.

وقال المازريّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفهم من الرجل الطعن في النبوة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، وليس ذلك كبيرة، والأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، واختُلِف في جواز وقوع الصغائر، أو لعله لم يعاقب هذا الرجل لأنه لم يثبت ذلك عنه، بل نقله عنه واحد، وخبر الواحد لا يراق به الدم. انتهى.

(1)

"الفتح" 9/ 490.

(2)

"المفهم" 3/ 113.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 163.

ص: 220

وأبطله القاضي عياض بقوله في الحديث: "اعدل يا محمد" فخاطبه في الملإ بذلك حتى استأذنوه في قتله، فالصواب ما تقدم

(1)

.

وقوله: (وَهُوَ مُقَفٍّ) أي مولٍّ، مدبرٌ، قد أعطانا قفاه.

وقوله: (فَقَالَ: "إِنَّهُ يَخْرُجُ

إلخ) الهاء ضمير الشأن؛ أي إن الشأن والحال.

وقوله: (يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَطْبًا) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه ثلاثة أقوال: [أحدها]: أنه الْحِذْق بالتلاوة، والمعنى أنهم يأتون به على أحسن أحواله.

[والثاني]: يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به.

[والثالث]: أن يكون من حسن الصوت بالقراءة. انتهى

(2)

.

وقوله: (لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ") جمع حَنْجَرَة، وهي رأس الْغَلْصَمة

(3)

، حيث تراه ناتئًا من خارج الحلق

(4)

.

قال القاضي عياض رحمه الله: فيه تأويلان:

[أحدهما]: معناه: لا تفهمه قلوبهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظّ سوى تلاوة الفم، والحنجرة، والحلق؛ إذ بهما تقطيع الحروف.

[والثاني]: معناه: لا يصعد لهم عملٌ، ولا تلاوةٌ، ولا يُتقبّل. انتهى

(5)

.

وقوله: (قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ

" إلخ) القائل: "أظنّ

إلخ" هو عمارة بن القعقاع، كما بيّنته الرواية التالية.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 9/ 490 - 491.

(2)

انظر: "المفهم" 3/ 114.

(3)

الغَلْصَمَة: اللحم بين الرأس والعنق، أو الْعُجْرة على مُلتقى اللهاة والْمَريء، أو رأس الحلقوم بشواربه، وحَرْقَدَته، أو أصل اللسان. انتهى. "القاموس".

(4)

"النهاية في غريب الحديث" 1/ 449.

(5)

انظر: "شرح النوويّ" 7/ 160.

ص: 221

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2453]

(

) - (حَدَّثنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَقَالَ: نَاتِئُ الجَبْهَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: نَاشِزُ، وَزَادَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطابِ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِدٌ سَيْفُ اللهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ألا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: "لَا"، فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِى هَذَا قَوْمٌ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ لَيِّنًا رَطْبًا"، وَقَالَ: قَالَ عُمَارَةُ: حَسِبْتُهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ، وله أوهام [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيحُ الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

و"عُمارة" ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ) تقدّم أن عدم ذكره هو الصواب.

وقوله: (نَاتِئُ الْجَبْهَةِ) بِنُونٍ وَمُثَنَّاة عَلَى وَزْن فَاعِل مِنَ النُّتُوء، أَيْ أَنَّهُ مرْتَفِع عَلَى مَا حَوْله.

وقوله: (فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِدٌ سَيْفُ اللهِ) هذه الرواية فيها بيان أن كلًّا من عمر، وخالد رضي الله عنهما طلبا قتله، فأما عمر فطلب حينما تكلّم الرجل، وأنكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما خالد فطلب بعد أن ولَّى، ولعله ما علم بطلب عمر رضي الله عنه.

وقوله: (يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ لَيِّنًا رَطْبًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ "لَيِّنًا" بالنون: أي سهلًا، وفي كثير من النسخ "لَيًّا" بحذف النون، وأشار القاضي عياض إلى أنه رواية أكثر شيوخهم، قال: ومعناه: سَهْلًا؛ لكثرة حفظهم، قال: وقيل: "لَيًّا": أي يَلْوُون ألسنتهم به؛ أي يُحَرِّفون معانيه

ص: 222

وتأويله، قال: وقد يكون من اللَّيّ في الشهادة، وهو الميل. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ عُمَارَةُ: حَسِبْتُهُ

إلخ) هو عمارة بن القعقاع الراوي عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن القعقاع هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر

(2)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2454]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: زيدُ الْخَيْرِ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ،

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 163 - 164.

(2)

ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"(3/ 128)، ولكنه يخالف ما أشار إليه المصنف رحمه الله، ودونك نصّه:

وثنا أبو أحمد الغطريفيّ، ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا جرير، عن عُمارة بن القعقاع الضبيّ، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: بعث عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة، في أديم مقروظ، لم تُحَصَّل من ترابها، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة، بين الأقرع بن حابس، وعيينة بن حِصْن، وعلقمة بن عُلاثة، وزيد الخيل، فقال ناس من المهاجرين والأنصار: نحن كنا أحقّ بهذا، فبلغة ذلك، فشَقَّ عليه، فقال:"لا تأمنوني؟، وأنا أمين من في السماء، ياتيني خبر من في السماء صباحًا ومساءً"، فقام إليه رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كثّ اللحية، محلوق الرأس، مُشَمِّر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، فرفع رأسه إليه، فقال:"ويلك، ألست أحقّ أهل الأرض أن أتقي الله؟ "، ثم أدبر الرجل، فقال خالد بن الوليد: ألا أضرب عنقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعله أن يكون يصلي"، فقال خالد: إنه رب مُصّلِّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال:"إني لم أُومَر أن أنقُب عن قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم"، فنظر إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مقفٍّ، فقال: "إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم، يتلون كتاب الله، لا يجاوز حناجرهم، يَمْرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود،. انتهى.

ص: 223

وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، أَوْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَقَالَ: نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَرِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ:"إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ"، وَلَمْ يَذْكُرْ:"لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمَير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غزوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

و"عمارة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية محمد بن فُضيل، عن عُمارة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (3/ 4) فقال:

(11021)

- حدّثنا محمد بن فُضيل، ثنا عُمارة بن القعقاع، عن ابن أبي نُعْم، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: بَعَثَ عليّ من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذهبة، في أَدِيم مقروظ، لم تُحَصَّل من ترابها، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة، بين زيد الخير، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وعلقمة بن عُلاثة، أو عامر بن الطفيل -شكّ عُمارةُ- فوجد من لك بعض أصحابه، والأنصار، وغيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من السماء صباحًا ومساءً"، ثم أتاه رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كثّ اللحية، مُشَمِّر الإزار، محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا رسول الله، قال: فرفع رأسه إليه، فقال:"ويحك، ألستُ أحقّ أهل الأرض أن يتقي الله أنا؟ "، ثم أدبر، فقال خالد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلعله يكون يصلي"، فقال: إنه رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني لم أومر أن أنقُب عن قلوب الناس، ولا أَشُقَّ بطونهم"، ثم نظر إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مُقَفٍّ، فقال: "إنه سيخرج من ضئضئي هذا قوم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم،

ص: 224

يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرميّة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2455]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، فَسَأَلَاهُ عَن الْحَرُورِيَّةِ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي مَنِ الْحَرُورِيَّةُ؟ وَلَكِني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ فِي هَذ الْأُمَّةِ- وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا- قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاِتهِمْ، فَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أَوْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ، إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ، هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الذَمِ شَيْءٌ؟ ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

2 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

3 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2](ت 94)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب، و"عبد الوهّاب" هو: ابن عبد المجيد الثقفيّ.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، عن تابعيين.

ص: 225

5 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدني، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فبصريّان.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه (فَسَأَلَاهُ عَنْ الْحَرُورِيَّةِ) هم الخوارج، سُمُّوا حَرُوريّةً؛ لأنهم نزلوا حَرُوراء، وتعاقدوا عندها على قتال أهل العدل، وحَرُوراء -بفتح الحاء المهملة، وبالمد-: قرية بالعراق قريبة من الكوفة، وسُمُّوا خوارج؛ لخروجهم على الجماعة، وقيل: لخروجهم عن طريق الجماعة، وقيل: لقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من ضئضئ هذا

" الحديث.

(هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهَا؟) وفي رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة: قلت لأبي سعيد: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الحرورية؟، أخرجه ابن ماجه، والطبريّ، وأخرج الطبريّ من طريق الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة قال: جئنا أبا سعيد، فقلنا، فذكر مثله، ومن طريق أبي إسحاق، مولى بني هاشم، أنه سال أبا سعيد عن الحرورية

(1)

.

(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (لَا أَدْرِي مَنْ الْحَرُورِيَّةُ؟) ولفظ البخاريّ: "ما الحروريّة"، قال في "الفتح": هذا يغاير قوله الآتي: "وأشهد أن عليًّا قتلهم، وأنا معه"، فإن مقتضى الأول أنه لا يدري، هل ورد الحديث الذي ساقه في الحرورية أو لا؟ ومقتضى الثاني أنه ورد فيهم، ويمكن الجمع بان مراده بالنفي هنا أنه لم يَحفظ فيهم نصًّا بلفظ الحرورية، وإنما سمع قصتهم التي دلّ وجود علامتهم في الحرورية بانهم هم. انتهى

(2)

.

(وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ- وَلَمْ يَقُلْ: مِنْهَا-) قال في "الفتح": لم تختلف الطرق الصحيحة على أبي سعيد في ذلك، فعند مسلم من رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر قومًا

(1)

"الفتح" 16/ 173 "كتاب استتابة المرتدّين" رقم (6931).

(2)

المصدر المذكور.

ص: 226

يكونون في أمته"، وله من وجه آخر: "تمرق عند فرقة مارقة من المسلمين"، وله من رواية الضحاك المشرقيّ، عن أبي سعيد نحوه.

وأما ما أخرجه الطبريّ من وجه آخر، عن أبي سعيد، بلفظ:"من أمتي"، فسنده ضعيف.

لكن وقع عند مسلم من حديث أبي ذرّ بلفظ: "سيكون بعدي من أمتي قوم"، وله من طريق زيد بن وهب، عن علي رضي الله عنه:"يخرج قوم من أمتي".

وُيجْمَع بينه وبين حديث أبي سعيد بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة، وفي رواية غيره أمة الدعوة.

قال النوويّ: وفيه دلالة على فقه الصحابة، وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج، وأنهم من غير هذه الأمة. انتهى

(1)

.

وعبارة النوويّ: قال المازريّ: هذا من أدلّ الدلائل على سَعَة علم الصحابة رضي الله عنهم، ودقيق نظرهم، وتحريرهم الألفاظ، وفرقهم بين مدلولاتها الخفيّة؛ لأن لفظة "مِنْ" تقتضي كونهم من الأمة، لا كفارًا، بخلاف "في"، ومع هذا فقد جاء بعد هذا من رواية عليّ رضي الله عنه:"يخرج من أمتي قوم"، وفي رواية أبي ذرّ رضي الله عنه:"إن بعدي من أمتي، أو سيكون بعدي من أمتى"، وقد سبق الخلاف في تكفيرهم، وأن الصحيح عدم تكفيرهم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن القول بتكفيرهم أقوى حجةً، ولكن التوقّف هو الأسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَوْمٌ تَحْقِرُونَ) بفتح أوله، وكسر ثالثه: أي تستقلّون (صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاِتِهِمْ) زاد في رواية الزهريّ، عن أبي سلمة التالية:"وصيامكم مع صيامهم"، وفي رواية عاصم بن شَمْخ

(3)

، عن أبي سعيد:"تحقرون أعمالكم مع أعمالهم"، ووصف عاصم أصحاب نَجْدة الحروريّ بأنهم "يصومون النهار،

(1)

"الفتح" 16/ 174 "باب استتابة المرتدّين" رقم (6931).

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 164 - 165.

(3)

بفتح الشين المعجمة، وسكون الميم، بعدها معجمة. انتهى. "الفتح" 16/ 182.

ص: 227

ويقومون الليل، ويأخذون الصدقات على السنة"، أخرجه الطبريّ، ومثله عنده من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، وفي رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنده: "يتعبدون، يَحقِر أحدكم صلاته وصيامه، مع صلاتهم وصيامهم"، ومثله من رواية أنس، عن أبي سعيد، وزاد في رواية الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة: "وأعمالكم مع أعمالهم"، وفي رواية سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، عن عليّ: "ليست قراءتكم إلى قراءتهم بشي، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء"، أخرجه مسلم

(1)

، والطبريّ، وعنده من طريق سليمان التيميّ، عن أنس، ذكر لي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن فيكم قومًا يدأبون، ويعملون، حتى يُعْجِبوا الناسَ، وتَعْجَبهم أنفسهم"، ومن طريق حفص ابن أخي أنس، عن عمة، بلفظ:"يتعمقون في الدين"، وفي حديث ابن عباس، عند الطبرانيّ في قصة مناظرته للخوارج، قال: "فأتيتهم، فدخلت على قوم، لم أر أشدّ اجتهادًا منهم؛ أيديهم كأنها ثَفِنُ

(2)

الإبل، ووجوههم مُعْلَمة من آثار السجود"، وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، أنه ذُكِر عنده الخوارج، واجتهادهم في العبادة، فقال: "ليسوا أشدّ اجتهادًا من الرهبان"

(3)

.

(فَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ) بضمّتين: هو الْحَلْقُ، وميمه زائدة، والجمع حَلاقيمُ بالياء، وبحذفها تخفيفًا

(4)

. (أَوْ) للشكّ من الراوي (حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الذَينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ") -بكسر الميم، وتشديد التحتانية-: فَعِيلة بمعنى مفعولة، فأدخلت فيها الهاء، وإن كان فَعِيل بمعنى مفعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ للإشارة لنقلها من الوصفية إلى الاسمية، وقيل: إن شرط استواء المذكر والمؤنث أن يكون الموصوف مذكورًا معه، وقيل: شرطه سقوط الهاء من المؤنث قبل وقوع الوصف، نقول: خُذْ ذبيحتك؛ أي الشاة التي تريد ذبحها، فإذا ذبحتها قيل لها حينئذ: ذبيح.

(1)

سيأتي قريبًا في هذا الباب.

(2)

"الثَّفِنَةُ" -بكسر الفاء- من البعير: الركبة، وما مسّ الأرض من كِرْكِرته، وسَعْدَاناته، وأصول أفخاذه. انتهى. "القاموس" 4/ 206.

(3)

"الفتح" 16/ 174 - 175.

(4)

راجع: "المصباح" 1/ 146.

ص: 228

وفي رواية معبد بن سيرين، عن أبي سعيد عند البخاريّ في "كتاب التوحيد":"لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فُوقه"، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو من رواية مقسم عنه: "فإنه سيكون لهذا شيعة، يتعمقون في الدين، يمرقون منه

" الحديث.

(فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ) بفتح، فسكون: واحد النبل، وقيل: السَّهْم: نفس النصل

(1)

.

وقوله: (إِلَى نَصْلِهِ) أي حديدة السهم، وهو بدل من"إلى سهمه"؛ أي ينظر إليه جملةً، ثم تفصيلًا، وقد وقع في رواية أبي ضمرة، عن يحيى بن سعيد، عند الطبريّ:"أينظر إلى سهمه، فلا يرى شيئًا، ثم ينظر إلى نَصْله، ثم إلى رِصَافه".

(إِلَى رِصَافِهِ) -بكسر الراء، ثم مهملة، ثم فاء-: عَصَبه الذي يكون فوق مَدْخَل النّصل. والرِّصَاف جمعٌ، واحدة رَصَفَة بحركات.

(فَيَتَمَارَى) أي يتشكّك الرامي (فِي الْفُوقَةِ) بضمّ الفاء: موضع الوتر من السهم، قال ابن الأنباريّ: الفُوق يُذَكَّر، ويؤنَّث، فيقال: هو الفُوقُ، وهي الفُوقُ، وقد يقال: فُوقة بالهاء (هَلْ عَلِقَ) بفتح، فكسر، يقال: عَلِق الشوك بالثوب عَلَقاً، من باب تَعِبَ، وتعلَّق به: إذا نَشِبَ به، واستمسك

(2)

. (بِهَا) أي بالفوقة (مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ؟).

وحاصل معنى الحديث أنهم يخرجون من الإسلام بغتةً كخروج السهم إذا رماه رامٍ قويُّ الساعد، فأصاب ما رماه، فنفذ منه بسرعة، بحيث لا يَعْلَق بالسهم، ولا بشيء منه من المرميّ شيء، فإذا التمس الرامي سهمه وجده، ولم يجد الذي رماه، فينظر في السهم ليعرف هل أصاب، أو أخطأ؟ فإذا لم يره عَلِقَ فيه شيء من الدم ولا غيره، ظَنّ أنه لم يصبه، والفرض أنه أصابه، والى ذلك أشار بقوله:"سَبَقَ الفرث والدمَ"؛ أي جاوزهما، ولم يَتَعَلَّق فيه منهما شيء، بل خرجا بعده.

(1)

"المصباح" 2/ 293.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 425.

ص: 229

ووقع في رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد الآتي: "فضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم مثلاًا لرجل يرمي الرمية

" الحديث.

وفي رواية أبي المتوكل الناجيّ، عن أبي سعيد عند الطبريّ:"مَثَلُهم كمثل رجل رَمَى رَمِيَّةً، فتوخى السهم حيث وقع، فأخذه، فنظر إلى فُوقه، فلم ير به دَسَمًا، ولا دمًا، لم يتعلق به شيء من الدسم والدم"، كذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام.

وعنده في رواية عاصم بن شمخ بعد قوله: "من الرمِيَّة": "يذهب السهم، فينظر في النصل، فلا يرى شيئًا من الفرث والدم

" الحديث، وفيه: "يتركون الإسلام وراء ظهورهم، وجعل يديه وراء ظهره".

وفي رواية أبي إسحاق، مولى بني هاشم، عن أبي سعيد، في آخر الحديث:"لا يتعلقون من الدين بشيء، كما لا يتعلق بذلك السهم"، أخرجه الطبريّ.

وفي حديث أنس، عن أبي سعيد، عند أحمد، وأبي داود، والطبريّ:"لا يرجعون إلى الإسلام حتى يرتدّ السهم إلى فُوقه".

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عند الطبري، وأوله في ابن ماجه بسياق أوضح من هذا، ولفظه: "سيخرُج قوم من الإسلام خروج السهم من الرميّة، عَرَضَت للرجال، فرموها، فانمرق سهم أحدهم منها، فخرج، فأتاه، فنظر إليه، فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء، ثم نظر إلى الْقُذَذ

(1)

، فلم يره تعلق من الدم بشيء، فقال: إن كنت أصبتُ فإن بالريش والفُوق شيئًا من الدم، فنظر فلم ير شيئًا تعلق بالريش والفُوق، قال: كذلك يخرجون من الإسلام".

وفي رواية بلال بن بقطر، عن أبي بكرة:"يأتيهم الشيطان من قبل دينهم".

وللحميدي وابن أبي عمر في "مسنديهما" من طريق أبي بكر، مولى الأنصار، عن عليّ: "أن ناسا يخرجون من الدين، كما يخرج السهم من

(1)

"الْقُذَذ" -بضمّ القاف، ومعجمتين، الأولى مفتوحة- جمع قُذّة: وهي رِيش السهم، يقال لكلّ واحدة: قُذّة، ويقال: هو أشبه من القذّة بالقذّة؛ لأنها تُجعل على مثال واحد.

ص: 230

الرميّة، ثم لا يعودون فيه أبدًا"

(1)

. والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم بيان مسائله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2456]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَاب، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالضّحَّاكُ الْهَمْدَانِيُّ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أتاهُ ذُو الْخُويصِرَةِ، وَهُوَ رَجلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ويلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ"، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ، أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاِتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ -وَهُوَ الْقِدْحُ- ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تتَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ"، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِي بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَاتَلَهُمْ، وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، فَالْتُمِسَ، فَوُجِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَ).

(1)

"الفتح" 16/ 182 - 183 "كتاب استتابة المرتدّين" رقم (6931).

ص: 231

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيُّ) هو: أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم أبو عبيد الله المصريّ، لقبه بَحْشَل، صدوقٌ تغيّر بآخره [11](ت 264)(م) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1277.

[تنبيه]: قوله: "الفِهْريّ" بكسر الفاء، وسكون الهاء، آخره راء: نسبة إلى فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنَانة، قاله في "اللباب"

(1)

.

3 -

(الضَّحَّاكُ الْهَمْدَانِيُّ) هو: الضحّاك بن شَرَاحيل، ويقال: ابن شُرَحْبيل الْهَمْدانيّ الْمَشْرقيّ -بكسر أوله، ثم شين معجمة، ثم قاف- صدوقٌ [4].

رَوَى عن أبي سعيد الخدريّ، ومالك بن أوس بن الْحَدَثَان.

ورَوَى عنه حبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كُهيل، والأعمش، والزهريّ، وعبد الملك بن ميسرة.

ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر أبو بكر البزار في "مسنده" أنه ارتفعت جهالته برواية الزهريّ وغيره عنه، قال: وَيرَون أنه الضحاك بن مُزَاحِم

(2)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ في "خصائص عليّ رضي الله عنه"، وله عندهم حديثان ة أحدهما هذا في ذكر الخوارج، والآخر في فضل "سورة الإخلاص"، وكرّره في هذا الكتاب مرّتين.

[تنبيه]: قال في "الفتح": والضحاك الْمِشْرَقيّ -بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الراء-: نسبة إلى مِشْرَق بن زيد بن جُشَم بن حاشد، بَطْنٌ من هَمْدان، قَيَّده العسكريّ، وقال: مَن فتح الميم فقد صَحَّف، كأنه يشير إلى قول ابن أبي حاتم: مَشْرَق موضع، وقد ضبطه بفتح الميم، وكسر الراء الدارقطنيّ، وابن ماكولا، وتبعهما ابن السمعانيّ في موضع، ثم غَفَل فذكره بكسر الميم، كما قال العسكريّ، لكن جعل قافه فاء، وتعقّبه ابن الأثير، فأصاب.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 188.

(2)

سيأتي قريبًا أن هذا غلط، فتنبّه.

ص: 232

والضحاك المذكور هو ابن شَرَاحيل، ويقال: ابن شرَحَبِيل، وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث -يعني فضل سورة الإخلاص"- وآخر يأتي في "كتاب الأدب" قرنه فيه بأبي سلمة بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي سعيد الخدرفي، وحَكَى البزار أن بعضهم زعم أنه الضحاك بن مزاحم، وهو غلط

(1)

. انتهى

(2)

.

والباقون تقدّموا قبل باب، وفي هذا الباب، و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ، و"أبو سلمة بن عبد الرحمن": هو ابن عوف.

وقوله: (بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا) زاد في رواية: "يوم حُنين"، وتقدم من طريق عبد الرحمن بن أبي نُعْم عن أبي سعيد، أن المقسوم كان ذهبةً بعثها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن، فقسمها النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أربعة أنفس

إلخ.

وقوله: (أَتَاهُ ذُو الْخُويصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) هكذا في رواية المصنّف، وفي رواية البخاريّ:"جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميميّ"، قال في "الفتح": وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، بلفظ:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْسِم قَسْمًا إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميميّ"، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من رواية عبد الرزاق، ومحمد بن ثور، وأبي سفيان الحميريّ، وعبد الله بن معاذ أربعتهم عن معمر، وأخرجه الثعلبيّ، ثم الواحديّ في "أسباب النزول" من طريق محمد بن يحيى الذُّهْليّ عن عبد الرزاق، فقال: "ابن ذي الخويصرة

(1)

وذكر في "كتاب استتابة المرتدّين"(16/ 178) ما حاصله: إن البزّار حكى أنه الضحاك بن مزاحم، وأن ذلك غلط، قال: ثم وقفت على الرواية التي نسب فيها كذلك، أخرجها الطبريّ من طريق الوليد بن مرثد، عن الأوزاعيّ في هذا الحديث، فقال: حدّثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك بن مُزاحم، عن أبي سعيد، قال الطبريّ: وهذا خطأ، وانما هو الضحاك المِشْرَقيّ.

قال: وقد أخرجه أحمد، عن محمد بن مصعب، وأبو عوانة من طريق بشر بن بكير، كلاهما عن الأوزاعيّ، فقال فيه: عن أبي سلمة، والضحاك الْمِشْرَقيّ، وفي رواية: بشر الْهَمْدانيّ، كلاهما عن أبي سعيد. انتهى.

(2)

"الفتح" 11/ 244 "كتاب فضائل القرآن" رقم (5015).

ص: 233

التميميّ، وهو حُرْقُوص بن زُهير أصل الخوارج"، وما أدري من الذي قال: "وهو حرقوص إلخ"؟، وقد اعتمد على ذلك ابن الأثير في "الصحابة" فترجم لذي الخويصرة التميميّ في الصحابة، وساق هذا الحديث من طريق أبي إسحاق الثعلبيّ، وقال بعد فراغه: فقد جعل في هذه الرواية اسم ذي الخويصرة حُرْقُوصًا، والله أعلم.

وقد جاء أن حُرْقُوصًا اسم ذي الثُّدَيّة، كما سيأتي.

قال: وقد ذكر حرقوص بن زهير في الصحابة أبو جعفر الطبريّ، وذكر أنه كان له في فتوح العراق أثرٌ، وأنه الذي افتتح سوق الأهواز، ثم كان مع عليّ في حروبه، ثم صار مع الخوارج، فقُتِل معهم، وزعم بعضهم أنه ذو الثُّديّة الآتي ذكره، وليس كذلك، وأكثر ما جاء ذكر هذا القائل في الأحاديث مبهمًا، ووُصِف في رواية عبد الرحمن بن أبي نُعْم المتقدّمة بأنه مُشْرِف الوجنتين، غائر العينين، ناشز الجبهة، كَثُّ اللحية، محلوق الرأس، مُشَمِّر الإزار.

وفي حديث أبي بكرة، عند أحمد، والطبريّ:"فأتاه رجل أسود، طويلٌ، مشمرٌ، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود".

وفي رواية أبي الوضي عن أبي برزة، عند أحمد، والطبريّ، والحاكم: "أُتِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدنانير، فكان يقسمها، ورجل أسود مطموم الشعر

(1)

، بين عينيه أثر السجود"، وفي حديث عبد الله بن عمرو، عند البزار، والطبريّ: "رجل من أهل البادية، حديث عهد بأمر الله". انتهى

(2)

.

وقوله: (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اعْدِلْ) في رواية عبد الرحمن بن أبي نُعْم السابقة: "فقال: اتّقِ الله يا محمد"، وفي حديث عبد الله بن عمرو:"فقال: اعدل يا محمد"، وفي لفظ له عند البزار، والحاكم:"فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل"، وفي رواية مقسم:"فقال: يا محمد قد رأيتُ الذي صنعت، قال: وكيف رأيتَ؟ قال: لم أرك عدلت"، وفي حديث

(1)

يقال: طَمّ شعره: جزّه، أو عقصه. اهـ. "القاموس" 4/ 145.

(2)

"الفتح" 16/ 179 "كتاب الاستتابة" رقم (6933).

ص: 234

أبي بكرة: "فقال: يا محمد والله ما تعدل"، وفي لفظ:"ما أراك عدلت في القسمة"، ونحوُهُ في حديث أبي برزة

(1)

.

وقوله: ("ويلَكَ) وفي رواية البخاريّ: "ويحك".

وقوله: (وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ ") في رواية عبد الرحمن بن أبي نُعْم السابقة: "ومن يطع الله إذا لم أطعه؟ "، وفي رواية له:"أوَ لستُ أحقَّ أهل الأرض أن أطيع الله؟ "، وفي حديث عبد الله بن عمرو:"عند من يُلْتَمَس العدلُ بعدي؟ "، وفي رواية مقسم عنه:"فغضب صلى الله عليه وسلم، وقال: العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون؟ "، وفي حديث أبي بكرة:"فغضب حتى احمرت وجنتاه"، ومن حديث أبي برزة:"قال: فغضب غضبًا شديدًا، وقال: والله لا تجدون بعدي رجلًا هو أعدل عليكم مني".

وقوله: (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ، أَضْرِبْ عُنُقَهُ) وفي رواية الأوزاعيّ: "فلأضرب" بزيادة لام الأمر، وفي حديث عبد الله بن عمرو، من طريق مِقْسَم عنه:"فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم عليه، فأضرب عنقه؟ " وفي رواية عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد الماضية:"فسأله رجلٌ، أظنه خالد بن الوليد قَتْلَهُ"، وفي رواية له:"فقال خالد بن الوليد"، بالجزم، وقد سبق الجمع بين الروايتين بأن كلًّا منهما سأل، ومما يؤيّد ذلك ما تقدّم من رواية جرير، عن عُمارة بن القعقاع، وفيه:"فقام عمر بن الخطاب، فقال يا رسول الله: ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، ثم أدبر، فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله، فقال: يا رسول الله أضرب عنقه؟، قال: لا"، فهذا نصّ في أن كلًّا منهما سأل.

قال الحافظ رحمه الله: وقد استُشكل سؤال خالد في ذلك؛ لأن بعث عليّ إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها، والذهب المقسوم أرسله عليّ من اليمن، كما في صدر حديث ابن أبي نُعْم، عن أبي سعيد السابقة.

ويجاب بأن عليًّا لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة، فأرسل عليٌّ الذهبَ، فحضر خالد قسمته.

(1)

"الفتح" 16/ 179 - 180.

ص: 235

وأما حديث عبد الله بن عمرو، فإنه في قصة قَسْم وقع بالْجِعْرانة، من غنائم حنين، والسائل في قتله عمر بن الخطاب جزمًا، وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحدٌ كما مضى قريبًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: ("دَعْهُ) وفي رواية الأوزاعيّ: "فقال: لا"، وزاد أفلح بن عبد الله في روايته:"فقال: ما أنا بالذي أقتل أصحابي".

وقوله: (فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا) قال في "الفتح": هذا ظاهره أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابًا بالصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله، مع ما أظهره من مواجهة النبيّ صلى الله عليه وسلم بما واجهه، فيَحْتَمِل أن يكون لمصلحة التألُّف، كما فهمه البخاريّ رحمه الله؛ لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة، مع إظهار الإسلام، فلو أَذِنَ في قتلهم لكان ذلك تنفيرًا عن دخول غيرهم في الإسلام، ويؤيده رواية أفلح، ولها شواهد، ووقع في رواية أفلح:"سيخرج أُناس يقولون مثل قوله". انتهى.

وقوله: (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاِتهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ) ووقع عند البخاريّ بلفظ: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه"، بالإفراد.

وقوله: (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) -بمثناة، وقاف-: جمع تَرْقُوة-بفتح أوله، وسكون الراء، وضم القاف، وفتح الواو- وهي العظم الذي بين نُقْرة النَّحْر والعاتق، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله، ولا يقبلها، وقيل: لا يعملون بالقرآن، فلا يثابون على قراءته، فلا يحصل لهم إلا سَرْدُهُ، وقال النوويّ رحمه الله: المراد أنهم ليس لهم فيه حظّ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم، فضلًا عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقُّله، وتدبره بوقوعه في القلب.

وهذا مثل قوله فيهم أيضًا: "لا يجاوز إيمانهم حناجرهم"؛ أي ينطقون بالشهادتين، ولا يعرفونها بقلوبهم.

وقد تقدّم بلفظ: "يقرؤون القرآن رَطْبًا" قيل: المراد الْحِذْق في التلاوة،

(1)

"الفتح" 16/ 180 - 181.

ص: 236

أي يأتون به على أحسن أحواله، وقيل: المراد أنهم يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبةً به، وقيل: هو كناية عن حسن الصوت به، حكاها القرطبيّ، ويرجح الأول ما وقع في رواية أبي الوَدّاك، عن أبي سعيد، عند مسدد:"أيقرؤون القرآن كأحسن ما يقرؤه الناس"، ويؤيد الآخر قوله في رواية عند الطبريّ:"قومٌ أشدّاء، أحدّاءُ، ذُلْقةٌ ألسنتهم بالقرآن".

قال الجامع عفا الله عنه: لا تنافي الأقوال الثلاثة، فهم جامعون بينها، حاذقون في التلاوة، مواظبون عليها، بأصوات حسان، والله تعالى أعلم.

وقوله: (يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ) أي يخرجون منه كما فُسّر في الرواية الأخرى، وبهذا اللفظ سُمُّوا المارقة، والخوارج؛ لأنهم مرقوا من الدين، وخرجوا على خيار المسلمين، والخوارج جمع خارجة، بمعنى الطائفة، والجماعة

(1)

.

قال في "الفتح": قوله: "يمرُقُون من الدين" إن كان المراد به الإسلام، فهو حجة لمن يُكَفِّر الخوارج، ويَحْتَمل أن يكون المراد بالدين الطاعة، فلا يكون فيه حجة، وإليه جنح الخطّابيّ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن برواية المصنّف هذه بلفظ "من الإسلام" أن المراد بالدين هو الإسلام، لا الطاعة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) أي الغزالة ونحوها التي رُمي إليها لصيدها، فهي فَعيلة بمعنى مفعولة، شبّه مروقهم من الدين بالسهم الذي يُصيب الصيد، فيدخل فيه، ويخرج منه، ومن شدّة سرعة خروجه؛ لقوّة الرامي، لا يَعلَق به من جسد الصيد شيء.

وقوله: (يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ) هي حديدة السهم.

وقوله: (إِلَى رِصَافِهِ) بكسر الراء، ثم مهملة، ثم فاء: أي عَصَبه الذي يكون فوق مدخل النصل، والرِّصَاف جمعٌ واحدة رَصَفَةٌ بالتحريك.

وقوله: (إِلَى نَضِيِّهِ) -بفتح النون، وحكي ضمّها، وبكسر المعجمة،

(1)

"المفهم" 3/ 109.

(2)

"الفتح" 8/ 284 "كتاب المناقب" رقم (3611).

ص: 237

بعدها تحتانيّةٌ ثقيلة-: القِدْح -بكسر، فسكون- كما فُسّر في نفس الحديث؛ أي عود السهم قبل أن يُراش، ويُنصّل، وقيل: هو ما بين الريش والنصل، قال الخطّابيّ: قال ابن فارس: سُمّي بذلك؛ لأنه بُرِي حتى عاد نِضْوًا؛ أي هَزِيلًا، وحَكَى الجوهريّ عن بعض أهل اللغة أن النَّضيّ: النصلُ، والأول أولى.

وقوله: (وَهُوَ الْقِدْحُ) وهو بكسر القاف، وسكون الدال المهملة: اسم السهم قبل أن يُرَاش، ويُركّب نصله

(1)

.

وقوله: (إِلَى قُذَذِهِ) -بضمّ القاف، ومعجمتين، الأولى مفتوحة-: جمع قُذّة، وهي رِيش السهم، يقال لكلّ واحدة: قُذّة، ويقال: هوأشبهُ من القذة بالقذّة؛ لأنها تُجعل على مثال واحد.

قال القرطبيّ رحمه الله: و"الْفُوق": هو الْحُزّ الذي يُدخل فيه الوتر، و "العَقَبة"

(2)

: التي تَجمع الْفُوق هي الأطْرة

(3)

، قال ابن قُتيبة: الرُّعْظ

(4)

: مدخل النصل في السهم، والرِّصاف: العَقَب الذي فوق الرُّعْظ، وقال الهرويّ: الرصفة عَقَبَة تُلوَى على مدخل النصل والسهم. انتهى

(5)

.

وقوله: (سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ) أي سبق السهم بحيث لم يَتَعَلّق به شيء من الفرث والدم، ولم يظهر أثرهما فيه، والفرث السِّرْجِين ما دام في الكَرِش، ويقال: الفرث ما يجتمع في الكروش مما تأكله ذوات الكروش، وقال القاضي: يعني نفذ السهم في الصيد من جهة أخرى، ولم يتعلق شيء منه به

(6)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: مقصود هذا التمثيل أن هذه الطائفة خرجت من دين الإسلام، ولم يتعلّق بها منه شيء، كما خرج هذا السهم من هذه الرّميّة الذي

(1)

"المصباح" 2/ 491.

(2)

"الْعَقَب" محرّكة: الْعَصَبُ تُعمل منه الأوتار، وعَقَبَ القَوْسَ: لَوَى شيئًا منها عليها. انتهى. "القاموس" 1/ 106.

(3)

"الأطْرة" بالضمّ: الْعَقَبة تُلفّ على مجمع الْفُوق. اهـ. "ق".

(4)

"رُعْظُ السهم" بالضمّ: مَدْخلُ السِّنْخ النَّصل -أي أصله- وفَوْقَه لَفائف الْعَقَب، جمعه أَرعاظَ. انتهى. "ق".

(5)

"المفهم" 3/ 109 - 110.

(6)

"عمدة القاري" 43/ 116.

ص: 238

لشدّة النزع، وسُرعة السهم سبق خروجه خروج الدم، بحيث لا يتعلّق به شيء ظاهر، كما قال:"سبق الفرث والدم".

وبظاهر هذا التشبيه تمسّك من حكم بتكفيرهم من أئمّتنا، وقد توقّف في تكفيرهم كثير من العلماء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فيتمارى في الْفُوقة"، وهذا يقتضي بأنه يُشكّ في أمرهم، فيُتوقّف فيهم، وكان القول الأول أظهر من الحديث، فعلى القول بتكفيرهم يقاتلون، ويُقتلون، وتُسبى أموالهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج، وعلى قول من لا يُكفّرهم لا يُجهّز على جريحهم، ولا يُتبع منهزمهم، ولا تُقتل أَسْراهم، ولا تستباح أموالهم، وكلُّ هذا إذا خالفوا المسلمين، وشَقُّوا عصاهم، ونصبوا راية الحرب، فأما من استتر ببدعته منهم، ولم يَنصب راية الحرب، ولم يخرُج عن الجماعة، فهل يُقتل بعد الاستتابة، أو لا يُقتل، وإنما يُجتَهَدُ في ردّ بدعته، وردّه عنها؟ اختُلف في ذلك، وسبب الخلاف في تكفير من هذه حاله أن باب التكفير بابٌ خطيرٌ، أقدم عليه كثيرٌ من الناس، فسقطوا، وتوقّف فيه الفحول، فسَلِموا، ولا نعدل بالسلامة شيئًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو كلام نفيسق، والله تعالى أعلم.

وقوله: (آيَتُهُمْ) أي علامتهم، ووقع في رواية ابن أبي مريم، عن عليّ، عند الطبريّ:"علامتهم".

وقوله: (إِحْدَى عَضُدَيْهِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "الْعَضُدُ": ما بين الْمِرْفَق إلى الكتف، وفيها خمس لغات: وزانُ رَجُلٍ، وبضمتين، في لغة الحجاز، وقرأ بها الحسن في قوله تعالى:{وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]، ومثال كَبِلإ، في لغة بني أسد، ومثال فَلْسٍ، في لغة تميم، وبكر، والخامسة وزانُ قُفْلٍ. قال أبو زيد: أهل تهامة يؤنثون العضد، وبنو تميم يذكّرون، والجمع: أَعْضُدٌ، وأَعْضَادٌ، مثل أَفْلُسٍ، وأَقْفَالٍ، وفلانٌ عَضُدي: أي مُعْتَمَدي، على الاستعارة. انتهى

(2)

.

ووقع في رواية البخاريّ: "رجل إحدى يديه، أو قال: ثدييه"، قال في

(1)

"المفهم" 3/ 110 - 111.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 415.

ص: 239

"الفتح": هكذا للأكثر بالتثنية فيهما مع الشكّ، هل هي تثنية يَدٍ، أو ثَدْيٍ بالمثلثة؟ وفي رواية المستملي هنا بالمثلثة فيهما، فالشك عنده، هل هو الثدي بالإفراد، أو بالتثنية؟ ووقع في رواية الأوزاعيّ:"إحدى يديه" تثنية يَدٍ، ولم يشكّ، وهذا هو المعتمد، فقد وقع في رواية شعيب، ويونس:"إحدى عضديه". انتهى

(1)

.

وقوله: (مِثْلُ ثَدْي الْمَرْأَةِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الثَّدْيُ للمرأة، وقد يقال في الرجل أيضًا، قاله ابنَ السّكّيت، ويُذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو الثدي، وهي الثدي، والجمع: أَثْدٍ، وثُدِيّ، وأصلهما أَفْعُلٌ، وفُلولٌ، مثلُ أفلس وفُلُوس، وربّما جُمع على ثِدَاءٍ، مثل سَهْم وسِهَام. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ) -بفتح الموحدة لا غير، وسكون المعجمة-: أي القطعة من اللحم، والجمع بَضَعَاتٌ، وبِضَعٌ، وبِضَاع، مثلُ تَمْرة وتَمْر، وسَجَدَ ات، وبِدَرٍ، وصِحَاف.

وقوله: (تَتَدَرْدَرُ) -بفتح التاءين، ودالين مهملتين مفتوحتين، بينهما راء ساكنة، وآخره راء- وفي رواية البخاريّ:"تَدَردر" على حذف إحدى التاءين، ومعناه: تضطرب، وتتحرك، وتذهب، وتجيء، وأصله حكاية صوت الماء في بطن الوادي إذا تدافع.

وفي رواية عَبِيدة بن عمرو، عن عليّ الآتية:"فيهم رجل مُخْدَج اليد، أو مُودن اليد، أو مَثْدُون اليد"، والْمُخْدَج -بخاء معجمة، وجيم- والْمُودَن بوزنه، والْمَثْدُون -بفتح الميم، وسكون المثلثة- وكلها بمعنًى، وهو الناقص، وله من رواية زيد بن وهب، عن عليّ:"وآية ذلك أن فيهم رجلًا له عضد، ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حَلَمة الثدي، عليه شَعَرات بِيضٌ"، وعند الطبريّ من وجه آخر:"فيهم رجلٌ مُجْدَع اليد، كانها ثدي حبشية"، وفي رواية أفلح بن عبد الله:"فيها شعرات، كأنها سخلة سبع"، وفي رواية أبي بكر مولى الأنصار:"كثدي المرأة، لها حَلَمة كحلمة المرأة، حولها سبع هلبات"، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع، عن عليّ الآتية:"منهم أسود، إحدى يديه طُبْيُ شاة، أو حَلَمة ثدي".

(1)

"الفتح" 16/ 183.

(2)

"المصباح" 1/ 80.

ص: 240

فأما الطُّبْيُ فهو بضم الطاء المهملة، وسكون الموحدة، وهي الثدي، وعند الطبريّ من طريق طارق بن زياد، عن عليّ رضي الله عنه:"في يده شعرات سُودٌ"، والأول أقوى.

وقد ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم للخوارج علامات أخرى، ففي رواية معبد بن سيرين، عن أبي سعيد، "قيل: ما سيماهم؟، قال: سيماهم التحليق"، وفي رواية عاصم بن شَمْخ، عن أبي سعيد: "فقام رجل، فقال: يا نبي الله، هل في هؤلاء القوم علامة؟ قال:"يحلقون رؤوسهم، فيهم ذو ثُدَيَّة"، وفي حديث أنس، عن أبي سعيد:"هم من جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قيل: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التحليق"، هكذا أخرجه الطبريّ، وعند أبي داود بعضه، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ") قوله: "حِين" بكسر الحاء المهملة، وآخره نون، قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه في "الصحيح" بوجهين: [أحدهما]"حِينِ فُرْقَةٍ" بحاء مهملة مكسورة، ونون، و"فُرْقة" بضم الفاء؛ أي في وقت افتراق الناس؛ أي افتراقٍ يقع بين المسلمين، وهو الافتراق الذي كان بين عليّ ومعاوية رضي الله عنه.

[والثاني]: "خَيْرِ فِرْقَةٍ" بخاء معجمة مفتوحة، وراء، و "فِرْقَةٍ" بكسر الفاء؛ أي أفضل الفرقتين، والأول أشهر وأكثر، ويؤيده الرواية التي بعد هذه:"يَخْرُجون في فُرْقة من الناس" فإنه بضم الفاء بلا خلاف، ومعناه ظاهر.

وقال القاضي عياض رحمه الله: على رواية الخاء المعجمة المراد: خير القرون، وهم الصدر الأَوَّل، قال: أو يكون المراد عليًّا وأصحابه، فعليه كان خروجهم حقيقةً؛ لأنه كان الإمام حينئذ، وفيه حجة لأهل السنة أن عليًّا كان مصيبًا في قتاله، والآخرون بُغَاة، لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم:"يقتلهم أَولى الطائفتين بالحقّ"، وعليّ وأصحابه هم الذين قتلوهم.

وفي هذا الحديث معجزاتٌ ظاهرةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أخبر بهذا، وجرى كلُّه كفَلَق الصبح، ويتضمن بقاء الأمة بعده صلى الله عليه وسلم، وأن لهم شوكةً وقوّةً،

(1)

"الفتح" 16/ 183 - 184.

ص: 241

خلاف ما كان المبطلون يُشيعونه، وأنهم يفترقون فرقتين، وأنه تخرج عليه طائفة مارقة، وأنهم يُشَدِّدون في الدين في غير موضع التشديد، ويبالغون في الصلاة، والقراءة، ولا يقومون بحقوق الإسلام، بل يمرقون منه، وأنهم يقاتلون أهل الحق، وأن أهل الحق يقتلونهم، وأن فيهم رجلًا صفة يده كذا وكذا، فهذه أنواع من المعجزات جَرَت كلُّها، ولله الحمد. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "يخرجون على خير فرقة من الناس" كذا للأكثر هنا، وفي "علامات النبوة"، وفي "الأدب":"حِين"، و"فُرْقة" بضم الفاء، ووقع في رواية عبد الرزاق، عند أحمد وغيره:"حين فَتْرة من الناس" بفتح الفاء، وسكون المثناة، ووقع للكشميهنيّ في هذه المواضع:"على خير" بفتح المعجمة، وآخره راء، و"فِرْقة" بكسر الفاء، والأول المعتمد، وهو الذي عند مسلمٍ وغيره، وإن كان الآخر صحيحًا، ويؤيد الأول أن عند مسلم من طريق أبي نضْرة، عن أبي سعيد:"تَمْرُق مارقةٌ عند فُرقة من المسلمين، يقتلهم أَوْلى الطائفتين بالحقّ"، وفي لفظ له:"يكون في أمتي فرقتان، فيخرج من بينهما طائفة مارقة، يلي قتلهم أولاهم بالحقّ"، وفي لفظ له:"يخرجون في فرقة من الناس، يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحقّ"، وفيه: فقال أبو سعيد: "وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق"، وفي رواية الضحاك الْمِشْرَقيّ، عن أبي سعيد:"يخرجون على فِرْقة مختلفة، يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحقّ"، وفي رواية أنس، عن أبي سعيد، عند أبي داود:"من قاتلهم كان أولى بالله منهم". انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يخرجون على خير فرقة" كذا لأكثر الرُّواة، وعند السمرقنديّ، وابن ماهان:"على حين فُرقة" بالحاء والنون، وكلاهما صحيح، فإنهم خرجوا حين افترق الناس فرقتين، فكانت فرقة مع معاوية رضي الله عنه ترى رأيه، وتقاتل معه، وفرقة مع عليّ رضي الله عنه ترى رأيه، وتقاتل معه، وخرجت الطائفة على عليّ، ومعه معظم الصحابة رضي الله عنهم، ولا خلاف أنه الإمام العدل، وأنه أفضل من معاوية رضي الله عنه، ومِن كلّ مَن كان معه، فقد صدق على فرقة

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 166 - 167.

(2)

"الفتح" 16/ 184.

ص: 242

عليّ رضي الله عنه أنهم خير الفرق، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"تقتلهم أَولَى الطائفتين بالحقّ"، ولا خلاف في أن عليًّا رضي الله عنه قتلهم، ففرقته خير فرقة، وهذا اللفظ يدلّ على أن ما وقع بين عليّ وبين معاوية فيه لله تعالى حُكْمٌ معيَّنٌ، وأن عليًّا رضي الله عنه هو الذي أصابه، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) أي الخدريّ رضي الله عنه، وهو متّصلٌ بالسند المذكور (فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية:"قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في هذه الأمة"، وفي رواية:"حضرت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَاتَلَهُمْ، وَأَنَا مَعَهُ) ووقع في رواية أفلح بن عبد الله: "وحضرت مع عليّ يوم قتلهم بالنهروان"، ونسبة قتلهم لعليّ رضي الله عنه؛ لكونه كان القائم في ذلك، وسيأتي من رواية سُوَيد بن غَفَلة، عن عليّ رضي الله عنه أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتلهم، ولفظه:"فأينما لقيتموهم فاقتلوهم".

قال في "الفتح": وله شواهده، ومنها حديث نصر بن عاصم، عن أبي بكرة، رفعه:"إن في أمتي أقوامًا يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، فإذا لقيتموهم، فأنيموهم"؛ أي فاقتلوهم، أخرجه الطبريّ، وتقدم في حديث أبي سعيد:"لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، وثمود"، وأخرج الطبريّ من رواية مسروق، قال: قالت لي عائشة: مَن قَتَل المخدَج؟ قلت: عليّ، قالت: فأين قتله؟ قلت: على نهر يقال لأسفله: النَّهْروان، قالت: ائتني على هذا ببينة، فأتيتها بخمسين نفسًا، شهدوا أن عليًّا قتله بالنهروان. أخرجه أبو يعلى، والطبريّ.

وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق عامر بن سعد، قال: قال عمار لسعد: "أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج أقوام من أمتي، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة، يقتلهم عليّ بن أبي طالب"؟ قال: إي والله.

[تنبيه]: وأما صفة قتالهم وقتلهم، فوقعت عند مسلم في رواية زيد بن وهب الجهنيّ الآتية: "أنه كان في الجيش الذين كانوا مع عليّ حين ساروا إلى

(1)

"المفهم" 3/ 116 - 117.

ص: 243

الخوارج، فقال عليّ بعد أن حدّث بصفتهم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، قال: فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبيّ، فقال لهم: ألقوا الرِّماح، وسُلُّوا سيوفكم من جفونها، فأني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال: فشجرهم الناس برماحهم، قال: فقُتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان".

وأخرج يعقوب بن سفيان، من طريق عمران بن جرير، عن أبي مِجْلَز قال: كان أهل النهر أربعة آلاف، فقتلهم المسلمون، ولم يُقْتَل من المسلمين سوى تسعة، فإن شئت فاذهب إلى أبي برزة، فاسأله، فإنه شهد ذلك.

وأخرج إسحاق ابن راهويه في "مسنده" من طريق حبيب بن أبي ثابت، قال: أتيت أبا وائل، فقلت: أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم عليّ، فيم فارقوه؟، وفيم استحلّ قتالهم؟ قال: لَمّا كنا بصِفِّين استحرّ القتلُ في أهل الشام، فرفعوا المصاحف، فذكر قصة التحكيم، فقال الخوارج ما قالوا، ونزلوا حَرُوراء، فأرسل إليهم عليّ، فرجعوا، ثم قالوا: نكون في ناحيته، فإن قبل القضية قاتلناه، وإن نقضها قاتلنا معه، ثم افترقت منهم فرقة، يقتلون الناس، فحَدَّث عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمرهم.

وعند أحمد، والطبرانيّ والحاكم، من طريق عبد الله بن شداد، أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق، ليالي قتل عليّ، فقالت له عائشة: تُحَدِّثني بأمر هؤلاء القوم الذين قتلهم عليّ، قال: إن علياَ لَمّا كاتب معاوية، وحَكَّما الحكمين، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض، يقال لها حَرُوراء، من جانب الكوفة، وعَتَبُوا عليه، فقالوا: انسلختَ من قميص ألبسكه الله، ومن اسم سماك الله به، ثم حَكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله، فبلغ ذلك عليًّا، فجمع الناس، فدعا بمصحف عظيم، فجعل يضربه بيده، ويقول: أيها المصحف حَدِّث الناس، فقالوا: ماذا إنسان؟ إنما هو مداد وورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فقال: كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة رجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية [النساء: 35]، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من امرأة رجل، ونَقَمُوا عليّ أن كاتبتُ معاوية، وقد كاتب

ص: 244

رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ثم بعث إليهم ابن عباس رضي الله عنهما، فناظرهم، فرجع منهم أربعة آلاف، فيهم عبد الله بن الكواء، فبعث عليّ إلى الآخرين أن يرجعوا، فأَبَوْا، فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم أن لا تَسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلًا، ولا تظلموا أحدًا، فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب، قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم الحرام

الحديث.

وأخرج النسائيّ في "الخصائص" صفة مناظرة ابن عباس لهم بطولها

(1)

.

(1)

قال الإمام النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(/ 165 - 166):

"ذكر مناظرة عبد الله بن عباس رضي الله عنه الحرورية، واحتجاجه فيما أنكروه على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: حدّثنا عكرمة بن عمّار، قال: حدّثني أبو زُميل، قال: حدّثني عبد الله بن عباس، قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دار، وكانوا ستة آلاف، فقلت لعليّ: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة، لعلي أُكَفم هؤلاء القوم، قال: إني أخافهم عليك، قلت: كلّا، فلبِسْتُ، وترجلت، ودخلت عليهم في دارٍ نصفَ النهار، وهم يأكلون، فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي رضي الله عنهم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد، لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون، فانتحَى لي نفرٌ منهم، قلت: هاتوا ما نَقَمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمة، قالوا: ثلاث، قلت: ما هنّ؟ قال: أما إحداهنّ، فإنه حَكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة، قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل، ولم يَسْب سباهم، ولم يَغْنَم إن كانوا كُفّارًا، لقد حَلّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حَلَّ سبيهم، ولا قتالهم، قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ وذعليه السلام كلمةً، معناها: قالوا مَحَى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهوأمير الكافرين، قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.

قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يَرُدّ قولكم، أترجعون؟ قالوا: نعم، قلت: أما قولكم: حَكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صَيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم، =

ص: 245

وفي "الأوسط" للطبراني من طريق أبي السائغة، عن جندب بن عبد الله البجليّ قال: لما فارقت الخوارج عليًّا خرج في طلبهم، فانتهينا إلى عسكرهم، فإذا لهم دَوِيّ كدويّ النحل من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب البرانس؛ أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة، قال: فدخلني من ذلك شدّة، فنزلت عن فرسي، وقمت أُصلي، فقلت: اللهم إن كان في قتال هؤلاء القوم لك طاعة، فائذن لي فيه، فمَرّ بي عليٌّ، فقال لما حاذاني: تعوّذ بالله من الشكّ يا جندب، فلما جئته أقبل رجل على بِرْذَون يقول: إن كان لك بالقوم حاجة، فإنهم قد

= فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وكان من حكم الله أنه صَيّره إلى الرجال، يحكمون فيه، ولو شاء يحكم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين، وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟ قالوا: بلى، بل هذا أنضل، وفي المرأة وزوجها:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة خرجت من هذه؟ قالوا: نعم، قلت: وأما قولكم: قاتل، ولم يَسْبِ، ولم يَغْنَم؟ أفتسبون أمكم عائشة، تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج، أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم، وأما مَحْيُ نفسه من أمير المؤمنين، فانا آتيكم بما ترضون، أن نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعليّ: اكتب يا عليّ: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"امح يا عليّ، اللهم إنك تعلم أني رسول الله، امح يا عليّ، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله"، واللهِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عليّ، وقد مَحَى نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة، أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم، فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقُتلوا على ضلالتهم، قَتَلهم المهاجرون والأنصار. انتهى.

قال الجامع: إسناد هذا الحديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح، أبو زميل أخرج له مسلم، والباقون متّفقٌ عليهم.

ص: 246

قطعوا النهر، قال: ما قطعوه، ثم جاء آخر كذلك، ثم جاء آخر كذلك، قال: لا، ما قطعوه، ولا يقطعونه، ولَيُقْتَلُنّ من دونه، عهدُ من الله ورسوله، قلت: الله أكبر، ثم ركبنا، فسايرته، فقال لي: سأبعث إليهم رجلًا يقرأ المصحف، يدعوهم إلى كتاب الله، وسنة نبيهم، فلا يُقبِل علينا بوجهه حتى يَرشقوه بالنبل، ولا يُقْتَل منا عشرة، ولا ينجو منهم عشرة، قال: فانتهينا إلى القوم، فارسل إليهم رجلًا، فرماه إنسان، فأقبل علينا بوجهه، فقعد، وقال عليّ: دونكم القوم، فما قُتِل منا عشرة، ولا نجا منهم عشرة.

وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح، عن حميد بن هلال، قال: حدّثنا رجل من عبد القيس، قال: لحقت بأهل النهر، فإني مع طائفة منهم أسير؛ إذ أتينا على قرية، بيننا نهر، فخرج رجل من القرية مُرَوَّعًا، فقالوا له: لا رَوْع عليك، وقطعوا إليه النهر، فقالوا له: أنت ابن خَبّاب صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: فحَدِّثنا عن أبيك، فحَدَّثهم بحديث:"يكون فتنة، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن"، قال: فقدَّموه فضربوا عنقه، ثم دَعَوا سُرّيّته، وهي حبلى، فبقروا عما في بطنها.

ولابن أبي شيبة، من طريق أبي مِجْلَز لاحق بن حميد، قال: قال علي لأصحابه: لا تبدءوهم بقتال حتى يحدثوا حَدَثًا، قال: فمز بهم عبد الله بن خَبّاب، فذكر قصة قتلهم له، وبجاريته، وأنهم بَقَروا بطنها، وكانوا مَرّوا على ساقته، فأخذ واحد منهم تمرة، فوضعها في فيه، فقالوا له: تمرة معاهد، فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من هذه التمرة، فأخذوه، فذبحوه، فبلغ عليًّا، فأرسل إليهم: أقيدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، فأَذِنَ حينئذ في قتالهم.

وعند الطبري من طريق أبي مريم قال: أخبرني أخي أبو عبد الله، أن عليًّا سار إليهم، حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان، أرسل يناشدهم، فلم تزل رسله تختلف إليهم، حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم، فقاتلهم حتى فرغ منهم كلِّهم

(1)

.

(1)

"الفتح" 16/ 185 - 187 كتاب "استتابة المرتدّين" رقم (6933).

ص: 247

وقوله: (فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ) أي أمر عليّ رضي الله عنه بطلب ذلك الرجل الذي نعته النبيّ صلى الله عليه وسلم بصفته المذكورة.

وقوله: (فَالْتُمِسَ، فَوُجِدَ، فَأُتِيَ بِهِ) ببناء الأفعال الثلاثة للمفعول؛ أي طُلب ذلك الرجل، فوُجد، فأتي به إلى عليّ رضي الله عنه.

وقوله: (حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي نَعَتَ) بحذف العائد؛ أي نعته به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية شعيب:"على نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي نعته"، وفي رواية أفلح:"فالتمسه عليّ، فلم يجده، ثم وجده بعد ذلك تحت جدار على هذا النعت".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2457]

(1065) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ قَوْمًا، يَكُونُونَ: فِي أُمِّتِهِ، يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ، سِيمَاهُمْ التَّحَالُقُ، قَالَ: "هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ، أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ، يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ"، قَالَ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ مَثَلًا، أَوْ قَالَ: قَوْلًا، الرَّجُلُ يَرْمِي الرَّمِيَّةَ، أَوْ قَالَ: الْغَرَضَ، فَيَنْظُرُ فِي النَّصْلِ، فَلَا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي النَّضِيِّ، فَلَا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي الْفُوقِ، فَلَا يَرَى بَصِيرَةً، قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

2 -

(سُلَيْمَانُ) بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

ص: 248

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ) هنا بضمّ الفاء بلا خلاف: أي افتراق منهم.

وقوله: (سِيمَاهُمْ التَّحَالُقُ) قال النوويّ رحمه الله: "السيما": العلامة، وفيها ثلاث لغات: القصر، وهو الأفصح، وبه جاء القرآن، والمدُّ، والثالثة السِّيمياء، بزيادة ياء مع المدّ لا غير، والمراد بالتحالق: حلق الرؤوس، وفي الرواية الأخرى: التّحَلُّق.

واستَدَلّ به بعض الناس على كراهة حلق الرأس، ولا دلالة فيه، وإنما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام، وقد تكون بمباح، كما قال صلى الله عليه وسلم:"آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثَدْيِ المرأة"، ومعلوم أن هذا ليس بحرام، وقد ثبت في "سنن أبي داود" بإسناد على شرط البخاريّ ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صبيًّا قد حُلِق بعض رأسه، فقال:"احْلِقُوه كلَّه، أو اتركوه كلَّه"، وهذا صريح في إباحة حلق الرأس، لا يحتمل تأويلًا.

قال أصحابنا: حلق الرأس جائز بكل حال، لكن إن شق عليه تعهُّده بالدَّهْن والتسريح استُحِبّ حلقه، وإن لم يَشُقّ استُحِبّ تركه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ، أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ) هكذا هو في كل النسخ: "أو من أشرّ" بالألف، وهي لغة قليلة، والمشهور "شَرّ" بغير ألف، كما قال ابن مالك في "الكافية":

وَغَالِبًا أَغْنَاهُمُ خَيْرٌ وَشَرْ

عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرْ

وفي هذا اللفظ دلالة لمن قال بتكفيرهم، وتأوله الجمهور: أي شرّ المسلمين، ونحو ذلك، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ظواهر النصوص تدلّ لمن قال بتكفيرهم دلالةً واضحةً، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وقال البخاريّ رحمه الله: "وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 167.

ص: 249

انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفّار، فجعلوها على المؤمنين". انتهى.

قال في "الفتح: وصله الطبري في مسند علي من"تهذيب الآثار" من طريق بُكير بن عبد الله بن الأشجّ، أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: كان يراهم شرار خلق الله، انطلقوا إلى آيات الكفار، فجعلوها في المؤمنين. قال: وسنده صحيح.

وقد ثبتٌ في الحديث الصحيح المرفوع عند مسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه في وصف الخوارج: "هم شرار الخلق والخليقة"، وعند أحمد بسند جيّد عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا مثله، وعند البزار من طريق الشعبيّ، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها: قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج، فقال:"هم شرار أمتي، يقتلهم خيار أمتي"، وسنده حسن، وعند الطبراني من هذا الوجه مرفوعًا:"هم شرّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة"، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد:"هم شر البريّة"، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع، عن عليّ رضي الله عنه عند مسلم:"من أبغض خلق الله إليه"، وفي حديث عبد الله بن خباب؛ يعني عن أبيه عند الطبرانيّ:"شر قتلى أظلتهم السماء، وأقلتهم الأرض"، وفي حديث أبي أمامة نحوه، وعند أحمد، وابن أبي شيبة، من حديث أبي برزة: مرفوعًا في ذكر الخوارج: "شر الخلق والخليقة"، يقولها ثلاثًا، وعند ابن أبي شيبة، من طريق عُمير بن إسحاق، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"هم شر الخلق"، وهذا مما يؤيِّد قول من قال بكفرهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ) وفي رواية: "أولى الطائفتين بالحقّ"، وفي رواية:"تكون أمتي فرقتين، فتخرج من بينهما مارقةٌ، تلي قتلهم أولاهما بالحقّ"، قال النوويّ رحمه الله: هذه الروايات صريحةٌ في أن عليًّا كان هو المصيبَ الْمُحِقّ، والطائفة الأخرى أصحابُ معاوية رضي الله عنه كانوا بُغَاةً متأولين، وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون، لا يخرجون بالقتال عن الإيمان، ولا يُفَسَّقون، وهذا مذهبنا، ومذهب موافقينا. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَوْ قَالَ: الْغَرَضَ)"أو" للشكّ من الراوي، و"الْغَرَض" بفتحتين:

(1)

"الفتح 16/ 168 - 169.

(2)

"شرخ النوويّ" 7/ 167 - 168.

ص: 250

الْهَدَف الذي يُرْمَى إليه، والجمع: أَغْراضٌ، مثل سَبَب وأَسباب، وتقول: غَرَضُهُ كذا على التشبيه بذلك؛ أي مَرْماه الذي يَقصده، وفُعِل لغرض صحيح: أي لِمَقْصدٍ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (فَيَنْظُرُ فِي النَّصْلِ) هو حديدة السهم، والرِّصَاف بالكسر: مدخل النَّصْل من السهم، والْقِدْح: غود السهم، والقُذَذ بضمّ القاف، وبذالين معجمتين: هو ريش السهم.

وقوله: (فَلَا يَرَى بَصِيرَةً) أي علامة على إصابته الرّميّة.

وقوله: (وَيَنْظُرُ فِي النَّضِيِّ) بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة، وتشديد الياء: وهو الْقِدْحُ، كما جاء مفسّراً في الرواية السابقة.

وقوله: (وَيَنْظُرُ فِي الْفُوقِ) بضمّ الفاء: هو الْحُزّ الذي يُجعل فيه الوَتَر.

وقوله: (وَأَنْتُمْ قتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ) أي مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2458]

(

) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثنا الْقَاسِمُ، وَفوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُليّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ) هو: القاسم بن الفضل بن مَعْدان بن قُرَيط الْحُدَّانيّ -بضمّ الحاء، وتشديد الدال المهملتين- الأزديّ، أبو المغيرة البصريّ، كان نازلًا في بني حُدّان، ثقةٌ، رُمي بالإرجاء [7].

(1)

"المصباح المنير" 2/ 445.

ص: 251

رَوَى عن أبيه، وأبي نضرة، ومحمد بن زياد الْجُمَحيّ، وثُمامة بن حَزْن القشيريّ، وسعيد بن المهلَّب، والنضر بن شيبان، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وغيرهم.

ورَوَى عنه ابن مهديّ، ووكيع، ويونس بن محمد، وأبو داود الطيالسيّ، والنضر بن شُمَيل، وبهز بن أسد، وابن المبارك، وشيبان بن فَرُّوخ، وآخرون.

قال صالح بن أحمد، عن علي ابن المدينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمن بن مهديّ يُثَبِّت القاسم بن الفضل، قال: ذاك مُنْكَر

(1)

، وجعل يُثني عليه، وقال عمرو بن عليّ: سمعت يحيى بن سعيد، يحسن الثناء على القاسم، قال: وكان ثقةً، وقال أحمد بن سنان القَطّان: سمعت ابن مهديّ قال: كان من قُدماء أشياخنا، ومع ذلك مِن أثبتهم، وقال أحمد، عن ابن مهديّ نحو ذلك، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال مرةً: صالحٌ، وقال مرة: ليس به بأسٌ، وقال أحمد، وابن سعد، والنسائيّ، والترمذيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: وأحفظ من أبي هلال الراسبيّ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان صاحب حديث، قال يحيى القطان: كان مُنْكَرًا؛ يعني من فِطْنته، وقال أبو داود مرةً: هو مِن مرجئة البصرة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن عمار: القاسم بن الفضل من ثقات الناس، وقال العقيليّ: سأله شعبة عن حديث أبي نضرة؛ يعني عن أبي سعيد، في قصة كلام الذئب، وفيه:"لا تقوم الساعة حتى يُكَلِّم الرجلَ عذبته، وشِرَاك نعله بما أحدث أهله"، فحدّثه، فقال شعبة: لعلك سمعته من شهر بن حوشب؟ قال: لا، حدّثناه أبو نضرة، فما سكت حتى سكت شعبة.

وقال ابن معين: مات سنة سبع وستين ومائة.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث، برقم (1065) و (1995) و (2005) و (2884).

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

سيأتي قريبًا أن المراد من فطنته، فهو ثناء، لا ذمّ، فتنبّه.

ص: 252

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (152) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: ("تَمْرُقُ مَارِقَةٌ) من باب قعد: أي تخرج طائفة خارجة عن جماعة المسلمين.

وقوله: (عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) بكسر الفاء: أي افتراقهم، واختلافهم فيما بينهم.

وقوله: (يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ") أي أقربهم إلى التمسّك بالحقّ، وهم طائفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى بيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2459]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ قتيْبَةُ: حَدَّثنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ، فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ) أراد بهما فرقة عليّ رضي الله عنه، وفرقة معاوية رضي الله عنه.

والحديث متّفقٌ عليه، ومضى تمام شرحه، وبيان مسائله قريبًا، والله

ص: 253

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2460]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ، فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ، فَيَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

2 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند دينار القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أوأبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ) بضمّ الفاء: أي افتراق منهم.

وقوله: (فَيَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَائِفَتَيْنِ بالْحَقِّ) هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عمّارًا الفئة الباغية" يدلّ دلالةَ واضحة على أَن عليًّا رضي الله عنه ومن معه كانوا على الحقّ، وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2461]

(

) - (حَدَّثَني عُبَيْدُ اللهِ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِببِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ الْمِشْرَقِيِّ

(1)

، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ ذَكَرَ فِيهِ قَوْمًا يَخْرُجُونَ عَلَى فُرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، يَقْتُلُهُمْ أقرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْحَقِّ).

(1)

وفي نسخة: "عن الضحّاك بن شَرَاحيل الْمِشْرَقيّ".

ص: 254

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ الْقَوَارِيرِيُّ) هو: ابن عُمر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ عن (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة 6/ 75.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن عُمر بن درهم الأسديّ، أبو أحمد الزبيريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام حجة رأس الطبقة [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ) قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (الْمِشْرَقِيِّ) -بكسر الميم، وإسكان الشين المعجمة، وفتح الراء، وكسر القاف- هذا هو الصواب الذي ذكره جميع أصحاب المؤتلف والمختلف، وأصحاب الأسماء والتواريخ، ونَقَل القاضي عياض عن بعضهم أنه ضبطه بفتح الميم، وكسر الراء. قال: وهو تصحيفٌ، واتفقوا على أنه منسوب إلى مِشْرَق -بكسر الميم، وفتح الراء- بطن من هَمْدان، وهو الضحاك الْهَمْدانيّ المذكور في الرواية السابقة، من رواية حَرْملة، وأحمد بن عبد الرحمن، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (عَلَى فُرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ) ضبطوه بكسر الفاء، وضمّها، فالكسر على معنى طائفة، والضمّ على معنى الافتراق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 169.

ص: 255

(46) - (بَابُ التَّحْرِيضِ على قَتْلِ الْخَوَارجِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2462]

(1066) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ سُويدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِي: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْني وَبَيْنكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

3 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظ عابدٌ، من كبار [9](196)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

5 -

(خَيْثَمَةُ) -بفتح الخاء المعجمة، والمثلثة، بينهما تحتانية ساكنة- ابن عبد الرحمن بن أبي سَبْرة -بفتح المهملة، وسكون الموحدة- الْجُعفيّ الكوفيّ، لأبيه، ولجدّه صحبة، ثقةٌ، يرسل [3] مات بعد الثمانين (ع) تقدم في "الزكاة" 12/ 2312.

ص: 256

6 -

(سُويدُ بْنُ غَفَلَةَ) الْجُعفيّ، أبو أميّة الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم، من كبار التابعين، قَدِم المدينة يوم دُفن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان مسلمًا في حياته، ثم نزل الكوفة [2](ت 80) وله (130) سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 84.

7 -

(عَلِيُّ) بن أبي طالب رضي الله عنه الخليفة الراشد، استُشهد سنة (40) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم قال: "الأشجّ: حدّثنا

إلخ" إشارةً إلى أن سياق الحديث له.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن خيثمة، عن سُويد بن غَفَلَة.

4 -

(ومنها): أن فيه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ذو المناقب الجمّة، فهو أحد الخلفاء الراشدين الأربعة، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وصهر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وابن عمّه رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ خَيْثَمَةَ) كذا في رواية المصنّف بالعنعنة، وفي رواية البخاريّ من طريق حفص بن غياث، حدّثنا الأعمش، حدّثنا خيثمة، حدّثنا سُويد بن غَفَلة، قال عليّ رضي الله عنه، قال في "الفتح": ولم يُصَرِّح بالتحديث فيه إلا حفص بن غياث، فقد أخرجه مسلم من رواية وكيع، وعيسى بن يونس، والثوريّ، وجرير، وأبي معاوية، وهو عند أبي داود، والنسائيّ من رواية الثوريّ، وعند أبي عوانة من رواية يعلى بن عبيد، وعند الطبريّ أيضًا من رواية يحيى بن عيسى الرمليّ، وعليّ بن هشام، كلهم عن الأعمش بالعنعنة، وذكر الإسماعيليّ أن عيسى بن يونس زاد فيه رجلًا، فقال: عن الأعمش، حدّثني عمرو بن مُرّة، عن خيثمة، قال الحافظ: لم أر في رواية عيسى عند مسلم ذكر عمرو بن مرة، وهو من المزيد في متصل الأسانيد؛ لأن أبا معاوية هو الميزان في حديث الأعمش. انتهى ما في "الفتح" مختصرًا، وهو بحثٌ نفيسٌ.

(عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ) -بفتح المعجمة، والفاء- مخضرم، من كبار

ص: 257

التابعين، وقد قيل: إن له صحبةً (قَالَ: قَالَ عَلِى) كذا في رواية المصنّف رحمه الله بتكرار لفظة "قال"، وكذا هو عند البخاريّ في آخر "فضائل القرآن"، من رواية الثوريّ، عن الأعمش، بهذا السند، ففاعل "قال" الأول ضمير سُويد، ووقع عند البخاريّ في "استتابة المرتدّين" بلفظ:"قال عليّ" بلا تكرار، فقال في "الفتح": هو على حذف "قال"، وهو كثير في الخطّ والأولى أن يُنْطَق به.

قال: وعند النسائيّ من هذا الوجه: "عن عليّ"، قال الدارقطنيّ: لم يصحّ لسويد بن غَفَلَة عن عليّ مرفوعٌ إلا هذا، قال الحافظ: وما له في الكتب الستة، ولا عند أحمد غيرُهُ، وله في "المستدرك" من طريق الشعبيّ عنه: قال: خطب عليّ بنت أبي جهل، أخرجه من طريق أحمد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن زكريا، عن الشعبيّ، وسنده جيّد، لكنه مرسل، لم يقل فيه: عن عليّ. انتهى.

(اِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": في رواية يحيى بن عيسى سببٌ لهذا الكلام، فأول الحديث عنده: عن سُويد بن غَفَلة، قال: كان عليّ يَمُرّ بالنهر، وبالساقية، فيقول: صدق الله ورسوله، فقلنا: يا أمير المؤمنين، ما تزال تقول هذا؟ قال: إذا حدثتكم إلخ، وكان عليّ في حال المحاربة يقول ذلك، وإذا وقع له أمر يوهم أن عنده في ذلك أثرًا، فخَشِي في هذه الكائنة أن يظنُّوا أن قصة ذي الثُّدَيّة من ذلك القبيل، فأوضح أن عنده في أمره نصًّا صريحاً، وبَيَّن لهم أنه إذا حدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يَكْنِي، ولا يُعَرِّض، ولا يُوَرِّي، وإذا لم يُحَدِّث عنه فعل ذلك؛ لِيَخْدَع بذلك من يحاربه، ولذلك استدلّ بقوله:"الحرب خدعة". انتهى.

(فَلَأَنْ أَخِرَّ) بكسر الخاء المعجمة؛ أي أسقط (مِنَ السَّمَاءِ) زاد أبو معاوية، والثوريّ في روايتهما:"إلى الأرض"، أخرجه أحمد عنهما، ووقع في رواية يحيى بن عيسى:"أخِرّ من السماء، فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق "(أَحَمث إِلَئَ مِنْ أَنْ أقُولَ عَلَيْهِ) أي على النبيّ صلى الله عليه وسلم (مَا لَمْ يَقُلْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) في رواية يحيى بن عيسى: "عن نفسي"، وفي رواية الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عليّ: "قام فينا عليّ عند أصحاب النهر، فقال: ما سمعتموني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدِّثوا به، وما

ص: 258

سمعتموني أحدِّث في غير ذلك"، ويستفاد من هذه الرواية معرفة الوقت الذي حدّث فيه عليّ بذلك، والسبب أيضًا.

(فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ) في رواية يحيى بن عيسى: "فإنما الحرب خدعة"، ومعناه: أجتهد رأيي، وقال القاضي عياض: فيه جواز التورية، والتعريض في الحرب، فكأنه تأوّل الحديث على هذا.

وقال في "القاموس": خَدَعَة، كمَنَعَهُ خَدْعًا، ويُكسر: خَتَلَهُ، وأراد به المكروه من حيثُ لا يَعْلَم، كاختدعه، فانخدع، والاسم الْخَدِيعةُ، و"الْحَرْبُ خِدْعَةٌ" مثلّثةً، وكهُمَزَة، ورُوي بهنّ جميعًا؛ أي تنقضي بخُدعة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قوله: "الْحَرْبُ خَدْعَة" حديث مرفوع أخرجه الشيخان مرفوعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومن حديث جابر رضي الله عنه، وأخرجاه هنا موقوفًا على عليّ رضي الله عنه.

وقوله: "خَدْعَة" -بفتح الخاء المعجمة، وبضمها، مع سكون المهملة فيهما، وبضم أوله، وفتح ثانية، قال النوويّ: اتفقوا على أن الأولى الأفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذرّ الهرويّ، والقزاز، والثانية ضُبِطت كذلك في رواية الأصيليّ، قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستعمل هذه البِنْيَة كثيرًا؛ لوجازة لفظها، ولكونها تعطي معنى البنيتين الأخيرتين، قال: ويعطي معناها أيضًا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن، ولو مَرَّةً، فكأنه قال: استَعْمِل الحيلة في الحرب ما أمكنك، فإذا أعيتك الْحِيَل فقاتل، قال: فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى.

ومعنى خَدْعَة بالإسكان أنها تَخْدَع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر، أوأنها وصف المفعول، كما يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير؛ أي مضروبه.

وقال الخطابيّ: معناه أنها مرةً واحدةً: أي إذا خَدَع مرةً واحدةً لم تُقَلْ عثرته.

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 16.

ص: 259

وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء؛ للدلالة على الوحدة، فإن الْخِدَاع إن كان من المسلمين، فكأنه حَضَّهم على ذلك ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار فكأنه حذَّرهم من مكرهم، ولو وقع مرةً واحدةً، فلا ينبغي التهاون بهم؛ لما ينشأ عنهم من المفسدة، ولو قَلَّ.

وفي اللغة الثالثة صيغة المبالغة، كهُمَزَة، ولُمَزَة.

وحَكَى المنذري لغة رابعةً بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع؛ أي إن أهلها بهذه الصفة، وكأنه قال: أهل الحرب خَدَعَةٌ.

قال الحافظ: وحَكَى مكيّ، ومحمد بن عبد الواحد لغةً خامسةً: كسر أوله، مع الإسكان، قرأت ذلك بخط مغلطاي.

وأصل الخدع إظهار أمر، وإضمار خلافه، وفيه التحريض على أخذ الْحَذَر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه.

قال النوويّ: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن، إلا أن يكون فيه نقض عهد، أو أمان، فلا يجوز.

قال ابن العربيّ: الخداع في الحرب يقع بالتعريض، وبالكمين، ونحو ذلك.

وفي الحديث: الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم:"الحجُّ عرفة"، قال ابن الْمُنِّير: معنى "الحرب خدعة": أي الحرب الجيِّدة لصاحبها، الكاملة في مقصودها، إنما هي المخادعة، لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر.

[تكميل]: ذكر الواقديّ أن أول ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" في غزوة الخندق. انتهى

(1)

.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ) كذا وقع في هذه الرواية، وفي حديث أبي برزة رضي الله عنه عند النسائيّ:"يخرج في آخر الزمان قوم"،

(1)

"الفتح" 7/ 282 - 283 كتاب "الجهاد" رقم (3027)، و"عمدة القاري" 14/ 275.

ص: 260

وهذا قد يخالف حديث أبي سعيد المتقدّم فإن مقتضاه أنهم خرجوا في خلافة عليّ، وكذا أكثر الأحاديث الواردة في أمرهم.

وأجاب ابن التين بان المراد زمان الصحابة، وفيه نظر؛ لأن آخر زمان الصحابة كان على رأس المائة، وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة.

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة، فمان في حديث سفينة رضي الله عنه المخرَّج في "السنن"، و"صحيح ابن حبان"، وغيره مرفوعًا:"الخلافة بعدي ثلاثون سنةً، ثم تصير مُلْكًا"، وكانت قصة الخوارج، وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة عليّ رضي الله عنه سنة ثمان وعشرين، بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو جمع حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(قَوْمٌ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ)"الأَحْدَاثُ" -بمهملة، ثم مثلثة-: جمع حَدَث- بفتحتين- والحدَث: هو الصغير السنّ، والأسنان جمع سِنّ، والمراد به العمر، والمراد أنهم صغار العمر.

(سُفَهَاة الْأَحْلَامِ)"السفهاء": جمع سَفِيه، وهو خفيف العقل، و"الأحلام" بالفتح: جمع حِلْم، بكسر أوله، والمراد به العقل، والمعنى أن عقولهم رديئة، قال النوويّ: يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السنّ، وكثرة التجارب، وقوة العقل، قال الحافظ: ولم يظهر لي وجه الأخذ منه، فإن هذا معلوم بالعادة، لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يظهر لي وجه تعقّب الحافظ لاستنباط النوويّ، فانه واضحٌ، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وقال الأبيّ رحمه الله -بعد نقل ما سبق في كلام النوويّ-: قال الماورديّ في "أدب الدنيا": من الناس من فَضّل رأي الشيوخ؛ لما ذُكر، وأنشد عليه [من الطويل]:

إِذَا طَالَ عُمْوُ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ

أَفَادَتْ لَهُ الأَيَّامُ فِي كَرِّهَا عَقْلَا

ومنهم من فضّل رأي من دونهم، وكان يقال: عليكم برأي من لم تبله

(1)

"الفتح" 16/ 175 - 171 كتاب "استتابة المرتدّين" رقم (6930).

ص: 261

الحوادث، ولا استولت عليه رطوبة الهَرَم. انتهى

(1)

.

(يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ) قال النوويّ: معناه: في ظاهر الأمر، كقولهم: لا حكم إلا لله، ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله تعالى. انتهى.

وقال في "الفتح": قيل: إنه مقلوبٌ، وأن المراد من قول خير البرية، وهو القرآن، ويَحْتَمِل أن يكون على ظاهره، والمراد: القول الحسن في الظاهر، وباطنه على خلاف ذلك، كقولهم:"لا حكم إلا لله"، في جواب عليّ رضي الله عنه، كما سيأتي، وقد وقع في رواية طارق بن زياد، عند الطبريّ، قال: خرجنا مع عليّ، فذكر الحديث، وفيه:"يخرج قوم يتكلمون كلمة الحق، لا تجاوز حلوقهم"، وفي حديث أنس، عن أبي سعيد، عند أبي داود، والطبرانيّ:"يحسنون القول، وشميئون الفعل"، ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو، عند أحمد، وفي حديث مسلم، عن عليّ:"يقولون الحقّ، لا يجاوز هذا"، وأشار إلى حلقه. انتهى

(2)

.

(يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) -بالحاء المهملة، والنون، ثم الجيم-: جمع حنجرة، بوزن قَسْوَرة، وهي الحلقوم، والبلعوم، وكله يُطْلق على مَجرَى النفس، وهو طرف المريء مما يلي الفم، ووقع في رواية زيد بن وهب، عن عليّ رضي الله عنه الآتي:"لا تجاوز صلاتهم تراقيهم"، فكأنه أطلق الإيمان على الصلاة، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الآتي أيضًا:"لا يجاوز إيمانهم حلاقيمهم"، والمراد أنهم يؤمنون بالنطق، لا بالقلب، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع، عن عليّ الآتي أيضًا:"يقولون الحقّ بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم، وأشار إلى حلقه".

(يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) ووقع في رواية النسائيّ، والطبريّ:"يمرقون من الإسلام"، وكذا هو في حديث ابن عمر عند البخاريّ، ووقع عند النسائي من رواية طارق بن زياد، عن عليّ:"يمرقون من الحقّ"، فتبيّن بهذا أن المراد من الدين هنا هو الإسلام، لا الطاعة، كما قاله بعضهم، فتنبّه.

(1)

"شرح الأبيّ" 3/ 209.

(2)

"الفتح" 16/ 171 كتاب "استتابة المرتدّين" رقم (6930).

ص: 262

(كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيةِ) بفتح الراء، وكسر الميم، وتشديد التحتانيّة؛ أي الحيوان الذي يُرْمَى إليه.

(فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) هذا تصريح بوجوب قتال الخوارج، والبغاة، وهو مجمع عليه (فَإِنَّ) الفاء للتهليل؛ أي لأن (فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا) أي عظيمًا، فالتنوين للتعظيم (لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") قال في "العمدة": وإنما كان الأجر في قتلهم؛ لأنهم يَشْغَلون عن الجهاد، ويسعون بالفساد لافتراق كلمة المسلمين. انتهى.

وفي رواية زيد بن وهب الآتية: "لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضِي لهم على لسان نبيهم، لَنَكَلُوا عن العمل"، وفي رواية عبيدة بن عمرو:"لولا أن تَبْطَروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، قال عبيدة: قلت لعليّ: أنت سمعته؟ قال: إي ورب الكعبة ثلاثًا". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: قال الطبريّ رحمه الله: رَوَى هذا الحديث في الخوارج عن عليّ تامًّا ومختصرًا عبيد الله بن أبي رافع، وسُويد بن غَفَلة، وعَبِيدة بن عمرو، وزيد بن وهب، وكُليب الجرميّ، وطارق بن زياد، وأبو مريم. انتهى.

زاد الحافظ رحمه الله: وأبو وضي، وأبو كثير، وأبو موسى، وأبو وائل في "مسند إسحاق ابن راهويه"، والطبرانيّ، وأبو جحيفة عند البزار، وأبو جعفر الفرّاء مولى عليّ، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، وكثير بن نُمير، وعاصم بن ضَمْرة.

قال الطبريّ: ورواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عليّ بن أبي طالب، أو بعضَهُ عبد الله بن مسعود، وأبو ذرّ، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن عمر، وأبو سعيد الخدريّ، وأنس بن مالك، وحُذيفة، وأبو بكرة، وعائشة، وجابر، وأبو بَرْزَة، وأبوأُمامة، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن حُنيف، وسلمان الفارسي. انتهى.

ص: 263

زاد الحافظ رحمه الله: ورافع بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وجندب بن عبد الله البجليّ، وعبد الرحمن بن عُريس، وعقبة بن عامر، وطلق بن عليّ، وأبو هريرة، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" بسند جيّد، من طريق الفرزدق الشاعر، أنه سمع أبا هريرة، وأبا سعيد، وسألهما، فقال: إني رجل من أهل المشرق، وإن قوماً يخرجون علينا، يقتلون من قال: لا إله إلا الله، ويُؤَمِّنُون من سواهم، فقالا لي: سمعنا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتلهم فله أجر شهيدٍ، ومن قتلوه فله أجر شهيد".

فهؤلاء خمسة وعشرون نفساً من الصحابة، والطرق إلى كثير منهم متعددة، كعليّ، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمر، وأبي بكرة، وأبي برزة، وأبي ذرّ، فيفيد مجموع خبرهم القطع بصحة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 2462 و 2463 و 2464 وه 246 و 2466 و 2467 و 2468](1066)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3611) و"فضائل القرآن"(5057) و"استتابة المرتدّين"(6930)، و (أبو داود) في "السنّة"(4767)، و (النسائيّ) في "تحريم الدم"(7/ 119) و"الكبرى"(2/ 312 و 5/ 160)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 157)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 81 و 113 و 131 و 156)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(168)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 188 و 189)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(2689)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(261 و 324)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الصغير"(2/ 213)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6739)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 131 - 135)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 187 - 188) و"دلائل النبوّة"(6/ 430)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحضّ على قتال الخوارج.

2 -

(ومنها): بيان صفات الخوارج.

(1)

"الفتح" 16/ 194 - 195 كتاب "استتابة المرتدّين" رقم (6935).

ص: 264

3 -

(ومنها): أن فيه علماً من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع بعده في أمته، فوقع طِبق ما أخبر به.

4 -

(ومنها): بيان جواز التورية والتعريض في الحرب.

5 -

(ومنها): ما قاله ابن العربي رحمه الله: الخديعة في الحرب تكون بالتورية، وتكون بالكَمِين، وتكون بخلف الوعد، وذلك من المستثنى الجائز المخصوص من المحرَّم، والكذب حرام بالإجماع، جائز في مواطنَ بالإجماع، أصلها الحرب، أذن الله فيه، وفي أمثاله؛ رفقاً بالعباد؛ لضعفهم، وليس للعقل في تحريمه، ولا في تحليله أثرٌ، إنما هو إلى الشرع، ولو كان تحريم الكذب كما يقول المبتدعون عقلاً، ويكون التحريم صفة نفسية، كما يزعمون ما انقلب حلالاً أبداً، والمسألة ليست معقولة، فتستحقّ جواباً، وخفي هذا على علمائنا، وقال الطبريّ: إنما يجوز في المعاريض دون حقيقة الكذب، فإنه لا يحلّ، وقال النوويّ: الظاهر إباحة حقيقة الكذب، لكن الاقتصار على التعريض أفضل، وقال بعض أهل السير: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك يوم الأحزاب لنعيم بن مسعود، وعن المهلَّب: الخداع في الحرب جائز كيف ما يمكن إلَّا بالأيمان والعهود، والتصريح بالأيمان، فلا يحلّ شيء من ذلك. انتهى.

6 -

(ومنها): أن الحديث صريح في وجوب قتال الخوارج والبغاة، قال النوويّ رحمه الله: وهو إجماع العلماء، قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام، وخالفوا رأي الجماعة، وشَقُّوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم، والاعتذار إليهم، قال الله تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية [الحجرات: 9]، لكن لا يُجَهَّز على جريحهم، ولا يُتَّبَع منهزمهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا تباح أموالهم، وما لم يخرجوا عن الطاعة، وينتصبوا للحرب لا يقاتلون، بل يوعظون، ويستتابون من بدعتهم وباطلهم، وهذا كله ما لم يُكَفَّروا ببدعتهم، فإن كانت بدعة مما يُكَفَّرون به جرت عليهم أحكام المرتدين.

وأما البغاة الذين لا يُكَفَّرون، فيرثون، ويورثون، ودمهم في حال القتال هَدَرٌ، وكذا أموالهم التي تَتْلَف في القتال، والأصح أنهم لا يُضَمَّنُون أيضاً ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال، من نفس، ومال، وما أتلفوه في غير

ص: 265

حال القتال من نفس ومال ضَمِنُوه، ولا يحل الانتفاع بشيء من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا، وعند الجمهور، وجوَّزه أبو حنيفة، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2463]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مُرابطاً، ثقةٌ مأمون [8](187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم الْمُقَدَّميّ، أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقة [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ حجةٌ [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

6 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ) الضمير لعيسى، وسفيان الثوريّ.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 169 - 170.

ص: 266

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش هذه ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

- حدّثنا محمد بن كَثِيرٍ، أخبرنا سُفْيَانُ، حدّثنا الْأَعْمَشُ، عن خَيْثَمَةَ، عن سُوَيْدِ بن غَفَلَةَ، قال عَلِيٌّ رضي الله عنه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "يَأْتِي في آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ، حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ من خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَامِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فإن قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يوم الْقِيَامَةِ".

وأما رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، فلم أر من ساقها، فليُنظر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2464]

(

) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا:"يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُثْمَانُ بينُ أَبِي شَيْيَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْينُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْداني الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

5 -

(زُهَيْرُ بْينُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

6 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

و (الْأَعْمَشُ) ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ) ضمير التثنية لجرير، وأبي معاوية.

ص: 267

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن الأعمش هذه ساقها أبو يعلى في "سنده" (1/ 225) فقال:

(261)

- حدّثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدّثنا أبو معاوية محمد بن خازم، حدّثنا الأعمش، عن خيثمة، عن سُويد بن غَفَلَة، قال: قال عليّ: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، فلأن أَخِرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم عن غيره فإنما أنا محارب، والحرب خدعةٌ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يَخْرُج في آخر الزمان قوم، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". انتهى.

وأما رواية جرير، عن الأعمش، فلم أر من ساقهاْ، فلْيُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2465]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُمَا، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: ذَكَرَ الْخَوَارجَ، فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، أَوْ مُودَنُ الْيَدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، لَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: قُلْتُ آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبَّ الْكَعْبَةِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) بن درهم، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

ص: 268

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تَمِيمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ [5] ت 131) (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

5 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه عابدٌ [3] ت 110) (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

6 -

(عَبِيدَةُ) بن عَمْرو السَّلْمانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 72)(ع) تقدم في "الإيمان" 89/ 468.

والباقون ذُكروا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة أسانيد فصلها بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة: المقدّميّ، وابن أبي شيبة، وزهير، فالأول تفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ، والآخران ما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن محمد بن سيرين، وعَبِيدة، وهو من المخضرمين.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبِيدَةَ) بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة - ابن عمرو السّلَمانيّ - بسكون اللام، ويقال: بفتحها (عَنْ عَلِيٍّ) بن أبي طالب رضي الله عنه (قَالَ: ذَكَرَ الْخَوَارجَ) فاعل "قال" ضمير "عَبِيدة"، وفاعل "ذَكَر" ضمير عليّ رضي الله عنه؛ أي قال عَبِيدة: ذكر عليّ رضي الله عنه الخوارج، وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه": "عن عَبيدة السلّمانيّ، قال: ذَكَرَ عليّ - رضوان الله عليه - الخوارج، فقال: فيهم رجلٌ مُخْدجٌ

"، وقوله: (فَقَالَ) تفسير لـ"ذَكَرَ" (فِيهِمْ) أي في جملة الخوارج (رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ) -بضم الميم، واسكان الخاء المعجمة، وفتح الدال المهملة، وآخره جيم- ومعناه: ناقص اليد، يقال: خَدَجت الناقة: إذا ألقت ولدها قبل تمام الأيام، وإن كان تامّ الْخِلْقة، فهو خديج، وأخدجت: إذا

ص: 269

جاءت به ناقص الخلق، وإن كانت أيامه تامةً، فهو مُخْدَج، ويُستعمل ذلك أيضاً في كل ذات ظِلْف، وحافِرٍ، بل في الآدميات أيضاً، ومنه:

يَوْمَ تَرَى مُرْضِعَةٌ خَدُوجَا

وَكُلُّ أُنْثَى حَمَلَتْ خَدُوجَا

(1)

(أَوْ مُودَنُ الْيَدِ)"أو" في الموضعين للشكّ في اللفظ الذي قاله، و"الْمُودَن" بضمّ الميم، وإسكان الواو، وفتح الدال المهملة، ويقال بالهمز، وبتركه، وهو ناقص اليد، ويقال أيضاً: وَدِين، ومَودون

(2)

. (أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ) بفتح الميم، وثاء مثلّثة ساكنة، وهو صغير اليد، مُجْتَمِعها، كثندوة الثَّدْي، وهي بفتح الثاء بلا همز، وبضمها مع الهمز، وكان أصله مثنود، فقُدِّمت الدال على النون، كما قالوا: جَبَذَ، وجَبَذَبَ، وعَاثَ في الأرض، وعَثَا، وحكى في "المحكم" هذا القلب عن ابن جنّي، وقال: إنه ليس بشيء

(3)

.

(لَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ؛ أي تَطْغَوا، وأصل الْبَطَر الطُّغيان عند النعمة، والعافية، فيَسُوء احتماله لها، فيكون منه الكبر، والأَشَرُ، والْبَذَخ، وشِدَّة الْمَرَح الَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) أي من الأجر والثواب (قَالَ) عَبِيدة رحمه الله (قُلْتُ: آنْتَ) بمد الهمزة، وأصله أأنت بهمزتين قُلبت الثانية ألفاً (سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) عليّ رضي الله عنه (إِي) - بكسر الهمزة، وسكون التحتانيّة - بمعنى نعم، فيكون لتصديق المخبر، ولإعلام المستخبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد "قام زيد"، و"هل قام زيد"، و"اضرب زيداً"، ونحوهنّ، كما تقع "نَعَمْ" بعدهنَّ، وزعم ابن الحاجب أنها إنما تقع بعد الاستفهام، نحو:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} الآية [يونس: 53]، ولا تقع عند الجميع إلا قبل القسم، وإذا قيل: إي والله، ثم أُسقطت الواو، جاز سكون الياء، وفتحها، وحذفها، وعلى الأول فيلتقي ساكنان على غير حدّهما، قاله ابن هشام رحمه الله

(4)

.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 281، و"لسان العرب" 2/ 248.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 281.

(3)

"طرح التثريب" 7/ 281، و"شرح النوويّ" 7/ 171 - 172.

(4)

"مغني اللبيب" 1/ 105 - 106.

ص: 270

(وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) أي وأقسم برب الكعبة (إِي وَرَبَّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ) كرّره ثلاث مرّات للتأكيد.

قال النوويّ رحمه الله: انما استحلفه؛ ليُسْمِع الحاضرين، ويؤكّد ذلك عندهم، ويُظهِر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُظهِر لهم أن عليًّا رضي الله عنه وأصحابه أولى الطائفتين بالحقّ، وأنهم مُحِقُّون في قتالهم، وغير ذلك مما في هذه الأحاديث من الفوائد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 2465](1066)، و (أبو داود) في "السنّة"(4763)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(167)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18652 و 18653)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(166)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 303 - 304)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 83 و 95 و 144 و 155)، و (عبد الله بن أحمد) في "زوائده على المسند"(1/ 113 و 121 و 122) و"زوائده على الفضائل"(1046)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6938)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(32 - 33)، و (النسائيّ) في "الخصائص"(187 و 188)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(912)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(337)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الصغير"(969 و 1002)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 132)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 188)، وأما فوائد الحديث، فتقدّمت في الحديث الماضي.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 173.

ص: 271

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2466]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيًّ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، قَالَ: لَا أُحَدِّثُكُمْ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْهُ، فَذَكَرَ عَنْ عَلِيًّ نَحْوَ حَدِيثِ أَيُّوبَ مَرْفُوعاً).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيًّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطَبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضِلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْهُ) أي من عليّ رضي الله عنه.

وقوله: (فَذَكَرَ عَنْ عَلِيًّ

إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن عون.

[تنبيه]: رواية ابن عون، عن محمد بن سيرين ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" (1/ 373) فقال:

(479)

- حدّثنا عبيد الله بن عمر، حدّثنا خالد بن الحارث، حدّثنا ابن عون، عن محمد، عن عَبِيدة، أنه قال: لا أحدثك إلا ما سمعت منه -يعني علياً - قال: لولا أن تبطروا لنبأتكم بما وعد الثه الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: أنت سمعته من محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي ورب الكعبة، ثلاث مرات:"فيهم رجل مُخْدَجُ، أو مُثْدَن اليد - قال: أحسبه قال -: أو مودن اليد"، قال: فطلبوا ذلك الرجل، فوجدوا من ها هنا، ومن ها هنا مثل ثدي المرأة، عليه شعرات، قال محمد: فحلف لي عَبيدة ثلاث مرات، أنه سمع من عليّ، وحَلَف على ثلاث مرات، أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تخريجه قبله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 272

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2467]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيُّ، أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاِتهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاُتهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّدِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيَّهِمْ صلى الله عليه وسلم لَاتَّكَلُوا عَلَى الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ، عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ"، فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوَيةَ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِّيكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا فِي سَرْحٍ النَّاسِ، فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ، قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلا، حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا، وَعَلَى الْخَوَارجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرَّمَاحَ، وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا، فَإِنَّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ، كمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ، فَرَجَعُوا، فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ، وَسَلُّوا السُّيُوفَ، وَشَجَرَهُمْ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ، قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَتَى نَاساً، قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَخِّرُوهُمْ، فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: إِي وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثاً، وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ).

ص: 273

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ بْنُ هَمَّامٍ) الْحِمْيَريّ، أبو الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شَهِيرٌ عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) مَيْسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، صدوقٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) الْحَضْرميّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.

5 -

(زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيُّ) أبو سليمان الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ جليلٌ [2] مات بعد (80) وقيل:(96)(ع) تقدم في "الإيمان" 67/ 374.

و"عليّ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، والترمذيّ، وعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، إلا عبد الرزّاق، فصنعانيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: سلمة، عن زيد بن وهب.

شرح الحديث:

عن زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيَّ رحمه الله (أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيًّ رضي الله عنه الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارجِ، فقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمّتِي، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاِتهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، يَحْسِبُونَ) يقال: حَسِبتُ زيداً قائماً أحسبه، من باب تَعِبَ في لغة جميع العرب إلا بني كِنَانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر

ص: 274

الماضي أيضاً على غير قياس، حِسْباناً بالكسر، بمعنى ظننت، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (أَنَّهُ لَهُمْ) أي أن القرآن شافعٌ لهم، ومقرّب إلى ربهم (وَهُوَ عَلَيْهِمْ) جملة حاليةٌ؛ أي والحال أن القرآن حجة عليهم حيث لم يؤمنوا به حقّ الإيمان به، ويتلوه حقّ تلاوته، قال الله عز وجل:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)} [البقرة: 121](لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ) قيل: المراد قراءتهم، كما في الرواية الأخرى، وإطلاق الصلاة على القراءة شائع، كعكسه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي مرفوعاً: "قَسمت الصلاة بيني وبين عبدي

الحديث"، فقد أطلق الصلاة على الفاتحة، وكما في قوله تعالى:{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78]، فقد أطلق قرآن الفجر على صلاة الفجر.

ويَحْتَمِل أن يراد بالصلاة الإيمان، فقد فُسّر قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] بالصلاة، فيكون المعنى: لا يجاوز إيمانهم تراقيهم، فلا يدخل قلوبهم، ويؤيّد هذا ما وقع في "صحيح البخاريّ" بلفظ:"لا يُجاوز إيمانهم حناجرهم"، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: لا تجاوز صلاتهم تراقيهم" هو كناية عن أنها لا تُقبل، ولا ينتفعون بها، أو يعني بذلك أن دعاءهم لا يُسمع. انتهى

(2)

.

(تَرَاقِيَهُمْ) جمع: تَرْقُوة وزانُ فَعْلُولة بفتح الفاء، وضمّ اللام، وهي العظم الذي بين ثُغْرة النَّحْر والعاتق من الجانبين، قال بعضهم: لا تكون التَّرْقُوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان خاصّة

(3)

.

(يَمْرُقُونَ) أي يخرجون (مِنَ الْإِسْلَامِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ) أي الصيد المرميّ (لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ) أي يقتلونهم (مَا قُضِيَ لَهُمْ) أي حكم به (عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم لَاتَّكَلُوا عَلى الْعَمَلِ) هكذا في نسخة شرح الأبيّ، ووقع في نسخة النوويّ:"لاتّكلوا عن العمل"، والأول هو الذي عند القرطبيّ في "مختصره"، وقال في "شرحه": الألف واللام في "العمل" للعهد، فكأنه قال: لاتّكلوا على ثواب ذلك العمل،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 134.

(2)

"المفهم" 3/ 118.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 74.

ص: 275

واعتمدوا عليه في النجاة من النار، والفوز بالجنّة، وإن كانت الأعمال لا تحصّل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لن يُنجي أحداً منكم عمله" قالوا: ولا أنت يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: "ولا أنا، إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله برحْمَةٍ

" الحديث، متّفقٌ عليه، لكن ذلك العمل الذي هو قتلهم عظيم، وثوابه جسيم، بحيث لو اطَّلَع عليه صاحبه لاعتمد علمه، وظنّ أنه هو الذي يُنجيه، قال: والرواية في ذلك اللفظ: "لاتّكلوا" بـ "أل"، وبالتاء المثنّاة من التوكّل، وقد صحّفه بعضهم، فقال: "لنكلوا" بالنون من النكول عن العمل؛ أي لا يعملون شيئاً؛ اكتفاء بما حصل لهم من ثواب ذلك، وهذا معنى واضحٌ لو ساعدته الرواية. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ادّعى القرطبيّ من التصحيف في قوله: "لنكلوا" هو الذي ذكره الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين"، ولفظه:"لنكلوا عن العمل"، وعزاه إلى رواية مسلم، ومعناه واضح.

وأما ما وقع في نسخة "شرح النوويَّ" بلفظ: "لاتّكلوا عن العمل"، من الاتّكال بالتاء، و"عن" بدل "على"، إن لم يكن مصحّفاً، فمعناه: امتنعوا عن العمل استغناء بثواب قتالهم لهم، والله تعالى أعلم.

وفي هذا الحديث حثّ على قتال الخوارج، ووعد بالثواب العظيم.

(وَآيَةُ ذَلِكَ) أي العلامة التي بيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعرفة هؤلاء الخوارج (أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ) هو ما بين المنكب والمرفق (وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ، عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ) "الْحَلَمة -بفتحتين- هي اللحمة الناتئة في رأس الثدي، وقال الأزهريّ: الْحَلَمة: الحبّة على رأس الثدي من المرأة، والثُّنْدُوة من الرجل

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الحلَمَة: الأنبوبة التي يخرج منها اللبن، وتُسمّى السعدانة. انتهى

(3)

.

(عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ"، فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيَّكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ) كلام عليّ رضي الله عنه هذا لجيشه على طريقة

(1)

"المفهم" 3/ 118 - 119.

(2)

راجع: "المصباح 1/ 148 - 149.

(3)

"المفهم" 3/ 119.

ص: 276

الاستفهام الإنكاريّ التوبيخيّ؛ أي لا ينبغي، ولا يصحّ أن يحصل هذا، وغرضه بذلك الحثّ على المبادرة بقتالهم قبل قتال معاوية وأهل الشام (وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُوأَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ) بالنصب بدلاً من اسم الإشارة، واسم الإشارة خبر "يكونوا"؛ يعني أن هؤلاء الحروريين هم الذين وصفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصفات السابقة؛ لانطباقها عليهم، ثم أكّد ذلك بقوله:(فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ) حيث قتلوا عبد الله بن خبّاب ذبحوه، وبقروا بطن جاريته، وهي حُبلى، وكان والياً لعليّ رضي الله عنه على بعض تلك البلاد، وقد سبقت قصّته (وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ) أي مواشيهم، حيث عَدَوا على قوم من بني قطيعة، فقتلوا الرجال، وأخذوا الأموال، وغَلُّوا الأطفال في المراجل، كما ذكره ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

(فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ) أي على بركة اسم الله تعالى (قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً) أي أخبرني بالمواضع التي نزلها عليّ رضي الله عنه مع جيشه منزلاً منزلاً واحداً واحداً، قال القرطبيّ رحمه الله: وصوابه منزلاً منزلاً مرتين؛ لأن معناه أخبرني بالمنازل مفصَّلةً، فهو منصوب على الحال، كما تقول العرب: علّمته الحساب باباً باباً، ولا يُكتفَى في هذا النوع بذكر مرّة واحدة؛ لأنه لا يفيد ذلك، غير أنه وقع هنا منزلاً مرّةً واحدةً لجميع رواة مسلم فيما أعلم، وقد جاء في كتاب النسائيّ:"منزلاً منزلاً"، وهو الصحيح. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "منزلاً" هكذا هو في معظم النسخ مرّةً واحدةً، وفي نادر منها "منزلاً منزلاً" مرتين، وكذا ذكره الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين"، وهو وجه الكلام؛ أي ذَكَرَ لي مراحلهم بالجيش منزلاً منزلاً حتى بلغ القنطرة التي كان القتال عندها، وهي قنطرة الديزجان

(3)

، كذا جاء مبيناً في "سنن النسائي"، وهناك خطبهم عليّ رضي الله عنه، ورَوَى لهم هذه الأحاديث. انتهى.

(1)

راجع: "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 10.

(2)

"المفهم" 3/ 119.

(3)

كذا في "سنن النسائيّ الكبرى" 5/ 163 ولم أجد من تكلّم فيها، والله تعالى أعلم.

ص: 277

(حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ) -بفتح القاف، وسكون النون، وفتح الطاء، بعدها راء -: ما يُبنى على الماء للعبور عليه، وهي فَنْعَلَةٌ، والْجِسْرُ أعمّ؛ لأنه يكون بناءً وغير بناء

(1)

.

وقوله: (فَلَمَّا الْتَقَيْنَا) الظاهر أن جواب "لَمّا" محذوف بدلالة السياق، تقديره: انتصرنا عليهم، وقوله:(وَعَلَى الْخَوَارجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ) جملة في محلّ نصب على الحال.

قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله في "الميزان": عبد الله بن وهب الراسبيّ كان من رؤوس الخوارج الحروريّة، زائغ مُبتدع، أدرك عليًّا رضي الله عنه، وقال أيضاً: عبد الله بن راسب، من رؤوس الحروريّة، ذكره بعضهم في كُتب الضعفاء، وهو في كتاب أبي إسحاق الْجُوزجانيّ، من أقران عبد الله بن الْكَوّاء، وقد أدرك الجاهليّة. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ بعد نقل كلام الذهبيّ هذا ما نصّه: وهذا الرجل إنما اسمه عبد الله بن وهب الراسبيّ، من بني راسب، قبيلة معروفة، وهو كان أمير الخوارج بالنَّهْرَوان لَمّا قاتلهم عليّ رضي الله عنه، وقُتل في المعركة، ولا أعلم له رواية. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ لَهُمْ) أي عبد الله بن وهب الراسبيّ رئيسهم (أَلْقُوا الرِّمَاحَ) أي ارموه من أيديكم، ولا تستعملوه في القتال.

و"الرِّمَاح": بالكسر: جمع رُمْح، ويُجمع أيضاً على أرماح، قال في "المعجم الوسيط": الرُّمْحُ قناةٌ

(4)

في رأسها سِنَانٌ يُطعَنُ به. انتهى

(5)

.

(وَسُلُّوا) بضمّ السين المهملة، وتشديد اللام: أمر من السلّ، يقال: سلّ السيف سَلًّا، من باب نصر: إذا أخرجه من غِمْده، قال في "القاموس": السّلّ:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 508.

(2)

"ميزان الاعتدال" 2/ 420.

(3)

"لسان الميزان" 4/ 12 - 13.

(4)

"القَنَاة": الرمح الأجوف، وكلُّ عصاً مستوية، أو مُعْوَجّة. انتهى. "المعجم الوسيط" 2/ 764.

(5)

"المعجم الوسيط" 1/ 371.

ص: 278

انتزاعك الشيءَ، وإخراجه في رِفْق، كالاستلال. انتهى

(1)

. (سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا) أي أخرجوها من أَغْمادها، وهي جمع جَفْن - بفتح، فسكون -: وهو الغمد.

يعني أن زعيمهم قال لهم ذلك لتبدأ المعركة بالوطيس الحامي بالسيوف، لا بالرماح.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الرأي -يعني قول زعيم الخوارج -: "ألقوا الرِّمَاح، وسُلُّوا السيوف" كان فيه فتح للمسلمين، وصيانة لدمائهم، وتمكين من الخوارج بحيث تُمُكَّن منهم بالرماح، فطُعِنوا، ولم يكن لهم ما يطعنون به أحداً، فقُتلوا عن بَكْرة أبيهم، ولم يُقتل من المسلمين سوى رجلين، فنعوذ بالله من تدبير يقود إلى تدمير. انتهى

(2)

.

ثمّ علّل زعيمهم أمره بإلقاء الرماح، وسلّ السيوف بقوله:(فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ) يقال: نشدتك اللهَ، وناشدتك اللهَ: أي سألتك بالله، وأقسمت عليك؛ يعني أخاف عليكم أن يطلبوا منكم الصلح بالأيمان لو تقتلونهم بالرمح من بعيد (كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ) بالمدّ: قرية بقرب الكوفة، يُنسَب إليها فرقة من الخوارج، كان أول اجتماعهم بها.

وفي "القاموس": وحَرُوراء كجَلُولاء، وقد تُقصر: قرية بالكوفة. انتهى

(3)

.

ويوم حروراء هو اليوم الذي اجتمع فيه الخوارج، وهم ثمانية آلاف، وقيل غير ذلك، فنزلوا حرُوراء، وكان كبيرهم عبد الله بن الكوّاء

(4)

اليشكريّ، وشَبْث

(5)

التميميّ، فأرسل إليهم عليٌّ ابنَ عبّاس رضي الله عنهم، فناظرهم، فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم عليّ، فناشدهم، وناقشهم، فأطاعوه، ودخلوا معه الكوفة.

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 396.

(2)

"المفهم" 3/ 119.

(3)

"القاموس" 2/ 8.

(4)

بفتح الكاف، وتشديد الواو، مع المدّ.

(5)

بفتح الشين المعجمة، والموحّدة، بعدها مثلّثة.

ص: 279

(فَرَجَعُوا) أي إلى أماكنهم بعد خروجهم لمواجهة المقاتلين لهم (فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ) أي رموا بها عن بُعد، وقال القرطبيّ: أي صيّروها كالوحش بعيدةً منهم، وهو بتشديد الحاء، يقال: وحّش الرجل: إذا رمى بثوبه، وبسلاحه مخافة أن يُلْحَق، قال الشاعر [من الكامل]:

إِنْ انْتُمُ لَمْ تَطْلُبُوا بِأَخِيكُمُ

فَذَرُوا السِّلَاحَ وَوَحَّشُوا بِالأَبْرَقٍ

(وَسَلُّوا السُّيُوفَ، وَشَجَرَهُمْ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ) هو بفتح الشين المعجمة، والجيم المخففة: أي داخلوهم، وطاعنوهم بها، قال ابن دُريد: تشاجر القوم بالرماح: إذا تطاعنوا بها، ومنه التشاجر في الخصومة.

(قَالَ) زيد بن وهب رحمه الله: (وَقُتِلَ) بالبناء للمفعول (بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ) أي من أصحاب عليّ رضي الله عنه (يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ) لم يُعرف اسمهما

(1)

.

(فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: الْتَمِسُوا) أي طلبوا (فِيهِمْ) أي في هؤلاء القتلى (الْمُخْدَجَ) أي الناقص اليد، وهو الذي تقدّم في قوله: "وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضدٌ، ليس له ذراع

" (فَالْتَمَسُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوهُ) أي لكونه تحت القتلى (فَقَامِ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِنَفْسِهِ، حَتَّى أَتَى نَاساً، قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَخِّرُوهُمْ، فوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ، فَكَبَّرَ) أي قال عليّ رضي الله عنه: "الله أكبر" تعجباً، واستعظاماً لظهور مصداق ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الخوارج (ثُمَّ قَالَ) رضي الله عنه (صَدَقَ اللهُ) أي فيما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر هؤلاء (وَبَلَّغَ رَسُولُهُ) صلى الله عليه وسلم أمته ما أوحي إليه.

(قَالَ) زيد بن وهب (فَقَامَ إِلَيْهِ) أي إلى عليّ رضي الله عنه (عَبِيدَةُ) - بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة - ابن عمرو (السَّلْمَانِيُّ) بإسكان اللام: منسوب إلى سَلْمان جدّ قبيلة معروفة، وهم بطن من مُراد، قاله ابن أبي داود السجستانيّ، أسلم عَبيدة قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسنتين، ولم يره، وسمع عمرَ وعليًّا، وابنَ مسعود، وغيرَهُم من الصحابة رضي الله عنهم.

(فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آللهَ) بمدّ الهمزة (الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قال

(1)

راجع: "تنبيه المعلم" ص 197.

ص: 280

القرطبيّ رحمه الله: قوله: "آلله

إلخ" الهمزة عوضٌ من ياء القسم، وهو قسم أقسم عليه به؛ لتزيد طمأنينة قلبه، لا ليدفع شكًّا عن نفسه. انتهى.

(لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: إِي وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا، وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ) إنما استحلفه ليؤكد الأمر عند السامعين، ولتظهر معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن عليًّا ومن معه على الحقّ، وليطمئن قلب المستحلف؛ لإزالة توهم ما أشار إليه عليّ أن "الحرب خدعة"، فخشي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئاً منصوصاً، والى ذلك يشير قول عائشة رضي الله عنهما لعبد الله بن شداد، حيث قالت له: ما قال عليّ حينئذ؟ قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله، قالت: رحم الله عليًّا، إنه كان لا يرى شيئاً يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق، فيكذبون عليه، ويزيدونه. فَمِن هذا أراد عَبيدة بن عمرو التثبت في هذه القصة بخصوصها، وأن فيها نقلاً منصوصاً مرفوعاً.

وأخرج أحمد نحو هذا الحديث عن عليّ رضي الله عنه، وزاد في آخره:"قتالُهم حقّ على كل مسلم". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 2467](1066)، و (أبو داود) في "السنّة"(4768 و 4770)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 147)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 197)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 170)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 133)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2468]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ

ص: 281

بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ، وَهُوَ مَعَ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقًّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ نَاساً، إِنَّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ، مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ أَسْوَدُ، إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ، أَوْ حَلَمَةُ ثَدْي، فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: انْظُرُوا فَنَظَرُوا، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَقَالَ: ارْجِعُوا فَوَاللهِ، مَا كَذَبْتُ، وَلَا كُذِبْتُ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ، فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ، زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ بُكَيْرٌ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَن ابْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح، تقدّم قبل باب.

2 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) عن (96) سنةً (م س) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قبل باب.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاري مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [7] مات قبل (150) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

5 -

(بُكَيْرُ بْنُ الْأَشجَّ) هو: بُكير بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

6 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) العابد المدنيّ، مولى ابن الْحَضْرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

7 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ) المدنيّ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان كاتب عليّ رضي الله عنه، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 28/ 1812.

و"عليّ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

ص: 282

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتفاق كيفيّة التحمّل والأداء، كما مرّ غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما أسلفته آنفاً.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين إلى عمرو، والباقون مدنيّون.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: بكير، عن بُسر، عن أبي رافع.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الْحَرُورِّيةَ) تقدّم أنه نسبة إلى حَرُوراء موضع بالكوفة (لَمَّا خَرَجَتْ، وَهُوَ) أي والحال أن عبيد الله كائن (مَعَ عَلِيَّ بْن أَبِيِ طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالُوا) جواب "لَمّا"(لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، قَالَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (كلِمَةُ حَقٍّ) خبر لمحذوف؛ أي هذه كلمة حقّ، وإطلاق الكلمة على الجملة شائع، كما في قوله تعالى:{إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} الآية [المؤمنون: 100]؛ إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} ، وقولهم:"لا إله إلا الله كلمة الإخلاص"، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَكَلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمْ

(أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ) أي نحن نؤمن بتلك الكلمة، ولكن لا نتأوّلها على ما تأولتم به.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن الكلمة أصلها صدقٌ، قال الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} الآية، لكنهم أرادوا بها الإنكار على عليّ رضي الله عنه في تحكيمه. انتهى.

(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ نَاساً) تقدّم أنه اسم وُضع للجمع، كالقوم، والرَّهْط، وواحده إنسان من غير لفظه (إِنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ) أي صفة الناس الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم (فِي هَؤُلَاءِ) الخوارج (يَقُولُونَ الْحَقَّ) أي يتكلّمون بالقول الحقّ (بِأَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَجُوزُ) أي لا يتعدّى ذلك الحقّ (هَذَا مِنْهُمْ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ، مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ) هذا مما يؤيّد قول من قال بتكفير

ص: 283

الخوارج، ومثله حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الآتي بلفظ:"هم شرار الخلق والخليقة"، وعند أحمد بسند جيّد، عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً مثله، وعند البزار من طريق الشعبيّ عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنهما قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج، فقال:"هم شرار أمتي، يقتلهم خيار أمتي"، وسنده حسنٌ، وعند الطبرانيّ من هذا الوجه، مرفوعاً:"هم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة"، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد:"هم شرّ البريّة"، وفي حديث عبد الله بن خَبّاب، عن أبيه، عند الطبرانيّ:"شر قتلى أظلّتهم السماء، وأقلتهم الأرض"، وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه نحوه، وعند أحمد، وابن أبي شيبة، من حديث أبي برزة رضي الله عنه مرفوعاً في ذكر الخوارج:"شر الخلق والخليقة"، يقولها ثلاثاً، وعند ابن أبي شيبة، من طريق عُمير بن إسحاق، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"هم شر الخلق".

قال الجامع عفا الله عنه: هذه النصوص ظاهرة في تكفير الخوارج، وقد سبق أن هذا القول أقوى دليلاً، وإن كان التوقّف أسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(مِنْهُمْ) رجلٌ (أَسْوَدُ، إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ) - بطاء مهملة مضمومة، ثم باء موحّدة ساكنة - والمراد به ضرع الشاة، وهو فيها مجاز، واستعارةٌ، إنما أصله للكلبة والسباع، قال أبو عبيد: ويقال أيضاً لذوات الحافر، ويقال للشاة: ضرعٌ، وكذا للبقرة، ويقال للناقة: خِلْفٌ

(1)

، وقال أبو عبيد: الأخلاف لذوات الأخفاف، والأظلاف، وقال الهرويّ: يقال في ذات الخفّ، والظِّلْف: خِلْفٌ، وضَرْعٌ. انتهى.

(أَوْ) الظاهر أنها للتنويع، ويَحْتَمِل أن تكون للشكّ من الراوي (حَلَمَةُ ثَدْيٍ) تقدّم قريباً أن الْحَلَمَة: هي الحبّة على رأس الثدي من المرأة، والثُّنْدُوة من الرجل (فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه) في وقعة النَّهْرَوان، وذلك سنة ثمان وثلاثين من الهجرة (قَالَ) رضي الله عنه (انْظُرُوا) أي في الرجل الذي وصفه

(1)

الْخِلْف بكسر، فسكون من ذوات الخفّ، كالثدي للإنسان، والجمع أخلافٌ، مثلُ حِمْلٍ وأحمال. انتهى. "المصباح" 1/ 180.

ص: 284

النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه آية لهم (فَنَظَرُوا) في ظاهر القتلى (فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَقَالَ: ارْجِعُوا فَوَاللهِ، مَا كَذَبْتُ) بتخفيف الذال المعجمة، مبنيًّا للفاعل؛ أي ما كذبتُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بنسبة ما لم يقله إليه في شأن الخوارج، ولا في غير ذلك (وَلَا كُذِبْتُ) بتخفيف الذال أيضاً مبنيًّا للمفعول، يقال: كُذِب الرجلُ: إذا أُخبر بالكذب؛ أي ما أخبرني النبيّ صلى الله عليه وسلم في شأنهم بالكذب، وإنما أخبرني بالصدق (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاناً، ثُمَّ وَجَدُوهُ) بعد طلبه في خلال القتلى (فِي خَرِبَةٍ) قال في "القاموس": الْخَرِبة"- بفتح، فكسر- كالْفَرِحَة: موضع الخراب، جمعه خَرِبات، وخَرِبٌ، ككَتِفٍ، وخرائب، كالْخِرْبة بالكسر، وجمعها كعِنَب. انتهى

(1)

.

(فَأَتَوْا بِهِ) أي أتوا عليًّا رضي الله عنه بذلك الأسود (حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ) بن أبي رافع (وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ) بجرّ "قولِ" عطفاً على "أمرهم"(زَادَ يُونُسُ) بن عبد الأعلى شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ) وقوله: (قَالَ بُكَيْرٌ) مفعول "زاد" محكيّ؛ لقصد لفظه.

وقوله: (وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ) مقول "قال بُكير"، والرجل لم أجد من سمّاه، والله تعالى أعلم (عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ) الظاهر أنه عبد الله بن حنين الهاشميّ مولاهم المدنيّ الثقة، مات في أول خلافة يزيد بن عبد الملك، في أول المائة الثانية، وتقدّمت ترجمته في "الصلاة" (42/ 1081). (أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ) أي الرجل الذي إحدى يديه طُبْيُ شاة، أو حَلَمة ثَدْي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 2468](1066)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 160)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 149 و 150)، و (ابن أبي شيبة)

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 60.

ص: 285

في "مصنّفه"(7/ 556 و 557 و 562)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6939)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 134)، و (الفسَوِيّ)(3/ 391 - 392)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 171 و 184) و"المعرفة"(6/ 286)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} .

(47) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الْخَوَارجَ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2469]

(1067) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرًّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي، أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدَّينِ، كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ"، فَقَالَ ابْنُ الصَّامِتِ: فَلَقِيتُ رَافِعَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، أَخَا الْحَكَمِ الْغِفَارِيَّ، قُلْتُ: مَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي ذَرٍّ؟، كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القَيْسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ

(1)

[7](ت 165)(ع)

(2)

تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

3 -

(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) الْعَدَويّ، أبو نصر البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](تع) تقدم في "الحيض" 21/ 791.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّامِتِ) الغفاريّ البصريّ، ابن أخي أبي ذرّ

(1)

قال ابن معين رحمه الله: ثقةٌ ثقةٌ مكرّراً.

(2)

أخرج له البخاريّ مقروناً، وتعليقات. اهـ. "ت" ص 136.

ص: 286

الغفاريّ رضي الله عنه، ثقةٌ [2

(1)

]، مات بعد السبعين (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 52/ 1142.

5 -

(أَبُو ذَرًّ) الغفاريّ، جندب بن جُنادة على الأصحّ، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدراً، مات سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصّنف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، وعبد الله بن الصامت علّق له البخاريّ، وأخرج له الباقون.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، وشيبان أُبُليّ، وهي من قرى البصرة، وأبو ذرّ رضي الله عنه مدنيّ، ثم رَبَذيّ، وهي قرية قريبة من المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: حميد، عن ابن الصامت، وهو روى عن عمّه أبي ذرّ رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ) الغفاريّ رحمه الله (عَنْ) عمّه (أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنَادة رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَعْدِي) أي بعد موتي (مِنْ أُمَّتِي، أَوْ) للشكّ من الراوي (سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ) هكذا بالرفع في رواية المصنّف على أنه اسم "يكون" مؤخّراً، والظرف قبله خبرها، وفي رواية ابن ماجه: "قَوْماً" بالنصب على أنه اسم "إنّ" مؤخّراً، وخبرها الظرف "بعدي"، و"من أمتي" متعلّق بحال مقدّر (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ) بالياء، وتُحذف تخفيفاً، جمع: حُلْقُوم، بضم الحاء المهملة، واللام، وهو الْحَلْق، وميمه زائدة

(2)

. (يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) قال ابن

(1)

جعله في "التقريب" من الثالثة، والظاهر أنه من الثانية؛ لأنه يروي عن عمر وعثمان رضي الله عنه، ومات بين السبعين والثمانين، فتأمل، والله تعالى أعلم.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 146.

ص: 287

الأثير: "الرمِيّة": الصيد الذي تَرميه، فتقصده، ويَنفُذ فيه سَهْمُك، وقيل: هي كلُّ دابّة مَرْمِيَّة. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ) أي لا يرجعون إلى الدين (هُمْ شَرُّ) - بفتح الشين، ويجوز ضمها-: نقيض الخير، جمعه شُرُور، أفاده في "القاموس"، وفي رواية ابن ماجه:"شِرَارُ" بكسر الشين المعجمة، ولم أجد "الشرار" بمعنى الشرّ في كتب اللغة التي بين يديّ، وإنما هو بمعنى آخر، قال في "القاموس" ما حاصله:"الشِّرَار" كَكِتَاب، وجَبَلٍ: ما يتطاير من النار، واحدتها بهاء. انتهى. ولعل المراد هنا أنهم كشِرَار النار من حيث إلحاق الضرر بالأمة، والله تعالى أعلم. (الْخَلْقِ) أي الناس (وَالْخَلِيقَةِ) أي البهائم، وقيل: هما بمعنى، أراد بهما جميع الخلق، واحتجّ بهذا من قال بتكفيرهم، وتأوله الجمهور بان معناه هو شرّ المسلمين، ونحو ذلك، وبُعْدُه لا يخفى.

(فَقَالَ) عَبْدُ اللهِ (ابْنُ الصَّامِتِ: فَلَقِيتُ) بكسر القاف، يقال: لقِيته أَلْقاه، من باب تَعِب لُقِيًّا بالضمّ، والأصل على فُعُول، ولُقًى بالضمّ مع القصر، ولقاءً بالكسر مع المدّ والقصر، وكلُّ شيء استَقْبَل شيئاً، أو صادفه، فقد لقيه، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

. (رَافِعَ بْنَ عَمْرِو الْغِفَارِيَّ) يُكنى أبا جبير صحابيّ عِدَاده في أهل البصرة، رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عمران، وعبد الله بن الصامت، وأبو جُبير مولى أخيه الحكم بن عمرو، أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: قوله: (الْغِفَارِيِّ) - بكسر الفاء، وتخفيف الفاء -: نسبة إلى غِفَار بن مليك بن ضَمْرة بن بكر بن عبد مناة بن كنَانة، قاله في "اللبّ"

(3)

.

(أَخَا الْحَكَمِ الْغِفَارِيَّ) هو: الْحكم بْنِ عَمْرٍو بن مُجَدَّع، ويقال له: الحكم بن الأقرع، قال ابن سعد: صَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم تحوّل إلى البصرة، فنزلها، رَوَى عنه أبو الشعثاء، والحسن البصريّ، وابن سيرين، وأبو حاجب، وعبد الله بن الصامت، وأبو تميمة الْهُجَيميّ، والصحيح أن بينهما

(1)

"النهاية" 2/ 268.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 558.

(3)

"لبّ اللباب" 2/ 134.

ص: 288

دَلَجَة بن قيس، ولّاه زياد خُرَاسان، فسكن مروَ، ومات بها، وقال أوس بن عبد الله بن بُريدة، عن أخيه سَهْل، عن أبيه: إن معاوية وجّهه عاملاً على خُراسان، ثم عَتَبَ عليه في شيء، فأرسل عاملاً غيره، فحَبَسَ الحكم وقيّده، فمات في قيوده، قيل: مات سنة (45) وقال ابن ماكولا: سنة (50) وقال العسكريّ: سنة (51)، وذكر الحاكم أنه لَمّا ورد عليه كتاب زياد دعا على نفسه بالموت فمات، أخرج له البخاريّ، والأربعة، له عند المصنّف ذِكْرٌ في هذا الموضع فقط.

(قُلْتُ: مَا) استفهاميّة (حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي ذَرٍّ؟) وقوله: (كَذَا وَكَذَا) كناية عن الحديث، وهو خبر لمحذوف؛ أي هو كذا وكذا (فَدكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ) أي الذي سمعه من أبي ذرّ رضي الله عنه في الخوارج (فَقَالَ) رافعُ بن عمرو رضي الله عنه (وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي سمعت هذا الحديث في الخوارج منه صلى الله عليه وسلم، كما سمعه أبو ذرّ رضي الله عنه، فثبت بهذا أن هذا الحديث مما سمعه كلّ من أبي ذرّ، ورافع بن عمرو من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعه منهما عبد الله بن الصامت رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه المصنّف هنا [47/ 2469](1067)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(170)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(448)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 306)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 31 و 176)، و (الدارميّ) في "سننه"(2439)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(921 و 922)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6738)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4461)، و (الحاكم) في "مستدركه"(3/ 444) و (الضياء) في "المختارة"(7/ 16 - 17)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 134)، و (البيهقي) في "دلائل النبوّة"(6/ 429)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 289

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2470]

(1568) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ الشَّيْبَانِيَّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْخَوَارجَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ: "قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدَّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الهاشميّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سُليمان فَيْروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

4 -

(يُسَيْرُ- بْنُ عَمْرٍو) ويقال: ابن جابر الكوفيّ، ويقال: أسير، أبو الخباز العبديّ، ويقال: المحاربيّ، ويقال: الكنديّ، ويقال: القِتْبانيّ، ويقال: إنهما اثنان، أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن له رؤيةً، ثقةٌ [2].

روى عن عمر بن الخطاب، وعليّ، وابن مسعود، وسهل بن حُنيف، وسلمان الفارسيّ، وأبي مسعود الأنصاريّ.

ورَوى عنه ابنه قيس، وحُميد بن هلال، وأبو قتادة العدويّ، وأبو نَضْرة العبديّ، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وزُرارة بن أوفى، وأبو عمران الْجَوْنيّ، وغيرهم.

قال عليّ ابن المدينيّ: أهل البصرة يقولون: أسير بن جابر، وأهل الكوفة يقولون: أسير بن عمرو، وقال بعضهم: يسير بن عمرو، ونسبه ابن الكلبيّ في كندة، وقال أبو نعيم: كان عريفاً في زمن الحجاج، وقال شهاب بن خِرَاش، عن أبيه خِراش بن حَوْشب، عن يسير بن عمرو، وكان قد رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال العوّام بن حَوْشب: وُلِد في مهاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومات سنة

ص: 290

خمس وثمانين، وفيها أرَّخه ابن سعد، وقال أبو نعيم، عن عمرو بن قيس بن يُسَير، عن أبيه، عن جدّه: قُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن عشر سنين، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، وذكره العجليّ في "الثقات" من أصحاب عبد الله بن مسعود، وقال ابن حزم: أسير بن جابر ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1068) وأعاده بعده، و (1375) و (2542) وأعاده بعده، و (2899).

5 -

(سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ) بن واهب الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ المشهور، شَهِد بدراً، واستَخلفه عليّ رضي الله عنه على البصرة، ومات رضي الله عنه في خلافته (ع) تقدم في "الجنائز" 23/ 2225.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، ويُسير، كما أسلفته آنفاً.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو) وفي الرواية التالية: "أُسير بن عمرو"، وهو بضم الياء المثناة، من تحتُ، وفتح السين المهملة، والثاني مثله إلا أنه بهمزة مضمومة، وكلاهما صحيح، يقال: يُسير وأُسير، أنه (قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ) بالتصغير (هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْخَوَارجَ؟) جمع خارجة؛ أي الطائفة التي خرجت عن جماعة المسلمين، أو خرجت عن الإسلام، كما بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"يخرجون من الإسلام"(فَقَالَ: سَمِعْتُهُ، وَأَشَارَ) صلى الله عليه وسلم (بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) وفي رواية البخاريّ: "سمعته يقول، وأهوى بيده قِبَل المشرق"؛ أي أشار صلى الله عليه وسلم جهة المشرق إلى محلّ خروجهم، فإنهم خرجوا من العراق، في قرية

ص: 291

تُسمّى حروراء ("قَوْمٌ) خبر لمحذوف؛ أي هم قوم (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَعْدُو) أي لا يتجاوز القرآن (تَرَاقِيَهُمْ) أي حلوقهم (يَمْرُقُونَ مِنَ الدَّينِ) قال ابن بطال رحمه الله: المروق الخروج عند أهل اللغة، يقال: مَرَقَ السهم من الْغَرَض: إذا أصابه، ثم نَفَذَ منه، فهو يَمْرُق منه مَرْقاً ومُرُوقاً، وانمرق منه، وأمرقه الرامي: إذا فعل ذلك به، ومنه قيل للمَمْرق: ممرقٌ؛ لأنه يُخْرَج منه، ومنه قيل: مَرَق البرق؛ لخروجه بسرعة. انتهى.

(كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ") أي الغزالة، أو نحوها المرميّ إليها، زاد أبو عوانة في "صحيحه" من طريق محمد بن فُضيل، عن الشَّيبانيّ، قال: قال أسير: قلت: ما لهم علامة؟ قال: سمعت من النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا أزيدك عليه.

قال في "الفتح: وفي هذا أن سهل بن حُنيف صَرَّح بأن الحرورية هم المراد بالقوم المذكورين في أحاديث هذين البابين

(1)

، فَيُقَوِّي ما تقدّم أن أبا سعيد توقف في الاسم والنسبة، لا في كونهم المراد. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 2470 و 2471 و 2472) (1068)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(115)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 386)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 135)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

أراد البابين عند البخاريّ، وهما "باب قتل الخوارج إلخ"، و"باب من ترك قتال الخوارج إلخ"، فقد أورد في الباب الأول حديث عليّ، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي الباب الثاني حديث أبي سعيد، وحديث سهل بن حُنيف رضي الله عنه، وكلها هنا في "صحيح مسلم"، فتنبّه.

(2)

"الفتح" 16/ 194.

ص: 292

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2471]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوَامٌ").

رجال الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 237)(خت م دت) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقة [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

و (سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ) ذُكر قبله.

وقوله: (يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوَامٌ) أي من نحو المشرق.

[تنبيه]: رواية عبد الواحد، عن سليمان الشيبانيّ هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير" (6/ 91) فقال:

(5608)

- حدّثنا زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِيُّ، ثنا محمد بن عبد الْمَلِكِ بن أبي الشَّوَارِبِ (ح) وَحَدَّثَنَا محمد بن حَيَّانَ الْمَازِنِيُّ، ثنا محمد بن عُبَيْدِ بن حِسَابٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أبو حُصَيْنن الْقَاضِي، ثنا يحيى الْحِمَّانِيُّ، قالوا: ثنا عبد الْوَاحِدِ بن زِيَادٍ، ثنا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، ثنا يَسِيرُ بن عَمْرٍو، قال: قلت لِسَهْلِ بن حُنَيْفٍ: هل سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول في الْخَوَارجِ شيئاً؟ قال: سَمِعْتُهُ يقول -وَأَهْوَى بيده نحو الْعِرَاقِ-: "يَخْرُجُ بَيْنَهُمْ قَوْمٌ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2472]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ جَمِيعاً، عَنْ يَزِيدَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَن الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، مُحَلَّقَةٌ رُءُوسُهُمْ").

ص: 293

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(إِسْحَاقُ) بن إبراهيم

(1)

ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

3 -

(الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ) بن يزيد بن الحارث الشَّيبانيّ الرَّبَعيّ، أبو عيسى الواسطيّ، أسلم جدّه على يد عليّ رضي الله عنه، فوهب له جاريةً، فوَلَدت له حوشباً، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6].

رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، ومجاهد، وسعيد بن جُمْهان، وإبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكيّ، وسلمة بن كُهيل، وغيرهم.

وروى عنه ابنه سلمة، وابنا أخيه: عبد الله وشهاب، وشعبة، وسفيان بن حبيب، وهشيم، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عُبيد الطنافسي، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: ثقةٌ ثقةٌ، وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالحٌ، ليس به بأسٌ، وقال العجليّ: شيبانيّ من أنفسهم ثقةٌ، صاحب سنة، ثَبْتٌ صالح، رَوَى نحواً من مائتي حديث، وقال ابن سعد، عن يزيد بن هارون: كان صاحب أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان ثقة.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: ("يَتِيهُ قَوْمٌ) أي يذهبون عن الصواب، وعن طريق الحقّ، يقال: تاه: إذا ذهب، ولم يهتد لطريق الحقّ، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يتيه قوم قبل المشرق" أي يتحيّرون، ويذهبون في غير وجهٍ صحيحٍ، يقال: تاه الرجل: إذا ذهب في الأرض غير مُهتدٍ، ومنه تيه بني إسرائيل، وقوله:"المشرق" يدلّ على صحّة تأويل من تأوّل

(1)

[تنبيه]: وقع في برنامج الحديث هنا غلط، حيث ترجموا لإسحاق بن منصور، والصواب إسحاق بن إبراهيم، كما نصّ عليه في "تحفة الأشراف" 3/ 628.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 175.

ص: 294

قرن الشيطان بأنهم الخوارج، والفتن التي طَلَعت من هناك، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (مُحَلَّقَةً رُءُوسُهُمْ) مرفوع على أنه صفة لـ"قومٌ"، وَيحْتَمل أن يكون منصوباً على الحال، وهو بمعنى ما سبق:"سيماهم التحليق" وفي رواية: "التسبيد"، وهو بمعنى التحليق.

والتحليق سيما الخوارج، مخالف لعادة العرب في توفيرهم شُعورهم، وتفريقها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "محلّقةً رؤوسهم"، وفي حديث آخر:"سيماهم التحليق"؛ أي جَعَلوا ذلك علامةً لهم على رفضهم زينة الدنيا، وشِعاراً ليُعرَفوا به، كما يَفعل البعض من رُهبان النصارى يفحصون عن أوساط رؤوسهم، وقد جاء في وصفهم مرفوعاً:"سيماهم التسبيد"

(2)

؛ أي التحليق، يقال: سبّد رأسه: إذا حلقه، وهذا كلّه منهم جهلٌ بما يُزْهَد فيه، وما لا يُزهَد فيه، وابتداعٌ منهم في دين الله تعالى شيئاً كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، وأتباعهم على خلافه، فلم يُرْوَ عن واحد منهم أنهم اتّسمُوا بذلك، ولا حَلَقوا رؤوسهم في غير إحلال، ولا حاجة، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعرٌ، فتارةً فرقه، وتارةً صيَّره جُمّةً، وأخرى لِمّةً، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من كانت له شعرة، أو جُمّةٌ، فليُكرمها"

(3)

، وقد كَرِه مالك الحلق في غير إحرام، ولا حاجة ضروريّة. انتهى

(4)

.

وقال في "العمدة": قوله: "التحليق": هو إزالة الشعر، وقوله:"التسبيد" بالمهملة والباء الموحدة، وهو استيصال الشعر.

[فإن قلت]: يلزم من وجود العلامة وجود ذي العلامة، فكل محلوق الرأس منهم، لكنه خلاف الإجماع.

[قلت]: كان في عهد الصحابة رضي الله عنهم لا يحلقون رؤوسهم إلَّا في النسك،

(1)

"المفهم" 3/ 121.

(2)

رواه البخاريّ، وأبو داود.

(3)

حديث صحيح، رواه أبو داود بلفظ:"من كان له شعرٌ، فليُكرمه".

(4)

"المفهم" 3/ 122.

ص: 295

أو الحاجة، وأما هؤلاء فقد جعلوا الحلق شعارهم، ويَحْتَمِل أن يراد به حلق الرأس واللحية، وجميع شعورهم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} .

(48) - (بَابُ تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى آلِهِ)

(2)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج صلى الله عليه وسلم المذكور أولَ الكتاب قال:

[2473]

(1069) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ زِيادٍ، سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ").

رجال هذا الإاسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنٌ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الحجة الناقد الْجِهْبِذ الواسطيّ، ثم البصريّ [7](ت 160) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

(1)

"عمدة القاري" 25/ 201.

(2)

وقد ترجم النووي رحمه الله بقوله: "بَاب تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى آلِهِ، وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِب، دُونَ غَيْرِهِمْ"، فقوله:"وهم بنو هاشم إلخ" هذا زاده مما فهمه من مذهبه، وليسَ في حديث الباب تفسير آله صلى الله عليه وسلم بهذا، وإن كان هو الصحيح من أقوال العلماء، كما سيأتي، إلا أنه لا ينبغي أن يُترجم به؛ لأن الترجمة لا بدّ أن تكون بما يطابق ظواهر الأحاديث التي يوردها المصنّف في الباب، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 296

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْجمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفاً.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374).

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ) أنه (سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ) رضي الله عنهما، وفي رواية معمر، عن محمد بن زياد، أنه سمع أبا هريرة، قال:"كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم تمراً من تمر الصدقة، والحسن في حجره"، أخرجه أحمد.

و"الحسن" هو: ابن عليّ بن أبي طالب، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، رَوَى عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبيه علي، وأخيه حسين، وخالة هند بن أبي هالة.

وروى عنه ابنه الحسن، وعائشة أم المؤمنين، وأبو الجوزاء ربيعة بن شيبان، وعبد الله وأبو جعفر ابنا علي بن الحسين، وجبير بن نُفير، وجماعة.

قال خليفة وغير واحد: وُلِد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وقال قتادة: وَلَدت فاطمة الحسن لأربع سنين وتسعة أشهر ونصف من الهجرة، وقال إسرائيل عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن عليّ: لَمّا وُلد الحسن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أروني ابني، ما سميتموه؟ " قلت: سميته حرباً، قال: "بل هو حسن

" الحديث، وبه عن عليّ قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك، وقال ابن أبي مليكة: أخبرني عقبة بن الحارث، قال: خرجت مع أبي

ص: 297

بكر من صلاة العصر، بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بليال، وعلي يمشي إلى جنبه، فَمَرّ بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله على رقبته، وهو يقول: بأبي شبه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ليس شبيهاً بعلي، قال: وعلي يضحك، وقال ابن الزبير: أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن عليّ، قد رأيته يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فيركب ظهره، فما ينزل حتى يكون هو الذي ينزل، ويأتي وهو راكع، فيفرج له بين رجليه، حتى يخرج من الجانب الآخر، وقال معمر عن الزهريّ، عن أنس، كان الحسن بن عليّ أشبههم وجهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي جحيفة: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن عليّ يشبهه.

وقال معروف بن خَرَّبوذ، عن أبي جعفر: مات الحسن وهو ابن سبع أربعين سنةً، وقال: كذا قال خليفة بن خياط، وجماعة، زادوا: وكانت وفاته في سنة (49) وقيل: مات سنة 50 وقيل: سنة 51، وقيل: سنة 56، وقيل: سنة 58، وقيل: سنة 59.

روى له البخاريّ، في التعاليق، والأربعة، وليس عند المصنّف إلا ذكر.

(تَمْرَةً) منصوب على أنه مفعول "أَخَذَ"(مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ) زاد أبو مسلم الكجيّ، من طريق الربيع بن مسلم، عن محمد بن زياد:"فلم يَفْطَن له النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قام، ولعابه يسيل، فضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم شِدْقه"، وفي رواية معمر:"فلما فرغ حمله على عاتقه، فسال لعابه، فرفع رأسه، فإذا تمرة في فيه".

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كِخْ كِخْ) بفتحٍ الكاف، وكسرها، وسكون المعجمة، مُثَقَّلاً، ومُخَفَّفاً، وبكسر الخاء منونةً، وغير منونة، فيخرج من ذلك ست لغات، والثانية توكيد للأولى، وهي كلمةٌ تقال لِرَدْع الصبيّ عند تناوله ما يُستقذَر، قيل: عربيةٌ، وقيل: أعجميةٌ، وزعم الداوديّ أنها مُعَرَّبة، وقد أوردها البخاريّ في "بابُ من تكلم بالفارسية"، والمعنى هنا: اتركه، وارمِ به، كما قال:(ارْمِ بِهَا) أي بالتمرة (أَمَا عَلِمْتَ) وفي رواية البخاريّ: "أما شَعَرت"، قال في "العمدة": هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم، ونحوه، وإن لم يكن المخاطَب عالِماً به؛ أي كيف خَفِيَ عليك مع ظهور تحريمه؟ وهذا أبلغ في الزجر عنه بقوله: لا تفعله.

ص: 298

[فإن قلت]: رَوَى أحمد من رواية حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد:"فنظر إليه، فإذا هو يلوك تمرةً، فحرك خَدَّه، وقال: ألقها يا بُنَيّ، ألقها يا بُنَيّ"، فما التوفيق بينه وبين قوله:"كخ كخ"؟.

[قلت]: هو أنه كلّمه أوّلاً بهذا، فلما تمادى قال:"كخ كخ" إشارةً إلى استقذار ذلك، ويَحْتَمِل العكس بأن يكون كلَّمه أوّلاً بذلك، فلما تمادى نَزَعها من فيه

(1)

.

قال: والحكمة في تحريمها عليهم، أنها مُطَهِّرة للْمُلّاك، ولأموالهم، قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية [التوبة: 103]، فهي كغسالة الأوساخ، وأن آل محمد صلى الله عليه وسلم منزهون عن أوساخ الناس، وغسالاتهم، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس"، رواه مسلم.

وإما أن أخذها مَذَلَّة، ويد الآخذ هي اليد السفلى، ولا يليق بهم الذلّ والافتقار إلى غير الله تعالى، ولهم اليد العليا.

وإما لأنها لو أخذوها، لطال لسان الأعداء بأن محمداً يدعونا إلى ما يدعونا إليه؛ ليأخذ أموالنا، ويعطيها لأهل بيته، قال تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} الآية [الأنعام: 9]، و [الشورى: 23]، ولهذا أمر أن تُصْرَف إلى فقرائهم في بلدهم. انتهى

(2)

.

(أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ") بفتح همزة "أنّا" لسدّها مسدّ معمولي "عَلِمتَ"، وفي الرواية التالية:"إنا لا تحل لنا الصدقة"، وفي رواية معمر:"إن الصدقة لا تحل لآل محمد"، وكذا عند أحمد، والطحاويّ، من حديث الحسن بن عليّ نفسه، قال:"كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ على جَرِين من تمر الصدقة، فأخذتُ منه تمرةً، فألقيتها في فيّ، فأخذها بلعابها، فقال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة"، وإسناده قويّ، وللطبرانيّ، والطحاويّ من حديث أبي ليلى الأنصاريّ نحوه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"عمدة القاري" 9/ 86، و"الفتح" 4/ 346 - 347.

(2)

"عمدة القاري" 9/ 86.

ص: 299

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 2473 و 2474 و 2475، (1069)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1485 و 1492) و"الجهاد"(3072)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6940)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2482)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 214)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 279 و 406 و 409 و 410 و 444 و 476)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 386 - 387)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 194)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3294)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 143)، و (ابن رأهويه) في "مسنده"(1/ 129)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 135)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 29)، و (البغويّ) في (شرح السنّة" (1605)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله.

2 -

(ومنها): دفع الصدقات إلى الإمام، والانتفاع بالمسجد في الأمور العامّة.

3 -

(ومنها): جواز إدخال الأطفال المساجد، وتأديبهم بما ينفعهم، ومنعهم مما يضرّهم، ومن تناول المحرمات، وإن كانوا غير مكلفين؛ ليتدربوا بذلك.

4 -

(ومنها): أن بعضهم استنبط منه منع وليّ الصغيرة إذا اعتَدَّت من الزينة.

5 -

(ومنها): أن فيه الإعلامَ بسبب النهي، ومخاطبة من لا يُمَيِّز لقصد إسماع من يميز؛ لأن الحسن إذ ذاك كان طفلاً، وأما قوله:"أما عَلِمتَ؟ "، وفي رواية البخاريّ في "الزكاة":"أما شَعَرتَ؟ "، وفي رواية له في "الجهاد":"أما تعرف"، فهو شيء يقال عند الأمر الواضح، وإن لم يكن المخاطب بذلك عالِماً؛ أي كيف خفي عليك هذا مع ظهوره؟ وهو أبلغ في الزجر من قوله: "لا

ص: 300

تفعل"، أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بآل النبيّ صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة:

قال النوويّ رحمه الله: مذهب الشافعيّ وموافقيه أن آله صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم، وبنو المطلب، وبه قال بعض المالكية.

وقال أبو حنيفة، ومالك: هم بنو هاشم خاصّة، قال القاضي عياض: وقال بعض العلماء: هم قريش كلُّها، وقال أصبغ المالكيّ: هم بنو قُصَيّ.

دليل الشافعيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد"، وقسم بينهم سهم ذوى القربى. انتهى

(2)

.

قال: وأما صدقة التطوع: فللشافعيّ فيها ثلاثة أقوال: أصحها أنها تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحل لآله.

والثاني: تحرم عليه وعليهم.

والثالث: تحلّ له ولهم.

وأما موالي بني هاشم، وبني المطلب، فهل تحرم عليهم الزكاة؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما تحرم؛ للحديث الذي ذكره مسلم بعدَ هذا، حديثِ أبي رافع، والثاني: تحلّ، وبالتحريم قال أبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وبعض المالكية، وبالإباحة قال مالك، وادَّعَى ابن بطال المالكيّ أن الخلاف إنما هو في موالي بني هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالإجماع، وليس كما قال، بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على موالي بني هاشم وبني المطلب، ولا فرق بينهما، والله أعلم. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": المراد بالآل هنا بنو هاشم وبنو المطلب على الأرجح من أقوال العلماء، قال الشافعيّ: أشركهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في سهم ذوي القربى، ولم

(1)

"الفتح" 4/ 347 كتاب "الزكاة" رقم (1491).

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 176.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 176.

ص: 301

يعط أحداً من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عِوَض عُوِّضُوه بدلاً عما حُرِموه من الصدقة، وعن أبي حنيفة، ومالك: بنو هاشم فقط، وعن أحمد في بني المطلب روايتان، وعن المالكية فيما بين هاشم، وغالب بن فهر قولان، فعن أصبغ منهم هم بنو قُصَيّ، وعن غيره بنو غالب بن فهر.

وقال الأمير الصنعانيّ رحمه الله: الأقرب في المراد بالآل ما فسّرهم زيد بن أرقم عند مسلم في "المناقب" في قصّة طويلة بأنهم آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عَقِيل، قال: ويُزاد آل الحارث بن عبد المطّلب؛ لحديث عبد المطّلب بن ربيعة الذي يأتي بعد هذا، فهذا تفسير الراوي، وهو مقدّم على تفسير غيره، فالرجوع إليه في تفسير آل محمد صلى الله عليه وسلم هنا هو الظاهر؛ لأن لفظ الآل مشترك، وتفسير راويه دليل على المراد منه، وكذلك يدخل في تحريم الزكاة عليهم بنو المطّلب بن عبد مناف، كما يدخلون معهم في قسمة الخمس، كما يفيده حديث جبير بن مطعم، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفّان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطّلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما بنو المطّلب وبنو هاشم شيء واحد"، أخرجه البخاريّ، قال الأمير: هذا الحديث دليلٌ على أن بني المطّلب يشاركون بني هاشم في سهم ذوي القربى، وتحريم الزكاة أيضاً دون من عداهم، وإن كانوا في النسب سواءً، وعلّله صلى الله عليه وسلم باستمرارهم على الموالاة، "فإنهم لم يفارقونا في جاهليّة، ولا إسلام"، فصاروا كالشيء الواحد في الأحكام، وهو دليلٌ واضح، وإليه ذهب الشافعيّ رحمه الله.

وخالفه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية، فقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم أعطى بني المطّلب على جهة التفضيل، لا الاستحقاف، وهو خلاف الظاهر، بل قوله:"شيء واحد" دليل على أنهم يشاركونهم في استحقاق الخمس، وتحريم الزكاة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من سوق الأقوال وأدلتها أن ما ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله من أن المراد بالآل الذين تحرم عليهم الزكاة هم بنو هاشم، وبنو المطّلب هو الراجح؛ لقوة حجّته، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 302

(المسألة الخامسة): ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلّ لنا الصدقة" يعمّ صدقة الفرض والتطوّع، وهو الحقّ.

قال في "الفتح": كان يحرم على النبيّ صلى الله عليه وسلم صدقة الفرض والتطوع، كما نَقَل فيه غير واحد منهم الخطابي الإجماع، لكن حَكَى غير واحد عن الشافعيّ في التطوع قولاً، وكذا في رواية عن أحمد، ولفظه في رواية الميمونيّ: لا يحل للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته صدقة الفطر، وزكاة الأموال، والصدقة يصرفها الرجل على محتاج، يريد بها وجه الله، فأما غير ذلك فلا، أليس يقال: كلُّ معروف صدقة؟، قال ابن قدامة: ليس ما نُقِل عنه من ذلك بواضح الدلالة، وإنما أراد أن ما ليس من صدقة الأموال، كالقرض، والهدية، وفعل المعروف، كان غير محرَّم.

وقال الماورديّ: يحرم عليه كل ما كان من الأموال متقوَّماً، وقال غيره: لا تحرم عليه الصدقة العامّة، كمياه الآبار، وكالمساجد.

واختُلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه صلى الله عليه وسلم دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو كلّهم سواء في ذلك؟

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أنهم في ذلك مثله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علّل تحريمها بكونها أوساخ الناس، وظاهر هذا يقتضي دخولهم في التحريم، فتأمله.

وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"(4/ 60 - 61): (75)"باب ذكر الدليل على أن الصدقة المحرمة على النبيّ صلى الله عليه وسلم هي الصدقة المفروضة التي أوجبها الله في أموال الأغنياء لأهل سهمان الصدقة، دون صدقة التطوع، والدليل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما قال: "إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" أي الصدقة التي هاج هذا الجوابَ، ومن أجلها قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه المقالة.

(2350)

- قال أبو بكر في خبر أبي رافع: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من مخزوم على الصدقة، قال: اصحبني، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما بعثت المخزوميّ

(1)

"الفتح" 4/ 345 - 346 كتاب "الزكاة" رقم (1491).

ص: 303

على أخذ الصدقة الفريضة، فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي رافع:"إنا لا تحل لنا الصدقة" كان جواباً على الصدقة التي كان الجواب من أجلها.

(2351)

- وفي خبر الحسن بن عليّ: أخذت تمرة من تمر الصدقة، إنما كان ذلك التمر من العشر، أو من نصف العشر الصدقة التي يجب في التمر.

(2352)

- وفي خبر عبد المطلب بن ربيعة، ومصيره مع الفضل بن عباس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومسألتهما إياه استعمالهما على الصدقة، وإعلام النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهما أن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، ولا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، وإنما كانت مسألتهما استعمالهما على الصدقات المفروضات، فقوله صلى الله عليه وسلم في إجابته إياهما:"إن هذه الصدقة - أي التي سألتهماني أستعملكما عليها -إنما هي أوساخ الناس، ولا تحل لمحمد، ولا لآل محمد".

(76)

" باب ذكر الدلائل الأخرى على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أراد بقوله: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد" صدقة الفريضة دون صدقة التطوع".

(2353)

- قال أبو بكر: في خبر عروة، عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال"، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم قد خبّر أن لآله أن يأكلوا من صدقته؛ إذ كانت صدقته ليست من الصدقة المفروضة.

وفي خبر حُذيفة، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن يزيد الخطميّ رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كل معروف صدقة"، فلو كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أراد بقوله:"إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" تطوعاً وفريضةً، لم تحل أن تصطنع إلى أحد من آل محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم معروفاً؛ إذ المعروف كله صدقة بحكم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو كان كما توهّم بعض الجهال، لَمَا حَلّ لأحد أن يُفرخ من إنائه في إناء أحد، من آل النبيّ صلى الله عليه وسلم ماء؛ إذ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أعلم أن إفراغ المرء من دلوه في إناء المستسقي صدقةٌ، ولَمَا حَلّ لأحد من آل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينفق على أحد من عياله إذا كانوا من آله؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد خبّر أن نفقة المرء على عياله صدقة.

(2354)

- حدّثنا الحسين بن الحسن، أخبرنا المقفيّ عبد الوهاب، حدّثنا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميريّ، قال: حدّثني ثلاثة من بني سعد بن أبي وقاص، كلهم يحدّثه عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 304

دخل على سعد، يعوده بمكة، قال: فبكى سعد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك؟ " قال: خشيت أن أموت بأرضي التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خَوْلة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً"، فقال: يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً، وإنما ترثني بنت، أفأوصي بمالي كلِّه؟ قال:"لا" قال: فالثلثين؟ قال: "لا"، قال: فالنصف؟ قال: "لا"، قال: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير، إن صدقتك من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك لك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من طعامك لك صدقة، وإنك إن تَدَع أهلك بخير، أو قال بعيش، خيرٌ لك من أن تَدَعهم عالةً، يتكففون"، وقال بيده. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الإمام ابن خزيمة رحمه الله بما ساقه من الأدلّة، وأفاد، وحاصله أن الصدقة المحرّمة على آل النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله هي صدقة الفريضة، دون التطوّع؛ للأدلة المذكورة، فتبصّر، با لإنصاف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): هل يَلتحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم آله في تحريم الصدقة مطلقاً أم لا؟:

قال ابن قُدامة رحمه الله: لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم أنه لا تحل لهم الصدقة المفروضة، كذا قال، وقد نقل الطبريّ الجواز أيضاً عن أبي حنيفة، وقيل عنه: يجوز لهم إذا حُرِمُوا سهم ذوي القربى، حكاه الطحاويّ، ونقله بعض المالكية عن الأبهريّ منهم، وهو وجه لبعض الشافعية، وعن أبي يوسف: يَحل من بعضهم لبعض، لا من غيرهم، وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه، وأدلة المنع ظاهرةٌ من حديث الباب، ومن غيره، ولقوله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الآية [الفرقان: 57]، ولو أحلّها لآله لأوشك أن يَطعنوا فيه، ولقوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآية [التوبة: 103].

وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما هذه الصدقة أوساخ الناس"، كما رواه مسلم، ويؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض، وهو قول أكثر الحنفية، والمصحح عند الشافعية، والحنابلة. وأما عكسه، فقالوا: إن الواجب حقّ لازمٌ، لا يَلحق بأخذه ذِلَّةٌ، بخلاف التطوع.

ص: 305

ووجه التفرقة بين بني هاشم وغيرهم، أن موجب المنع رفع يد الأدنى على الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أر لمن أجاز مطلقاً دليلاً، إلا ما تقدم عن أبي حنيفة رحمه الله. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في المسألة السابقة ترجيح القول بأن صدقة التطوّع لا تحرم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا على آله، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2474]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعاً عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "إِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميمي النيسابوري، ثقة ثبت إمام [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

4 -

(وَكِيعُ) بن الجًرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

وشُعْبَةُ" ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَالَ: "إِنَّا لَا تَحِلُّ

إلخ) فاعل "قال" ضمير وكيع.

[تنبيه]: رواية وكيع، عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 476) فقال:

(10176)

- حدّثنا عبد اللهِ، حدّثني أبي، ثنا وَكِيعٌ، ثنا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدِ بن زِيَادٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَأَى الْحَسَنَ بن عليّ، أَخَذَ تَمْرَةً

(1)

"الفتح" 4/ 346.

ص: 306

من تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَلَاكَهَا في فيه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كِخْ كِخْ - ثَلَاثاً- إنا لَا تَحِلُّ لنا الصَّدَقَةُ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2475]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مُعَاذٍ:"أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ) بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 252)(ع) 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيًّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: أما رواية محمد بن جعفر، عن شعبة، فقد ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله، في "صحيحه" (3/ 1118) فقال:

(2907)

- حدّثنا محمد بن بَشَّارٍ، حدّثنا غُنْدَرٌ، حدّثنا شُعْبَةُ، عن مُحَمَّدِ بن زَيادٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْحَسَنَ بن عَلِيٍّ، أَخَذَ تَمْرَةً من تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا في فيه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بِالْفَارِسِيَّةِ:"كِخْ كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ". انتهى.

وأما رواية ابن أبي عديّ، عن شعبة، فلم أر من ساقها، فليُنظر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 307

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2476]

(1070) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولٍ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، ثُمَّ أَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تُكُونَ صَدَقَةً، فَأُلُقِيهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السَّعْديّ مولاهم، أبو جعفر المصريّ، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م دق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصري، ثقة ثبت حافظ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(عَمْرُو) بن الحارث المصريّ، تقدّم في الباب الماضي أيضاً.

4 -

(أَبُو يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) سُليم بن جُبير الدوسيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وأبي يونس، كما أسلفته آنفاً.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (إِنِّي لَأَنْقَلِبُ) أي أرجع (إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ) حال كونها (سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، ثُمَّ أَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا) هذا ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقّرات مُلْقًى في الطرقات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً؛ لخشية أن تكون من الصدقة

ص: 308

التي حُرِّمت عليه، لا لكونها مَرْميّة في الطريق فقط

(1)

.

(ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً) أي من جملة تمر الصدقة التي تولّى قسمتها، فسقطت تلك منها (فَأُلْقِيهَا") قال في "العمدة": بضم الهمزة، من الإلقاء، وهو الرمي، وقال الكرمانيّ:"فألقيها" بالرفع، لا غير؛ يعني أنه لا يجوز نصب الياء فيه؛ لأنه معطوف على قوله:"فأرفعها"، فإذا نُصِب ربما يُظَنّ أنه عطف على قوله:"أن تكون"، فيَفْسُدُ المعنى. انتهى

(2)

.

وقال المهلّب رحمه الله: إنما ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل التمرة تنزهاً عنها؛ لجواز أن تكون من تمر الصدقة، وليس على غيره بواجب أن يتبع الجوازات؛ لأن الأشياء مباحة، حتى يقوم الدليل على الحظر، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما أشكل أمره، ولا يُدْرَى أحلال هو أم حرام؟ واحتمل المعنيين، ولا دليل على أحدهما، ولا يجوز أن يُحكم على من أخذ مثل ذلك أنه أخذ حراماً؛ لاحتمال أن يكون حلالاً، غير أنا نَستحب من باب الورع أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فَعَل في التمرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم للنوّاس بن سمعان رضي الله عنه:"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطّلع فيه الناس"، رواه مسلم

(3)

.

وقال ابن عمر رضي الله عنه: لا يبلغ أحد حقيقة التقوى حتى يَدَعَ ما حاك في الصدور

(4)

.

وقال في "الفتح": قال المهلَّب رحمه الله: لعله صلى الله عليه وسلم كان يَقْسِم الصدقة، ثم

(1)

"الفتح" 6/ 244 كتاب "اللقطة" رقم (2431 و 2432).

(2)

"عمدة القاري" 12/ 274.

(3)

وأخرجه أحمد، والدارميّ من حديث وَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لِوَابِصَةَ: "جِئْتَ تَسْأَلُ عن الْبِرِّ والأثم؟ "، قال: قلت: نعم، قال: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ، فضَرَبَ بها صَدْرَهُ، وقال:"اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، يا وَابِصَةُ -ثَلَاثاً- الْبِرُّ ما اطْمَأَنَّتْ إليه النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إليه الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ ما حَاكَ في النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وإن أَفْتَاكَ الناس، وَأَفْتَوْكَ"، وهو حديث حسنٌ.

(4)

"عمدة القاري"11/ 171.

ص: 309

يرجع إلى أهله، فيعلق بثوبه من تمر الصدقة شيء، فيقع في فراشه، وإلا فما الفرق بين هذا، وبين أكله من اللحم الذي تُصُدِّق به على بريرة؟.

وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: لم ينحصر وجود شيء من تمر الصدقة في غير بيته، حتى يُحتاج إلى هذا التأويل، بل يَحْتَمِل أن يكون ذلك التمر حُمِل إلى بعض من يَستحق الصدقة، ممن هو في بيته، وتأخر تسليم ذلك له، أو حُمِل إلى بيته، فقسمه، فبقيت منه بقيّةٌ.

وقد رَوَى أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: تَضَوَّر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقيل له: ما أسهرك؟ قال: "إني وجدت تمرةً ساقطةً فأكلتها، ثم ذكرت تمراً كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة، أو من تمر أهلي؟ فذلك أسهرني".

قال: وهو محمول على التعدد، وأنه لَمّا اتفق له أكل التمرة كما في هذا الحديث، وأقلقه ذلك صار بعد ذلك إذا وَجَد مثلها مما يدخل التردد تركه؛ احتياطاً.

وَيحْتَمِل أن يكون في حالة أكله إياها كان في مقام التشريع، وفي حال تركه كان في خاصة نفسه.

وقال المهلّب رحمه الله: إنما تركها تورعاً، وليس بواجب؛ لأن الأصل أن كل شيء في بيت الإنسان على الإباحة، حتى يقوم دليل على التحريم، وفيه تحريم قليل الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ منه تحريم كثيرةا من باب أولَى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 2476 و 2477، (1070)، و (البخاريّ) في

(1)

"الفتح" 4/ 294.

ص: 310

"البيوع" معلّقاً (2055) و"اللقطة"(2431 و 2432)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6944)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 317 و 3/ 164)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3292)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 136) و"الحلية"(8/ 187)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 10)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 334 و 7/ 29)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1606)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، كثيرةا وقليلها، قال النوويّ رحمه الله: ظاهره يعمّ الفرض والنفل. انتهى.

قمال الجامع عفا الثه عنه: قد تقدّم بيان الخلاف، هل يعمّ التطوّع أم لا، وقد رجّحت القول بعدمه؛ لقوّة حجته، فتنبّه.

2 -

(ومنها): بيان أن أموال المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة، ويُتشاحّ في مثله، وأما التمرة، واللبابة من الخبز، أو التِّينة، أو الزبيبة، وما أشبهها فقد أجمعوا على أخذها، ورفعها من الأرض، وإكرامها بالأكل، دون تعريفها؛ استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"لآكلها"، وأنها مخالفة لحكم اللقطة.

3 -

(ومنها): أنه لا يجب على آخذها التصدق بها؛ لأنه لو كان سبيلها التصدق لم يقل النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لآكلها"، وفي "المدونة": يتصدق بالطعام تافهاً كان، أو غير تافه، أعجب إليّ؛ إذا خشي عليه الفساد بوطء، أو شبهة، وعن مطرِّف إذا أكله غَرِمُه، وإن كان تافهاً، وكلّه من الأقوال الساقطة؛ لأن هذا الحديث يُبطله، فقوله صلى الله عليه وسلم:"لآكلها"، أو "لأكلتها" صريح في ردّ هذه الأقوال ونحوها، فتبصّر بالإنصاف.

4 -

(ومنها): ما قاله في "الطرح": إن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي: "على فراشي" ظاهر في أنه ترك أخذها تورعاً؛ لخشية أن تكون صدقة، فلو لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفاً، فدَلّ على أن مثل ذلك يُمْلك بالأخذ، ولا يَحتاج إلى تعريف، لكن هل يقال: إنها لقطة رُخِّص في ترك تعريفها، أو ليست لقطةً؛ لأن اللقطة ما مِن شأنه أن يُتَمَلَّك دون ما لا قيمة له؟.

ص: 311

قال: وقد استَشْكَل بعضهم تركه صلى الله عليه وسلم التمرة في الطريق، مع أن الإمام يأخذ المال الضائع؛ للحفظ.

وأجيب باحتمال أن يكون أخذها كذلك؛ لأنه ليس في الحديث ما ينفيه، أو تركها عمداً؛ لينتفع بها مَن يجدها، ممن تَحِلّ له الصدقة، وإنما يجب على الإمام حفظ المال الذي يَعْلَم تطلع صاحبه له، لا ما جرت به العادة بالإعراض عنه؛ لحقارته والله أعلم. انتهى

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله في "الطرح" أيضاً: فيه استعمال الورع، وهو ترك الشبهات، فإن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال، ولهذا رفعها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليأكلها، ولا يُقْدِم إلا على ما يجوز له فعله، لكن ترجح عنده الورع، وهو تركها، ومثله قوله في حديث أنس رضي الله عنه الآتي بعده

قال: واستُدِلّ به على أن التمرة ونحوها من مُحَقَّرات الأموال، لا يجب تعريفها، بل يباح أكلها، والتصرف فيها في الحال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة، لا لكونها لقطةً، قال النوويّ: وهذا الحكم متّفَقٌ عليه، وعَلَّله أصحابنا وغيرهم بأن صاحبها لا يطلبها، ولا يبقى له فيها مطمع. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2477]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، أَوْ فِي بَيْتِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، أَوْ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأُلْقِيهَا").

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 35.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 35.

ص: 312

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ) الصنعانيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، أبو عروة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) الأبناويّ، أبو عُقبة الصنعانيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا

إلخ) فاعل "قال" ضمير همّام بن منبّه، والإشارة إلى مجموع من الأحاديث بين يديه، وقد تقدّم أن هذا الحديث من "صحيفة همّام بن منبّه المشهورة".

وقوله: (فَذَكَرَ أَحَادِيثَ) فاعل "ذَكَر" ضمير أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الجارّ والمجرور خبر مقدَّم، وقوله: "وقال

إلخ" مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لقصد لفظه.

وقوله: (أَوْ فِي بَيْتِي)"أو" هنا، وفي قوله:"أو من الصدقة" للشكّ من الراوي، والظاهر أنه من عبد الرزّاق؛ لأن البخاريّ أخرج الحديث من طريق ابن المبارك، عن معمر، فقال:"ساقطة على فراشي"، وقال:"أن تكون صدَقَةً"، ولم يشكّ، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2478]

(1071) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ تَمْرَةً، فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا").

ص: 313

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفِ) بن عمرو بن كعب الياميّ الكوفيّ القارئ، ثقةٌ فاضلٌ [5](ت 112) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.

4 -

(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، إلا شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل الكوفة، والصحابيّ سكن البصرة، وقد دخل الكوفة مرارًا.

4 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، وهو أيضًا من المعمّرين، فقد جاوز المائة.

شرح الحديث:

(عَنْ مَنْصُور) بن المعتمر، قال في "الفتح": قد صَرّح يحيى القطّان بالتحديث بين سفيان ومنصور، عند البخاريّ في "اللقطة" (عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ) بصيغة اسم الفاعل الضعّف (عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ تَمْرَةً) وفي الرواية التالية: "مَرّ بتمرة بالطريق

"، وفي رواية البخاريّ: "مَرّ بتمرة مسقوطة"، قال في "الفتح": قوله: "مسقوطة" كذا للأكثر، وفي رواية كريمة: "مُسْقَطةٍ" بضم أوله، وفتح القاف، قال ابن التيميّ: قوله: "مسقوطة" كلمة غريبة؛ لأن المشهور أن سَقَطَ لازم، والعرب قد تذكر الفاعل بلفظ المفعول، واستشهد له الخطابيّ بقوله تعالى:{كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] أي

ص: 314

آتيًا، وقال ابن التين:"مسقوطة" بمعنى ساقطة، كقوله:{حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] أي ساترًا، وقال ابن مالك في الشواهد: قوله: "مسقوطة" بمعنى مُسْقَطَةٍ، ولا فعل له، ونظيره مَرْقوق، بمعنى مُرَقّ؛ أي مُسْتَرَقّ، وعن ابن جني قال: وكما جاء مَفْعُول، ولا فعل له، جاء فِعْل ولا مفعول له، كقراءة النخعيّ:{عَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة: 71] بضم أولهما، ولم يجئ مصمومٌ؛ اكتفاء بأصمّ.

(فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأكَلْتُهَا") أي لولا مخافة كون هذه التمرة من تمر الصدقة التي لا يحلّ لي أكلها لأكلتها.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 2475 و 2476 و 2477](1071)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2055) و"اللقطة"(2431)، و (أبو داود) في (1651 و 1652)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 136)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 429)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 132 و 184 و 192 و 258 و 291)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 366)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 195)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2479]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْن مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِتَمْرَةٍ بِالطَّرِيقِ، فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ يمُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأكَلْتُهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة القرشىّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

ص: 315

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصلت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7] [ت 160) (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (مَرَّ بِتَمْرَةٍ بالطَّرِيقِ) فيه إشارة إلى أن هذه واقعة أخرى غير ما مرّ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فأجد التمرة ساقطة على فراشي"، فإنه صريح في كونه في البيت.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله فيما قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2480]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنسٍ: أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ تَمْرَةً، فَقَالَ: "لَوْلَا أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً

(1)

لَأكَلْتُهَا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(قَتَادَةَ) بن دِعامة، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وفي نسخة: "من الصدقة".

ص: 316

(49) - (بَابُ تَرْكِ اسْتِعْمَالِ آل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّدَقَةِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2481]

(1072) - (حَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثنَا جُوَيْرِيَةُ

(1)

، عَنْ مَالِكٍ، عَن الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبْدِ الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ، قَالَ: اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا: وَاللهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ، قَالَا لِي

(2)

وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَاهُ، فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ، جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِي بْنُ أَبي طَالِبٍ: لَا تَفْعَلَا، فَوَاللهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ، فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلَّا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا، فَوَاللهِ، لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ، قَالَ عَلِيٌّ: أَرْسِلُوهُمَا، فَانْطَلَقَا، وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ، فَقُمْنَا عِنْدَهَا، حَتَّى جَاءَ، فَأَخَذَ بِآذَانِنَا، ثُمَّ قَالَ:"أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ"، ثُمَّ دَخَلَ، وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَ: فَتَوَاكَلْنَا الْكَلَامَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أنتَ أَبَرُّ النَّاسِ، وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ، فَجِئْنَا، لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ، قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا، حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ، قَالَ: وَجَعَلَتْ زينَبُ تُلْمِعُ عَلَيْنَا

(3)

مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، أَنْ لَا تُكَلِّمَاهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِاَلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ -وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ- وَنَوْفَلَ بْنَ

(1)

وفي نسخة: "جويريةُ بن أسماء".

(2)

وفي نسخة: "قال لي وللفضل بن عباس".

(3)

وفي نسخة: "تُلمع إلينا".

ص: 317

الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، قَالَ: فَجَاءَاهُ، فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: "أنكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ" لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَأَنْكَحَهُ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ: "أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ"، لِي فَأَنْكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: "أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُس كَذَا وَكَذَا"، قَالَ الزُهْرِيُّ: وَلَمْ يُسَمِّهِ لِي).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت ا 23)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

2 -

(جُويرِيَةُ) -تصغير جارية- ابن أسماء بن عُبيد الضُّبَعي البصريّ، عمّ عبد الله الراوي عنه، صدوقٌ [7](173)(خ م د رضي الله عنه ق) تقدم في "الايمان" 7/ 390.

3 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ الإمام الحجة الثبت الفقيه [7](ت 197)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

4 -

(الزهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطلِبِ) هو: عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشميّ، أبو يحى المدنيّ، نُسب أبو إلى جدّه، ثقةٌ [3](ت 99)(خ م دس) تقدم في "صلاة المسافرين " 14/ 1668.

6 -

(عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ) بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ الصحابيّ، أمه أم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عليّ، وروى عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، ومحمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، على خلاف في ذلك كلِّه، قال ابن عبد البرّ: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، ولم يُغَيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه فيما عَلِمتُ، سكن المدينة، ثم انتَقَل إلى الشام في خلافة عمر، ومات في إِمْرة يزيد بن معاوية، سنة اثنتين وستين.

قال العسكريّ: هو المطلب بن ربيعة، هكذا يقول أهل البيت، وأصحاب الحديث يختلفون، فمنهم من يقول: المطلب بن ربيعة، ومنهم من يقول:

ص: 318

عبد المطلب، وقال أبو القاسم البغويّ: عبد المطلب، ويقال: المطلب، وقال أبو القاسم الطبرانيّ: الصواب المطلب، وذَكَر أنه تُوُفّي سنة (61) وفيها أرَّخه ابن أبي عاصم.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فبصريّان.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الزهريّ عن عبد الله بن عبد الله، ورواية الراوي عن عمّه، فجُويرية عمّ عبد الله بن محمد بن أسماء.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا هذا الحديث عند المصنّف، وأبي داود، والنسائيّ، راجع:"تحفة الأشراف"(6/ 505).

شرح الحديث:

(عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الله بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب) تقدّم أن أباه منسوب إلى جدّه (حَدَّثَه) أي حدّث ابنَ شهاب (أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ) تقدّم قول العسكريّ أنه المطلب بن ربيعة، هكذا يَقول أهل البيت، وأصحاب الحديث يختلفون، فمنهم من يقول: المطلب بن ربيعة، ومنهم من يقول: عبد المطلب، وقال أبو القاسم البغويّ: عبد المطلب، ويقال: المطّلب، وقال أبو القاسم الطبرانيّ: الصواب المطّلب (حَدَّثَهُ) أي حدّث عبد الله بن عبد الله بن الحارث، وقوله:(قَالَ) تفسير وبيان لـ"حدَّث"(اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ) هو والد عبد المطّلب (وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَلِبِ) رضي الله عنه، وهو عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم المتوفّى سنة (32) وتقدّمت ترجمته في "الإيمان" 13/ 159. (فَقَالَا: وَاللهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ، قَالَا لِي) ووقع في بعض النسخ:"قال لي" بالإفراد، والظاهر أنه غلطٌ؛ أي قالا هذا الكلام من أجلي (وَللْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) أي ومن أجل الفضل بن العبّاس رضي الله عنهما، وقوله:(إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "بعثنا"، فيكون قوله:"قالا لي إلخ" جملةً معترضَةً

ص: 319

(فَكَلَّمَاهُ) أي النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَأَمَّرَهُمَا) بتشديد الميم؛ أي ولّاهما (عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ) أي على السعاية في جمعها (فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ) أي السُّعاة الذين يجمعون الصدقات (وَأَصَابَا مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ) أي أجرة العمل (قَالَ) عبد المطّلب بن ربيعة (فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ) أي في تشاورهما ببعث الغلامين إليه صلى الله عليه وسلم (جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه، تقدّمِ الكلام فيه قبل بابين (فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ) أي ما تشًاورا فيه (فَقَال عَلِي بْنُ أَبِي طَالِب) رضي الله عنه (لَا تَفْعَلَا، فَوَاللهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ) إنما حلف؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أخبره بما يُفيدً ذلك، وفي رواية النسائيّ:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَستعمل منكم أحدًا على الصدقة"(فَانْتَحَاهُ) بالحاء المهملة: أي عرض له، وقَصَده، والنحو: القصد، ومنه علم النحو

(1)

. (رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ) المراد أنه أنكر عليه قوله هذا، كما أوضحه بقوله:(فَقَالَ) ربيعة (وَاللهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذه يمين وقعت من ربيعة على اعتقاده، فهي من قبيل اللغو. انتهى. (مَا تَصْنَعُ هَذَا) أي ما قلت هذا الكلام، وأبديت هذا الاعتراض (إِلَّا نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا) أي حسدًا منك لنا فيما نطلبه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال في "القاموس": نَفِسَ به، كفَرِحَ: ضَنَّ، وعليه بخير حَسَدَه، وعليه الشيءَ نَفَاسةً: لم يره أهلاً له. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ: النفاسة في الخير، ومنه قوله تعالى:{فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطفّفين": 26].

(فَوَاللهِ، لَقَدْ نِلْتَ) بكسر النون: أي أصبت، يقال: نال من عدوّه ينال، من باب تَعِبَ نَيْلاً: بلغ منه مقصوده، ونال من مطلوبه، ويتعدَّى بالهمزة إلى اثنين، فيقال: أنلته مطلوبه، فناله، فالشيءُ مَنِيلٌ

(3)

. (صِهْرَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم)"الصِّهْر" بكسر الصاد: القرابة، وحُرْمة الْخُتُونة، جمعه أَصهارٌ، وصُهَراءُ، وزوج بنت الرجل، وزوج أخته، والأَخْتان أصهارٌ أيضًا، قاله في "القاموس"

(4)

. (فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ) بكسر الفاء: أي ما حَسَدناك عليه، وما تمنّينا أن يكون لنا دونك (قَالَ عَلِى) رضي الله عنه (أَرْسِلُوهُمَا) أي الغلامين إليه صلى الله عليه وسلم؛ لتسمعوا ماذا يقول لهما

(1)

"المفهم" 3/ 126.

(2)

"القاموس" 2/ 255.

(3)

"المصباح" 2/ 632.

(4)

"القاموس" 2/ 74.

ص: 320

(فَانْطَلَقَا، وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية:"فألقى عليّ رداءه، ثم اضطجع عليه، وقال: أنا أبو الحسن القَرْم، والله لا أريم مكاني حتى يرجع إليكما ابناكما بِحَوْر ما بَعَثتما به"(قَالَ) عبد المطّلب (فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ، سَبَقْنَاهُ إِلَى الْحُجْرَةِ) بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم: الغُرفة، وحَظِيرة الإبل، والمراد هنا بيته (فَقُمْنَا عِنْدَهَا، حَتَّى جَاءَ) صلى الله عليه وسلم من المسجد (فَأَخَذَ بِآذَانِنَا) إيناسًا لهما، وإظهارًا لحته لهما (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ") أي ما تجمعناه في صدوركما، وكلُّ شيء جمعته فقد صَرَرته، ومنه صَرُّ الدراهم، وهو جمعها في الصُّرّة، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ما تُصرّران" هكذا هو في معظم الأصول ببلادنا، وهو الذي ذكره الْهَرَويّ، والمازرفي، وغيرهما، من أهل الضبط:" تُصَرِّرَانِ"- بضم التاء، وفتح الصاد، وكسر الراء، وبعدها راء أخرى- ومعناه: تجمعانه في صدوركما من الكلام، وكلُّ شيء جمعته، فقد صَرَرْته، ووقع في بعض النسخ:"تُسَرِّران" -بالسين- من السّرّ؛ أي ما تقولانه لي سِرًّا، وذكر القاضي عياض فيه أربع روايات: هاتين الثنتين، والثالثة "تُصْدِران" -بإسكان الصاد، وبعدها دال مهملة- ومعناه: ماذا ترفعان إليّ، قال: وهذه رواية السمرقنديّ، والرابعة "تُصَوِّران" -بفتح الصاد، وبواو مكسورة- قال: وهكذا ضبطه الحميديّ، قال القاضي: وروايتنا عن أكثر شيوخنا بالسين، واستبعد رواية الدال، والصحيح ما قدمناه عن معظم نسخ بلادنا، ورجّحه أيضًا صاحب "المطالع"، فقال: الأصوب "تُصَرِّران " بالصاد، والرائين. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ دَخَلَ) صلى الله عليه وسلم البيت (وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ) أي تبعناه في الدخول، وإنما لم يدخلا معه؛ تأدّبًا، بل ثبتٌ في رواية ابن خزيمة أنهما دخلا بعد الإذن، ولفظه:"ثم دخل، فأذن لي والفضل، فدخلنا"(وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زينَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) بن رَبَاب بن يَعْمُر بن صبرة بن مُرّة بن كثير بن غَنْم بن دودان بن أسد بن خزيمة، أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وأمها أُميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله يك صلى الله عليه وسلم، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، وقيل: سنة خمس، وكانت قبله

(1)

"المفهم" 3/ 136.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 178.

ص: 321

عند زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهي التي نزل فيها:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وكانت أول من مات من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم.

رَوَى عنها ابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش، ومولاها مذكور، وكلثوم بن المصطلق، وزينب بنت أبي سلمة ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأرسل عنها القاسم بن محمد.

قال الواقديّ: ماتت سنة عشرين، وصلى عليها عمر بن الخطاب، ورَوَى البخاريّ في "التاريخ الأوسط" من طريق عامر الشعبيّ أن عبد الرحمن بن أبزى أخبره، أنه صلى مع عمر على زينب بنت جحش، وكانت أول نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ماتت بعده.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1487): "لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تُحدّ على ميّتٍ

"، وأعاده بعده، و (2880): "لا إله إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب

"، وأعاده بعده.

(قَالَ) عبد المطّلب (فَتَوَاكَلْنَا الْكَلَامَ) أي فوّض بعضنا الكلام إلى بعض، يقال: وَكَلْتُ الأمر إليه وَكْلًا، من باب وَعَدَ، ووُكُولاً: فَوَّضتُهُ إليه، واكتفيتُ به، وَوَكَّلته توكيلًا، فتوكل: قَبِل الوِكالة، وهي بفتح الواو، والكسر لغةٌ، وتوكل على الله: اعتَمَد عليه، وؤَيقَ به، واتَّكَلَ عليه في أمره كذلك، والاسم: التُّكْلان بضم التاء، وتواكَلَ القومُ تَوَاكُلاً: اتَّكَل بعضهم على بعض، قاله في "المصباح"

(1)

.

والمعنى: أن كلًّا منهما فوّض الكلام إلى صاحبه، فكأنهما توقّفا قليلًا إلى أن بَدَرَ أحدهما، فتكلّم، كما بيّنه بقوله:(ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أنتَ أَبرُّ النَّاسِ) أفعل تفضيل من البِرّ، بالكسر، وهو الخير، والفضل، يقال: بَرّ الرجلُ يَبَرّ بِرًّا، وزانُ عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا، فهو بَرّ بالفتح، بارّ أيضًا: أي صادق، أو تقيّ، وهو خلاف الفاجر، ويقال: بَرِرْتُ والدي أَبَرّه بِرًّا، وبُرُورًا: أحسنتُ الطاعة إليه، ورَفَقتُ به، وتحرّيتُ محابّه، وتوقّيتُ مكارهه

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 670.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 43.

ص: 322

وفي رواية ابن خزيمة: "فتواكلنا الكلام قليلًا، ثم كلمته، أو كلمه الفضل، قد شكّ في ذلك عبد الله بن الحارث".

(وَأَوْصَلُ النَّاسِ) أي أكثر الناس صلة للرحم، وإنما قدّما هذا الكلام تمهيدًا لما يطلبانه، وتعطيفًا لجنابه صلى الله عليه وسلم حتى يقضي حاجتهما (وَقَدْ بَلَغْنَا النكَاحَ) أي الْحُلُم، فهو كقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6](فَجِئْنَا، لِتُؤَمِّرَنَا) بتشديد الميم، من التأمير: أي تجعلنا أميرين (عَلَى بَعْضِ هَذ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّيَ إِلَيْكَ) بالنصب عطفًا على "تؤمّرَ"(كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ) أي نُصيب أُجرة العمل مثلهم (قَالَ) عبد المطّلب (فَسَكَتَ) صلى الله عليه وسلم (طَوِيلًا) أي وقتًا طويلًا، ولعله انتظاراً للوحي، أو تفكيرًا فيما يُعوّضهما مما أراد أن يمنعهما منه.

وفي رواية ابن خزيمة: قال: فلما كلمناه بالذي أَمَرنا به أبوانا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ورفع بصره قِبَلَ سقف البيت حتى طال علينا أنه لا يرجع شيئًا حتى رأينا زينب تَلْمَعُ من وراء الحجاب بيديها ألا نعجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أمرنا ثم خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فقال لنا: "إن هذه الصدقة

".

(حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ) غاية لطول الوقت (قَالَ: وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ) بنت جحش رضي الله عنها (تُلْمِعُ عَلَيْنَا) وفي نسخة: "إلينا"، وهو بضم التاء، وإسكان اللام، وكسر الميم، ويجوز فتح التاء والميم، يقال: ألمع، ولمَعَ: إذا أشار بثوبه، أو بيده، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ: يقال: ألمع بثوبه، وبيده، وأومأ برأسه، وأومض بعينه؛ أي أشار. انتهى

(2)

.

وقال في "اللسان": لَمَعَ بثوبه، وسيفه لَمْعًا، وألمع: أشار، وقيل: أشار للإنذار، وهو أن يرفعه، وُيحرّكه؛ ليراه غيره، فيجيب إليه، ومنه حديث زينب:"تَلْمَعُ علينا من وراء الحجاب " أي تُشير بيدها. انتهى

(3)

.

(مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ) أي الحجاب الذي بينها وبينهما، وهذا فيه إشارة إلى

(1)

"شرح النووي" 7/ 179.

(2)

"المفهم" 3/ 128.

(3)

"لسان العرب" 8/ 324.

ص: 323

أن هذه القصّة وقعت بعد آية الحجاب؛ لأن آية الحجاب نزلت حين تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما هو مشهور في "الصحيحين"، وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه (أَنْ لَا تُكَلِّمَاهُ)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، كما في "الخلاصة":

وَعَدِّ لَازِمًا بحَرْفِ جَرِّ

وَإِنْ حُذِفْ فَالنَصْبُ لِلْمُنْجَرِّ

نَقْلًا وَفِي "أَنًّ " وَ"أَنْ " يَطَّرِدُ

مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"

وإنما قدّرنا حرف الجرّ؛ لأن لَمَعَ يتعدّى به، قال في "القاموس": لَمَع بالشي، كمَنَع: ذَهَب، وبيده: أشار. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عبد المطّلب (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّ الصَّدَقَةَ) أي أنواع الزكاة، وأصناف الصدقات (لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ) قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على أنها محرَّمة، سواء كانت بسبب العمل، أو بسبب الفقر والمسكنة، وغيرهما من الأسباب الثمانية، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وجَوّز بعض أصحابنا لبني هاشم، وبني المطلب العمل عليها بسهم العامل؛ لأنه إجارة، وهذا ضعيفٌ، أو باطلٌ، وهذا الحديث صريحٌ في ردّه. انتهى

(2)

.

وقوله: (إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ) الجملة خبر لقوله: "هذه"، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30]، فلا يُحتاج إلى تقدير خبر، كما اختاره ابن حجر، ولا إلى القول بأنها بدل مما قبلها، وبأنها زائدة، ونحوها، قاله القاري رحمه الله

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه تنبيهٌ على العِلّة في تحريمها على بني هاشم، وبني المطلب، وأنها لكرامتهم، وتنزيههم عن الأوساخ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم، كما قال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الآية [التوبة: 103]، فهي كغُسَالة الأوساخ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كانت الصدقة كذلك؛ لأنها تطهّرهم من البخل، وأموالَهم من إثم الكنز، فصارت كماء الغُسالة التي تُعاب.

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 82.

(2)

"شرح النوويّ " 7/ 179.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 289.

ص: 324

قال: ومساقُ الحديث والتعليل يقتضي أنها لا تحلّ لأحد من آل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا عاملين عليها، وهو رأي الجمهور، وقد ذهب إلى جوازها لهم إذا كانوا عاملين عليها أبو يوسف، والطحاويّ، والحديث ردّ عليهم. انتهى

(1)

.

وقال الزرقانيّ: قوله: "إنما هي أوساخ الناس"؛ أي وهم منزهون عن ذلك؛ صيانةً لمنصبهم؛ لأنها تنبئ عن ذُلّ الآخذ، وعزّ المأخوذ منه؛ لحديث:"اليد العليا خير من اليد السفلى"، وأُبدلوا بالفيء المأخوذ على سبيل القهر والغلبة المنبئ عن عز الآخذ، وذل المأخوذ منه.

وتَعَقّب ابن الْمُنَيِّر هذا التعليل بأنها مَذَلّة بأن مقتضاه تحريم الهبة لهم، ولا قائل به، ولأن الواهب له أيضًا اليد العليا، وقد جاء في بعض الطرق:"اليد العليا هي المعطية"، وهي المتصدقة، فيدخل الهبات. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الأولى في التعليل ما ذُكر في هذا الحديث من كونها أوساخ الناس، فتأمل، والله تعالى أعلم.

وقال الباجيّ: لأنها تُطهِّر أموالهم، وتُكَفِّر ذنوبهم، والأصح عند المالكية، والشافعية، أن المحرَّم عليهم صدقة الفرض، دون التطوع؛ لقول جعفر بن محمد، عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له: أتشرب من الصدقة؛ فقال: إنما حُرِّم علينا الصدقة المفروضة، رواه الشافعيّ، والبيهقيّ.

قال الباجيّ: محل حرمة الفرض ما لم يكونوا بموضع يُستباح فيه أكل الميتة. انتهى

(2)

.

[فإن قيل]: كيف أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم الصدقة لأمته، وقد أخبر أنها أوساخ الناس، ولذا حرّمها عليه، وعلى آل بيته؟.

[أجيب]: بأنه إنما أباحها للضرورة، فلذا جاءت النصوص الكثيرة في النهي عن سؤالها، فينبغي للحازم أن لا يراها مباحة إلا للضرورة، فلا يتوسّع فيها، بل يتناول منها للحاجة الملحّة، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "المفهم" 3/ 128.

(2)

"شرح الزرقاني" 4/ 550.

ص: 325

(ادْعُوَا) فعل أمر للاثنين، من دعا يدعو (لِي مَحْمِيَةَ") -بميم مفتوحة، ثم حاء مهملة ساكنة، ثم ميم أخرى مكسورة، ثم ياء مخففة- على وزن مَفْعِلة، من حَمَيتُ المكان أَحْميه، وهو ابن جَزْء -بجيم مفتوحة، ثم زاي ساكنة، ثم همزة- بوزن كَلْب، هذا هو الأصح، قال القاضي عياض: هكذا يقوله عامّة الحفاظ، وأهل الإتقان، ومعظم الرواة، وقال عبد الغنيّ بن سعيد: يقال: جَزِي بكسر الزاي؛ يعني وبالياء، قال النوويّ: وكذا وقع في بعض النسخ في بلادنا، قال القاضي: وقال أبو عبيد: هو عندنا جَزّ مشدد الزاي

(1)

.

وقال في "الإصابة: "مَحْمِيَةُ": -بفتح أوله، وسكون ثانية وكسر ثالثه، ثم تحتانيّة مفتوحة- ابن جَزْء -بفتح الجيم، وسكون الزاي، ثم همزة- ابن عبد يغوث الزُّبَيْديّ -بضم أوله- حَلِيف بني سهم من قريش، كان قديم الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأخماس، ثبتٌ ذكره بذلك في "صحيح مسلم"، ثم ذَكر حديث الباب.

قال: وفي المغازي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استوهب من أبي قتادة جارية وَضِيئةً، فوهبها لمحمية بن جَزْء، قيل: إنه شَهِد بدرًا، فيما ذكر ابن الكلبيّ، وقال الوأقديّ: أول مشاهده الْمُرَيسِيع، وقال أبو سعيد بن يونس: شَهِد فتح مصر، ولا أعلم له رواية. انتهى

(2)

.

(وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ) أي كان مَحْمية رضي الله عنه واليًا على الخمس (وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حبان: له صحبة، وقال الزبير بن بكار: كان أسنّ من أسلم من بني هاشم، حتى من عمّيه حمزة والعباس، وقال ابن إسحاق: أُسِر نوفل يوم بدر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للعباس:"فادِ نفسك، وابني أخيك، نوفلًا، وعَقِيلاً"، ولما أسلم آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين العباس.

وأخرج ابن سعد من طريق إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه، قال: لَمّا أُسر نوفل يوم بدر، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "افْدِ نفسك برماحك التي

(1)

"المفهم" 3/ 128 - 129، و"الإكمال" 3/ 630، و"شرح النووي" 7/ 181.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 44.

ص: 326

بِجُدّة"، فقال: والله ما عَلِمَ أحد أن لي بِجُدّة رماحًا بعد الله غيري، أشهد أنك رسول الله، ففدى نفسه بها، وكانت ألف رُمْح.

قال الدارقطنيّ في كتاب "الإخوة": مات نوفل بن الحارث في خلافة عُمر لسنتين مضتا منها بالمدينة، ولم يُسند شيئًا، وقال ابن عبد البرّ: مات في أيام عمر، فمشى في جنازته

(1)

.

(قَالَ) عبد المطّلب (فَجَاءَاهُ) أي مَحْمية، ونوفل بن الحارث (فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ:"أنكِحْ) بقطع الهمزة؛ لأنه أمر أَنْكَحَ الرباعيّ، وقوله: (هَذَا الْغُلَامَ) مفعول أول، وقوله: (ابْنَتَكَ") مفعول ثان (لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) أي قال صلى الله عليه وسلم الكلام، ووجه هذه الإشارة لأجل الفضل بن عبّاس رضي الله عنهما (فَأَنكَحَهُ) أي أنكح محمية الفضل ابنته (وَقَالَ لِنَوْفَل بْنِ الْحَارِثِ:"أنكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ") وقوله: (لِي) أي قال هذا لأجلي (فَأَنَكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: "أَصْدِقْ) بقطع الهمزة أيضًا، من الإصداق؛ أي ادفع الصداق، وهو المهر، وفيه لغات، تقدّمت نظمًا.

وقوله: (عَنْهُمَا) متعلّق ب "أصدِقْ"، وكذا قوله:(مِنَ الْخُمُسِ) يَحْتَمِل أن يريد من سهم ذوي القربى من الخمس؛ لأنهما من ذوي القربى، وَيحْتَمِل أن يريد من سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس، قاله النوويّ

(2)

رحمه الله.

وقوله: (كَذَا وَكَذَا،) كناية عن عدد الصداق المدفوع عنهما (قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ يُسَمِّهِ لِي) أي لم يذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل الذي حدّثني بهذا الحديث عدد الصداق المدفوع. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 479.

(2)

"شرح النوويّ " 7/ 180.

ص: 327

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 2481 و 2482](1072)، و (أبو داود) في (الخراج والإمارة" (2985)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 105) و"الكنرى"(2/ 58)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 100)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 184 و 166)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2342 و 2343)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 137 - 138)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 280)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(5/ 54)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 149 و 7/ 31)، و (أبو عوانة) في "الزكاة"(2/ 141)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تجريم استعمال آل النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصدقة.

2 -

(ومنها): بيان تحريم الصدقة على آل النبيّ صلى الله عليه وسلم.

3 -

(ومنها): بيان العلة التي حُرّم عليهم من أجلها، وهي كونها من أوساخ الناس.

4 -

(ومنها): أنه يستحبّ للعالم إذا استفتي أن يُفتي بذكر الدليل، وبيان علة الحكم، حتى يفهم المستفتي حقيقة المسألة.

5 -

(ومنها): بيان أن الغنيمة من أطيب المكاسب، حيث إن خمسة طاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وآل بيته.

6 -

(ومنها): بيان مشروعيّة السعي في تحصيل مُؤن النكاح.

7 -

إ ومنها): بيان اهتمام الوالد بتزويج ولده حتى يُحصّنه.

8 -

(ومنها): استحباب تقديم الثناء على الإمام بما هو أهله بين يدي المسألة.

9 -

(ومنها): فضل عليّ رضي الله عنه حيث كان أعلم بالمسألة دون هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم.

10 -

(ومنها): كمال أدب زينب رضي الله عنها حيث لمعت على الغلامين بعدم إعادة الكلام عليه صلى الله عليه وسلم، بل ينتظران ما يأتي من قبله صلى الله عليه وسلم إيجابًا أو سلبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 328

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2482]

(

) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ ابْنِ شِهَاب، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الهَاشِمِيِّ، أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ رَبيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: ائْتِيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَقَالَ فِيهِ: فَأَلْقَى عَلِيُّ رِدَاءَهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَنا أَبُو حَسَنٍ الْقَرْمُ، وَاللهِ لَا أَرِيمُ مَكَانِي، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْكُمَا ابْنَاكُمَا بِحَوْرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: ثُمَّ قَالَ لَنَا: "إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ"، وَقَالَ أَيْضًا: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ"، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْأَخْمَاسِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) الخزّاز الضرير، أبو عليّ المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10]، (ت 231)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله تقدّم قبل بابين.

3 -

(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في "صحيح مسلم " من رواية يونس، عن ابن شهاب، وسبق في الرواية التي قبل هذه، عن جُويرية، عن مالك، عن الزهريّ:"أن عبد الله بن عبد النه بن نوفل"، وكلاهما صحيح، والأصل هو رواية مالك، ونسبه في رواية يونس إلى جدّه، ولا يمتنع ذلك، قال النسائيّ: ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث عن

ص: 329

مالك إلا جويرية بن أسماء. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَا لِعَبْدِ الْمُطلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ

إلخ) فيه التفاتٌ؛ إذ الظاهر أن يقول: "قالا لي

إلخ".

وقوله: (وَسَاقَ الحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ) فاعل "ساق" ضمير يونس بن يزيد.

وقوله: (وَقَالَ: أنا أَبُو حَسَنٍ الْقَرْمُ) قال النوويّ رحمه الله: هو بتنوين "حسنٍ"، وأما "القرم"، فبالراء مرفوعٌ، وهو السيّد، وأصله فَحْل الإبل، قال الخطابيّ: معناه: الْمُقَدَّمُ في المعرفة بالأمور والرأيِ، كالفحل، هذا أصح الأوجه في ضبطه، وهو المعروف في نُسَخ بلادنا.

والثاني: حكاه القاضي عياضٌ: "أَبو الحسنِ القومِ" بالواو بإضافة حسن إلى القوم، ومعناه: عالم القوم، وذو رأيهم.

والثالث: حكاه القاضي أيضًا "أبو حسنٍ" بالتنوين، و"القومُ " بالواو مرفوعٌ؛ أي أنا مَنْ عَلِمتم رأيه أيها القوم، وهذا ضعيفٌ؛ لأن حروف النداء لا تُحذف في نداء القوم ونحوه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبي رحمه الله: إنما قال: "أبو الحسن القرم"؛ لأجل الذي كان عنده من علم ذلك، وكان رضي الله عنه يقول هذه الكلمة عند الأخذ في قضيّة تُشكل على غيره، وهو يعرفها، ولذلك جرى كلامه هذا مجرى المثل، حتى قالوا:"قضيّةٌ ولا أبا حسن"؛ أي هذه قضيّة مشكلة، وليس هناك من يُبيّنها، كما كان يفعل أبو حسن الذي هو على بن أبي طالب رضي الله عنه، وأتوا بأبي حسن بعد "لا" النافية للنكرة على إرادة التنكير؛ أي ليس هناك واحد ممن يُسمّى أبا حسن، كما قالوا [من الوافر]:

أَرَى الْحَاجَاتِ عِنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ

نَكِدْنَ وَلَا أُمَيَّةَ فِي الْبِلَادِ

أي لا واحد ممن يُسمَّى أميّة.

و"القرم": أصله الفحل من الإبل، ويُستعار للرجل الكبير المجرِّب الأمور، وهذه رواية القاضي الشهير بالراء، والرفع، على النعت لأبي الحسن،

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 180.

(2)

"شرح النوويّ " 7/ 180.

ص: 330

وقد روي بالواو مكان الراء بإضافة حسن إليه، وهي رواية ابن أبي جعفر، ووجهُها كأنه قال: أنا عالم القوم، وذو رأيهم، وقد روي عن أبي بحر:"أبو حسني " بالتنوين، وبعده "القرم" بالرفع؛ أي أنا مَن عَلِمتم أيها القومُ، وهذه الرواية أبعدها. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَاللهِ لَا أَرِيمُ مَكَانِي) بفتح الهمزة، وكسر الراء: أي لا أزال، ولا أبرح من مكاني هذا، قال زهير [من الوافر]:

لِمَنْ طَلَلٌ بِرَامَةَ

(2)

لَا يَرِيمُ

عَفَا وَخَلَالُهُ حُقُبٌ قَدِيمُ

(3)

وقوله: (ابْنَا كُمَا) قال القرطبيّ رحمه الله: على التثنية هو الصحيح، ووقع لبعض الشيوخ:"أبناؤكما" على الجمع، وهو وَهَمٌ، فإنه قد نُصَّ على أنهما اثنان. انتهى

(4)

.

وقال النوويّ: هكذا ضبطناه "ابناكما" بالتثنية، ووقع في بعض الأصول:"أبناؤكما" بالواو على الجمع، وحكاه القاضي أيضًا، قال: وهو وَهَمٌ، والصواب الأول، قال: وقد يصحّ الثاني على مذهب من جمع الاثنين. انتهى

(5)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير هو المتعيّن، ولا وجه لتوهيم الرواية إن صحّت، فإن القول الراجح أن أقل الجمع اثنان، كما حقّقته في "التحفة المرضيّة" و"شرحها" في الأصول، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (بِحَوْرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ) بفتح الحاء المهملة؛ أي بجوابه، يقال: كلّمته، فما ردّ حَوْرًا، ولا حُوَيرًا؛ أي جوابًا، وأصل الْحَوْر: الرجوع، ومنه قوله تعالى:{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)} الآية [الانشقاق: 14]؛ أي أن لن يرجع.

وقال الهرويّ بعد ذكر ما تقدّم: ويجوز أن يكون معناه الخيبة؛ أي يرجعا بالخيبة، وأصل الْحَوْر الرجوع إلى النقص، قال القاضي عياض: هذا أشبه بسياق الحديث.

(1)

"المفهم" 3/ 127.

(2)

اسم موضع.

(3)

"المفهم" 3/ 127 - 128.

(4)

"المفهم" 3/ 128.

(5)

"شرح النووي" 7/ 181.

ص: 331

وقوله: (وَقَالَ في الْحَدِيثِ) فاعل "قال " ضمير يونس بن يزيد.

وقوله: (وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ) قال القاضي عياض رحمه الله: كذا وقع، والمحفوظ أنه من بني زُبَيد، لا من بني أسد. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وقع أيضًا عند أبي عوانة في "مسنده"(2/ 142) مثل ما وقع للمصنّف، وكونه من بني زُبيد، هو الأرجح، فقد تقدّم كذلك في ترجمته، وكذا هو عند ابن خزيمة في الرواية الآتية في التنبيه التالي، وعند الطبرانيّ في "المعجم الكبير"(5/ 54) وفي رواية الإمام أحمد في "مسنده"(4/ 166)، ولفظه:"وقال لِمَحْمِيَةَ بن جَزْءٍ الزُّبَيْديّ"، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، هذه ساقها الإمام ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"(4/ 55) باختلاف يسير، فقال:

(2342)

- حدّثنا علي بن إبراهيم الغافقيّ، حدّثنا ابن وهب، حدّثني يونس، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشميّ، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أخبره، أنّ أباه ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، قالا لعبد المطلب بن ربيعة، والفضل بن عباس: ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولا له: يا رسول الله، قد بلغنا ما ترى من السنّ، وأحببنا أن نتزوج، وأنت يا رسول الله أبرّ الناس، وأوصلهم، وليس عند أبوينا ما يُصْدِقان عنّا، فاستعملنا يا رسول الله على الصدقات، فلنؤدي إليك كما يؤدي إليك العُمّال، ولْنُصِبْ منها ما كان فيها من مَرْفِق، قال: فأتى عليّ بن أبي طالب، ونحن في تلك الحال، فقال لنا: إن رسول الله لا والله لا يستعمل أحدًا منكم على الصدقة، فقال له ربيعة بن الحارث: هذا من حسدك، وقد نِلْتَ خير

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نحسدك عليه، فألقى رداءه، ثم اضطجع عليه، ثم قال: أنا أبو حسن القوم، والله لا أَرِيم مكاني هنا، حتى يرجع إليكما ابناكما بِحَوْر ما بعثتما به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد المطلب: انطلقت أنا والفضل، حتى نوافق صلاة الظهر قد قامت، فصلينا مع الناس، ثم أسرعت

(1)

هكذا النسخة: "خير"، والظاهر أنه مصحّف من "صهر" كما هو عند الطبرانيّ في "الكبير" 5/ 54.

ص: 332

أنا والفضل إلى باب حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ عند زينب بنت جحش، فقمنا بالباب، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأذني وأذن الفضل، ثم قال:"أخرجا ما تُصَرِّران"، ثم دخل، فأذن لي والفضل، فدخلنا، فتواكلنا الكلام قليلًا، ثم كلمته، أو كلمه الفضل، قد شكّ في ذلك عبد الله بن الحارث، قال: فلما كلمناه بالذي أَمَرنا به أبوانا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ورفع بصره قِبَلَ سقف البيت حتى طال علينا أنه لا يرجع شيئًا حتى رأينا زينب تَلْمَعُ من وراء الحجاب بيديها ألا نعجل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أمرنا ثم خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فقال لنا: "إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، ولا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، ادع

(1)

لي نوفل بن الحارث، فدُعي نوفل بن الحارث، فقال: يا نوفل أَنكِح عبد المطلب"، فأنكحني، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادع محمية بن جَزْء" وهو رجل من بني زُبيد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمية: صلى الله عليه وسلم أَنكِح الفضل"، فأنكحه محميةُ بن جزء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قُم، فأصدق عنهما من الخمس كذا وكذا"، لم يسمه عبد الله بن الحارث. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(50) - (بَابُ إِبَاحَةِ الْهَدِيَّةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَآلِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُهْدِي مَلَكَهَا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ، وَبَيَانِ أَن الصَّدَقَةَ إِذَا قَبَضَهَا الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ زَالَ عَنْهَا وَصْفُ الصَّدَقَةِ، وَحَلَّتْ لِكُلَّ أَحَدٍ، مِمَنْ كَانَت الصَّدَقَةُ مُحَرِّمَةً عَلَيْهِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2483]

(1073) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْث (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ الشَبَّاقِ، قَالَ: إِن جُويرِيَةَ زَوْجَ

(1)

هكذا النسخة، وعند الطبرانيّ:"ادعوا لي" كما هو عند مسلم، فليُحرّر.

ص: 333

النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:"هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ " قَالَتْ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ، إِلَّاعَظْمٌ مِنْ شَاةٍ، أعْطِيَتْهُ مَوْلَاتِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ:"قَرِّبِيهِ، فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر، تقدّم قريبًا أيضًا.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، تقدم قريبًا أيضًا.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ المذكور في السند الماضي.

5 -

(عُبَيْدُ بْنُ السَّبَّاقِ) -بسين مهملة، ثم موحّدة مشدّدة- الثقفيّ، أبو سعيد المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن زيد بن ثابت، وسهل بن حُنيف، وأسامة بن زيد، وابن عباس، وميمونة، وجُويرية زوجي النبي صلى الله عليه وسلم، وزينب زوج عبد الله بن مسعود.

ورَوى عنه ابنه سعيد، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، والزهريّ، وزيد بن جُعْدُبَةَ، ومسلم بن مسلم بن مَعْبَد.

قال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقال خليفة: يكنى أبا سعيد.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1073)، و (2105): "إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة

".

6 -

(جُويرِيَةُ) بنت الحارث بن أبي ضِرَار الْخُزَاعية الْمُصْطَلِقِيّة، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الْمُرَيسيع، وكان اسمها بَرّة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جُويرية، وتزوجها.

روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنها عبد الله بن عباس، وعُبيد بن السَّبّاق، وأبو أيوب المراغيّ، ومجاهد بن جَبْر، وكلثوم بن المصطلق، وعبد الله بن شداد بن الهاد.

قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جعفر، أنا عبيد الله بن عمر، عن أيوب، عن أبي قلابة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سبا جُويرية، فجاء أبوها،

ص: 334

فقال: إن ابنتي لا يُسْبَى مثلها، فَخَلِّ سبيلها، فقال:"أرأيت إن خيّرتها، أليس قد أحسنتُ؟ " قال: بلى، فأتاها أبوها، فذكر لها ذلك، فقالت: قد اخترت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسلٌ، صحيح الإسناد.

قال الواقديّ: تُوُفّيت في ربيع الأول من سنة ست وخمسين، وصلى عليها مَرْوان بن الحكم، وقال غيره: ماتت سنة خمسين، ولها خمس وستون سنةً.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1073)، و (2726): "قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مزات

".

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرق بينهما بالتحويل؛ لاختلاف كيفيّة التحمل والأداء، كما أوضحناه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا ابن رُمح، فقد تفرّد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعئ: ابن شهاب، عن عُبيد.

5 -

(ومنها): أن جويرية رضي الله عنها وعُبيدًا هذا أول محلّ ذكرهما، وجُويرة رضي الله عنها من المقلّين من الرواية، فليس لها في الكتب الستّة إلا أربعة أحاديث، راجع:"تحفة الأشراف"(11/ 46 - 48).

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ شِهَاب، أَن عُبَيْدَ بْنَ السَّبَّاقِ) - بفتح السين المهملة، وتشديد الباء الموحّدة- (قَالَ: إِنَّ جُويرِيَةَ) بصيغة التصغير بنت الحارث رعتها، وقوله:(زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على البدليّة، أو عطف البيان، والزوج بلا هاء يُطلق على الرجل، وعلى المرأة، كما هنا، ويقال للمرأة أيضًا: زوجة، والأول أفصح، وبه جاء القرآن العظيم، كقوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وقد تقدّم تحقيق هذا في غير موضع، فلا تغفُل. (أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:" هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ ") "من" زائدة، كما قال في "الخلاصة":

ص: 335

وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ

نَكِرَةً كـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"

و"طعام" مبتدأ سوّغه وقوعه بعد استفهام، وخبره محذوف؛ أي موجود.

(قَالَتْ: لَا) أي ليس الطعام موجودًا (وَاللهِ يَا رَسُولَ الله) وقولها: (مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ) تأكيد لمعنى "لا"(إِلَّا عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ، أُعْطِيَتْهُ) بالبناء للمفعول، والهاء هو المفعول الثاني، والأول قولها:(مَوْلَاتِي) لا يُعرف اسمها

(1)

. (مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَرِّبِيهِ) فعل أمر للمؤنّثة، من التقريب، أمرها صلى الله عليه وسلم بأن تقرّب ذلك العظم إليه.

قال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال صلى الله عليه وسلم "قَرِّبيه" لعلمه بطيب قلب المولاة بذلك، أو لكون المولاة قد أهدت ذلك لجُويرية رضي الله عنها كما يجيء في قضة بريرة رضي الله عنها الآتي بعده. انتهى

(2)

.

ثم علّل أمره بذلك بقوله: (فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا") أي لأنها بلغت مكانها، و"الْمَحِلّ" -بكسر الحاء- موضع الحلول والاستقرار؛ يعني أنه قد حَصَل المقصود منها، من ثواب التصدق، ثم صارت ملكًا لمن وصلت إليه.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: هذا مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم في بريرة: "هو عليها صدقة، وهو لنا هدية"

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله قوله: "فقد بلغت مَحِلَّها" هو بكسر الحاء: أي زال عنها حكم الصدقة، وصارت حلالاً لنا، وفيه دليل للشافعيّ وموافقيه أن لحم الأضحية إذا قبضه المتصدَّق عليه، وسائر الصدقات يجوز لقابضها بيعها، وتَحِلّ لمن أهداها إليه، أو ملكها منه بطريق آخر، وقال بعض المالكية: لا يجوز بيع لحم الأضحية لقابضها. انتهى

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: دافقد بلغت محِلّها" يعني أن المتصدَّقَ عليها قد ملكت تلك الصدقة بوجه صحيح جائز، فقد صارت كسائر ما تملكه بغير جهة الصدقة، وإذا كان كذلك، فمن تناول ذلك الشيء المتصدَّق به من يد

(1)

"تنبيه المعلم" ص 198.

(2)

"المفهم" 3/ 130.

(3)

"عمدة القاري" 8/ 313.

(4)

"شرح النوويّ" 7/ 182.

ص: 336

المتصدَّق عليه بجهة جائزة غير الصدقة جاز له ذلك، وخرج ذلك الشيء عن كونه صدقةً بالنسبة إلى الآخذ من يد المتصذق عليه، وإن كان ممن لا تحلّ له الصدقة في الأصل، ويُتخرّج عليه صحّة أحد القولين فيمن تُصُدّق عليه بلحم أضحئة، فإنه يجوز له أن يبيعه، والقول الثاني: لا يجوز فيه ذلك؛ لأن أصل مشروعيّة الأضحيّة أن لا يُباع منها شيء مطلقًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى قوّة القول الأول؛ لقوّة دليله، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جُويرية رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 2483 و 2484](1073)، و (الحميديّ) في "مسنده"(317)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 429 - 430)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 139)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5118)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 164 و 165 و 166 و 167 و 169)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 28). وفوائده تأتي في شرح حديث عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2484]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَن الزهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الزَقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

(1)

"المفهم" 3/ 130.

ص: 337

3 -

(إِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ عُيَيْنَةَ) هو: سفيان الإمام المكي الحجة الثبت رأس [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

و"الزهريّ " ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية ابن عُيينة، عن الزهريّ هذه ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده" (1/ 151) فقال:

(317)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهريّ، قال: أخبرني عُبيد بن السّبّاق، أنه سمع جُويرية بنت الحارث تقول: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال:"هل من طعام؟ " فقلت: لا، إلا عظم قد أعطيته مولاة لنا من الصدقة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قَرِّبيه، فقد بلغت مَحِلّها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2485]

(1074) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنسٍ (ح) وَحَدَّثنا عُبَيْدُ الله بْن مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدثَنَا أَبِي، حَدثنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ أنَسَ بَنَ مَالِكٍ، قَالَ: أَهْدَتْ بَرِيرَةُ إِلَى النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَحْماً تُصُدَّقَ بِهِ عَلَيْهَا، فَقَال:"هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ").

رجال هذا الإسناد:

أحد عشر، وكلهم تقدّموا قبل باب، وشرح الحديث يأتي بعده.

[تنبيه]: قوله في الطريق الثاني: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ أنسَ بْنَ مَالِكٍ) فيه التنبيه على انتفاء تدليس قتادة؛ لأنه عنعن في الرواية الأولى، وصرَّح بالسماع في الثانية، وقد سبق مرّات أن المدلس لا يُحتجّ بعنعنته، إلا أن يثبت

ص: 338

سماعه لذلك الحديث من ذلك الشيخ من طريق آخر، فنبّه مسلم رحمه الله على ذلك

(1)

.

مسألتان تتعلّقان به:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 2485](1074)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1495 و 2577)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1655)، و (النسائيّ) في "الطلاق "(6/ 280)، و (أحمد) في "مسنده" 3/ 117 و 130 و 180 و 276)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(1390)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2486]

(1075) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَأُتِيَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقِيلَ: هَذَا مَا تُصُدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ:"هُوَ لَهَا صَدَقَة، وَلنَا هَدِيَّة").

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، يُرسل كثيرًا [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 182.

ص: 339

3 -

(الْأَسْوَدُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ مكثر [2](ت 47)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

4 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

والباقون ذُكروا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادن فرّق بينهما بالتحويل؛ لما أسلفناه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال رجال الجماعة، سوى شيخه عبيد الله، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وأما شيخاه ابن المثنّى، وابن بشّار، فمن التسعة الذين اتّفق عليهم الجماعة بالرواية عنهم من غير واسطة، وقد سبقوا غير مرّة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من الحكم، سوى عائشة، فمدنيّة، والباقون بصريّون.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، والأولان من الأقران، والأسود خال إبراهيم.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها، من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (وَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بضمّ الهمزة مبنيًّا للمفعول، وعطف "أتي" على مقدّر تبيّنه رواية البخاريّ عن آدم بن أبي إياس، حدّثنا شعبة، حدثنا الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بَرِيرة للعتق، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرتْ عائشة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اشتريها، فإنما الولاء لمن أعتق"، قالت: وأَتِي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم، فقلت: هذا ما تُصُدّق به على بريرة، فقال:"هو لها صدقة، ولنا هدية".

وقال النوويّ: رحمه الله: قوله: "وأُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم

إلخ " هكذا هو في كثير من الأصول المعتمدة، أو أكثرها: "وأُتِي" بالواو، وفي بعضها: "أُتِي" بغير

ص: 340

واو، وكلاهما صحيح، والواو عاطفة على بعض من الحديث لم يذكره هنا. انتهى

(1)

.

(بِلَحْمِ بَقَرٍ) هكذا في رواية المصنّف رحمه الله "بلحم بقر"، ومن الغريب ما في "الفتح"، قال: واللحم المذكور وقع في بعض الشروح أنه كان لحم بقر، وفيه نظر، بل جاء- عن عائشة:"تُصُدِّق على مولاتي بشاة من الصدقة"، فهو أولى أن يؤخذ به. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يستحضر الحافظ رواية مسلم هذه حين كتب ذلك، دمالا فما قاله بعض الشروح صحيح، ويُجمع بين الروايتين أنهما واقعتان، وفيه بُعد، والأولى أن يقال: لا مانع أن يُهدى لها اللحمان في وقت واحد، والله تعالى أعلم.

(فَقِيلَ) أي قالت عائشة رضي الله عنها لَمّا طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا، ففي رواية البخاريّ من طريق القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنه: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والْبُرْمة تفور بلحم، فقُرِّب إليه خبز وأُدْمٌ من أُدْم البيت، فقال:"ألم أَرَ البرمة فيها لحم؟ "، قالوا: بلى، ولكن ذلك لحم تُصُدِّق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، قال:"عليها صدقة، ولنا هدية".

(هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِلي) بالبناء للمفعول أيضًا (عَلَى بَرِيرَةَ) - بفتح الباء الموحدة، وكسر الراء الأولى- بنت صفوان، وهي: مولاة عائشة رضي الله عنه، قيل كانت مولاة لقوم من الأنصار، وقيل غير ذلك، فاشترتها عائشة، فأعتقتها، وكانت تخدُم عائشة قبل أن تشتريها، وقصتها في ذلك في "الصحيحين"، وذكر أبو عمر بن عبد البرّ من طريق عبد الخالق بن زيد بن واقد، عن أبيه، أن عبد الملك بن مروان قال: كنت أجالس بريرة بالمدينة، فكانت تقول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالأ، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وَليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الرجل ليُدْفَع عن باب الجنة بعد أن يَظهر إليه بِمِلء مِحْجَمة من دم يُريقه من مسلم بغير حق"

(2)

.

(1)

شرح النوويّ" 7/ 183.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 535.

ص: 341

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُوَ) أي اللحم المتصدق به على بريرة رضي الله عنه (لَهَا صَدَقَةٌ) بالرفع، على أنه خبر "هو"، و"لها" صفة قُدِّمت، فصارت حالًا، على قاعدة أن نعت النكرة إذا قُدّم يُعرب حالًا، كما في قوله:

لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلٌ

يَلُوحُ كَأَنَّهُ خَلَلُ

ويجوز النصب فيها على الحال، والخبر "لها"، قال في "الفتح": يؤخذ منه أن التحريم إنما هو على الصفة، لا على العين.

(وَلَنَا هَدِيَّة") أي حيث أهدته بريرة إلينا فهو هدية، وذلك لأن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية، وغير ذلك؛ لصحة ملكه لها، كتصرفات سائر الملاك في أملاكهم.

والفرق بينهما أن الصدقة منحة لثواب الآخرة، والهدية تمليك الغير شيئًا توذدًا إليه، وإكرامًا له، ففي الصدقة نوع ذُلّ للآخذ، فلذلك حُرِّمت الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم دون الهدية، وقيل: لأن الهدية يُثاب عليها في الدنيا، فتزول المنة، والصدقة يراد بها ثواب الآخرة، فتبقى المنة، ولا ينبغي للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَمُنّ عليه غير الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [50/ 2486 و 2487 و 2488 و 2489، (1075) وسيأتي في "العتق "(1504)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1493) و"الهبة"(2578) و"النكاح "(5097) و"الطلاق"(5279)، و (النسائيّ) في "الطلاق "(6/ 165 - 166) و"الكبرى"(2/ 59 و 3/ 195)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 562)، و (عبد الرزاق) في "مصنفه"(7/ 249)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 15)، و (الطيالسي) في "مسنده"(1/ 197)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 150 و 175 و 180 و 207، 191)، و (الدارميّ) في "سننه "(2/ 222)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 229 و 230)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5115 و 5116)،

ص: 342

و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 140)، و (الطبرانيّ) في " لصغير"(1/ 291) و"الأوسط"(5/ 207) و"الكبير"(24/ 204)، و (الضياء) في "المختارة"(7/ 83)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 18)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 412)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 161 و 185 و 7/ 134 و 230/ 295/ 10)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1611)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان إباحة الهديّة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وآله.

2 -

(ومنها): بيان تحريم الصدقة على النبيّ صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وجواز التطوع منها على من يُلحق به في تحريم صدقة الفرض، كأزواجه ومواليه، قاله في "الفتح".

3 -

(ومنها): جواز دخول النساء الأجانب بيت الرجل، سواء كان فيه أم لا.

4 -

(ومنها): أن موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهنّ الصدقة، وإن حَرُمت على الأزواج.

5 -

(ومنها): جواز أكل الغنيّ ممّا تُصُدّق به على الفقير؛ إذا أهداه له، وبالبيع أولى.

6، - (ومنها): بيان جواز قبول الغنيّ هدية الفقير.

7 -

(ومنها): أن فيه بيانَ الفرق بين الصدقة والهدية في الحكم.

8 -

(ومنها): أن فيه نصح أهل الرجل له في الأمور كلّها.

9 -

(ومنها): جواز أكل الإنسان من طعام مَن يُسَرّ باكله منه، ولو لم يأذن له فيه بخصوصه.

10 -

(ومنها): بيان أن الأمة إذا أُعتقت جاز لها التصرف بنفسها في أمورها، ولا حجر لمعتقها عليها؛ إذا كانت رَشِيدة، وأنها تتصرف في كسبها دون إذن زوجها إن كان لها زوج.

11 -

(ومنها): بيان جواز الصدقة على من يمونه غيره؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تمون بريرة رضي الله عنها، ولم ينكر عليها قبولها الصدقة.

ص: 343

12 -

(ومنها): أن لمن أُهدي لأهله شيءٌ أن يُشْرِك نفسَهُ معهم في الإخبار عن ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو لنا هدية".

13 -

(ومنها): أن من حَرُمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغير حكمها.

14 -

(ومنها): بيان أنه يجوز للمرأة أن تُدخِل إلى بيت زوجها ما لا يملكه بغير علمه، وأن تتصرف في بيته بالطبخ وغيره بآلاته، ووقوده.

15 -

(ومنها): جواز أكل المرء ما يجده في بيته إذا غلب الحلّ في العادة، وأنه ينبغي تعريفه بما يُخشَى توقفه عنه.

16 -

(ومنها): استحباب السؤال عما يُستفاد به علم، أو أدب، أو بيان حكم، أو رفع شبهة، وقد يجب.

17 -

(ومنها): سؤال الرجل عما لم يَعْهَده في بيته.

18 -

(ومنها): أن هدية الأدنى للأعلى لا تستلزمِ الإثابة مطلقًا.

19 -

(ومنها): استحباب قبول الهدية، وإن نزُرَ قدرُها جَبْرًا لخاطر المهدى.

20 -

(ومنها): بيان أن الهدية تُملك بوضعها في بيت المهدى له، ولا يُحتاج إلى التصريح بالقبول.

21 -

(ومنها): بيان أن لمن تُصُدّق عليه بصدقة أن يَتَصَرَّف فيها بما شاء، ولا ينقص أجر المتصدِّق.

22 -

(ومنها): بيان أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل؛ إذا لم يكن فيه شبهةٌ، ولا عن الذبيحة إذا ذُبِحت بين المسلمين.

23 -

(ومنها): بيان أن من أُهدي إليه أو تُصُدِّق عليه بشيء قليل لا ينبغي أن يتسخطه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2487]

(

) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَ، بو مُعَاوَيةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ

ص: 344

قَضِيَّاتٍ: كَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا، وَتُهْدِيُ لنا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَلَكُمْ هَدِيَّةٌ، فَكُلُوهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنٌ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت هـ 19)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ فقيه فاضل [5](ت 145)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [6](ت 126)(ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.

5 -

(أَبوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية فاضل، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ) هو بمعنى الرواية الأخرى: "ثلاث سنن"، ذكر قضيّة، وترك الاثنتين، وقد ساقه بتمامه في "العتق"، فقال: عن عائشة، قالت: كان في بريرة ثلاث قضيّات: أراد أهلها أن يبيعوها، ويشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"اشتريها، وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق"، قالت: وعَتَقَت فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختارت نفسها، قالت: وكان الناس يتصدقون عليها، وتهدي لنا، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هو عليها صدقة، وهو لكم هديةٌ، فكلوه".

ولفظ البخاريّ: كان في بريرة ثلاث سُنَن: أرادت عائشة أن تشتريها، فتعتقها، فقال أهلها: ولنا الولاء، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"لو شئت شرطتيه لهم، فإنما الولاء لمن أعتق"، قال: وأُعتقت، فَخُيِّرت في أن تَقِز تحت زوجها، أو تفارقه، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بيت عائشة، وعلى النار بُرْمَة تفور، فدعا بالغداء، فأُتِي بخبز وأُدْم من أُدْم البيت، فقال: "ألم أَرَ

ص: 345

لحمًا؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله، ولكنه لحم تُصُدّق به على بريرة، فاهدته لنا، فقال: "هو صدقة عليها، وهدية لنا".

[تنبيه]: قوله: "ثلاث قضيّات" قال في "الفتح": قد جمع بعض الأئمة فوائدَ هذا الحديث، فزادت على ثلاثمائة، ولخصتها في "فتح الباري". انتهى، وسأقتدي به في "كتاب العتق" -إن شاء الله تعالى-.

[تنبيه آخر]: أخرج النسائيّ رحمه الله هذا الحديث من طريق يزيد بن رُومان، عن عروة عن بريرة، قالت: "كان فِيَّ ثلاث سنن

" الحديث، ورجاله موثقون، لكن قال النسائيّ: إنه خطأ؛ يعني أن الصواب عن عروة، عن عائشة، أفاده في "الفتح".

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، دماليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المثّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2488]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ-صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن الوليد الْجُعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

2 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 160)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

3 -

(سِمَاكُ) بن حرب الذُّهليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوق، تغيّر بآخره [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

والباقون ذُكروا قبله.

ص: 346

[تنبيه]: رواية سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم هذه ساقها المصنّف في "كتاب العتق"، فقال: وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا حسين بن عليّ، عن زائدة، عن سماك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: أنها اشترت بريرة من أُناس من الأنصار، واشترطوا الولاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الولاء لمن وَلي النعمة"، وخَيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عبدًا، وأَهْدت لعائشة لحماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو صنعتم لنا من هذا اللحم؟ "، قالت عائشة: تُصُدّق به على بريرة، فقال:"هو لها صدقةٌ، ولنا هديةٌ".

وأما رواية شعبة، عن عبد الرحمن، فقد ساقها المصنّف رحمه الله أيضًا في "العتق"، فقال:

حدّثنا محمد بن المثنى، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، قال: سمعت القاسم يحدث، عن عائشة: أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"اشتريها، وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق"، وأُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: هذا تُصُدّق به على بريرة، فقال:"هو لها صدقةٌ، وهو لنا هدية"، وخُيِّرت، فقال عبد الرحمن: وكان زوجها حُرًّا، قال شعبة: ثم سألته عن زوجها، فقال: لا أدري.

[تنبيه]: يُستفاد من هاتين الروايتين اللتين سقتهما من نصّ المصنّف رحمه الله أن قوله هنا عند الإحالة: "بمثل ذلك" لا يريد به المماثلة في نفس اللفظ، وإنما المراد المماثلة في المعنى، فلا فرق إذا بين قوله:"بمثله"، وقوله:"بنحوه"، إلا أنه من التفنّن في العبارة، وبهذا ينحلّ كثير من المشكلات التي تواجهنا عند إيراد الإحالات من غير نصّ المصنّف حيث تختلف علينا، ولا نجد الاتّفاق فيها بين المحال والمحال عليه، فهذا هو الجواب عنها، فتنبّه لهذا، فإنه من الفوائد المهمات، والثه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 347

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2489]

(

) - (وَحَدَّثَني أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنى مَالِكُ بْنُ أنسٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَهُوَ لنَا مِنْهَا هَدِيَّة").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَوبو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(مَالِكُ بْنُ أنَسَ) إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(رَبِيعَةُ) بن أبي عبد الرحمن فرّوخ التيميّ مولاهم، أبو عثمان المدنيّ المعروف بربيعة الرأي، ثقةٌ فقيه مشهور، قال ابن سعد: كانوا يتّقونه لموضع الرأي [5](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 11/ 1652.

وقوله: (بِمِثْلِ ذَلِكَ) هذا أيضًا مما يؤيّد ما قلناه في البحث السابق، من أنه لا يريد بلفظ "مثل" مماثلة اللفظ، بل مماثلة المعنى؛ لأن ألفاظ سياق المحال مخالف لألفظ سياق المحال عليه، كما هو ظاهر، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: رواية ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم هذه ساقها المصنّف رحمه الله أيضًا في "العتق"، فقال:

وحدّثني أبو الطاهر، حدّثنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: كان في بريرة ثلاث سُنَن: خُيِّرت على زوجها حين عَتَقَت، وأهدي لها لحمٌ، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والْبُرْمة على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز، وأُدْم من أُدْم البيت، فقال:"ألم أر بُرْمة على النار، فيها لحم؟ "، فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تُصُدّق به على بريرة، فكرهنا أن نُطعمك منه، فقال:"هو عليها صدقةٌ، وهو منها لنا هديةٌ"، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها:"إنما الولاء لمن أَعْتَقَ".

ص: 348

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى ألامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2490]

(1076) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثْتُ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا بِشَيءٍ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ، قَالَ:"هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٍ؟ " قَالَتْ: لَا، إِلَّا أَنَّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إِلَيْنَا مِنَ الشَّاةِ الَّتى بَعَثْتُمْ

(1)

بِهَا إِلَيْهَا، قَالَ:"إِنَّهَا قَدْ بَلَغَت مَحِلَّهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْمَاعِيلُ بْغُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(خَالِدُ) بن مهران الحذّاء البصريّ، ثهقةٌ ثبتٌ يُرسل [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

3 -

(حَفْصَةُ) بنت سيرين، أم الْهُذيل الأنصاريّة البصريّة، ثقةٌ [3] ماتت بعد (100)(ع) تقدم في "صلاة العيدين" 2/ 2055.

4 -

(أمّ عَطِيَّةَ) نُسيبة بالتصغير، ويقال: بفتح النون، بنت كعب، أو بنت الحارث الأنصاريّة، صحابيّة مشهورة، سكنت البصرة (ع) تقدمت في "صلاة العيدين " 2/ 2054.

و"زُهير" ذُكر في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنهم من رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّة.

(1)

وفي نسخة: "بَعَثتَ".

ص: 349

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) نُسيبة، بضمّ النون مصغّرًا، ويقال: بفتحها بنت كعب، أو بنت الحارث رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيَّ) ببناء الفعل للفاعل، والفاعل قوله:(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثْتُ إِلَى عَائِشَةَ مِنْهَا بِشيْءٍ) أي بعض لحمها (فَلَمَا جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَائِشَةَ، قَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ") أي من الطعام (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنه (لَا) أي ليس عندنا شيء من الطعام (إِلَّا أَن نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إِلَيْنَا مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتُمْ) هكذا معظم النسخ، وفي بعضها:"بَعَثتَ" بإفراد المخاطب؛ أي بعثت بها أنت (بِهَا) أي بتلك الشاة (إِلَيْهَا) أي إلى نُسيبة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا") - بكسر المهملة- يقع على المكان، والزمان؛ أي زال عنها حكم الصدقة المحزَمة عليّ وصارت لي حلالًا.

وقال في "الفتح": أي إنها لَمّا تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها انتقلت عن حكم الصدقة، فَحَلَّت مَحَلّ الهديّة، وكانت تَحِل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الصدقة، وهذا تقرير ابن بطال بعد أن ضَبَط مَحَلّها بفتح الحاء، وضبطه بعضهم بكسرها، من الحلول: أي بلغت مُسْتَقَرَّها، والأول أولى، وعليه عَوَّل البخاريّ في الترجمة؛ أي حيث قال:"بابٌ إذا تحوَّلت الصدقة". انتهى

(1)

.

وقال ابن بطال رحمه الله: إنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، ولأن أخذ الصدقة منزلة ضَعَة، والأنبياء منزهون عن ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8]، والصدقة لا تحل للأغنياء، وهذا بخلاف الهدية، فإن العادة جارية بالإثابة عليها، وكذلك كان شأنه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أمّ عطيّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 4/ 349 - 350 كتاب "الزكاة" رقم (1494).

ص: 350

أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 2490، (1076)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1446 و 1494) و"الهبة"(2579)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5119)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 141)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 148 و 149 و 150)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير الذي أُعطيها، بالبيع والهدية، وغير ذلك.

2 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تحرم عليهن الصدقة، كما حُرِّمت عليه؛ لأن عائشة رضي الله عنها قَبِلت هدية بريرة، وأم عطية مع علمها بأنها كانت صدقة عليهما، وظَنَّت استمرار الحكم بذلك عليها، ولهذا لم تقدمها للنبيّ صلى الله عليه وسلم لعلمها أنه لا تحل له الصدقة، وأقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك الفهم، ولكنه بَيَّن لها أن حكم الصدقة فيها قد تحوّل، فحَلَّت له صلى الله عليه وسلم أيضًا.

3 -

(ومنها): أنه يُستنبط من هذه القصة جواز استرجاع صاحب الدين من الفقير ما أعطاه له من الزكاة بعينه، وأن للمرأة أن تعطي زكاتها لزوجها، ولو كان ينفق عليها منها، وهذا كله فيما لا شرط فيه، قاله في "الفتح".

[تنبيه]: استُشكلت قصة عائشة في حديث أم عطية، مع حديثها في قصة بريرة؛ لأن شأنهما واحد، وقد أعلمها النبيّ صلى الله عليه وسلم في كل منهما بما حاصله أن الصدقة إذا قبضها من يحل له أخذها، ثم تصرف فيها زال عنها حكم الصدقة، وجاز لمن حُرِّمت عليه أن يتناول منها؛ إذا أهديت له، أو بيعت، فلو تقدمت إحدى القصتين على الأخرى لأغنى ذلك عن إعادة ذكر الحكم، ويبعد أن تقع القصتان دفعة واحدة، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أورد الاستشكال في "الفتح"، ولم يجب عنه، والظاهر أن ما استبعده من وقوع القصّتين متقاربتين لا بُعد فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 6/ 427 كتاب "الهبة" رقم (2579).

ص: 351

(51) - (بَابُ قَبُول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ، وَرَدِّهِ الصَّدَقَةَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2491]

(1077) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، يَعْنى ابْنَ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ زِيادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ-صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ، سَأَل عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّة أَكَلَ مِنْهَا، وَإِنْ قِيلَ: صَدَقَة لَمْ يَأَكُلْ مِنْهَا).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَام الْجُمَحِيُّ) مولاهم، أبو حرب البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(م) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

2 -

(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِم) الْجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 167)(بخ م دت س) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ) الْجُمحيّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل باب أيضًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (154) من رباعتات الكتاب.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ) زاد في رواية أحمد، وابن حبّان من طريق حمّاد بن سلمة، عن محمد بن زياد:"من غير أهله"(سَأَل عَنْهُ) أي هل هو هديّة، أو صدقة؟، ولفظ البخاريّ من طريق إبراهيم بن طَهْمان، عن محمد بن زياد: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بطعام سأل عنه، أهديّةٌ، أم صدقةٌ؟

".

ص: 352

(فَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ) خبر لمحذوف؛ أي هي هديّة (أَكَلَ مِنْهَا) أي من تلك الهديّة؛ لكونها تحلّ له (وَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ) أي هي صدقةٌ (لَمْ يَأَكُلْ مِنْهَا) لكونها محرّمة عليه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"فإن قيل: صدقةٌ، قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قيل: هديّةٌ ضرب بيده صلى الله عليه وسلم، فأكل معهم".

ومعنى: "ضرب" أي شرع في الأكل مُسرعًا، ومنه ضرب في الأرض: إذا أسرع السير فيها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 2491، (1577)] و (البخاريّ) في "الهبة"(2597)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 302 و 305 و 338 و 406 و 492)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 141)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 185) و"المعرفة"(5/ 23)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز قبول الهديّة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): بيان تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم مطلقًا فرضها وتطوّعها، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل صدقة التطوّع، كما كان لا يأكل صدقة الواجب، وأنها لا تحلّ له. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه استعمالَ الوَرَع، والفَحْص عن أصل المآكل والمشارب.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: كونه صلى الله عليه وسلم يسأل عن الطعام، هل هو صدقة أم هديّة؟ يدلّ على أن للمتّقي أن يسأل عمّا خَفي عليه من أحوال الهديّة، والمهدِي حتى يكون على بصيرة من أمره، لكن هذا ما لم يؤذ

(1)

"المفهم" 3/ 131.

ص: 353

المهدي، والمطعِم، فإن أدّى إلى ذلك، فالأولى ترك السؤال إلا عند الريبة. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(52) - (بَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ أتى بِصَدَقَةٍ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2492]

(1578) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْزو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى (ح) وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرٍو، وَهُوَ ابْنُ مُرَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: "اللَّهُمَّ صَل عَلَيْهِمْ"، فَأَتاهُ أَبِي أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(يَحْيى بْنُ يَحْيى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [5](ت 118)(ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) واسم أبيه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ مات رضي الله عنه سنة (87)(ع) تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.

والباقون كلّهم تقدّموا قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه خمسة من الشيوخ، قرن بين الأربعة؛ لاتحاد كيفتة أخذه عنهم، وفصل الخامس عنهم؛ لاختلاف سنده.

(1)

"المفهم" 3/ 131.

ص: 354

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه كلّهم، فالأول ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، والثاني ما أخرج له الترمذيّ، والثالث ما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه، وكذا الخامس، والرابع ما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، فقد شَهِد هو وأبوه أبو أوفى رضي الله عنهما بيعة الرضوان تحت الشجرة، وعُمّر عبد الله بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا إلى أن كان آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالكوفة، وذلك سنة سبع وثمانين.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) المراديّ الكوفيّ، تابعيّ صغير، لم يسمع من الصحابة إلا من ابن أبي أوفى، قال شعبة: كان لا يدلس، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ أَبِي أَوْفَى) رضي الله عنهما، وفي الرواية التالية:"حدّثنا عبد الله بن أبي أوفى"، زاد في رواية للبخاريّ:"وكان من أصحاب الشجرة"(قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ) أي بزكاتهم؛ ليفرّقها عنهم (قَالَ: "اللهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ") أي ارحمهم، واغفر ذنوبهم.

قال القرطبيّ رحمه الله: لما أمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بأخذ الصدقة من الأموال، والدعاء للمتصدّق بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: 103] امتثل ذلك، فكان يدعو لمن أتاه بصدقته، ولذلك كان يقول لهم:"اللهم صلّ عليهم" أي ارحمهم. انتهى

(1)

.

(فَأَتاهُ أَبِي أَبُو أَوْفَى) تقدّم أن اسمه علقمة بن خالد الأسلميّ رضي الله عنه (بصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى") يريد به أبا أوفى، وأما لفظ "آل دا فمقحم، أو المراد به ذات أبي أوفى؛ لأن الآل يُذْكَر ويراد به ذات الشيء، كما قال صلى الله عليه وسلم في قصة أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه: "لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"، يريد به داود عليه السلام، وقيل: لا يقال ذلك إلَّا في حق الرجل الجليل القدير، كآل أبي بكر، وآل عمر رضي الله عنهما، وقيل: آل الرجل أهله، والفرق بين الآل والأهل أن الآل قد خُصّ بالأشراف، فلا يقال آل الحائك، ولا آل

(1)

"المفهم" 3/ 131 - 132.

ص: 355

الحجام، وأما قولهم: آل فرعون، فلتصوّره بصورة الأشراف، وفي "الصحاح": أصل آل أَوَلٌ، وقيل: أهلٌ، ولهذا يقال في تصغيره أهيلٌ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 2492](1078)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1497) و"المغازي"(4166 و 6332 و 6359)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1590)، و (النسائيّ) في "الزكاة"(5/ 31) و"الكبرى"(2/ 15)، و (ابن ماجه) في "الزكاة"(1796)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(2/ 212)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 255)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 353 و 354 و 355 و 381 و 383)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2345)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3/ 197 و 8/ 70)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 184)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 144)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 142)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 157 و 7/ 5) و"المعرفة"(3/ 318)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب دعاء الإمام لأهل الصدقة إذا أتوه بها، ثم إنه لا يتعيّن لفظ الصلاة، بل أَبُو دعا له بالبركة أصاب السنّة، كما دلّ عليه حديث وائل بن حجر رضي الله عنه في قصّة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك فيه، وفي إبله"، رواه النسائيّ بإسناد صحيح.

قال النوويّ: وقد استحبّ الشافعيّ في صفة الدعاء أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهورًا لك، وبارك لك فيما أبقيت. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): جواز أن يقال: آل فلان يريد به فلانًا.

3 -

(ومنها): جواز الصلاة على غير الأنبياء، وكرهه مالك والجمهور،

(1)

شرح مسلم 7/ 184.

ص: 356

قال ابن التين: وهذا الحديث يعكر عليه، وقد قال جماعة من العلماء: يدعو آخذ الصدقة للمتصدّق بهذا الدعاء؛ لهذا الحديث.

وأجاب الخطّابيّ عنه بأن أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعوّ له، فصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة، وصلاة أمته عليه دعاء له بزيادة القربى والزلفى؛ ولذلك كان لا يليق بغيره. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بكراهة الصلاة على غير الأنبياء مما لا يقوم عليه دليل، فالحقّ أن الصلاة على غيرهم جائزة؛ لحديث الباب وغيره، وقد قدمت تحقيق البحث في ذلك في "كتاب الصلاة" في أبواب الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التشهّد، من "شرح النسائيّ" فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): اختُلف في حكم الدعاء للمتصدّق:

ذهب الجمهور إلى أن الدعاء لدافع الزكاة سنة مستحبّة، وليس بواجب.

وذهب أهل الظاهر إلى أنه واجب، قال النوويّ رحمه الله: وبه قال بعض أصحابنا، حكاه أبو عبد الله الحناطيّ -بالحاء المهملة- واعتمدوا الأمر في الآية، قال الجمهور: الأمر في حقّنا للندب؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا وغيره لأخذ الزكاة، ولم يأمرهم بالدعاء، وقد يُجيب الآخرون بأن وجوب الدعاء كان معلومًا لهم من الآية الكريمة.

وأجاب الجمهور أيضًا بان دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته سكن لهم، بخلاف غيره

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح؛ لأن ما احتجّوا به كافٍ في صرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب، فتأمّل.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2493]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "صَلِّ عَلَيْهِمْ").

(1)

شرح مسلم 7/ 184.

ص: 357

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضل [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيه عابدٌ [8](ت 192)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

و"شعبة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن إدريس، عن شعبة هذه لم أر من ساقها، فليُنظر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(53) - (بَابُ إِرْضَاءِ السَّاِي مَا لَمْ يَطْلُبْ حَرَامًا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2494]

(989) - (حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ يَحْيى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَابِ، وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى، كُلُّهُمْ عَنْ دَاوُدَ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا

(1)

دَاوُدُ، عَن الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدَّقُ، فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ، وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ").

رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقية، تغير قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 358

3 -

(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

4 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

5 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

6 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

7 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند القشيريّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ متقن [5](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

8 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

9 -

(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن جابر البجليّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة (51) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.

والباقون تقدّموا في الأبواب الثلاثة قبله.

وقوله: ("إِذَا أتاكُمُ الْمُصَدِّقُ) بضمّ الميم، وتخفيف الصاد، وكسر الدال المشدّدة: هو الذي يأخذ الصدقات ممن وجبت عليه بنصب الإمام له.

وقوله: (فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ) أي فليرجع (وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ") مقصود الحديث الوصاية بالسَّعاة، وطاعة ولاة الأمور، وملاطفتهم، وجمع كلمة المسلمين، وإصلاح ذات البين، وهذا إذا لم يطلب جورًا، وإلا فلا طاعة له؛ لما أخرجه البخاريّ عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"فمن سُئلها على وجهها، فليُعطها، ومن سُئل فوقها فلا يُعط"، فقيل: المراد لا يُعط الزيادة، بل يُعطي الواجب، وقيل: لا يُعطيه شيئًا أصلًا؛ لأنه يفسُق بطلب الزيادة، وينعزل، فلا شيئًا، وهذا القول أقرب إلى ظاهر الحديث، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

والحديث من أفراد المصنف، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في أوئل "كتاب الزكاة" برقم [8/ 2298](989) فراجعه تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 359

‌13 - (كِتَاب الصِّيَامِ)

مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:

(المسألة الأولى): في بيان سبب تقديم الصيام على الحج:

(اعلم): أنه إنما قدّم الصيام على الحجّ؛ نظرًا لكثرة أفراد من يجب عليه، بخلاف الحجّ، فيكون الصوم أفضل من الحجّ، وقيل: الحجّ أفضل؛ لأنه وظيفة العمر، ويُكفّر الصغائر والكبائر.

وعبّر الصيام بالياء، وبعضهم عبّر الصوم بالواو إشارة إلى أن الفعل وهو صام له مصدران، الصيام بالياء، والصوم بالواو، ومعناهما واحد لغةً وشرعًا، والصوم مصدر قياسيّ، والصيام مصدر سماعيّ.

وأصل الصيام من الشرائع القديمة، وأما بهذه الكيفيّة فهو من خصوصيّات هذه الأمة

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثانية): في معنى الصيام لغةً، وشرعًا:

(اعلم): أن "الصيام" مصدر "صام"، كالصوم"، يقال: صام يصُوم صَوْمًا، وصِيامًا، قيل: هو مطلق الإمساك في اللغة، ثم استُعمل في الشرع في إمساك مخصوص، وقال أبو عبيدة: كل مُمسِك عن طعام، أو كلام، أو سَيْر، فهو صائم، قال النابغة الذُّبْيانيّ [من البسيط]:

خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْل غَيْرُ صَائِمَةٍ

تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا

يعني بالصائمة: الممسكة عن السير، قاله ابن فارس. وقيل: الممسكة عن الاعتلاف؛ أي القائمة على غير عَلَف، وقيل: الممسكة عن الصَّهِيل،

(1)

راجع: "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" 2/ 371.

ص: 360

ورجل صائم، وصَوَّامٌ -بالفتح- مبالغة، وقوم صُوَّامٌ، وصُيَّمٌ، وَصَوْمٌ على لفظ الواحد، وصِيَام. انتهى من "المصباح" بزيادة من غيره.

وقال في "التهذيب": الصوم في اللغة: الإمساك عن الشيء، والترك له، وقيل للصائم: صائم؛ لإمساكه عن الْمَطعَم، والْمَشْرَب، والْمَنكَح. وقيل للصامت: صائم؛ لإمساكه عن الكلام، وقيل للفرس: صائم؛ لإمساكه عن العَلَف مع قيامه.

وقال في "الفتح"؛ والصوم، والصيام في اللغة: الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، عن شيء مخصوص، بشرائط مخصوصة. انتهى.

وقال النووي: إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص بشرطه. انتهى.

وقال الراغب الأصفهاني: الصوم في الأصل: الإمساك عن الفعل، مَطعمًا كان، أو كلامًا، أو مشيًا؛ ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير، أو العلف: صائم. وقيل للريح الراكدة: صوم، ولاستواء النهار: صوم؛ تصوّرًا لوقوف الشمس في كبد السماء، ولذلك قيل: قام قائم الظهيرة، ومَصَامُ الفرس، ومَصَامَتُهُ: موقفه. والصوم في الشرع: إمساك المكلّف بالنيّة من الخيط الأبيض، إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين، والاستمناء، والاستقاء. انتهى

(1)

.

قال الطيبيّ: فهو وصف سلبيّ، وإطلاق العمل عليه تجوّز. وقيل: هو إمساك عن المفطرات حقيقةَ، أو حكمًا، في وقت مخصوص، من شخص مخصوص مع النيّة. وقال الأمير الصنعانيّ: الصوم في الشرع إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرب، والجماع، وغيرهما، مما ورد به الشرع، في النهار، على الوجه المشروع، ويتبع ذلك الإمساك عن اللغو، والرفَث، وغيرهما، من الكلام المحرّم، والمكروه؛ لورود الأحاديث بالنهي

(1)

"مفردات ألفاظ القرآن" ص 500.

ص: 361

عنها في الصوم، زيادة على غيره، في وقت مخصوص، بشروط مخصوصة، تفصّلها الأحاديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه التعاريف كلها متقاربة المعنى، وأخصرها، أنه إمساك مخصوص، من شخص مخصوص، في زمن مخصوص، عن شيء مخصوص بشرائطه، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثالثة): في بيان أدلّة وجوب الصيام:

(اعلم): أن صوم رمضان واجبٌ، والأصل في وجوبه الكتاب، والسنة، والإجماع، فمن جحد فرضيته، فقد كفر.

أما الكتاب فقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، إلى قوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

وأما السنة فقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس

" فذكر منها صوم رمضان، متّفق عليه.

وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصيام؟، قال:"شهر رمضان"، قال: هل عليّ غيره؛ قال: "لا إلا أن تطوع شيئا

" الحديث، متّفقٌ عليه.

وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان

(1)

.

(المسألة الرابعة): متى فُرض الصيام؟:

(اعلم): أنه فُرِضَ صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شعبان

(2)

، فصام النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات، ثماني نواقص، وواحد كامل على المعتمد، وقيل غير ذلك.

(1)

راجع: "المغني" لابن قُدامة رحمه الله 3/ 3.

(2)

ذكره الطحطاويّ في حاشية "مراقي الفلاح" من كتب الحنفية ص 430.

ص: 362

وقد نظم الأجهوريّ رحمه الله الاختلاف في أشهر الصيام التامّة والناقصة في حياته صلى الله عليه وسلم، فقال [من الرجز]:

وَفُرِضَ الصِّيَامُ ثَانِي الْهِجْرَةِ

فَصَامَ تِسْعَةً نَبِيُّ الرَّحْمَةِ

فَأَرْبَعًا تِسْعًا وِعِشْرِينَ وَمَا

زَادَ عَلَى ذَا بِالْكَمَالِ اتَّسَمَا

كَذَا لِبَعْضِهِمْ وَقَالَ الْهَيْتَمِي

مَا صَامَ كَاملًا سِوَى شَهْر اعْلَم

وِللدَّمِيرِي أَنَّهُ شَهْرَانِ

وَنَاقِصٌ سِوَاهُ خَذْ بَيَانِي

(1)

[تنبيه]: لا فرق بين الشهر الكامل والناقص بالنسبة للثواب المترتّب على صوم رمضان، وأما ما يترتّب على يوم الثلاثين من ثواب واجبه ومندوبه عند سحوره، وفطوره، فهو زيادة يفوق بها الكامل الناقص

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الخامسة): في بيان حكمة مشروعية الصيام:

(اعلم): أن من حكمة مشروعيّة الصيام كونه موجبًا لسكون النفس، وكسر سَوْرتها في الفضول المتعلّقة بجميع الجوارح، من العين، واللسان، والأذن، والفرج، فبالصوم تضعف حركتها في محسوساتها، وكونه موجبًا للرحمة والعطف على المساكين، فإن الإنسان إذا ذاق ألم الجوع في وقت، تذكّر حال المساكين في سائر الأوقات، فيسارع إلى الإحسان إليهم لدفع ألم الجوع عنهم، فينال بذلك حسن الجزاء من الله تعالى.

قال الزرقانيّ رحمه الله: شُرع الصيام لفوائد، أعظمها كسر النفس، وقهر الشيطان، فالشِّبَعُ نَهْرٌ في النفس يَرِدُهُ الشيطان، والجوع نهر في الروح تَرِده الملائكة.

ومنها: أن الغنيّ يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره على ما منع منه كثيرًا من الفقراء، من فضول الطعام، والشراب، والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقّة له بذلك يتذكّر به من مُنِع ذلك على الإطلاق، فيوجب ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه

(1)

راجع: "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" من كتب الحنفيّة (ص 647).

(2)

راجع: "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" 2/ 371.

ص: 363

المحتاج، ومواساته بما يمكن من ذلك. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: نُقِل عن بعض الصوفيّة أن آدم لما تاب من أكل الشجرة تأخر قبول توبته لما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يومًا، فلما صفا جسده منها تيب عليه، ففرض على ذرّيّته صيام ثلاثين يومًا. انتهى.

وهذا مما لا دليل عليه، فقد قال الحافظ رحمه الله بعد ذكره: هذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يُقبل قوله في ذلك، وهيهات وجدان ذلك. انتهى

(2)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1) - (بَابُ فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2495]

(1079) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطينُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 2140)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

(1)

"شرح الزرقاني على الموطأ" 2/ 152 - 153.

(2)

انظر: المصدر السابق 2/ 153.

ص: 364

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(أَبُو سُهَيْلٍ) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ التيميّ المدنيّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.

6 -

(أَبُوهُ) مالك بن أبي عامر الأصبحيّ المدنيّ، ثقةٌ [2](ت 74) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، وابن حُجر، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه، كما أسلفته آنفًا أيضًا.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانَ) وفي رواية النسائيّ: "شهر رمضان"، وهو مأخوذ من الرمضاء، يقال: رَمِضَ النهارُ، كفرح: اشتدّ حره، وقدمه احترقت من الرمضاء؛ أي الأرض الشديدة الحرارة، وسُمِّيَ شهر رمضان به؛ إما لارتماض الصائمين فيه من حرّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو لرمض الحرّ وشدّة وقوعه فيه حال التسمية؛ لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور من اللغة القديمة

ص: 365

سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمَض الحرّ؛ أي شدّته.

وقال الفيّوميّ: الرمضاء: الحجارة الحامية من حر الشمس، ورَمِضَ يومنا رَمَضًا، من باب تَعِب: اشتدّ حرّه، ورَمِضت قَدَمُهُ: احترقت من الرمضاء، ورمِضت الفِصَال: إذا وَجَدت حرّ الرمضاء، فاحترقت أخفافها، ورمضان اسم للشهر، قيل: سمّي بذلك لأن وضعه وافق الرمَضَ، وهو شدّة الحرّ، وجمعه رمضانات، وأَرْمِضَاء، وعن يونس أنه سمع رَمَاضِين، مثلُ شَعَابين. انتهى

(1)

.

(فُتِّحَتْ) بالبناء للمجهول، وبتخفيف التاء، وروي بتشديدها، وقال الزرقانيّ: بتشديد الفوقية، ويجوز تخفيفها، وقال القاري: بالتخفيف، وهو أكثر كما في التنزيل، وبالتشديد لتكثير المفعول. انتهى.

(أَبْوَابُ الْجَنَّةِ) أي تقريبًا للرحمة للعباد، ولهذا جاء في الرواية التالية:"أبواب الرحمة"، وفي رواية أخرى:"أبواب السماء"، وهذا يدلّ على أن أبواب الجنة كانت مُغْلَقة، ولا ينافيه قوله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} الآية [ص: 50]؛ لأن ذلك لا يقتضي دوام كونها مفتّحة (وَغُلِّقَتْ) بالبناء للمجهول، وبتشديد اللام (أَبْوَابُ النَّارِ) أي تبعيدًا للعقاب عن العباد، وهذا يقتضي أيضًا أن أبواب النار كانت مفتوحة، ولا ينافيه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية [الزمر: 71]؛ لجواز أن يكون هناك غلق قبيل ذلك، وغلق أبواب النار لا ينافي موت الكفرة في رمضان، وتعذيبهم بالنار فيه؛ إذ يكفي في تعذيبهم فتح باب صغير من القبر إلى النار غير الأبواب المعهودة الكبار، أفاده السنديّ.

(وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ") بالبناء للمفعول أيضًا، وبتشديد الفاء: أي شددت، وأوثقت بالأغلال، و"الصَّفَدُ" بفتح الفاء: الْغُلّ بضمّ الغين، وفي الرواية التالية:"وسُلسلت"، وهو بمعناه، ولا ينافيه وقوع المعاصي؛ إذ يكفي في وجود المعاصي شرارة النفس، وخباثتها، ولا يلزم أن تكون كل معصية بواسطة شيطان، وإلا لكان لكلّ شيطان شيطان، ويتسلسل، وأيضًا معلوم أنه ما سبق

(1)

المصباح في مادة رمض.

ص: 366

إبليس شيطان آخر، فمعصيته ما كانت إلا من قبل نفسه، والله تعالى أعلم

(1)

.

وقال في "الفتح": قال الْحَلِيميّ: يَحْتَمِل أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه؛ لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع، فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويَحْتَمِل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر، وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم، وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في "صحيحه"، وأورد ما أخرجه هو والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، والحاكم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفّدت الشياطين، ومردة الجنّ"، وأخرجه النسائيّ من طريق أبي قلابة، عن أبي هريرة، بلفظ:"وتُغلّ فيه مردة الشياطين"، زاد أبو صالح في روايته:"وغُلِّقَت أبواب النار، فلم يُفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنّة، فلم يُغلق منها باب، ونادى مُنادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كلّ ليلة"، لفظ ابن خُزيمة.

وقوله: "صُفّدت" بالمهملة المضمومة، بعدها فاء ثقيلة مكسورة: أي شدّت بالأصفاد، وهي الأغلال، وهي بمعنى "سُلسلت"، ونحوه للبيهقيّ من حديث ابن مسعود، وقال فيه:"فتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها بابٌ الشهرَ كلّه".

قال عياض: يَحْتَمِل أنه على ظاهره، وحقيقته، وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر، وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويَحْتَمِل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقلّ إغواؤهم، فيصيرون كالمصفّدين، قال: ويؤيّد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية يونس، عن ابن شهاب، عند مسلم:"فتحت أبواب الرحمة"، قال: ويَحْتَمِل أن يكون فتح أبواب الرحمة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات، وذلك أسباب

(1)

انظر: "شرح السنديّ" 4/ 126 - 127.

ص: 367

لدخول الجنّة، وغلقُ أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء، وتزيين الشهوات.

قال الزين ابن المنيّر: والأول أوجه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره.

وأما الرواية التي فيها: "أبواب الرحمة"، و"أبواب السماء" فمن تصرّف الرواة، والأصل أبواب الجنّة بدليل ما يقابله، وهو غلق أبواب النار، واستُدِلّ به على أن الجنّة في السماء؛ لإقامة هذا مقام هذه الرواية، وفيه نظر.

وجزم التوربشتىّ شارح "المصابيح" بالاحتمال الأخير، وعبارته: فتح أبواب السماء كناية عن تنزّل الرحمة، وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق، وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزّه أنفس الصوّام عن رجس الفواحش، والتخلّص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات.

وقال الطيبىّ: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلّف ذلك بإخبار الصادق ما يزيد في نشاطه، ويتلقّاه بأريحيّة.

وقال القرطبىّ رحمه الله بعد أن مال إلى ترجيح حمله على ظاهره:

[فإن قيل]: كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا؟ فلو صُفّدت الشياطين لم يقع ذلك.

[فالجواب]: أنها إنما تُغَلّ عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، أما من لم يُحافظ عليه فلا يُغلّ عن فاعله الشيطان.

أو المصفّد بعض الشياطين، وهم المردة، لا كلّهم، كما تقدّم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقلّ من غيره؛ إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شرّ، ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين؛ كالنفوس الخبيثة، والعادات القبيحة، والشياطين الإنسيّة.

وقال غيره: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر

ص: 368

المكلّف، كأنه يقال له: قد كفّت الشياطين عنك، فلا تعتلّ بهم في ترك الطاعة، ولا فعل المعصية. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2495 و 2496 و 2497، (1079)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1765 و 1766 و 3035)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(618)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2097 و 2098 و 2099 و 2100 و 2101 و 2102) وفي "الكبرى"(2407 و 2408)، و (ابن ماجه) في "الصوم"(1632)، و (مالك) في "الموطّأ"(604)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 281 و 378 و 410)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 188)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 166)، و (الطبرانىّ) في "الأوسط"(2/ 156) و"الكبير"(17/ 132)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 145)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 202 و 303)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل شهر رمضان.

2 -

(ومنها): إثبات الجنة، والنار، وأنهما الآن موجودتان، وأن لهما أبوابًا تُفْتَح، وتُغْلَق.

قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: الذي عليه جماعةُ أهلُ السنة أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، إحداهما رحمة الله لمن شاء من خلقه، والأخرى عذابه ونقمته لمن شاء أن يعذبه، قال: والدلائل على أنهما مخلوقتان الآن كثيرة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار،

(1)

"الفتح" 4/ 607 - 608 كتاب الصوم.

ص: 369

يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة"، متّفقٌ عليه.

وقول الله عز وجل في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الآية [غافر: 46].

وقوله صلى الله عليه وسلم: "اطَّلعت في الجنّة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء"، متّفقٌ عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة

" الحديث، متّفقٌ عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضًا، فأَذِن لها بِنَفَسين: نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف، فهوأشدُّ ما تجدون من الحرّ، وأشدّ ما تجدون من الزمهرير"، متّفقٌ عليه.

قال: فقوله: "اشتكت النار إلى ربها" أبين شيء في أنها قد خُلِقت، وأنها باقية شتاءً وصيفًا. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله بتصرّف

(1)

، وهو كلام نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): إثبات وجود الشياطين، وأنهم أجسام يمكن شدّها بالأغلال، وأن منهم مَرَدَةً يُغَلُّون بالأغلال في شهر رمضان؛ لئلا يبطلوا أعمال الصائمين.

4 -

(ومنها): بيان عظمة لطف الله سبحانه وتعالى، وكثرة كرمه وإحسانه على عباده، حيث يَحْفَظ لهم صيامهم، ويدفع عنهم أذى المردة من الشياطين؛ لئلا يفسدوا عليهم عبادتهم في هذا الشهر المبارك الذي تضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات.

5 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ للمذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاريّ، والمحققون أنه يجوز أن يقال:"رمضان" من غير ذكر الشهر بلا كراهة، وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب: قالت طائفة: لا يقال: رمضان على انفراده بحال، وإنما يقال: شهر رمضان، هذا قول أصحاب مالك، وزعم هؤلاء أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، فلا يُطْلَق على غيره إلا بقيد.

(1)

راجع: "التمهيد" لابن عبد البر 19/ 112.

ص: 370

وقال أكثر أصحابنا، وابن الباقلانيّ: إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة، وإلا فيكره، قالوا: فيقال: صمنا رمضان، قمنا رمضان، ورمضان أفضل الأشهر، ويندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان، وأشباه ذلك، ولا كراهة في هذا كله، وإنما يكره أن يقال: جاء رمضان، ودخل رمضان، وحضر رمضان، وأُحِبُّ رمضان، ونحو ذلك.

والمذهب الثالث: مذهب البخاريّ، والمحققين أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة، وبغير قرينة، وهذا المذهب هو الصواب، والمذهبان الأولان فاسدان؛ لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع، ولم يَثْبُت فيه نهيٌ، وقولهم: إنه اسم من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، ولم يَصِحَّ فيه شيءٌ، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح، ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة، وهذا الحديث المذكور في الباب صريح في الردّ على المذهبين، ولهذا الحديث نظائر كثيرة في "الصحيح" في إطلاق "رمضان" على الشهر من غير ذكر الشهر، وقد سبق التنبيه على كثير منها في "كتاب الإيمان" وغيره، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2496]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَن ابْنِ أَبِي أنسٍ، أَنَّ أبَاهُ حَدَّثَهُ، أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ رَمَضَانُ، فتِّحَتْ أبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَت الشَّيَاطينُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 187.

ص: 371

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم قريبًا.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله، و (ابْنُ أَبِي أنسٍ) هو: أبو سُهيل المذكور، و"أبوه" هو: مالك بن أبي عامر.

وقوله: (وَسُلْسِلَت الشَّيَاطِينُ) بالبناء للمفعول، كسابقيه؛ أي شُدّت بالسلاسل، وهو بمعنى "صُفّدت" في الرواية السابقة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2497]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَالْحُلْوَانِىُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي أنَسٍ، أَنَّ أبَاهُ حَدَّثَهُ، أنَّهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ

" بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ، ربما وَهِمَ [10](5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(يَعْقُوبُ) بن إبراهيم بن سعد الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(أبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

ص: 372

5 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أوأبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان، عن ابن شهاب هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" (4/ 127) فقال:

(2099)

- أخبرنا عُبيد اللهِ بن سَعْدِ بن إبراهيم، قال: حدّثنا عَمِّي، قال: حدثنا أبي، عن صَالِحٍ، عن ابن شِهَابٍ، قال: أخبرني نَافِعُ بن أبي أَنَسٍ، أَنَّ أَبَاهُ حدّثه، أَنَّهُ سمع أَبَا هُرَيْرَةَ يقول: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَت الشَّيَاطِينُ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ لِرُؤيةِ الْهِلَالِ، وَالْفِطْرِ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَأنَّهُ إِذَا غُمَّ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ، أُكْمِلَتْ عِدَّةُ الشَّهْرِ ثَلَاِثينَ يَوْمًا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2498]

(1080) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ، فَقَالَ: "لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوهُ، فَإنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه الحجة الثبت المشهور [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

ص: 373

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 74)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (155) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن هذا الإسناد أصح الأسانيد مطلقًا -مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما على ما رُوي عن الإمام البخاريّ رحمه الله، وقد تقدّم غير مرّة.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما صحابيّ ابن صحابيّ، من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتيا.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ) أي كيفيّة دخوله لأداء الصوم الواجب فيه (فَقَالَ: "لَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ) أي هلال شهر رمضان.

و"الهلال" بالكسر قال الفيّومي: وأما الهلال فالأكثر أنه القمر في حالة خاصّة، قال الأزهريّ: ويُسمّى القمر لليلتين من أول الشهر هلالًا، وفي ليلة ستّ وعشرين، وسبع وعشرين أيضًا هلالًا، وما بين ذلك يُسمَّى قمرًا، وقال الفارابيّ، وتَبِعه في "الصحاح": الهلال لثلاث ليالٍ من أول الشهر، ثمّ هو قمرٌ بعد ذلك، وقيل: الهلال هو الشهر بعينه. انتهى

(1)

.

والحديث فيه النهي عن صوم رمضان إلا بثبت، وهو أن يرى الشخص هلاله بنفسه، أو من يثق به.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 639.

ص: 374

(وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ) أي هلال شوّال، قال النوويّ رحمه الله: المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميعَ الناس رؤية عدلين، وكذا عدل على الأصحّ، هذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور، فجوّزه بعدل. انتهى

(1)

.

(فَإنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ) أي غُطّي عليكم، وسُتر أولُهُ، أو آخره، وفي الرواية التالية:"فإن غُمَّ عليكم"، قال الطيبيّ: أي غُطِّي الهلالُ بغيم، من غَمَمتُ الشيءَ: إذا غطيته، وفيه ضمير الهلال، ويجوز أن يكون مسندًا إلى الجار والمجرور، بمعنى إن كنتم مغمومًا عليكم، وترك ذكر الهلال للاستغناء عنه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبىّ رحمه الله: قوله: "فإن أُغمي عليكم" في "أُغْمي" ضمير يعود إلى الهلال، فهو الْمُغْمَى عليه، لا الناظرون، وتقديره: فإن أُغمي الهلال عليكم، وأصلُ الإغماء: التغطيةُ، والغمّ، ومنه الْمُغْمَى عليه؛ لأنه غُطّي عقله عن مصالحه، ويقال: أُغمي الهلال، وغُمِّي -مشدّد الميم- وكلاهما مبنيّ لما لم يُسمَّ فاعله، ويقال أيضًا: غُمّ مبنيًّا لما لم يُسمّ فاعله مُشدّدًا، وكذلك جاءت رواية أبي هريرة رضي الله عنه، فعلى هذا يقال: أُغمي، وغُمي -مخفّفًا، ومشدّدًا- رباعيًّا وثلاثيًّا، وغُمّ، فهي أربع لغات، ويقال: غامت السماءُ تَغيم غيمومةً، فهي غائمة، وغَيْمَةٌ، وأغامت، وتغيَّمَت، وغَيَّمَتْ، وأَغْمَتْ، وغَمَتْ.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فإن غُمِي" أي خَفِيَ، يقال: غُمِي عليّ الخبرُ: أي خَفِيَ، وقيل: مأخوذ من الغَمَاء، وهو السحاب الرقيق، وقد وقع للبخاريّ:"غَبِيَ" بالباء، وفتح الغين: أي خفي، ومنه الغَبَاوة. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غُمَّ، وأُغْمِيَ، وغُمِيَ، وغُمِّيَ بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيهما، ويقال: غَبِيَ

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 190.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1579.

(3)

"المفهم" 3/ 138 - 147.

ص: 375

بفتح الغين، وكسر الباء، وكلها صحيحة، وقد غامت السماء، وغَيَّمَتْ، وأغامت، وتَغَيَّمَتْ، وأَغْمَت، وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك، والشافعيّ، والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان؛ إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم. انتهى

(1)

.

(فَاقْدُرُوا لَهُ") بضم الدال وكسرها، يقال: قَدَرْتُ لأمر كذا: إذا نظرت فيه، ودَبَّرته

(2)

.

وقال القرطبىّ رحمه الله: أي قدّروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يومًا، يقال: قَدَرتُ الشيءَ أقدُره، وأقدِره -بالتخفيف- بمعنى قدّرته -بالتشديد- قال: وهذا مذهب الجمهور في معنى هذا الحديث، وقد دلّ على صحّته ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه مكان "فاقدروا له":"فأكملوا العدّة ثلاثين"، وهذا الحديث حجّةٌ على من حَمَلَ "فاقدروا له" على معنى تقدير المنازل القمريّة، واعتبار حسابها، وإليه صار ابن قُتيبة من اللغويين، ومطرّف بن عبد الله بن الشِّخِّير من كبراء التابعين، ومن الحجة أيضًا على هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم:"إنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ لا نكتب، ولا نَحْسُبُ"، فألغى الحساب، ولم يجعله طريقًا لذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، وهو بحثٌ نفيسٌ.

وقال النوويّ رحمه الله قوله: "فاقدروا له": قال أهل اللغة: يقال: قَدَرتُ الشيءَ أَقْدِرُهُ -بكسر الدال- وأَقْدُرُه -بضمّها- وقَدَّرتُهُ، وأقدرته، بمعنى واحد، وهو من التقدير، قال الخطابىّ: ومنه قول الله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23].

وفي رواية: "فاقدروا له ثلاثين"، وفي رواية:"إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدروا له"، وفي رواية:"فإن غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا"، وفي رواية:"فإن غُمّيَ عليكم فأكملوا العدد"، وفي رواية:"فإن غُمّيَ عليكم الشهر، فَعُدُّوا ثلاثين"، وفي رواية:"فإن أُغْمِي عليكم، فعدوا ثلاثين".

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 189 - 190.

(2)

"عمدة القاري" 10/ 271.

(3)

"المفهم" 3/ 138.

ص: 376

وهذه الروايات كلها عند المصنّف على هذا الترتيب.

وفي رواية للبخاريّ: "فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

واختلف العلماء في معنى "فاقدروا له"، فقالت طائفة من العلماء: معناه ضَيِّقُوا له، وقدِّروه تحت السحاب، وممن قال بهذا أحمد بن حنبل، وغيره، ممن يُجَوِّز صوم يوم ليلة الغيم من رمضان، كما سنذكره -إن شاء الله تعالى- وقال ابن سُرَيج وجماعة، منهم مطرف بن عبد الله، وابن قتيبة، وآخرون: معناه: قَدِّروه بحساب المنازل، وذهب مالك، والشافعىّ، وأبو حنيفة، وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا.

واحتَجَّ الجمهور بالروايات المذكورة: "فأكملوا العدة ثلاثين"، وهو تفسير لـ"اقدروا له"، ولهذا لم يجتمعا في رواية، بل تارة يُذْكَر هذا، وتارة يُذْكَر هذا، وتؤكده الرواية السابقة بلفظ:"فاقدروا له ثلاثين".

قال المازريّ رحمه الله: حَمَلَ جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" على أن المراد إكمال العدة ثلاثين، كما فَسَّره في حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حسابَ المنجمين؛ لأن الناس لو كُلِّفُوا به ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يُعَرِّف الناس بما يَعْرِفه جماهيرهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور هو الحق، وأما القولان الآخران فضعيفان، كما سنحقّقه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فاتفق الرواة عن مالك، عن نافع، فيه على قوله:"فاقدروا له"، وجاء من وجه آخر عن نافع، بلفظ:"فاقدروا ثلاثين"، كذلك أخرجه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، وهكذا أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال عبد الرزاق: وأخبرنا عبد العزيز بن أبي رَوّاد، عن نافع به، وقال:"فَعُدُّوا ثلاثين".

واتفَقَ الرواة عن مالك، عن عبد الله بن دينار أيضًا فيه على قوله:"فاقدروا له"، وكذلك رواه الزعفرانيّ وغيره عن الشافعيّ، وكذا رواه إسحاق

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 7/ 189.

ص: 377

الحربيّ وغيره في "الموطأ" عن القعنبيّ، وأخرجه الربيع بن سليمان، والْمُزَنِيّ، عن الشافعيّ، فقال فيه كما قاله البخاريّ عن القعنبيّ:"فإن غُمَّ عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين".

قال البيهقيّ في "المعرفة": إن كانت رواية الشافعيّ والقعنبيّ من هذين الوجهين محفوظةً، فيكون مالك قد رواه على الوجهين.

قال الحافظ: ومع غرابة هذا اللفظ من هذا الوجه، فله متابعاتٌ: منها: ما رواه الشافعيّ أيضًا من طريق سالم، عن ابن عمر بتعيين الثلاثين.

ومنها: ما رواه ابن خزيمة من طريق عاصم بن محمد بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر بلفظ:"فإن غُمّ عليكم، فكَمِّلوا ثلاثين".

وله شواهد من حديث حُذيفة رضي الله عنه عند ابن خزيمة، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنهم عند أبي داود، والنسائيّ، وغيرهما، وعن أبي بكرة، وطلق بن عليّ رضي الله عنهما عند البيهقيّ، وأخرجه من طرق أخرى عنهم، وعن غيرهم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2498 و 2499 و 2500 و 2501 و 2502 و 2503 و 2504 و 2505 و 2506 و 2507 و 2508 و 2509 و 2510 و 2511 و 2512 و 2513](1080)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1900 و 1906 و 1907)، و (أبو داود) في "الصوم"(2/ 297)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 134) و"الكبرى"(2/ 70)، و (ابن ماجه) في "الصوم"(1/ 529)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 286)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 156)، و (ابن أبي شيبة)

(1)

"الفتح" 5/ 240 - 241.

ص: 378

في "مصنّفه"(2/ 284)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 187)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 5 و 13 و 63 و 145)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 8)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 584)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 146 و 147 و 148)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 337)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 301 و 302 و 304)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 226 و 229 و 359 و 362)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 232)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 204 و 205)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 161)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1713)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن وجوب الصوم متعلّق برؤية الهلال.

2 -

(ومنها): أنه يفيد أنه لا يلزم الصوم، ولا يثبت كون اليوم من رمضان بغير رؤية؛ لا بتقديرٍ تحت السحاب في الغيم، ولا برجوع إلى حساب.

واختُلف في جواز صومه عن رمضان، ومقتضى الحديث منع ذلك؛ لأنه صوم قبل الرؤية، وهو مذهب الشافعيّ وغيره، وقالوا: لا ينعقد صومه، ولا يجزيه إن ظهر أنه من رمضان، واقتصر الحنفيّة على الكراهة، وقالوا: إن ظهر أنه من رمضان أجزأه عنه، وإن ظهر أنه من شعبان كان تطوعًا. أفاده وليّ الدين رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول هو الأرجح عندي؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروه"؛ إذ النهي يقتضي الفساد، والفاسد لا يكون مُسقطًا لفرض رمضان، وكذلك لا ينعقد تطوعًا؛ إلا لمن كان عادته أن يصوم ذلك اليوم، فيجوز؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"ألا لا تقدّموا الشهر بيوم، أو اثنين؛ إلا رجل كان يصوم صيامًا، فليصمه"، وهو حديث صحيح، أخرجه النسائيّ، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أن مقتضى الحديث أيضًا منع صومه عن غير رمضان، واختُلف في ذلك أيضًا، فجوّزت المالكية، والشافعية صومه عن قضاء، أو نذر، أو كفارة، أو تطوّعًا إذا وافق وِرْده، واختلفوا في جواز التطوع بصومه

ص: 379

بلا سبب، فمنعه الشافعية، وقالوا بتحريمه، فإن صامه فالأصحّ عندهم بطلانه، والمشهور عند المالكية جوازه، وقال محمد بن مسلمة بكراهته. وكره الحنفيّة صومه عن واجب آخر، ولم يكرهوا التطوّع بصومه.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الصواب عدم مشروعية صومه مطلقًا، قضاءً، أو غير ذلك، إلا من وافق وِرْده، فإنه يصحّ أن يصومه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، والله تعالى أعلم.

قال وليّ الدين رحمه الله: ثم إن ذلك كله مفروض في يوم الشكّ، لا في مطلق الثلاثين من شعبان. قال أصحابنا -يعني الشافعية-: ويوم الشكّ يوم الثلاثين من شعبان إذا تُحُدِّث برؤيته، أو شهد بها من لا تثبت بقوله، فإن لم يَتَحدّث برؤيته أحد فليس يوم شكّ، ولو كانت السماء مغيمة، وقال المالكيّة: هو يوم الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مغيمة. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): بيان أن النهي عن صوم يوم الشكّ؛ لعدم رؤية الهلال، وقد أخرج أبو داود والترمذيّ، والنسائىّ، وصحّحه ابن خزيمة عن عمّار بن ياسر رضي الله عنهما قال:"من صام يوم الشكّ، فقد عَصَى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ".

5 -

(ومنها): أن قوله: "حتى تروا الهلال" فيه إيجاب الصوم حين الرؤية متى وُجِدت ليلًا أو نهارًا، لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فَرَّق بين ما قبل الزوال وبعده، وخالف الشيعة الإجماع، فأوجبوه مطلقًا، قاله في "الفتح"

(2)

.

6 -

(ومنها): أن الحديث ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم، وغيرها، قال في "الفتح": ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة -يعني قوله: "لا تصوموا حتى تروا الهلال"- لكفى ذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة، وهو قوله:"فإن غُمّ عليكم، فاقدروا له"، فاحتَمَلَ أن يكون المراد التفرقةَ بين حكم الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقًا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويَحْتَمِل أن لا تفرقةَ، ويكون الثاني مؤكِّدًا للأول، وإلى الأول

(1)

"طرح التثريب" 4/ 114.

(2)

"الفتح" 5/ 241.

ص: 380

ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور، فقالوا: المراد بقوله: "فاقدروا له": أي انظروا في أول الشهر، واحسُبُوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الرواياتُ الأُخَرُ المصرحة بالمراد، وهي ما تقدم من قوله:"فأكملوا العدة ثلاثين"، ونحوها، وأولى ما فُسِّر الحديث بالحديث. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور هو الصواب، كما رجحه الحافظ رحمه الله، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

7 -

(ومنها): أنه يدلّ على وجوب الصوم على المنفرد برؤية هلال رمضان، وعلى وجوب الإفطار عليه أيضًا برؤية هلال شوّال، وإن لم يثبت ذلك بقوله، وهو قول الأئمة الأربعة في هلال رمضان، واختلفوا في الإفطار برؤية شوّال وحده، فقال الثلاثة: لا يفطر، بل يستمرّ صائمًا؛ احتياطًا للصوم، وقال الشافعيّ: يلزمه الفطر، ولكن يخفيه؛ لئلا يُتّهم، وهو مقتضى قوله:"ولا تفطروا حتى تروه"، وذهب عطاء بن أبي رباح، وإسحاق ابن راهويه إلى أنه لا يصوم برؤيته وحده، وعن أحمد أنه لا يصوم إلا في جماعة الناس، وروي نحوه عن الحسن، وابن سيرين، قاله وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله عند قوله: "صوموا لرؤيته إلخ" ما نصّه: يقتضي لزوم حكم الصوم والفطر لمن صحّت له الرؤية، سواء شُورك في رؤيته، أو انفرد بها، وهو مذهب الجمهور. وذهب عطاء، وإسحاق إلى أنه لا يلزمه حكم شيء من ذلك إذا انفرد بالرؤية، وهذا الحديث ردّ عليهما. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الذي ذهب إليه الجمهور، من وجوب الصوم والإفطار على من رأى الهلال وحده هو الحقّ؛ لصريح قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا"، وقد تحقّقت رؤيته، فتبصّر. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

8 -

(ومنها): أن الحديث يتناول رؤية الهلال ليلًا ونهارًا، لكنه إذا رئي نهارًا فهو للّيلة المستقبلة، فإن كان ذلك يوم الثلاثين من شعبان لم يصوموا،

(1)

"الفتح" 5/ 241.

(2)

انظر: "طرح التثريب" 4/ 117.

(3)

"المفهم" 3/ 138 - 139.

ص: 381

وإن كان يوم الثلاثين من رمضان لم يفطروا، وسواء كان ذلك قبل الزوال، أو بعده، هذا هو المشهور في المذاهب الأربعة، وحُكي عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأنس، والأوزاعيّ، والليث بن سعد، وإسحاق ابن راهويه، وذهب سفيان الثوريّ، وأبو يوسف، وبعض المالكيّة إلى أنه إن رئي قبل الزوال فهو للّيلة الماضية، وهو رواية عن أحمد، وبه قال ابن حزم الظاهريّ، قاله وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول الأول الذي عليه الجمهور هو الأقرب عندي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له":

اختلفوا في المراد به على مذاهب:

(الأول): مذهب الجمهور، قالوا: معناه: قدّروا له تمام العدد ثلاثين يومًا؛ أي انظروا في أول الشهر، واحسبوا تمام ثلاثين يومًا.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله -بعد أن بيّن اختلاف الروايات في حديث ابن عمر هذا، ففي رواية:"فاقدروا له"، وفي رواية:"فاقدروا ثلاثين"، وفي رواية:"فأكملوا العدّة ثلاثين"، وفي رواية:"فعدّوا ثلاثين" -ما حاصله: والروايات يفسّر بعضها بعضًا، والحديث إذا جُمعت طرقه تبيّن المراد منه، وقد دلّ على ذلك أيضًا ما رواه البخاريّ من حديث شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم، فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين"، رواه مسلم من حديث سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"فصوموا ثلاثين يومًا"، وليس ذلك اضطرابًا في الخبر؛ لأنا مأمورون بذلك في الصوم والفطر، وقد ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم صورة الغمّ علينا بعد قوله:"لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه"، فعاد إلى الصورتين معًا؛ أي فإن غمّ عليكم في صومكم، أو فطركم، فذكر في إحدى الروايتين إحدى الصورتين، وفي الأخرى الصورة الأخرى، وأتى في بعض

(1)

المصدر السابق.

ص: 382

روايات حديث أبي هريرة بعبارة متناولة لهما، ففي رواية لمسلم:"فعدّوا ثلاثين"، وفي رواية له:"فأكملوا العدد".

ومن العجيب اعتراض بعض الحنابلة على رواية البخاريّ بأن الإسماعيليّ قد أخرجها في "مستخرجه" من رواية غندر، عن شعبة بلفظ:"فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين"، ثم عدّ جماعة رووه عن شعبة كذلك، ثم قال هذا الحنبليّ: وهذا يجوز أن يكون من آدم بن أبي إياس رواه على التفسير من عنده للخبر. انتهى.

وغايته أن رواية البخاريّ خاصّة، والرواية التي حكاها عن غيره عامّة، تتناول شعبان ورمضان، فلا معنى لحملها على رمضان، لا سيما، وهم يؤولون قوله:"فاقدروا له" كما سيأتي بيانه، ويَحْمِلونه على تقدير الهلال تحت السحاب، وذلك يدلّ على أن المراد شعبان، وهذا يدلّ على مخالفة كلام هذا الحنبليّ لكلام أئمته، ولا جائز أن يُحمَل الشرط في قوله:"فإن غمّ عليكم" على صورة، والجزاء، وهو قوله:"فعدوا ثلاثين" على صورة غيرها.

ولقد أنصف الإمام شمس الدين محمد بن عبد الهادي، وهو من أعيان متأخري الحنابلة، فقال في "تنقيح التحقيق": الذي دلت عليه أحاديث هذه المسألة، وهو مقتضى القواعد أن أيّ شهر غُمّ أُكمِلَ ثلاثين، سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما، وعلى هذا فقوله:"فإن غمّ عليكم، فأكملوا العدّة" يرجع إلى الجملتين، وهما قوله:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم، فأكملوا العدّة"؛ أي غُمّ عليكم في صومكم وفطركم، هذا هو الظاهر من اللفظ، وباقي الأحاديث يدلّ عليه.

قال: وما ذكره الإسماعيليّ غير قادح في صحّة الحديث؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قال اللفظين، وهذا مقتضى ظاهر الرواية، وإما أن يكون قال أحدهما، وذكر الراوي اللفظ الآخر بالمعنى، فإن الأمرين في قوله:"فأكملوا العدة" للشهرين. انتهى

(1)

.

(1)

ونقل في "الفتح" كلام ابن عبد الهادي المذكور، وقال في آخره ما نصّه: وبقية الأحاديث تدل عليه، فاللام في قوله "فأكملوا العدة" للشهر؛ أي عِدَّة الشهر، =

ص: 383

وفي "سنن أبي داود" عن عمر بن عبد العزيز: "وإن أحسن ما يقدّر له إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا، فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا، إلا أن يروا الهلال قبل ذلك". وفي رواية للبيهقيّ في "سننه" في الحديث المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فإن غُمّ عليكم، فإنها ليست تُغمَى عليكم العدّة".

وقد روى مالك في "الموطأ" عقب حديث ابن عمر حديث عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، فقال:"لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم، فأكملوا العدّة ثلاثين"، قال ابن عبد البرّ: جعله بعده؛ لأنه عنده مفسّر له، ومبيّن لمعنى قوله:"فاقدروا له".

قال وليّ الدين: وكذا رواه الترمذيّ بلفظ: "فأكملوا ثلاثين يومًا"، وهو عند أبي داود بلفظ:"فإن حال دونه غمامة، فأتموا العدّة ثلاثين، ثم أفطروا"، وعند النسائيّ بلفظ:"فإن حال بينكم وبينه سحابة، أو ظلمة، فأكملوا العدّة، عدّة شعبان"، وهذا على ما قدّمته في حديث ابن عمر ذَكَرَ في رواية أبي داود صورةً، وفي رواية النسائيّ أخرى، وأتى في رواية مالك، والترمذيّ بما يَشمَل الصورتين، وليس ذلك اضطرابًا، وفي "صحيح مسلم" عن أبي الْبَخْتَريّ، قال: أهللنا رمضان، ونحن بذات العرق، فأرسلنا رجلًا إلى ابن عباس، فسأله؟ فقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أمده لرؤيته، فإن غمي عليكم، فأكملوا العدّة"، وفي رواية له: فلقينا ابن عباس، فقلنا، وذكره، وهذا

= ولم يَخُصّ صلى الله عليه وسلم شهرًا دون شهر بالإكمال إذا غُمَّ، فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك؛ إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لبيّنه، فلا تكون رواية مَن رَوَى:"فأكملوا عِدّة شعبان"، مخالفة لمن قال:"فأكملوا العدة"، بل مبينهَ لها، ويُؤَيِّد ذلك قوله في الرواية الأخرى:"فإن حال بينكم وبينه سحابٌ، فأكملوا العِدّة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا"، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وأبو يعلى، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما هكذا، ورواه الطيالسيّ من هذا الوجه، بلفظ:"ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان"، وروى النسائيّ من طريق محمد بن حُنَيْن، عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ:"فإن غم عليكم، فأكملوا العدّة ثلاثين". انتهى ما في "الفتح" 5/ 242 - 243.

ص: 384

شاهد لرواية مالك وغيره. وروى أبو داود، والنسائيّ عن حذيفة رضي الله عنه، مرفوعًا:"لا تقدّموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدّة، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة"، وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنهما:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غمّ عليه عَدَّ ثلاثين يومًا، ثم صام".

وقد رُويَ هذا المعنى، وهو إكمال العدّة ثلاثين يومًا عند الغمّ علينا من حديث جابر، وأبي بكرة، وعمر بن الخطاب، ورافع بن خَدِيج، وعليّ بن أبي طالب، وطلق بن عليّ، والبراء بن عازب رضي الله عنهم، وقد جمع ذلك الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ"، قال ابن عبد البرّ: ولم يرو أحد فيما علمت "فاقدروا له" إلا ابن عمر وحده، والله تعالى أعلم.

(المذهب الثاني): مذهب من قال: إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له": ضيّقوا له، وقَدِّرُوه تحت السحاب، ومن قال بهذا أوجب الصيام من الغد ليلة الثلاثين من شعبان إن كان في محلّ الهلال ما يمنع رؤيته، من غيم وغيره.

وهذا مذهب ابن عمر رضي الله عنهما راوي هذا الحديث، ففي "سنن أبي داود": فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعًا وعشرين نُظِرَ له، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يَحُلْ دونه منظره سحاب، أو قَتَرَة، أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب، أو قترة أصبح صائمًا، قال: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب.

قال الخطّابيّ: يريد أنه كان يفعل هذا الصنيع في شهر شعبان احتياطًا للصوم، ولا يأخذ بهذا الحساب في شهر رمضان، ولا يفطر إلا مع الناس.

قال وليّ الدين: وكأن الراوي أشار بذلك إلى النقض على ابن عمر في كونه قال بما يقتضي حمل التقديرين على التضييق، وتقديره تحت السحاب في إحدى الصورتين، دون الأخرى، ولو اختلف حكمهما لبَيَّنَه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفصل بينهما، وقد نبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على التسوية بينهما بنهيه عن صوم يوم الشكّ، وقد تبع ابنَ عمر على هذا المذهب أحمدُ بن حنبل في المشهور عنه.

قال ابن الجوزيّ رحمه الله في تصنيف له سمّاه "دَرْء اللَّوْم والضَّيْم في صوم يوم الغيم": وهذا مرويّ عن الصحابة، عن عمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي

ص: 385

طالب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والحكم بن أيوب الغفاريّ، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم، قال: وقال به من كبراء التابعين سالم بن عبد الله، ومجاهد، وطاوس، وأبو عثمان النّهْديّ، ومطرّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وميمون بن مهران، وبكر بن عبد الله المزنيّ، في آخرين.

حكاه عنه الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ"، وردّ عليه في حكايته عن هؤلاء الصحابة، فذكر أن الرواية في ذلك عن عمر منقطعة، فإنها من رواية مكحول عنه، ولم يدركه، وأن ابن الجوزيّ إنما نقل ذلك عن عليّ؛ لأنه قال:"أصوم يومًا من شعبان أحبّ إليّ من أفطر يومًا من رمضان"، قال العراقيّ: وهو منقطع، ثم إنه إنما قاله عند شهادة واحد على رؤية الهلال، لا في الغيم، كما رواه الدارقطنيّ في "سننه" مبيّنًا، ولا يحلّ الاختصار على هذا الوجه؛ لأنه يُخلّ بالمعنى، قال: والمعروف عن عمر، وعليّ خلاف ذلك ففي "مصنّف ابن أبي شيبة" عن كلّ منهما أنه كان يخطب إذا حضر رمضان، فيقول:"ألا لا تقدّموا الشهر؛ إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتم الهلال فأفطروا، فإن غمّ عليكم، فأتمّوا العدّة".

ومستند ابن الجوزيّ في نقل ذلك عن أنس ما رواه عن يحيى بن إسحاق أنه قال: رأيت الهلال إما عند الظهر، وإما قريبًا منه، فأفطر ناس من الناس، فأتينا أنس بن مالك، فأخبرناه برؤية الهلال، وبإفطار من أفطر، فقال: هذا اليوم يكمل لي أحدًا وثلاثين

(1)

يومًا، وذلك أن الحكم بن أيوب أرسل إليّ قبل صيام الناس أني صائم غدًا، فكرهت الخلاف عليه، فصمت، وأنا متمّ صوم يومي هذا إلى الليل.

قال العراقيّ: هذا لم يفعله للغيم، وإنما فعله كراهية للاختلاف على الأمير، وهو ابن عمّ الحجاج بن يوسف الثقفيّ، فهو موافق لرواية عن أحمد: إن الخيرة إلى الأمير في صيام ليلة الغيم، فلم يصمه أنس عن رمضان، وقد أفطر الناس ذلك اليوم، وأراد أنس ترك الخلاف على أمره.

(1)

وقع في نسخة "الطرح": "أحدٌ وثلاثون" بالرفع، والظاهر أنه غلط، فليحرّر.

ص: 386

قال العراقي: والمعروف عن أبي هريرة رضي الله عنه خلاف ما نقله عنه، كما في "مصنّف ابن أبي شيبة" عنه أنه قال: نُهي أن يتعجّل قبل رمضان بيوم أو يومين. لكن روى البيهقيّ عنه من رواية أبي مريم عنه: "لأن أصوم اليوم الذي يشكّ فيه من شعبان أحبّ إليّ من أفطر يومًا من رمضان"، ثم قال البيهقيّ: كذا روي عن أبي هريرة بهذا الإسناد، ورواية أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في النهي عن التقدّم إلا أن يوافق صومًا كان يصومه أصحّ من ذلك. انتهى.

قال: وأما أثر معاوية، فإنه ضعيف لا يصحّ، وقد رواه ابن الجوزيّ في "العلل المتناهية" من رواية مكحول عنه، وضعّفه، قال: وأما أثر عمرو بن العاص، فلم أر له إسنادًا، قال: وأما الحكم بن أيوب، فهو الثقفيّ، وهو من التابعين، كما ذكره ابن حبّان في ثقات التابعين. قال: فلم يقل به أحد من العشرة الذين ذكرهم ابن الجوزيّ إلا ابن عمر، وعائشة، وأسماء رضي الله عنهم، واختُلِف عن أبي هريرة كما تقدّم.

قال البيهقيّ رحمه الله: ومتابعة السنّة الثابتة، وما عليه أكثر الصحابة، وعوامّ أهل العلم أولى بنا. انتهى.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: لم يُتابع ابن عمر على تأويله ذلك فيما علمت إلا طاوس، وأحمد ابن حنبل، وروي عن أسماء بنت أبي بكر مثله، وعن عائشة نحوه. انتهى.

(المذهب الثالث): مذهب فرقة ثالثة، قالوا: إن معنى الحديث: قَدّرُوه بحساب المنازل، حكاه النوويّ في "شرح مسلم" عن ابن سُريج، وجماعة، منهم مطرّف بن عبد الله، وابن قتيبة، وآخرون، وقال ابن عبد البرّ: رُوي عن مطرّف بن الشّخّير، وليس بصحيح عنه، ولو صحّ ما وجب اتباعه عليه؛ لشذوذه فيه، ولمخالفة الحجّة له، ثم حكى عن ابن قتيبة مثله، وقال: ليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو من يُعرّج عليه في مثل هذا الباب، ثم حَكَى عن ابن خويز منداد أنه حكاه عن الشافعيّ، ثم قال ابن عبد البرّ: والصحيح عنه في كتبه، وعند أصحابه، وجمهور العلماء خلافه، قال وليّ الدين: لا يعرف ذلك عن الشافعيّ أصلًا، والله أعلم.

وبالغ ابن العربيّ في "العارضة" في إنكاره مقالة ابن سُريج هذه، قال

ص: 387

المازريّ عن الجمهور: لا يجوز أن يكون حساب المنجّمين؛ لأن الناس لو كُلّفوا به ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا الأفراد، والشرع إنما يعرّف الناس بما يعرفه جماهيرهم، وحكى ابن العربيّ عن ابن سريج أن قوله:"فاقدروا" خطاب لمن خصّه الله بهذا العلم، وقوله:"فأكملوا العدّة" خطاب للعامة، قال ابن العربيّ: فكأن وجوب رمضان جعله مختلف الحال، يجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب الْجُمَّل، إن هذا لبعيد عن النبلاء، فكيف عن العلماء؟.

وقال ابن الصلاح رحمه الله في "مشكل الوسيط": معرفة منازل القمر هو معرفة سير الأهلّة، وهو غير المعرفة بالحساب على ما أشعر به كلام الغزاليّ في الدرس، فالحساب أمر دقيق يختصّ بمعرفته الآحاد، والمعرفة بالمنازل كالمحسوس يشترك في ذكره الجمهور، ممن يراقب النجوم. انتهى.

قال وليّ الدين: فمعرفة منازل القمر هي التي قال بها ابن سريج، ثم إنه لم يقل بها في حقّ كلّ أحد، وإنما قال بها في حقّ العارف بها، وإنما قال بجوازه له، كذا ذكر الرويانيّ عنه. ونقل الجواز أيضًا عن اختيار القفّال، والقاضي أبي الطيّب الطبريّ، وحكى الشيخ في المهذّب عن ابن سُريج لزوم الصوم في هذه الصورة، ثم ذكر وليّ الدين تفاصيل الأوجه في مذهب الشافعيّ في مسألة الحاسب والمنجّم، وبسط الكلام فيه.

وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": وأما ما دلّ الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يُرى لولا وجود المانع، كالغيم، فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعيّ، قال: وليس حقيقة الرؤية تشترط في اللزوم؛ لأن الاتفاق على أن المحبوس في الممطورة إذا علم بإكمال العدّة، أو الاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال، ولا أخبره من رآه.

وردّ عليه الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، فقال: المحبوس في الممطورة معذور، فيجب عليه الاجتهاد في دخول الوقت، ويجب عليه العمل بما أدّى إليه اجتهاده، فإن تبيّن خطؤه بيقين أعاد، وحصول الغيم في المطالع أمر معتاد، والسبب الشرعيّ للوجوب إنما هو الرؤية، لا علم ذلك بالحساب؛

ص: 388

لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إنا أمة أميّة، لا نحسب، ولا نكتب

" الحديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد أجاد الحافظ العراقيّ رحمه الله في الاعتراض على ما قاله ابن دقيق العيد من الاعتماد على أن الهلال قد طلع، وقد ردّ الصنعاني عليه أيضًا في حاشيته "العدّة" ردًّا جميلًا، فراجع حاشيته 3/ 328 - 329

(1)

.

(1)

نصّه رحمه الله: أقول: إن النصّ اشترط في لزوم الصوم أحد أمرين: إما الرؤية، أو إكمال العدّة ثلاثين، ودلّ الدليل على أن رؤية البعض كافيةٌ فإثبات اللزوم بمجرّد الحساب ينافي النصّ، وقياسه على من حُبس في ممطورة قياسٌ مع الفارق؛ إذ مَن في الممطورة قد تعذّر عليه معرفة الْمُدْرَك المنصوص عليه حتى لو رآه الناس لَمَا رآه، فرجوعه إلى الحساب والقرائن بالضرورة؛ لأنه ليس في حقّه شيء يَعرِف به الصوم إلا ذلك، وكيف يرجع إلى قول الحاسب والشارعُ يقول:"فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين"، ولو كان كلام الحاسب مُدْرَكًا شرعيًّا للصوم والإفطار لَمَا أهمله الشارع، بل أشار إلى خلافه بقوله:"إنّا أُمّة أميّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ"، ثم قال: "الشهر هكذا

" الحديث، فأشار بيديه إلى الثلاثين، والتسع والعشرين.

قال القاضي عياضٌ رحمه الله ما حاصله: وصفه صلى الله عليه وسلم لهم بالأميّة، وأنهم لا يحسُبُون لم ينف عنهم معرفة مثل هذا الحساب، وإنما وصفهم بذلك طرحًا للاعتداد بالمنازل، وطرُق الحساب الذي تُعَوِّل عليه الأعاجم في صومها وفطرها، وفُصُلِها. انتهى.

قال: وأغرب ابن السبكيّ، فقال: لو شَهِد شاهد واحدٌ برؤية الهلال، واقتضى الحساب عدم إمكان رؤيته لا تُقبل الشهادة؛ لأن الحساب قطعيّ، والشهادة ظنيّةٌ، وشرط قبولها إمكان ما شُهد له حسًّا أو عقلًا، أو شرعًا، وهذا لا يُخالف قول الفقهاء: إنه لا اعتماد على الحساب؛ لأنهم قالوا في عكس هذه الصورة، وهو إذا دلّ الحساب على إمكان الرؤية. انتهى.

قال الصنعانيّ: قلت: هذه القطعيّة المدّعاة إن أراد أنها قطعيّة عند الحاسب، وسلّمنا له ذلك فهو رجوع إلى قول بعض أكابر الشافعيّة: إنه يختصّ الحاسب بالعمل بذلك بالنسبة إليه، وإن أراد أنه قطعيّ عند الحاسب وغيره فهذا باطلٌ؛ لأن غير الحاسب إنما يستفيد هذا الحكم، وهو أن الحساب يُحيل الرؤية التي قامت عليها الشهادة من كلام الحاسب، وغاية ما يفيده خبره عند سامعه المحسِن به الظنّ ظنّه صدقَهُ، فأين القطع الذي زعمه؟، وما هذا وأشباهه إلا من شؤم معرفة علم=

ص: 389

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى: وقد ظهر بما بسطناه صحّة مذهب الجمهور في تعليق الحكم بالرؤية، دون غيرها، وبه قال مالك، والشافعىّ، وأبو حنيفة، وجمهور العلماء من السلف والخلف. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله وليّ الدين رحمه الله، من ترجيح مذهب الجمهور في المسألة هو الحق الذي لا مَحِيد عنه؛ للأحاديث الصحيحة التي تدل على وجوب الاعتماد على الرؤية، دون غيره من الحساب، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم فيما يثبت به هلال رمضان:

قال النووىّ رحمه الله: مذهبنا ثبوته بعدلين بلا خلاف، وفي ثبوته بعدل خلاف، الصحيح ثبوته، وسواء أَصْحَتِ السماءُ

(1)

، أو غَيَّمَت.

وممن قال: يثبت بشاهد واحد: عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وآخرون، وممن قال: يشترط عدلان: عطاء، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعيّ، والليث، وابن الماجشون، وإسحاق ابن راهويه، وداود. وقال الثوريّ: يشترط رجلان، أو رجل وامرأتان، كذا حكاه ابن المنذر، وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة ثبت بشهادة واحد، ولا يثبت غير رمضان إلا

= الهيئة والنجوم الذي لم يأت عن الشارع حرف بصحّته، بل هو من العلم الذي قال الله تعالى:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، والشارع قد أوضح أوقات العبادات، وأناطها بأظهر الواضحات، أفتُرَدُّ الشهادة التي أمر الشارع بقبولها بقول الحاسب؟ قال صلى الله عليه وسلم:"فإن غُمّ عليكم، فأتمّوا ثلاثين يومًا، فإن شَهِد شاهدان مسلمان، فصوموا، وأفطروا"، أخرجه أحمد من حديث عبد الرحمن زيد بن الخطّاب، رواه النسائيّ أيضًا، ولم يقل:"مسلمًا". انتهى كلام الصنعانيّ بتصرّف يسير.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الصنعانيّ رحمه الله بحثٌ ممتعٌ جدًّا، وحديث عبد الرحمن زيد بن الخطّاب حديث صحيح، وقد أوضحت ذلك مع فوائد مهمّة في "شرح النسائيّ"(20/ 288 - 293)، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم.

(1)

يقال: أصحت السماء بالألف، فهي مُصحية: انكشف غَيْمها. قاله في "المصباح".

ص: 390

باثنين، قال: وإن كانت مُصْحِية لم يثبت رمضان بواحد، ولا باثنين، ولا يثبت إلا بعدد الاستفاضة.

واحتُجّ لأبي حنيفة بأنه يبعد أن ينظر الجماعة الكبيرة إلى مطلع الهلال، وأبصارهم صحيحة، ولا مانع من الرؤية، ويراه واحد، أو اثنان دونهم.

واحتجّ من شرط اثنين بحديث الحارث بن حاطب، وهو صحيح.

واحتجّ أصحابنا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه"، وهو أيضًا صحيح.

قال: وأما حديث طاوس، عن ابن عمر، وابن عباس، رضي الله عنهم قالا:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على هلال رمضان، وكان لا يُجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين"، فرواه البيهقيّ، وضعّفه، قال: وهذا مما لا ينبغي أن يُحتجّ به، قال: وفي الحديثين السابقين كفاية.

ثم روى البيهقيّ بإسناده ما رواه الشافعيّ في "المسند" وغيره بإسناده الصحيح إلى فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: "أن رجلًا شهد عند عليّ رضي الله عنهم على رؤية هلال رمضان، فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس بالصيام، وقال: لأن أصوم يومًا من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يومًا من رمضان".

و (الجواب) عما احتجّ به أبو حنيفة من وجهين:

(أحدهما): أنه مخالف للأحاديث الصحيحة، فلا يعرّج عليه.

(والثاني): أنه يجوز أن يراه بعضهم دون جمهورهم؛ لحسن نظره، أو غير ذلك، وليس هذا ممتنعًا، ولهذا لو شهد برؤيته اثنان، أو واحد، وحكم به حاكم لم يُنقَض بالإجماع، ووجب الصوم بالإجماع، ولو كان مستحيلًا لم ينفذ حكمه، ووجب نقضه.

(والجواب) عما احتجّ به الآخرون: أن المراد بقوله: "نَنْسُك" هلال شوال، جمعًا بين الأحاديث، أو محمول على الاستحباب والاحتياط، ولا بدّ من أحد هذين التأويلين للجمع بين الأحاديث. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

المجموع 6/ 292 - 294.

ص: 391

وقال الشوكانيّ رحمه الله -بعد ذكر اختلاف الأقوال- ما حاصله: واستدلّوا -يعني القائلين باعتبار شهادة الاثنين- بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وبحديث أمير مكة، فإن ظاهرهما اعتبار شاهدين، وتأولوا الحديثين المتقدمين -يعني حديث ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم السابقين- باحتمال أن يكون قد شهد عند النبيّ صلى الله عليه وسلم غيرهما.

وأجاب الأولون -يعني القائلين بالاكتفاء بشهادة رجل واحد- بأن التصريح بالاثنين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد بالمفهوم، وحديثا عبد الرحمن بن زيد، وأمير مكة يدلّان على قبوله بالمنطوق، ودلالة المنطوق أرجح، وأما التأويل بالاحتمال المذكور، فتعسّف وتجويز، لو صحّ اعتبار مثله لكان مفضيًا إلى طرح أكثر الشريعة.

قال: واختلفوا أيضًا في شهادة خروج رمضان، فقال النوويّ في "شرح مسلم": لا تجوز شهادة عدل واحد على هلال شوّال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور، فجوّز بعدل. انتهى.

واستدلّوا بحديث ابن عمر، وابن عباس المتقدم، وهو مما لا تقوم به حجة؛ لما تقدّم من ضعف من تفرّد به، وهو حفص بن عمر الأيليّ.

وأما حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وحديث أمير مكة، فهما واردان في شهادة دخول رمضان، أما حديث أمير مكة فظاهر؛ لقوله فيه:"نسكنا بشهادتهما"، وأما حديث عبد الرحمن بن زيد ففي بعض ألفاظه:"إلا أن يشهد شاهدا عدل"، وهو مستثنى من قوله:"فأكملوا عدة شعبان"، فالكلام في شهادة دخول رمضان، وأما لفظ أحمد:"فإن شهد مسلمان، فصوموا، وأفطروا"، وكذا لفظ النسائيّ:"فإن شهد شاهدان، فصوموا، وأفطروا"، فمع كون مفهوم الشرط، قد وقع الخلاف في العمل به هوأيضًا معارض بما تقدّم من قبوله صلى الله عليه وسلم لخبر الواحد في أول الشهر، وبالقياس عليه في آخره؛ لعدم الفارق، فلا ينتهض مثل هذا المفهوم لإثبات هذا الحكم به، وإذا لم يرد ما يدلّ على اعتبار الاثنين في شهادة الإفطار من الأدلّة الصحيحة، فالظاهر أنه يكفي فيه واحد قياسًا على الاكتفاء به في الصوم.

وأيضًا التعبّد بقبول خبر الواحد يدلّ على قبوله في كلّ موضع إلا ما ورد

ص: 392

الدليل بتخصيصه بعدم التعبّد فيه بخبر الواحد؛ كالشهادة على الأموال ونحوها، فالظاهر ما قاله أبو ثور.

ويمكن أن يقال: إن مفهوم حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب قد عورض في أول الشهر بما تقدّم، وأما في آخر الشهر فلا ينتهض ذلك القياس لمعارضته، لا سيّما مع تأيده بحديث ابن عمر وابن عباس المتقدّم، وهو وإن كان ضعيفًا، فذلك غير مانع من صلاحيته للتأييد، فيصلح ذلك المفهوم المعتضِد بذلك الحديث لتخصيص ما ورد من التعبّد بأخبار الآحاد، والمقام محلّ نظر.

ومما يؤيّد القول بقبول الواحد مطلقًا أن قبوله في أول رمضان يستلزم الإفطار عند كمال العدّة استنادًا إلى قبوله.

وأجيب عن ذلك بأنه يجوز الإفطار بقول الواحد ضمنًا، لا صريحًا، وفيه نظر. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجح عندي قول من قال: يثبت هلال رمضان بشهادة رجل واحد؛ لصحة حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أبصرت الهلال الليلة، قال:"أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله؟ " قال: نعم، قال:"يا بلال أذّن في الناس، فليصوموا"، رواه النسائيّ، وهو إن رُجّح فيه الإرسال، إلا أنه صحيح، يشهد له حديث ابن عمر عند أبي داود وغيره، بإسناد صحيح، قال:"تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه، وأمر الناس بصيامه"، وقد أشبعت البحث في هذا في "شرح النسائيّ"، فراجعه (20/ 285 - 286) تستفد.

والحاصل أن القول بثبوت شهادة رجل واحد هو الحقّ، وبهذا تجتمع الأدلّة، وأما الإفطار فلا بدّ من شاهدين؛ لصحة حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو ما أخرجه النسائيّ (7/ 267) بسند صحيح عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه خطب الناس في اليوم الذي يُشَكّ فيه، فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساءلتهم، وإنهم حدّثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسُكُوا لها، فإن غُمّ عليكم فأكملوا

ص: 393

ثلاثين، فإن شهد شاهدان، فصوموا، وأفطروا"، وهو حديث صحيح.

ولصحّة حديث أمير مكة، وهو ما أخرجه الدارقطنيّ في "سننه"(2/ 167) بسند صحيح، عن حسين بن الحارث الْجَدَلي، أن أمير مكة خطبنا، فنَشَدَ الناسَ، فقال: من رأى الهلال ليوم كذا وكذا؟ ثم قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَنْسُك للرؤية، فإن لم نره، وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما.

قال: فسألت الحسين بن الحارث: مَن أمير مكة؟ قال: لا أدري، ثم لقيني بعدُ، فقال: هو الحارث بن حاطب، أخو محمد بن حاطب، قال الدارقطني: هذا إسناد متصلٌ صحيحٌ.

ثم أخرجه بسند آخر، وزاد فيه:"وقال: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله، وأشار إلى رجل خلفه، قلت: من هو؟ قال: ابن عمر، فقال ابن عمر: بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ". انتهى.

والحاصل أن الإفطار لا بدّ فيه من شهادة شاهدين؛ لهذين الحديثين، وهما صحيحان، ولا معارض لهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2499]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ، فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ، فَقَالَ:"الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ: "فَصُومُوا

(1)

لِرُؤيَتِهِ، وَأفْطِرُوا لِرُؤيَتِهِ، فَإنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاِثينَ

(2)

").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقة حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

(1)

وفي نسخة: "صوموا".

(2)

وفي نسخة: "فاقدروا ثلاثين".

ص: 394

2 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العمري العدويّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ (5) مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ) أي طَبّق بين أصابع يديه العشر.

وقوله: ("الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذا") ثلاث مرّات، فالإشارة الأولى إلى العشرة، والثانية إلى العشرين، والثالثة إلى الثلاثين.

وقوله: (ثُمَّ عَقَدَ إِبْهَامَهُ في الثَّالِثَةِ) يعني أنه صلى الله عليه وسلم قبض إصبعًا واحدةً، وهي الإبهام من العشرة الثالثة؛ إشارةً إلى كونه تسعةً، فجملة ما أشار إليه تسعة وعشرون يومًا.

وفي رواية: "الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وقبض إبهامه في الثالثة"، وفي رواية:"الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، عشرًا، وعشرًا، وتسعًا"، وفي رواية:"الشهر كذا، وكذا، وصَفَّق بيديه مرّتين بكلّ أصابعهما، ونقص في الصفقة الثالثة إبهام اليمنى، أو اليسرى"، وفي رواية:"الشهر تسع وعشرون، وطَبّق شعبة يديه ثلاث مرار، وكسر الإبهام في الثالثة، قال عقبة: وأحسبه قال: الشهر ثلاثون، وطَبّق كفّيه ثلاث مرار"، وكلّها في الكتاب، وفي حديث جابر رضي الله عنه الآتي فيه أيضًا:"إن الشهر يكون تسعًا وعشرين، ثم طبّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بيديه ثلاثًا، مرّتين بأصابع يديه كلها، والثالثة بتسع منها".

وحاصل معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بيّن أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين يومًا أحيانًا، كما يكون ثلاثين يومًا أحيانًا، يوضّح هذا المعنى ما يأتي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الشهر يكون تسعة وعشرين، وثلاثين

". ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، تمام ثلاثين".

وقال النوويّ رحمه الله: حاصله أن الاعتبار بالهلال، فقد يكون تامًّا ثلاثين، وقد يكون ناقصًا تسعًا وعشرين، وقد لا يُرى الهلال، فيجب إكمال العدد

ص: 395

ثلاثين، قالوا: وقد يقع النقص متواليًا في شهرين، وثلاثة، وأربعة، ولا يقع في أكثر من أربعة.

وفي هذا الحديث جواز الاعتماد على الإشارة المفهمة في مثل هذا. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاِثِينَ) بوصل الهمزة، وضمّ الدال، وكسرها: يعني حقّقوا مقادير أيام شعبان، حتى تكملوه ثلاثين يومًا، كما جاء في الرواية الأخرى. أفاده الحافظ السيوطيّ رحمه الله في "شرح النسائيّ"

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قال أهل اللغة: يقال: قدَرتُ الشيء - بالتخفيف- أقدُره -بضم الدال، وكسرها- وقدّرته -بالتشديد- وأقدرته بهمزة أوله

(3)

بمعنى واحد، وهو من التقدير، قال الخطابيّ: ومنه قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23]. فالمعنى: قدّروا له تمام العدد ثلاثين يومًا؛ أي انظروا في أول الشهر، واحسبوا تمام ثلاثين يومًا. انتهى. وبهذا فسّره الجمهور. انتهى بتصرف

(4)

.

والحديث متّفق عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2500]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَ: "فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا ثَلَاثِينَ"، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ).

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 190 - 191.

(2)

"زهر الربى" 4/ 134 - 135.

(3)

هكذا ضبطه ولي الدين في "طرح التثريب" بهمزة أوله أيضًا، ولم أجد هذا فيما لديّ من كتب اللغة، فليحرّر. والله تعالى أعلم.

(4)

"طرح التثريب" 3/ 107.

ص: 396

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الهمدانىّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

و (عُبيد الله) هو العمريّ، ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نمير، عن عبيد الله هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2501]

(

) - (وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَضَانَ، فَقَالَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، الشَّهْرُ هَكَذَا

(1)

، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا" وَقَالَ:"فَاقْدِرُوا لَهُ"، وَلَمْ يَقُلْ:"ثَلَاثِينَ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السَّرَخسىّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمون سنّيّ [10](ت 241)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) بن فَرُّوخ القطّان، أبو سعيد البصريّ الحجة الثبت المشهور، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

و (عبيد الله) هو العمريّ المذكور قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد، عن عُبيد الله هذه، ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" (7/ 276) فقال:

أخبرنا عمرو بن عليّ، قال: حدّثنا يحيى، قال: حدّثنا عبيد الله، قال:

(1)

وفي نسخة: "الشهر تسع وعشرون هكذا" دون تكرار الشهر.

ص: 397

حدّثني نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدروا له". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2502]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ) ابن عُليّة، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(أيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (حتى تروه) لا يمكن أن يكون معناه رؤية جميع الناس، بحيث يحتاج كلّ فرد في وجوب الصوم عليه إلى رؤية الهلال، بل المعتبر رؤية بعضهم، وهو العدد الذي تثبت به الحقوق، وهو عدلان؛ لقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية [البقرة: 282]، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم للمدّعي: "شاهداك

" الحديث. إلا أن هلال رمضان يُكتفَى في ثبوته بعدل واحد عند أكثر أهل العلم، وهو الصواب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحديث الأعرابيّ، وقد تقدم تمام البحث فيهما.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 398

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2503]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، وَهُوَ ابْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَاهِلِيُّ) الساميّ البصريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الجمعة" 6/ 1972.

2 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ) التميميّ، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ [6](ت 139)(خ م د س ق) تقدم في "الجمعة" 6/ 1972.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) معناه أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2504]

(

) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأفطِرُوا، فَإنْ غُمّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب العدويّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

ص: 399

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وابن عمر ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2505]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْن يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، إِلَّا أَنْ يُغَمَّ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقون تقدّموا في الباب، والباب الذي قبله، و"يحيى بن يحيى" هو التميميّ، و"يحيى بن أيوب" هو: المقابريّ، و"ابن حُجر" هو: عليّ.

وقوله: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً) قال في "الفتح": ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين، مع أنه لا ينحصر فيه، بل قد يكون ثلاثين.

والجواب أن المعنى أن الشهر يكون تسعة وعشرين، أو اللام للعهد، والمراد شهر بعينه، أو هو محمول على الأكثر الأغلب؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه:"ما صمنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين"، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، ومثله عن عائشة رضي الله عنها عند أحمد، بإسناد جيّد، ويؤيد الأول قوله في حديث أم سلمة رضي الله عنهما:"إن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا"، متّفقٌ عليه.

وقال ابن العربيّ: قوله: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا .. إلخ" معناه: حصره من جهة أحد طرفيه؛ أي أنه يكون تسعًا وعشرين، وهو أقله،

ص: 400

ويكون ثلاثين، وهوأكثره، فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطًا، ولا تقتصروا على الأقل تخفيفًا، ولكن اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداءً وانتهاءً باستهلاله. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ

إلخ) قال في "الفتح": ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في حقّ كل أحد، بل المراد بذلك رؤية بعضهم، وهو مَن يثبت به ذلك، إما واحد على رأي الجمهور، أو اثنان على رأي آخرين، ووافق الحنفية على الأول، إلا إنهم خَصُّوا ذلك بما إذا كان في السماء علة، من غيم وغيره، وإلا متى كان صَحْوٌ لم يقبل إلا من جمع كثير، يقع العلم بخبرهم.

وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد وغيرها، ومن لم يذهب إلى ذلك قال: لأن قوله: "حتى تروه" خطاب لأناس مخصوصين، فلا يلزم غيرهم، ولكنه مصروف عن ظاهره، فلا يتوقف الحال على رؤية كل واحد، فلا يتقيد بالبلد. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تحقيق الخلاف فيما إذا رؤي الهلال في بلدة، هل يلزم البلدان الأخرى أم لا؟ قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2506]

(

) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، وَقَبَضَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

(1)

"الفتح" 5/ 243 - 244.

(2)

"الفتح" 5/ 344.

ص: 401

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ، رُمي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

4 -

(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الْجُمَحيّ، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

و"ابن عمر" رضي الله عنهما ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَبَضَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ) لم تبيّن هذه الرواية أنها إبهام اليمنى، أو اليسرى، وسيأتي بعد حديثين أنه شاكّ في ذلك.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2507]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا حَسَنٌ الْأَشْيَبُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(حَسَنٌ الْأَشْيَبُ) هو: الحسن بن موسى، أبو عليّ البغداديّ، قاضي الْمَوْصل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

4 -

(يَحْيَى) بن أبي كثير صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثمّ اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ يدلّس ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

ص: 402

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثر [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

و (ابن عمر) رضي الله عنهما ذُكر قبله.

وقوله: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) أي إن الشهر يكون أحيانًا تسعًا وعشرين، كما يكون أحيانًا ثلاثين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2508]

(

) - (وَحَدَّثنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَكَّائِىُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، عَشْرًا، وَعَشْرًا، وَتِسْعًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الكِنْديّ، أبو مسعود الْعَسْكريّ، نزيل الريّ، أحد الحفّاظ، صدوقٌ له غرائب [10](ت 235)(م) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

2 -

(زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَكَّائِيُّ) - بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف

(1)

- هو: زياد بن عبد الله بن الطُّفَيل العامريّ، أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ، ثبتٌ في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لينٌ [8](ت 183)(خ م ت ق) تقدم في "الصلاة" 52/ 1143.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) اللَّخْميّ الْفَرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136) وهو (103)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

4 -

(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عُبيد الله التيميّ، أبو عيسى، أوأبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 103) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

(1)

نسبة إلى البكاء، وهو ربيعة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل: هو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهم من بني عامر بن صعصعة، قاله في "اللباب" 1/ 117.

ص: 403

و (ابن عمر) رضي الله عنهما ذُكر قبله.

وقوله: (عَشْرًا، وَعَشْرًا، وَتِسْعًا) تفسير وتوضيح لمعنى "هكذا"، وانتصابه بـ "يكون" مقدّرًا؛ أي يكون عشرًا

إلخ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2509]

(

) - (وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَبَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ كَذَا، وَكَذَا، وَكَذَا"، وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، بِكُلِّ أَصَابِعِهِمَا، وَنَقَصَ فِي الصَّفْقَةِ الثَّالِثَةِ إِبْهَامَ الْيُمْنَى، أَوْ الْيُسْرَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(جَبَلَةُ) بن سُحَيم -بمهملتين، مصغّرًا- التيميّ

(1)

، ويقال: الشيبانىّ، أبو سُوَيرة، ويقال: أبو سُرَيرة الكوفيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ابن عمر، ومعاوية، وابن الزبير، وحنظلة الأنصاريّ، إمام مسجد قباء، وله صحبة، وأبي المثنى العبديّ، وغيرهم.

ورَوَى عنه أبو إسحاق السبيعيّ، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وشعبة، والثوريّ، والعَوّام بن حَوْشَب، ومِسْعَر، وحجاج بن أرطاة، ورَقَبة بن مَصْقَلة، وجماعة.

قال عليّ: قلت ليحيى: كان شعبة، والثوريّ يوثقانه؟ فقال برأسه: أي

(1)

قال في "تهذيب التهذيب" 2/ 53: تَيْمُ الذي نُسِب إليه جبلة هذا هو تيم بن شيبان ابن ذُهْل، فهو تيميّ، شيبانيّ، ذكره الرشاطيّ. انتهى.

ص: 404

نعم، وقال يحيى: جبلة أثبت من آدم بن عليّ، وسمعت يحيى يقول: جبلة ثقةٌ، وقال نحو ذلك عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وقال ابن معين: ثقة، زاد ابن أبي مريم عنه: كَيِّسٌ، حَسَنُ الحديث، وقال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ صالح الحديث، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ، تابعيّ، ثقة.

وقال ابن سعد: توفي في فتنة الوليد بن يزيد، وقال خليفة بن خياط: مات في ولاية يوسف بن عمر، وقال القرّاب في "تاريخه": مات سنة (126).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1080) و (1165) وأعاده بعده، و (1997) و (2045) وأعاده بعده، و (2085).

و (ابن عمر) رضي الله عنهما ذُكر قبله.

وقوله: (وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، بِكُلِّ أَصَابِعِهِمَا) أراد بالتصفيق هنا وضع كفّه على كفّه، فهو بمعنى قوله في الرواية السابقة:"ضرب بيده على الأخرى"، ومثله قوله الآتي:"وطبّق كفّيه".

[تنبيه]: لم تُبيّن رواية المصنّف هذه فاعل "صفّق"، وقد بيّنته الرواية التالية من طريق غندر، عن شعبة بأنه الفاعل، حيث قال:"وطبّق شعبة يديه ثلاث مرار، وكسر الإبهام في الثالثة"، وفي رواية النسائيّ من طريق خالد الْهُجيميّ، عن شعبة:"الشهر هكذا، ووصف شعبة، عن صفة جَبَلَةَ، عن صفة ابن عمر أنه تسع وعشرون فيما حَكَى من صَنِيعه مرّتين بأصابع يديه، ونقص في الثالثة إِصْبَعًا من أصابع يديه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2510]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُقْبَةَ، وَهُوَ ابْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ"، وَطَبَّقَ شُعْبَةُ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، وَكَسَرَ

ص: 405

الإبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ عُقْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: "الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ"، وَطبَّقَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ الزَّمِنُ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر البصريّ، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

3 -

(عُقْبَةُ بْنُ حُرَيْثٍ) التَّغْلِبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4](م س) تقدم في "صلاة المسافرين" 22/ 1763.

والباقيان ذُكرَا قبله.

وقوله: (وَطَبَّقَ شُعْبَةُ يَدَيْهِ

إلخ) المراد حصول المطابقة والمقابلة بين الكفّين، وضمّ إحداهما إلى الأخرى، لا التطبيق الذي مرّ في "كتاب الصلاة" في صفة الركوع، كما تقدّم بيانه هناك.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2511]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَن الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، أنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ، وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَدَا، وَهَكَدَا، وَهَكَذَا -وَعَقَدَ الإبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ- وَالشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، يَعْني تَمَامَ ثَلَاثِينَ).

(1)

وفي نسخة: "ثلاث مرّات" في الموضعين.

ص: 406

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار بُندار، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252) تقدم في "المقدمة"(ع) 2/ 2.

2 -

(الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ) الْعَبديّ، ويقال: البَجَليّ، أبو قيس الكوفيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1430.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ) بن أبي العاص الأمويّ المدنيّ، ثمّ الدمشقيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [3] مات بعد (120)(خ م د س ق) تقدم في "الطهارة" 4/ 549.

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، وسعيد بن عمرو فما أخرج لهما الترمذيّ.

(ومنها): أن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشار من التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة، وهم الذين جمعتهم في قولي:

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

النَّاقِدِينَ الْحَافِظِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

وقد تقدّم هذا غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به.

3 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن عمر أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ) العبديّ، أو البجليّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ) الأمويّ (أنّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وقوله (قَالَ) تفسير وتوضيح لمعنى "يُحَدِّث"("إِنَّا) أي العرب. وقيل: أراد نفسه،

ص: 407

والأول أوضح (أُمَّةٌ) أي جماعة، هو مثل قوله تعالى:{أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]، وقال الجوهريّ: الأمة الجماعة، وقال الأخفش: هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وكلُّ جنس من الحيوان أمة، والأمة الطريقة والدين، يقال: فلان لا أمة له؛ أي لا دِين له، ولا نِحْلة له، وكَسْرُ الهمزة فيه لغة، وقال ابن الأثير: الأمة الرجل المفرد بدين؛ لقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120]

(1)

.

(أُمَيَّةٌ) أي باقون على ما ولدتنا عليه أمهاتنا، وقيل: هو نسبة إلى الأمّ، فقيل: أراد أمة العرب؛ لأنها لا تكتب، أو نسبة إلى الأمهات؛ أي أنهم على أصل ولادة أمهم، أو نسبة إلى الأمّ؛ لأن المرأة هذه صفتها غالبًا، وقيل: نسبة إلى أمّ القرى، ولا يخفى بعدُه (لَا نَكْتُبُ، وَلَا نَحْسُبُ) بضم السين المهملة، يقال: حَسَبتُ المال حَسْبًا، من باب قتل: أحصيته عددًا، وفي المصدر أيضًا حِسْبة بالكسر، وحُسبانًا بالضمّ. قاله في "المصباح".

فقوله: "لا نكتُبُ، ولا نحسُبُ" تفسير لكونهم أميين، وقيل للعرب: أميون؛ لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} الآية [الجمعة: 2]، ولا يَرِد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب، ويحسُبُ؛ لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، فعلّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير، واستمرّ الحكم في الصوم، ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يُشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلًا، ويوضّحه:"فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين"، ولم يقل: فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلّفون، فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم.

وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك، وهم الرافضة، ونُقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجيّ: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم، وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في

(1)

"عمدة القاري" 10/ 286.

ص: 408

علم النجوم لأنها حَدْسٌ وتخمين، ليس فيها قطع، ولا ظنّ غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق؛ إذ لا يعرفها إلا القليل. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكتب ولا نحسُب": أي لم نُكَلَّف في تعرّف مواقيت صومنا، ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب، ولا كتابة، وإنما رُبطت عباداتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحُسّاب وغيرهم، ثم تمّم هذا المعنى، وكمّله حيث بيّنه بإشارته بيديه، ولم يتلفّظ بعبارة عنه نُزُولًا إلى ما يفهمه الْخُرْس والعُجْم، وحصل من إشارته بيديه ثلاث مرّات أن الشهر يكون ثلاثين، ومن خَنْسِه إبهامه في الثالثة أن الشهر يكون تسعًا وعشرين، كما نصّ عليه في الحديث الآخر.

وعلى هذا الحديث من نذر أن يصوم شهرًا غير معيّن، فله أن يصوم تسعًا وعشرين؛ لأن ذلك يقال عليه: شهر، كما أن من نذر صلاة أجزأه من ذلك ركعتان؛ لأنه أقلّ ما يصدُق عليه الاسم، وكذلك من نذر صومًا، فصام يومًا أجزأه، وهو خلاف ما ذهب إليه مالك رحمه الله، فإنه قال: لا يجزئه إذا صامه بالأيام إلا ثلاثون يومًا، فإن صامه بالهلال فعلى ما يكون ذلك الشهر من رؤية الهلال.

وفيه من الفقه أن يوم الشكّ محكوم له بأنه من شعبان، وأنه لا يجوز صومه عن رمضان؛ لأنه علّق صوم رمضان بالرؤية، وَلَمْ، فَلَا

(2)

. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

، وهو بحثٌ نفيسٌ.

(الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا -وَعَقَدَ الإبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ- وَالشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثينَ) يعني أنه أشار أوّلًا بأصابع يديه العشر جميعًا مرتين، وقبض الإبهام في المرة الثالثة، وهذا هو المعبّر عنه بقوله:"تسع وعشرون"، وأشار مرّة أخرى بهما ثلاث مرّات، وهو المعبّر عنه بقوله:"ثلاثون".

(1)

انظر: "الفتح" 4/ 623 طبعة دار الفكر.

(2)

قوله: ولم فلا؛ أي ولم يُرَ، فلا صوم. والله تعالى أعلم.

(3)

"المفهم" 3/ 139 - 140.

ص: 409

وروى أحمد، وابن أبي شيبة، واللفظ له، من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن ابن عمر، رفعه:"الشهر تسع وعشرون، ثمّ طبّق بين كفيه مرتين، وطبّق الثالثة، فقبض الإبهام"، قالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، وإنما هجر النبيّ صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا، فنزل لتسع وعشرين، فقيل له، فقال:"إن الشهر يكون تسعًا وعشرين، وشهر ثلاثون".

وفي الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعوّل رؤية الأهلّة، وقد نُهِينا عن التكلّف، ولا شكّ أن في مراعاة ما غَمَضَ حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلّف. وفيه جواز اعتماد الإشارة الْمُفْهِمَة في مثل هذا.

قال ابن بطال رحمه الله

(1)

: هذا الحديث ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعوَّل على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانًا، أو كالعيان، وأما ما غَمَضَ حتى لا يُدْرَك إلَّا بالظنون، ويكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار، فقد نُهينا عنه، وعن تكلفه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث إلى الأميين.

وفي الحديث مُسْتَنَدٌ لمن رأى الحكم بالإشارة والإيماء، كمن قال لامرأته: أنت طالقٌ، وأشار بأصابعه الثلاث، فإنه يلزمه ثلاث تطليقات.

وفيه أيضًا أن يوم الشك من شعبان، فلا يجوز صومه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه، وبيان مسائله، قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2512]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْبَانَ، عَن الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، بِهَذَا الإسنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لِلشَّهْرِ الثاني

(2)

ثَلَاثينَ).

(1)

راجع: "عمدة القاري" 10/ 287.

(2)

وفي نسخة: "ولم يذكر الشهر الثاني".

ص: 410

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ مَهْدِيٍّ) هو عبد الرحمن الإمام الحجة الثبت الناقد البصريّ [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام الحجة الفقيه الثبت، من رؤوس [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

و"الأسود بن قيس" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن الأسود بن قيس هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" (4/ 139) فقال:

أخبرنا محمد بن الْمُثَنَّى، قال: حدّثنا عبد الرحمن، عن سُفْيَانَ، عن الْأَسْوَدِ بن قَيْسٍ، عن سَعِيدِ بن عَمْرٍو، عن ابن عُمَرَ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ، ولا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، ثَلَاثًا، حتى ذَكَرَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2513]

(

) - (حَدَّثنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثنا الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما رَجُلًا يَقُولُ: اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ النِّصْفِ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللَّيْلَةَ النّصْفُ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا -وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ مَرَّتَيْنِ- وَهَكَذَا" في الثَّالِثَةِ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا، وَحَبَسَ أَوْ خَنَسَ إِبْهَامَهُ).

رجال الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

ص: 411

3 -

(الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن عروة النخعيّ، أبو عروة الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [6](ت 139)(م 4) تقدم في "الإيمان" 38/ 263.

4 -

(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السلميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقة [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

و (ابن عمر) رضي الله عنهما ذُكر قبله.

وقوله: (سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما رَجُلًا) لا يُعرف

(1)

.

وقوله: (يَقولُ: اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ النِّصْفِ) أي نصف رمضان، والظاهر أن "الليلةُ" بالرفع على الابتداء، و"ليلةُ النصف" خبره، ولكن الموجود في النسخ المطبوعة مضبوط ضبط قلم بنصب "الليلةَ"، ولا يخفى بُعْده، والله تعالى أعلم.

وقوله: (مَا يُدْرِيكَ أَنَّ اللَّيْلَةَ النِّصْفُ؟) قال النوويّ رحمه الله: معناه أنك لا تدري أن الليلة النصف أم لا؛ لأن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين، وأنت أردت أن الليلة ليلة اليوم الذي بتمامه يتم النصف، وهذا إنما يصح على تقدير تمامه، ولا تدري أنه تامّ أم لا. انتهى.

وقوله: (وَحَبَسَ أَوْ خَنَسَ إِبْهَامَهُ)"أو "للشكّ من الراوي، والحبس: المنع؛ أي منع إبهامه من البسط والنشر، فأخّرها بالقبض، والخَنْسُ: التأخّر، والتأخير، يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا، قال في "المصباح": خَنَستُ الرجلَ خَنْسًا، من باب ضرب: أخّرته، أو قبضته، وزَوَيته، فانخنس، مثلُ كسرته فانكسر، ويُستعمل لازمًا أيضًا، فيقال: خَنَسَ الرجل هو، ومن المتعدّي في لفظ الحديث:"وخَنَسَ إبهامه"؛ أي قبضها، ومن الثاني الْخَنّاس في صفة الشيطان؛ لأنه اسم فاعل للمبالغة؛ لأنه يَخْنِسُ إذا سَمِعَ ذكر الله تعالى؛ أي ينقبض، ويُعدَّى بالألف أيضًا. انتهى

(2)

.

فتبيّن بما ذُكر أن "خَنَسَ" هنا متعَدّ؛ لنصبه "إبهامَهُ"؛ أي أخّرها، وقبضها، ولم يتركها مبسوطة.

والحديث متّفقٌ عليه دون القصّة، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"تنبيه المعلم"(ص 199).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 183.

ص: 412

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2514]

(1081) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا، وإذَا رَأيْتُمُوهُ فَأفطِرُوا، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلَاثينَ يَوْمًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) الإمام الحجة الفقيه الثبت المدنيّ، من كبار [3](94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه سعيد بن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وأبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا) المعنى صوموا رمضان لرؤية هلاله، والمراد نيّة الصوم في النهار؛ لأن الليل ليس محلًّا للصوم، أفاده العلامة ابن الملقّن رحمه الله. (وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ

ص: 413

فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ) -بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم- أي هلال الشهر، ومعناه: حال بينكم وبينه غيم.

(فَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا) وفي الرواية الآتية: "فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ" أي عُدّوا ثلاثين يومًا، من شعبان، فصوموا بعدها، ورواه البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه"، عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، بلفظ:"فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين".

قال في "الفتح" ما حاصله: وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في هذه الزيادة، فرواها البخاريّ -كما ترى- بلفظ:"فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين"، وهذا أصرح ما ورد في ذلك، وقد قيل: إن آدم شيخه انفرد بذلك، فإن أكثر الرواة عن شعبة قالوا فيه:"فعُدّوا ثلاثين"، أشار إلى ذلك الإسماعيليّ، وهو عند مسلم وغيره، قال: فيجوز أن يكون آدم أورده على ما وقع عنده من تفسير الخبر.

قال الحافظ: الذي ظنه الإسماعيليّ صحيح

(1)

، فقد رواه البيهقيّ من طريق إبراهيم بن يزيد، عن آدم بلفظ:"فإن غمّ عليكم، فعُدّوا ثلاثين يومًا" -يعني عدّوا شعبان ثلاثين-. فوقع للبخاريّ إدراج التفسير في نفس الخبر، ويؤئده رواية أبي سلمة، عن أبي هريرة بلفظ:"لا تقدّموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين"، فإنه يُشعر بان المأمور بعدّه هو شعبان، وقد رواه مسلم من طريق الربيع بن مسلم، عن محمد بن زياد بلفظ:"فأكملوا العدد"، وهو يتناول كلّ شهر، فدخل فيه شعبان، وروى الدارقطنيّ، وصححه، وابن خزيمة في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غمّ عليه عَدّ ثلاثين يومًا، ثم صام". وأخرجه أبو داود وغيره أيضًا، وروى أبو داود، والنسائيّ وابن خزيمة من طريق رِبْعيّ، عن حُذيفة رضي الله عنه، مرفوعًا: "لا تقدّموا الشهر حتى تروا

(1)

قد سبق الردّ على هذا الذي ظنه الإسماعيليّ، ووافقه عليه الحافظ في كلام وليّ الدين العراقيّ، فلا تغفل.

ص: 414

الهلال، أو تكمّلوا العدّة، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكمّلوا العدّة"، وقيل: الصواب فيه: عن ربعيّ، عن رجل من الصحابة مبهمٍ، ولا يقدح ذلك في صحته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 2514 و 2515 و 2516 و 2517](1081)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1909)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(3/ 68)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 133) و"الكبرى"(2/ 69 و 70)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1655)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 284)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 325)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 263 و 415 و 430 و 454 و 456 و 469)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 6)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 159)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8/ 331)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 171)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 102)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 202)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 239)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 157 و 159)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 205 و 206 و 207)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2515]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ").

(1)

"الفتح" 4/ 616 - 617.

ص: 415

رجال هذا الإسناد: أربعة، وقد تقدّم بعينه قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (155) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (صُومُوا لِرُؤْيتِهِ

إلخ) الضمير راجع إلى ما يدلّ عليه السياق، وهو الهلال، كما في قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1].

وقوله: (فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ) أي عدد شعبان، أو عدد رمضان؛ يعني أنه إن غُمّي عليكم الهلال في آخر شعبان، فأكملوا عدد شعبان ثلاثين، ثم صوموا بعده، وإن غُمّي عليكم في آخر رمضان، فأكملوا عدد رمضان ثلاثين يومًا، ثم أفطروا بعده.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2516]

(

) - (وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلَاِثينَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2517]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْهِلَالَ، فَقَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاِثينَ").

ص: 416

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذَكْوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

3 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقون ذُكروا في الباب، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2518]

(1082) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَذَثنا وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بنَ الجرّاح، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ مُبَارَكٍ) الْهُنَائيّ البصريّ، ثقةٌ، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسالٌ، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 417.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

ص: 417

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهما، ثم فرق بينهما بقوله: "قال أبو بكر: حدّثنا وكيع

إلخ" إشارة إلى أن هذا السياق لشيخه أبي بكر، وأما أبو كريب، فرواه بمعناه.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) وفي رواية الإسماعيليّ، من طريق هشام الدستوائيّ، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة، حدثني أبو هريرة، ونحوه لأبي عوانة، من طريق معاوية بن سلّام، عن يحيى، أفاده في "الفتح"

(1)

. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهيةٌ، ولذا جُزم الفعل بعدها بها (تَقَدَّمُوا) بفتح أوله، فعلٌ مضارعٌ، من التقدّم، وأصله:"لا تتقدّموا"، فحذفت منه إحدى التاءين، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وقوله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة في "الخلاصة" حيث قال:

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَتَبَيَّنُ الْعِبَرْ

(رَمَضَانَ) أي صوم شهر رمضان (بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ) الباء للتعدية متعلقة بـ"تقدّموا"، وفي رواية البخاريّ:"لا يتقدَّمَنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين"، وفي رواية للنسائيّ: "لا يتقدّمنّ أحدٌ الشهرَ بيوم، ولا يومين

"، في رواية أبي داود: "لا تَقَدَّموا صوم رمضان بصوم"، وفي رواية للإسماعيليّ: "لا تَقَدَّموا بين يدي رمضان بصوم"، ولأحمد عن رَوْح، عن هشام: "لا تقدموا قبل رمضان بصوم"، وفي رواية: "لا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله".

والمعنى: أنه لا يجوز أن يتقدم الشخص رمضان بصوم يوم يُعَدُّ منه بقصد الاحتياط له، فإن صومه مرتبط بالرؤية، فلا حاجة إلى التكلف.

(1)

4/ 624.

ص: 418

(إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ") أي إلا رجل اعتاد صوم يوم بعينه، فاتّفق ذلك اليوم مع آخر شعبان، فليصمه على عادته.

وفي رواية البخاريّ: "إلا أن يكون رجلٌ يصوم صومًا، فليصم ذلك اليوم".

وقوله: "إلا أن يكون رجلٌ""كان" تامّةٌ؛ أي إلا أن يوجد رجل، وقوله:"يصوم صومًا"، وفي رواية الكشميهنيّ:"صومه، فليصم ذلك اليوم"، وفي رواية معمر، عن يحيى عند أحمد:"إلا رجل كان يصوم صيامًا، فيأتي ذلك على صيامه"، ونحوه لأبي عوانة من طريق أيوب، عن يحيى، وفي رواية أحمد، عن رَوْح:"إلا رجل كان يصوم صيامًا فَلْيَصِلْهُ به"، وللترمذيّ، وأحمد، من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة:"إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم".

قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان، قال الترمذيّ رحمه الله بعد أن أخرجه: والعمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان. انتهى.

والحكمة فيه التَّقَوِّي بالفطر لرمضان؛ ليدخل فيه بقُوَّة ونشاط، قال الحافظ رحمه الله: وهذا فيه نظرٌ؛ لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام، أو أربعة جاز، وسنذكر ما فيه قريبًا.

وقيل: الحكمة فيه خشية اختلاط النفل بالفرض، وفيه نظر أيضًا؛ لأنه يجوز لمن له عادةٌ، كما في الحديث.

وقيل: لأن الحكم عُلِّق بالرؤية، فمن تقدّمه بيوم أو يومين، فقد حاول الطعن في ذلك الحكم، وهذا هو المعتمد.

ومعنى الاستثناء أن من كان له وِرْدٌ، فقد أُذن له فيه؛ لأنه اعتاده، وأَلِفَهُ، وتَرْكُ المألوف شديدٌ، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء والنذر؛ لوجوبهما، قال بعض العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما، فلا يبطل القطعيّ بالظنّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 419

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 2518 و 2519](1082)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1914)، و (أبو داود) في "الصوم"(1988)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(620 و 621)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2172) و"الكبرى"(2482)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1640)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(4/ 158)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 285)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 311)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 477)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 170)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 159 - 161)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 103)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 207) و"المعرفة"(3/ 351)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين، قال النوويّ رحمه الله: هذا لمن لم يصادف عادةً له، أو يصله بما قبله، فإن لم يصله، ولا صادف عادةً فهو حرام، هذا هو الصحيح في مذهبنا؛ لهذا الحديث، وللحديث الآخر في "سنن أبي داود" وغيره:"إذا انتصف شعبان فلا صيام، حتى يكون رمضان"، فإن وصله بما قبله، أو صادف عادةً له، فإن كانت عادته صوم يوم الاثنين ونحوه، فصادفه، فصامه تطوعًا بنية ذلك جاز؛ لهذا الحديث، وسواء في النهي عندنا لمن لم يصادف عادته، ولا وصله يوم الشك وغيره، فيوم الشك داخل في النهي، وفيه مذاهبُ للسلف فيمن صامه تطوعًا، وأوجب صومه عن رمضان أحمد، وجماعة بشرط أن يكون هناك غيم، والله أعلم.

2 -

(ومنها): أن فيه ردًّا على من يرى تقديم الصوم على الرؤية، كالرافضة، وردًّا على من قال بجواز صوم النفل المطلق، وأبعد من قال: المراد بالنهي التقدم بنية رمضان، واستَدَلَّ بلفظ التقدُّم؛ لأن التقدم على الشيء بالشيء إنما يتحقق إذا كان من جنسه، فعلى هذا يجوز الصيام بنية النفل المطلق، لكن السياق يأبى هذا التأويل، ويدفعه.

ص: 420

3 -

(ومنها): أن فيه بيانًا لمعنى قوله في الحديث الماضي: "صوموا لرؤيته"، فإن اللام فيه للتأقيت، لا للتعليل، قال ابن دقيق العيد: ومع كونها محمولةً على التأقيت، فلا بُدّ من ارتكاب مجاز؛ لأن وقت الرؤية، وهو الليل، لا يكون محل الصوم، وتعقبه الفاكهيّ بأن المراد بقوله:"صوموا" انووا الصيام، والليل كله ظرف للنية.

قال الحافظ: فوقع في المجاز الذي فَرّ منه؛ لأن الناوي ليس صائمًا حقيقة، بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر.

4 -

(ومنها): أن فيه منعَ إنشاء الصوم قبل رمضان؛ إذا كان لأجل الاحتياط، فإن زاد على ذلك، فمفهومه الجواز، وقيل: يمتدّ المنع لما قبل ذلك، وبه قطع كثير من الشافعية، وأجابوا عن الحديث بأن المراد منه التقدُّم بالصوم، فحيث وُجِد مُنِع، وإنما اقتصر على يوم أو يومين؛ لأنه الغالب ممن يقصد ذلك، وقالوا: أمد المنع من أول السادس عشر من شعبان؛ لحديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا". أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه ابن حبّان، وغيره.

وقال الرويانيّ من الشافعيّة: يحرم التقدّم بيوم، أو بيومين؛ لحديث الباب، ويكره التقدّم من نصف شعبان للحديث الآخر.

وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوّعًا بعد النصف من شعبان، وضعّفوا الحديث الوارد فيه، وقال أحمد، وابن معين: إنه منكر، واستدلّ البيهقيّ بحديث الباب على ضعفه، فقال: الرخصة في ذلك بما هوأصحّ من حديث العلاء، وكذا صنع قبله الطحاويّ، واستظهر بحديث ثابت، عن أنسٍ رضي الله عنه مرفوعًا:"أفضل الصيام بعد رمضان شعبان"، لكن إسناده ضعيف، واستظهره أيضًا بحديث عمران بن حُصين رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أصمت من سَرَر شعبان شيئًا؟ "، قال: لا، قال:"فإذا أفطرت من رمضان، فصم يومين"، متّفقٌ عليه.

ثم جمع بين الحديثين بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم، وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان، قال الحافظ: وهو جمع

ص: 421

حسن. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأحسن أن الصوم بعد نصف شعبان منهيّ عنه؛ لحديث العلاء بن عبد الرحمن المذكور، وهو صحيح، ويشتدّ النهي في التقدّم بيوم، أو يومين، وأما حديث عمران رضي الله عنه، فلا يدخل في النهي؛ لأنه قاله لرجل اعتاد الصوم، فلما سمع النهي عن التقدّم ترك عادته فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يصوم مكان صومه الذي تركه، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صوم يوم الشك:

(اعلم): قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان؛ إذا وقع في ألسنة الناس أنه رؤي، ولم يَقُل عدل: إنه رآه، أو قاله وقلنا: لا تقبل شهادة الواحد، أو قاله عدد من النساء، أو الصبيان، أو العبيد، أو الفساق، وهذا الحدّ لا خلاف فيه عند أصحابنا، قالوا: فأما إذا لم يَتَحَدَّث برؤيته أحد، فليس بيوم شك، سواء كانت السماء مُصْحية، أوأَطْبق الغيم هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. انتهى كلام النوويّ رحمه الله باختصار

(2)

.

قال: لا يصح صوم يوم الشكّ بنية رمضان عندنا، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وعليّ، وابن عباس، وابن مسعود، وعمار، وحُذيفة، وأنس، وأبي هريرة، وأبي وائل، وعكرمة، وابن المسيِّب، والشعبيّ، والنخعيّ، وابن جريج، والأوزاعيّ، قال: وقال مالك: سمعتُ أهل العلم يَنْهَون عنه. هذا كلام ابن المنذر.

وممن قال به أيضًا عثمان بن عفان، وداود الظاهريّ، قال ابن المنذر: وبه أقول.

وقالت عائشة، وأختها أسماء: نصومه من رمضان، وكانت عائشة تقول: لأن أصوم يومًا من شعبان أحبّ إليّ من أن أُفطر يومًا من رمضان، وروي هذا عن عليّ أيضًا، قال العبدريّ: ولا يصح عنه، وقال الحسن، وابن سيرين: إن صام الإمام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وقال ابن عمر، وأحمد بن حنبل: إن

(1)

"الفتح" 4/ 625 - 626.

(2)

"المجموع" 6/ 454.

ص: 422

كانت السماء مصحية لم يجز صومه، وإن كانت مُغيمة وجب صومه عن رمضان، وعن أحمد روايتان، كمذهبنا ومذهب الجمهور، وعنه رواية ثالثة كمذهب الحسن، هذا بيان مذاهبهم في صوم يوم الشك عن رمضان.

فلو صامه تطوعًا بلا عادة، ولا وصله فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز، وبه قال الجمهور، وحكاه العبدريّ عن عثمان، وعليّ، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة، وعمار، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، والأوزاعيّ، ومحمد بن مسلمة المالكيّ، وداود.

وقال أبو حنيفة: لا يكره صومه تطوعًا، ويحرم صومه عن رمضان.

واحتُجَّ لمن قال بصومه عن رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاقدِروا له"، رواه البخاريّ، ومسلم، من رواية ابن عمر رضي الله عنه، وزعموا أن معناه: ضَيِّقُوا عدَّة شعبان بصوم رمضان، وبأن عائشة، وأسماء، وابن عمر كانوا يصومونه، فروى البيهقيّ، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن صوم يوم الشكّ، فقالت: لأن أصوم يومًا من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يومًا من رمضان، وعن أسماء رضي الله عنها أنها كانت تصوم اليوم الذي يُشَكّ فيه من رمضان، وعن أبي هريرة: لأن أصوم اليوم الذي يُشَكّ فيه من شعبان أحبّ إلي من أن أفطر يومًا من رمضان، قال البيهقي: ورواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في النهي عن تقدم الشهر بصوم إلا أن يوافق صومًا كان يصومه أصحّ من هذا، قال البيهقيّ: وأما قول عليّ رضي الله عنه في ذلك فإنما قاله عند شهادة رجل على رؤية الهلال، فلا حجة فيه، قال: وأما مذهب ابن عمر في ذلك فقد رَوَينا عنه أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يُشَكّ فيه، وفي رواية عن عبد العزيز بن حكيم الحضرميّ قال: رأيت ابن عمر يامر رجلًا يُفطر في اليوم الذي يُشَكّ فيه، قال: ورواية يزيد بن هارون تدل على أن مذهب عائشة في ذلك كمذهب ابن عمر في الصوم؛ إذا غُمّ الشهر دون أن يكون صَحْوًا، قال البيهقيّ: ومتابعة السنة الثابتة، وما عليه أكثر الصحابة، وعوامّ أهل المدينة أولى بنا، وهو منع صوم يوم الشكّ. هذا كلام البيهقيّ رحمه الله، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا.

قال النوويّ: واحتجّ أصحابنا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت

ص: 423

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدِروا له" رواه البخاريّ ومسلم، وفي رواية لهما عن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون ليلةً، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي رواية لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان، فضرب بيديه، فقال:"الشهر هكذا، وهكذا"، ثم عقد إبهامه في الثالثة، وقال:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فاقدِروا ثلاثين"، وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح زيادة: قال: وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعًا وعشرين نُظِرَ له، فإن رُؤي فذاك، وإن لم ير ولم يَحُلْ دون منظره سحابٌ، ولا قَتَرَةٌ، أصبح مفطرًا، فإن حال دون منظره سحابٌ، أو قترة أصبح صائمًا، قال: وكان ابن عمر يُفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غَبِيَ عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، رواه البخاريّ، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا"، رواه مسلم، وفي رواية له:"فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدّة"، وفي رواية:"فإن غُمِّي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين".

وفي المسألة أحاديث كثيرة بمعنى ما ذكرناه، قال أهل اللغة: يقال: قَدَرْتُ الشيءَ أقدُره، وأقدِره بضم الدال وكسرها، وقَدَّرته، وأقدرته بمعنى واحد، وهو من التقدير، قال الخطابيّ: ومنه قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23].

قال: واحتَجَّ أصحابنا بالرواية السابقة: "فأكملوا العدّة ثلاثين"، وهو تفسير لـ"اقدِروا له"، ولهذا لم يجتمعا في رواية، بل تارة يُذْكَر هذا، وتارة يُذْكَر هذا، وتؤيده الرواية السابقة:"فاقدروا ثلاثين".

قال الإمام أبو عبد الله الماورديّ: حَمَلَ جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدِروا له" على أن المراد إكمال العدّة ثلاثين، كما فَسَّره في حديث آخر، قالوا: ويوضحه، وَيقْطَع كل احتمال وتأويل فيه روايةُ البخاريّ:"فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يومًا"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتقدَّمَنّ

ص: 424

أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم"، رواه البخاريّ، ومسلم.

وعن أبي الْبَخْتَريّ قال: أهللنا رمضان، ونحن بذات عِرْق، فأرسلنا رجلًا إلى ابن عباس يسأله، فقال ابن عباس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أمدَّه لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدّة"، رواه مسلم.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غمامة، فأكملوا شعبان ثلاثين يومًا"، رواه الترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح.

وعنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحابٌ، فكمِّلوا ثلاثين، ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا"، رواه النسائيّ بإسناد صحيح.

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين، إلا أن يكون شيء كان يصومه أحدكم، لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حالت دونه غمامة، فأتموا العدة ثلاثين، ثم أفطروا".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحصوا هلال شعبان لرمضان"، رواه الترمذيّ.

وعن مسلم بن الحجاج صاحب "الصحيح" عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية بإسناده الصحيح قال: لا نعرف مثل هذا إلا من حديث أبي معاوية، قال: والصحيح رواية أبي هريرة السابقة: "لا تقدموا شهر رمضان بيوم ولا يومين". هذا كلام الترمذي.

وهذا الذي قاله ليس بقادح في الحديث؛ لأن أبا معاوية ثقة حافظ، فزيادته مقبولة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غُمّ عليه عَدَّ ثلاثين يومًا، ثم صام"، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطنيّ، وقال: إسناده صحيح.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة"، رواه أبو داود، والنسائيّ، بإسناد على شرط البخاريّ ومسلم.

ص: 425

وعن عمار رضي الله عنه قال: "من صام اليوم الذي يُشَكّ فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، رواه أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح.

والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة مشهورة، والجواب عما احتج به المخالفون سبق بيانه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر أقوال العلماء، وبيان أدلّتهم أن الحقّ أنه لا يجوز صوم يوم الشكّ، كما هو رأي الجمهور، لا عن رمضان، ولا عن غيره، إلا من كان معتادًا صوم يوم معيّن، فصادف ذلك، فليصمه، وأدلّة رجحان هذا القول واضحة مما سبق، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): أنه قد ألّف أبو يعلى ابن الفرّاء الحنبليّ رسالة في وجوب صوم يوم الشكّ، وألّف الخطيب البغداديّ رسالة في الردّ عليها وتفنيدها، ونِعم ما فعل، وكلتا الرسالتين ساقهما النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب" أحببت إيرادهما تبعًا له؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة.

قال: (اعلم): أن القاضي أبا يعلى محمد بن الحسين بن محمد ابن الفراء الحنبليّ صَنَّف جزءًا في وجوب صوم يوم الشكّ، وهو يوم الثلاثين من شعبان؛ إذا حال دون مطلع الهلال غيم، ثم صَنَّف الخطيب الحافظ أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الشافعيّ جزءًا في الردّ على ابن الفراء، والشناعة عليه في الخطأ في المسألة، ونسبته إلى مخالفة السنة، وما عليه جماهير الأمة، وقد حَصَلَ الجزءان عندي -ولله الحمد- وأنا أذكر إن شاء الله تعالى مقاصديهما، ولا أُخِلّ بشيء يُحتاج إليه مما فيهما -مضمومًا إلى ما قدمته في الفرع قبله، وبالله التوفيق.

قال القاضي ابن الفراء: جاء عن الإمام أحمد: فيما إذا حال دون مطلع الهلال غيم ليلة الثلاثين من شعبان ثلاث روايات:

[إحداهما]: وجوب صيامه عن رمضان، رواها عنه الأثرم، والمروزيّ،

(1)

"المجموع شرح المهذّب" 6/ 452 - 458.

ص: 426

ومُهَنّا، وصالح، والفضل بن زياد، قال: وهو قول عمر بن الخطاب، وابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن العاص، وأنس، ومعاوية، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء، وبكر بن عبد الله الْمُزَنِيّ، وأبي عثمان، وابن أبي مريم، وطاوس، ومُطَرِّف، ومجاهد، فهؤلاء ثمانية من الصحابة، وسبعة من التابعين.

[والثانية]: لا يجب صومه، بل يكره إن لم يوافق عادته.

[والثالثة]: إن صام الإمام صاموا، وإلا أفطروا، وبه قال الحسن، وابن سيرين، قال ابن الفراء: وعلى الرواية الأولى عَوَّلَ شيوخنا، أبو القاسم الْخَرَقيّ، وأبو بكر الخلال، وأبو بكر عبد العزيز، وغيرهم.

واحتَجَّ بحديث ابن عمر السابق: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فاقدِروا له"، وقد سبق بيانه، وأنه في "الصحيحين"، وفي رواية لأبي داود زيادة عن ابن عمر: أنه إذا كان دون منظره سحابٌ صام، قال: والدلالة في الحديث من وجهين:

[أحدهما]: أن راويه ابن عمر كان يصبح في الغيم صائمًا، ولا يفعل ذلك إلا وهو يعتقد أنه معنى الحديث وتفسيره، قال:[فإن قيل]: فقد رُوي عن ابن عمر أنه قال: لو صمت السنة لأفطرت هذا اليوم؛ يعني يوم الشك، ورُوي عنه: صوموا مع الجماعة، وأفطروا مع الجماعة، [قلنا]: المراد: لأفطرت يوم الشك الذي في الصحو، وكذا الرواية الأخرى عنه، قال:[فإن قيل]: يَحْتَمِل أنه كان يصبح ممسكًا احتياطًا؛ لاحتمال قيام بيّنة في أثناء النهار بأنه من رمضان، فنُسَمِّي إمساكه صومًا، [قلنا]: الإمساك ليس بصوم شرعيّ، فلا يصح الحمل عليه، ولأنه لو كان للاحتياط لأمسك في يوم الصحو؛ لاحتمال قيام بيّنة بالرؤية.

[الوجه الثاني]: أن معنى "اقدِروا له": ضَيِّقوا عدة شعبان بصوم رمضان، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} الآية [الطلاق: 7] أي ضُيِّق عليه رزقه، قال: وإنما قلنا: إن التضييق بأن يُجعل شعبان تسعة وعشرين يومًا أولى من جعله ثلاثين؛ لأوجه:

أحدهما: أنه تأويل ابن عمر راوي الحديث.

ص: 427

والثاني: أن هذا المعنى متكرر في القرآن.

والثالث: أن فيه احتياطًا للصيام.

فإن قيل: فقد روى مسلم عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"فإن غُمّ عليكم، فاقدروا له ثلاثين"، فيُحْمَل المطلق على المقيد.

قلنا: ليس هذا بصريح؛ لأنه يَحْتَمِل رجوعه إلى هلال شوال؛ لأنه سُبِقَ بقوله: "وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم"؛ يعني هلال شوال، فنستعمل اللفظين على موضعين، وإنما يُحْمَل المطلق على المقيد إذا لم يكن المقيَّد مُحْتَمِلًا، ويدل عليه رواية أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يومًا، ثم أفطروا"، ويستنبط من الحديث دليل آخر، وهو أن معناه: اقدروا له زمانًا يطلع في مثله الهلال، وهذا الزمان يصلح وجود الهلال فيه، ولأن في المسألة إجماع الصحابة، رُوي ذلك عن عمر، وابنه، وأبي هريرة، وعمرو بن العاص، ومعاوية، وأنس، وعائشة، وأسماء، ولم يُعْرَف لهم مخالف في الصحابة.

وعن سالم بن عبد الله، قال: كان أبي إذا أشكل عليه شأن الهلال تقدم قبله بصيام يوم، وعن أبي هريرة: لأن أتعجل في صوم رمضان بيوم أحب إلي من أن أتأخر؛ لأني إذا تعجلت لم يفتني، وإذا تأخرت فاتني.

وعن عمرو بن العاص: أنه كان يصوم اليوم الذي يُشَكّ فيه من رمضان.

وعن معاوية أنه كان يقول: إن رمضان يوم كذا وكذا، ونحن متقدمون، فمن أحب أن يتقدم فليتقدم، ولأن أصوم يومًا من شعبان أحب إلي من أن أفطر يومًا من رمضان.

وعن عائشة، وقد سئلت عن اليوم الذي يُشَكّ فيه، فقالت: لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إلي من أن أفطر يومًا من رمضان، قال الراوي: فسألت ابن عمر، وأبا هريرة، فقالا: أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك منا.

وعن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يُشَكّ فيه من رمضان.

قال: [فإن قيل]: كيف يُدَّعَى الإجماع، وفي المسألة خلاف ظاهر للصحابة، فقد رُوي منع صومه عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وعمار، وحذيفة، وابن عباس، وأبي سعيد، وأنس، وعائشة، ثم ذكر ذلك بأسانيده

ص: 428

عنهم من طُرُق، وفي الرواية عن عليّ قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن صيام ستة أيام من السنة، يوم الشك، والنحر، والفطر، وأيام التشريق.

وعن عمر وعليّ أنهما كانا ينهيان عن صوم اليوم الذي يُشَك فيه من رمضان، وعن ابن مسعود: لأن أفطر يومًا من رمضان، ثم أقضيه، أحب إليّ من أن أزيد فيه ما ليس منه، وعن ابن عباس: لا تصوموا اليوم الذي يُشَكّ فيه، لا يسبق فيه الإمام، وعن أبي سعيد: إذا رأيت هلال رمضان فصم، وإذا لم تره فصم مع جملة الناس، وأفطر مع جملة الناس، ونهى حذيفة عن صوم يوم الشك، فهذا كله يخالف ما رويتموه عن الصحابة من صومه.

[قلنا]: يُجْمَع بينهما بأن مَن نَهَى عن الصيام أراد إذا كان الشك بلا حائل سحاب، وكان صيامهم مع وجود الغيم، ويَحْتَمِل أنهم نَهَوا عن صومه تطوعًا وتقدمًا على الشهر، ومن صام منهم صام على أنه من رمضان.

قال: [فإن قيل]: فنحن أيضًا نتأول ما رويتموه عن الصحابة، أن من صام منهم صام مع وجود شهادة شاهد واحد، وقد رُوي ذلك مسندًا عن فاطمة بنت الحسين أن رجلًا شهد عند عليّ رضي الله عنه برؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس بالصيام، وقال: لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يومًا من رمضان.

[قلنا]: لا يصح هذا التأويل؛ لأنه إذا شهد واحد خرج عن أن يكون من شعبان، وصار يومًا من رمضان يصومه الناس كلهم، وفيما سبق عن الصحابة أنهم قالوا: لأن نصوم يومًا من شعبان، وهذا إنما يقال في يوم شكّ، ولأن ابن عمر كان ينظر الهلال، فإن كان هناك غيم أصبح صائمًا، وإلا أفطر، وهذا يقتضي العمل باجتهاده، لا بشهادة، ولأنهم سَمَّوْه يوم الشك، ولو كان في الشهادة لم يكن يوم شك.

قال: [فإن قيل]: ليس فيما ذكرتم أنهم كانوا يصومونه من رمضان، فلعلهم صاموه تطوعًا، وهذا هو الظاهر؛ لأنهم قالوا: لأن نصوم يومًا من شعبان، فسَمَّوه شعبان، وشعبان ليس بفرض.

[قلنا]: هذا لا يصحّ؛ لأن ابن عمر كان يفرّق بين الصحو والغيم، ولأن ظاهر كلامهم أنهم قصدوا الاحتياط؛ لاحتمال كونه من رمضان، وهذا

ص: 429

المقصود لا يحصل بنية التطوع، وإنما يحصل بنية رمضان، ومن القياس إنه يوم يسوغ الاجتهاد في صومه عن رمضان، فوجب صيامه، كما لو شهد بالهلال واحد، واحترزنا بسوغ الاجتهاد عن يوم الصحو، ولهذا يتناول ما أطلقه الصحابة على الصحو؛ لأنه رُوي صريحًا عن ابن عمر، ولأنه عبادة بدنية مقصودة، فوجبت مع الشكّ، كمن نسي صلاة من صلاتين، واحترزنا ببدنية عن الزكاة والحج، وبمقصودة عمن شك هل أحدث أم لا؟ فلا شيء عليه في كل ذلك.

قال: واحتَجَّ المخالف بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن صيام ستة أيام: اليوم الذي يُشَكّ فيه من رمضان، ويوم النحر، ويوم الفطر، وأيام التشريق".

وجوابه من وجهين: [أحدهما]:

حمله على من صامه تطوعًا، أو من نذر، أو قضاء.

[والثاني]: حمله على الشك إذا لم يكن غيم.

قال: واحتَجَّ أيضًا بحديث حذيفة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقدموا الشهر بيوم، ولا بيومين، حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة قبله، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة".

وجوابه أنه محمول على ما إذا لم يكن غيم.

واحتَجّ بحديث ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال دونه غمامة، فأكملوا العدة ثلاثين".

وجوابه أن معناه: أكملوا رمضان، ودليل هذا التأويل أنه جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين"، ويعود الضمير في رؤيته إلى هلال شوال؛ لأنه أقرب مذكور، وفي رواية عن أبي هريرة:"فأتموا العدة ثلاثين، ثم أفطروا"، ومثله من رواية ابن عباس، وهكذا الجواب عن حديث ابن عمر في "صحيح مسلم":"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين"، معناه: غم هلال شوال.

قال: واحتج بحديث أبي الْبَخْتَرِيّ السابق قال: أهللنا هلال رمضان، فشككنا فيه، فبعثنا إلى ابن عباس رجلًا، فقال ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 430

"إن الله عز وجل أمدّه لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، وفي البخاريّ عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

[قلنا]: هذا محمول على ما إذا كان الإغمام من الطرفين بأن يغم هلال رمضان، فنعدّ شعبان تسعة وعشرين يومًا، ثم نصوم ثلاثين، فيحول دون مطلع هلال شوال غيم ليلة الحادي والثلاثين، فإنا نعدّ شعبان من الآن ثلاثين، ونعدّ رمضان ثلاثين، ونصوم يومًا، فيصير الصوم واحدًا وثلاثين، كما إذا نسي صلاة من يوم فاتته، فإنه يلزمه صلوات اليوم، وقد رُوي عن أنس أنه قال: هذا اليوم يكمل إلى أحد وثلاثين يومًا.

قال: واحتج بحديث حذيفة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين، ثم صوموا، فإن غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين، ثم أفطروا، إلا أن تروه قبل ذلك".

وجوابه ما سبق قبله أنه محمول على ما إذا كان الإغمام في طرفي رمضان.

قال: [فإن قيل]: هذا التأويل باطل لوجهين:

أحدهما: أنه قال: "فعدوا شعبان ثلاثين، ثم صوموا"، والصوم إنما هو أول الشهر.

والثاني: أنه قال بعد ذلك: "فان غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين، ثم أفطروا"، فدل على أن الإغمام في أوله وفي آخره، والذي في أوله يقتضي الاعتداد به في أول رمضان، وعلى هذا التأويل يقتضي أن الاعتداد به في آخر رمضان.

[قلنا]: التأويل صحيح؛ لأنا نكمل عدة شعبان في آخر رمضان، ونصوم يومًا آخر، فيكون قوله:"ثم صوموا" راجعًا إلى هذا اليوم، وأما قوله بعده:"فإن غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين، ثم أفطروا"، فمعناه: إذا غم في أوله، وغم في آخره ليلة الثلاثين من رمضان، فإنا نَعُدّ شعبان ثلاثين، ثم نصوم يومًا، وهو الحادي والثلاثين من رمضان، فنعدّ رمضان ثلاثين، ونصوم يومًا آخر، فقد حصل العددان، أحدهما بعد الآخر، ويتخللها صوم يوم.

ص: 431

قال: واحتج بأنه لو عَلَّق طلاقًا أو عَتاقًا على رمضان لم يقع يوم الشكّ، وكذا لا يحل فيه الدَّين المؤجل إلى رمضان، فكذا الصوم.

وجوابه أنا لا نعرف الرواية عن أصحابنا في ذلك، فيَحْتَمِل أن لا نسلم ذلك، ونقول: يقع الطلاق والعتق، وَيحُلّ الدين، وَيحْتَمِل أن نسلمه، وهو أشبه، ونفرق بين المسألة بوجهين: أحدهما: أنه قد يثبت الصوم بما لا يثبت الطلاق والعتق والحلول، وهو شهادة عدل واحد. والثاني: إن في إيقاع الطلاق والعتاق وحلول الدَّين إسقاط حقّ ثابت لمعيّن بالشكّ، وهذا لا يجوز بخلاف الصوم، فإنه إيجاب عبادة مقصودة على البدن، فلا يمتنع وجوبها مع الشكّ، كمن نسي صلاة من الخمس، وكذا الجواب عن قولهم: إذا تيقن الطهارة، وشك في الحدث لا وضوء عليه؛ للأصل، ولو شك هل طلق لا طلاق عليه؛ لأن الطلاق والبضع حقّ له، فلا يسقطان بالشكّ، وكذا الجواب عن قولهم: لو تسحر الرجل، وهو شاكّ في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ولو وقف بعرفات شاكًّا في طلوع الفجر صح وقوفه؛ لأن الأصل بقاء الليل، والفرق أن البناء على الأصل في هاتين المسألتين لم يسقط العبادة؛ لأن الصوم والوقوف وُجدا، وأما في مسألتنا فالبناء على الأصل يسقط الصوم.

وجواب آخر، وهو أن طلوع الفجر يَخْفَى على كثير من الناس، فلو منعناهم السحور مع الشك لحقتهم المشقة؛ لأنه يتكرر ذلك، وليس كذلك في إلزامهم صوم يوم الشكّ؛ لأنه إنما يجب لعارض يعرض في السماء، وهو نادر، فلا مشقة فيه، وكذلك الحج لو منعناهم الوقوف مع الشكّ لفاتهم، وفيه مشقة عظيمة.

قال: واحتج بأنه شك فلا يجب الصوم كالصحو.

وجوابه أنه يبطل بآخر رمضان إذا حال غيم، فإنه يجب الصوم، ولأنه إذا كان صحوٌ ولم يروا الهلال، فالظاهر عدمه، بخلاف الغيم، فوجب صومه احتياطًا.

قال: واحتج بأن كل يوم صامه في الصحو لا يجب في الغيم، كالثامن والعشرين من شعبان.

ص: 432

وجوابه أن الفرق بين الصحو والغيم ما سبق، ولأنا تحققنا في الثامن والعشرين كونه من شعبان، بخلاف يوم الثلاثين، ولهذا لو حال الغيم في آخر رمضان ليلة الثلاثين صمنا، ولو حال ليلة الحادي والثلاثين لم نصم.

قال: واحتج بأنها عبادة فلا يجب الدخول فيها حتى يُعلَم وقتها، كالصلاة.

وجوابه أن هذا باطل في الأصل والفرع، أما الأصل فإنه يجب الدخول في الصلاة مع الشكّ، وهو إذا نسي صلاة من الخمس، وأما الفرع فإن الأسير إذا اشتبهت عليه الشهور صام بالتحري.

وجواب آخر، وهو أن اعتبار اليقين في الصلاة لا يؤدي إلى إسقاط العبادة، بخلاف مسألتنا.

قال: واحتج أنه لا يصح الجزم بالنية مع الشك، ولا يصح الصوم إلا بجزم النية.

وجوابه أنه لا يمتنع التردد في النية للحاجة، كما في الأسير إذا صام بالاجتهاد، ومن نسي صلاة من الخمس فصلاهنّ.

[فإن قيل]: لو حلف أن الهلال تحت الغيم.

[قلنا]: لا يحنث للشك، مع أن الأصل بقاء النكاح، وكذا لو حلف أنه لم يطلع، ولا هو تحت الغيم، كما لو طار طائر، فحلف أنه غراب، أو أنه ليس بغراب، أو تجهلناه.

[فإن قيل]: لو وطئ في هذا اليوم.

[قلنا]: تجب الكفارة.

[فإن قيل]: هل يصلي التراويح هذه الليلة؟.

[قلنا]: اختلف أصحابنا، فقال أبو حفص العكبريّ: لا يصلي، وقال غيره: يصلي، وهو ظاهر كلام أحمد، ولأنه من رمضان.

[فإن قيل]: لِمَ لَمْ يحكموا بالهلال تحت الغيم في سائر الشهور؟.

[قلنا]: لا فائدة فيه، بخلاف مسألتنا، فإن فيه احتياطًا للصوم، ولهذا يثبت هلال رمضان بشاهد واحد، بخلاف غيره.

[فإن قيل]: لو حلف ليدخلن الدار في أول يوم من رمضان.

ص: 433

[قلنا]: لا يبر في يمينه حتى يدخلها في يومين يوم الشك والذي بعده، كمن نسي صلاة من صلوات يوم وجهلها، فحلف ليدخلن الدار بعد أن يصليها، فإنه لا يبر حتى يدخل بعد جميع صلوات اليوم، وإن كنا نعلم أن الذي في ذمته واحدة. هذا آخر كلام القاضي أبي يعلى ابن الفراء رحمه الله.

قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغداديّ في الرد عليه: وقفت على كتاب لبعض من ينتسب إليه الفقه من أهل هذا العصر، ذَكَر فيه أن يوم الشك المكمل لعدة شعبان يجب صومه عن أول يوم من رمضان، قال الخطيب: واحتَجَّ في ذلك بما ظهور اعتلاله يغني الناظر فيه عن إبطاله؛ إذ الحق لا يدفعه باطل الشبهات، والسنن الثابتة لا يُسقطها فاسد التأويلات، ومع كون هذه المسألة ليس فيها التباس، فربما خفي حكمها عن بعض الناس، ممن قصر فهمه، وقَلّ بأحكام الشرع علمه، وقد أوجب الله على العلماء أن ينصحوا له فيما استحفظهم، ويبذلوا الجهد فيما قَلَّدهم، وينهجوا للحق سبل نجاتهم، ويكشفوا للعوام عن شبهاتهم، لا سيما فيما يعظم خطره، ويَبين في الدين ضرره، ومن أعظم الضرر إثبات قول يخالف مذهب السلف، من أئمة المسلمين، في حكم الصوم الذي هو أحد أركان الدين، وأنا بمشيئه الله تعالى أذكر من السنن المأثورة، وأورد في ذلك من صحيح الأحاديث المشهورة عن رسول رب العالمين، وصحابته الأخيار المرضيين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وعن خالفيهم من التابعين، ما يوضح منار الحقّ، ودليله، وَيرُدّ من تنكب سبيله، ويبطل شبهة قول المخالف وتأويله.

ثم روى الخطيب بإسناده حديث أبي هريرة السابق في "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون صومًا يصومه رجل، فليصم ذلك الصوم"، ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في "الصحيحين" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نَهَى عن صوم ستة أيام: اليوم الذي يُشَكّ فيه، ويوم الفطر، والنحر، وأيام التشريق"، ثم ذَكَر الأحاديث الصحيحة السابقة:"لا تصوموا حتى تروا الهلال"، وحديث حذيفة الصحيح السابق، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة إذا غُمّ الهلال، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة"، وحديث ابن عباس السابق في

ص: 434

"صحيح مسلم": أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمده للرؤية"، وحديث:"أحصوا عدة شعبان لرمضان"، وسبق بيانه.

ثم قال: [باب الأمر بإكمال العدة إذا غم الهلال] قال: رَوَى ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عمرُ بن الخطاب

(1)

، وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وأبي بكرة

(2)

، وطلق بن عليّ، ورافع بن خَدِيج، وغيرهم من الصحابة، ثم ذكر رواياتهم بأسانيده من طُرُق، وألفاظها كما سبق في الفرع الأول، وفي جميع روايته:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعُدُّوا ثلاثين"، ثم قال الخطيب: أجمع علماء السلف على أن صوم يوم الشكّ ليس بواجب، وهو إذا كانت السماء متغيمة في آخر اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ولم يشهد عدل برؤية الهلال، فيوم الثلاثين يوم الشكّ، فكَرِه جمهور العلماء صيامه، إلا أن يكون له عادة بصوم فيصومه عن عادته، أو كان يَسْرُد الصوم فيأتي ذلك في صيامه فيصومه، قال: فممن منع صوم يوم الشك عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وعائشة، وتابعهم من التابعين سعيد بن المسيِّب، والقاسم بن محمد، وأبو وائل، وعبد الله بن عُكيم الْجُهَنيّ، وعكرمة، والشعبيّ، والحسن، وابن سيرين، والمسيَّب بن رافع، وعُمر بن عبد العزيز، ومسلم بن يسار، وأبو السَّوّار العدويّ، وقتادة، والضحاك بن قيس، وإبراهيم النخعيّ، وتابعهم من الخالفين والفقهاء المجتهدين ابن جريج، والأوزاعيّ، والليث، والشافعيّ، وإسحاق ابن راهويه، وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان، ويجوز تطوُّعًا، وأما أحمد بن حنبل، فرُوي عنه كمذهب الجماعة، أنه لا يجب صومه، ولا يستحبّ، وروي عنه متابعة الإمام في صومه وفطره، ورُوي عنه أنه إن كان غيم صامه، وإلا أفطره.

(1)

وقع في النسخة "عن عمر بن الخطاب"، والظاهر أنه غلط، والصواب بحذف "عن"، فيكون فاعل "رَوَى"، فتأمل.

(2)

وقع في النسخة: "وأبي بكرة" بالياء، والظاهر أنه غلظ، والصواب:"وأبو بكرة" بالرفع عطفًا على الفاعل، فتأمل.

ص: 435

قال الخطيب: وزعم المخالف أن الرواية التي عليها التعويل عنده عن أحمد وجوب صوم يوم الشكّ عن أول يوم من رمضان، وأُراه عَوَّل على قول العامة: خَالِفْ تُعْرَف، واحتَجَّ لقوله بما سنذكره إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك حديث ابن عمر السابق: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُم عليكم فاقدِروا له"، قال الخطيب: قال المخالف: ودلالته من وجهين، فذكر الوجهين السابقين في كلام ابن الفراء، ومختصرهما: أن ابن عمر كان يصوم يوم ليلة الغيم، وهو الراوي، فاعتماده أولى، والثاني: أن معنى "اقدروا له" ضَيِّقوا شعبان بصوم رمضان.

قال الخطيب: أما حديث ابن عمر فاختلفت الروايات عنه اختلافًا يؤول إلى أن يكون حجة لنا، فإن بعض الرواة قال في حديثه عنه:"فإن غم عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا"، ثم روى عنه:"فأكملوا العدة ثلاثين"، وفي رواية عنه:"فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين".

ثم ذكر الخطيب بأسانيده من طرق جميع هذه الألفاظ، وقد سبق بيانها، وأنها صحيحة.

ثم قال الخطيب: لقد ثبت برواية ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما فسّر المجمل، وأوضح المشكل، وأبطل شبهة المخالف، وكشف عوار تأويله الفاسد؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"فاقدروا له" مجمل فسّره برواية: "فعُدُّوا له ثلاثين يومًا"، و"فأكملوا العدة ثلاثين"، و"فاقدروا له ثلاثين"، مع موافقة أبي هريرة ابن عمر على روايته مثل هذه الألفاظ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر الخطيب رواية أبي هريرة من طريقين، في بعضها:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين"، وفي الثانية:"فإن غم عليكم، فاقدروا له ل".

قال الخطيب: وأما تعلق المخالف بما رُوي عن ابن عمر أنه كان يصوم إذا غُمّ الهلال، فقد رُوي أنه كان يفعل، ويفتي بخلاف ذلك، وفتياه أصحّ من فعله؛ يعني لتطرق التأويل إلى فعله.

ثم رَوَى الخطيب بإسناده عن عبد العزيز بن حكيم، قال: سألوا ابن عمر، فقالوا: نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء؟ فقال ابن عمر: أُفّ

ص: 436

أُفّ، صوموا مع الجماعة، وأفطروا مع الجماعة، إسناده صحيح، إلا عبد العزيز بن حكيم، فقال يحيى بن معين: هو ثقة، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ، يُكتب حديثه.

وعن ابن عمر قال: لا أتقدم قبل الإمام، ولا أصله بصيام، وعن عبد العزيز بن حكيم قال: ذُكر عند ابن عمر يوم الشك، فقال: لو صمت السَّنة كلها لأفطرته.

قال الخطيب: وهذا هو الأشبه بابن عمر؛ لأنه لا يجوز الظن به أنه خالف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وترك قوله الذي رواه هو وغيره من العمل بالرؤية، أو إكمال العدة، فيجب أن يُحْمَل ما رُوي عن ابن عمر من صوم يوم الشك على أنه كان يُصبح مُمْسِكًا حتى يتبيّن بعد ارتفاع النهار، هل تقوم بينة بالرؤية، فظن الراوي أنه كان صائمًا، ويدل عليه أنه كان لا يحتسب به، ولا يفطر إلا مع الناس، ويدل عليه أيضًا قوله: لا أتقدم قبل الإمام، وقوله: لو صمت السَّنة لأفطرته؛ يعني يوم الشك.

قال الخطيب: وهذا تصريح منه بأنه كان لا يعتقد الصيام في ذلك، وإنما كان ممسكًا.

[فإن قيل]: فما الفائدة في إمساكه بلا نية للصوم؛ لأنه لو ثبت كونه من رمضان لم يجزه؟.

[قلنا]: فائدته تعظيم حرمة رمضان، وكيف يظن بابن عمر مخالفة السنة، وهو المجتهد في اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بأفعاله، وطريقة ابن عمر في ذلك مشهورة محفوظة.

قال الخطيب: وقد تأول المخالف قول ابن عمر: لو صمت السنة لأفطرت في يوم الشك على أن معناه: لم أصمه تطوعًا، وإن تطوعت بجميع السنة، قال: وَيحْتَمِل أن يكون يوم الشك في الصحو، قال: وهكذا قوله: صوموا مع الجماعة المراد مع الصحو.

قال الخطيب: وهذا تأويل باطل؛ لأن المفهوم من هذا الكلام في اللغة والعرف أنه لا يصومه بحال، وكذا المعروف عندهم من يوم الشك، إنما هو مع وجود السحاب، لا مع الصحو، مع أن ما تأوله على ابن عمر لو لم يكن

ص: 437

له وجه إلا ما قاله، لم يكن فيه حجة؛ لثبوت السنن الراتبة الصريحة بالأسانيد الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما ادعى المخالف، ولا يجوز تركها لفعل ابن عمر ولا غيره.

ثم روى بإسناده عن ابن عباس قال: ليس أحد من الناس إلا يؤخذ من قوله ويترك، غير النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الخطيب: وقد جعل المخالف العلة في تفسير الحديث المجمل الذي رواه ابن عمر مجرد فعله مع احتماله غير ما ذهب إليه، وكان يلزمه ترك رأيه، والأخذ بحديث ابن عباس، ثم ذكره بإسناده عن ابن عباس، قال: تمارى الناس في رؤية هلال رمضان، فقال بعضهم: اليوم، وقال بعضهم: غدًا، فجاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه رآه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ " قال: نعم، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بلالًا، فنادى في الناس: صوموا، ثم قال:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا، ثم صوموا، ولا تصوموا قبله يومًا".

قال الخطيب: وهذا الحديث أولى أن يأخذ به المخالف من حديث ابن عمر؛ لِما فيه من البيان الشافي باللفظ الواضح الذي لا يَحتمل التأويل، ولأن ابن عباس ساق السبب الذي خرج الكلام عليه.

قال الخطيب: والمراء في رؤية الهلال إنما يقع إذا كان في السماء غيم، فلو كان الحكم ما ادعاه المخالف، لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس بالصوم، من غير شهادة الأعرابي على الرؤية.

قال الخطيب: وقد رَوَى عن عبد الله بن جراد الْعُقَيليّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديثًا فيه كفاية عما سواه، فذكره بإسناده عنه، ثم قال: أصبحنا يوم الاثنين صيامًا، وكان الشهر قد أُغمي علينا، فأتينا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأصبناه مفطرًا، فقلنا: يا نبي الله صمنا اليوم، فقال:"أفطروا إلا أن يكون رجل يصوم هذا اليوم، فليتم صومه؛ لأن أُفطر يومًا من رمضان متماريًا فيه، أحب إليّ من أن أصوم يومًا من شعبان، ليس منه"؛ يعني ليس من رمضان.

قال الخطيب: وأما ما ذكره المخالف أنه حجة له من جهة الاستنباط، وقوله: إن معنى "اقدروا له" ضَيِّقوا شعبان لصوم رمضان، فهو خطأ واضح؛

ص: 438

لأن معناه قَدِّروا شعبان ثلاثين يومًا، ثم صوموا في الحادي والثلاثين، وقَدَرتُ الشيءَ، وقَدَّرته بتخفيف الدال وتشديدها، بمعنى واحد، بإجماع أهل اللغة، ومنه قوله تعالى:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23].

ثم رَوَى الخطيب بإسناده، عن يحيى بن زكريا الفراء الإمام المشهور، فقال في قوله تعالى:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} : ذُكر عن عليّ، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ أنهما شَدَّدا، وخففها الأعمش، وعاصم، قال الفراء: ولا يبعد أن يكون معناهما واحدًا؛ لأن العرب قد تقول قُدِر عليه الموت، وقُدِّر عليه الموت، وقُدِر عليه رزقه، وقُدِّر عليه رزقه، بالتخفيف والتشديد، ثم رَوى الخطيب، عن ابن قتيبة التشديد والتخفيف، ثم عن ابن عباس، ومقاتل بن سليمان، وكان أوحد وقته في التفسير، ثم الفراء، ثم ثعلب، أنهم قالوا في تفسير قوله تعالى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] معناه: أن لن نقدر عليه عقوبةً، قال: وكذلك قاله غيرهم من النحاة، فهذا قول أئمة اللغة على أن في الحديث ما لا يحتاج معه إلى غيره في وضوح الحجة، وإسقاط الشبهة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فاقدروا له ثلاثين"؛ أي فعُدُّوا له ثلاثين، وهو بمعنى عُدُّوا، وكلّه راجع إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

قال الخطيب: قال المخالف: وليس في قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" ما يدل على وجوب تقدير شعبان بثلاثين؛ إذ ليس تقديره بثلاثين أولى من تقديره بتسعة وعشرين؛ لأن كل واحد من العددين يكون قدرًا للشهر؛ لقول صلى الله عليه وسلم حين نزل من الغرفة، وقد آلى شهرًا، فنزل لتسع وعشرين:"إن الشهر تسع وعشرون"، وعن ابن مسعود:"ما صمنا تسعًا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين".

قال الخطيب: ما أعظم غفلة هذا الرجل! ومَن الذي نازعه في أن الشهر تارة يكون تسعًا وعشرين، وتارة يكون ثلاثين، وأيُّ حجة له في ذلك؟ وقوله: ليس التقدير بثلاثين أولى من التقدير بتسع وعشرين باطلٌ ومحالٌ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نص على تقديره في هذه الحالة بتمام العدد والكمال، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فاقدروا له ثلاثين"، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

ص: 439

قال الخطيب: قال المخالف: [فإن قيل]: لِم كان حمله على تسع وعشرين أولى من حمله على ثلاثين؟.

[قلنا]: لوجوه: أحدها أنه تأويل ابن عمر الراوي، وهو أعرف، والثاني أنه مشهور في كتاب الله تعالى في غير موضع، الثالث: أن فيه احتياطًا للصوم.

قال الخطيب: أما تأويل ابن عمر فقد ذكرنا ما يفسده من معارضة ابن عباس له بالرواية التي لا تَحْتَمِل تأويلًا، وذكرنا عن ابن عمر من الروايات ما يوجب تأويل فعله على غير ما ذهب إليه المخالف، وكذلك تفسير ما ادعاه من الآيات، فلا حاجة إلى إعادته، وأما قوله: إن فيه احتياطًا، فالاحتياط في اتباع السنن، والاقتداء بها، دون الاعتراض عليها بالآراء، والحمل لها على الأهواء، ومنزلة من زاد في الشرع، كمنزلة من نقص، لا فرق بينهما.

قال الخطيب: قال المخالف: [فإن قيل]: قد روى مسلم: "فاقدروا له ثلاثين" من رواية ابن عمر.

[قلنا]: هذا التفسير ليس بصريح؛ لاحتمال رجوعه إلى هلال شوال، قال الخطيب: لا يجوز لأحد أن يزيل الكلام عن أصله الموضوع، وظاهره المستعمل المعروف، وَيعْدِل عن الحقيقة إلى المجاز، إلا بدليل، وحقيقة قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن غم عليكم، فاقدروا له ثلاثين" راجع إلى الغيم في ابتداء الصوم، وفي انتهائه، وقد بَيَّن النصُّ ما اقتضاه ظاهر هذا اللفظ، وعمومته وحقيقته، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه غمامة، أو ضَبابة، فأكملوا شعبان ثلاثين، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان".

وعن ابن عباس أيضًا، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فعُدُّوا ثلاثين يومًا، ثم صوموا، ولا تصوموا قبله بيوم"، وفي رواية عنه:"فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، رواه البخاريّ في "صحيحه".

قال الخطيب: واستدل المخالف على أنه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم

ص: 440

فاقدروا له" راجع إلى غم هلال شوال، بحديث أبي هريرة الآخر: "فإن غم عليكم، فعدوا ثلاثين، ثم أفطروا"، قال الخطيب: وليس في هذا أكثر من بيان حكم غمّ الهلال آخر الشهر، وأنه يجب إكمال عدة الصوم، ونحن قائلون به، فأما بيان حكم غمه في أول رمضان، فمستفاد من الأحاديث السابقة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم، فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين، ثم صوموا"، وفي الرواية الأخرى: "فعُدُّوا شعبان"، وفي الأخرى: "فعُدّوا ثلاثين يومًا، ثم صوموا"، وحديث عائشة رضي الله عنها: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا غُم عليه عَدَّ ثلاثين يومًا، ثم صام".

قال الخطيب: قال المخالف: هذه الألفاظ محمولة على ما إذا غُمّ هلال رمضان، فإنا نعدُّ شعبان تسعة وعشرين يومًا، ثم نصوم ثلاثين يومًا، فإن حال دون مطلع هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين غيم عددْنا حينئذ شعبان ثلاثين، ثم نعدُّ رمضان ثلاثين، ونصوم يومًا آخر، فيكون إحدى وثلاثين، قال الخطيب: من خلت يداه من الدليل، وعدل عن نهج السبيل، لجأ إلى مثل هذا التأويل، ومع كونه إحدى العظائم والكُبَر، وأعجب ما وقف عليه أهل النظر، فإن صاحبه لم يُسنده إلى أصل يَرُدُّه إليه، ولا أورد أمرًا يَحْتَمِل أن يقفه عليه، ولو جاز تخصيص الحديث العام بغير دليل لبطلت دلالة الأخبار، ولم يثبت حكم بظاهر، وتعلق كل مبطل بمثل هذه العلة، ولئن ساغ للمخالف هذا التأويل الباطل، ليسوغنّ لغلاة الرافضة الذين يسبقون الناس في الفطر والصوم أن يتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"، أن المراد تقدم الصيام للرؤية، وتقدم الفطر للرؤية، قال الخطيب: ومخالفنا يعلم فساد هذا التأويل الذي قاله، فيقال له: أسمعت هذا التأويل عن أحد؟ فإن زعمه فليأت بخبر واحد يتضمنه، وأن واحدًا من السلف كان إذا غُمّ عليه هلال شوال استأنف عدد شعبان، فإن لم يجده في خبر ولا أثر، وهيهات أن يجده، فليعلم أن ما تأوله خلاف الصواب، فالحقّ أحقّ أن يتبع.

فإن قال: استخرجته بنظري، قلنا: الاستخراج لا يكون إلا من أصل، ولا سبيل لك إليه.

قال الخطيب: وزعم المخالف أن إجماع الصحابة في هذه المسألة على

ص: 441

وفق مذهبه، وهذه دعوى منه، ليس عليها برهان، ولا يَعْجِز كل من غلب هواه على شيء أن يَدَّعي إجماع الصحابة عليه، قال الخطيب: وأنا أذكر هنا ما ثبت عند أهل النقل في ذلك عن الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء الخالفين، فأما الرواية عن عمر بن الخطاب، فرواها بإسناده عن عبد الله بن عُكيم، أنه كان يخطب الناس كلما أقبل رمضان، ويقول في خطبته: ألا لا يتقدمنّ الشهر منكم أحد، يقولها ثلاثًا، وفي رواية: أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد المجندة: صوموا لرؤية الهلال، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا، ثم صوموا، وأفطروا، وبإسناده عن الإمام أحمد بن حنبل، قال: كان عثمان لا يجيز شهادة الواحد في رؤية الهلال على رمضان، فقلت له: من ذكره؟ قال: ابن جريج، عن عمرو بن دينار، قلت له: من ذكره عن ابن جريج؟ قال: عبد الرزاق، ورَوْحٌ، قال الخطيب: فإذا لم يَقبل عثمان شهادة الواحد، فالغيم أولى أن لا يعتمده.

وعن مجالد، عن الشعبيّ عن عليّ أنه كان يخطب إذا حضر رمضان، ويقول في خطبته: لا تقدموا الشهر؛ إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدّة، وكان يقول ذلك بعد صلاة الفجر، وصلاة العصر، وعن مجالد، عن الشعبيّ أن عمر وعليًا كانا ينهيان عن صوم اليوم الذي يُشَكّ فيه من رمضان، قلت: مجالد ضعيفٌ، والله أعلم.

قال الخطيب: واحتج المخالف بخبر يُروى عن علي أنه قال: أصوم يومًا من شعبان أحب إلي من أن أفطر يومًا من رمضان، قال الخطيب: ولا حجة فيه؛ لأن عليًا كان لا يقبل شهادة العدل الواحد في الصوم، ثم روى بإسناده عن عليّ أنه كان يقبل شهادة رجلين لهلال رمضان، ثم رأى عليّ قبول شهاد واحد، ثم روى عن فاطمة بنت الحسين أن رجلًا شهد عند علي على رؤية هلال رمضان فصام، وقال: أصوم يومًا من شعبان أحب إلي من أن أفطر يومًا من رمضان، فصيام عليّ رضي الله عنه كان بشهادة الرجل الواحد بعد أن كان لا يقبل شهادة الواحد، فلما بلغه الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قبول الواحد صار إليه، قال الخطيب: ويدل على أن عليًّا كان لا يصوم إلا للرؤية، أو إكمال العدد لشعبان ما أخبرناه أحمد، وذكر إسناده إلى الوليد بن عتبة، قال: صمنا على

ص: 442

عهد عليّ رضي الله عنه ثمانية وعشرين يومًا، فأمرنا علي بقضاء يوم، قال الخطيب: وكان شهر رمضان تلك السنة تسعة وعشرين يومًا، وشعبان تسعة وعشرين، وغم الهلال في آخر شعبان، فأكمل عليّ والناس العدد لشعبان ثلاثين، وصاموا، فرأوا الهلال عشية اليوم الثامن والعشرين من الصوم، ولو كان عليّ يقول في الصوم، كقول المخالف من اعتماد الغيم، لم ير الناس الهلال بعد صوم ثمانية وعشرين يومًا.

وأما ابن مسعود، فروى عنه الخطيب بإسناده: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فَعُدّوا ثلاثين، وفي رواية عنه: لأن أفطر يومًا من رمضان، ثم أقضيه أحب إلي من أن أزيد فيه يومًا ليس منه.

وعن صِلَة قال: كنا عند عمار رضي الله عنه في اليوم الذي يُشَكّ فيه من رمضان، فأتى بشاة، فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

وعن حذيفة رضي الله عنه أنه كان ينهى عن صوم اليوم الذي يُشَكّ فيه من رمضان.

وعن ابن عباس قال: لا تصِلوا رمضان بشيء، ولا تقدموه بيوم ولا يومين، وعنه: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى الله ورسوله.

وعن أبي هريرة: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين.

قال الخطيب: وأما ما رويناه عن معاوية بن صالح، عن أبي مريم، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لأن أتقدم في رمضان أحب إلي من أن أتأخر؛ لأني إن تقدمت لم يفتني، فرواية ضعيفة، لا تُحفظ إلا من هذا الوجه، وأبو مريم مجهول، فلا يعارض بروايته ما نقله الحفاظ من أصحاب أبي هريرة عنه.

قال الخطيب: ومما تعلق به المخالف ما رواه يحيى بن أبي إسحاق، قال: رأيت هلال الفطر إما عند الظهر، أو قريبًا منها، فأفطر ناسٌ، فأتينا أنسًا، فأخبرناه، فقال: هذا اليوم يكمل إلى أحد وثلاثين يومًا؛ لأن الحكم بن أيوب أرسل إليّ قبل صيام الناس إني صائم غدًا، فكرهت الخلاف عليه، فصمت، وأنا متمّ يومي هذا إلى الليل.

ص: 443

قال الخطيب: قال المخالف: ولا يتقدم أنس على صوم الجماعة إلا بصوم يوم الشكّ، قال الخطيب: فيقال له: قد قال أنس: إنه لم يصمه معتقدًا وجوبه، وإنما تابع الحكم بن أيوب، وكان هو الأمير على الإمساك فيه، ولعل الأمير عزم عليه في ذلك، فكره مخالفته، والمحفوظ عن أنس أنه أفطر يوم الشك، كذا روى عنه محمد بن سيرين، وحسبك به فهمًا وعقلًا وصدقًا وفضلًا.

ومن ذلك عن عائشة: لأن أصوم يومًا من شعبان أحب لي من أن أفطر يومًا من رمضان، قال الخطيب: أرادت عائشة صوم الشك إذا شهد برؤية الهلال عدلٌ، فيجب صومه، ولو كان قد شهد بباطل في نفس الأمر، وأرادت بقولها مخالفة من شرط لصوم رمضان شاهدين، والدليل على هذا أن مسروقًا روى عنها النهي عن صوم يوم الشك، ثم رواه الخطيب بإسناده.

ومن ذلك عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا غم الهلال تقدمته، وصامت، وتأمر بذلك، قال الخطيب: ليس في هذا أكثر من تقدمها بالصوم، وَيحتمل أنه تطوع لا واجب، وإذا احتمل ذلك، لم يكن للمخالف فيه حجة، مع أن الحجة إنما هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله.

قال الخطيب: ومما جاء عن التابعين فيه ما رويناه، فذكر بإسناده عن عكرمة: من صام يوم الشك فقد عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رجلًا أن يفطر بعد الظهر، وعن القاسم بن محمد: لا تصم اليوم الذي تشك فيه؛ إذا كان فيه سحاب، وفي رواية عنه: لا بأس بصومه إلا أن يُغَمّ الهلال، وعن الشعبي أنه سئل عن اليوم الذي يقول الناس: إنه من رمضان، قال: لا يصم إلا مع الإمام، وفي رواية عنه: لو صمت السنة كلها ما صمت يوم الشك، وعن الضحاك بن قيس: لو صمت السنة كلها ما صمت يوم الشك، وعن إبراهيم قال: ما من يوم أبغض إلي أن أصومه من اليوم الذي يقال: إنه من رمضان، وعن إبراهيم، وأبي وائل، والشعبيّ، والمسيَّب بن رافع، أنهم كانوا يكرهون صوم اليوم الذي يقال: إنه من رمضان، وعن الحسن البصري قال: لأن أفطر يومًا من رمضان لا أتعمده أحب إلي من أن أصوم يومًا من شعبان أصل به رمضان أتعمده، وعن الحسن، وابن سيرين أنهما كرها صوم يوم الشك.

ص: 444

قال الخطيب: وذكر المخالف شُبَهًا من القياس، ولم يختلف من اعتمد الآثار من العلماء أن كل قياس ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يخالفه فهو باطل، ويحرم العمل به، وقد قال أبو حنيفة -وهو إمام أهل العراق مع توسعه في القضاء بالقياس-: البول في المسجد أحسن من بعض القياس، وهذا صحيح، وهو إذا قابل القياسَ نصٌّ يخالفه، أو كان فاسدًا لنقص، أو معارضة الفرع للأصل، كقياس المخالف وجوب صوم يوم الشك على من نسي صلاة من صلوات يوم، فهذا قياس باطل؛ لثبوت النص بخلافه، ولأن الصلاة لم تجب بالشك، بل لأنا تيقنا شغل ذمته بكل صلاة، وشككنا في براءته منها، والأصل بقاؤها، بخلاف الصوم، ولا طريق له إلى الصلاة المنسية إلا بفعل الجميع، وإنما نظير مسألة يوم الشك أن يَشُكّ هل دخل وقت الصلاة أم لا؟ فلا تلزمه الصلاة بالاتفاق، بل لو صلى شاكًّا فيه لم تصح صلاته.

قال المخالف: وقياس آخر، وهو القياس على ما إذا غُمّ الهلال في آخر رمضان، فإنه يجب صوم ذلك اليوم، قال الخطيب: ليس بهذا المخالف من الغباوة ما ينتهي إلى هذه المقالة، لكنه ألزم نفسه أمرًا ألجأه إليها، وكيف استجاز أن يقول: يوم الشك أحد طرفي الشهر، مع أن هذا الوصف لا يلزمه، ولا يُسَلَّم له؟. فإن قال: بنيته على أصل، قيل له: هو مخالف للنصّ، فيجب اطراحه، ويقال له: إن قلت يوم الشك أحد طرفي رمضان، فأْتِ بحجة على ذلك، وهيهات السبيل إلى ذلك، وإن قلت: الشك أحد طرفي شعبان، قيل: أصبت، ولا يجب صوم شعبان، ثم يقال: الأصل بقاء شعبان، فلا يزول بالشك، قال الخطيب: قال المخالف: لا يمتنع ترك الأصل للاحتياط، كما في مسألة من نسي صلاة من الخمس، وكما لو شك ماسح الخفّ في انقضاء مدته فلا يمسح، ولو شكت المستحاضة في انقطاع الحيض تلزمها الصلاة، قال الخطيب: أما مسألة الصلاة فسبق جوابها، وأما ماسح الخف فشرط مسحه بقاء المدة، فإذا شك فيها رجع إلى الأصل، وهو غسل الرجلين، وأما المستحاضة فسقطت عنها الصلاة بسبب الحيض، فإذا شكت فيه رجعت إلى الأصل، ومقتضى هذا في مسألتنا أن لا يجب صوم يوم الشكّ؛ لأن الأصل بقاء

ص: 445

شعبان. هذا آخر كلام الخطيب رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الإمام أبو بكر الخطيب رحمه الله في ردّ قول هذا المخالف، وتفنيده حقّ إجادة، وأفاد أحسن إفادة.

وخلاصته أن النصوص الواردة في النهي عن صوم يوم الشكّ على ظاهرها، فلا يجوز صومه إلا لمن كان معتادًا صومه، فليصمه، وأما دعوى وجوب صومه كما ادّعاه هذا المخالف، فمن أفسد الفاسد، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2519]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

1 -

(يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ) -بفتح الحاء المهملة الكوفيّ، صدوقٌ، من كبار [10](227)(م) تقدم في "صلاة المسافرين" 19/ 1725.

2 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ سَلَّامٍ) -بتشديد اللام- أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص [7] مات في حدود (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

3 -

(أَبُو عَامِرٍ) عبد الملك بن عمرو الْعَقَديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

4 -

(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

راجع: "المجموع شرح المهذّب" 6/ 459 - 478.

ص: 446

5 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [10](ت 243)(م ت ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

6 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجيدِ) الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

7 -

(حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن بَهْرَام التميميّ، أبو أحمد، أو أبو عليّ الْمَرُّوذيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [9](ت 213) أو بعدها (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1543.

والباقون كلهم تقدّموا في الباب الماضي، و"أيّوب" هو: السختيانيّ، و"شيبان" هو: ابن عبد الرحمن النحويّ.

[تنبيه]: أما رواية معاوية بن سلّام، عن يحيى بن أبي كثير، فقد ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 160) فقال:

(2432)

- حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن بِشْر الْحَرِيريّ، ثنا معاوية بن سلّام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدّثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَقَدَّمُوا قبل رمضان بيوم أو بيومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صيامه فيصومه". انتهى.

وأما رواية هشام الدستوائيّ، عن يحيى بن أبي كثير، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 521) فقال:

حدّثنا عبد الصَّمَدِ، وأبو عَامِرٍ، قَالَا: ثنا هِشَامٌ، عن يحيى، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ: أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ، وَلَا بِيَوْمَيْن، إلا أن يَكُونَ رَجُلٌ كان يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ". انتهى.

وأما رواية أيوب السختيانيّ، عن يحيى، فقد ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه"، (3/ 160) فقال:

(2434)

- حدّثنا علي بن حميد الواسطيّ، ثنا أسلم بن سهل، ثنا وهب بن بقيّة، ثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير (ح) وثنا محمد بن أحمد المقري، ثنا محمد بن عبد الله الحضرميّ، ثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقّيّ، عن أيوب، عن يحيى (ح) وثنا أبو جعفر محمد بن الحسن اليقطينيّ، ومحمد بن إبراهيم، قالا: ثنا الحسين بن عبد الله القطان، ثنا

ص: 447

حكيم بن سيف، ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيوب، عن يحيى، كلهم عن أبي أسلمة

(1)

عن أبي هريرة، قال عبد الوهاب:"نُهِيَ أن يُتَعَجَّلَ قبل رمضان بيوم أو يومين"، وقال عبيد الله بن عمرو:"نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُتَقَدَّمَ قبل رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل له صيام، فيأتي عليه". انتهى.

وأما رواية شيبان النحويّ، عن يحيى، فقد ساقها أبو نعيم رحمه الله أيضًا في "مستخرجه" (3/ 161) فقال:

(2435)

- حدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو خيثمة، ثنا حسين، ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَقَدَّموا قبل رمضان بيوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صيامًا فليصمه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا)

قال الجامع عفا الله عنه: كان الأولى للمصنّف رحمه الله أن يقدّم أحاديث هذا الباب إلى الأحاديث التي قبل الباب الذي قبله؛ للمناسبة التي لا تخفى على من نظر إليها، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2520]

(1083) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا

(2)

عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ شَهْرًا، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً أَعُدُّهُنَّ، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: بَدَأَ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّكَ دَخَلْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ، فَقَالَ:"إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ").

(1)

وقع في النسخة: "عن أبي أسامة"، وهو غلط ظاهر، فليُتنبّه.

(2)

وفي نسخة: "حدّثنا".

ص: 448

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام الصنعانيّ، ثقة حافظ، عَمِي فتغيّر حفظه، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، أبو عروة الصنعانيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة الثبت، من رؤوس [4](ت 125) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهورٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها توفّيت (57) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه، فانفرد به هو والترمذيّ، وعلّق له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَن الزُّهْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْسَمَ) أي حلف (أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَزْوَاجِهِ شَهْرًا) لغضبه عليهنّ بسبب إفشاء حفصة سرًّا إلى عائشة رضي الله عنهما، كما سيأتي بيانه (قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) بن الزبير (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا مَضَت تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً أَعُدُّهُنَّ) أي تلك الليالي، وفي رواية للبخاريّ:"أعدّها عدًّا"، تريد بيان اشتياقها للقائه الكريم صلى الله عليه وسلم.

ص: 449

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث هو جزء من حديث طويل

(1)

يتضمّن أن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم كثّرن عليه، وطالبنه بتوسعة النفقة، واجتمعن في ذلك، وخُضْن فيه، فَوَجَدَ عليهنّ، فأدّبهنّ بأن أقسم أن لا يدخل عليهنّ شهرًا، فاعتزلهنّ في غُرفة تسعًا وعشرين، فدخل عليه عمر، فكلّمه في ذلك، وتلطّف فيه، إلى أن زالت موجدته عليهنّ، وأنزل الله تعالى آية التخيير، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بعائشة رضي الله عنها، فذكّرته بمقتضَى يمينه، وأنه أقسم على شهر ظانّةً أن الشهر لا يكون أقلّ من ثلاثين، فبيّن لها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الشهر يكون تسعًا وعشرين، وظاهره أنه اعتزلهنّ في أول ليلة من ذلك الشهر، وأن ذلك الشهر كان تسعًا وعشرين، ويشهد له قوله:"إن الشهر تسع وعشرون"؛ أي هذا الشهر؛ لأنه المتكلّم فيه، وَيحْتَمِل أن يكون اعتَبَر أوّل زمان اعتزاله بالأيام، وكمل تسعًا وعشرين بالعدد، واكتفى بأقلّ ما ينطلق عليه اسم الشهر، وعليه يُخَرَّج الخلاف فيمن نذر صوم شهر غير معيّن، فصامه بالعدد، فهل يصوم ثلاثين أو يكفيه تسع وعشرون؟ وإخبار عائشة رضي الله عنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعدد تلك الليالي يُفهم منه أنها اعتَبَرت ذلك الشهر بالعدد، واعتناؤها بعدد الأيام استطالةٌ لزمان الهَجْر، وذلك يدلّ على فرط محبّتها، وشدّة شوقها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه كان عندها من ذلك ما لم يكن عند غيرها، وبذلك استوجبت أن تكون أحبّ نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه، كما قد صرّح به صلى الله عليه وسلم حيث قيل له:"أيّ الناس أحبّ إليك؟ قال: "عائشة

" متّفقٌ عليه

(2)

. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) استُشكل قولها هذا؛ لأن مقتضاه أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها في اليوم التاسع والعشرين، فلم يكن ثَمَّ شهرٌ، لا على الكمال، ولا على النقصان.

(1)

حديث متّفقٌ عليه، سيأتي للمصنّف في كتاب "الطلاق" مطوّلًا برقم (1479).

(2)

هو ما أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها"، قلت: ثم من؟ قال: "عمر"، فَعَدَّ رجالًا، فسكتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم.

(3)

"المفهم" 3/ 140 - 141.

ص: 450

[وأجيب]: بأن المراد: فلما مضت تسع وعشرون ليلة بأيامها، فإن العرب تؤرّخ بالليالي، وتكون الأيام تابعة لها، ويدلّ لذلك قوله في حديث أم سلمة رضي الله عنها عند البخاريّ وغيره:"فلما مضى تسعة وعشرون يومًا".

[فإن قلت]: سيأتي في حديث جابر رضي الله عنه في هذه القصّة: "فخرج إلينا صباح تسع وعشرين"، وهو صريح في أنه كان دخوله في التاسع والعشرين.

[قلت]: أجيب عنه بأن معناه صباح الليلة التي بعد تسعة وعشرين يومًا، وهي صبيحة ثلاثين، وهذا هو المعنى جمعًا بين الروايات، فإن قوله:"فلما مضى تسعة وعشرون يومًا" يقطع النزاع في ذلك، هكذا تأوله النوويّ في "شرح مسلم" تبعًا للقاضي عياض، فإنه قال بعد ذكره اختلاف الروايات في ذلك: معناه كله: بعد تمام تسعة وعشرين يومًا، يدلّ عليه رواية:"فلما مضى تسع وعشرون يومًا"، أفاده في "الطرح"

(1)

.

(قَالَتْ: بَدَأَ بِي) فيه بيان لحظوتها عنده صلى الله عليه وسلم من بين نسائه، وفيه منقبةٌ عظيمة لها، حيث بدأ صلى الله عليه وسلم بالدخول عليها قبلهنّ.

(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّكَ دَخَلْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَعُدُّهُنَّ، فَقَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ")"أل" للعهد؛ أي هذا الشهر، وهذا يقتضي أن الشهر كان بالهلال، لا بالأيام، وكأنه خَفِي الهلال على الناس، وعَلِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم به بقول جبريل، فقد أخرج النسائيّ بإسناد صحيح، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أتاني جبريل عليه السلام، فقال: الشهر تسع وعشرون يومًا"، فلذا اعترضت عائشة رضي الله عنها بما اعترضت، فبيّن لها النبيّ صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر، لكن مقتضى العدّ أن الشهر كان على الأيام، إلا أن يقال: زعمت عائشة أن الشهر ثلاثون، وإن رُؤي الهلال قبل ذلك، وهذا بعيد، قاله السنديّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 119.

ص: 451

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2520](1083) وسيأتي في "كتاب الطلاق" برقم (1475) عقب رقم (1479)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3318)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 136 و 6/ 160)، و (ابن ماجه) في (2053)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 401)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 33 و 136 و 185 و 263)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 161)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 174 و 3/ 173)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 665)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان كمّيّة الشهر؛ أي عدده، وذلك أن الشهر كما يكون ثلاثين يكون تسعًا وعشرين؛ لأن حقيقة الشهور العربيّة مبنيّة على رؤية الهلال، وهو تارة يُرى بعد ليلة الثلاثين، فيكون الشهر ثلاثين، وتارة يُرى في ليلة الثلاثين، فيكون تسعًا وعشرين.

2 -

(ومنها): جواز معاقبة الأزواج بعدم الدخول عليهنّ شهرًا.

3 -

(ومنها): جواز هجران المسلم فوق ثلاثة أيام؛ إذا تعلقت بذلك مصلحة دينية؛ من صلاح حال المهجور، وغير ذلك، ومن ذلك ما إذا كان المهجور مبتدعًا، أو مجاهرًا بالظلم والفسوق، فلا يحرم مهاجرته، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" -متفق عليه- فمحلّه ما إذا كان الهجران لحظوظ النفس، وتعنتات أهل الدنيا.

قال النوويّ رحمه الله في "الروضة": قال أصحابنا وغيرهم: هذا في الهجران لغير عذر شرعيّ، فإن كان عذرٌ بأن كان المهجور مذموم الحال؛ لبدعة، أو فسق، أو نحوهما، أو كان فيه صلاح لدين الهاجر، أو المهجور، فلا يحرم، وعلى هذا يُحمل ما ثبت من هجر النبيّ صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه، ونهيه صلى الله عليه وسلم-

ص: 452

عن كلامهم، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضًا. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن هذا الحديث صريح أن حلفه صلى الله عليه وسلم كان على الامتناع من الدخول على أزواجه شهرًا، فتبيّن أن قوله في حديث أم سلمة، وأنس، وغيرهما رضي الله عنهم:"آلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نسائه" أريد به ذلك، ولم يُرَد به الحلف على الامتناع من الوطء، والروايات يفسّر بعضها بعضًا، فإن الإيلاء في اللغة مطلق الحلف، لكنه مستعمل في عرف الفقهاء في حلف مخصوص، وهو الحلف على الامتناع من وطء زوجته مطلقًا، أو مدّة تزيد على أربعة أشهر، فلا يستعمل الإيلاء عندهم فيما عدا ذلك، والإيلاء على الوجه المذكور حرام؛ لما فيه من إيذاء الزوجة، وليس هو المذكور في الحديث، ولو حلف على الامتناع من وطء الزوجة أربعة أشهر، فما دونها لم يكن حرامًا، وتعديته في حديث أم سلمة وغيرها بـ"من" يدلّ على ذلك؛ لأنه راعى المعنى، وهو الامتناع من الدخول، وهو يتعدّى بـ"من"، قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

5 -

(ومنها): أن هذا الحديث محمول عند الفقهاء على أنه صلى الله عليه وسلم أقسم على ترك الدخول على أزواجه شهرًا بعينه بالهلال، وجاءه ذلك الشهر ناقصًا، فلو تم ذلك الشهر ولم يُرَ الهلال فيه ليلة الثلاثين لمكث ثلاثين يومًا، أما لو أقسم على ترك الدخول عليهن شهرًا مطلقًا لم ينطبق الحلف فيه على أول الهلال لم يبرّ إلا بشهر تامّ بالعدد، قال وليّ الدين رحمه الله: هذا هو الذي نعرفه لأصحابنا وغيرهم، فإن كان أحد من الفقهاء يقول بالاكتفاء بتسعة وعشرين يومًا، ولو كان ذلك في أثناء شهر، فهذا الحديث حجة له، وقال أيضًا:

[فإن قلت]: إذا كان المحلوف عليه شهرًا بعينه بالهلال، وقد رئي لتمام تسعة وعشرين يومًا فما وجه السؤال عنه، وقد كمل الشهر بالرؤية؟.

[أجيب]: بأنه يَحْتَمِل أوجهًا:

[أحدها]: أن السائل لم يعلم بأنه شهر يعينه بالهلال، بل ظَنّ أنه شهر عدديّ، فبنى على ذلك سؤاله.

(1)

انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 119 - 120.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 119.

ص: 453

[ثانيها]: لعل السائل لم يعلم قبل ذلك الحكم الشرعيّ، وهو أن الشهر المعتبر بعينه بالهلال لا يعتبر فيه العدد، وإنما يعتبر فيه الهلال حتى بيّنه له الشارع في هذا الحديث.

[ثالثها]: يَحْتَمِل أن السائل عرف أن المحلوف عليه شهر بعينه بالهلال، وعرف أن المعتبر فيه الهلال دون العدد، ولكنهم لم يكونوا رأوا الهلال لمانع من غيم أو غيره، أو لم ينتصبوا لرؤيته؛ لكونه ليس رمضان ولا شعبان، وعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي انقضاء الشهر، فأخبر به، ويدل لذلك قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند النسائيّ:"أتاني جبريل عليه السلام، فقال: الشهر تسع وعشرون". انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

6 -

(ومنها): ما قاله ولىّ الدين أيضًا:

[إن قلت]: ظاهر قوله: "إن الشهر تسع وعشرون" حصرُ الشهر في تسع وعشرين، مع أنه لا ينحصر فيه، فقد يكون ثلاثين.

[قلت]: عنه أجوبة:

[أحدها]: أن المعنى كما تقدم: أن الشهر يكون تسعةً وعشرين يومًا، وحينئذ فلا إشكال في ذلك.

[ثانيها]: أن الألف واللام للعهد، والمراد: أن هذا الشهر الذي أَقْسَمَ على الامتناع من الدخول فيه تسعة وعشرون يومًا.

[ثالثها]: أنه بَنَى ذلك على الغالب الأكثر؛ لأن مجيء الشهر تسع وعشرون في زمنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر من ثلاثين، وفي "سنن أبي داود"، والترمذيّ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"ما صمنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين"، وكذا في "سنن ابن ماجه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[رابعها]: قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: معناه حصره من أحد طرفيه، وهو النقصان؛ أي إنه يكون تسعًا وعشرين، وهو أقله، وقد يكون ثلاثين، وهوأكثره، فلا تأخذوا أنتم بصوم الأكثر أنفسكم احتياطًا، ولا تقصروا على الأقل تخفيفًا، ولكن اربطوا عبادتكم برؤيته، واجعلوا عبادتكم مرتبطةً ابتداءً وانتهاءً

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 117.

ص: 454

باستهلاله. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2521]

(1084) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَزَلَ نِسَاءَهُ شَهْرًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْنَا: إِنَّمَا الْيَوْمُ تِسْعٌ

(2)

وَعِشْرُونَ، فَقَالَ: "إِنَّمَا الشَّهْرُ

(3)

" -وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَبَسَ إِصْبَعًا وَاحِدَةً فِي الْآخِرَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن مُهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الفهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ إمام مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم، المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (156) من رباعيّات الكتاب.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 117.

(2)

وفي نسخة: "تسعةٌ".

(3)

وفي نسخة: "إن الشهر".

ص: 455

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه ابن رُمح، فتفرّد به وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، فهو ابن صحابيّ، غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَزَلَ) أي اجتنب (نِسَاءَهُ شَهْرًا) قد تقدّم أن سببه إفشاء حفصة شيئًا أسرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها إلى عائشة رضي الله عنها، وسيأتي بطوله في "كتاب الطلاق" -إن شاء الله تعالى- (فَخَرَجَ إِلَيْنَا فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ) ذكّر تسعًا بتقدير التمييز ليلةً، وفي الرواية التالية:"فخرج إلينا صباح تسع وعشرين"، وقد تقدّم أن معناه: بعد تمام تسعة وعشرين يومًا، يدلّ عليه ما سيأتي في حديث أم سلمة رضي الله عنها بلفظ: "فلمّا مَضَى تسعة وعشرون يومًا غدا عليهم

" (فَقُلْنَا) وفي الرواية التالية: "فقال بعض القوم"، وقد سبق أن عائشة رضي الله عنها قالت له ذلك، فيحتَمِل أن تكون هي المرادة هنا، وَيحْتَمِل أن يكون كلّمه غيرها معها، والله تعالى أعلم.

(إِنَّمَا الْيَوْمُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) وفي نسخة: "تسعة وعشرون"، وهو واضح؛ لأن اليوم مذكّر، فيؤنّث العدد له، وللأول أيضًا وجه، وهو أن تأنيث العدد للمذكّر، وتذكيره للمؤنّث إنما يلزم إذا وقع المعدود بعده، فأما إذا قُدّم، كما هنا، أو حُذف، كحديث:"من صام رمضان، ثمّ أتبعه ستًّا من شوّال كان كصيام الدهر"، رواه مسلم، فيجوز الوجهان، فتنبّه لهذه القاعدة، فإنها مهمّة، والله تعالى وليّ التوفيق.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا الشَّهْرُ") وفي نسخة: "إن الشهر"، هكذا الرواية لم يُذكر فيها خبر "إنّ"، وتقديره كما يدلّ عليه ما بعده:"هكذا، وهكذا، وهكذا"(وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ) أي ضرب إحداهما في الأخرى (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَبَسَ إِصْبَعًا وَاحِدَةً) أي منعها من إطلاقها مع أخواتها، وقد تقدّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه "قبض إبهامه في الثالثة"، وفي رواية: "ونقص في الصفقة الثالثة إبهام

ص: 456

اليمنى، أو اليسرى" (فِي الْآخِرَةِ) أي في الصفقة الثالثة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2521 و 2522](1084)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 329 و 334 و 341)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 161 - 162)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 174)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 234 - 235)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2249)، وفوائده تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2522]

(

) - (حَدَّثَنِي

(1)

هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ شَهْرًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا صبَاحَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ"، ثُمَّ طَبَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيْهِ ثَلَاثًا، مَرَّتَيْنِ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا، وَالثَّالِثَةَ بِتِسْعٍ مِنْهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، تقدّم قبل باب.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، ترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثمّ المصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، تغيّر في آخره [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ فقيهٌ يُدلّس وُيرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان"6/ 129.

(1)

وفي نسخة "حدّثنا".

ص: 457

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (صَبَاحَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ) أي صباح الليلة التي بعد تسعة وعشرين يومًا، وهي صبيحة ثلاثين.

وقوله: (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: القوم جماعة الرجال ليس فيهم امرأة، الواحد رجل، وامرؤٌ، من غير لفظه، والجمع أقوام، سُمُّوا بذلك؛ لقيامهم بالعظائم والمهمّات، قال الصغانيّ: وربّما دخل النساء تبعًا؛ لأن قوم كلّ نبيّ رجال ونساء، ويذكّر القوم ويؤنّث، فيقال: قام القوم، وقامت القوم، وكذلك كلّ اسم جمع لا واحد له من لفظه، نحو رَهْط، ونفَرٍ. انتهى

(1)

.

فيحتمل أن يكون الرجال هم الذين قالوا له صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وَيحْتَمل أن بعض الرجال كلّمه مع بعض النساء، وقد سبق أن عائشة رضي الله عنها كلّمته، وكذا ثبت أن عمر رضي الله عنه ممن كلّمه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ) أي أحيانًا يكون تسعة وعشرين يومًا، كما يكون أحيانًا ثلاثين يومًا.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله في الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[3252]

(1085) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْن مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيٍّ، أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَرَهُ، أَن أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا، فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ

(2)

وَعِشْرُونَ يَوْمًا، غَدَا عَلَيْهِمْ، أَوْ رَاحَ، فَقِيلَ لَهُ: حَلَفْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، قَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا

(3)

").

(1)

"المصباح المنير" 2/ 520.

(2)

وفي نسخة: "تسعٌ".

(3)

وفي نسخة: "يكون تسعًا وعشرين".

ص: 458

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيٍّ) هو: يحيى بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن صَيْفيّ، نُسب جدّه لجدّه المكيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.

2 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ) بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم المخزوميّ، أبو عبد الله المدنيّ، أخو أبي بكر أحد الفقهاء السبعة، ثقةٌ مُقِلّ [3].

رَوَى عن أبيه، وأم سلمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والأعرج ومات قبله.

وروى عنه ابناه: عبد الله، ومحمد، ويحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفيّ، والزهريّ.

قال النسائيّ: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، تُوُفِّي في خلافة يزيد بن عبد الملك بالمدينة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: أمهُ فاختة بنت عتبة بن سهل بن عمر، ومات سنة ثلاث ومائة، أخرجوا له حديثًا واحدًا، عن أم سلمة رضي الله عنها:"أن الشهر تسع وعشرون".

وذكر ابن حبان أيضًا أنه رَوى عَن عمر، وغير واحد من الصحابة، وقال أبو حاتم الرازيّ: حديثه عن عمر مرسل.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له عندهم إلا هذا الحديث فقط.

3 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أُميّة حُذيفة، أو لسُهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن المغيرة بن مخزوم المخزوميّة، أم المؤمنين، تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، وماتت سنة (62) على الأصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

والباقون ذُكروا قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

ص: 459

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، وعكرمة، فما أخرج له أبو داود، والترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار، والقول.

4 -

(ومنها): أن تابعيّه من الثقات المقلّين من الرواية، فليس له في عند الجماعة إلا هذا الحديث.

شرح الحديث:

عن عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ (أَنَّ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ شَهْرًا) وفي رواية للبخاريّ: "آلى من نسائه شهرًا"، وفي رواية له:"حلف أن لا يدخل على بعض نسائه شهرًا".

وقال في "الفتح" في شرح الرواية الأخيرة ما نصّه: كذا في هذه الرواية، وهو يُشعر بأن اللاتي أقسم أن لا يدخل عليهنّ هنّ من وقع منهنّ ما وقع من سبب القسم، لا جميع النسوة، لكن اتَّفَقَ أنه في تلك الحالة انفكّت رجله، كما في حديث أنس رضي الله عنه

(1)

، فاستمرّ مقيمًا في المشرُبة ذلك الشهر كلّه، وهو يؤيّد أن سبب القسم ما جاء في قصّة مارية رضي الله عنها، فإنها تقتضي اختصاص بعض النسوة دون بعض، بخلاف قصّة العسل، فإنهنّ اشتركن فيها إلا صاحبة العسل، وإن كانت إحداهنّ بدأت بذلك، وكذلك قصّة طلب النفقة، والغيرة، فإنهنّ اجتمعن فيها. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": المراد من الإيلاء هنا الحلف، لا الإيلاء الشرعيّ؛ لأن الإيلاء الشرعيّ هو الحلف على ترك قربان امرأته أربعة أشهر، أو أكثر؛ لقوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، فتكون مدة الإيلاء أربعة أشهر من غير زيادة ولا نقصان، وأخرج ابن أبي شيبة في

(1)

هو ما أخرجه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"(1911): حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدّثنا سليمان بن بلال، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه، وكانت انفكت رجله، فأقام في مشربة تسعًا وعشرين ليلةً، ثم نزل، فقالوا: يا رسول الله آليت شهرًا، فقال:"إن الشهر يكون تسعًا وعشرين". انتهى.

(2)

"الفتح" 11/ 638 كتاب "النكاح" رقم (5202).

ص: 460

"مصنفه": عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"إذا آلى من امرأته شهرًا، أو شهرين، أو ثلاثةً ما لم يبلغ الحدّ فليس بإيلاء"، وأخرج نحوه عن عطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، والشعبيّ، وقال الشافعيّ، وأحمد: إذا حَلَف لا يقربها أربعة أشهر لا يكون مُوليًا حتى يزيد مدة المطالبة، واشترط مالك زيادة يوم، والآية المذكورة حجة عليهم، وحُكْمُ الإيلاء أنه إذا وطئها في المدة كَفَّر؛ لأنه حنث في يمينه، وقال الحسن البصريّ: لا كفارة عليه، وسقط الإيلاء، وإن لم يطأها في المدّة، حتى مضت بانت منه بتطليقة واحدة، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعثمان، وعليّ رضي الله عنهم، وهو قول جمهور التابعين، وفيه فروع كثيرة محلها كتب الفقه. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ) وقع في بعض النسخ: "تسع"، والظاهر أنه غلطٌ؛ لأن التمييز مذكّر، وهو مذكور بعده، فليُتنبّه (وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا عَلَيْهِمْ) أي أتاهم صباحًا، وذكّر الضمير باعتبار بعض الأهل (أَوْ) للشكّ من الراوي (رَاحَ) أي أتاح مساءً، وأصل الْغُدُوّ: الخروج بغدوة، والرواح: الرجوع بعشيّ، ويقال: الْغَدْوة: المرّة من الذهاب، والرَّوحة: المرّة من المجيء، وقد يُستعملان في مطلق المشي والذهاب، كما في "النهاية"، والمراد أنه أتاهم صباحًا أو مساءً.

(فَقِيلَ لَهُ) أي قال له قائل، وقد تقدّم أنها عائشة رضي الله عنها، ويَحْتَمِل أن يكون معها غيرها، كما هو ظاهر رواية جابر التي قبل هذا بلفظ:"فقلنا"(حَلَفْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، قَالَ: "إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا") وفي نسخة: "يكون تسعًا وعشرين"، وهو صحيح؛ أي ليلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2523 و 2524](1085)، و (البخاريّ) في

(1)

راجع: "عمدة القاري" 10/ 283.

ص: 461

"الصوم"(10910) و"النكاح"(5202)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 368)، و (ابن ماجه) في "الطلاق"(2061)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 315)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 175)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 162)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 420)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(23/ 304)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 153)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 123)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2524]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ، يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ جَمِيعًا، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء القيسيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ) بن مَخْلد بن الضحّاك الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم الضحّاك، عن ابن جُريج، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5202)

- حدّثنا أبو عاصم، عن ابن جريج (ح) وحدّثني محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن صيفيّ، أن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث أخبره، أن أم سلمة أخبرته، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حلف لا يدخل على بعض أهله شهرًا، فلما مضى تسعة وعشرون يومًا غدا عليهنّ، أو راح، فقيل له: يا نبي الله حلفت أن لا تدخل عليهنّ شهرًا، قال:"إن الشهر يكون تسعةً وعشرين يومًا". انتهى.

ص: 462

وأما رواية رَوْح، عن ابن جريج، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (6/ 315) فقال:

(26725)

- حدّثنا رَوْحٌ، ثنا ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن محمد بن صيفيّ، أن عكرمة بن عبد الرحمن أخبره، أن أم سلمة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يدخل على بعض أهله شهرًا، فلما مضى تسعة وعشرون يومًا غدا عليهم، أو راح، فقيل له: حلفت يا نبي الله لا تدخل عليهم شهرًا، فقال:"إن الشهر تسعة وعشرون يومًا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[5252]

(1086) - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَقَالَ:"الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا"، ثُمَّ نَقَصَ فِي الثَّالِثَةِ إِصْبَعًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو القاسم المدنيّ، نزيل الكوفة، كان يُلقّب ظلّ الشيطان؛ لقِصَره، ثقةٌ [3] قتله الحجّاج قبل الثمانين (خ م مد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.

5 -

(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقاصٍ) مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بالعقيق سنة (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

ص: 463

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بثقات الكوفيين، من أوله إلى آخره.

3 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

4 -

(ومنها): أن صحابيه رضي الله عنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وأول من رَمَى بسهم في سبيل الله، وآخر من مات من العشرة المبشّرين بالجنّة، مات سنة (55) على الصحيح، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ رضي الله عنه)، أنه (قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ عَلَى الْأُخْرَى) أي طبّق بين أصابع يديه العشرين (فَقَالَ: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا) وفي الرواية التالية: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا" ثلاث مرات، فالإشارة الأولى إلى العشرة، والثانية إلى العشرين، والثالثة إلى الثلاثين (وَنَقَصَ فِي الثَّالِثَةِ إِصْبَعًا) بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة أفصح لغاتها العشرة، وقد تقدّمت غير مرّة وقد تقدّم في حديث ابن عمر بقوله:"وعقد الإبهام في الثالثة"؛ يعني أنه صلى الله عليه وسلم قبض إصبعًا واحدةً، وهي الإبهام من العشرة الثالثة إشارة إلى كونه تسعة، فجملة ما أشار إليه تسعة وعشرون يومًا.

وفي الرواية التالية للمصنّف من طريق زائدة، عن إسماعيل:"الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، عشرًا، وعشرًا، وتسعًا مرة"، وفي حديث جابر رضي الله عنه المتقدّم:"إن الشهر يكون تسعًا وعشرين، ثم طبّق النبيّ صلى الله عليه وسلم بيديه ثلاثًا، مرّتين بأصابع يديه كلها، والثالثة بتسع منها".

وحاصل معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بيّن أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين يومًا أحيانًا، كما يكون ثلاثين يومًا أحيانًا، يوضّح هذا المعنى ما أخرجه النسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "الشهر يكون تسعة وعشرين، ويكون ثلاثين

". وما تقدّم من حديث ابن عمر رضي الله عنه: "والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا؛ يعني تمام ثلاثين"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

ص: 464

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 2525 و 2526، (1086)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 138) و"الكبرى"(2445 و 2446 و 2447)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1656)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 184)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1920)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2526]

(

) - (وَحَدَّثَني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَن زَائِدَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشَّهْرُ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا" عَشْرًا، وَعَشْرًا، وَتِسْعًا مَرَّةً).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت رضي الله عنه ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن الوليد الجُعْفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

والباقون ذُكروا قبله، و"إسماعيل": هو ابن أبى خالد.

وقوله: (مَرَّةً) قيد لـ"تسعًا".

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، ومضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 465

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2527]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، يَعْني ابْنَ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: في هَذَا الإسْنَادِ، بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ) - بضمّ القاف، وسكون الهاء، آخره زاي- المروزيّ، ثقةٌ [11](262)(م) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ) أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 215) أو قبل ذلك (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 35.

3 -

(سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أبو سليمان، ويقال: أبو أيوب المؤذب المروزيّ، ثقة حافظ، كان يورّق لابن المبارك، من كبار [10](ت 203)(خ م س) تقدم في "الصلاة" 9/ 869.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) الإمام الحجة الفقيه العلَم الشهير المروزيّ [8](ت 181)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

و"إسماعيل بن أبي خالد" تقدم قبل حديث.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا) يعني حديث محمد بن بشر، وزائدة بن قُدامة كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد.

[تنبيه]: رواية ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد هذه ساقها النسائيّ: رحمه الله في "المجتبى"(4/ 138) فقال:

(2446)

- أنبا سُويد بن نصر، قال: أنبأ عبد الله، عن إسماعيل، عن محمد بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا"؛ يعني تسعة وعشرين. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 466

(5) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَأنَّهُمْ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ بِبَلَدٍ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ لِمَا بَعُدَ عَنْهُمْ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2528]

(1087) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ كرَيْبٍ، أَن أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ، بَعَثَتهُ اِلَى مُعَاوِبَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاستُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ، وَأنا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ في آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَألنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أنتَ رَأيتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيةُ، فَقَالَ: لَكِنَا رَأَيْنَاهُ لَيلَةَ السَّبتِ، فَلَا نَزَالُ نَصُومُ، حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاِثينَ، أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْبَةِ مُعَاوِيةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَشَك يَحْيَى بْنُ يَحْيَى فِي "نَكْتَفِي"، أَوْ "تكتَفِي").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(قتيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجر السعديّ، تقدّم قبل بابين.

5 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير، تقدّم قبل بابين أيضًا.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ) القرشيّ المدنيّ، مولى ابن حُويطب، ثقةٌ [6] مات سنة بضع (130)(خ م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين" 54/ 1934.

7 -

(كُرَيْبُ) بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدين المدني، مولى ابن عبّاس، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

ص: 467

8 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنه، حبر الأمة وبحرها، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهم، ثم فرّق؛ لاختلافهم في كيفية أخذهم عن شيخهم.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيوخه، فالأول نيسابوريّ، والثاني بغداديّ، والثالث بغلانيّ، والرابع مروزيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وبحرها، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ كُرَيْبٌ) مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية النسائيّ مسلسل بالإخبار والتحديث، ولفظه: "أخبرنا عليّ بن حُجْرٍ، قال: حدّثنا إسماعيل، قال: حدّثنا محمد -وهو ابن أبي حرملة- قال: أخبرني كُريبٌ، أن أم الفضل بعثته

" (أَنَّ أمَّ الْفَضْلِ بِنتَ الْحَارثَ) هي: لبابة بنت الحارث بن حَزْن -بفتح، فسكون- الهلالية، زوج العباس بن عبد المطّلب، وأخت ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت بعد العباس في خلافة عثمان رضي الله عنهم، تقدّمت ترجمتها في "الصلاة" 36/ 1038. (بَعَتثهُ) أي أرسلته لقضاء حاجة لها (إِلَى مُعَاوِيةَ) بن أبي سفيان، أبي عبد الرحمن الخليفة الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات في رجب سنة (60) وقد قارب (80)، تقدّمت ترجمته في " الصلاة: 8/ 858. (بِالشَّامِ) بالهمزة، وبدونها: البلدة المعروفة (قَالَ) كريب (فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا) أي بَلّغت رسالتها إلى معاوية رضي الله عنه (وَاسْتُهِلّ عَلَيَّ رَمَضَانَ) وفي رواية النسائيّ: "واستُهِلّ عليّ هلالُ رمضان"، وهو بالبناء للمفعول، وقيل: يجوز بناؤه للفاعل؛ أي رُؤي هلال رمضان، أو تبيّن، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأُهِلّ الهلالُ بالبناء للمفعول، وللفاعل أيضًا، ومنهم من يمنعه،

ص: 468

واستُهِلّ بالبناء للمفعول، ومنهم من يُجيز بناءه للفاعل، وهَلَّ، من باب ضرب لغةٌ أيضًا: إذا ظهر، وأَهْلَلنا الهلالَ، واستهللناه: رفعنا الصوت برؤيته، وأهلّ الرجل: رفع صوته بذكر الله تعالى عند نعمة، أو رؤية شيء يعجبه.

و"الهلال" هو القمر في حالة خاصّة، قال الأزهريّ: ويسمّى لليلتين من أول الشهر هلالًا، وفي ليلة ستّ وعشرين، وسبع وعشرين أيضًا هلالًا، وما بين ذلك يسمّى قمرًا، وقال الفارابيّ، وتبعه في "الصِّحَاح": الهلال لثلاث ليال من أول الشهر، ثم هو قمر بعد ذلك، وقيل: الهلال هو الشهر بعينه

(1)

.

(وَأنَا بِالشَّامِ) جملة حالية؛ يعني أنه رؤي هلال رمضان، والحال أن كريبًا بالشام، قبل أن يرجع إلى المدينة (فَرَأَيْتُ الْهِلَال) وفي رواية أبي داود، والترمذيّ:"فرأينا الهلال" بنون الجمع (لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَألنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) يعني أنه سأله عن أمور تتعلّق به، وبسفره، وعن حال أهل الشام، وغير ذلك، كما هو الشأن والعادة عند قدوم المسافر من سفره (ثُمَّ) انساق الكلام إلى أن (ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيتُمُ الهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: أنتَ رَأَيْتَهُ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي أأنت رأيته؟، وفي رواية النسائيّ:"أنت رأيته لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ؟ "(فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ، فَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، قَالَ: لَكِنَّا) بنون مشددة، لإدغام نون "لكن" في نون ضمير جمع المتكلّم، وفي رواية النسائيّ:"لَكِنْ" بسكون النون (رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ) أي بعد رؤية أهل الشام (فَلَا نَزَالُ نَصُومُ، حَتى نُكمِلَ ثَلَاِثِينَ) وفي رواية النسائيّ: "حتى نُكمِل ثلاثين يَوْمًا"(أَوْ نَرَاهُ) أي قبل ذلك لتسعة وعشرين (فَقُلتُ: أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ، وَصِيَامِهِ؟) وفي رواية النسائيّ: "أْوَ لا تكتفي برؤية معاوية وَأَصْحَابِهِ؟ "(فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الظاهر أنه أراد: أمرنا أن لا نعتمد على رؤية غيرنا، ولا نكتفي بها، بل لا نعتمد إلا على رؤية أهل بلدنا، وقد ترجم الترمذيّ رحمه الله، فقال:"ما جاء لكلّ أهل بلد رؤيتهم"، ثم أورد حديث الباب، وقال أيضًا: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكلّ أهل بلد رؤيتهم. انتهى.

(1)

"المصباح" 2/ 639.

ص: 469

وقوله: (وَشَكَّ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى فِي "نَكْتَفِي"، أَوْ "تَكْتَفِي") أشار إلى بيان اختلاف شيوخه، فقد اتفق الثلاثة على لفظ:"أو لا تكتفي" بالتاء، وشكّ شيخه يحيى بن يحيى هل هو "نكتفي" بالنون، أو "تكتفي" بالتاء. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

المسألة الأولى: حديث ابن عباس بهذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

المسألة الثانية: في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 2528](1087)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(629)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2111) و"الكبرى"(2421)، و (أحمد) في "مسنده"، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1916)(1/ 306)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 164)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 171)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 67 و 4/ 251) و"المعرفة"(3/ 399)، والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم اختلاف المطالع:

قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"(14/ 356): واختَلَف العلماء في الحكم إذا رَأَى الهلال أهل بلد دون غيره من البلدان، فرُوي عن ابن عباس، وعكرمة، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، أنهم قالوا: لكل أهل بلد رؤيتهم، وبه قال إسحاق ابن راهويه، وحجة من قال هذا القول حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، ثم أخرج حديث الباب.

ثم قال: وفيه قول آخر، رُوي عن الليث بن سعد، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، قالوا: إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا، وهو قول مالك، فيما روي لابن القاسم، وقد رُوي عن مالك، وهو مذهب المدنيين من أصحابه، أن الرؤية لا تلزم غير البلد الذي حصلت فيه، إلا أن يَحْمِل الإمام على ذلك، وأما مع اختلاف الكلمة فلا، إلا في البلد بعينه.

قال أبو عمر رحمه الله: إلى القول الأول أذهب؛ لأن فيه أثرًا مرفوعًا، وهو حديث حسن تلزم به الحجة، وهو قول صاحب كبير لا مخالف له من الصحابة، وقول طائفة من فقهاء التابعين، ومع هذا إن النظر يدل عليه عندي؛ لأن الناس لا يُكَلَّفون علم ما غاب عنهم في غير بلدهم، ولو كلفوا ذلك لضاق

ص: 470

عليهم، أرأيت لو رُئي بمكة، أو بخراسان هلال رمضان أعوامًا بغير ما كان بالأندلس، ثم ثبت ذلك بزمان عند أهل الأندلس، أو عند بعضهم، أو عند رجل واحد منهم، أكان يجب عليه قضاء ذلك، وهو قد صام برؤيةٍ، وأفطر برؤيةٍ، أو بكمال ثلاثين يومًا، كما أُمِرَ؟ ومَن عَمِل بما يجب عليه مما أمر به فقد قضى الله عنه، وقول ابن عباس عندي صحيح في هذا الباب، والله الموفق للصواب. نتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قول ابن عبّاس رضي الله عنه: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمة تصريح برفع ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وبأمره به، فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز، أو ما قارب ذلك، فالواجب على أهل كلّ بلد أن يعملوا على رؤيتهم دون رؤية غيرهم، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يَحْمِل الناس على ذلك فلا تجوز مخالفته؛ إذ المسألة اجتهاديّة مُختلف فيها، ولا يبقى مع حكم الإمام اجتهادٌ، ولا تحلّ مخالفته، ألا ترى أن معاوية رضي الله عنه أمير المؤمنين قد صام بالرؤية، وصام الناس بها بالشام، ثم لم يلتفت ابن عبّاس رضي الله عنهما إلى ذلك، بل بقي على حكم رؤيته هو، ووجه هذا يُعرف من علم الهيئة والتعديل، وذلك يتبيّن فيها أن ارتفاعات الأقاليم مختلفة، فتختلف مطالع الأهلّة ومغاربها، فيطلُع الهلال ويغرُب على قوم قبل طلوعه وغروبه على آخرين، وعلى هذا فلا يظهر تأثير هذا إلا فيما بَعُدَ جدًّا، لا فيما قرُبَ، قال: وإلى ذلك صار ابن عبّاس، وسالم، والقاسم، وعكرمة، وبه قال إسحاق، وإليه أشار الترمذيّ، حيث بوّب:"لأهل كلّ بلد رؤيتهم"، وحكَى أبو عمر بن عبد البرّ الإجماع على أنه لا تُراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان، كالأندلس من خُرَاسان، قال: ولكلّ بلد رؤيتهم إلا ما كان كالمصر الكبير، وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين، قال: وهذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدلّ على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد، ثم ذكر ما ذكره ابن المنذر من الخلاف في المسألة، وقد

(1)

"التمهيد" 14/ 356 - 358.

ص: 471

تقدّم، ثم قال: وقال شيوخنا: إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع، ثم نُقل إلى غيرهم بشهادة شاهدين لزمهم الصوم، وقال عبد الملك: أما ثبوته بالشهادة فلا يلزم فيها الصوم إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة، إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيُلزِمَ الناس كلّهم الصيام، وعَلّل هذا بأن البلاد كلها لا كبلد واحد؛ إذ حكمه نافذ في الجميع.

قال القرطبيّ: هكذا وقع نقل المشايخ لهذه المسألة، ولم يفرّقوا بين البعيد والقريب من الأقاليم، والصواب الفرق بدليل الإجماع الذي حكاه أبو عمر، فيُحمل إطلاق المشايخ على البلاد المتقاربة، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ في "الفتح": وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:

(أحدهما): أن لأهل كلّ بلد رؤيتهم، وفي "صحيح مسلم"، من حديث حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق، وحكاه الترمذيّ عن أهل العلم، ولم يحك سواه. وحكاه الماورديّ وجهًا للشافعيّة.

(الثاني): مقابله: وهو أنه إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها، وهو المشهور عند المالكية، لكن حكى ابن عبد البرّ الإجماع على خلافه، وقال: أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد، كخراسان والأندلس. قال القرطبيّ: قد قال شيوخنا: إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع، ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم. وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي يثبت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم، فيلزم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقّه كالبلد الواحد؛ إذ حكمه في الجميع.

وقال بعض الشافعية: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدًا، وإن تباعدت فوجهان، لا يجب عند الأكثر، واختار أبو الطيّب، وطائفة الوجوب، وحكاه البغويّ عن الشافعيّ.

(1)

"المفهم" 3/ 142 - 144.

ص: 472

وفي ضبط البعد أوجه:

(أحدها): اختلاف المطالع: قطع به العراقيون، والصيدلانيّ، وصححه النوويّ في "الروضة"، و"شرح المهذّب".

(ثانيها): مسافة القصر: قطع به الإمام، والبغويّ، وصححه الرافعيّ في "الصغير"، والنوويّ في "شرح مسلم".

(ثالثها): اختلاف الأقاليم.

(رابعها): حكاه السرخسيّ، فقال: يلزم كل بلد لا يتصوّر خفاؤه عنهم بلا عارض، دون غيرهم.

(خامسها): قول ابن الماجشون المتقدّم. ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن الأرجح هو القول باعتبار اختلاف المطالع.

وحاصله أن لكلّ أهل بلد تختلف مطالعهم رؤيتهم الخاصّة بهم؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في الدلالة عليه، وأيضا أن اختلاف المطالع معتبر في دخول أوقات الصلاة، وخروجها بلا خلاف، فلا تجب صلاة الظهر مثلًا على جميع أهل الأرض بالزوال في بلد من البلدان، وإنما تلزم من زالت عنده، فقط، فكذلك هنا من دون فرق، والله تعالى أعلم.

وقد أطال الشوكاني في "نيل الأوطار" في ردّ قول ابن عباس رضي الله عنهما، وأنه اجتهاد منه، فأتى في ذلك بما يُتعجّب منه، حيث يردّ على ابن عباس رضي الله عنهما، بدون دليل مقنع، فتأويل قوله:"هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بأنه أراد قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته

" تأويل بارد، ظاهر التعسّف، فابن عباس رضي الله عنهما من أهل اللسان، والفقه، وقد أخبر أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم هكذا، فالظاهر أنه أمرهم بأن لا يصوموا برؤية البلدان النائية، حتى يروا بأنفسهم. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الفتح" 4/ 618.

ص: 473

(6) - (بَابُ بَيَانِ أنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِكُبْرِ الْهِلَالِ وَصُغْرِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَدَّهُ لِلرُّؤيةِ، فَإنْ غُمَّ، فَلْيُكَمَّلْ ثَلَاُثونَ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2529]

(1088) - (حَدَّثَنَا أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ، قَالَ: تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، قَالَ: فَلَقِينَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْنَا: إِنَّا رَأَينَا الْهِلَالَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَقَالَ: أَي لَيْلَةٍ رَأيتُمُوهُ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِن اللهَ مَدَّهُ لِلرُّؤيةِ، فَهُوَ لِلَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

3 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السّلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغير في الآخر [5](ت 130) وله (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

4 -

(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ رُمي بالإرجاء [5](ت 118) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.

5 -

(أبو الْبَخْتَرِيِّ) - بفتح الموحّدة، وإسكان الخاء المعجمة، وفتح التاء المثنّاة فوقُ- سعيد بن فيروز، ويقال: ابن عمران، ويقال: ابن أبي عمران الطائيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، فيه تشيّعٌ قليلٌ، كثير الإرسال [3].

رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي كبشة، وأبي بَرْزة، ويعلى بن مُرّة، وأبي عبد الرحمن السلمي، والحارث الأعور، وغيرهم.

ص: 474

وروى عنه عمرو بن مرة، وعبد الأعلى بن عامر، وعطاء بن السائب، وسلمة بن كهيل، ويونس بن خَبّاب، وحبيب بن أبي ثابت، ويزيد بن أبي زياد، وغيرهم.

قال عبد الله بن شعيب، عن ابن معين: أبو الْبَخْتريّ الطائيّ اسمه سعيد، وهو ثبت، ولم يسمع من عليّ شيئًا، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال أبو زرعة، وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال أبو داود: لم يسمع من أبي سعيد، وقال فِطْر بن خَليفة، عن حبيب بن أبي ثابت: اجتمعت أنا وسعيد بن جبير، وأبو البختريّ، فكان الطائيّ أعلمنا وأفقهنا، وقال هلال بن خَبّاب: كان من أفاضل أهل الكوفة.

قال أبو نعيم: مات في الجماجم سنة (83) وقال ابن سعد: قُتل بدجيل مع ابن الأشعث سنة (83)، وكان كثير الحديث، يرسل حديثه، ويروي عن الصحابة، ولم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن، وما كان غيره فهو ضعيف، وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" عن أبيه: لم يدرك أبا ذرّ، ولا أبا سعيد، ولا زيد بن ثابت، ولا رافع بن خَدِيج، وهو عن عائشة مرسل، وقال أبو زرعة: هو عن عمر مرسلٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: سعيد بن فيروز، ويقال: سعيد بن عمران، وقيل غير ذلك، وقال العجليّ: تابعيّ ثقة فيه تشيع، ونَقَل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير، وقال أبو أحمد الحاكم في "الكنى": ليس بالقويّ عندهم، قال الحافظ: كذا قال، وهو سهو. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، برقم (1088) وأعاده بعده، و (1537): "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه، أو يؤكل منه

".

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

ص: 475

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) بفتح الموحّدة، والتاء، بينهما خاء معجمة ساكنة، واسمه سعيد بن فيروز، وقيل غيره، كما تقدّم آنفًا، أنه (قَالَ: خَرَجْنَا) أي من بلدنا الكوفة (لِلْعُمْرَةِ) أي لأجل أدائها (فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ) -بفتح، فسكون- قرية مشهورة شرقيّ مكة، تُسَمَّى الآن بالمضيق، قاله ابن حجر الهيتميّ في "شرح المشكاة".

وقال القرطبيّ رحمه الله: بطن نخلة موضع معروفٌ بذات عِرْق، ولذلك قال في رواية أخرى:"قال أبو الْبَخْتَريّ: أهللنا رمضان، ونحن بذات عِرْق". انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وبطن نخل، ويقال: نخلة بالإفراد أيضًا، وهما نَخْلتان: إحداهما نخلة اليمانية بوادٍ يأخذ إلى قَرْنٍ والطائف، قال الشاعر:

وَمَا أَهَل بِجَنْبَي نَخْلَةُ الْحُرُمُ

أي المحرمون، وبها كان ليلة الجنّ، وبها صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف لَمّا سار إلى الطائف، وبينها وبين مكة ليلة.

والثانيةْ نخلةُ الشاميّة بوادٍ يأخذ إلى ذات عِرْقٍ، ويقال: بينها وبين المدينة ليلتان. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المراد هنا هي الشاميّة، كما أشار إليه القرطبيّ بدليل الرواية التالية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ: تَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ) أي اجتمعنا لرؤية الهلال، لكمال ظهوره، أوأرى بعضنا بعضًا لخفاء نظره، أو عدم علمه بمحله، وقال النوويّ رحمه الله: أن تكلّفنا النظر إلى جهته لنراه (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ) أي صاحب ثلاث ليال لعلو درجته، قال السنديّ: وهذا بعيد إلا أن يكون أول الشهر مشتبهًا، فافهم

(1)

"المصباح المنير" 2/ 5907.

ص: 476

(وَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، قَالَ) أبو البختري (فَلَقِينَا) أي نحن، فـ "نا" ضمير المتكلّمين في محل الرفع على الفاعليّة (ابْنَ عَبَّاسٍ) بالنصب على المفعوليّة، يُروى بالرفع على أنه الفاعل و"نا" هو المفعول، قيل: الوجه الأول أولى من حيث اللفظ، ومن جهة المعنى؛ إذ فيه رعاية للأدب.

قال السندي رحمه الله يَحْتَمل أن يكون قولهم: "فلقينا ابن عبّاس" مجازًا عن لقاء رسولهم له، ويَحْتَمِل أنهم لقوه بعد أن أرسلوا إليه الرسول، وعلى الوجهين فلا منافاة بين هذه الرواية والرواية التالية، والله تعالى أعلم.

(فَقُلْنَا) أي لابن عبّاس رضي الله عنهما (إِنَّا) أي معشر القوم (رَأَيْنَا الْهِلَالَ) أي مرتفعًا جدًا (فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْم: هُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هُوَ ابنُ لَيْلَتَينِ، فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (أَيَّ لَيْلَةٍ) قال في "المرقاة": بالرفع، وفي نسخة صحيحة بالنصب، وهوأفصح من "أيةَ ليلة" (رَأَيْتموهُ؟) أي الهلال فيها (قَالَ) أبو البختريّ (فَقُلْنَا: لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا) أي رأيناه ليلة كذا؛ يعني أنهم عيّنوا الليلة التي رأوه فيها، قال في "المرقاة": ولم يظهر لي وجه تكرير "كذا"(فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ مَدَّهُ لِلرُّؤيةِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ، وفي بعضها:"فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَدَّهُ للرؤية"، هكذا ذكر النووي النسختين، ولم يتعقّب ذلك بشيء، وقد تعقّب الثانية القرطبيّ رحمه الله، ودونك عبارته: قال: قوله: "إن الله مدّه للرؤية" هكذا صحّت روايتنا فيه، وهكذا الأصول الصحيحة، والنسخ المعتمدة، وقد سقط في بعض النسخ لمن لا يضبط، ولا يحفظ:"قال: إن الله"، فيبقى اللفظ:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدّه للرؤية"، وهو خطأٌ صُراحٌ، لا يقبل الإصلاح. انتهى.

ثم إن جميع النسخ متفقة على "مَدَّهُ" من غير ألف فيها، وفي الرواية الثانية:"فقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أمَدّه لرؤيته"، هكذا هو في جميع النسخ "أمدّه" بألف في أوله، قال القاضي عياض رحمه الله: قال بعضهم: الوجه أن يكون أمدّه بالتشديد، من الإمداد، أو مدّه من الامتداد، قال القاضي: والصواب عندي بقاء الرواية على وجهها، ومعناه: أطال مُدّته إلى الرؤية، يقال منه: مَدَّ، وأمدَّ، قال الله تعالى:{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} [الأعراف: 202]، قرئ بالوجهين: أي يُطيلون لهم، قال: وقد يكون أمده

ص: 477

من الْمُدّة التي جعلت له، قال صاحب "الأفعال": أمددتك مدّةً: أي أعطيتكها، أو يكون من الإمداد، وهي الزيادة في الشيء من غيره، كان الشهر يكون تسعة وعشرين، ويزيده الله يومًا، فيكون ثلاثين، ومنه أمددت الجيش: إذا كثرته، وكذلك كلّ شيء. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "مدّه للرؤية": أي ضرب مدّة رمضان رؤية الهلال. انتهى

(2)

.

(فَهُوَ) أي رمضان (لِلَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ) قال ابن حجر الهيميّ: بإضافة "ليلة" إلى الجملة، وقال القاري: وفي النسخ المصحّحة بالتنوين، ويدلّ عليه ما سبق من قوله:"أيُ ليلة رأيتموه"، غايته أنه يقدّر لفظ "فيها"؛ أي رأيتموه فيها، والمعنى أن رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة، ولا عبرة بكُبْره

(3)

.

قال في "المرقاة": واستفيد من قوله: "لليلة رأيتموه" أن لا عبرة برؤية الهلال قبل الغروب، وأنه لو رؤي ليلة ثلاثين شعبان أو رمضان نهارًا قبل الزوال أو بعده لم يُحكم لليلة الماضية، ولا المستقبلة، فلا يفطره من رمضان، ولا يمسكه من شعبان، بل إن رؤي بعد الغروب حُكم به للمستقبلة، وإلا فلا، للخبر السابق صوموا لرؤيته، ولما صَحّ أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى جند له بالعراق أن هذه الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا، حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس، وصَحَّ عن ابن عم رضي الله عنهما أن ناسًا رأوا هلال الفطر نهارًا، فأتم صيامه إلى الليل، وقال: لا، حتى يُرَى من حيث يُرَى بالليل، وفي رواية: لا يصلح أن نفطر حتى تروه ليلًا من حيث يُرَى، قال البيهقيّ: وروينا في ذلك عن عثمان، وابن مسعود، وقال غيره: وعن عليّ، وأنس، ولا مخالف لهم، ورَوَى مالك بلاغًا أن الهلال رؤي زمن عثمان بعشيّ، فلم يفطر حتى أمسى.

(1)

"إكمال المعلم" بتصرّف 4/ 22 - 23.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1583.

(3)

راجع: "المرقاة" 4/ 413.

ص: 478

وقال جمع من السلف: إن رؤي قبل الزوال فللماضية، أو بعده فللمستقبلة.

قال الجامع عفا الله عنه: المذهب الأول هو الصحيح؛ لظاهر قوله: "لليلة رأيتموه"، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: ولم يقل أحد: إنه لو رؤي يوم التاسع والعشرين يكون لماضية؛ لاستحالة كون الشهر ثمانية وعشرين. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 2529 و 2530](1088)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 284)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 327 و 344 و 371)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 177)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 164)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1915 و 1919)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 206)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2530]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: أَهْلَلْنَا رَمَضَانَ، وَنَحْنُ بِذَاتِ عِرْقٍ، فَأرْسَلْنَا رَجُلًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَسْألهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن اللهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤيتِهِ، فَإِنْ أُغمِيَ عَلَيْكُمْ، فَأكمِلُوا الْعِدة").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد المعروف بالزَّمِن، تقدّم قبل بابين.

(1)

"المرقاة" 4/ 414.

ص: 479

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَهْلَلْنَا رَمَضَانَ) قال في "النهاية": أَهَلَّ المحرم بالحجّ: إذا لَبَّى، ورفع صوته، ومنه إهلال الهلال، واستهلاله: إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته. انتهى. فمعناه: رأينا هلال رمضان.

وقوله: (وَنَحْنُ بِذَاتِ عِرْقٍ) - بكسر العين، وسكون الراء- قال الفيّوميّ: ذات عِرْق ميقات أهل العراق، وهو عن مكة نحو مرحلتين، ويقال: هو من نجدِ الحجاز. انتهى.

وقوله: (فَاَرْسَلْنَا رَجُلًا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَسْألهُ) هذا لا ينافي ما تقدّم في الرواية التي قبلها من أنهم سألوه؛ لاحتمال أنهم تراءوه بذات عِرْق، وتنازعوا فيه، فأرسلوا يسألونه فأجابهم بذلك، فلما وصلوا بطن نخلة رأوه، فسألوه شِفاهًا، فأجابهم بما يطابق الجواب، وحاصلهما أنه لا بُدّ في الحكم بدخول رمضان ليلة ثلاثين شعبان من رؤية هلاله، قاله في "المرقاة"

(1)

.

وقوله: ("إِنَّ اللهَ قَدْ أَمَدَّهُ لِرُؤيتِهِ. . إلخ) معناه: لا تنظروا إلى كُبْر الهلال وصُغْره، فإن تعليق الحكم على رؤيته، (فإن أغمي عليكم)؛ يعني ليلة رمضان، (فأكلموا العدّة)؛ أي عدة شعبان، هذا الظاهر؛ لقولهم في أول الحديث: أهللنا رمضان، وَيحْتَمِل: فإن أغمي في آخره، فأكملوا عدة رمضان

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال الأخير ضعيف جدًّا؛ لمنافاته لسياق القصّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المرقاة" 4/ 413 - 414.

(2)

راجع: "كشف المشكل" 2/ 458.

ص: 480

(7) - (بَابُ بَيَانِ مَعْنَى قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم: "شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَان")

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2531]

(1089) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ، وَذُو الْحِجَّةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُريع) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(خَالِدُ) بن مِهْرَان الْحَذّاءُ، أبو الْمُنازل البصريّ، ثقةٌ حافظ يرسل، تغيّر حفظه في الأخير [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَيِ بَكْرَةَ) الثقفيّ، ثقةٌ [2](ت 96)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

5 -

(أَبُوهُ) أبو بكرة نُفَيع بن الحارث بن كَلَدَة بن عمرو الثقَفيّ الصحابيّ المشهور بكنيته، قيل: اسمه مسروح، أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة (1 أو 52)(ع) تقدم في "المقدمة" جـ 2 ص 481.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين غير شيخه أيضًا، فنيسابوريّ، وقد دخل البصرة.

ص: 481

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وهو عبد الرحمن، عن أبيه، وهو أول مولود وُلد بالبصرة بعد بنائها، قاله في "العمدة"

(1)

.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه يلقب بصورة الكنية، فأبو بكرة لقبه؛ لأنه تدلّى من حِصن الطائف ببكرة البئر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه عبدًا للحارث بن كَلَدَةَ، فأعتقه النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ خَالِدٍ) الْحَذّاء (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه).

[تنبيه]: نقل في "العمدة" عن الحافظ العراقيّ رحمه الله قال: ولا أعلم من روى هذا الحديث عن أبي بكرة غير ابنه عبد الرحمن، ورواه عن عبد الرحمن جماعة، منهم خالد الحذّاء، وإسحاق بن سُويد، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وسالم أبو حاتم، وعبد الملك بن عمير، وعبد الرحمن بن إسحاق، كلهم أسنده عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث خالد الحذاء، وانفرد به البخاريّ من حديث إسحاق بن سُويد، ورواه أحمد في "مسنده"، والطبرانيّ في "الكبير" من رواية علي بن زيد، وسالم بن أبي حاتم، ويكنى أيضًا أبا عبد الله، ورواه الطبرانيّ من رواية عبد الملك بن عمير، ورواه البزار في "مسنده" من رواية عبد الرحمن بن إسحاق، وقال البزار في "مسنده": وهذا الكلام لا نعلم رواه أحد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلَّا أبو بكرة، نحو كلامه بغير لفظه. انتهى.

وقد روى أبو شيبة عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شهر حرام تام ثلاثين يومًا وثلاثين ليلة"، رواه ابن عديّ في "الكامل" في ترجمة عبد الرحمن بن إسحاق الواسطيّ، ونقل تضعيفه عن أحمد، ويحيى، والبخاريّ، والنسائيّ، وذكر أبو عمر في "التمهيد" هذا الحديث، وقال: لا يحتج بهذا، فإنه يدور على

(1)

"عمدة القاري" 10/ 284.

ص: 482

عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف، قال شيخنا: ليس مداره عليه، كما ذكر، وأيضًا فقد اختُلِف عليه فيه، فروي عنه بهذا اللفظ، كما تقدم، ورُوي عنه باللفظ المشهور، رواه البزار في "مسنده" كذلك، قال: حدّثنا عمرو بن مالك، حدّثنا مروان بن معاوية، حدّثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة"، وأما متابعته على اللفظ الآخر:"كل شهر حرام"، فرواه الطبراني في "الكبير" قال: حدّثنا أحمد بن يحيى الحلوانيّ، حدّثنا سعيد بن سليمان، عن هشيم، عن خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شهر حرام لا ينقص، ثلاثين يومًا وثلاثين ليلةً"، ورجال إسناده كلهم ثقات، وأحمد بن يحيى وثقه أحمد بن عبد الله الفرائضيّ، وباقيهم رجال الصحيح. انتهى

(1)

.

(عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "شَهْرَا عِيدٍ) كلام إضافيّ مبتدأ خبره قوله: (لَا يَنْقُصَانِ) وقوله: (رَمَضَانُ) خبر لمحذوف: أي أحدهما رمضان، بمنع الصرف؛ للعلميّة، وزيادة الألف والنون (وَذُو الْحِجَّةِ") أي والثاني: ذو الحجة، قال ابن الجوزيّ: فإن قيل: كيف سُمِّي شهر رمضان شهر عيد، وإنما العيد في شوال؟ فقد أجاب عنه الأثرم بجوابين: أحدهما: أنه قد يُرى هلال شوال بعد الزوال من آخر يوم رمضان، والثاني: لَمّا قَرُب العيد من الصوم أضافته العرب إليه بما قَرُب منه، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": أطلق على رمضان أنه شهر عيد؛ لقربه من العيد، أو لكون هلال العيد ربما رُؤي في اليوم الأخير من رمضان، قاله الأثرم، والأول أولى، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:"المغرب وتر النهار"، أخرجه الترمذيّ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصلاة المغرب ليلية جهرية، وأُطلق كونها وتر النهار؛ لقربها منه، وفيه إشارة إلى أن وقتها يقع أول ما تَغْرُب الشمس. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": قد اختَلَفَ العلماء في معنى هذا الحديث،

(1)

راجع: "عمدة القاري" 10/ 284 - 285.

(2)

"عمدة القاري" 10/ 285.

(3)

"الفتح" 5/ 249.

ص: 483

فمنهم من حمله على ظاهره، فقال: لا يكون رمضان، ولا ذو الحجة أبدًا إلا ثلاثين، وهذا قول مردود، معاند للموجود المشاهد، ويكفي في ردّه قوله صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا العدّة"، فإنه لو كان رمضان أبدًا ثلاثين لم يُحتج إلى هذا.

ومنهم من تأول له معنى لائقًا، وقال أبو الحسن: كان إسحاق ابن راهويه يقول: لا ينقصان في الفضيلة، إن كانا تسعة وعشرين، أو ثلاثين. انتهى.

وقيل: لا ينقصان معًا إن جاء أحدهما تسعًا وعشرين، جاء الآخر ثلاثين، ولا بُدّ، وقيل: لا ينقصان في ثواب العمل فيهما، وهذان القولان مشهوران عن السلف، وقد ثبتا منقولين في أكثر الروايات في البخاريّ، وسقط ذلك في رواية أبي ذرّ، وفي رواية النسفيّ وغيره عقب الترجمة قبل سياق الحديث: قال إسحاق: وإن كان ناقصًا فهو تمام، وقال محمد: لا يجتمعان كلاهما ناقصٌ، وإسحاق هذا هو ابن راهويه، ومحمد هو البخاريّ المصنّف.

ووقع عند الترمذيّ نقل القولين عن إسحاق ابن راهويه، وأحمد بن حنبل، وكأن البخاريّ اختار مقالة أحمد، فجزم بها، أو تواردا عليها، قال الترمذيّ: قال أحمد: معناه لا ينقصان معًا في سنة واحدة. انتهى.

قال الحافظ: ثم وجدت في نسخة الصغانيّ ما نصّه عقب الحديث: قال أبو عبد الله: قال إسحاق: تسعة وعشرون يومًا تامّ، وقال أحمد بن حنبل: إن نقص رمضان تَمّ ذو الحجة، وإن نقص ذو الحجة تَمّ رمضان، وقال إسحاق: معناه: وإن كان تسعًا وعشرين فهو تمام غير نقصان، قال: وعلى مذهب إسحاق يجوز أن ينقصا معًا في سنة واحدة، وروى الحاكم في "تاريخه" بإسناد صحيح أن إسحاق بن إبراهيم سئل عن ذلك، فقال: إنكم ترون العدد ثلاثين، فإذا كان تسعًا وعشرين ترونه نقصانًا، وليس ذلك بنقصان، ووافق أحمد على اختياره أبو بكر أحمد بن عمرو البزار، فأوهم مغلطاي أنه مراد الترمذيّ بقوله: وقال أحمد، وليس كذلك، وإنما ذكره قاسم في "الدلائل" عن البزار، فقال: سمعت البزار يقول: معناه لا ينقصان جميعًا في سنة واحدة، قال: ويدل عليه رواية زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، مرفوعًا: "شهرا عيد لا يكونان ثمانية

ص: 484

وخمسين يومًا"، وادَّعَى مغلطاي أيضًا أن المراد بإسحاق: إسحاق بن سُويد العدويّ، راوي الحديث، ولم يأت على ذلك بحجة.

وذكر ابن حبان لهذا الحديث معنيين: أحدهما ما قاله إسحاق، والآخر أن المراد أنهما في الفضل سواءٌ؛ لقوله في الحديث الآخر:"ما من أيام العملُ فيها أفضل من عشر ذي الحجة".

وذكر القرطبيّ أن فيه خمسةَ أقوال، فذكر نحو ما تقدم، وزاد أن معناه: لا ينقصان في عام بعينه، وهو العام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، وهذا حكاه ابن بزيزة، ومن قبله أبو الوليد ابن رشد، ونقله المحبّ الطبريّ، عن أبي بكر بن فورك.

وقيل: المعنى: لا ينقصان في الأحكام، وبهذا جزم البيهقيّ، وقبله الطحاويّ، فقال: معنى لا ينقصان: أن الأحكام فيهما، وإن كانا تسعة وعشرين متكاملة غير ناقصة عن حكمهما إذا كانا ثلاثين.

وقيل: معناه: لا ينقصان في نفس الأمر، لكن ربما حال دون رؤية الهلال مانع، وهذا أشار إليه ابن حبان أيضًا، ولا يخفى بُعْدُه.

وقيل: معناه: لا ينقصان معًا في سنة واحدة، على طريق الأكثر الأغلب، وإن ندر وقوع ذلك، وهذا أعدل مما تقدم؛ لأنه ربما وُجد وقوعهما، ووقوع كل منهما تسعة وعشرين، قال الطحاويّ: الأخذ بظاهره، أو حمله على نقص أحدهما يدفعه العيان؛ لأنا قد وجدناهما ينقصان معًا في أعوام.

وقال الزين ابن المنير: لا يخلو شيء من هذه الأقوال عن الاعتراض، وأقربها أن المراد أن النقص الحسيّ باعتبار العدد ينجبر بأن كلًّا منهما شهر عيد عظيم، فلا ينبغي وصفهما بالنقصان، بخلاف غيرهما من المشهور، وحاصله يرجع إلى تأييد قول إسحاق.

قال الجامع عفا الله عنه: الصواب ما رجّحه النوويّ رحمه الله، قال: الأصحّ أن معناه: لا ينقص أجرهما، والثواب المرتب عليهما، وإن نقص عددهما، فقوله صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه"، متّفقٌ عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه"،

ص: 485

متّفق عليه، هذا الفضل يحصل، سواء تمّ عدد رمضان، أو نقص

(1)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال في "الفتح": أما ما ذكره البزار من رواية زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، فإسناده ضعيف، وقد أخرجه الدارقطنيّ في "الأفراد"، والطبرانيّ من هذا الوجه بلفظ:"لا يتم شهران ستين يومًا"، وقال أبو الوليد ابن رشد: إن ثبت فمعناه: لا يكونان ثمانية وخمسين في الأجر والثواب.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح" أيضًا: ورَوَى الطبرانيّ حديث الباب من طريق هُشيم عن خالد الحذّاء بسنده هذا، بلفظ:"كلّ شهر حرامٍ لا ينقص، ثلاثون يومًا، وثلاثون ليلةً"، قال الحافظ صلى الله عليه وسلم: وهو بهذا اللفظ شاذّ، والمحفوظ عن خالد ما تقدّم، وهو الذي توارد عليه الحفاظ من أصحابه، كشعبة، وحماد بن زيد، ويزيد بن زريع، وبشر بن المفضَّل، وغيرهم، وقد ذكر الطحاويّ أن عبد الرحمن بن إسحاق رَوَى هذا الحديث، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة بهذا اللفظ، قال الطحاويّ: وعبد الرحمن بن إسحاق لا يقاوم خالدًا الحذّاء في الحفظ.

قال الحافظ: فعلى هذا فقد دخل لهشيم حديث في حديث؛ لأن اللفظ الذي أورده عن خالد هو لفظ عبد الرحمن.

وقال ابن رشد: إن صح فمعناه أيضًا في الأجر والثواب. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة صلى الله عليه وسلم هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 2531 و 2532، (1089)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1912)، و (أبو داود) في "الصوم"(2/ 197)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(3/ 75)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1/ 531)، و (الطيالسيّ) في

(1)

راجع: "شرخ النوويّ" 7/ 199.

(2)

"الفتح" 5/ 249.

ص: 486

"مسنده"(1/ 116)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 47 و 51)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 3431 و 3448)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 176)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 165)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 93)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 58) و"مشكل الآثار"(496 و 497)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 250) و"المعرفة"(3/ 355)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1717)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن شهري رمضان وذي الحجة لا ينقص الأجر المرتّب عليهما، وإن كان تسعة وعشرين، قال البيهقيّ في "المعرفة": إنما خصهما بالذكر؛ لتعلق حكم الصوم والحج بهما، وبه جزم النوويّ، وقال: إنه الصواب المعتمد، والمعنى أن كل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل، سواء كان رمضان ثلاثين، أو تسعًا وعشرين، وسواء صادف الوقوف اليوم التاسع، أو غيره، ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال

(1)

.

2 -

(ومنها): أن فائدة هذا الحديث رفع ما يَقَع في القلوب من شكٍّ لمن صام تسعًا وعشرين، أو وقف في غير يوم عرفة.

وقد استَشْكَل بعض العلماء إمكان الوقوف في الثامن اجتهادًا، وليس مشكلًا؛ لأنه ربما ثبتت الرؤية بشاهدين أن أول ذي الحجة الخميس مثلًا، فوقفوا يوم الجمعة، ثم تبيّن أنهما شهدا زورًا.

وقال الطيبيّ: ظاهر سياق الحديث بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في غيرهما من الشهور، وليس المراد أن ثواب الطاعة في غيرهما ينقص، وإنما المراد رفع الحرج عما عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم؛ لاختصاصهما بالعيدين، وجواز احتمال وقوع الخطأ فيهما، ومن ثَمَّ قال:"شهرا عيد" بعد قوله: "شهران لا ينقصان"، ولم يقتصر على قوله:"رمضان وذي الحجة". انتهى.

(1)

"الفتح" 5/ 248.

ص: 487

3 -

(ومنها): أن في الحديث حجةً لمن قال: إن الثواب ليس مرتّبًا على وجود المشقة دائمًا، بل لله أن يتفضل بإلحاق الناقص بالتامّ في الثواب.

4 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بنية واحدة، قال: لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدةً، فاكتفى له بالنية.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاستدلال ليس بواضح، والظاهر أن النيّة لا بدّ منها في كلّ يوم؛ لانفصال الأيام بعضها عن بعض بتخلّل الليالي بينها، فليتأمل، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أنه يقتضي أن التسوية في الثواب بين الشهر الذي يكون تسعًا وعشرين وبين الشهر الذي يكون ثلاثين إنما هو بالنظر إلى جعل الثواب متعلقًا بالشهر من حيث الجملة، لا من حيث تفصيل الأيام، قاله في "الفتح"

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2532]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُويدٍ، وَخَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ نَبِيَّ اللْهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ"، فِي حَدِيثِ خَالِدٍ: "شَهْرَا عِيدٍ: رَمَضَانُ، وَذُو الْحِجَّةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ، أبو محمد البصريّ الملقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ سُويدِ) بن هُبيرة العدويّ البصرىّ، صدوقٌ تُكُلّم فيه

(1)

"الفتح" 5/ 248 - 249.

ص: 488

للنصب [3](ت 131)(خ م د س)

(1)

تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

والباقون ذُكروا قبله، و"خالد": هو الحذّاء.

[تنبيه]: رواية معتمر عن إسحاق وخالد، كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" (6/ 485) فقال:

(1912)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا معتمر، قال: سمعت إسحاق بن سُويد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحدّثني مسدَّد، حدّثنا معتمر، عن خالد الحذاء، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"شهران لا ينقصان، شهرا عيد: رمضانُ وذو الحجة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابُ بَيَانِ مَعْنَى قول اللهِ عز وجل: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، وَبَيَانِ صِفَةِ الْفَجْرِ الَّذِي تتَعَلَّقُ بِهِ الأَحْكَامُ، مِنَ الصَّوْمِ وَغيْرِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2533]

(1090) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ إِدْرِيس، عَنْ حُصَيْنٍ، عَن الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} قَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ: عِقَالًا أَبْيَضَ، وَعِقَالًا أَسْوَدَ، أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ").

(1)

قال في "الفتح" 5/ 249: [تنبيه]: ليس لإسحاق بن سُويد -وهو ابن هُبيرة البصريّ العدويّ، عَدِيُّ مَضَرَ، وهو تابعيّ صغير، رَوَى هنا عن تابعيّ كبير- في البخاريّ سوى هذا الحديث الواحد، وقد أخرجه مقرونًا بخالد الحذاء، وقد رُمِيّ بالنصب، وذكره ابن العربيّ في الضعفاء بهذا السبب. انتهى.

ص: 489

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [10](ت 235)(خ م د رضي الله عنه ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيس) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع و (70) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السّلميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيَّر في الآخر [5](ت 136) وله (93) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.

4 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور [3] مات بعد المائة، وله نحو من (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 50/ 6.

5 -

(عَدِيُّ بْنُ حَاتم) بن عبد الله سعد بن الحشرج الطائيّ، أبو طَرِيف الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (68) وهو ابن (120) سنة، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنه، وكان ممن ثبت على الإسلام في الردّة، وحضر فتوح العراق، وحروب عليّ رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه) وفي رواية الترمذيّ: "أخبرني عديّ بن حاتم"، وكذا أخرجه ابن خزيمة عن أحمد بن مَنِيع، وهكذا أورده أبو عوانة من طريق

ص: 490

أبي عُبيد، عن هُشيم، عن حُصين، قاله في "الفتح"

(1)

. (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] قال في "الفتح": ظاهره أن عديًّا كان حاضرًا لما نزلت هذه الآية، وهو يقتضي تقدّم إسلامه، وليس كذلك؛ لأن نزول فرض الصوم كان متقدّمًا في أوائل الهجرة، وإسلام عديّ كان في السنة التاسعة، أو العاشرة، كما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، فإما أن يُقال: إن الآية التي في حديث الباب تأخّر نزولها عن نزول فرض الصوم، وهو بعيدٌ جدًّا، وإما أن يؤوّل قول عديّ هذا على أن المراد بقوله:"لما نزلت"؛ أي لما تُليت عليّ عند إسلامي، أو لما بلغني نزول الآية، أو في السياق حذفٌ، تقديره: لما نزلت الآية، ثم قدمت، فأسلمت، وتعلّمتُ الشرائع عمدتُ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الأقرب، ثم إن الاحتمال الذي ذكره أخيرًا بمعنى الاحتمال الثاني، والله تعالى أعلم.

وقد روى أحمد حديثه من طريق مجالد بلفظ: "علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، والصيام، فقال: صلّ كذا، وصم كذا، فإذا غابت الشمس، فكل حتى يتبيّن لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، قال: فأخذت خيطين

" الحديث.

(قَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كثير من النسخ، أو أكثرها:"فقال له عديّ"، وفي بعضها:"قال عديّ"، بحذف "له"، وكلاهما صحيح، ومن أثبتها أعاد الضمير إلى معلوم، أو متقدم الذكر عند المخاطب. انتهى

(2)

.

(يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي) بكسر الواو: الْمِخَدّة، والجمع وِسادات، ووَسَائد، والوِساد بغير هاء كل ما يُتوسّد به من قُماشٍ، وتُراب، وغير ذلك، والجمع: وُسُدٌ، مثل كِتَاب وكُتُب، ويقال: الوِسَادُ لغة في الوِسَادة، وهو عَرِيض الوساد: أي بليدٌ، قاله في "المصباح"

(3)

. (عِقَالَيْنِ) تثنية

(1)

"الفتح" 5/ 259.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 200.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 658.

ص: 491

عِقَال بكسر المهملة: هو الحبل الذي يُعقل به البعير، والجمعُ عُقُل بضمّتين، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَقَلتُ البعير عَقْلًا، من باب ضَرَب، وهو أن تَثْني وَظِيفه مع ذراعه، فتشدّهما جميعًا في وسط الذراع بحبل، وذلك هو الْعِقَال، وجمعه عُقُل، مثلُ كِتاب وكُتُب. انتهى

(1)

.

وفي رواية البخاريّ: "لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عَمَدتُ إلى عِقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجَعَلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل، فلا يستبين لي

"، وفي رواية مجالد: "فأخذت خيطين من شعر" (عِقَالًا أَبْيَضَ، وَعِقَالًا أسْوَدَ، أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ) أي أتبين انسلاخ الليل من النهار، حتى أترك الأكل والشرب.

قال القرطبيّ رحمه الله: إنما جعلهما تحت وساده؛ لاعتنائه بهما، ولينظر إليهما، وهو على فراشه من غير كُلْفة قيام، ولا طلب، فكان يرفع الوساد إذا أراد أن ينظر إليهما، والعقال: الخيط، سُمّي بذلك؛ لأنه يُعقل به؛ أي يُربط به، وُيحبس. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض: إنما أخذ العقالين، وجعلهما تحت رأسه، وتأول الآية لكونه سبق إلى فهمه أن المراد بها هذا، وكذا وقع لغيره ممن فعل فعله، حتى نزل قوله تعالى:{مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا أن المراد به بياض النهار، وسواد الليل، وليس المراد أن هذا كان حكم الشرع أوّلًا، ثم نسخ بقوله تعالى:{مِنَ الْفَجْرِ} ، كما أشار إليه الطحاويّ، والداوديّ، قال القاضي: وإنما المراد أن ذلك فعله وتأوّله من لم يكن مخالطًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، بل هو من الأعراب، ومن لا فقه عنده، أو لم يكن من لغته استعمال الخيط في الليل والنهار؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولهذا أنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على عديّ بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن وسادك لعريض، إنما هو بياض النهار، وسواد الليل"، قال: وفيه أن الألفاظ المشتركة لا يصار إلى العمل بأظهر وجوهها، وأكثر استعمالها إلا إذا عُدِم البيان، وكان البيان حاصلًا بوجود النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال أبو عبيد: الخيط الأبيض: الفجر الصادق، والخيط الأسود: الليل، والخيط: اللون.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 422.

(2)

"المفهم" 3/ 148.

ص: 492

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم: "سواد الليل، وبياض النهار"، دليل على أن ما بعد الفجر هو من النهار، لا من الليل، ولا فاصل بينهما، وهذا مذهبنا، وبه قال جماهير العلماء، وحُكي فيه شيء عن الأعمش وغيره، لعله لا يصح عنهم. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِن وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ) قال النوويّ: رحمه الله: وقع في أكثر النسخ، أو كثير منها:"إن وسادك لعريض"، وفي بعضها:"إن وسادتك لعريض"، بزيادة تاء، وله وجه أيضًا مع قوله:"عَرِيض"، ويكون المراد بالوسادة: الوساد، كما في الرواية الأخرى، فعاد الوصف على المعنى، لا على اللفظ. انتهى

(2)

.

قال القاضي عياض رحمه الله: معناه إن جعلت تحت وسادك الخيطين اللذين أرادهما الله تعالى، وهما الليل والنهار، فوسادك يعلوهما، ويغطيهما، وحينئذ يكون عريضًا، وهو معنى الرواية الأخرى، في "صحيح البخاريّ":"إنك لعريض القفا"؛ لأن من يكون هذا وساده يكون عِظَم قفاه من نسبته بقدره، وهو معنى الرواية الأخرى:"إنك لضخم"، وأنكر القاضي قول من قال: إنه كناية عن الغباوة، أو عن السِّمَن؛ لكثرة أكله إلى بيان الخيطين، وقال بعضهم: المراد بالوساد: النوم؛ أي إن نومك كثير، وقيل: أراد به الليل؛ أي من لم يكن النهار عنده إلا إذا بان له العقالان طال ليله، وكثر نومه، قال النوويّ: والصواب ما اختاره القاضي، والله أعلم. انتهى

(3)

.

(إِنَّمَا هُوَ) راجع إلى المذكور من الخيط الأبيض، والخيط الأسود؛ أي المعنى المراد منه (سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ") وفي رواية البخاريّ: "فقال: إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار"، وله في "التفسير" من طريق أبي عَوَانة، عن حُصين:"إن وسادك إذًا لعريض، أَن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك"، ولأبي عوانة من طريق إبراهيم بن طهمان، عن مطرّف:"فضحك، وقال: لا، يا عريض القفا".

(1)

"شرح النووي" 7/ 201.

(2)

"شرح النوويّ " 7/ 200.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 201 - 202.

ص: 493

قال الخطابيّ رحمه الله في "المعالم": في قوله: "إن وسادك لعريض" قولان:

"أحدهما": يريد أن نومك لكثير، وكنى بالوساد عن النوم؛ لأن النائم يتوسّد، أو أراد: ليلك لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل حتى يتبيّن لك العقال.

"والقول الآخر": أنه كنى بالوسادة عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوسادة إذا نام، والعرب تقول: فلان عريض القفا إذا كان فيه غباوة وغفلة، وقد روي في هذا الحديث من طريق أخرى:"إنك عريض القفا"، وجزم الزمخشريّ بالتأويل الثاني، فقال: إنما عرّض النبيّ صلى الله عليه وسلم قفا عديّ؛ لأنه غفل عن البيان، وعَرْضُ القفا مما يُستدلّ به على قلّة الفطنة، وأنشد في ذلك شعرًا.

وقد أنكر ذلك كثير، منهم القرطبيّ، فقال: حَمَلَه بعضُ الناس على الذمّ له على ذلك الفهم، وكانه فهم منه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نسبه إلى الجهل، والجفاء، وعدم الفقه، وربما عضدوا هذا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"إنك لعريض القفا"، وليس الأمر كذلك، فإنه حمل اللفظ على حقيقته اللسانية؛ إذ هي الأصل، إن لم يتبيّن له دليل التجوّز، ومن تمسّك بهذا الطريق لم يستحقّ ذمًّا، ولا يُنسب إلى جهل، وإنما عَنَى بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم -والله أعلم- أن وسادك إن غطّى الخيطين اللذين أراد الله، اللذين هما الليل والنهار، فهو إذًا وسادٌ عريض واسعٌ؛ إذ قد شملهما، وعلاهما، ألا تراه قد قال على إثر ذلك:"إنما هو سواد الليل، وبياض النهار"، فكأنه قال: فكيف يدخلان تحت وسادٍ؟، وإلى هذا يرجع قوله:"إنك لعريض القفا"؛ لأن هذا الوساد الذي قد غطّى الليل والنهار بعرضه لا يرقد عليه، ولا يتوسّده إلا قفًا عريض، حتى يناسب عرضُه عرضَه، وهذا عندي أشبه ما قيل فيه، وأليق، ويدلّ أيضًا عليه ما زاده البخاريّ، قال:"إن وسادك إذًا لعريض، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك"، وقد أكثر الناس فيه. انتهى كلام القرطبيّ: رحمه الله

(1)

.

وقد ترجم عليه ابن حبان رحمه الله في "صحيحه": [ذكر البيان بأن العرب

(1)

"المفهم (3/ 148 - 149.

ص: 494

تتباين لغاتها في أحيائها]، وأشار بذلك إلى أن عديًّا لم يكن يعرف في لغته أن سواد الليل، وبياض النهار يُعبّر عنهما بالخيط الأبيض، والخيط الأسود، وساق هذا الحديث

(1)

. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه هذا مُتَّفَق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2533](1090)، و (البخاري) في "الصوم"(1916) و"التفسير"(4509 و 4510)، و (أبو داود) في "الصوم"(2349)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2896 و 2897)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2169) و"الكبرى"(2479) وفي "التفسير" منه (11021)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 289)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 377)، و (الدارميّ) في "سننه"(1632)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 166)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1925)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 153)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3462)، و (الطبرانيّ) في (الكبير)(17/ 178 و 179)، و (الطبريّ) في "التفسير"(2986 و 2987 و 2988)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 215)، و (البغويّ) في "تفسيره"(1/ 158)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تأويل الآية المذكورة، وهو واضح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بيّن المراد بالخيط الأبيض، والخيط الأسود بأنه سواد الليل، وبياض النهار.

2 -

(ومنها): حرص الصحابة في العمل بما أُمروا به فيما أنزل الله عز وجل، والسؤال عما خفي عليهم وجه العمل به.

3 -

(ومنها): بيان أن قبائل العرب تتفاوت في لغاتها، فإن هذا

(1)

انظر "صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان" بتحقيق الأرنؤوط 8/ 242 - 243 رقم 3463.

ص: 495

الصحابي رضي الله عنه لم يعرف استعمال الخيط الأبيض والأسود للمعنى المقصود في الآية حتى بيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): جواز التوبيخ بالكلام النادر الذي يسير، فيصير مثلًا بشرط صحّة القصد، ووجود الشرط عند أمن الغلوّ في ذلك، فإنه مزلّة القدم؛ إلا لمن عصمه الله تعالى، كذا قال ابن المنيّر رحمه الله.

5 -

(ومنها): أنه يستفاد من هذا الحديث -كما قال عياض رحمه الله وجوب التوقّف عن الألفاظ المشتركة، وطلب بيان المراد منها، وأنها لا تحمل على أظهر وجوهها، وأكثر استعمالاتها إلا عند عدم البيان.

6 -

(ومنها): أنه استُدِلّ بالآية، والحديث على أن غاية الأكل والشرب طلوع الفجر، فلو طلع الفجر، وهو يأكل، أو يشرب، فنزع تمّ صومه، وفيه اختلاف بين العلماء، ولو أكل ظانًّا أن الفجر لم يطلع لم يفسد صومه عند الجمهور؛ لأن الآية دلّت على الإباحة إلى أن يحصل التبيّن. وقد روى عبد الرزّاق بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"أحلّ الله لك الأكل والشرب ما شككت". ولابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر نحوه. وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى، قال: سأل رجل ابن عباس عن السحور؟ فقال له رجل من جلسائه: كل حتى لا تشكّ، فقال ابن عباس: إن هذا لا يقول شيئًا، كل ما شككت حتى لا شككت.

قال ابن المنذر: وإلى هذا القول صار أكثر العلماء. وقال مالك: يقضي.

وقال ابن بزيزة في "شرح الأحكام": اختلفوا هل يحرم الأكل بطلوع الفجر، أو بتبيّنه عند الناظر تمسكًا بظاهر الآية؟ واختلفوا هل يجب إمساك جزء قبل طلوع الفجر، أم لا؟ بناءً على الاختلاف المشهور في مقدّمة الواجب. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن تحريم الأكل ونحوه متعلّق بتبيّن الفجر، وتحقُّقه، لا بمجرّد الطلوع؛ لظاهر الآية الكريمة، وأما القول بوجوب إمساك جزء من الليل، فبطلانه واضح؛ لمصادمته ظاهر الآية، فتبصّر، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في شرح أحاديث المسحور قريبًا - إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

ص: 496

(المسألة الرابعة): قال في "الفتح" ما حاصله: معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} : حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، وهذا البيان يحصل بطلوع الفجر الصادق، ففيه دلالة على أن ما بعد الفجر من النهار، وقال أبو عبيد: المراد بالخيط الأسود الليل، وبالخيط الأبيض الفجر الصادق، والخيط: اللون. وقيل: المراد بالأبيض أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، كالخيط الممدود، وبالأسود ما يمتدّ معه من غبش الليل شبيهًا بالخيط، قاله الزمخشريّ، قال: وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر، قال: ويجوز أن تكون "من" للتبعيض لأنه بعض الفجر، وقد أخرجه قوله:{مِنَ الْفَجْرِ} من الاستعارة إلى التشبيه، كما أن قولهم: رأيت أسدًا مجاز، فإذا زدت فيه "من فلان" رجع تشبيهًا.

ثم قال: كيف جاز تأخير البيان، وهو يُشبه العبث

(1)

لأنه قبل نزول {مِنَ الْفَجْرِ} لا يفهم منه إلا الحقيقة، وهي غير مرادة، ثم أجاب بأنّ مَنْ لا يجوّزه -وهم أكثر الفقهاء والمتكلّمين- لم يصحّ عندهم حديث سهل، وأما من يجوّزه فيقول: ليس بعبث؛ لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. انتهى. قال الحافظ رحمه الله: ونقله نفي التجويز عن الأكثر فيه نظر، كما سيأتي، وجوابه عنهم بعدم صحة الحديث مردود، ولم يقل به أحد من الفريقين؛ لأنه مما اتفق الشيخان على صحّته، وتلقّته الأمة بالقبول.

ومسألة تأخير البيان مشهورة في كتب الأصول، وفيها خلاف بين العلماء من المتكلّمين وغيرهم، وقد حَكَى ابن السمعانيّ في أصل المسألة عن الشافعيّة أربعة أوجه:[الجواز مطلقًا]: عن ابن شريج، والإصطخريّ، وابن أبي هريرة، وابن خيران.

(1)

لا يخفى ما هذه العبارة من سوء الأدب، فكان الأولى حذفها، وإنما أبقيتها أداء للأمانة العلميّة. فليتنبّه.

ص: 497

[والمنع مطلقًا]: عن أبي إسحاق المروزيّ، والقاضي أبي حامد، والصيرفيّ.

[ثالثها]: جواز تأخير بيان المجمل دون العامّ.

[رابعها]: عكسه، وكلاهما عن بعض الشافعيّة.

وقال ابن الحاجب: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق؛ يعني وهم الأشاعرة، فيجوّزونه، وأكثرهم يقولون: لم يقع.

قال شارحه: والخطاب المحتاج إلى البيان ضربان:

[أحدهما]: ما له ظاهر، وقد استُعْمِل في خلافه.

[والثاني]: ما لا ظاهر له، فقالت طائفة من الحنفيّة، والمالكيّة، وأكثر الشافعية: يجوز تأخيره عن وقت الخطاب، واختاره الفخر الرازيّ، وابن الحاجب، وغيرهم، ومال بعض الحنفية والحنابلة كلهم إلى امتناعه، وقال الكرخيّ: يمتنع في غير المجمل.

وإذا تقرّر ذلك، فقد قال النوويّ تبعًا لعياض: وإنما حَمَلَ الخيط الأبيض والأسود على ظاهرهما بعضُ من لا فقه عنده من الأعراب، كالرجال الذين حَكَى عنهم سهل، وبعض من لم يكن في لغته استعمال الخيط في الصبح كعديّ.

وادَّعَى الطحاويّ، والداوديّ أنه من باب النسخ، وأن الحكم كان أولًا على ظاهره المفهوم من الخيطين، واستدلّ على ذلك بما نقل عن حذيفة وغيره من جواز الأكل إلى الإسفار، قال: ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} .

قال الحافظ: ويؤيد ما قاله ما رواه عبد الرزّاق بإسناد رجاله ثقات: إن بلالًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يتسحّر، فقال: الصلاة يا رسول الله، قد والله أصبحت، فقال:"يرحم الله بلالًا، لولا بلال لرجونا أن يرخص لنا حتى تطلع الشمس".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في تأييد هذا الحديث للنسخ المذكور خفاء، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.

ص: 498

وقال ابن بزيزة في "شرح الأحكام": ليس هذا من باب تأخير بيان المجملات؛ لأن الصحابة عملوا أوّلًا على ما سبق إلى أفهامهم بمقتضى اللسان، فعلى هذا فهو من باب تأخير ما له ظاهر أريد به خلاف ظاهره.

قال الحافظ: وكلامه يقتضي أن جميع الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ما نقله سهل بن سعد، وفيه نظر

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2534]

(1091) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ ابْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثنا أَبُو حَازِمٍ، حَدثنا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَأخُذُ خَيْطًا أَبْيَضَ، وَخَيْطًا أَسْوَدَ، فَيَأكُلُ

(2)

حَتى يَسْتَبِينَهُمَا، حَتَّى أنزَلَ اللهُ عز وجل:{مِنَ الْفَجْرِ} ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ)

(3)

.

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ، وله (85) سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ) النُّميريّ، أبو سليمان البصريّ، ضعيفٌ يُعتبر به

(4)

[8].

رَوَى عن أبي مالك الأشجعيّ، وأبي حازم بن دينار الأعرج، وعبد الله بن عثمان بن خُثيم، وصالح بن خَوّات بن صالح بن خوات بن جبير، وغيرهم.

وروى عنه أبو عاصم الضحاك بن مخلد، وعليّ ابن المديني، ومحمد بن

(1)

"الفتح" 5/ 263.

(2)

وفي نسخة: "ثم يأكل".

(3)

وفي نسخة: "فتبيّن ذلك".

(4)

هذا أولى مما قاله في "التقريب": صدوق له خطأ كثير؛ فإنه ضعيف، تأمّل تضعيف الأئمة له في ترجمته اللاحقة، والله تعالى أعلم.

ص: 499

أبي بكر المقدَّميّ، وعبد الرحمن بن مبارك العيشيّ، وعاصم بن عليّ بن عاصم، وعبيد الله بن عمر القواريريّ، ومحمد بن زياد الزياديّ ونصر بن علي الجهضميّ، وغيرهم.

قال عباس الدُّوريّ، عن ابن معين: ليس بثقة، وقال أبو زرعة: لَيِّن الحديث، رَوَى عنه ابن المدينيّ، وكان من المتشددين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ليس بالقويّ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: كان عبد الرحمن لا يحدث عنه، قال: وسمعت أبا داود يقول: ذهب فضيل بن سليمان، والسَّمْتيّ إلى موسى بن عقبة، فاستعارا منه كتابًا، فلم يردّاه، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال صالح بن محمد جَزَرَة: منكر الحديث، رَوَى عن موسى بن عقبة مناكير، وقال الساجيّ، عن ابن معين: ليس هو بشيء، ولا يكتب حديثه، وقال الساجيّ: وكان صدوقًا، وعنده مناكير، وقال الآجريّ: سألت أبا داود عن حديث فضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهريّ، فقال: ليس بشيء، إنما هو حديث ابن المنكدر، وقال ابن قانع: ضعيف، توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة، وذكره ابن عديّ، وأورد له أحاديث، ولم يقل فيه شيئًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ست وثمانين ومائة، وقال ابن أبي عاصم، عن أبي المغلس النميريّ: مات سنة خمس وثمانين ومائة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1091) و (1196) و (2065).

[تنبيه]: [فإن قلت]: لِمَ أخرج المصنّف رحمه الله لفضيل بن سليمان، مع تضعيف الأئمة له؟.

[قلت]: لم يُخرج له المصنّف رحمه الله ما انفرد به، وإنما أخرج له ما توبع عليه، وهي أيضًا قليلة، فقد أخرج له ثلاثة أحاديث فقط، وكلّها مما توبع عليه، فقد تابعه هنا أبو غسّان، وفي (1196) تابعه يحيى بن أبي كثير، وعبد العزيز بن رُفيع، وفي (2065) تابعه جماعة، سيأتي بيانه في "كتاب اللباس والزينة".

وكذا أخرج له البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" ما توبع عليه، كما بيّنه

ص: 500

الحافظ رحمه الله في "هدي الساري"، فلتراجعه

(1)

، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

3 -

(أَبُو حَازِم) سلمة بن دينار الأعرج الأثور التمّار القاصّ المدنيّ، مولى الأسود بن سفيَّان، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

4 -

(سَهلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس الصحابيّ المشهور ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (157) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصف الأول بصريّ، والثاني مدنيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث من أوله إلى آخره.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وأنه آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم على بعض الأقوال، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: الظاهر أن المصنّف رحمه الله إنما قدّم رواية فضيل على رواية أبي غسّان مع ما فيها من الكلام؛ نظرًا لعلوّ سندها؛ لأنه رباعيّ، بخلاف سند أبي غسان، فإنه خماسيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعديّ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: لَما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ) أي من الصحابة رضي الله عنهم، وفي رواية البخاريّ:"فكان رجال"، قال في "الفتح": لم أقف على تسمية أحد منهم، ولا يَحسُن أن يفسّر بعضهم بعديّ بن

(1)

راجع: "هدي الساري" 2/ 1161 - 1162 نسخة البراك.

ص: 501

حاتم؛ لأن قصّة عديّ متأخّرة عن ذلك، كما سبق ويأتي. انتهى

(1)

. (يَأْخُذُ خَيْطأ أَبْيَضَ، وَخَيْطًا أَسْوَدَ) ولفظ البخاريّ: "فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض، والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما

"، من الغريب أنه ذكر في "الفتح" ما نصّه: في رواية فضيل بن سليمان، عن أبي حازم عند مسلم: "لَمّا نزلت هذه الآية جعل الرجل يأخذ خيطًا أبيض، وخيطًا أسود، فيضعهما تحت وسادته، فينظر متى يستبينهما"، قال: ولا منافاة بينهما؛ لاحتمال أن يكون بعضهم فَعَل هذا، وبعضهم فَعَل هذا، أو يكونوا يجعلونهما تحت الوسادة إلى السحر، فيربطونهما حينئذ في أرجلهم ليشاهدوهما. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا النصّ الذي عزاه في "الفتح" إلى مسلم من طريق فضيل، عن أبي حازم ليس موجودًا في النسخ المتداولة بيننا، بل نصّ رواية فضيل هذا الذي نشرحه بين يديك لا ذكر لجعله تحت الوسادة أصلًا، وإنما هذا في حديث عديّ الماضي، اللهمّ إلا أن يكون لدى الحافظ نسخة أخرى بالسياق الذي أورده، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(فَيَأكلُ) وفي نسخة: "ثم يأكل"(حَتَّى يَسْتَبِينَهُمَا) يعني حتى يتبيّن له لونهما، و"استبان" يتعدّى ويلزم، وما هنا من المتعدّي، كما هو ظاهر، قال الفيّوميّ رحمه الله: بان الأمرُ يَبيّنُ، فهو بَيّنٌ، وجاء "بائنٌ" على الأصل، وأبانَ إبانةً، وبيّن، وتبيّن، واستبان، كلُّها بمعنى الوضوح والانكشاف، والاسم: البَيَانُ، وجميعها يُستعمَل لازمًا ومتعدّيًا، إلا الثلاثيّ، فلا يكون إلا لازمًا. انتهى

(3)

.

وفي الرواية التالية: "حتى يتبيّن له رِأْيهما" بكسر الراء: أي منظرهما (حَتى أنزَلَ اللهُ عز وجل: {مِنَ الْفَجْرِ}، فَبَينَ ذَلِكَ) وفي نسخة: "فتبيّن ذلك"؛ أي كون المراد هو بياض الفجر، وسواد الليل، لا بياض الحبل الأبيض وسواد الحبل الأسود، وفي الرواية التالية:"فأنزل الله بعد ذلك مِنَ {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنما يَعنِي بذلك الليل والنهار"، قال القرطبيّ رحمه الله: رُوي أنه كان بينهما عامٌ،

(1)

"الفتح" 5/ 261.

(2)

"الفتح" 5/ 261 نسخة البراك.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 70.

ص: 502

والفجر مأخوذٌ من تفجّر الماء؛ لأنه ينفجر شيئًا بعد شيء. انتهى

(1)

.

ولفظ البخاريّ: عن سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنه قال: "أُنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض، والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما، فانزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يَعنِي الليل والنهار"

(2)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: حديث عديّ يقتضي أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} نزل متّصلًا بقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، وأن عديّ بن حاتم رضي الله عنه حمل الخيط على حقيقته، وفهم من قوله:{مِنَ الْفَجْرِ} من أجل الفجر، ففعل ما فعل بالعقال الأبيض والأسود، وهذا بخلاف حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، فإن فيه أن الله تعالى لم يُنزلِ مِنَ الْفَجْرِ} إلا منفصلًا عن قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ، ولما وقع لهم الإشكال حينئذ أنزل الله تعالى:{مِنَ الْفَجْرِ} رافعًا لذلك الإشكال، وقد قيل: إنه كان بين نزولهما عام كامل.

وكأن الحديثين واقعتان في وقتين، ويصحّ الجمع بأن يكون حديث عديّ متأخّرًا عن حديث سهل، وأنّ عديّا لم يسمع ما جرى في حديث سهل، وإنما سمع الآية مجرّدة، ففهمها على ما قرّرناه، فبيّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الخيط الأبيض كنايةٌ عن بياض الفجر، والخيط الأسود كناية عن سواد الليل، وأن معنى ذلك أن ينفصل أحدهما عن الآخر، وعلى هذا يكون {مِنَ الْفَجْرِ} متعلّقًا بقوله:{يَتَبَيَّنَ} ، وعلى مقتضى حديث سهل يكون في موضع الحال، متعلّقًا بمحذوف، وهكذا هو معنى جوابه في حديث سهل.

ويَحْتَمِل أن يكون الحديثان قضية واحدة، وذكر بعض الرواة -يعني في قصّة عديّ- متصلًا بما قبله كما ثبت في القرآن، وإن كان قد نزل مفرّقًا كما

(1)

"المفهم" 3/ 149 - 150.

(2)

انظر: "صحيح البخاريّ" رقم 1917 نسخة "الفتح"، و"صحيح مسلم" رقم- 2529 و 2530 نسخة شرح النووي، و"السنن الكبرى" للمصنّف 11022.

ص: 503

بيّنه حديث سهل، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني ضعيف؛ -كما قال الحافظ- لأن قصّة عديّ متأخرة لتأخر إسلامه، كما تقدّم.

وقد روى ابن أبي حاتم من طريق أبي أسامة، عن مجالد في حديث عدي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال -لما أخبره بما صنع-: يا ابن حاتم ألم أقل لك: {مِنَ الْفَجْر} ؟، وللطبرانيّ من وجه آخر عن مجالد وغيره: فقال عديّ: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظته غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إني بتّ البارحة معي خيطان أنظر إلى هذا، وإلى هذا، قال:"إنما هو الذي في السماء".

فتبيّن بهذا كله أن قصّة عديّ مغايرة لقصّة سهل، فأما من ذُكِرَ في حديث سهل، فحملوا الخيط على ظاهره، فلما نزل {مِنَ الْفَجْر} علموا المراد، فلذلك قال سهل في حديثه:"فعلموا أنما يَعني الليل والنهار"، وأما عديّ فكأنه لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط للصبح، وحمل قوله:{مِنَ الْفَجْر} على السببيّة، فظنّ أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر تمييز أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر، أو نسي قوله:{مِنَ الْفَجْر} حتى ذكّره بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الاستعارة معروفة عند بعض العرب، قال الشاعر [من المتقارب]:

وَلَمَّا تَبَدَّتْ

(2)

لَنَا سُدْفَةٌ

ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا

(3)

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هذا مُتَفَق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"المفهم" 3/ 147 - 150.

(2)

وفي "اللسان": "فلما أضاءت" بدل "تبدّت".

(3)

"الفتح" 5/ 261 - 262.

ص: 504

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2534 و 2535](1091)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1917) و"التفسير"(4511)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 80 و 81)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 167)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(2/ 182)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 146)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 200)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 215) و"الصغرى"(3/ 300) و"المعرفة"(3/ 366)، والله تعالى أعلم.

وأما فوائده، فقد تقدّمت في المسألة الثالثة من شرح حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه الذي قبله، فراجعها تستفد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2535]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِم، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيةُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، وَالْخَيطَ الْأَبيَضَ، فَلَا يَزَالُ يَأكلُ ويشْرَبُ، حَتَّى يَتَبَينَ لَهُ رِئْيُهُمَا، فَأنزَلَ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنَ الْفَجْرِ}، فَعَلِمُوا أنَّمَا يَعْني بِذَلِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمدُ بْنُ سَهْلِ التَّمِيمِيُّ) هو: محمد بن سهل بن عسكر بن عُمارة بن دُويد، ويقال: ابنَ عسكر بن مستور بدل "عُمارة" التميميّ مولاهم، أبو بكر البخاريّ الحافظ الجوّال، سكن بغداد، ثقة [11].

رَوَى عن عثمان بن عمر بن فارس، وعبد الرزاق، ويحيى بن حسان، والقاسم بن كثير، وسعيد بن أبي مريم، وعبيد الله بن موسى، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبو حاتم، والذُّهليّ، وابن أبي الدنيا، وإبراهيم الحربيّ، وابن أبي عاصم، وغيرهم.

قال النسائيّ، وابن عديّ: ثقة، وقال مسلمة: كان ثقةً صدوقًا، وقال محمد بن إسحاق الثقفيّ: سكن بغداد، ومات بها في شعبان سنة إحدى وخمسين ومائتين، وفيها أَرَّخه غير واحد.

ص: 505

تفرّد به المصنف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة عشر حديثًا بالمكرّر

(1)

.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ اِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصاغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

3 -

(ابْنُ أبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الْجُمحي مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية، من كبار [10](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

4 -

(أَبُو غَسَّانَ) محمد بن مطَرّف بن داود الليثيّ المدنيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ [7] مات بعد (160)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 52/ 1525.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (حَتى يَتبيَّنَ لَهُ رِئْيُهُمَا) قال النوويّ رحمه الله: هذه اللفظة ضُبطت على ثلاثة أوجه:

[أحدهما]: "رِئيِهما" -براء مكسورة، ثم همزة ساكنة، ثم ياء -ومعناه: منظرهما، ومنه قول الله تعالى:{أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74] قال في "كتاب العين": الرِّءيُ: ما رأيته من حال حسنة

(2)

.

[والثاني]: "رئيِّهما"- بزاي مكسورة، وياء مشدّدة، بلا همزة- ومعناه: لونهما.

[والثالث]: "رِئيُّهما" -بفتح الراء وكسرها، وكسر الهمزة، وتشديد الياء- قال القاضي عياض: هذا غلطٌ هنا؛ لأن الرِئيّ: هو التابع من الجنّ، قال: فإن صحّ رواية فمعناه: مرئيّ، والله أعلم.

وفي رواية البخاريّ: "حتى يتبين له رؤيتهما"، قال في "الفتح": قوله: "حتى يتبين" كذا للأكثر بالتشديد، وللكشميهنيّ:"حتى يستبين" بفتح أوله،

(1)

هكذا في "برنامج الحديث" للكتب التسعة، ونقل في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة" ما نصّه: رَوَى عنه مسلم (27) حديثًا، والظاهر أن ما في "البرنامج" أقرب للصواب، فليُحرّر.

(2)

"المفهم" 3/ 149.

ص: 506

وسكون المهملة، والتخفيف، قوله:"رؤيتهما" كذا لأبي ذرّ، وفي رواية النسفيّ:"رِئيُهما" بكسر أوله، وسكون الهمزة، وضم التحتانية، ولمسلم من هذا الوجه:"زِيُّهما" بكسر الزاي، وتشديد التحتانية، قال صاحب "المطالع": ضبِطت هذه اللفظة على ثلاثة أوجه: ثالثها: بفتح الراء، وقد تُكْسَر، بعدها همزة، ثم تحتانية مشددة، قال عياض: ولا وجه له إلا بضرب من التأويل، وكأن رَئيّ بمعنى مَرْئِيّ، والمعروف أن الرِئيّ: التابع من الجنّ، فَيَحْتَمِل أن يكون من هذا الأصل؛ لترائيه لمن معه من الإنس. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الذي قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2536]

(1092) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن يَحْيَى، وَمحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْن سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قَالَ:"إِن بِلَالًا يُؤَذِّن بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى تَسْمَعُوا تَأذِينَ ابْنِ أمِّ مَكْتُومٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْن يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْن رُمْحٍ) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(قتيْبَة بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(اللَّيْثُ) بن سعد، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

6 -

(سَالِمُ بْنُ عَبدِ اللهِ) بن عمر، تقدّم قريبًا.

7 -

(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"الفتح" 5/ 261.

ص: 507

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، فرّق بينهما بالتحويل؛ للاختلاف في كيفيّة التحمل والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وابن رُمح، فانفرد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

5 -

(ومنها): أن سالِمًا أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولي اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَهُ قَالَ: "إِن بِلَالًا) هو ابن رباح المؤذّن المشهور رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 23/ 643. (يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ) أي الأذان المعروف في الشرع؛ إذ هو المتبادر من إطلاق اللفظ الشرعيّ، قال في "الفتح": وادّعى بعض الحنفيّة -كما حكاه السروجيّ منهم- أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرًا، أو تسحيرًا، كما يقع للناس اليوم، وهذا مردود، لكن الذي يصنعه الناس اليوم مُحْدَثٌ قطعًا، وقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعيّ مقدَّم، ولأن الأذان لو كان بألفاظ مخصوصة لَمَا التبس على السامعين، وسياق الخبر يقتضي أنه خَشِي عليهم الالتباس، وادَّعَى ابن القطّان أن ذلك كان في رمضان خاصّةً، وفيه نظر. انتهى

(1)

.

وقال أيضًا: فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرّة، وزعم بعضهم أن ابتداء ذلك باجتهاد منه، وعلى تقدير صحته، فقد أقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فصار في حكم المأمور به. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 2/ 436 نسخة البراك.

(2)

"الفتح" 2/ 429.

ص: 508

وسيأتي الكلام على تعيين الوقت الذي يؤذّن فيه من الليل قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

(فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا) فيه إشعار بأن الأذان كان علامةً عندهم على دخول الوقت، فَبَيَّن لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك (حَتى تَسْمَعُوا تَأذِينَ ابْنِ أُمِّ مَكتُومٍ) اسمه عمرو، وقيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله، ولا يمتنع أنه كان له اسمان، وهو قرشيّ عامريّ، أسلم قديمًا، والأشهر في اسم أبيه قيس بن زائدة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكرمه، ويستخلفه على المدينة، وشَهِدَ القادسية في خلافة عمر رضي الله عنه، فاستشهد بها، وقيل: رجع إلى المدينة فمات، وهو الأعمى المذكور في "سورة عبس"، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وزعم بعضهم أنهْ وُلد أعمى، فكُنيت أمه أم مكتوم لانكتام نور بصره، والمعروف أنه عَمِيَ بعد بدر بسنتين

(1)

، قاله في "الفتح"

(2)

، تقدّمت ترجمته في "كتاب الأذان" برقم (4/ 849).

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في هذا الكتاب من طريق مالك، عن ابن شهاب:"ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ رجلًا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحتَ".

قال في "الفتح": قوله: "وكان رجلًا أعمى" ظاهره أن فاعل "قال" هو ابنُ عمر، وبذلك جزم الشيخ الموفَق في "المغني"، لكن رواه الإسماعيليّ، عن أبي خليفة، والطحاويّ، عن يزيد بن سِنَان، كلاهما عن القعنبيّ، فَعَيَّنَا أنه ابنُ شهاب، وكذلك رواه إسماعيل بن إسحاق، ومعاذ بن المثنى، وأبو مسلم الكجيّ، الثلاثة عند الدارقطنيّ، والخزاعيّ، عند أبي الشيخ، وتَمَّام عند أبي نعيم، وعثمان الدارميّ عند البيهقيّ، كلهم عن القعنبيّ، وعلى هذا ففي رواية البخاريّ إدراج، ويجاب عن ذلك بأنه لا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون

(1)

وقد تعقّب الشيخ ابن باز رحمه الله هذا، فقال: هذا فيه نظرٌ؛ لأن ظاهر القرآن يدلّ على أنه عَمِي قبل الهجرة؛ لأن "سورة عبس" النازلة فيه مكيةٌ، وقد وصفه الله فيها بأنه أعمى، فتنبّه. انتهى، وهو تعقّب وجيه، والله تعالى أعلم.

(2)

2/ 429 نسخة البراك.

ص: 509

شيخه قاله، وكذا شيخ شيخه، وقد رواه البيهقيّ من رواية الربيع بن سليمان، عن ابن وهب، عن يونس والليث، جميعًا عن ابن شهاب، وفيه: قال سالم: وكان رجلًا ضرير البصر، ففي هذا أن شيخ ابن شهاب قاله أيضًا، قال: وسيأتي في "كتاب الصيام" عن البخاريّ من وجه آخر، عن ابن عمر ما يؤدي معناه، فثبتت صحة وصله، ولابن شهاب فيه شيخ آخر، أخرجه عبد الرزاق، عن معمر عنه، عن سعيد بن المسيِّب، وفيه الزيادة، قال ابن عبد البرّ: هو حديث آخر لابن شهاب، وقد وافق ابنُ إسحاق معمرًا فيه عن ابن شهاب.

وقوله: "أصبحتَ أصبحتَ" أي دخلت في الصباح، هذا ظاهره، واستُشْكِل؛ لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذِّن حتى يدخل في الصباج للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر، والإجماع على خلافه، إلا مَن شَذَّ كالأعمش، وأجاب ابن حبيب، وابن عبد البرّ، والأصيليّ، وجماعة من الشراح، بأن المراد: قاربت الصباح.

وَيعْكُر على هذا الجواب أن في رواية الربيع التي قدمناها: "ولم يكن يؤذِّن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: أَذِّنْ"، وأبلغ من ذلك أن لفظ رواية البخاريّ التي في "الصيام":"حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر"، وإنما قلت: إنه أبلغ لكون جميعه من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأيضًا فقوله:"إن بلالًا يؤذِّن بليل" يشعر أن ابن أم مكتوم بخلافه، ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرقٌ؛ لِصِدْق أن كلًّا منهما أَذَّنَ قبل الوقت، وهذا الموضع عندي في غاية الإشكال، وأقرب ما يقال فيه: إن أذانه جُعِل علامة لتحريم الأكل والشرب، وكأنه كان له مَن يراعي الوقت، بحيث يكون أذانه مقارنًا لابتداء طلوع الفجر، وهو المراد بالبزوغ، وعند أخذه في الأذان يَعْتَرِض الفجر في الأفق.

ثم ظهر لي أنه لا يلزم من كون المراد بقولهم: "أصبحتَ" أي قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر؛ لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل، وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعدًا في العادة، فليس بمستبعد من مؤذن النبيّ صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالملائكة، فلا يشاركه فيه من لم يكن بتلك الصفة.

ص: 510

وقد رَوَى أبو قُرَّة من وجه آخر عن ابن عمر حديثًا فيه: (وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر، فلا يخطئه". انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، دىاليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2536 و 2537 و 2538 و 2539 و 2540، (1092)، و (البخاريّ) في "الأذان"(617 و 620 و 623) و"الصوم"(1918) و"الشهادات"(2656) و"أخبار الآحاد"(7248)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(1/ 392 و 394)، و (النسائيّ) في "الأذان"(2/ 10) و"الكبرى"(1/ 500)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 74)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(1/ 490 و 4/ 232)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 30)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 9)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1819)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 9)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 288)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 181 و 182)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(2/ 5 و 3/ 168 و 169)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 50)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 209)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 249 و 210 و 211 و 221)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 216) و"الكبير"(5/ 124، 12/ 277 و 371 و 24/ 191) و"مسند الشاميين"(4/ 224)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 370 و 401)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 383 و 385)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 138)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 385 و 381 و 382 و 429 و 4/ 218) و"المعرفة"(1/ 415)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 205)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 240)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 2/ 429 - 431 نسخة البراك.

ص: 511

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان الأذان الذي يحرم به الأكل ونحوه في الصوم، وهو الأذان الثاني الذي يقع بعد طلوع الفجر الصادق، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك، وترجيح الراجح في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): بيان جواز الأذان قبل طلوع الفجر؛ وذلك ليرجع القائم، ويستيقظ النائم.

قال العلماء الذاهبون إلى الأذان للصبح قبل دخول وقتها: إن الحكمة في ذلك أن صلاة الفجر في أول الوقت ذات فضل، وهي تأتي في حال نوم، فلو لم يؤذن حتى يطلع الفجر لما تمكنوا بعد الوضوء والغسل، والاجتماع في المسجد من الصلاة، إلا بعد الإسفار كثيرًا، فشُرع الأذان ليلًا؛ لهذه العلة، كي ينتبه الناس، ويتأهبوا في أول الوقت، قال: وهذا أصل لما يفعله الناس من ذكر الله تعالى، وتسبيحه، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أذان الصبح، وكذلك يفعلون يوم الجمعة، لكونه شُرع للناس التكبير لصلاة الجمعة

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر وليّ الدين هذه البدعة، وأقرّها، وهذا من مثله عجيبٌ؛ لأنه محدث فقيه، فالواجب في مثل هذا على أهل العلم أن لا يسكتوا، بل يبيّنوا للناس أن هذا فعل منكرٌ مخالف لما كان عليه هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، فإحداث الناس هذه الأشياء في الصبح، ويوم الجمعة من البدع المنكرة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

3 -

(ومنها): استحباب أذانين للصبح، أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعد طلوعه أول الطلوع، قال وليّ الدين رحمه الله: وبهذا صرّح أصحابنا، قالوا: فإن اقتُصِر على أذان واحد، فالأفضل أن يكون بعد الفجر، على ما هو المعهود في سائر الصلوات، فإن اقتُصر على الأذان لها قبله أجزأه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: وفي إجزاء الأذان قبل الوقت نظر، فليتأمل.

[تنبيه]: قال وليّ الدين رحمه الله: استَثْنَى أحمد من الأذان قبل الفجر شهر

(1)

"طرح التثريب" 2/ 207.

ص: 512

رمضان، فقال: إنه يكره فيه الأذان قبل الفجر؛ لئلا يغتر الناس به، فيتركوا سحورهم، وهذا تخصيص لا دليل عليه، وإذا عُلِم من عادة المؤذن أنه يؤذن قبل الفجر لم يغتر الناس بأذانه، فيتركوا سحورهم، والعجب أن أبا الحسن ابن القطان قال في "بيان الوهم والإيهام": إن بلالًا إنما كان يؤذن ليلًا في رمضان خاصةً، فهذا عكس المحكيّ عن أحمد، ولم أعلم مستند ابن القطان في ذلك، وقد قال فخر الدين بن قدامة بعد نقله كلام أحمد، وَيحْتَمِل أن لا يكره في حقّ من عُرفت عادته بالأذان في الليل؛ لأن بلالًا كان يفعل ذلك، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، فإنه يؤذن بالليل؛ لينبّه نائمكم، ويرجع قائمكم"، قال ابن قدامة: وينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يجعل أذانه في وقت واحد في الليالي كلها؛ ليعلم الناس ذلك من عادته، ولا يؤذن في الوقت تارةً، وقبله أخرى، فيقع الإلباس. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): استحباب أذان واحد بعد واحد، قال في "الفتح": وأما أذان اثنين معًا فمنع منه قوم، ويقال: إن أول من أحدثه بنو أمية، وقال الشافعية: لا يكره إلا إن حصل من ذلك تهويش.

5 -

(ومنها): جواز اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وأما الزيادة على الاثنين فليس في الحديث تعرُّض له. انتهى، ونَصَّ الشافعي على جوازه، ولفظه: ولا يتضيق إن أذَّن أكثر من اثنين، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ رحمه الله: وفيه اتخاذ مؤذنين للمسجد الكبير، قال أصحابنا: وإن دعت الحاجة جاز اتخاذ أكثر منهما، كما اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعة، وإن احتاج إلى زيادة على أربعة فالأصح اتخاذهم بحسب الحاجة والمصلحة. انتهى

(2)

.

وقال في "الطرح": فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان بالمدينة، وفي "صحيح مسلم" عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان:

(1)

"طرح التثريب" 2/ 209.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 203.

ص: 513

بلال، وابن أم مكتوم الأعمى

(1)

، ورَوَى البيهقيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة مؤذنين بلال وأبو محذورة وابن أم مكتوم، قال أبو بكر بن إسحاق الصِّبْغيّ: والخبران صحيحان، فمن قال: كان له مؤذنان، أراد اللذين كانا يؤذنان بالمدينة، ومن قال: ثلاثة أراد أبا محذورة الذي كان يؤذن بمكة.

قال ويئ الدين: وكان له مؤذن رابع، وهو سعد القرظ، أذَّن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بقباء مرارًا، ثم صار بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم مؤذنًا بالمدينة لما ترك بلال الأذان، وأذَّن له زياد بن الحارث الصُّداليّ أيضًا، وقال:"إن أخا صداء أَذن، ومن أذَن فهو يقيم"، رواه أبو داود وغيره

(2)

، لكنه لم يكن راتباً، ولهذا عُدّ مؤذنو النبي صلى الله عليه وسلم أربعةً.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث الصدائيّ ضعيف، كما قال الترمذيّ، ففي كونهم أربعة نظر، فتنبّه.

قال الشافعيّ رحمه الله: وأحب أن أقتصر في المؤذنين على اثنين؛ لأنا إنما حفظنا أنه أذَّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان، ولا نضيق إن أذَّن أكثر من اثنين، واحتج الشافعي في "الإملاء" في جواز أكثر من اثنين بقصة عثمان، فقال: ومعروف أنه زاد في عدد المؤذنين فجعله ثلاثة، وذكر أبو علي الطبريّ، والرافعئ أن المستحب ألا يزاد على أربعة مؤذنين، وحكاه النوويّ في "شرح مسلم " عن أصحابنا، لكنه قال في "الروضة": أنكره كثيرون من أصحابنا، وقالوا: إنما الضبط بالحاجة، ورؤية المصلحة، فإن رأى الإمام المصلحة في الزيادة على الأربعة فعله، وإن رأى الاقتصار على اثنين لم يزد، قال النوويّ: وهذا هو الأصح المنصوص

(3)

.

6 -

(ومنها): جواز شهادة الأعمى، فقد استدلّ به مالك، والمزنيّ،

(1)

تقدّم هذا الحديث للمصنف في كتاب "الصلاة" برقم [849](380).

(2)

حديث ضعيف، في سنده الإفريقيّ ضعيف.

(3)

"طرح التثريب" 2/ 211 - 212.

ص: 514

وسائر من يقبل شهادة الأعمى، وأجاب المانعون، وهم الجمهور عن هذا بان الشهادة يُشترط فيها العلم، ولا يحصل علم بالصوت؛ لأن الأصوات تشتبه، وأما الأذان، ووقت الصلاة فيكفي فيها الظنّ، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

7 -

(ومنها): ما قال في "الطرح": فيه جواز أن يكون المؤذن أعمى، فإن ابن أم مكتوم كان أعمى، وهو جائز بلا كراهة؛ إذا كان معه بصير، كما كان بلال وابن أم مكتوم، قال أصحابنا: ويكره أن يكون الأعمى مؤذنأ وحده، ورَوَى البيهقيّ في "سننه " عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كان يكره أن يكون المؤذن أعمى، قال البيهقيّ: وهذا، والذي رُوي عن ابن مسعود في ذلك محمول على أعمى منفرد، لا يكون معه بصير يعلمه الوقت. انتهى.

وبوّب عليه البخاري في "صحيحه": "أذان الأعمى إذا كان له من يخبره"، وقال ابن بطال: اختلفوا في أذان الأعمى، فكرهه ابن مسعود، وابن الزبير، وكره ابن عباس إقامته، وأجازه طائفة، وروي أن مؤذن النخعيّ كان أعمى، وأجازه مالك، والكوفيون، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق إذا كان له من يُعَرِّفه الوقت؛ لأن ابن أم مكتوم إنما كان يؤذن بعد أن يقال له:"أصبحتَ، أصبحت". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بجواز كون المؤذّن أعمى إذا كان له من يعرّفه بالوقت هو الذي يترجّح عندي؛ لحديث قصّة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، والمانعون لم يأتوا بحجة مقنعة، وهو الذي اختاره الإمام البخاريّ في "صحيحه"، فقال:"باب شهادة الأعمى، ونكاحه، وأمره، وإنكاحه، ومبايعته، وقبوله في التأذين وغيره، وما يُعرف بالأصوات"، ثم أورد أقوال القائلين بقوله، وأورد الأدلّة على ذلك، والله تعالى أعلم.

8 -

(ومنها): جواز العمل بخبر الواحد.

9 -

(ومنها): بيان أن ما بعد الفجر من حكم النهار.

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 202.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 211.

ص: 515

10 -

(ومنها): جواز الأكل مع الشكّ في طلوع الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل، وخالف في ذلك مالك، فقال: يجب القضاء.

11 -

(ومنها): جواز الأكل بعد النيّة، ولا تفسد نيّة الصوم بالأكل بعدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الأكل إلى طلوع الفجر، ومعلوم أن النيّة لا تجوز بعد طلوع الفجر، فدلّ على أنها سابقة، وأن الأكل بعدها لا يضرّ، قال النوويّ رحمه الله: وهذا هو الصواب المشهور من مذهبنا، ومذهب غيرنا، وقال بعض أصحابنا: متى أكل بعد النيّة، أو جامع فسدت، ووجب تجديدها، وإلا فلا يصحّ صومه، وهذا غلطٌ صريح. انتهى

(1)

.

12 -

(ومنها): استحباب السحور، وتأخيره.

13 -

(ومنها): جواز الاعتماد على الصوت في الرواية؛ إذا كان عارفًا به، وإن لم يشاهد الراوي، وخالف في ذلك شعبة؛ لاحتمال الاشتباه، قاله في " لفتح".

وقال في "الطرح": استُدِلّ به على أنه يجوز في الرواية الاعتماد على الصوت، من غير رؤية المخبِر، بأن يكون وراء حجاب إذا كان عارفًا بالصوت، واعتَمَدَ في ذلك على إخبار ثقةٌ، فإن ابن أم مكتوم لم يكن يشاهد ما يعرف به دخول الوقت، وإنما كان يعتمد في ذلك على إخبار من يخبره بذلك، ممن يثق به، وأقرّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك وأيضًا فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاعتماد على صوت المؤذن، من غير مشاهدته، فمان ذلك يكون في الليل وظلمته، ولا بد أن يميز صوت بلال من صوت ابن أم مكتوم، فإن لكل منهما حُكْمًا غير حكم الآخر، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وعن شعبة بن الحجاج منعه؛ لاحتمال الاشتباه، وأما في باب الشهادة فالأكثر على المنع من الاعتماد على الصوت فيها، وباب الشهادة أضيق، وبالاحتياط أجدر، ومن جَؤز استدل بهذا الحديث، قال المهلَّب: فيه جواز شهادة الأعمى على الصوت؛ لأنه ميّز صوت من عَلَّمه الوقت ممن يثق به، فقام أذانه على قبوله مقام شهادة المخبر له. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ " 7/ 202 - 203.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 210 - 211.

ص: 516

قال الجامع عفا الله عنه: القول بجواز شهادة الأعمى هو الراجح، كما أسلفته قريبًا، فتنبّه.

14 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز تقليد الأعمى للبصير في معرفة الوقت، أو جواز اجتهاده في ذلك، فإن ابن أم مكتوم كان أعمى، ولم يكن يعرف طلوع الفجر إلا بأحد هذين الأمرين، ومما يرجح أنه كان يُقَلِّدُ قوله في بعض طرقه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه:"وكان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقال له: أصبحتَ أصبحتَ"، قال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": ولو لم يرد ذلك لم يكن في اللفظ جواز رجوعه لاجتهاد بعينه؛ لأن الدال على أحد الأمرين مبهم، لا يدل على واحد منهما بعينه. انتهى.

15 -

(ومنها): جواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة؛ إذا كان بقصد التعريف ونحوه.

16 -

(ومنها): جوأز نسبة الرجل إلى أمه؛ إذأ اشتهر بذلك، واحتيج إليه، وفي الصحابة رضي الله عنه جماعة عُرِفُوا بذلك، منهم ابن بُحينة، ويعلى ابن منية، والحارث ابن الْبَرْصَاء، وغيرهم، وحُكِي أن يحيى بن معين كان يقول: حدثنا إسماعيل ابن عُلَيّة، فنهاه أحمد بن حنبل، وقال: قل: إسماعيل بن إبراهيم، فإنه بلغني أنه كان يكره أن يُنْسَب إلى أمه، فقال: قد قبلنا منك يا معلم الخير، ولهذا استثنى ابن الصلاح في "علوم الحديث" من الجواز ما يكرهه الملَقَّب، وهو حسن، لكن قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: الظاهر أن ما قاله أحمد على طريق الأدب، لا اللزوم. انتهى

(1)

.

17 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ أن يكون الأذان على موضع عالٍ؛ لقوله: "ينزل هذا، ويرقى هذا"، والحكمة فيه أنه أبلغ في الإعلام، وهو متفق عليه، قال وليّ الدين: وهل تُلحق به الإقامة في ذلك؟، قال المحامليّ، والبغويّ من أصحابنا: لا، قال النوويّ: وهذا الذي قالاه محمول على ما إذا لم يكن مسجد كبير تدعو الحاجة فيه إلى العلو للإعلام. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 213.

(2)

"طرح التثريب" 2/ 213.

ص: 517

(المسالة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الوقت الذي يَحْرُم فيه الأكل والشرب في الصوم:

قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب" ما حاصله: مذهب الشافعيّ، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء، من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم أن وقت الصوم يدخل بطلوع الفجر، فيحرم الطعام، والشراب، والجماع به.

قال ابن المنذر رحمه الله: وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وعلماء الأمصار، قال: وبه نقول، قال: ورَوَينا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال حين صلى الفجر: الآن حين تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، قال: ورُوي عن حُذيفة رضي الله عنه أنه لما طلع الفجر تسخر، ثم صلى، قال: وروي معناه عن ابن مسعود، وقال مسروق: لم يكونوا يَعُدّون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدّون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق، قال: وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن على الآخرين، قال إسحاق: ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي قاله هؤلاء، هذا كلام ابن المنذر. انتهى كلام النوويّ

(1)

.

وقال في "الفتح": وذهب جماعة من الصحابة -وقال به الأعمش من التابعين، وصاحبه أبو بكر بن عيّاش- إلى جواز السحور إلى أن يتّضح الفجر، فروى سعيد بن منصور

(2)

، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن زرّ، عن حذيفة، قال:"تسحّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والله النهار، غير أن الشمس لم تطلع". وأخرجه الطحاويّ من وجه آخر، عن عاصم نحوه. وروى ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة. وروى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر من طرق عن أبي بكر أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر.

وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن عليّ أنه صلى الصبح، ثم قال:

(1)

المجموع 5/ 324.

(2)

كان الأولى للحافظ أن يعزو الحديث للنسائيّ، وابن ماجه، فقد أخرجاه، كما هو صنيع المحدثين في عزو الحديث للأمهات الست، ثم إلى غيرها.

ص: 518

الآن حين تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود. قال ابن المنذر: وذهب بعضهم إلى أن المراد بتبيّن بياض النهار من سواد الليل أن ينتشر في الطرق والسكك والبيوت، ثم حكى ما تقدّم عن أبي بكر وغيره. وروى بإسناد صحيح عن سالم بن عُبيد الأشجعيّ -وله صحبة- أن أبا بكر قال له: اخرج، فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت، ثم أتيته، فقلت: قد ابيضّ، وسطع، ثم قال: اخرج، فانظر هل طلع؛ فنظرت، فقلت: قد اعترض، فقال: الآن أبلغني شرابي. وروى من طريق وكيع، عن الأعمش أنه قال: لولا الشهوة

(1)

لصليت الغداة، ثم تسحّرت. قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل، والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبيّن بياض النهار من سواد الليل، قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني، ولا أرى عليه قضاء، ولا كفّارة.

قال الحافظ: وفي هذا تعقّب على الموفّق وغيره، حيث نقلوا الإجماع على خلاف ما ذهب إليه الأعمش. والله أعلم. انتهى

(2)

.

واحتجّ الجمهور بالأحاديث الصحيحة المشهورة المتظاهرة:

(منها): حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه، قال: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، قلت: يا رسول الله إني أجعل تحت وسادتي عقالين، عقالأ أبيض، وعقالاً أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن وسادك لَعَريض، إنما هو سواد الليل، وبياض النهار"، متفق عليه.

(ومنها): حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ، ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض، والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى:{مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا أنه يعني به الليل من النهار، متفق عليه.

(1)

هكذا النسخة، ولعله: لولا الشهرة، والله أعلم.

(2)

"الفتح" 4/ 635 - 636.

ص: 519

(ومنها): حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرّنّكم أذان بلال، ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير"، رواه مسلم.

(ومنها): حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ كتَ قال: "لا يمنعنّ أحدكم - أوأحدًا منكم- أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذّن -أو ينادي- بليل ليرجع قائمكم، ولينبّه نائمكم، وليس أن يقول الفجر -أو الصبح- وقال بأصابعه، ورفعها إلى فوقُ، وطأطا إلى أسفل حتى يقول هكذا، وقال بسبابته إحداهما فوق الأخرى، ثم مدّهما عن يمينه وشماله"، رواه البخاريّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه الجمهور، من أن وقت الصوم يدخل بطلوع الفجر هو الأرجح، لظهور أدلّته.

لكن المراد بطلوعه تحققه وتبيّنه، فلو شك في طلوعه جاز له الأكل وغيره حتى يتيقّن طلوعه، لظاهر الآية المذكورة.

قال النوويّ رحمه الله: ولو شكّ في طلوع الفجر جاز له الأكل، والشرب، والجماع، وغيرها بلا خلاف حتى يتحقق الفجر؛ للآية الكريمة:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} ، ولمَا صحّ عن ابن عباس بأنه قال:"كُلْ ما شككت حتى يتبيّن لك"، رواه البيهقيّ بإسناد صحيح، وفي رواية عن حبيب بن أبي ثابت، قال:"أرسل ابن عباس رجلين ينظران الفجر، فقال أحدهما: أصبحت، وقال الآخر: لا، قال: اختلفتما أرني شرابي"، قال البيهقيّ: وروي هذا عن أبي بكر الصدّيق، وعمر، وابن عمر رضي الله عنه، وقول ابن عباس:"أرني شرابي " جارٍ على القاعدة أنه يحلّ الشرب، والأكل حتى يتبيّن الفجر، ولو كان قد تبيّن لَمَا اختلف الرجلان فيه؛ لأن خبريهما تعارضا، والأصل بقاء الليل، ولأن قولى:"أصبحت " ليس صريحاً في طلوع الفجر، فقد تطلق هذه اللفظة لمقاربة الفجر، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ

(1)

، وهو بحث نفيش جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في الأذان للصبح قبل دخول وقتها:

(1)

المجموع 5/ 3215.

ص: 520

ذهب إلى جوازه مالك، والشافعيّ، وأحمد، والأوزاعيّ، وعبد الله بن المبارك، وإسحاق ابن راهويه، وأبو ثور، ودا ود، والجمهور، ورجع إليه أبو يوسف بعد أن كان يقول بالمنع، ورَوَى الشافعيّ في كتابه القديم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: عَجِّلوا الأذان بالصبح يدلج المدلج، وتخرج العاهرة، وعن عروة بن الزبير أنه قال: إن بعد النداء بالصبح لحزبًا حسنًا، إن الرجل ليقرأ سورة البقرة، وعن حبان بن الحارث قال: أتيت عليًا بدير أبي موسى، وهو يتسحر، فقال: ادْنُ، فاطعم، فقلت: إني أريد الصوم، قال: وأنا أريد الصوم، فطعم، فلما فرغ أمر ابن النباح، فأقام الصلاة، قال الشافعيّ: وهو لا يأمر بالإقامة إلا بعد النداء، وحين طلع الفجر أمر بالإقامة، ففي هذا دلالة على أن الأذان كان قبل الفجر.

وذهب آخرون إلى منع الأذان لها قبل دخول وقتها، كسائر الصلوات، وهو قول سفيان الثوريّ، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والحسن بن صالح بن حيّ، قالوا: فان أُذِّن لها قبل الفجر أعاد الأذان بعده.

وَرَوى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عائشة رضي الله عنه قالت: ما كانوا يؤذنون حتى ينفجر الفجر، وعن إبراهيم النخعي قال: شَيَّعنا علقمة إلى مكة، فخرجنا بليل، فسمع مؤذناً يؤذن، فقال: أما هذا فقد خالف سنة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أَبُو كان نائمًا لكان خيرًا له، فإذا طلع الفجر أذَّن، وعن إبراهيم النخعيّ أنه كَرِه أن يؤذن قبل الفجر، وعن عبيد الله بن عمر: قلت لنافع: إنهم كانوا ينادون قبل الفجر؟ قال: ما كان النداء إلا مع الفجر.

وحَكَى ابن حزم عن الحسن البصريّ أنه قيل له: الرجل يؤذن قبل الفجر يوقظ الناس، فغضب، وقال: عُلُوج أفراع، أَبُوأدركهم عمر بن الخطاب لأوجع جنوبهم، مَنْ أَذَّن قبل الفجر، فإنما صلى أهل ذلك المسجد بإقامة لا أذان فيها، وعن إبراهيم النخعيّ أنه قال: كانوا إذا أذَّن المؤذن بليل، قالوا له: اتق الله، وأعد أذانك.

وحَكَى ابن المنذر وغيره في المسألة مذهبًا ثالثًا عن طائفة من أهل الحديث أنه إن كان للمسجد مؤذنان، يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعد الفجر، فلا بأس أن يؤذن للصبح؛ إذا كان هكذا، وبه قال ابن حزم

ص: 521

الظاهريّ، فقال: يجوز أن يؤذن قبل طلوع الفجر الثاني بمقدار ما يتم المؤذن أذانه، وينزل من المنارة، أو العلو، ويصعد مؤذن آخر، ويطلع الفجر قبل ابتداء الثاني في الأذان.

واحتج المانعون بحديث ابن عمر: "إن بلالًا أَذَّن قبل طلوع الفجر، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع، فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام"، رواه أبو داود في "سننه"، وصحح وقفه على عمر في أذان مؤذن له، يقال له: مسعود.

وأجاب الجمهور عنه بأجوبة:

[أحدها]: ضعفه كما تقدم عن أبي داود، وضعّفه أيضًا الشافعيّ، وعليّ ابن المدينيّ، ومحمد بن يحيى الذهليّ، والترمذيّ، وأبو حاتم، وأبو بكر الأثرم، وا لدا رقطنيّ، والبيهقيّ، وغيرهم.

[ثانيها]: أنه عارضه على تقدير صحته ما هو أصح منه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذن بليل

" الحديث، قال البيهقيّ: والأحاديث الصحاح التي تقدم ذكرها، مع فعل أهل الحرمين أولى بالقبول منه، ثم رَوَى بإسناده عن شعيب بن حرب، قال: قلت لمالك بن أنس: أليس قد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يعيد الأذان؛ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذن بليل"، قلت: أليس قد أمره أن يعيد الأذان؟ قال: لا، لم يزل الأذان عندنا بليل.

[ثالثها]: قال الخطابيّ: يشبه أن يكون هذا فيما تقدم من أول زمان الهجرة، فإن الثابت عن بلال أنه كان في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بليل، ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم مع الفجر.

وأجاب المانعون عن حديث الباب بان هذا الأذان لم يكن لأجل الصلاة، وإنما كان لإيقاظ النائمين للسحور وغيره، أجاب بمعناه الطحاويّ، وابن حزم.

وَيرُدُّه حديث زياد بن الحارث الصدائيّ رضي الله عنه قال: لما كان أول أذان الصبح أمرني؛ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأذنت، فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله، فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول: لا حتى إذا طلع

ص: 522

الفجر

الحديث، رواه أبو داود وغيره، وهو صريح في الأذان للصبح قبل الوقت من غير إعادته بعد دخول الوقت.

قال ابن عبد البرّ: وفي إجماع المسلمين على أن النافلة بالليل والنهار لا أذان لها ما يدل على أن أذان بلال بالليل إنما كان لصلاة الصبح، وجوّز الطحاويّ أن يكون بلال كان يؤذن في وقت يرى أن الفجر قد طلع فيه، ولا يتحقق ذلك؛ لضعف بصره، ثم استَدَلّ بما رواه عن أنس مرفوعًا:"لا يغرنكم أذان بلال، فإن في بصره شيئًا"، قال الطحاويّ: فدل على أن بلالًا كان يريد الفجر، فيخطئه؛ لضعف بصره.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: وهذا ضعيف؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذن بليل" يقتضي أن هذه كانت طريقته، وعادته دائمًا، ولو كان لا يقع ذلك منه إلا لخطأ لم يقع إلا نادرًا، فإنه لولا أن الغالب إصابته لما رُتِّب مؤذنًا، واعتُمِد عليه في الأوقات، وفي "الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعن أحدكم، أوأحدًا مثكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن، أو ينادي بليل؛ ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم

" الحديث، وهذا صريح في أنه كان يؤذن قبل الفجر يقصد ذلك، ويتعمده، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان أقوال العلماء، وأدلّتهم في هذه المسألة أن ما قاله الأولون، وهو مشروعيّة الأذان للصبح قبل دخول وقتها، هو الراجح وقد تبيّن بحديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور أن فائدته؛ رجوع القائم إلى الاستراحة، واستيقاظ النائم للتأهّب لصلاة الصبح، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في أول الوقت الذي يؤذَّن للصبح فيه:

قال وليّ الدين رحمه الله: وفي ذلك لأصحابنا أوجه:

[أحدها]: يقدّم في الشتاء لسبع يبقى من الليل، وفي الصيف لنصف سبع

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 2/ 205 - 207.

ص: 523

تقريبًا، لا تحديدًا، وصححه الرافعيّ من أصحابنا، وذكر النووي أن من رجحه اعتمد حديثًا باطلًا محرَّفًا، قال وليّ الدين: وكأنه أشار بذلك إلى ما رواه الشافعيّ في كتابه القديم، عن سعد القرظ قال: أَذّنّا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقباء، وفي زمن عمر بالمدينة، فكان أذاننا للصبح لوقت واحد في الشتاء، لسبع ونصف يبقى، وفي الصيف لسبع يبقى منه.

[والثاني]: يقدّم لسبع يبقى من الليل، من غير تفريق في ذلك بين الشتاء والصيف، ذكره البغويّ في "التهذيب".

[والثالث]: يدخل بذهاب وقت الاختيار للعشاء، وهو ثلث الليل، أو نصفه، وبهذا قال ابن حبيب صاحب مالك.

[والرابع]: وقته النصف الأخير من الليل، ولا يجوز قبله، وصححه النوويّ، وبه قال أبو يوسف، وحكاه ابن قدامة في "المغني" عن بعض أصحابهم، ثم قال: وقد روى الأثرم عن أبي جابر، قال: كان مؤذن مسجد دمشق يؤذن لصلاة الصبح في السحر بقدر ما يسير الراكب ستة أميال، فلا ينكر ذلك مكحول، ولا يقول فيه شيئًا.

[والخامس]: جميع الليل وقت له، وهذا شاذّ.

[والسادس]: أنه إنما يدخل وقته في السحر قبيل الفجر، وعليه يدل قوله في الحديث:"ولم يكن بينهما إلا قدر ما ينزل هذا، ويرقى هذا"، واختاره الشيخ الإمام تقي الدين السبكيّ، وحكاه عن القاضي حسين، والبغويّ، وبه قال ابن حزم، كما تقدم كلامه في ذلك، وابن عبد البرّ، وإليه يميل كلام ابن قدامة في "المغني"، قال وليّ الدين: فهذه الأوجه الستة في مذهبنا، وبعضها في غير مذهبنا، كما حكيته فيما تقدم.

وفي المسألة مذهب سابع، أنه يدخل وقت الأذان لها لسدس يبقى من الليل، وهو المشهور عند المالكية، ووجّهوه بأنه الوقت الذي يمكن الجنب، والمعتصر، والمتوضئ، والمتأهب لذلك كله من أمره، ويخرج إلى الجماعة، فجعلوه تقديرًا لذلك كله.

[فإن قلت]: وفي المسألة مذهب ثامن، أنه يؤذن لها عند انقضاء صلاة العتمة، وهو عند المالكية.

ص: 524

[قلت]: قد فَسَّره الحاكي له، وهو القاضي أبو بكر ابن العربيّ بأن المراد العتمة التي تصلى في آخر وقتها، وهو نصف الليل، أو ثلثه، فعاد هذا إلى المذهب الثالث، وهو قول ابن حبيب، كما قدمته، فليس مذهبا زائدًا على ما تقدم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن القول الراجح في المسألة هو القول السادس، كما اختاره المحقّقون؛ لأنه الذي يوافق الحديث، وأما سائر الأقوال، فلا أثارة عليها من الأدلّة النقليّة، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2537]

(

) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِن بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتى تَسْمَعُوا أَذَانَ

(2)

ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](3 أو 244)(م ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصرفي، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 14/ 3.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 207 - 208.

(2)

وفي نسخة: "تأذين".

ص: 525

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2538]

(

) - (حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَبِي، حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُؤَذن ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا، وَيَرْقَى هَذَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب الْعُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5] مات سنة بضع (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

و"ابن عمر" رضي الله عنهما ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا، وَيرْقَى هَذَا) قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه أن بلالًا رضي الله عنه كان يؤذن قبل الفجر، ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يراقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل، فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها، ثم يَرْقَى، وَيشْرَع في الأذان، مع أول طلوع الفجر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ سيأتي في التنبيه التالي تعقّب الحافظ له، وترجيح كون الأذان وقت السحور، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

شرح النوويّ" 7/ 203 - 204.

ص: 526

[تنبيه]: أشار الحافظ رحمه الله في "الفتح" أن قوله: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل

إلخ " في حديث ابن عمر مدرج، وإنما هو في حديث عائشة رضي الله عنها من رواية القاسم عنها، ودونك نصّه:

قوله: "حتى يؤذن" في رواية الكشميهنيّ: "حتى ينادي"، وقد أورده في "الصيام " بلفظ:"يؤذن"، وزاد في آخره:"فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، قال القاسم: لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا"، وفي هذا تقييدٌ لِمَا أَطْلَق في الروايات الأخرى من قوله: إن بلالًا يؤذِّن بليل"، ولا يقال: إنه مرسلٌ؛ لأن القاسم تابعيّ، فلم يدرك القصة المذكورة؛ لأنه ثبتٌ عند النسائيّ، من رواية حفص بن غياث، وعند الطحاويّ من رواية يحيى القطان، كلاهما عن عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، فذكر الحديث، قالت: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا، وَيصْعَد هذا"، وعلى هذا فمعنى قوله في رواية البخاريّ: قال القاسم؛ أي في روايته عن عائشة رضي الله عنها.

وقد وقع عند مسلم في رواية ابن نُمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مثل هذه الزيادة، وفيها نظر، أوضحته في كتاب "المدرج".

قال: وثبتت الزيادة أيضًا في حديث أُنيسة

(1)

. انتهى.

وقال وليّ الدين رحمه الله عند ذكر والده حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "وزاد: قالت: ولا أعلمه إلا إن كان قدر ما ينزل هذا، وبرقى هذا"- ما نصّه: هذه الرواية التي رواها الشيخ رحمه الله من "مسند أحمد" صريحة في أن القائل: "ولا أعلمه إلا كان قدر ما ينزل هذا ويرقى هذا" راوبة الحديث عائشة رضي الله عنها، فإن فيها "قالت لا، لكن في "صحيح البخاريّ " في "كتاب الصيام": قال القاسم:

(1)

حديث أنيسة هو ما أخرجه ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"(252/ 8):

3474 -

أخبرنا أبو يعلى، قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقيّ، قال: حدّثنا هشيم، قال: حدّثنا منصور بن زاذان، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أنيسة بنت حبيب، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أذّن ابن أم مكتوم فكلوا، واشربوا، وإذا أذّن بلال، فلا تأكلوا، ولا تشربوا"، فإن كانت الواحدة منا ليبقى عليها الشيء من سحورها، فتقول لبلال: أمهل حتى أَفْرُغ من سحوري. انتهى.

ص: 527

"ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا"، فكان شيخنا الإمام سراج الدين البلقينيّ رحمه الله يعتمد هذه الرواية، ويجعل هذا الكلام في غيرها مدرجًا، وفيه نظر؛ لأن في رواية أحمد التصريح بأنه من قول عائشة، ففيها زيادة علم يجب الأخذ بها، والظاهر أن قول البخاريّ: قال القاسم؛ أي في روايته عن عائشة، وذلك لأنه روى الحديث المذكور من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، ومن طريق القاسم بن محمد، عن عائشة، ثم بَيَّن أن هذه الزيادة في رواية القاسم؛ أي عن عائشة، وليست في حديث ابن عمر؛ لأنه أَبُوأطلق ذكرها لتُوُفم أنها في الإسنادين معًا، ولم يُرِدْ بذلك أن القاسم قالها من عند نفسه، بدليل رواية أحمد التي ذكرتها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]

(2)

: قال في "الفتح": وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الوقت الذي يقع فيه الأذان قبل الفجر، هو وقت السحور، وهو أحد الأوجه في مذهب الشافعيّ، واختاره السبكيّ في"شرح المنهاج"، وحَكَى تصحيحه عن القاضي حسين، والمتولي، وقطع به البغويّ، وكلام ابن دقيق العيد يُشعِر به، فإنه قال بعد أن حكاه: يرجح هذا بأن قوله: "إن بلالًا ينادي بليل" خبر يتعلق به فائدة للسامعين قطعاً، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبهاً محتَمِلاً لأن يكون عند طلوع الفجر، فَبَيَّن صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب، بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصادق، قال: وهذا يدلّ على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. انتهى.

ويقويه أيضًا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التاهبُ لإدراك الصبح في أول وقتها، وصَحَّح النوويّ في أكثر كتبه أن مبدأه من نصف الليل الثاني، وأجاب عن الحديث في شرح مسلم، فقالْ قال العلماء: معناه أن بلالًا كان يؤذِّن ويتربَّص بعد أذانه للدعاء ونحوه، فإذا قارب طلوع الفجر نزل، فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهب بالطهارة وغيرها، ثم يَرْقَى، وَيشْرَع في الأذان مع أول

(1)

"طرح التثريب" 2/ 208 - 209.

(2)

هذا التنبيه قد تقدّم معناه في المسألة السادسة الماضية في الحديث السابق، إلا أن فيه زيادة فائدة، لذا أعدته هنا، فتنبّه.

ص: 528

طلوع الفجر، وهذا مع وضوح مخالفته لسياق الحديث يحتاج إلى دليل خاصّ لما صححه حتى يسوغ له التأويل، ووراء ذلك أقوال أخرى معروفة في الفقهيات.

واحتجّ الطحاويّ لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله: لَضا كان بين أذانيهما من القرب ما ذُكِر في حديث عائشة ثبتٌ أنهما كانا يقصدان وقتًا واحدًا، وهو طلوع الفجر، فيخطئه بلالٌ، ويصيبه ابن أم مكتوم.

وتُعُقِّب بانه أَبُو كان كذلك لَمَا أقره النبيّ صلى الله عليه وسلم مؤذنًا، واعتمد عليه، ولو كان كما ادَّعَى لكان وقوع ذلك منه نادرًا، وظاهر حديث ابن عمر يدل على أن ذلك كان شأنه وعادته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: أخرج البخاريّ في "صحيحه" حديب الباب من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، فقال:

585 -

حدّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا، واشربوا، حتى ينادي ابن أم مكتوم". انتهى. قال في "الفتح": قال ابن منده: حديث عبد الله بن دينار مُجْمَع على صحته، رواه جماعة من أصحابه عنه، ورواه عنه شعبة، فاختُلِف عليه فيه، رواه يزيد بن هارون عنه على الشكّ: "أن بلالًا

" كما هو المشهور، أو: "أن ابن أم مكتوم ينادي بليل، فكلوا، واشربوا، حتى يؤذن بلالٌ"، قال: ولشعبة فيه إسناد آخر، فإنه رواه أيضًا عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أُنيسة، فذكره على الشكّ أيضًا، أخرجه أحمد، عن غندر عنه، ورواه أبو داود الطيالسي عنه جازمًا بالأول، ورواه أبو الوليد عنه جازمًا بالثاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان من طُرُق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاويّ، والطبرانيّ من طريق منصور بن زاذان، عن خُبيب بن عبد الرحمن، وادَّعَى ابن عبد البرّ، وجماعة من الأئمة بأنه مقلوب، وأن الصواب حديث

(1)

"الفتح" 2/ 438 - 439.

ص: 529

الباب، قال الحافظ: وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في "صحيح ابن خزيمة" من طريقين آخرين عن عائشة، وفي بعض ألفاظه ما يُبعد وقوع الوهم فيه، وهو قوله:"إذا أذّن عَمْرو، فإنه ضرير البصر، فلا يغُرّنّكم، وإذا أذن بلال فلا يَطْعَمَنّ أحدٌ"، وأخرجه أحمد، وجاء عن عائشة أيضًا أنها كانت تُنكر حديث ابن عمر، وتقول: إنه غلطٌ، أخرج ذلك البيهقيّ من طريق الدراورديّ، عن هشام، عن أبيه، عنها، فذكر الحديث، وزاد: قالت عائشة: وكان بلال يُبصر الفجر، قال: وكانت عائشة تقول: غَلِطَ ابن عمر. انتهى.

وقد جمع ابن خزيمة، والضبعيّ

(1)

بين الحديثين بما حاصله أنه يَحْتَمِل أن يكون الأذان كان نُوَبًا

(2)

بين بلال وابن أم مكتوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس أن أذان الأول منهما لا يُحَزم على الصائم شيئًا، ولا يدل على دخول وقت الصلاة، بخلاف الثاني، وجزم ابن حبان بذلك، ولم يبده احتمالاً، وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره، وقيل: لم يكن نُوَبًا، وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان، فإن بلالًا كان في أول ما شُرع الأذان يؤذن وحده، ولا يؤذن للصبح حتى يطلع الفجر، وعلى ذلك تُحمل رواية عروة عن امرأة من بني النجار، قالت: كان بلال يجلس على بيتي، وهو أعلى بيت في المدينة، فإذا رأى الفجر تمطأ، ثم أَذَنَ، أخرجه أبو داود، وإسناده حسن، ورواية حميد عن أنس: "أن سائلاً سأل عن وقت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا، فأذن حين طلع الفجر

" الحديث، أخرجه النسائيّ، وإسناده صحيح، ثم أردف بابن أم مكتوم، وكان يؤذن بليل، واستمرّ بلال على حالته الأولى، وعلى ذلك تُنَزل رواية أنيسة وغيرها، ثم في آخر الأمر أخّر ابن أم مكتوم؛ لضعفه، ووكل به مُن يراير له الفجر، واستقرّ أذان بلال بليل، وكان سبب ذلك ما رُوي أنه ربما كان أخطأ الفجر، فأذن قبل طلوعه، وأنه أخطأ مرّةً، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع، فيقول: "ألا إن العبد نام"؛ يعني أن كلبة النوم على عينيه منعته من تبيّن

(1)

هكذا النسخة بالضاد المعجمة، ولعل الصواب:"الصبغيّ" بالصاد المهملة، فليُحرّر.

(2)

"النُّوَب" بضم، ففتح: جمع نَوْبَة، بفتح، فسكون، كقَرْية، وقُرَى، قاله في "المصباح".

ص: 530

الفجر، وهو حديث أخرجه أبو داود وغيره، من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر موصولًا مرفوعًا، ورجاله ثقات حفّاظ، لكن اتفق أئمة الحديث: عليّ ابن المدينيّ، وأحمد بن حنبل، والبخاريّ، والذهليّ، وأبو حا تم، وأبو داود، والترمذيّ، والأثرم، والدارقطنيّ على أن حمادًا أخطا في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه، وأن حمادًا انفرد برفعه، ومع ذلك فقد وُجد له متابع، أخرجه البيهقيّ من طريق سعيد بن زَرْبِيّ، وهو بفتح الزاي، وسكون الراء، بعدها موحدة، ثم ياء، كياء النسب، فرواه عن أيوب موصولًا، لكن سعيد ضعيف، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب أيضًا، لكنه أعضله، فلم يذكر نافعاً، ولا ابن عمر، وله طريق أخرى، عن نافع، عند الدارقطنيّ وغيره، اختُلِف في رفعها ووقفها أيضًا، وأخرى مرسلة، من طريق يونس بن عبيد وغيره، عن حميد بن هلال، وأخرى من طريق سعيد، عن قتادة مرسلة، ووصلها يونس، عن سعيد بذكر أنس، وهذه طُرُق يقوي بعضها بعضًا قُوّةً ظاهرةً، فلهذا -والله أعلم- استقرّ أن بلالًا يؤذن الأذان الأول. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقوية الحافظ بهذه الطرق الضعيفة لما حكم عليه الأئمة المذكورون بالخطأ فيه نظرٌ لا يخفى، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: رَوَى ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا، حتى يؤذن بلال"، وللنسائي من حديث أنيسة بنت خبيب:"إذا أذن ابن أم مكتوم، فكلوا، واشربوا، وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا"، وهاتان الروايتان معارضتان للرواية المشهورة، فقال ابن عبد البرّ: إن المحفوظ، والصواب الأول، وقال ابن خزيمة: يجوز أن يكون بينهما نُوَث، وجزم به ابن حبان في الجمع بينهما، ونظير هاتين الروايتين في المعارضة ما في "سنن أبي داودأ عن بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تؤذن حتى يستبين لك

(1)

"الفتح" 2/ 433 - 434.

ص: 531

الفجر، هكذا ومَدّ يديه عرضًا"، لكنه من رواية شداد، مولى عياض بن عامر عنه، وقد قال أبو داود وغيره: إنه لم يدرك بلالًا، وأيضًا فلم يرو عنه سوى جعفر بن بُرْقان، ولذلك قال أبو بكر الأثرم: هذا إسناد مجهول منقطع، وقال ابن عبد البرّ: هذا حديث لا تقوم به الحجة، ولا يُقْبَل؛ لضعفه، وانقطاعه. انتهى. وبتقدير صحته فالجواب عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام لبلال في نوبته التي كان يتأخر فيها أذانه، ويتقدم فيها أذان ابن أم مكتوم، فإنه كانت بينهما نُوَب كما تقدم، ويَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم قال له هذا الكلام في أول الأمر، قبل أن يُنصَب للمسجد مؤذنان، وتقدم عن ابن القطان حَمْلُ أذان بلال بليل على رمضان خاصّة، وتقدم عن أحمد بن حنبل أنه عكس ذلك، فكره الأذان قبل الصبح في رمضان خاصة، فيجعل الجمع بين الحديثين بِحمل أحدهما على رمضان، والآخر على غيره، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى هذا الجواب المتكلّف فيه؛ لأن الحديث ضعيف، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المنّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2539]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْقَاسِمُ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية فاضل، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

2 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

"طرح التثريب" 2/ 209 - 210.

ص: 532

[تنبيه]: رواية عبيد الله، عن القاسم هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال: وحدّثني يوسف بن عيسى المروزيّ، قال: حدّثنا الفضل بن موسى، قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبيّ-صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا، حتى يؤذن ابن أم مكتوم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2540]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِالاسْنَادَيْنِ كلَيْهِمَا، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

2 -

(إِسْحَاقُ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.

4 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم قبل باب.

5 -

(حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ) التيميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 202)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) أي كلّ هؤلاء الثلاثة: أبو أسامة، وعبدة بن سليمان، وحمّاد بن مسعدة رووه عن عبيد الله بن عمر العمريّ، مثل رواية عبد الله بن نمير عنه.

ص: 533

وقوله: (بِالإسْنَادَيْنِ كلَيْهِمَا) بالجرّ على التأكيد، والمراد إسناد عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه، وإسناده عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ) يعني أن رواية هؤلاء الثلاثة بالإسنادين المذكورين نحو رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله بن عمر العمريّ بهما جميعًا.

[تنبيه]: أما رواية أبي أسامة، عن عبيد الله، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (4/ 218) فقال:

7812 -

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن منصور، ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وعن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالًا يؤذنْ بليل، فكلوا، واشربوا، حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". انتهى.

وأما رواية عبدة بن سليمان، عن عبيد الله، فقد ساقها الدارمي رحمه الله في "سننه " (1/ 288) فقال:

1191 -

أخبرنا إسحاق، ثنا عبدة، أنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عُمَر، وعن القاسم، عن عائشة، قالت: كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا، حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم"، فقال القاسم: وما كان بينهما إلا أن ينزل هذا، ويرقى هذا. انتهى.

وأما رواية حفاد بن مسعدة، عن عبيد الله، فقد ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" (221/ 1) فقال:

424 -

أخبرنا بندار، نا حماد بن مسعدة، نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا، حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، قال عبيد الله: وسمعت القاسم يحدث بذلك، عن عائشة رضي الله عنها قالت: وإنما كان بينهما قدر ما ينزل هذا، ويصعد هذا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 534

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2541]

(1093) - (حَدَّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَن سُلَيْمَانَ التيمِيِّ، عَن أَبي عُثْمَانَ، عَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ - أَوْ قَالَ: نِدَاءُ بِلَالٍ -مِنْ سُحُورهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ- أَوْ قَالَ: يُنَادِي- بِلَيْلٍ؛ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ، وَقَالَ: لَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَصَوَّبَ يَدَهُ وَرَفَعَهَا، حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا"، وَفَرَّجَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 2.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 2.

3 -

(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طَرْخان أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن (97) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن مِلّ بن عمرو النَّهْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثم البصريّ، مخضرم ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [2](ت هـ 9) أو بعدها وهو ابن (130) أو أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

5 -

(ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (32) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو من السابقين الأولين، ومن الراسخين في العلم، وممن شهد له النبيّ صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن كما أُنزل غضًّا طريًّا، والله تعالى أعلم.

ص: 535

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) النهديّ، وفي رواية ابن خزيمة، من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثنا أبو عثمان، قال الحافظ رحمه الله: ولم أر هذا الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في شيء من الطرق إلا من رواية أبي عثمان عنه، ولا من رواية أبي عثمان، إلا من رواية سليمان التيميّ عنه، واشتهر عن سليمان، وله شاهد في "صحيح مسلم"

(1)

من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه انتهى

(2)

.

(عَن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهية (يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ) بنصب أحدًا على المفعوليّة، وفاعله "أذانُ بلال"، وفي رواية البخاريّ:"أحدكم، أو أحدًا منكم" بالشك من الراوي، وكلاهما يفيد العموم، وإن اختلفت الحيثية، قاله في "الفتح".

قوله: (أَذَانُ بِلَالٍ -أَوْ) للشكّ من الراوي، ولم يتبيّن لي من هو؟ (قَالَ: نِدَاءٌ بِلَالٍ - مِنْ سُحُورهِ) بضمّ السين اسم للأكل وقت السحر، وَيحْتَمِل أن يكون بفتحها، اسم للمأكول وقت السحر، فيكون على حذف مضاف؛ أي من أكل سَحُوره.

قال في "اللسان": السَّحُور -أي بالفتح-: طعام السَّحَر، وشرابه، قال الأزهريّ: السَّحُور: ما يُتسحّر به وقت السَّحَر، من طعام، أو لبن، أو سَوِيق، وُضع اسمًا لما يُؤكل ذلك الوقتَ، وقد تسحّر الرجل ذلك الطعام؛ أي أكله، وقد تكرّر ذكر السّحور في الحديث في غير موضع، قال ابن الأثير: هو بالفتح اسم ما يُتسحّر به، من الطعام والشراب، وبالضمّ المصدر، والفعل نفسه، وأكثر ما روي بالفتح، وقيل: الصواب بالضمّ لأنه بالفتح الطعام، والبركة، والأجر والثواب في الفعل، لا في الطعام، وتسحّر: أكل السَّحُور. انتهى.

وفي "المصباح": السَّحَر -بفتحتين-: قُبيل الصح، وبضمتين -لغةٌ، والجمع أَسْحار، والسَّحُور وِزان رَسُول: ما يؤكل في ذلك الوقت، وتسحّرتُ: أكلت السَّحُور، والسُّحُور بالضمّ فعل الفاعل. انتهى، والله تعالى أعلم.

(فَإِنَّهُ) أي لأن بلالًا، فالفاء للتعليل (يُؤَذِّنُ -أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ:

(1)

هو الحديث الآتي بعد حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا.

(2)

"الفتح" 2/ 436.

ص: 536

يُنَادِي-) هو بمعنى "يؤذّن"(بِلَيْلٍ) الباء بمعنى "في"(لِيَرْجِعَ) بفتح الياء، وكسر الجيم المخففة، يُستعمل هذا لازمًا ومتعديًا، تقول: رجع زيدٌ، ورجعتُ زيدًا، قال الله تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة: 83]، وهنا متعدّ وفاعله ضمير بلال، وقوله:(قَائِمَكُمْ) بالنصب على المفعوليّة، ومعناه أنه إنما يؤذن بليل؛ ليعلمكم بأن الفجر ليس ببعيد، فيَرُدَّ القائمَ المتهجِّدَ إلى راحته؛ لينام غَفْوَةً؛ ليصبح نشيطًا، أو يوتر إن لم يكن أوتر، أو يكون له حاجة إلى الصيام، فيتسحر، أو يتأهب للصبح إن أحتاج إلى طهارة أخرى، أو نحو ذلك من مصالحه المترتبة على علمه بقرب الصبح، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال الكرمانيّ رحمه الله: قوله: "ليرجع"، إما من الرجوع، وإما من الرجع، و"قائمكم" مرفوع، أو منصوب

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الكرمانيّ رحمه الله أنه يرى جَوَاز الوجهين هنا: أحدهما كون "ليرجع" لازمًا، ويكون "قائمُكم" فاعله مرفوعًا، والآخر يكون متعدياً، ويكون "قائمَكم" منصوبًا على أنه مفعول له، وهذا إن ساعدته الرواية فحسن، وإلا فما صحّت به الرواية، وهو كونه متعدّيًا هو المتعيّن، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": لا يقال "لِيُرَجِّعَ" في المتعدى بالتثقيل، فمن رواه بالضم والتثقيل أخطأ، فإنه يصير من الترجيع، وهو الترديد، وليس مرادنا هنا

(2)

، وإنما معناه يَرُدّ القائم، أى المتهجد إلى راحته؛ ليقوم إلى صلاة الصبح، نشيطاً، أو يكون له حاجة إلى الصيام فيتسحر، ويوقظ النائم؛ ليتأهب لها بالغسل ونحوه.

قال: وتمسك الطحاويّ بحديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا لمذهبه، فقال: فقد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذُكِر لا للصلاة.

(1)

راجع: "عمدة القاري" 5/ 134.

(2)

تعقّبه العينيّ، فقال: إن كان خطؤه من جهة الرواية، فيمكن، وإلَّا فمن جهة المعنى فليس بخطأ، وتعليله الخطأ بقوله: فإنه يصير من الترجيع، وهو الترديد، وليس بمراد هنا، فيه نظر؛ لأن الذي رَوَى من الترجيع له أن يقول: ما أردت به الترديد، وإنما أردت به التعدية، فإنَّ "رجع" الذي هو لازم يجوز تعديته بالتضعيف كما في سائر الألفاظ اللازمة. انتهى.

قال الجامع: ما قاله العيني رحمه الله وجيهٌ، فتأمله.

ص: 537

وتُعُقِّب بان قوله: "لا للصلاة" زيادة في الخبر، وليس فيه حصر فيما ذُكِر.

أفمان قيل،: تقدَّم في تعريف الأذان الشرعيّ أنه إعلام بدخول وقت الصلاة بالفاظ مخصوصة، والأذان قبل الوقت ليس إعلامًا بالوقت.

[فالجواب]: أن الإعلام بالوقت أعمّ من أن يكون إعلامًا بأنه دخل، أو قارب أن يدخل، دمانما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات؛ لأن الصلاة في أول وقتها مرغب فيه، والصبح يأتي غالبًا عقب نوم، فناسب أن يُنصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها؛ ليتأهبوا، ويدركوا فضيلة أول الوقت. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن الأذان الأول مشروع لما ذُكر في هذا الحديث من أنه ليرجع القائم، ويوقظ النائم، وفيه أنه لا بدّ من إعادة الأذان لصلاة الصبح بعد الوقت، كما هو الثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وأما القول بالاكتفاء بالأول، كما يقول به مالك، والشافعيّ، وأحمد وأصحابهم، كما عزاه إليهم في "الفتح"، ففيه نظر لا يخفى.

والحاصل أنه لا بدّ من الأذان بعد دخول الوقت، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ) من الإيقاظ، وهو التنبيه، وفي رواية البخاريّ:"وليُنَبّه نائمكم"، قال الكرمانيّ رحمه الله: و"لِيُنَبّه" من التنبيه، وهو الإنباه، وفي بعض الرواية:"ولينتبه" من الانتباه، قال: ومعناه أنه إنما يؤذن بالليل؛ لِيُعَلِّمكم أن الصبح قريب، فَيَرُدّ القائم المتهجد إلى راحته؛ لينام لحظة ليصبح نشيطاً، ويوقظ نائمكم ليتأهب للصبح بفعل ما أراده، من تهجد قليل، أو تسحّر، أو اغتسال، أو إيتار إن كان نام عن الوتر.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لَيْسَ أَنْ يَقُولَ) وفيه إطلاق القول على الفعل؛ أي ليس أن يَظْهَر الفجر.

[تنبيه]: يَحْتَمل أن يكون اسم "ليس" ضميرًا يعود إلى الفجر المفهوم، و"أن يقول" خبرها؛ أي ليس الفجر ظهورَهَ هكذا، وَيحْتَمِل أنه اسمها، وخبرها محذوف؛ أي ليس ظهورُ الفجر هكذا مانعًا من الأكل، والله تعالى أعلم.

وقوله: (هَكَذَا وَهَكَذَا) إشارة إلى أسفل، وإلى أعلى، كما أوضحه بقوله:

(1)

"الفتح" 2/ 436 - 437.

ص: 538

(وَصَوَّبَ يَدَهُ) أي أمالها إلى أسفل، يقال: صوّبتُ الإناءَ: إذا أملته، وصوّبت رأسي: إذا خفضته

(1)

. (وَرَفَعَهَا) أي رفع يده إلى السماء.

(حَتى يَقُولَ) أي يظهر الفجر (هَكَذَا"، وَفَرَّجَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ) بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة أفصح لغاتها؛ إذ فيها عشر لغات: فتح الهمزة، وضمها، وكسرها، وكذلك الباء الموحّدة، فهذه تسع لغات، والعاشر أصبوع، بوزن عُصْفُور.

والمراد بالإصبعين هما السبّابتان، كما بيّنته الروايات الأخرى، ففي التالية:"إن الفجر ليس الذي يقول هكذا، وجمع بين أصابعه، ثم نكّسها إلى الأرض، ولكن الذي يقول هكذا، ووضع الْمُسَبِّحة على المسبّحة، ومدّ يديه"؛ أي مدّ يمينه إلى جهة اليمين، ومدّ شماله إلى جهة الشمال؛ إشارة إلى انتشار الصبح الصادق في أفق المشرق.

وفي الرواية الأخرى: "هو المعترض، وليس بالمستطيل"، وفي الأخرى:"لا يغرّنّكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا"، قال الراوي: يعني معترضًا.

قال النوويّ+إللهُ: وفي هذه الأحاديث بيان الفجر الذي تتعلّق به الأحكام، وهو الفجر الثاني الصادق المستطير بالراء، وفيها أيضًا الإيضاح في البيان، والإشارة؛ لزيادة البيان في التعليم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن الفجر الأول يطلُع في السماء، ثم يرتفع طرَفه الأعلى، وينخفض طرفه الأسفل، وقد بيّن هذا بقوله:"ولا بياض الأفق المستطيل"؛ يعني الذي يطلع طويلاً، فهذا البياض هو المسمَّى بالفجر الكاذب، وشُبّه بذنب السَّرْحان، وهو الذئب، وسُمّي به، وهذا الفجر لا يتعلّق عليه حكم، لا من الصيام، ولا من الصلاة، ولا من غيرهما، وأما الفجر الصادق، فهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث وضع المسبِّحة على المسبِّحة، ومدّ يديه، وهو إشارة إلى أنه يطلع معترضًا، ثمّ يعمّ الأفق ذاهبًا فيه عرضًا، ويستطير؛ أي ينتشر. انتهى

(3)

.

وفي رواية البخاريّ: "وليس أن يقول الفجر، أو الصبح، وقال بأصابعه،

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 350 - 351.

(2)

"شرح النوويّ " 7/ 205.

(3)

"المفهم" 3/ 153 - 154.

ص: 539

ورفعها إلى فوقُ، وطأطأها إلى أسفلُ، حتى يقول هكذا"، وقال زهير: "بسبّابتيه، إحداهما فوق الأخرى، ثمّ مدّها عن يمينه وشماله".

وقوله: "إلى فوقُ" بالضم على البناء، وكذا "أسفلُ "؛ لنية المضاف إليه دون لفظه، نحو:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم؛ 4]، وقوله: وقال زهير؛ أي الراوي، وكأنه جمع بين إصبعيه ثم فرّقهما ليحكي صفة الفجر الصادق؛ لأنه يطلع معترضًا، ثم يعم الأفق ذاهبًا يمينًا وشمالًا، بخلاف الفجر الكاذب، وهو الذي تسميه العرب ذنب السِّرْحان، فإنه يظهر في أعلى السماء، ثم ينخفض، وإلى ذلك أشار بقوله:"رفع وطأطأ"، وفي رواية الإسماعيلي من طريق عيسى بن يونس، عن سليمان:"فإن الفجر ليس هكذا، ولا هكذا، ولكن الفجر هكذالا، فكأن أصل الحديث كان بهذا اللفظ مقرونًا بالإشارة الدالة على المراد، وبهذا اختلفت عبارة الرواة، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": قوله: "وليس أن يقول هكذا" أشار به النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الفجر الكاذب، وهو الضوء المستطيل من العلو إلى السفل، وهو من الليل، ولا يدخل به وقت الصبح، ويجوز فيه التسحر ونحوه.

وقوله: "حتى يقول هكذا

إلخ " إشارة إلى الصبح الصادق، وقد فسّر زهير الراوي الصادق بقوله: "بسبابتيه إلى آخره". انتهى، والفه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2541 و 2542 و 2543](1093)، و (البخاريّ) في "الأذان"(621) و"الطلاق"(5298) و"أخبار الآحاد"(7247)، و (أبو داود) في "الصوم"(2347)، و (النسائيّ) في "الأذان"(2/ 11) و"الصيام"(4/ 148)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1696)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 46)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 9)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 386 و 392 و 435)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1928 و 402)، و (ابن

ص: 540

حبّان) في "صحيحه"(3468)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 253)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(382)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 311 و 2/ 185)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 169)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 381 و 4/ 218)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 256)، والله تعالى أعلم.

وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2542]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، يَعْنِي الْأَحْمَرَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ اَّلذِي يَقُولُ هَكَذَا" -وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ نَكَسَهَا إِلَى الْأَرْضِ- وَلَكِنْ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا"، وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَةَ عَلَى الْمُسَبِّحَةِ، وَمَدَّ يَدَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمير المذكور قبل حديث.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع و (70) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

و (سليمان التيمي) ذُكر قبله.

وقوله: (غَيْرَ أنَّهُ قَالَ) الضمير لأبي خالد الأحمر.

وقوله: (إِنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا) أي يظهر، فالقول أريد به معنى الظهور.

وقوله: (وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ) أي جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم أصابعه؛ إشارة إلى الفجر الكاذب.

وقوله: (ثُمَّ نَكَسَهَا إِلَى الْأَرْضِ) بفتح النون، والكاف، مخفّفًا، يقال: نكسته نَكْسًا، من باب نصر: قلبته، ومنه قيل: وَلَدٌ منكوسٌ: إذا خرج رجلاه قبل رأسه؛ لأنه مقلوبٌ مخالف للعادة

(1)

.

وقوله: (وَوَضَعَ الْمُسَبَّحَةَ

إلخ) بصيغة اسم الفاعل، هي الإصبع التي

(1)

"المصباح المنير" 2/ 625.

ص: 541

تلي الإبهام، سُمّيت بذلك؛ لأنها كالذاكرة حين الإشارة بها إلى إثبات الإلهيّة، وتسمّى أيضًا سَبّابةً؛ لأنها يشار بها عند السبّ، أفاده الفيّومىّ

(1)

.

وقوله: (وَمَدَّ يَدَيْهِ) أي يمينًا وشمالًا.

[تنبيه]: رواية أبي خالد الأحمر، عن سليمان التيميّ هذه لم أر من ساقها تامّةً، فليُنظر.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم الكلام فيه مستوفًى قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2543]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، وَالْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَانْتَهَى حَدِيثُ الْمُعْتَمِرِ عِنْدَ قَوْيهِ:"يُنَبِّهُ نَائِمَكُمْ، ويَرْجِعُ قَائِمَكُمْ"، وقَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ جَرِيرٌ فِي حَدِيثِهِ: "وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا، وَلَكِنْ يَقُولُ هَكَذَا"، يَعْني الْفَجْرَ هُوَ الْمُعْتَرِضُ، وَلَيْسَ بِالْمُسْتَطِيلِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب، و (إسحاق بن إبراهيم) هو: ابن راهويه.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ) أي كِلا جرير، والمعتمر.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن سليمان التيميّ، ساقها البيهقيّ رحمه الله في "معرفة السنن والآثار" (3/ 365) فقال:

2469 -

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم، قال: حدّثنا أحمد بن سلمة، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا جرير والمعتمر بن سليمان، عن سليمان التيميّ، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعنّ أحد منكم أذان بلال من سحوره،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 262 - 263.

ص: 542

فإنما ينادي ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم"، قال جرير في حديثه: "وليس أن يقول هكذا، ولكن يقول هكذا، الفجر هو المعترض، وليس بالمستطيل". انتهى.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنّفه" رواية المعتمر خاصّةَ (2/ 275) فقال: 8924 - حدّثنا مُعْتَمِرُ بن سُلَيْمَانَ، عن التَّيْمِيِّ عن أبي عُثْمَانَ، عن عبد اللهِ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يمنعنّ أَحَدَكُمْ أذان بِلَالٍ من سَحُورِهِ، فإنه يُنَادِي، أو يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَيُنَبِّهُ نَائِمَكُمْ، ويَرْجِعُ قَائِمَكُمْ". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاجِ رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2544]

(1094) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيِّ، حَدَّثَنِي وَالِدِي، أَنَّهُ سَمِعَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَغُرَّن أَحَدَكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ مِنَ السَّحُورِ، وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ، حَتَّى يَسْتَطِيرَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 6 أوه 23) وله نيّف و (90) سنةَ (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذَكْوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبُت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيُّ) هو: عبد الله بن سَوَادة بن حَنْظلة القشيريّ البصريّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبيه، وأنس بن مالك الكعبيّ، وروى عنه أبو هلال الراسبيّ، ووهيب بن خالد، وعبد الوارث، وحماد بن زيد، وإسماعيل ابن عُلَيّة.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ.

تفرّد به المصنّف، والأربعة وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث كرره ثلاث مرات.

ص: 543

4 -

(أَبُوهُ) سَوَادة بن حَنْظلة القشيريّ البصريّ، صدوقٌ [2]

(1)

.

رأى عليًّا، ورَوَى عن سمرة بن جندب حديث: "لا يَغُرّنّكم أذان بلال

" الحديث، وروى عنه ابنه عبد الله، وشعبة، وأبو هلال الراسبيّ، وهمام، قال أبو حاتم: شيخٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: سمع من عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث كرّره أربع مرّات.

5 -

(سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبِ) بن هلال الْفَزَاريّ، حليف الأنصار الصحابيّ الشهير، مات بالبصرة سنة (58)(ع) تقدم في أالمقدمة" 1/ 1.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، فشيبان أُبُليّ، بصريّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن، عن أبيه، وتابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَوَادَةَ) بفتح السين المهملة، وتخفيف الواو (الْقُشَيْرِيِّ) بضمّ القاف نسبة إلى قُشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، قبيلة كبيرة، يُنسب إليها كثير من العلماء، قاله في "اللباب"

(2)

. (حَدَّثَنِي وَالِدِي) سوَادة بن حنظلة (أنَهُ سَمِعَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُب) رضي الله عنه، وفي الرواية التالية: "سمعت سمرة بن جُندب رحمه الله، وهو يخطبُ، يُحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

" (يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا) تقدّم أنها ناهية، والفعل مجزوم المحلّ بها؛ لكونه مبنيًّا؛ لاتصاله بنون التوكيد (يَغُرَّن أَحَدَكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ) أي أذانه (مِنَ السَّحُورِ) تقدّم أنه بالضمّ اسم للفعل، والفتح اسم للمأكول وقت السحر، وفي

(1)

جعله في "التقريب" من الطبقة الثالثة، والظاهر أنه من الثانية؛ لأنه سمع من علي رضي الله عنه، كما قاله ابن حبّان، فتامل.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 213.

ص: 544

الرواية الثالثة: "لا يغرّنكم من سحوركم أذان بلال"(وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ) وفي الرواية التالية: "ولا البياض -لعمود الصبح-"، وفي رواية:"ولا بياض الأفق المستطيلُ هكذا حتى يستطير هكذا" وحكاه حمّاد بيديه، قال: يعني معترضًا.

والمعنى: ولا يمنعكم البياض الذي يَصْعَد إلى السماء، وتسميه العرب ذَنَب السِّرْحان، وبطلوعه لا يدخل وقت الصبح، وهو الفجر الكاذب، يَطْلُع أوّلًا مستطيلًا إلى السماء، ثم يغيب، وبعد غيبوبته بزمان يسير يظهر الفجر الصادق، قيل: وفائدة ذكره بيان أن ما بعده من الليل، وأن بلالًا ربما أَذَّن بعده مع كونه كان يؤذن بليل، هكذا قيل، قال القاري: والأظهر أنه لما قال الله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} وهو مجملٌ بَيَّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن المراد به المستطير، لا المستطيل. انتهى

(1)

.

(حَتَّى يَسْتَطِيرَ") أي إلى أن ينتشر البياض في أفق المشرق، وفي رواية شعبة:"ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر، أو قال: حتى ينفجر الفجر"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سَمُرة بن جُندُب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 2544 و 2545 و 2546 و 2547 و 2548، (1094)، و (أبو داود) في "الصوم"(2346)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(706)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 148) و"الكبرى"(2/ 81)، و (أحمد) في "مسنده"(7/ 5 و 9 و 13 و 18)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1929)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 236)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 167)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 588)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 184)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 170) وفوائده تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 2/ 349.

ص: 545

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2545]

(

) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بْنُ سَوَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُب رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ -الِعَمُودِ الصُّبْحِ- حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة، وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (لِعَمُودِ الصُّبْحِ) أي قال هذا الكلام لأجل عمود الصبح؛ يعني أنه أشار بقوله: "هذا البياض " ما يظهر طولًا إلى وسط السماء، مثل العمود، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: ضرب الفجر بعموده: سطع، وهو المستطير. انتهى

(1)

.

وقوله: (حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا) إشارة إلى مدّ يديه بعد وضع المسبّحة على المسئحة، ثم مدّهما يمينًا وشمالًا.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى الكلام عليه مستوفًى في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2546]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزهْرَانيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، يَعْنِي ابْنَ زيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ سَوَادَةَ الْقُشَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا بَيَاضُ الْأفُقِ الْمُسْتَطِيلُ، هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا"، وَحَكَاهُ حَمَّادٌ بِيَدَيْهِ، قَالَ: يَعْني مُعْتَرِضًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الايمان" 23/ 190.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 428.

ص: 546

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) الْجَهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَلَا بَيَاضُ الْأققِ) بضمّتين: الناحية من الأرض، ومن السماء، وهو المراد هنا، والجمع آفاق.

وقوله: (الْمُسْتَطِيلُ هَكَذَا) برفع "المستطيلُ" على أنه صفة لـ "بياضُ"، والإشارة إلى الأعلى؛ أي الذي يضيء إلى أعلى السماء.

وقوله: (حَتى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا) أي حتى ينتشر ضوؤه عرضًا، فالإشارة إلى عرض الأُفُق، كما بيّنه حمّاد بِيَدَيْهِ، مشيرًا إلى اعتراضه في الأفق.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى الكلام عليه مستوفى قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2547]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَوَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ رضي الله عنه، وَهُوَ يَخْطُبُ، يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "لَا يَغُزَنَّكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ، وَلَا هَذَا الْبَيَاضُ، حَتَّى يَبْدُوَ الْفَجْرُ، أَوْ قَالَ: حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ الْعَنْبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (حَتَّى يَبْدُوَ الْفَجْرُ) أي حتى يظهر الفجر منتشرًا في أفق المطلع.

وقوله: (أَوْ قَالَ: حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ)"أو "للشكّ من الراوي، ويَحْتَمل أن يكون من شعبة، أو من دونه، ومعنى:"ينفجر" أي يظهر بوضوح، قال

ص: 547

الفيّوميّ رحمه الله: و"الفجر": اثنان: الأول الكاذب، وهو المستطيل، ويبدوأسود، معترضاً. والثاني: الصادق، وهو المستطير، ويبدو ساطعًا يملأ الأفق ببياضه، وهو عمود الصبح، ويطلع بعدما يغيب الأول، وبطلوعه يدخل النهار، وَيحْرُم على الصائم كلُّ ما يُفْطِر به. انتهى

(1)

، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى الكلام عليه مستوفًى قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2548]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي سَوَادَةُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْقُشَيْرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ هَذَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 73/ 6.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد" بعد إيراده سند المصنّف المذكور عن شيخه ابن المثنّى ما نصّه: وقع في نسخة ابن الحذاء: "وحدّثنا ابن نُمير، نا أبو داود، نا شعبة"، جعل "ابنَ نُمير" بدل "ابن المثنّى"، والصواب "ابنُ المثنّى"، وكذلك رواه أبو أحمد الْجُلُوديّ وغيره. انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: رواية أبي داود الطيالسيّ، عن شعبة، هذه ساقها النسائيّ في "الصيام " (7/ 344) فقال:

2171 -

أخبرنا محمود بن غيلان، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، أنبأنا سَوَادة بن حنظلة، قال: سمعت سمرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 462.

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 836.

ص: 548

"لا يغرنّكم أذان بلال، ولا هذا البياض، حتى ينفجر الفجر هكذا وهكذا"؛ يعني معترضاً، قال أبو داود: وبسط بيديه يمينًا وشمالًا، مادًّا يديه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابُ فَضْلِ السُّحُورِ، وَتَأَكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ، وَاسْتِحْبَابِ تَأَخِيرِهِ، وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2549]

(1095) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أنسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، عَن ابْنِ عُلَيَّةً، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا أَبو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبِ، عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَة").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بشير بن القاسم بن دينار السّلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب (80)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ البزّاز الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ يُدلّس، رأس [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

4 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنَانيّ البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

ص: 549

5 -

(أنسُ) بن مالك بن النضر الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (2 أو 93)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

والباقون كلّهم تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (158) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة أسانيد، فرّقها بالتحويل؛ للاختلاف في كيفيّة التحمّل والأداء، كما أوضحته غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، وأعظمها خدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، خدَمه عشر سنين، وهو من المكثرين السبعة، ومن المعفرين، فقد جاوز المائة، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة.

شرح الحديث:

(عَنْ أنسِ) بن مالك رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَسَحَّرُوا،) أي كلوا وقت السَّحَر (فَإِن فِي السُّحُورِ بَرَكَةً") الفاء للتعليل؛ لأن في السحور بركة، قال في "الفتح":"السحور": بفتح السين وضمها؛ لأن المراد بالبركة الأجر والثواب، فيناسب الضمّ؛ لأنه مصدر بمعنى التسحّر، أو البركة؛ لكونه يقوّي على الصوم، ويُنَشّطُ له، ويخفّف المشقّة فيه، فيناسب الفتح؛ لأنه ما يتسحّر به، وقيل: البركة ما يتضمّن من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعدّدة، وهي اتباع السنّة، ومخالفة أهل الكتاب، والتّقَوّي على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يُثيره الجوع، والتسبّب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنّة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: هذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية، فإن إقامة السنّة يوجب الأجر وزيادته، وَيحْتَمِل أن تعود إلى الأمور الدنيوية؛ كقوّة البدن على الصوم، وتيسيره من غير إضرار بالصائم، قال: ومما يُعلَّل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب؛ لأنه ممتنع عندهم، وهذا

ص: 550

أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخرويّة. وقال أيضًا: وقع للمتصوّفة في مسألة السحور كلام من جهة اعتبار حكمة الصوم، وهي كسرة شهوة البطن والفرج، والسحور قد يُباين ذلك. قال: والصواب أن يقال: ما زاد في المقدار حتى تنعدم هذه الحكمة بالكلية، فليس بمستحبّ، كالذي يصنعه المترفون من التأنّق في المآكل، وكثرة الاستعداد لها، وما عدا ذلك تختلف مراتبه. انتهى ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تسحّروا إلخ " هذا الأمر على جهة الإرشاد إلى المصلحة، وهي حفظ القوّة التي يُخاف سقوطها مع الصوم الذي لا يُتسحّر فيه، وقد نبّهَ على ذلك بقوله:"تسحّروا، فإن في السحور بركةً"، وهي القوّة على الصيام، وقد جاء مفسّرًا في بعض الآثار، وقد لا يبعُد أن يكون من جملة بركة السحور ما يكون في ذلك الوقت من ذكر المتسحّرين لله تعالى، وقيام القائمين، وصلاة المتهجّدين، فإن الغالب ممن قام ليتسحّر أنه يكون منه ذكرٌ، ودعاءٌ، وصلاةٌ، واستغفارٌ، وغير ذلك مما يُفعل في رمضان. انتهى

(2)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2549](1095)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1923)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(708)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 141) و"الكبرى"(2/ 75 و 76)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1692)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2006)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7598)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 8)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 99 و 229 و 243 و 258 و 281)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 6)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"

(1)

"الفتح" 4/ 63 - 640.

(2)

"المفهم" 3/ 155.

ص: 551

(1937)

، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3466)، و (البزّار) في "مسنده"(976)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(383)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 177 و 178)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 170 - 171)، و (البيهقيّ) في " الكبرى"(4/ 236) و" المعرفة"(3/ 387)، و (الطبرانيّ) في " الأوسط "(2/ 296 و 5/ 175 و 92/ 8 و 55/ 19) و"الكبير"(10/ 138)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 235 و 4325 و 444)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1728)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب السحور، وهو يحصل بأقلّ ما يتناوله المرء من مأكول، ومشروب، وقد أخرج هذا الحديث أحمد من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه بسند حسن، بلفظ: "السحور بركة، فلا تَدَعُوه، ولو أن يَجرَع أحدكم جُرعة

(1)

من ماء، فإن الله، وملائكته، يصلّون على المتسحّرين"، وأخرج ابن حبّان في "صحيحه" عن ابن عمر رضي الله عنها مرفوعًا: "إن الله وملائكته يُصلّون على المتسحّرين"

(2)

، ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة:"تسحّروا، ولو بِلُقْمة"، قاله في "الفتح"

(3)

.

2 -

(ومنها): بيان بركة السحور، ففيه اتباع السنّة، ومخالفة أهل الكتاب، والتّقَوِّي على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يُثيره الجوع، والتسبّب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنّة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام.

3 -

(ومنها): بيان فضل الله تعالى على هذه الأمة حيث جعل أكلها وشربها في هذا الوقت سببًا لحصول صلاة الله تعالى، وملائكته على المتسخر.

4 -

(ومنها): بيان عناية الشرع بمخالفة أهل الكتاب، حيث شرع لنا

(1)

"جرع" من باب نفع، وفيه لغة أخرى من باب تَعِبَ، و"الجُرعة" بالضمّ: ما يُجرَع مرة واحدة. أفاده في "المصباح".

(2)

حديث صحيح.

(3)

"الفتح" 4/ 640.

ص: 552

السحور من أجله، ففي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الآتي مرفوعًا:"فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): نقل الإمام ابن المنذر رحمه الله الإجماع على ندبية السحور

(1)

، وقال النوويّ رحمه الله: وأجمع العلماء على استحبابه، وأنه ليس بواجب. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: فعلى هذا يكون الأمر بالسحور في حديث الباب للاستحباب، لا للوجوب، وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه"، فقال:"باب بركة السحور، من غير إيجاب"؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه واصلوا، ولم يُذكَر السحور. انتهى.

وأشار البخاريّ رحمه الله بهذا إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فلما أبوا واصل بهم يومًا، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال:"لو تأخر لزدتكم" الحديث، متّفق عليه.

وهو استدلال حسنٌ جِدًّا، فإنه يدلّ على أن السحور ليس بحتم؛ إذ لو كان حتمًا لما واصل بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن الوصال يستلزم ترك السحور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2550]

(1096) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا، وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكلَةُ السَّحَرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُوسَى بْنُ عُلَي) -بالتصغير- ابن رَبَاح اللَّخْميّ، أبو عبد الرحمن

(1)

انظر: "الفتح" 4/ 639.

(2)

انظر: "شرح مسلم" 7/ 207.

ص: 553

المصريّ، ثقةٌ ربما أخطأ [7](ت 163) وله نيّفٌ و (90) سنة (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 24/ 1873.

3 -

(أَبُوهُ) عليّ -بالتصغير والتكبير، والمشهور التصغير، وكان يغضب منه- ابن رَبَاح بن قَصِير اللَّخْميّ، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ، من صغار [3] مات سنة بضع (110)(بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 43/ 1873.

4 -

(أَبُو قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) السَّهْميّ، اسمه عبد الرحمن بن ثابت، وقيل: ابن الحكم، وهو غلظ [2].

رَوَى عن عمرو، وعبد الله بن عمرو، وأم سلمة.

ورَوَى عنه ابنه عروة بن أبي قيس، وعُليّ بن رَبَاح، وبشر بن سعيد، وعبد الرحمن بن جبير المصريّ، ويزيد بن أبي حبيب.

قال ابن يونس: ويقال: إنه رأى أبا بكر الصديق، وكان أحد فقهاء الموالي الذين أدركهم يزيد بن أبي حبيب، واسمه عبد الرحمن بن ثابت، وشهد فتح مصر، واختَطّ بها، ومات سنة أربع وخمسين فيما ذكر ربيعة الأعرج، عن ابن لَهِيعة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال محمد بن سحنون في كتابه: إن عبد الرحمن بن الحكم مولى عمرو بن العاص يكنى أبا قيس، قال ابن يونس: وهذا خطأٌ، وإنما أراد أبا قيس مالك الحكم الحبشيّ؛ يعني آخر، غير أبي قيس صاحب الترجمة، وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين، وقال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقةٌ.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط

(1)

برقم (1096)، و (1716): "إذا حَكَم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب

" الحديث.

5 -

(عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) بن وائل السَّهْميّ الصحابيّ المشهور، أسلم عام الحديبية، وولي إمرة مصر مرّتين، وهو الذي فتحها، مات رضي الله عنه بمصر سنة نيّف وأربعين، وقيل: بعد الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.

(1)

وقال في "تهذيب التهذيب": له في "صحيح مسلم حديثان عن عمرو، روى البخاري أحدهما، وله عند أبي داود، حديث آخر عن عمرو، وعند النسائي حديث آخر عن أم سلمة. انتهى.

ص: 554

و"قُتيبة بن سعيد" ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى موسى وأبيه، فأخرج لهما البخاريّ في "الأدب المفرد".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات المصريين، وقتيبة بَغْلانيّ، وبَغْلان من قُرى بَلْخَ، وقد دخل مصر.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا) "الفصل" بمعنى الفاصل، و"ما" موصولة، والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ أي الفارق الذي بين صيامنا (وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي اليهود والنصارى (أَكلَة السَّحَرِ") كذا في رواية المصنّف، وأبي داود، وفي رواية النسائيّ:"أَكْلَة السَّحُور".

قال النوويّ رحمه الله: معناه الفارق والمميّز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسخرون، ونحن يستحبّ لنا أن نتسحّر.

و"أكلة السحر": هي السَّحور، وهي بفتح الهمزة، هكذا ضبطناه، وهكذا ضبطه الجمهور، وهو المشهور في روايات بلدنا، وهي عبارة عن المرّة الواحدة من الأكل، كالغَدْوَة، والعَشْوة، وإن كثر المأكول فيها، وأما الأكْلة -بالضمّ- فهي اللُّقْمة، وادّعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضمّ، ولعله أراد أن رواية أهل بلدهم فيها بالضمّ، قال: والصواب الفتح؛ لأنه المقصود هنا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: روايتنا عن متقني شيوخنا "أَكْلَة" -بفتح الهمزة-

(1)

"شرح مسلم" 8/ 208.

ص: 555

وهي مصدر أكل أكلة، كضرب ضَرْبَة، والمراد بها أكلُ ذلك الوقت، وقد روي أُكلة بضم الهمزة، وفيه بُعْدٌ؛ لأن الأُكلة بالضمّ هي اللُّقْمة، وليس المراد أن المتسحّر يأكل لقمة واحدة، ويصحّ أن يقال: إنه عبّر عما يُتَسحّر به باللقمة لققته. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وهذا الحديث يدل على أن السحور من خصائص هذه الأمة، ومما خُفّف به عنهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [9/ 2550 و 2551، (1096)، و (أبو داود) في "الصوم"(2343)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(709)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 46) و"الكبرى"(2/ 80)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7602)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 8)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 202)، و (الدارميّ) في "سننه"(6/ 2)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1940)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3477)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 179)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط "(3/ 305) و"مسند الشاميين"(1/ 154)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 121)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(171)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1729)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب السُّحور.

2 -

(ومنها): بيان أن الصوم شريعة قديمة، فُرض على أهل الكتاب، وهو ما دلّ عليه الكتاب، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].

(1)

"المفهم" 3/ 155 - 156.

ص: 556

3 -

(ومنها): بيان أن أهل الكتاب ما كان لهم السحور؛ فكانوا لا يأكلون ولا يشربون بعد النوم كما كان ذلك في أول الإسلام، حيث إن من نام لا يحلّ له إذا استيقظ أن يأكل، ويشرب، ويجامع أهله، حتى نسخه الله تعالى بقوله:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى أن قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] الآية.

4 -

(ومنها): بيان ما منّ الله تعالى به على هذه الأمة من التخفيف والتيسير، ورفع الإصر والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، فشرع لهم السحور حتى يتقوّوا به على الصوم، وجعله فاصلًا بين صومهم وبين صوم أهل الكتاب.

5 -

(ومنها): بيان أن ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم كله سهل، وشر، فقد رفع الله تعالى بسببه كل العسر، قال الله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} إلى أن قال: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الآية [الأعراف: 157]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"(2/ 255):

أي أنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طُرُق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"بُعِثتُ بالحنيفية السَّمْحَة"، وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه: معاذ وأبي موسى الأشعريّ لما بعثهما إلى اليمن: "بشِّرا ولاتنفرا، وَيسِّرا ولاتُعَسِّرا، وتطاوعا، ولا تختلفا"، متّفقٌ عليه.

وقال صاحبه أبو برزة الأسلميّ رضي الله عنه: "إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشَهِدت تيسيره"، وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضِيقٌ عليهم، فوسّع الله على هذه الأمة أمورها، وسقلها لهم، ولهذا قال رسول الله لمجر:"إن الله تجاوز لأمتي ما حَدَّثت به أنفسها، ما لم تَقُل، أو تعمل"، متّفقٌ عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: "رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، ولهذا أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} [البقرة: 286]، وثبت في "صحيح مسلم": أن الله تعالى قال بعد كل سؤال، مِن هذه:

ص: 557

"قد فعلتُ قد فعلت". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2551]

(

) - (وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيع (ح) وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ، بِهَذا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السّرْح المصريّ، ثقةٌ [10]، (ت.

25) (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية وكيع، وابن وهب، كلاهما عن موسى بن عليّ ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" (3/ 215) فقال:

1940 -

ثنا محمد بن أبي صفوان الثقفيّ، ثنا عبد الرحمن، نا موسى بن عليّ (ح) وثنا يونس، نا عبد الله بن وهب (ح) وأخبرني ابن عبد الحكم، أن ابن وهب أخبرهم، قال: أخبرني موسى بن على بن رَبَاح (ح) وحدّثنا محمد بن عيسى، نا عبد الله -يعني ابن المبارك- (ح) وحدّثنا جعفر بن محمد، نا وكيع، كلاهما عن موسى بن عليّ بن رَبَاح، عن أبيه، عن أبي قيس مولى عيرو بن العاص، عن عيرو بن العاص

(2)

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور"، وفي حديث وكيع:"ما بين صيامكم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"تفسير ابن كثير" 2/ 255.

(2)

سقط من النسخة قوله: "عن عمرو بن العاص"، وهو غلط فاحشٌ، فتنبّه.

ص: 558

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2552]

(1097) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ، عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُمْنَا اِلَى الصَّلَاةِ، قُلْتُ: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: خَمْسِينَ آيَةً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(زَيْذ بْنُ ثَابِتِ) بن الضحّاك الأنصاريّ النجّاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابي الشهير، مات صلى الله عليه وسلم سنة (5 أو 48) وقيل: بعد (50)(ع) تقدم في "الحيض" 22/ 793.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ، عن صحابي رضي الله عنها، وكلاهما من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، فأما أنس فقد سبق الكلام عليه قبل حديث، وأما زيد رضي الله عنه، فهو من الراسخين في العلم، وكان أعلم بالفرائض، وكان كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسٍ) وفي رواية للبخاريّ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: قال: قلت لأنس

فصرّح بالسؤال (عَنْ زيدِ بْنِ ثَابِتٍ) رضي الله عنه، أنه قال (قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاة) أي صلاة الصبح، وفي رواية للبخاريّ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن

ص: 559

مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيد بن ثابت تسحّرا، فلما فرغا من سحورهما قام النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فصلّيا، قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. (قُلْتُ) القائل أنىس رضي الله عنه، والمقول له زيد بن ثابت رضي الله عنه، وفي رواية لأحمد عن يزيد بن هارون، عن همام، وفيه أنّ أنسأ قال: قلت لزيد

(كَمْ كانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟) أي ما بين التسحّر، والصلاة، وفي رواية للبخاريّ:"قلت: كم كان بين الأذان والسُّحُور"(قَالَ: خَمْسِينَ آيَةً) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا الرواية "خمسين" بالياء، لا بالواو، وهو على حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه مخفوضًا، وهو شاذّ، لكن سوّغه دلالة السؤال المتقدّم عليه؛ لأنه لَمّا قال:"كم كان قدر ما بينهما؟ فقال: خمسين آية"، فحذف "قدر"، وبقي ما بعده مخفوضًا على حاله معه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: إنما كان هذا الوجه شاذًّا؛ لأن شرط حذف المضاف، هابقاء المضاف إليه مجروراً أن يُعطف المضاف المحذوف على مماثله، كما في قول الشاعر [من الطويل]:

أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً

وَنَارٍ تَوَقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا

حيث جرّ "نارٍ" لعطفه على "امرئٍ"، وإلى هذا أَشار في "الخلاصة" بقوله:

وَرُبَّمَا جَرُّوا الَّذِي أَبْقَوْا كَمَا

قَدْ كَانَ قَبْلَ حَذْفِ مَا تَقَدَّمَا

لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا حُذِفْ

مُمَاثِلًا لِمَا عَلَيْهِ قَدْ عُطِفْ

وفي رواية البخاريّ: "قدرَ خمسين آية"، وفي رواية النسائيّ:"قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية"؛ أي متوسّطة، لا طويلة، ولا قصيرة، لا سريعة، ولا بطيئة، و"قدرُ" بالرفع على أنه خبر المبتدأ، ويجوز النصب على أنه خبر "كان" المقدّرة في جواب زيد، لا في سؤال أنس؛ لئلا تصير "كان " واسمها من قائل واحد، والخبر من آخر: أي كان الزمن قدرَ إلخ.

وقال المهلّب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدّر الأوقات بالأعمال، كقولهم: قدر حلب شاة، وقدر نحر جزور، فعدل زيد بن ثابت رضي الله عنه عن ذلك التقدير بالقراءة، إشارةً إلى أن ذلك الوقت كان

ص: 560

وقت عبادة بالتلاوة، ولو كانوا يقدّرون بغير العمل لقال مثلًا: قدر درجة، أو ثلث، أو خمس ساعة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2552 و 2553، (1097)] و (البخاريّ) في "مواقيت الصلاة"(541 و 542) و"الصوم "(1787)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(638)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 143) و"الكبرى"(2/ 77)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1696)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 234)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 276)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 182 و 185 و 186 و 188 و 192)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 11)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1941)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 180)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 172)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 115 و 117)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 110)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 238) و"المعرفة"(1/ 468)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان القدر الذي يكون بين السحور وصلاة الصبح، وذلك قدر قراءة خمسين آية.

2 -

(ومنها): استحباب تأخير السحور؛ لكونه أبلغ في المقصود.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه الإشارة إلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة.

4 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: كان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته، فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحّر لاتبعوه، فيشقّ على بعضهم، ولو تسحّر في جوف الليل لشقّ أيضًا على بعضهم، ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك الصبح، أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر.

ص: 561

5 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: فيه تقوية على الصيام؛ لعموم الاحتياج إلى الطعام، ولو ترك لشقّ على بعضهم، ولا سيّما من كان صفراويًّا، فقد يُغْشَى عليه، فيفضي إلى الإفطار في رمضان. انتهى.

1 -

(ومنها): تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة، وجواز المشي بالليل للحاجة؛ لأن زيد بن ثابت رضي الله عنه ما كان يبيت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.

7 -

(ومنها): استحباب الاجتماع على السحور.

8 -

(ومنها): حسن الأدب في العبارة؛ لقوله: "تسحّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما يُشعر لفظ المعيّة بالتبعيّة.

9 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله؛ فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر، فهو معارض لقول حذيفة رضي الله عنه:"هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع"، قال: فيمكن أن يُحمل حديث حذيفة على أنه قصد الإخبار بتأخير السحور، فأتى بتلك العبارة. انتهى

(1)

.

وأجاب الحافظ بأنه لا معارضة، بل تُحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة، فتكون قصّة حذيفة سابقة. انتهى

(2)

، وهو جواب جيّد.

10 -

(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله استَدَلّ به على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر؛ لأنه الوقت الذي يَحْرُم فيه الطعام والشراب، والمدّة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة، وهي قراءة الخمسين آية، أو نحوها قدر ثلث خمس ساعة، ولعلها مقدار ما يتوضأ فيه، فأشعر ذلك بأن أول وقت الصبح أول ما يطلع الفجر، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل فيها بغلس، قاله في "الفتح"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المفهم" 3/ 156 - 157.

(2)

"الفتح" 4/ 638.

(3)

"الفتح" 2/ 357 كتاب "مواقيت الصلاة" رقم (576).

ص: 562

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2553]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرُو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَامٌ (ح) وَحَدثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، حَدَّثنَا عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ قتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

3 -

(هَمَّامُ) بن يحيى الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ 71، (ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

4 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) محمد، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(سَالِمُ بْنُ نُوحِ) بن أبي عطاء العطّار، أبو سعيد البصريّ، صدوقٌ له أوهامٌ [9] مات بعد المائتين (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 55/ 1532.

6 -

(عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ) السّلميّ، أبو حفص البصريّ قاضيها، صدوقٌ له أوهامٌ [6].

رَوَى عن قتادة، وعمرو بن دينار، وأيوب السختيانيّ، ويحيى بن أبي كثير، وغير هم.

وروى عنه سعيد بن أبي عروبة، وسالم بن نوح، ومعتمر بن سليمان، وعباد بن العوّام، ويزيد بن زريع، وآخرون.

قال ابن المدينيّ: سألت يحيى بن سعيد: حَمَلتَ عنه أشياء؟ قال: لا، ولا حرفًا، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وكذا قال أبو طالب عن أحمد، وزاد: روى أحاديث أنكرها، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان شعبة لا يستمريه، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن

ص: 563

معين: ليس به بأس، زاد بعضهم عن ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن الدَّوْرَقيّ عن ابن معين: عمر بن عامر بَجَليّ كوفيّ ضعيف

(1)

، تركه حفص بن غياث، وقال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن المديني يقول: عمر بن عامر شيخ صالح، كان على قضاء البصرة، مات فَجْأَةً، قال عليّ: قال أبو عبيدة: لم يمت قاض فجأة غيره، وقال أبو زرعة: مات وهو ساجدٌ، وقال أبو حاتم: سعيد وهشام أحبّ إلي منه، وهو يجري مع همام، وقال عمرو بن عليّ: عمر بن عامر، ويحيى بن محمد بن قيس ليسا بمتروكي الحديث، وقال الآجريّ عن أبي داود: ضعيفٌ، وأبو هلال فوقه، وعمران القطان عندي فوقه، وكان قاضي البصرة، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل: سنة (139)، وقال الساجيّ: هو من الشيوخ صدوق، ليس بالقويّ، فيه ضعف، قال: وقال أحمد: كان عبد الصمد بن عبد الوارث يروي عنه، عن قتادة مناكير، وقال العقيليّ: ثنا عبد الله بن أحمد، سمعت أبي يقول: عمر بن عامر ثقة ثبثٌ في الحديث، إلا أنه كان مُرجئًا، وقال العجليّ: ثقةٌ.

أخرج له مسلم والنسائي، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1097) و (1116) و (2469).

و"قتادة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية همّام، عن قتادة هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال:

541 -

حدّثنا عمرو بن عاصم، قال: حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن زيد بن ثابت حدّثه، أنهم تسحروا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قاموا إلى الصلاة، قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين، أو ستين؛ يعني آية. انتهى.

وأما رواية عُمر بن عامر، عن قتادة، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير" (5/ 117) فقال:

(1)

قال الحافظ في "التهذيب"(7/ 410): وينبغي أن يُحَرَّر هذا الذي ذكره المزيّ عن ابن الدَّورقيّ عن ابن معين، فإنني أظن أنه في رجل آخر غير صاحب الترجمة، يدُلّ عليه كونه نسبه بَجَليًّا كوفيًّا، وصاحب الترجمة سلميّ بصريّ. انتهى.

ص: 564

4795 -

حدّثنا زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِيُّ، ثنا محمد بن الْمُثَنَّى، ثنا سَالِمُ بن نُوحٍ، عن عُمَرَ بن عَامِرٍ، عن قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ، عن زَيْدِ بن ثَابِتٍ، قال: تَسَحَّرْنَا مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فما قُمْنَا حتى صلى الْغَدَاةَ، قلت: فما قَدْرُ ذلك؟ قال: قَدْرُ ما يَقْرَأُ الإِنْسَانُ خَمْسِينَ آيَة. انتهى.

[تنبيه آخر]: أخرج الإمام البخاريّ رحمه الله هذا الحديث في "صحيحه"، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، فجعله من مسند أنس رضي الله عنه، فقال:

542 -

حدّثنا حسن بن صباح، سمع رَوْح بن عُبادة، حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تَسَحَّرَا، فلما فرغا من سحورهما، قام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فصلى، قلنا لأنس: كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية. انتهى.

قال في "الفتح" ما حاصله: إنه ترجح عند مسلم رواية همام، فإنه أخرجها، وأعرض عن رواية سعيد، ويدلّ على رجحانها أيضًا أن الإسماعيلي أخرج رواية سعيد، من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد، فقال: عن أنس، عن زيد بن ثابت.

قال: والذي يظهر لي في الجمع بين الروايتين أن أنسًا حضر ذلك، لكنه لم يتسحر معهما، ولأجل هذا سأل زيدًا عن مقدار وقت السحور، قال: ثم وجدت ذلك صريحًا في رواية النسائيّ وابن حبان، ولفظهما: عن أنس، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس إني أريد الصيام أطعمني شيئًا، فجئته بتمر، وإناء فيه ماءٌ، وذلك بعدما أذَّن بلال، قال: يا أنس انظر رجلًا يأكل معي، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء، فتسحر معه، ثم قام، فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة.

قال: فعلى هذا فالمراد بقوله: "كم كان بين الأذان والسحور؟ " أي أذان ابن أم مكتوم؛ لأن بلالًا كان يؤذن قبل الفجر، والآخر يؤذن إذا طلع. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 2/ 356 - 357.

ص: 565

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2554]

(1598) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ، مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ [8](ت 184) أو قبله (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

2 -

(أَبُوهُ) سلمة بن دينار الأعرج، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك الساعديّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

و"يحيى بن يحيى" التميميّ ذُكر قبل حديثين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (159) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها (يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لا يزال الدين ظاهرًا"، وظهور الدين مستلزم لدوام الخير (مَا) مصدريّة ظرفيّة؛ أي مُدّة فعلهم ذلك؛ امتثالًا للسنة، واقفين عند حدّها، غير متنطعين بعقولهم ما يغير قواعدها.

(عَجَّلُوا الْفِطْرَ") زاد أبو ذرّ في حديثه: "وأخّروا السحور"، أخرجه أحمد، وزاد أبو هريرة في حديثه:"لأن اليهود والنصارى يؤخرون"، أخرجه

ص: 566

أبو داود، وابن خزيمة، وغيرهما، وتأخير أهل الكتاب له أَمَدٌ، وهو ظهور النجم.

وقد رَوَى ابن حبان، والحاكم، من حديث سهل أيضًا بلفظ:"لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم"، وفيه بيان العلة في ذلك.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه الحثّ على تعجيل الفطر بعد تحقّق غروب الشمس، ومعناه: لا يزال أمر الأمّة منتظمًا، وهم بخير ما داموا محافظين على هذه السنّة، وإذا أخّروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان تعجيل الفطر خيرًا؛ لأنه أحفظ للقوّة، وأرفع للمشقّة، وأوفق للسنّة، وأبعد عن الغلوّ والبدعة، وليظهر الفرق بين الزمانين في حكم الشرع، وأما تعجيل المغرب، فقد تقدّم الكلام عليه في الأوقات. انتهى

(2)

.

وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: من السنة تعجيل الفطر، وتأخير السحور، والتعجيل إنما يكون بعد الاستيقان بمغيب الشمس، ولا يجوز لأحد أن يفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس أم لا؟؛ لأن الفرض إذا لزم بيقين لم يُخْرَج عنه إلا بيقين، والله عز وجل يقول:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وأول الليل مغيب الشمس كلها في الأفق عن أعين الناظرين، فمن شك لزمه التمادي حتى لا يشك في مغيبها، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا أقبل الليل من هاهنا -يعني المشرق- وأدبر النهار من هاهنا -يعني المغرب- وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"، متّفقٌ عليه. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": اتفق العلماء على أن محل تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس بالرؤية، أو بأخبار عدلين، وكذا عدلٌ واحدٌ في الأرجح.

قال الشافعيّ رحمه الله في "الأم": تعجيل الفطر مستحبّ، ولا يكره تأخيره إلا لمن تعمده، ورأى الفضل فيه، ومقتضاه أن التأخير لا يكره مطلقًا، وهو كذلك؛ إذ لا يلزم من كون الشيء مستحبًّا أن يكون نقيضه مكروهًا مطلقًا.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، وفيه نظر لا يخفى؛ إذ

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 208.

(2)

"المفهم" 3/ 157.

(3)

"التمهيد" 21/ 97 - 98.

ص: 567

كونه مكروهًا هو الذي دلّ عليه ظاهر النصّ؛ لأنه نصّ على أن التعجيل فيه مخالفة لليهود والنصارى، كما سلف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أُمِر صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم، وأمر به أمته، وفي تأخير الفطر موافقة لهم، ومخالفة لهديه صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال: إنه غير مكروه؟ بل الذي يظهر من النصوص المذكورة التحريم، فتأمّل بالإنصاف.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: من البدع المنكرة ما أُحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جُعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام؛ زعمًا ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة؛ لتمكين الوقت، زعموا، فأخروا الفطر، وعجلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قَلَّ عنهم الخير، وكثُر فيهم الشرّ، والله المستعان. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثالثة): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2554 و 2555](1098)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1957)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(699)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 288)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 277)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 226)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 298)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 331 و 337 و 339)، و (الدا رميّ) في "سننه"(2/ 12)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 186)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 173)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 273 و 274)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(8/ 273 و 275)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 599)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 139 و 168 و 187 و 191 و 195)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 501 و 546)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 237)

ص: 568

و"المعرفة"(3/ 386)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1730)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب تعجيل الفطر، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: أحاديث تعجيل الإفطار، وتأخير السحور صحاحٌ، متواترةٌ، وأخرج عبد الرزأق وغيره بإسناد صحيح، عن عمرو بن ميمون الأوديّ قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطارًا، وأبطأهم سحورًا.

2 -

(ومنها): ما قاله المازريّ رحمه الله: أشار هذا الحديث إلى أن تغيير هذه السنة عَلَمٌ على فساد الأمر، ولا يزالون بخير ما داموا محافظين عليها. انتهى.

3 -

(ومنها): ما قاله المهلَّب رحمه الله: الحكمة في تعجيل الإفطار أن لا يزاد في النهار من الليل، ولأنه أرفق بالصائم، وأقوى له على العبادة.

4 -

(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله: في هذا الحديث ردّ على الشيعة في تأخيرهم الفطر إلى ظهور النجوم، ولعل هذا هو السبب في وجود الخير بتعجيل الفطر؛ لأن الذي يؤخره يدخل في فعل خلاف السنة. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وما تقدم من الزيادة عند أبي داود أولى بأن يكون سبب هذا الحديث، فإن الشيعة لم يكونوا موجودين عند تحديثه صلى الله عليه وسلم بذلك. انتهى.

5 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به بعض المالكية على عدم استحباب ستة شوال؛ لئلا يَظنّ الجاهل أنها ملتحقة برمضان، وهو ضعيف، ولا يخفى الفرق. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2555]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوب (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْن حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْذ الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

ص: 569

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَعْقُوبُ) بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندريّة، حليف بني زُهرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) الْعَنْبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ إمام [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبت فقيه حجة إمام [7](ت 161)(ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم ساقها مقرونًا بابن أبي حازم، في "مستخرجه" (3/ 173) فقال: وثنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا محمد بن إسحاق السّرّاج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، وعبد العزيز بن أبي حازم، عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عَجَّلوا فطرهم". انتهى.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن أبي حازم، فساقها الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 334) فقال:

22879 -

حدثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سَعْدٍ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزَالُ الناس بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الْفِطْرَ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكثاب قال:

[2556]

(1099) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَحَدُهُمَا يُعَجَّلُ الْإِفْطَارَ، وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ

ص: 570

الْإِفْطَارَ، وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَخلُ الْإِفْطَارَ، وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ:"وَالْآخَرُ أَبُو مُوسَى").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(أَبُو مُعَاوَيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، يدلّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.

4 -

(عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ) التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4] مات بعد المائة، أو قبلها (ع) تقدم في "الصلاة" 29/ 977.

5 -

(أَبُو عَطِيَّةَ) الوادعيّ الْهَمْدانيّ الكوفيّ، اسمه مالك بن عامر، وقيل: ابن أبي عامر، أو ابن عوف، وقيل: ابن حُمْرة

(1)

، وقيل: ابن أبي حُمْرة، وقيل: اسمه عمرو بن جندب، ويقال: ابن أبي جندب، وقيل: إنهما اثنان، ثقةٌ [2].

قال: جاءنا كتاب عمر، وروى عن ابن مسعود، وأبي موسى، وعائشة، ومسروق بن الأجدع.

وروى عنه عُمارة بن عمير، ومحمد بن سيرين، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وأشعث بن أبي الشعثاء، وخيثمة بن عبد الرحمن، والأعمش، وغيرهم.

قال الأثرم: قلت لأحمد: الأعمش عن أبي عطية، ما اسم أبي عطية؟ قال: مالك بن أبي حمرة، وهو مالك بن عامر، قلت: هو الذي روى عنه ابن

(1)

بالراء، ووقع في بعض نسخ "التقريب" بالزاي، وهو تصحيف، فتنبّه.

ص: 571

سيرين؟ فأنكر ذلك جدًّا

(1)

، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: أبو عطية الذي روى عنه ابن سيرين مالك بن عامر، وأبو عطية الوادعيّ عمرو بن أبي جندب، وقال في موضع آخر: أبو عطيّة الوادعيّ: مالك بن عامر، وهو الهمدانيّ، وقال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين، عن أبي عطية؟ فقال: ثقةٌ، وقال الواقديّ: أبو عطية عَمْرو بن جندب، ويقال: مالك بن عامر الهمدانيّ، من أصحاب عبد الله، وشهد مشاهد عليّ، ومات في ولاية عبد الملك، وقال ابن سعد: أبو عطية اسمه مالك بن عامر الهمدانيّ، ثم الوادعيّ، تُوُفّي في ولاية مصعب بن الزبير على الكوفة، وكان ثقةً، وله أحاديث صالحةٌ، وقال الآجريّ: قلت لأبي داود: أبو عطية الوادعيّ؟ قال: عَمْرو بن جندب، ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، سوى ابن ماجه، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط، وكزره مرّتين.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي.

و"يحيى بن يحيى" ذُكر قبل حديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وأبي عطيّة، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن شيخه أبا العلاء أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وهم تسعة، وقد تقدّموا غير مرّة.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى يحيى، فنيسابوريّ، وعائشة فمدنيّة.

5 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض:

(1)

لكن ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" أن في "تفسير سورة البقرة" من "صحيح البخاريّ"، عن ابن سيرين: فلقيت أبا عطية، مالك بن عامر، أو مالك بن عوف. انتهى، فهذا يرجّح أن ابن سيرين روى عنه، فليُتأمل.

ص: 572

الأعمش، عن عُمارة، عن أبي عطيّة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210)، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ) الوادعيّ، تقدّم آنفًا الخلاف في اسمه، واسم أبيه، أنه (قَالَ: دَخَلْتُ أنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقُلْنَا) وفي الرواية التالية: "فقال لها مسروق"، وفي رواية النسائيّ:"قلت لعائشة"، ويُجْمَع بين هذا إلاختلاف بكودط مسروق هو الذي تولّى السؤال؛ لكون عائشة رضي الله عنها تعرفه، حيث كان كثير الرواية عنها، بخلاف أبي عطيّة، فإنه ما يروي عنها إلا قليلًا، وإنما قال أبو عطيّة: قلت لعائشة، أو قلنا لها، لكونه طلب من مسروق أن يسألها، والله تعالى أعلم.

(يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ) أي يختار تعجيل الفطر في الصوم (وَيُعَجِّلُ) بتشديد الجيم، من التعجيل (الصّلَاةَ) أي صلاة المغرب، ففي الرواية التالية:"رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلاهما لا يألو عن الخير، أحدهما يُعجّل المغرب، والإفطار، والآخر يؤخِّر المغرب، والإفطار"، وفي رواية النسائيّ:"أحدهما يعجّل الإفطار، ويؤخّر السحور".

وإنما فعل ابن مسعود رضي الله عنه ذلك؛ اتّباعًا للسنّة.

(وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ، وَبُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ) الظاهر أنه إنما فعل ذلك؛ ليبيّن للناس جوازه، أو فَعَله احتياطًا، حيث لم تبلغه السنّة في ذلك.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها (أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ، وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ) أبو عطيّة (قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ) توفي سنة (32) تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 3/ 11. (قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي إن فعل ابن مسعود رضي الله عنه هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر مجتهد مأجور حيث لم يخالف السنّة قصدًا، كما يأتي من طريق ابن أبي زائدة قوله: "كلاهما لا يألو عن الخير".

وقوله: (زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ) أي يعني شيخه الثاني، وهو محمد بن العلاء زاد في روايته على رواية يحيى قوله، مبيّنًا الرجل الآخر:("وَالْآخَرُ) أي الرجل

ص: 573

الآخر الذي يؤخّر الإفطار، والصلاة (أَبُو مُوسَى") عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير، توفّي رضي الله عنه (50) أو بعدها، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 16/ 171، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 2556 و 2557](1099)، و (أبو داود) في "الصوم "(2354)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(702)، و (النسائيّ) في "الصيام" 4/ 144) و"الكبرى"(2/ 78 و 79)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 211)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 48 و 173)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 174)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 186)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 242)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 237)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وقد تقدّم قول الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: أحاديث تعجيل الفطر، وتأخير السحور صحاح متواترة، وعند عبد الرزّاق وغيره بإسناد صحيح، عن عمرو بن ميمون الأوديّ، قال:"كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطارًا، وأبطأهم سحورًا". انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): أن أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم قد تَخْفَى عليهم السنّة، فيجتهدون، فيعملون بخلافها، وأنهم معذورون ومأجورون بذلك، وأما من قلّدهم، فلا عذر له إذا تبيّن له ثبوت النصّ، فليُتنبّه لهذا، فإنه من مزالّ الأقدام، فإن كثيرًا من المقلّدين قد تبلغهم السنة مخالفةً لمذهبهم، فلا يلتفتون إليها، وهذا هو الخسران المبين؛ لأنه من اتّباع الهوى، ومن تخذيل الشيطان،

(1)

انظر: "الفتح" 4/ 713.

ص: 574

وقد ذمّ الله تعالى من خالف السنّة متبعًا لهواه، فقال:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50]-نعوذ بالله من الخذلان-.

3 -

(ومنها): أن اختلاف أهل العلم كثيرًا ما يكون مبناه على اطلاع بعضهم على النصوص، وعدم اطلاع الآخرين عليها، فالواجب على المقلّدين أن ينظروا فيمن تؤئده النصوص، فيتبعوه.

4 -

(ومنها): أن فيه بيانَ كثرة علم عائشة رضي الله عنها بالسنّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2557]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْب، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنه، فَقَالَ لَهَا مَسْرُون: رَجُلَانِ مِنْ أَصحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كِلَاهُمَا لَا يَأْلُو عَن الْخَيْرِ: أَحَدُهُمَا يُعَبلُ الْمَغْرِبَ وَالْإِفْطَارَ، وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَالْإِفْطَارَ، فَقَالَتْ: مَنْ يُعَجِّلُ الْمَغْرِبَ وَالْإِفْطَارَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللهِ، فَقَالَتْ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِى زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّاء بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 184) عن (93) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا لَا يَأْلُو عَن الْخَيْرِ) أي لا يقصّر عنه، قال في "القاموس": وأَلَا أَلْوًا، وأُلُوًّا، وأُلِيًّا، وأَلَّى، واتَّلَى: قَصَّرَ، وأبطأ، وتكبّرَ، قال: وما ألوته: ما استطعته، وما ألوتُ الشيءَ أَلْوًا، وأُلُوًّا: ما تركته. انتهى

(1)

.

(1)

"القاموس المحيط" 4/ 300.

ص: 575

[تنبيه]: قوله: "لا يألو" بإفراد الضمير، مع أن المبتدأ، وهو "كلاهما" مثنى المعنى؛ لأنه يجوز فيه الوجهان، مراعاة اللفظ؛ لأن لفظ "كلا" مفرد، ومراعاة المعنى؛ لأن معناه مثنّى، قال الخضريّ رحمه الله: الأكثر في "كلا"، و "كلتا" مراعاة اللفظ، وبه جاء القرآن نصًّا في قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، وأما ضمير {خِلَالَهُمَا} ، فيَحْتَمل رجوعه لـ {الْجَنَّتَيْنِ} ، وإن كان مضافًا إليه، كما يرجع مع "كلّ" للمضاف إليه، وقد اجتمعا في قوله يَصِف فرسين تسابقا [من البسيط]:

كِلَاهُمَا حِينَ جَدَّ الْجَرْيُ بَيْنُهَمَا

قَدْ أَقلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابِي

فثنَّى "أَقْلعا"؛ أي تركا الجري؛ مراعاةً للمعنى، وراعى اللفظ في "رابي"، بمعنى منتفِخ من التعب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ بَيَانِ وَقْتِ انْقِضَاءِ الصَّوْمِ، وَخُرُوجِ النَّهَارِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2558]

(1100) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَاتَّفَقُوا فِي اللَّفْظِ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ، وقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، وقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ، وَغَابَت الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ"، لَمْ يَذْكُر ابْنُ نُمَيْرٍ: "فَقَدْ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل باب.

(1)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 51.

ص: 576

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقية [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

5 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم قبل باب.

6 -

(عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومات سنة (7) أو بعدها (خ م د س ت) تقدم في "الصلاة" 7/ 856.

7 -

(عُمَرُ) بن الخطّاب الخليفة الراشد، استُشهد في ذي الحجة سنة (23)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهم، ثم فرق بينهم؛ لاختلاف شيوخهم.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وعاصم، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقون كوفيّون، ويحيى نيسابوريّ، وقد دخل الكوفة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه في موضعين.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ صغير عن تابعيّ كبير، هشام عن أبيه، وصحابيّ صغير عن صحابيّ كبير، عاصم عن أبيه، وكان مولد عاصم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يسمع منه شيئًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ) أبيه (عُمَرَ) بن الخطّاب (رضي الله عنه) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن خزيمة، من طريق أبي معاوية، عن هشام: "قال

(1)

"الفتح" 5/ 359.

ص: 577

لي" ("إِذَا أقبَلَ اللَّيْلُ) زاد في رواية البخاريّ: "من ها هنا"؛ أي: من جهة المشرق، والمراد به وجود الظلمة حسًّا (وَأَدْبَرَ النَّهَارُ) زاد في رواية البخاريّ أيضًا:"من ها هنا"؛ أي من جهة المغرب (وَغَابَت الشَّمْسُ) وللبخاريّ: "وغربت الشمس".

قال الطيبيّ رحمه الله: وإنما قال: "وغابت الشمس" مع الاستغناء عنه؛ لبيان كمال الغروب؛ كيلا يُظَنّ أنه يجوز الإفطار لغروب بعضها. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: كلُّ واحد من هذه الثلاثة يتضمّن الآخَرَين، ويلازمهما، وإنما جَمَعَ بينها؛ لأنه قد يكون في وادٍ، ونحوه، بحيث لا يُشاهد غروب الشمس، فيَعتَمِد إقبال الظلام، وإدبار الضياء. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور؛ لأنها وإن كانت متلازمة في الأصل، لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يُظَنّ إقبال الليل من جهة المشرق، ولا يكون إقباله حقيقةً، بل لوجود أمر يُغَطِّي ضوء الشمس، وكذلك إدبار النهار، فمن ثَئم قَيَّد بقوله:"وغربت الشمس"؛ إشارةً إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار، وأنهما بواسطة غروب الشمس، لا بسبب آخر، ولم يذكر ذلك في الحديث الثاني -يعني حديث ابن أبي أوفى الآتي- فَيَحْتَمِل أن يُنَزَّل على حالين، أما حيث ذكرها ففي حال الغيم مثلًا، وأما حيث لم يذكرها، ففي حال الصحو، ويَحْتَمِل أن يكونا في حالة واحدة، وحَفِظَ أحد الراويين ما لم يحفظ الآخر.

وإنما ذكر الإقبال والادبار معًا؛ لإمكان وجود أحدهما مع عدم تحقق الغروب، قاله القاضي عياض: رحمه الله.

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": الظاهر الاكتفاء باحد الثلاثة؛ لأنه يُعْرَف انقضاء النهار بأحدهما، ويُؤيِّده الاقتصار في رواية ابن أبي أوفى على إقبال الليل. انتهى.

(فَقَدْ أفطَرَ الصَّائِمُ") أي دخل في وقت الفطر، كما يقال: أنجد: إذا أقام بنجد، وأَتْهَمَ: إذا أقام بتِهَامة، قاله في "الفتح".

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 418.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 209.

ص: 578

وقال في "المرقاة": أي صار مفطرًا حكمًا، وإن لم يفطر حسًا كذا في "النهاية"، و"شرح السنة" بدليل الاحتياج إلى نية الصوم للغد، وإن لم يأكل ويشرب، وقيل: دخل في وقت الإفطار، قال أبو عبيد: فيه ردٌّ على المواصلين؛ أي ليس للمواصل فضل على الآكل؛ لأن الليل لا يقبل الصوم، وقال الطيبيّ: ويمكن أن يُحْمَل الإخبار على الانشاء إظهارًا للحرص على وقوع المأمور به. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معناه: انقضى صومه، وتَمّ، ولا يوصف الآن بانه صائمٌ، فان بغروب الشمس خرج النهار، ودخل الليل، والليل ليس محلًّا للصوم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذه الأمور الثلاثة متلازمة؛ إذا حصل الواحد منها حصل سائرها، وإنما جمعها في الذكر -والله أعلم- لأن الناظر قد لا يرى عين غروب الشمس؛ لحائل، وَيرَى ظلمة الليل في المشرق، فيحلّ له إذ ذاك الفطر، وإقبال الليل: إقبال ظلمته، وإدبار النهار: إدبار ضوئه، ومجموعهما إنما يَحْصُلُ بغروب الشمس. انتهى

(3)

.

وقال في دة الفتح" -بعد ذكر ما تقدّم-: ويَحْتَمِل أن يكون معناه: فقد صار مُفْطِرًا في الحكم؛ لكون الليل ليس ظرفًا للصيام الشرعيّ، وقد رَدّ ابن خزيمة هذا الاحتمال، وأومأ إلى ترجيح الأول، فقال: قوله: "فقد أفطر الصائم" لفظُ خبر، ومعناه: الأمر؛ أي فليفطر الصائم، ولو كان المراد: فقد صار مفطرًا كان فِطْرُ جميع الصُّوّام واحدًا، ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنًى. انتهى.

قال الحافظ: وقد يجاب بأن المراد: فعل الإفطار حسًّا؛ ليوافق الأمر الشرعيّ، ولا شك أن الأول أرجح، ولو كان الثاني مُعْتَمَدًا، لكان مَن حَلَف أن لا يفطر، فصام فدخل الليل حَنِث بمجرد دخوله، ولو لم يتناول شيئًا.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 418.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 309.

(3)

"المفهم" 3/ 158.

ص: 579

ويمكن الانفصال عن ذلك بأن الأيمان مبنية على العرف، وبذلك أفتى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في مثل هذه الواقعة بعينها، ومثل هذا لو قال: إن أفطرت فأنت طالق، فصادف يوم العيد لم تُطلق حتى يتناول ما يفطر به، وقد ارتكب بعضهم الشَّطَط، فقال: يحنث، ويرجح الأول أيضًا رواية شعبة أيضًا بلفظ:"فقد حَلَّ الإفطار"، وكذا أخرجه أبو عوانة، من طريق الثوريّ، عن الشيبانيّ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فقد أفطر الصائم" يَحْتَمل أن يكون معناه: دخل في وقت الفطر، كما تقول العرب: أظهر: دخل في وقت الظهر، وأشهر: دخل في الشهر، وأنجد، وأتهم: إذا دخل فيهما، أعني الموضعين، وعلى هذا لا يكون فيه تعرّضٌ للوصال، لا بنفي، ولا بإثبات.

وَيحْتَمِل أن يكون معناه: فقد صار مفطرًا حكمًا، ومعنى هذا أن زمان الليل يستحيل فيه الصوم الشرعيّ، وعلى هذين التأويلين يُخَرَّج خلاف العلماء، هل يصحّ إمساك ما بعد الغروب؟ فمنهم من قال: لا يصحّ، وهو كيوم الفطر، ومَنَعَ الوصال، وقال: لا يصحّ، ومنهم: من جَوَّزَ إمساك ذلك الوقت، ورأى أن له أجر الصائم؛ محتجًّا بأحاديث الوصال، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"فأيّكم أراد أن يواصل، فليُواصل حتى السحر"، رواه البخاريّ، قالوا: وإنما نهاهم عن الوصال؛ رحمةً لهم، ورِفقًا بهم؛ لما يخاف من الضعف فيه، ولما يوجد من مشقّته، وسيأتي لهذا مزيد. انتهى

(2)

.

وقوله: (لَمْ يَذْكُر ابْنُ نُمَيْرٍ: "فَقَدْ") بيّن به الاختلاف الواقع بين شيوخه الثلاثة، في لفظة "فقد"، فقد ذكرها يحيى، وأبو كريب، ولم يذكرها محمد بن نمير، بل قال:"أفطر الصائم"، وهذا من ورع المصنّف رحمه الله، وشدّة احتياطه في مراعاة ألفاظ الشيوخ، وإن يكن بينها كبير اختلاف في المعنى، فلله درّه ما أشدّ إحكامه، وأسدّ أحكامه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 5/ 360.

(2)

"المفهم" 3/ 158 - 159.

ص: 580

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2558](1100)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1954)، و (أبو داود) في "الصوم"(2351)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(698)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3310)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7595)، و (الحميديّ) في "مسنده"(20)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 11)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 28 و 35 و 48 و 54)، و (الدارميّ) في "سننه"(7/ 2)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 174 و 175 و 176)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(240)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2058)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 285)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(393)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 216 و 237 - 238)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1735)، وفوائد الحديث تأتي في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2559]

(1101) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَابَت الشَّمْسُ قَالَ: "يَا فُلَانُ انْزِلْ، فَاجْدَحْ لَنَا"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا، قَالَ: "انْزِلْ، فَاجْدَحْ لَنَا"، قَالَ: فَنَزَلَ، فَجَدَحَ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ بِيَدهِ: "إِذَا غَابَت الشَّمْسُ مِنْ هَا هُنَا، وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هُشَيْمُ) بن بشير، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِي) سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

ص: 581

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى) علقمة بن الحارث الأسلميّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (87) وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة (ع) تقدم في "الصلاة" 41/ 1072.

و"يحيى" ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالثلاثة التالية، وهو (160) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما مرّ قريبًا.

3 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، شَهِدَ الْحُديبية، وعُفر بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم دهرًا، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالكوفة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه) وفي رواية عبد الواحد الآتية: حدّثنا سليمان الشيبانيّ، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) قال في "الفتح": هذا السفر يشبه أن يكون سفر غزوة الفتح، ويؤيده رواية هشيم، عن الشيبانيّ عند مسلم -يعني هذه الرواية- بلفظ:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، في شهر رمضان"، وقد تقدم أن سفره في رمضان منحصر في غزوة بدر، وغزوة الفتح، فإن ثبتٌ، فلم يشهد ابن أبي أوفى بدرًا، فتعينت غزوة الفتح. انتهى. (فَلَمَّا غَابَت الشَّمْسُ) وفي رواية عبد الواحد:"فلما غربت الشمس"، وهي تفيد معنى أزيد من معنى "غابت"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا فُلَانُ) وفي رواية شعبة، عن الشيبانيّ عند أحمد: "فدعا صاحب شرابه بشراب، فقال: لو أمسيت

"، وقد أخرجه أبو داود، فسماه، ولفظه: "فقال: يا بلال انزل

إلخ"، وأخرجه الإسماعيليّ، وأبو نعيم، من طرق عن عبد الواحد بن زياد، فاتفقت رواياتهم على قوله: "يا فلان"، قال الحافظ: فلعلها تصحفت إلى بلال، وقد تقدّم في حديث عمر رضي الله عنه عند ابن خزيمة: "قال: قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل

إلخ"، فَيَحْتَمِل أن يكون المخاطب بذلك عمر، فإن الحديث واحدٌ، فلما كان عمر هو المقول له: "إذا أقبل الليل

إلخ"، احتَمَل أن يكون هو المقول له أوّلًا: "اجدح"، لكن يؤيد

ص: 582

كونه بلالًا قوله في رواية شعبة المذكورة: "فدعا صاحب شرابه"، فإن بلالًا رضي الله عنه هو المعروف بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: كون المبهم هنا هو بلالًا رضي الله عنه هو الأقرب والأشبه، وأما كونه عمر رضي الله عنه، فبعيدٌ، والله تعالى أعلم.

(انْزِلْ، فَاجْدَحْ لَنَا") -بالجيم، ثم الحاء المهملة- فعل أمر من الْجَدْح، وهو: تحريك السويق ونحوه بالماء بعود، يقال له: الْمِجْدَح، مُجَنَّحُ الرأس، وزعم الداوديّ أن معنى قوله:"اجْدَح لي": أي احلُبْ، وغَلَّطوه في ذلك، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ رحمه الله: هو بجيم، ثم حاء مهملة، وهو خَلْطُ الشيء بغيره، والمراد هنا خَلْط السويق بالماء، وتحريكه حتى يستوي، والْمِجدَح بكسر الميم: عُود مُجَنَّحُ الرأس؛ لِتُسَاط به الأشربة، وقد يكون له ثلاث شُعَب. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الرجل المأمور بالجدح (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا) هذا ظن منه لَمّا رأى من ضوء الشمس ساطعًا، وإن كان جِرمها غائبًا، وتكريره المراجعة؛ لغلبة اعتقاده أن ذلك نهارٌ يَحْرُم فيه الأكل، مع تجويزه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء تامّا، فقصد زيادة الإعلام، فأعرض النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الضوء، واعتبر غيبوبة الشمس، ثم بيّن ما يَعتبره من لم يتمكّن من رؤية جِرم الشمس، وهو إقبال الظلمة من المشرق

(2)

.

وقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون المذكور كان يَرَى كثرة الضوء من شدّة الصحو، فيَظُنّ أن الشمس لم تغرُب، ويقول: لعلها غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم، فلم يتحقق غروب الشمس، وأما قول الراوي:"وغربت الشمس"، فإخبار منه بما في نفس الأمر، وإلا فلو تحقق الصحابيّ أن الشمس غربت ما توقف؛ لأنه حينئذ يكون معاندًا، وإنما توقف احتياطًا، واستكشافًا عن حكم المسألة. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 209 - 210.

(2)

"المفهم" 3/ 159، و "عون المعبود" 6/ 343.

(3)

"الفتح" 5/ 361.

ص: 583

وقال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم كانوا صيامًا، وكان ذلك في شهر رمضان، كما صُرِّح به في رواية يحيى بن يحيى، فلما غربت الشمس، أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالْجَدْح ليفطروا، فرأى المخاطَب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس، فظَنّ أن الفطر لا يحل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتَمَلَ عنده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يرها، فاراد تذكيره، وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله:"إن عليك نهارًا"؛ لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى:"لوأمسيتَ"؛ أي تأخرت حتى يدخل المساء، وتكريره المراجعة؛ لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم فيه الأكل، مع تجويزه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرًا تامّا، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء. انتهى

(1)

.

"قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انْزِلْ، فَاجْدَحْ لَنَا"، قَالَ) الراوي (فَنَزَلَ) الرجل المأمور (فَجَدَحَ) أي خلط السويق بالماء.

[تنبيه]: وقعت المراجعة في هذه الرواية مرّتين فقط، قال في "الفتح": وقد اختلفت الروايات عن الشيبانيّ في ذلك، فأكثر ما وقع فيها أن المراجعة وقعت ثلاثًا، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها مرةً واحدةً، وهو محمول على أن بعض الرواة اختَصَرَ القصة، ورواية خالد الطحّان عن الشيبانيّ عند البخاريّ أتمهم سياقًا

(2)

، وقد ذكرها ثلاث مرّات، وهو حافظٌ، فزيادته مقبولةٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: لم ينفرد خالد الطحّان بذكر الثلاث، فقد تابعه

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 210 - 211.

(2)

هو ما أخرجه البخاريّ رحمه الله في "الصوم" فقال: حدّثنا إسحاق الواسطيّ، حدثنا خالدٌ، عن الشيبانيّ، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهو صائم، فلما غربت الشمس قال لبعض القوم:"يا فلان قم، فاجدح لنا"، فقال: يا رسول الله، لوأمسيت، قال:"انزل فاجدح لنا"، قال: يا رسول الله، فلو أمسيت، قال:"انزل، فاجدح لنا"، قال: إن عليك نهارًا، قال:"انزل، فاجدح لنا"، فنزل، فجَدَحَ لهم، فشرب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا، فقد أفطر الصائم". انتهى.

ص: 584

شعبة عن الشيبانيّ، عند أبي نعيم في "مستخرجه"، فذكر المراجعة ثلاث مرّات، وسيأتي بيان ذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

قال: وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يُرَاجَعُ بعد ثلاث، وهو عند أحمد في "مسنده" بسند رجاله ثقات، من حديث عبد الله بن أبي حَدْرَدٍ في حديث طويل، أوله: "كان ليهوديّ عليه أربعة دراهم

" الحديث

(1)

. انتهى.

(فَأَتَاهُ) أي أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِه) أي بالشراب المجدوح (فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ) أشار صلى الله عليه وسلم، ففيه إطلاق القول على الفعل (بِيَدِهِ) نحو المغرب والمشرق، قائلًا:("إِذَا غَابَت الشَّمْسُ مِنْ هَا هُنَا) أي من جهة المغرب (وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا) أي من جهة المشرق (فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ") أي دخل وقت إفطاره، أو صار في حكم المفطر، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في شرح حديث عمر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

هو: ما في "مسند الإمام أحمد رحمه الله"(3/ 423):

(15528)

-حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا إبراهيم بن إسحاق، ثنا حاتم بن إسماعيل المدنيّ، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن أبي يحيى، عن أبيه، عن ابن أبي حدرد الأسلميّ أنه كان ليهوديّ عليه أربعة دراهم، فاستعدى عليه، فقال: يا محمد إن لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها، فقال:"أعطه حقّه"، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، قال:"أعطه حقّه"، قال: والذي نفسي بيده ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر، فأرجو أن تُغنمنا شيئًا، فارجع، فاقضيه، قال:"أعطه حقّه"، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثًا لم يُرَاجَع، فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق، وعلى رأسه عصابة، وهو مُتَّزِرٌ ببرد، فنزع العمامة عن رأسه، فاتّزر بها، ونزع البردة، فقال: اشتر مني هذه البردة، فباعها منه بأربعة الدراهم، فمرّت عجوز، فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرها، فقالت: ها دونك هذا ببرد عليها طرحته عليه. انتهى.

قال الجامع: وهذا إسناد صحيح، فإن رجال إسناده كلّهم ثقات، والله تعالى أعلم.

ص: 585

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 2559 و 2560 و 2561 و 2562](1101)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1941 و 1955 و 1956 و 1958) و"الطلاق"(5297)، و (أبو داود) في "الصوم"(2352)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 252)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 226)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(3/ 11 - 12)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 312)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 380 و 381 و 382)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 264)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3511 و 3512)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 189 و 190)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 175 - و 176)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 216)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1734)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وقت انقضاء الصوم، وخروج النهار.

2 -

(ومنها): بيان استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقًا، بل متى تَحَقَّق غروب الشمس حَلَّ الفطر.

3 -

(ومنها): أن فيه تذكيرَ العالِم بما يُخْشَى أن يكون نسيه، وتَرْكُ المراجعة له بعد ثلاث.

4 -

(ومنها): بيان وقت الصوم، وأن الغروب متى تَحَقَّق كفى.

5 -

(ومنها): أن فيه إيماءً إلى الزجر عن متابعة أهل الكتاب، فإنهم يؤخرون الفطر عن الغروب.

6 -

(ومنها): جواز الصوم في السفر، وتفضيله على الفطر لمن لا تلحقه بالصوم مشقة ظاهرة.

7 -

(ومنها): بيان أن الفطر على التمر ليس بواجب، وإنما هو مستحب، لو تركه جاز، وأن الأفضل بعده الفطر على الماء، وقد جاء هذا الترتيب في الحديث الآخر في "سنن أبي داود"، وغيره في الأمر بالفطر على تمر، فان لم يجد فعلى الماء، فإنه طهور. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: أشار النوويّ رحمه الله بهذا إلى ما أخرجه أبو داود بسنده عن سلمان بن عامر الضبيّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان

ص: 586

أحدكم صائمًا، فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإن الماء طهور".

وفي إسناده الرباب بنت صُليع الضبيّة لم يرو عنها غير حفصة بنت سيرين، ولم يوثّقها غير ابن حبّان، وصححه الشيخ الألبانيّ، ولعله لشاهده، فقد يشهد له ما أخرجه الترمذفي، وأبو داود عن أنس رضي الله عنه قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رُطَبات، فإن لم تكن رُطَبات فتُمَيرات، فإن لم تكن تُمَيرات حَسَا حَسَوَات من ماء"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله، ورجال إسناده رجال الصحيح.

قال الترمذيّ رحمه الله: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفطر في الشتاء على تمرات، وفي الصيف على الماء

(1)

. انتهى.

8 -

(ومنها): بيان أن الأمر الشرعيّ أبلغ من الحسيّ، وأن العقل لا يقضي على الشرع.

9 -

(ومنها): أن فيه البيانَ بذكر اللازم والملزوم جميعًا لزيادة الإيضاح.

10 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه جواز الاستفسار عن الظواهر؛ لاحتمال أن لا يكون المراد إمرارَها على ظاهرها، قاله الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله، قال الحافظ رحمه الله: وكأنه أخذ ذلك من تقريره صلى الله عليه وسلم الصحابيّ على ترك المبادرة إلى الامتثال. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2560]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَن الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ

(1)

هذا أيضًا صححه الألبانيّ، وهو محلّ نظر؛ لأنه جعل إسناده إسناد الحديث الأول، والظاهر أنه غيره، ولم يورده الترمذيّ بسنده، وانما ساق المتن فقط، فتأمّل.

(2)

"الفتح" 5/ 361.

ص: 587

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَلَمَّا غَابَت الشَّمْسُ، قَالَ لِرَجُلٍ:"انْزِلْ، فَاجْدَحْ لَنَا"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَ:"انْزِلْ، فَاجْدَحْ لَنَا"، قَالَ: إِنَّ عَلَيْنَا نَهَارًا، فَنَزَلَ، فَجَدَحَ لَهُ، فَشَرِبَ، ثُمَّ قَالَ:"إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا -وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ- فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَلِئ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(عَبَّاد بْنُ الْعَؤَامِ) بن عُمر الكلابيّ مولاهم، أبو سهل الواسطيّ، ثقةٌ [8](ت 185) أو بعدها، وله نحو (70) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 439.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد أيضًا من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقيه، وهو (161) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (لَوْ أَمْسَيْتَ) يَحْتَمِل أن تكون "لو" للتمنِّي، فلا تحتاج إلى جواب، وَيحْتَمِل أن تكون شرطيّة، ويقدّر جوابها: أي لكان خيرًا، أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2561]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو كَامِلٍ

(1)

، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه يَقُولُ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلَمَّا غَرَبَت الشَّمْسُ، قَالَ:"يَا فُلَانُ انْزِلْ، فَاجْدَحْ لَنَا"، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ

(2)

، وَعَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ).

(1)

وفي نسخة: "أبو كامل الْجَحْدريّ".

(2)

وفي نسخة: "بمثل حديث ابن مسهر".

ص: 588

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين بن طلحة الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من (80) سنةً (خت م د ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد أيضًا من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقيه، ولاحقه، وهو (162) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ، وَعَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ) يعني أن رواية عبد الواحد بن زياد، عن سليمان الشيبانيّ، مثل رواية عليّ بن مُسهِر، وعبّاد بن العوّام، كلاهما عنه.

[تنبيه]: رواية عبد الواحد، عن الشيبانيّ، هذه ساقها البزار رحمه الله في "مسنده" (8/ 264) فقال:

(3325)

- أخبرنا محمد بن عبد الملك، قال: أخبرنا عبد الواحد بن زياد، قال: أخبرنا سليمان الشيبانيّ، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، قال: سِرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صائم في سفر، فلما غربت الشمس قال لرجل:"انزل، فاجدح لنا"، قال: يا رسول الله، لو أمسيت، قال:"انزل، فاجدح لنا"، قال: يا رسول الله، إن عليك نهارًا، قال:"أنزل، فاجدح لنا"، فنزل، فجدح، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا، فقد أفطر الصائم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2562]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا عَن الشَّيْبَانِيِّ، عَن ابْنِ أَبِي أَوْفَى (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَن الشَّيْبَانِيّ، عَن ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى

ص: 589

حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ

(1)

، وَعَبَّادٍ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ:"فِي شَهْرِ رَمَضَانَ"، وَلَا قَوْلُهُ:"وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا" إِلَّا فِي رِوَايَةِ هُشَيْمٍ وَحْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، نزيل مكة، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ إمام، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(إِسْحَاقُ) بن إبراهيم الحنظليّ المعروف بابن راهويه، تقدّم قبل باب.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

6 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ، تقدّم قريبًا.

7 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد، تقدّم في الباب الماضي.

8 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

9 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: إسناد ابن أبي عمر، وإسحاق ابن راهويه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كالأسانيد الثلاثة الماضية، وهو (263) من رباعيّات الكتاب، وأما الإسنادان الأخيران، فمن خماسيّات الكتاب.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ، وَعَبَّادٍ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ) يعني أن حديث سفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، وشعبة ثلاثتهم عن الشيبانيّ، بمعنى حديث عليّ بن مسهر، وعبّاد بن العوّام، وعبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن الشيبانيّ.

وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ) إلخ بيّن به الاختلاف الواقع بينهم في لفظ الحديث، فقد اتّفق كلهم على أنه ليس في رواياتهم قوله:"فِي شَهْرِ رَمَضَانَ"، وَلَا قَوْلُهُ:"وَجَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا"، وإنما في رواية هُشَيْمٍ وَحْدَهُ.

(1)

وفي نسخة: "بمثل حديث ابن مسهر".

ص: 590

[تنبيه]: أما رواية سفيان بن عيينة، عن الشيبانيّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "الصوم" من"صحيحه"، فقال:

حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق الشيبانيّ، سمع ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لرجل:"انزل، فاجدَحْ لي"، قال: يا رسول الله الشمس، قال:"انزل، فاجدَح لي"، قال: يا رسول الله الشمس، قال:"انزل فاجدَح لي"، فنزل، فجَدَح له، فشرب، ثم رمى بيده ها هنا، ثم قال:"إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا، فقد أفطر الصائم". انتهى.

وأما رواية جرير بن عبد الحميد، عن الشيبانيّ، فقد ساقها البخاريّ أيضًا في "الطلاق" من"صحيحه"، فقال:

(4991)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا جرير بن عبد الحميد، عن أبي إسحاق الشيبانيّ، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كنا في سفر، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غربت الشمس قال لرجل:"انزل، فاجدَحْ لي"، قال: يا رسول الله لو أمسيت، ثم قال:"انزل، فاجدح"، قال: يا رسول الله، لو أمسيت، إن عليك نهارًا، ثم قال:"انزل، فاجدح"، فنزل، فجَدَحَ له في الثالثة، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أومأ بيده إلى المشرق، فقال:"إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا، فقد أفطر الصائم". انتهى.

وأما رواية شعبة، عن الشيبانيّ، فقد ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 176) فقال:

(2477)

- حدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا محمد بن يحيى، ثنا محمدبن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق الشيبانيّ، قال: سمعت ابن أبي أوفى يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهو صائم، قال: فدعا صاحب شرابه بشراب، فقال صاحب شرابه: لوأمسيت يا رسول الله، ثم دعاه، فقال: لو أمسيت يا رسول الله، ثم دعاه، فقال: لوأمسيت، ثم دعاه، فقال:"إذا جاء الليل من ها هنا، فقد حل الإفطار"، أو كلمة هذا معناها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 591

(11) - (بَابُ النَّهْيِ عَن الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2563]

(1152) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَن الْوِصَالِ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ؟، قَالَ: (إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ، وَأُسْقَى").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَمالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، الإمام الحجة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهور [3](ت 117) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله العدويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 47)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (164) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه أيضًا، كما أسلفته آنفًا.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْوِصَالِ) أي تتابع الصوم من

ص: 592

غير إفطار بالليل، والحكمة في النهي أنه يورث الضعف، والسآمة، والقصور عن أداء غيره من الطاعات، فقيل: النهي للتحريم، وقيل: للتنزيه، والقول بالتحريم هو الحقّ، كما سيأتي.

(قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ) وفي الرواية التالية: "قيل له: أنت تواصل"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي:"فقال له رجلٌ من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل".

وقال في "الفتح": قوله: "قالوا: إنك تواصل" كذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه:"فقال له رجل من المسلمين"، وكان القائل واحد، ونُسب القول إلى الجميع؛ لرضاهم به، ولم أقف على تسمية هذا القائل في شيء من الطرق. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ) وفي الرواية التالية: "إني لست مثلكم"، وفي حديث أبي هريرة":"وأيّكم مثلي"، ونحوه في مرسل الحسن عند سعيد بن منصور، وهذا الاستفهام يفيد التوبيخ المشعر بالاستبعاد، وقوله:"مثلي": أي على صفتي، أو منزلتي من ربّي، قاله في "الفتح"

(2)

.

(إِنِّي أُطْعَمُ، وَأُسْقَى") بالبناء للمفعول؛ أي يُطعمني الله سبحانه وتعالى، ويسقيني، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إني أبيت يُطعمني ربي، ويسقيني".

قال النوويّ رحمه الله: معناه يجعل الله تعالى فِيَّ قُوّة الطاعم الشارب، وقيل: هو على ظاهره، وأنه يُطْعَم من طعام الجنة، كرامةً له، والصحيح الأول؛ لأنه لوأكل حقيقةً لم يكن مواصلًا، ومما يوضح هذا التأويل، ويقطع كل نزاع قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذا:"إني أَظَلَّ يُطعمني ربي، ويسقيني"، ولفظة "ظَلّ" لا يكون إلا في النهار، قال: ولا يجوز الأكل الحقيقيّ في النهار بلا شك. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في هذا في المسألة السادسة -إن شاء الله تعالى- وترجيح مذهب القائلين بحمل الحديث على ظاهره،

(1)

"الفتح" 5/ 370.

(2)

"الفتح" 5/ 370.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 212.

ص: 593

فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، دىاليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 2563 و 2564 و 2565](1102)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1922 و 1962)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 188)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 177)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 241)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" 4/ 281 و 282 و 7/ 61) و"المعرفة"(3/ 425)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 244)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن الوصال، قيل: يَحْتَمِل التحريم والكراهة، لكن قوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والوصالَ"، يقتضي التحريم، وكذا قوله في حديث أنس رضي الله عنه في "الصحيحين"، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في "صحيح البخاريّ": "لا تواصلوا

"، فالحقّ أن النهي للتحريم، كما سيأتي تحقيقه قريبًا.

2 -

(ومنها): بيان شدّة رأفته صلى الله عليه وسلم بأمته حيث نهاهم عن الوصال، كما قالت عائشة رضي الله عنها:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم".

3 -

(ومنها): أن في قول الصحابة رضي الله عنهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنك تواصل" دليل على استواء المكلفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبتٌ في حقه صلى الله عليه وسلم ثبتٌ في حقّ أمته، إلا ما اسُتْثِني، فطلبوا الجمع بين قوله في النهي، وفعله الدال على إباحة ذلك، فأجابهم باختصاص فعله به، وأنه لا يتعداه في هذه الصورة إلى غيره، قاله وليّ الدين

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه جوازَ معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله، ولم يَعْلَم المستفتي بسر المخالفة.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 131.

ص: 594

5 -

(ومنها): أن فيه الاستكشافَ عن حكمة النهي.

6 -

(ومنها): أن فيه ثبوت خصائصه صلى الله عليه وسلم، وأن عموم قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية [الأحزاب: 21] مخصوص بمثل هذا الحديث.

7 -

(ومنها): أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون إلى فعله صلى الله عليه وسلم المعلوم صفته، ويبادرون إلى الائتساء به إلا فيما نهاهم عنه.

8 -

(ومنها): أن خصائصه صلى الله عليه وسلم يُتَأَسَّى به في جميعها، قال في "الفتح": وقد توقف في ذلك إمام الحرمين، وقال أبو شامة: ليس لأحد التشبه به في المباح، كالزيادة على أربع نسوة، ويستحب التنزه عن المحرم عليه، والتشبه به في الواجب عليه كالضحى، وأما المستحب فلم يتعرض له، والوصال منه، فَيَحْتَمِل أن يقال: إن لم يَنْهَ عنه لم يُمْنَع الائتساء به فيه، والله أعلم. انتهى.

9 -

(ومنها): أن فيه بيانَ قدرة الله تعالى على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر.

10 -

(ومنها): أن فيه أبينَ دليل، وأوضحَ حجة على أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا تعارض مع قوله، إما أن يُجمع بينهما، أو يُطلب الترجيح، ولا يقال: إن قوله يقدّم على فعله، كما يقول به بعض الأصوليين، وجه دلالة الحديث على هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لما واصل النبي صلى الله عليه وسلم بعد نهيه لهم عنه، فهِموا أن نهيه ليس للتحريم، فواصلوا، فسألهم عن وصالهم بعد نهيه لهم عنه، فأشاروا بأنهم تركوا قوله؛ اتّباعًا لفعله؛ ظنًّا منهم أن فعله في هذا للجواز، فلو كان القول يقدّم على الفعل لقال لهم: إذا تعارض قولي مع فعلي، فخذوا بقولي؛ لأن القول لكم، والفعل لي، فلمّا عدل عن هذا إلى قوله: "إني لست كأحدكم

" عرفنا أن هذا خصوصيّة له صلى الله عليه وسلم، ولولا هذا لكان ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم صوابًا، وأنه إذا تعارض القول مع الفعل يكون كتعارض القولين سواءً، وطريق العمل في ذلك الجمع، أو النسخ، أو الترجيح، كما هو مشهور في محلّه، فتنبّه لهذه الدقيقة، فإن فيها زلّ قدم كثير من الفقهاء والأصوليين، وقد أشبعت البحث في هذا في غير هذا الموضع، ولا سيّما في "التحفة

ص: 595

المرضيّة" و"شرحها"، فراجعهما تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم.

11 -

(ومنها): بيان أن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم، قال الشافعيّ رحمه الله بعد أن ذكر حديث النهي عن الوصال: وفرَّق الله بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبين خلقه في أمور، أباحها له، وحظرها عليهم، وذكر منها الوصال، وقال الخطابيّ رحمه الله: الوصال من خصائص ما أبيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محظور على أمته، وحَكَى النوويّ في "شرح المهذَّب" اتفاق نصوص الشافعيّ والأصحاب على أنه من الخصائص، ثم ذكر خلافًا في كيفية ذلك، فنقل عن الشافعيّ والجمهور أنه مباح له، وعن إمام الحرمين أنه قربة في حقه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إنكم لستم في ذلك مثلي

"، وفي "سنن أبي داود" عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال"

(1)

.

12 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: الحكمة في النهي عن الوصال أن لا يضعف عن الصيام، وسائر الطاعات، أو يَمَلّها ويسأم؛ لضعفه بالوصال؛ إذ يتضرر بدنه، أو بعض حواسّه، أو غير ذلك من أنواع الضرر. انتهى.

ويشير إلى ذلك قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي في تتمة الحديث: "فاكْلَفُوا من العمل ما تطيقون".

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذي": وَيحْتَمِل أن النهي عن ذلك خوف أن يُفتَرض عليهم، فيَعْجَزوا عنه، كما ورد في قيام رمضان، وعلى هذا فقد امِنَ من ذلك بعده صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله العراقيّ رحمه الله وإن كان محتَمِلًا، فبناء على قوله:"وعلى هذا إلخ" بعيدٌ، فالحق أن النهي لا يزال مستمرًّا بعد موته صلى الله عليه وسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى الوصال:

قال وليّ الدين رحمه الله: الوصال هنا أن يصوم يومين فصاعدًا، ولا يتناول

(1)

"طرح التثريب" 4/ 131 - 132.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 132.

ص: 596

في الليل لا ماءً، ولا مأكولًا، فإن أكل شيئًا يسيرًا، أو شرِبَ ولو قطرةً فليس وصالًا، وكذا إن أخّر الأكل إلى السحر؛ لمقصود صحيح، أو غيره فليس بوصال، كذا قاله الجمهور من أصحابنا وغيرهم، وقال الرُّويانيّ في "الحلية": هو أن يَصِلَ صوم الليل بصوم النهار قصداً، فلو ترك الأكل بالليل لا على قصد الوصال، والتقرب إلى الله تعالى به لم يحرم.

وقال البغويّ: العصيان في الوصال؛ لقصده إليه، وإلا فالفطر حاصل بدخول الليل، كالحائض إذا صلّت عَصَت، وإن لم يكن لها صلاة.

قال النوويّ في "شرح المهذب": وهو خلاف إطلاق الجمهور، وخلاف ما صَرَّح به إمام الحرمين، ثم قال النوويّ: والصواب أن الوصال ترك الأكل والشرب في الليل بين الصومين عمدًا، بلا عذر.

قال الإمام الإسنويّ: ومقتضاه أن ما عدا الأكل والشرب، كالجماع، والاستقاء، وغيرهما من المفطرات لا يخرجه عن الوصال، وهو ظاهر من جهة المعنى؛ لأن النهي عن الوصال إنما هو لأجل الضعف، وهذه الأمور تزيده، أو لا تمنع حصوله، لكن ذكر جماعة خلاف ذلك، منهم الرويانيّ في "البحر"، قال: الوصال المكروه أن لا يَطْعَم بالليل بين يومي صوم، ويستديم جميع أوصاف الصائمين، والجرجانيّ في "الشافي" قال: الوصال أن يترك بالليل ما أبيح له من غير إفطار.

وقال ابن الصلاح: يزول بما يزول به صورة الصوم، وقال الإسنوي أيضًا: وتعبيرهم بصوم يومين، يقتضي أن المأمور بالإمساك، كتارك النية لا يكون امتناعه بالليل من تعاطي المفطرات وصالًا؛ لأنه ليس بين صومين إلا أن الظاهر أن ذلك جرى على الغالب. انتهى.

وكلام القاضي أبي بكر ابن العربيّ يُشْعِر بأن الوصال هو الإمساك بعد حِلِّ الفطر، فإنه حَكَى في حكمه ثلاثة أقوال: التحريم، والجواز، وثالثها أن يواصل إلى السحر، قاله أحمد، وإسحاق، ثم قال: والصحيح منعه، فيقتضي أن المواصلة إلى السحر داخلة في حدّ الوصال، وأن جميع أنواع الوصال حرام، حتى إنه يحرم عليه أن يواصل بعد الغروب، وذلك يصدق بتأخير الفطر قليلًا، وهذا لا يقوله أحد، لا أهل الظاهر، ولا غيرهم، إلا أن القاضي

ص: 597

عياضًا حَكَى عن بعض العلماء أن الإمساك بعد الغروب لا يجوز، وهو كإمساك يوم الفطر، ويوم النحر، وقال بعضهم: ذلك جائزٌ، له أجر الصائم. انتهى، وكلا القولين مردودٌ.

أما تحريم الإمساك بعد الغروب، فلقوله صلى الله عليه وسلم:"فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر"، أخرجه البخاريّ من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، والظاهر أن صاحب هذه المقالة، إنما أراد تحريم الإمساك المستمرّ إلى آخر الليل، ولم يُرِد تحريم مطلق الإمساك، فإن هذا لا يمكن القول به، إلا أن ينضم إلى ذلك نية الصوم، واعتقاد كونه صومًا شرعيًّا، والخلل في ذلك من عبارة القاضي، وأنها غير وافية بالمقصود.

وأما القول بان له أجر الصائم، فكيف يصح والليل ليس محلًّا للصوم، ولو نواه فيه لم ينعقد، فكيف يكتب له أجر صومه؟. انتهى

(1)

.

قمال الجامع عفا الله عنه: أقرب الأقوال عندي قول من قال: إن الوصال إنما يكون بترك الأكل والشرب؛ لأن هذا هو الذي يدل عليه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أبيت عند ربيّ يُطعمني، ويسقيني"، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الوصال:

قال الحافظ وليّ رحمه الله: اختَلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الجمهور إلى النهي عنه، وحَكَى ابن المنذر كراهته عن مالك، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وقال العبدريّ من أصحابنا: هو قول العلماء كافّة، إلا ابن الزبير، وهو متفق عليه في مذهب الشافعيّ.

واختلفوا في أنها كراهة تحريم، أو تنزيه، وفيه وجهان مشهوران للشافعية، أصحهما عندهم، وهو ظاهر نصّ الشافعيّ أنها كراهة تحريم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": اختُلِف في المنع المذكور، فقيل: على سبيل

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 128 - 130.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 130.

ص: 598

التحريم، وقيل: على سبيل الكراهة، وقيل: يحرم على مَن شَقَّ عليه، ويباح لمن لم يشق عليه، وقد اختَلَف السلف في ذلك، فنُقِل التفصيل عن عبد الله بن الزبير، ورَوَى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يومًا، وذهب إليه من الصحابة أيضًا أخت أبي سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نُعْم، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن زيد التيميّ، وأبو الجوزاء، كما نقله أبو نعيم في ترجمته في "الحلية"، وغيرهم، رواه الطبري وغيره.

ومن حجتهم أنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم لَمَا أقرّهم على فعله، فعُلِم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم، والتخفيف عنهم، كما صَرَّحت به عائشة رضي الله عنها في حديثها، وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل؛ خشيةَ أن يُفْرَض عليهم، ولم يُنكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشقّ عليه، وسيأتي نظير ذلك في صيام الدهر، فمن لم يشقّ عليه، ولم يقصد موافقة أهل الكتاب، ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر، لم يُمنع من الوصال.

قال الجامع عفا الله عنه: في قوله: "ولم ينكر إلخ" نظرٌ لا يخفى، وكيف لم ينكر؟، وقد ثبتٌ إنكاره صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو، وأنكر على من واصل، وأنكر على الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، إلى أن قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل الثساء، فلا أتزوج أبدًا، فلما سمع بذلك صلى الله عليه وسلم، أنكر عليهم أشدّ الإنكار، فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، متّفقٌ عليه، فأيّ إنكار أشدّ من هذا؟ فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد.

قال: وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال، وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم، والكراهة، هكذا اقتصر عليه النوويّ، وقد نَصّ الشافعي في "الأم" على أنه محظور.

وأغرب القرطبيّ، فنقل التحريم عن بعض أهل الظاهر على شكّ منه في

ص: 599

ذلك، ولا معنى لشكه، فقد صرح ابن حزم بتحريمه، وصححه ابن العربيّ من المالكية.

وذهب أحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة، وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، فقد أخرج البخاريّ عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر"، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال:"لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعم يطعمني، وساقٍ يسقين".

وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره، إلا أنه في الحقيقة بمنزلة عشائه، إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخفّ لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محلّ ذلك ما لم يشقّ على الصائم، وإلا فلا يكون قربة.

قال: وانفصل أكثر الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالًا، بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه، كما يمسك في النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالًا؛ لمشابهته الوصال في الصورة، قال: ويُحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل، وقد ورد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر، أخرجه أحمد، وعبد الرزاق، من حديث عليّ رضي الله عنه، والطبرانيّ من حديث جابر، وأخرجه سعيد بن منصور مرسلًا من طريق ابن أبي نَجِيح، عن أبيه، ومن طريق أبي قلابة، وأخرجه عبد الرزاق، من طريق عطاء.

واحتَجُّوا للتحريم بقوله في الحديث المتقدم: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، فقد أفطر الصائم"؛ إذ لم يُجعل الليل محلًّا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالفة لوضعه، كيوم الفطر.

وأجابوا أيضًا بان قوله: "رحمةً لهم" لا يمنع التحريم، فإن من رحمته لهم أن حَرَّمه عليهم، وأما مواصلته بهم بعد نهيه، فلم يكن تقريرًا، بل تقريعًا وتنكيلًا، فاحتُمِل مثهم ذلك؛ لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم؛ لأنهم إذا باشروه ظهرت لهم حكمة النهي، وكان ذلك أدعى إلى قلوبهم؛ لما يترتب

ص: 600

عليهم من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم منه، وأرجح من وظائف الصلاة، والقرأءة، وغير ذلك، والجوعُ الشديد ينافي ذلك، وقد صَرَّح بأن الوصال يختص به؛ لقوله:"لست في ذلك مثلكم"، وقوله:"لست كهيئتكم"، هذا مع ما انضم إلى ذلك من استحباب تعجيل الفطر، كما تقدم في بابه.

قال الحافظ: ويدلّ على أنه ليس بمحرَّم حديث أبي داود، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدَّثني رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الحجامة، والمواصلة، ولم يُحَرِّمهما؛ إبقاءً على أصحابه، فقيل له: يا رسول الله إنك تواصل إلى السحر؟ فقال: "إنني أواصل إلى السحر، وربي يطعمني، ويسقيني"، فإن الصحابيّ صَرَّح فيه بأنه صلى الله عليه وسلم لم يُحَرِّم الوصال.

ورَوَى البزار، والطبرانيّ من حديث سمرة رضي الله عنه: نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الوصال، وليس بالعزيمة.

وأما ما رواه الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: أن جبريل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد قَبِل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك"، فليس إسناده بصحيح، فلا حجة فيه.

ومن أدلة الجواز: إقدام الصحابة رضي الله عنهم على الوصال بعد النهي، فَدَلّ على أنهم فَهِمُوا أن النهي للتنزيه، لا للتحريم، وإلا لَمَا أقدموا عليه.

ويؤيد أنه ليس بمحرَّم أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم حديث بَشِير ابن الخصاصية، الذي أخرجه أحمد، والطبرانيّ، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم في "تفسيريهما" بإسناد صحيح إلى ليلى امرأة بَشِير ابن الخصاصية، قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلةً، فمنعني بشير، وقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن هذا، وقال:"يفعل ذلك النصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى، أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا"، لفظ ابن أبي حاتم.

قال: سوَّى في علة النهي بين الوصال، وبين تأخير الفطر، حيث قال في كل منهما:"إنه فعل أهل الكتاب"، ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يُعْتَدّ به من أهل الظاهر.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ما في قوله: "ولم يقل إلخ"، وقوله:

ص: 601

"من لا يُعتدّ به إلخ"، من المجازفة، وكيف لا يُعتدّ بمن يكون ظاهر النصّ معه؟ والله المستعان.

قال: ومن حيث المعنى ما فيه من فطم النفس وشهواتها وقمعها عن ملذوذاتها، فلهذا استمرّ على القول بجوازه مطلقًا أو مقيدًا مَن تقدم ذكره. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا حاول الحافظ في تأييد مذهب القائلين بإباحة الوصال، مع أن النصوص واضحة مستنيرة في الدلالة على التحريم.

فالحقّ الذي يقتضيه ما سبق من الأدلّة أن النهي عن الوصال للتحريم، إلا ما استثناه، وهو الوصال حتى السحر، وأما ما ذكره من استمرار بعض الصحابة، أو من بعدهم عليه، فلا يكون حجة؛ إذ لا حجة فيما عارضه النصوص.

قال أبو محمد بن حزم رحمه الله بعد أن ذكر أدلة النهي ما نصّه: هذا يوضح أن لا حجة في أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا صاحب ولا غيره، فقد واصل قوم من الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتأولوا في ذلك التأويلات البعيدة، فكيف بعده عليه السلام، فكيف من دونهم، ولا فرق بين من خالف حَضَّه عليه السلام على صوم يوم عرفة، ونهيه عليه السلام عن تخصيص صوم يوم الجمعة، وتأولوا في ذلك أنه عليه السلام لم يصم يوم عرفة، وقول ابن مسعود: قَلّما رأيته عليه السلام مفطرًا يوم جمعة، وبين من خالف نهيه عن الوصال، وتأول أنه عليه السلام كان يواصل. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

والحاصل أن القول بتحريم الوصال إلا إلى السحر هو الظاهر الذي تؤيّده الأدلة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب (المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يطعمني ويسقيني":

قيل: هو على حقيقته، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله؛ كرامةً له في ليالي صيامه.

(1)

"المحلّى لابن حزم" 7/ 22.

ص: 602

وتعقبه ابنُ بطال، ومن تبعه بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلًا، وبأن قوله:"يَظَلّ" يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقةً لم يكن صائمًا.

وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت"، دون "أَظَلّ"، وعلى تقدير الثبوت فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى له من حمل لفظ "أَظَلّ" على المجاز، وعلى التنزل فلا يَضرّ شيء من ذلك؛ لأن ما يؤتى به الرسول كلعلى سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها، لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه، كما غُسِل صدره صلى الله عليه وسلم في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية حرامٌ.

وقال ابن الْمُنَيِّر في "الحاشية": الذي يفطر شرعًا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارف للعادة، كالمحضر من الجنة، فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب، كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة.

وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، ولا يلزم شيء مما تقدم ذكره، بل الرواية الصحيحة:"أبِيت"، وأكله وشربه في الليل مما يُؤتى به من الجنة لا يقطع وصاله؛ خصوصيةً له بذلك، فكأنه قال -لما قيل له: إنك تواصل-، فقال:"إني لست في ذلك كهيئتكم"؛ أي على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني، ولا تنقطع بذلك مواصلتى، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورةً ومعنًى.

وقال الزين ابن المنير: هو محمول على أن أكله وشربه في تلك الحالة كحال النائم الذي يحصل له الشِّبَع والرِّيّ بالأكل والشرب، ويستمرّ له ذلك حتى يستيقظ، ولا يبطل بذلك صومه، ولا ينقطع وصاله، ولا ينقص أجره.

وحاصله أنه يُحْمَل ذلك على حالة استغراقه صلى الله عليه وسلم في أحواله الشريفة، حتى لا يؤثر فيه حينئذ شيء من الأحوال البشرية.

وقال الجمهور: قوله: "يُطعمني ويُسقيني" مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوّة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب، ويُفيض عليّ

ص: 603

ما يسُدّ مَسَدّ الطعام والشراب، ويُقَوِّي على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة، ولا كَلَال في الإحساس، أو المعنى: أن الله تعالى يَخْلُق فيه من الشِّبَع والزيِّ ما يُغنيه عن الطعام والشراب، فلا يُحِسّ بجوع، ولا عطش.

والفرق بينه وبين الأول، أنه على الأول يُعْطَى القوّة من غير شِبَعٍ، ولا رِيٍّ، مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني يُعْطَى القوّة مع الشِّبَع والرِّيّ.

ورُجِّح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم، ويفوِّت المقصود من الصيام والوصال؛ لأن الجوع هو رُوح هذه العبادة بخصوصها.

قال القرطبيّ: ويُبعده أيضًا النظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يجوع أكثر مما يَشبَع، وَيرْبط على بطنه الحجارة من الجوع.

وتمسك ابن حبان بظاهر الحال، فاستدلّ بهذا الحديث على تضعيف الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع، وَيشُدّ الحجر على بطنه من الجوع، قال: لأن الله تعالى كان يُطعم رسوله صلى الله عليه وسلم ويسقيه إذا واصل، فكيف يتركه جائعًا حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه؟ ثم قال: وماذا يغني الحجر من الجوع؟ ثم ادَّعَى أن ذلك تصحيف ممن رواه، وإنما هي الْحُجَز بالزاي، جمع حُجْزة، وقد أكثر الناس من الردّ عليه في جميع ذلك، وأبلغ ما يُرَدَّ عليه به أنه أخرج في "صحيحه" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فرأى أبا بكر وعمر، فقال:"ما أخرجكما"؟ قالا: ما أخرجنا إلا الجوع، فقال: داوأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع

" الحديث، فهذا الحديث يَرُدّ ما تمسك به.

وأما قوله: وما يغني الحجر من الجوع؟ فجوابه أنه يُقيم الصلب؛ لأن البطن إذا خلا ربما ضَعُف صاحبه عن القيام؛ لانثناء بطنه عليه، فإذا ربط عليه الحجر اشتدّ، وقَوِيَ صاحبه على القيام، حتى قال بعض من وقع له ذلك: كنت أظن الرِّجْلين يحملان البطن، فإذا البطن يَحْمِل الرِّجْلين.

وَيحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "يطعمني ويسقيني" أي يَشغلني بالتفكر في عظمته، والتملي بمشاهدته، والتغذي بمعارفه، وقرة العين بمحبته، والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه عن الطعام والشراب، وإلى هذا جَنَحَ ابن القيِّم، وقال: قد يكون هذا الغذاء أعظم من غذاء الأجساد، ومن له أدنى

ص: 604

ذوق، وتجربة يَعْلَم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الجسمانيّ، ولا سيما الفَرِحُ المسرور بمطلوبه الذي قَرَّت عينه بمحبوبه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن لي مما سبق من استعراض هذه الأقوال، وحججها أن أقربها، وأشبهها بالصواب القول بما دلّ عليه ظاهر النصّ، من أن الله تعالى يُطعم نبيّه صلى الله عليه وسلم، ويسقيه طعامًا، وشرابًا حقيقيين، وأن ذلك الطعام والشراب ليس مما يفسد الصوم، ولا ينافي الوصال؛ لأنه ليس من طعام الدنيا، ولا من شراب الدنيا، والتكليف إنما يتعلّق بهما، كما سبق الإشارة إليه في كلام ابن المنيّر رحمه الله وغيره.

والحاصل أن حمل الحديث على المعنى الحقيقيّ دون تعرّض إلى التأويلات المتكلّفة، هو الأرجح؛ لعدم ما يمنع منه، كما أشرت إليه آنفًا، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2564]

(

) - (وَحَدَّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنا أَبِي، حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاصَلَ فِي رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ، قِيلَ لَهُ: أَنْتَ تُوَاصِلُ؟، قَالَ:"إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ، وَأُسْقَى").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

(1)

"الفتح" 5/ 376 - 378 كتاب "الصوم" رقم (1965).

ص: 605

4 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر الْعُمَريّ، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (قِيلَ لَهُ: أنتَ تُوَاصِلُ) لا يُعرف القائل بعين، ففي رواية أبي هريرة رضي الله عنه الآتية:"فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2565]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: "في رَمَضَانَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ [11](ت 252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث العنبريّ مولاهم، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(جَذُهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) يعني أن حديث أيوب، عن نافع مثل حديث عبيد الله بن عمر، عنه.

وقوله: (وَلَمْ يَقُلْ: "في رَمَضَانَ") الفاعل ضمير "أيوب".

[تنبيه]: رواية أيوب، عن نافع ساقها الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 153) فقال:

ص: 606

(6413)

- حدّثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواصل الناس، فنهاهم، فقالوا: يا رسول الله، فإنك تواصل، فقال:"إني لست كهيئتكم، إني أُطْعَم، وأُسْقَى". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2566]

(1103) - حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، حَدثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَن أَبا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِن الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي، وَيَسْقِينِي"، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَن الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ:"لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ"، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقذم أيضًا قبل بابين.

4 -

(ابْنُ شِهَاب) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.

5 -

(أَبُو سَلَمَةً بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها) أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

ص: 607

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه قال: (حَدَّثَنى أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، هكذا في رواية يونس، عن الزهريّ عند المصنّف، وتابعه شعيب بن حمزة، عند البخاريّ في "الصوم"، وعُقَيل عنده أيضًا في "باب التعزير"، ومعمرٌ عنده أيضًا في "كتاب التمني" وآخرون كلّهم عن الزهريّ، عن أبي سلمة، وخالفهم عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، فرواه عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، علَّقه البخاريّ في "كتاب المحاربين"، وفي "التمني"، قال في "الفتح": وليس اختلافًا ضارًّا، فقد أخرجه الدارقطنيّ في "العلل" من طريق عبد الرحمن بن خالد هذا، عن الزهريّ عنهما جميعًا، وكذلك رواه عبد الرحمن بن نَمِر، عن الزهريّ، عن سعيد وأبي سلمة جميعًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الإسماعيليّ، وكذا ذكر الدارقطنيّ أن الزبيديّ تابع ابن نمر على الجمع بينهما. انتهى

(1)

.

(أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الْوِصَالِ) هو الترك في ليالي الصوم لما يُفطّر بالنهار بالقصد، فيخرج من أمسك اتّفاقًا، ويدخل من أمسك جميع الليل، أو بعضه

(2)

. (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ولفظ البخاريّ: "فقال له رجل من المسلمين"، وكذا هو للأكثرين، ووقع في رواية عُقيل عند البخاريّ:"فقال رجالٌ"(فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟) هو بمعنى قوله: "لست كأحدكم"(إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في محلّ الاستئناف المراد به التعليل (أَبِيتُ يُطْعِمُنِي) بضمّ أوله، لا غير؛ لأنه

(1)

"الفتح" 5/ 374 - 375.

(2)

"الفتح" 5/ 368.

ص: 608

مِن أطعم الرباعيّ (رَبِّي، وَيَسْقِينِي") يجوز فتح أوله، وضمّه، مِن سقى، وأسقى، كلاهما لغتان مشهورتان

(1)

، فمن الأول قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، ومن الثاني قوله:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] الآية (فَلَمَا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَن الْوِصَالِ) أي لَمّا امتنعوا عن ترك الوصال؛ ظنًّا منهم أنه إنما نهاهم رفقًا بهم، لا تحريمًا عليهم (وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ) ظاهره أن قدر المواصلة بهم كانت يومين، وقد صَرَّح بذلك في رواية معمر عند البخاريّ، كما أشرنا إليها قريبًا (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ) أي رؤية هلال رمضان (لَزِدْتُكُمْ") استُدِلّ به على جواز قول "لو" وحُمِل النهي الوارد في ذلك على ما لا يتعلق بالأمور الشرعية، كما سيأتي بيانه في "كتاب القدر"

(2)

-إن شاء الله تعالى-.

والمراد بقوله: "لو تأخر لزدتكم" أي في الوصال إلى أن تَعْجِزُوا عنه، فتسألوا التخفيف عنكم بتركه، وهذا كما أشار عليهم أن يرجعوا من حِصَار الطائف، فلم يُعجبهم، فأمرهم بمباكرة القتال من الغد، فأصابتهم جراح وشدّة، وأحبوا الرجوع، فأصبح راجعًا بهم، فأعجبهم ذلك، وسيأتي ذكره مُوَضَّحًا في "كتاب الجهاد"

(3)

-إن شاء الله تعالى-

(كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ) وفي رواية للبخاريّ: "كالتنكيل لهم"، ووقع في رواية المستملي:"كالمنكر" بالراء، وسكون النون، من الإنكار، وللحمويّ:"كالمنكي" بتحتانية ساكنة، قبلها كاف مكسورة خفيفة، في النكاية، قال في "الفتح": والأول هو الذي تضافرت به الروايات، خارج هذا الكتاب -يعني "صحيح البخاريّ"-، والتنكيل: المعاقبة. انتهى.

(1)

وأما قول وليّ الدين رحمه الله في "طرح التثريب": قوله "ويسقيني" بفتح أوله، وضمه لغتان، أشهرهما الفتح. انتهى، فمحلّ نظر؛ بل هما مشهوران، وقعا في كتاب الله تعابى، فتنبّه.

(2)

سيأتي لمسلم -إن شاء الله تعالى- في كتاب "القدر" برقم (2664) رقم محمد فؤاد رحمه الله.

(3)

سيأتي لمسلم في كتاب "الجهاد والسير" برقم (1778) رقم محمد فؤاد رحمه الله.

ص: 609

والمعنى أنه إنما فعل بهم ذلك الوصال؛ لأجل أن يُعاقبهم حيث خالفوا نهيه، كما أشار إليه بقوله:(حِينَ أَبَوْا) أي امتنعوا (أَنْ يَنْتَهُوا) أي عن الانتهاء عما نهاهم عنه؛ ظنًّا منهم عدم التحريم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 2566 و 2567 و 2568 و 2569](1103)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1965 و 1966) و"الحدود"(6851) و"التمنّي"(7242) و"الاعتصام"(7299)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7754)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 82)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 231 و 253 و 257 و 261 و 345 و 377 و 495 و 496 و 516)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 8)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2071 و 2072)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3575)، و (أبو عواتة) في "مسنده"(2/ 187)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 178)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 68)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 282)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1738).

وأما فوائد الحديث فقد تقدّمت في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2567]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةً رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ"، قَالُوا: فَإنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "إِنَّكُمْ لَسْتُمْ في ذَلِكَ مِثْليِ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُني رَبِّي، وَيَسْقِينِي، فَاكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

ص: 610

2 -

(إِسْحَاقُ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(عُمَارَةُ) بن القعقاع بن شُبْرُمَة الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

5 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جَرِير البَجَليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل غيره، ثقةٌ [3] تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ) أي باعدوا أنفسكم عن وصال الصوم.

وقوله: (فَاكْلَفُوا) أي خُذوا وتحملوا، وهو بفتح اللام، أمر من كَلِفَ، يقال: كَلِفتُ الأمرَ، من باب تَعِبَ: حملته على مشقّة، ويتعدّى إلى مفعول ثانٍ بالتضعيف، فيقال: كففته الأمرَ، فتكلّفه، مثلُ حَمَّلته، فتحمّله وزنًا ومعنًى على مشفة أيضًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (مِنَ الْأَعْمَالِ) بيان مقدّم لـ "ما"، فيتعلّق بحال مقدّر؛ أي حال كونه كائنًا من الأعمال.

وقوله: (مَا تُطِيقُونَ)"ما" موصولة مفعول "اكْلَفُوا"، والعائد محذوف؛ لكونه فضلة، قال في "الخلاصة":

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ اوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَب"

والحديث متّفق عليه، وقد سبق تمام شرحه وبيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2568]

(

) - (وَحَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَاكْلَفُوا مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ").

(1)

"المصباح المنير" 2/ 537 - 538.

ص: 611

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(الْمُغِيرَةُ) بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الحِزَاميّ المدنيّ، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائبُ [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

و"أبو هريرة" ذُكر قبله.

وقوله: (بِمِثْلِهِ) أي بمثل حديث أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير للأعرج.

وقوله: (مَا لَكُمْ بِهِ طَاقَة)"ما" موصولة مفعول "اكْلَفُوا"، و"الطاقة": اسم من الإطاقة، كالطاعة: اسم من الإطاعة، يقال: أطقتُ الشيءَ إطاقةً: قَدَرتُ عليه، فأنا مُطِيقٌ

(1)

.

[تنبيه]: رواية الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (2/ 417) فقال:

(9398)

- حدثنا قُتَيْبَةُ، قال: ثنا الْمُغِيرَةُ بن عبد الرحمن القرشيّ، عن أبي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ"، قالوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يا رَسُولَ اللهِ، قال:"إني لَسْتُ في ذَا مِثْلَكُمْ، إني أَبِيتُ يطعمني ربي، ويسقيني، فَاكْلَفُوا ما لَكُمْ بِهِ طَاقَةٌ". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى الكلام فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2569]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا

(2)

الْأَعْمَشُ، عَنْ

(1)

"المصباح" 2/ 381.

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 612

أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْأَعْمَشُ) سُليمان بن مِهْران، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَوبو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 178) فقال:

(2484)

- حدّثنا محمد بن عليّ بن حبيش، ثنا القاسم بن زكريا، ثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل؟، قال:"إني لست مثلكم، إني أَظَلّ عند ربي، يطعمني، ويسقيني، اكلفوا من الأعمال ما تطيقون". انتهى.

[تنبيه آخر]: استغرب في "الفتح" قول المصنّف رحمه الله هنا: "بِمِثْلِ حَدِيثِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ"، فقال: ووقع لمسلم فيه شيء غريبٌ، فإنه أخرجه عن ابن نُمير، عن أبيه، فقال:"بمثل حديث عُمارة، عن أبي زرعة"، ولفظ عُمارة المذكور عنده:"إني أبيت يطعمني ربي، ويسقيني"، وقد عرفت أن رواية ابن نمير عند أحمد فيها:"إني أظلّ عند ربي، فيُطعمني، ويسقيني"، قال: وليس ذلك في شيء من الطرُق عن أبي هريرة، إلا في رواية أبي صالح، ولم ينفرد بها الأعمش، فقد أخرجها أحمد أيضًا من طريق عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح.

قال: ووقعت في حديث غير أبي هريرة، فأخرجها الإسماعيليّ في حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا، عن الحسن بن سفيان، عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عنها، بلفظ:"أَظَلّ عند الله يطعمني، ويسقيني"، وعن عمران بن موسى، عن عثمان، بلفظ:"عند ربي"، ووقعت

ص: 613

أيضًا كذلك عند سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، من مرسل الحسن، بلفظ:"أني أبيت عند ربي". انتهى.

وقال قبل ذلك: وقد رواه أحمد، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة كلهم عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بلفظ:"إني أظلّ عند ربي، فيطعمني، ويسقيني"، وكذلك رواه أحمد أيضًا عن ابن نُمير، وأبو نعيم في "المستخرج"، من طريق إبراهيم بن سعيد، عن ابن نُمير، عن الأعمش، وأخرجه أبو عوانة، عن عليّ بن حرب، عن أبي معاوية كذلك، وأخرجه هو وابن خزيمة من طريق عَبِيدة بن حُميد، عن الأعمش كذلك. انتهى

(1)

، وهو بحث مفيدٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الحافظ في بحثه المذكور، أن المصنّف خالف العادة المشهورة، وهي أنه إذا قيل:"بمثل حديث فلان" يراد به اتّفاقهما في اللفظ، وأما إذا اختلفا، فيُقال: بنحوه، وهنا قد اختلفت رواية الأعمش، عن أبي صالح، ورواية عمارة، عن أبي زرعة، فرواية الأعمش؛ بلفظ:"إني أَظَلّ عند ربي، يطعمني ويسقيني"، ورواية عُمارة بلفظ:"إني أبيت يُطعمني ربي، ويسقيني"، هذا حاصل ما أشار إليه.

لكن الذي ظهر لي بتتبعي صنيع المصنّف رحمه الله أن اصطلاحه في كتابه هذا ليس جارياً على القاعدة المذكورة، بل هو من باب التفنّن بتنويع العبارات، فتارة يعبّر بقوله:"بمثله" وتارة يُعبّر "بنحوه"، وتارة "مثله"، وتارةً "نحوه"، وتارةً "بمعناه"، سواء اتّحد الحديثان باللفظ، أو بالمعنى فقط، فلا ينبغي مطالبته بقاعدة أسّسها غيره، فإن لكلّ مصنّف منهجه، واصطلاحه الخاصّ به، وقد قرّرت هذا في غير هذا المحلّ، وبالله تعالى التوفيق.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 5/ 376 كتاب "الصوم" رقم (1966).

ص: 614

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2570]

(1104) - (حَدَّثَنِي

(1)

زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ، فَجِئْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَامَ أَيْضاً، حَتَّى كُنَّا رَهْطاً، فَلَمَّا حَسَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّا خَلْفَهُ، جَعَلَ يَتَجَوَّزُ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ، فَصَلَّى صَلَاةً لَا يُصَلِّيهَا عِنْدَنَا، قَالَ: قُلْنَا لَهُ حِينَ أَصْبَحْنَا: أفطَنْتَ لَنَا اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: فَقَالَ: (نَعَمْ، ذَاكَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الَّذِي صَنَعْتُ"، قَالَ: فَأَخَدَ يُوَاصِلُ رَسُولُ الهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَاكَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَأَخَدَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُوَاصِلُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ رِجَالٍ يُوَاصِلُونَ؟ إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلي، أَمَا وَاللهِ لَوْ تَمَادَّ لِي الشَّهْرُ، لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ، لقيه قَيْصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) عن (73) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

2 -

(سُلَيْمَانُ) بن المغيرة القَيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

3 -

(ثَابِت) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه تقدّم قبل باب.

و"زُهير" ذُكر في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 615

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من سليمان، والباقيان بغداديّان، و"أنس" رضي الله عنه تقدّم الكلام فيه قريباً.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ) أي في لياليه (فَجئْتُ، فَقُمْتُ اِلَى جَنْبِهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ) لم يُعرف اسمه

(1)

. (فَقَامَ أَيْضاً، حَتَّى كُنَّا رَهْطاً) أي جماعةً، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّهْطُ: ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: الرهط: من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نَفْرٌ، وقال أبو زيد: الرهط، والنَّفَرُ: ما دون العشرة من الرجال، وقال ثعلب أيضاً: الرهط، والنَّفَرُ، والقوم، والْمَعْشَرُ، والْعَشِيرة: معناهم: الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال دون النساء، وقال ابن السكيت: الرهط، والعشيرة: بمعنى، ويقال: الرهط: ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضاً، ورَهْطُ الرجلِ: قومُهُ، وقبيلته الأقربون. انتهى

(2)

.

(فَلَمَّا حَسَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) من باب نصر: أي علم صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ: رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "حَسَّ" بغير ألف، ويقع في طُرُق بعض النسخ:"أَحَسَّ" بالألف، وهذا هو الفصيح الذي جاء به القرآن، وأما "حَسَّ" بحذف الألف فلغة قليلة، وهذه الرواية تَصِحّ على هذه اللغة. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأحسَّ الرجلُ الشيءَ إحساساً: عَلِم به، يتعدى بنفسه مع الألف، قال تعالى:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} [آل عمران: 52]، وربما زيدت الباء، فقيل: أحس به، على معنى شَعَرَ به، وحَسَسْتُ به، من باب قَتَلَ لغةٌ فيه، والمصدر: الْحِسّ بالكسر، تتعدى بالباء، على معنى شَعَرْتُ أيضاً، ومنهم من يُخَفِّفُ الفعلين بالحذف، فيقول: أحسته، وحَسَتُ به، ومنهم

(1)

"تنبيه المعلم" ص 201.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 241.

(3)

"شرح النوويّ" 7/ 213.

ص: 616

من يُخَفِّف فيهما بإبدال السين ياءً، فيقول: حَسَيْتُ، وأحسيت. انتهى

(1)

.

(أَنَّا خَلْفَهُ) أي عَلِم صلى الله عليه وسلم كوننا خلفه مقتدين به نصلّي بصلاته (جَعَلَ) أي شَرَعَ (يَتَجَوَّزُ فِي الصَّلَاةِ) أي يُخفّف فيها، ويقتصر على الجائز المجزئ مع بعض المندوبات، والتجوّز هنا للمصلحة، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: تجوّزتُ في الصلاة: ترخّصتُ، فأتيتُ بأقلّ ما يكفي. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ) أي منزلة، قال الأزهريّ: رَحْلُ الرجل عند العرب: هو منزلة، سواء كان من حَجَر، أو مَدَر، أو وَبَر، أو شَعْر، أو غيرها. انتهى.

وقال الفيّومي: رحلُ الشخص: مأواه في الحضر، ثم أُطلق على أمتعة المسافر؛ لأنها هناك مأواه. انتهى.

والمراد أنه صلى الله عليه وسلم دخل بيته، أو مكانه الذي أعدّه للاعتكاف في المسجد، وهذا الاحتمال أقرب؛ كما يدلّ عليه قوله:(فَصَلَّى صَلَاةً لَا يُصَلِّيهَا عِنْدَنَا) لأنه لو دخل بيته لا يمكن أنساً أن يرى صلاته صلى الله عليه وسلم، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلّى في رحله صلاة طويلة، لم يُصلّها معهم (قَالَ) أنس رضي الله عنه (قُلْنَا لَهُ) صلى الله عليه وسلم (حِينَ أَصْبَحْنَا: أفَطَنْتَ) بهمزة الاستفهام، وتثليث الطاء: أي أعلمت؟، قال في "القاموس":"الفِطنةُ" بالكسر: الحِذْقُ، فَطِنَ به، وإليه، وله، كفَرِحَ، ونَصَرَ، وكَرُمَ فَطْناً مثلّثة، وبالتحريك، وبضمّتين، وفُطُونة، وفَطَانيةً مفتوحتين، فهو فاطنٌ، وفَطِينٌ، وفَطُونٌ، وفَطِنٌ، وفَطُنٌ، كنَدَسٍ، وفَطْنٌ، كعَدْلٍ، جمعه فُطْنٌ بالضمّ، وهي فَطِنَةٌ. انتهى

(3)

.

(لَنَا) أي لما صنعنا (اللَّيْلَةَ؟) أي لما صنعناه، من الاقتداء بك في صلاتك في هذه الليلة، فـ "الليلةَ" منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "فطنت"(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ) أي فطِنت لكم (ذَاكَ) أي الذي صنعتنم، فـ "ذا" مبتدأ، خبره قوله:(الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الَّذِي صَنَعْتُ") أي من التجوّز في صلاتي، ودخولي رحلي (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَأَخَذَ) أي شرع (يُوَاصِلُ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 135.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 115.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 256.

ص: 617

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) "رسول" تنازعه "أخذ"، و"يواصل"، فاعمل الثاني على رأي البصريين؛ لقربه، وأعمل الأول على رأي الكوفيين؛ لسبقه، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

إِنْ عَامِلَانِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ

قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا الْعَمَلْ

وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَهْ

وَاخْتَارَ عَكْساً غَيْرُهُمْ ذَا أُسْرَهْ

(وَذَاكَ) أي وصاله صلى الله عليه وسلم (فِي آخِرِ الشَّهْرِ) أي آخر شهر رمضان (فَأَخَذَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُوَاصِلُونَ) أي اقتداءً به صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ رِجَالٍ) أي ما شأنهم، وحالهم (يُوَاصِلُونَ") هذا قاله إنكاراً عليهم صنيعهم هذا، ثم قاله لهم مبيّناً اختصاصه بهذا الوصال (إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي) أي لأني أبيت عند ربي يُطعمني، ويسقيني (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه، كـ "ألا" (وَاللهِ لَوْ تَمَادَّ لِي الشَّهْرُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم الأصول؛ يعني بتشديد الدال، وفي بعضها:"تمادى"، وكلاهما صحيح، وهو بمعنى "مُدّ" في الرواية الأخرى. انتهى. (لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ) بفتح أوله وثانيه مضارع وَدَعَ، يقال: وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعاً: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمَّ حُذفت الواو، ثم فُتِحَ؛ لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدمين: وزَعَمَت النحاة أن العرب أماتت ماضي يَدَعُ، ومصدره، واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهدٌ، وعُروة، ومقاتلٌ، وابن أبي عَبْلَة، ويزيد النحويّ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] بالتخفيف، وفي الحديث:"لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات": أي عن تركهم، فقد رُوِيت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقِلت من طريق القراء، فكيف يكون إماتةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله، فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (يَدَعُ) أي يترك (الْمُتَعَمِّقُونَ) أي المتكلفون المتشددون، قال في "النهاية": المتعمِّق: المبالغ في الأمر، المتشدد فيه، الذي يَطْلُب أقصى غايته. انتهى.

وقال النوويّ: هم المشددون في الأمور، المجاوزون الحدود في قول، أو فعل. انتهى.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 653.

ص: 618

(تَعَمُّقَهُمْ") قال في "الفتح": التعمُّق -بالعين المهملة، وبتشديد الميم، ثم قاف، ومعناه: التشديد في الأمر، حتى يتجاوز الحد فيه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 2570 و 2571](1104)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1961) و"كتاب التمنّي"(7241)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(778)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 330)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 218 و 235 و 247 و 289)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 180 و 189)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 179)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3574 و 3579)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 280)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 36 و 221)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 400)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 282) و"المعرفة"(3/ 426)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1739)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان النهي عن الوصال.

2 -

(ومنها): بيان استحباب النوافل في ليالي رمضان.

3 -

(ومنها): جواز النافلة جماعة.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة بأمته، فإنه ما ترك الصلاة جماعة في رمضان إلا خشية أن يشقّ عليهم ذلك.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاهتمام والاعتناء بالاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في جميع ما يفعله، صلاةً، أو صوماً، أو غير ذلك.

6 -

(ومنها): جواز معاقبة من يُخالف أمر الشرع، فإنه صلى الله عليه وسلم عاقبهم لمّا خالفوا نهيه عن الوصال.

7 -

(ومنها): النهي عن التعمّق والتنطّع في العبادة، وفي حديث ابن

ص: 619

مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطّعون"، قالها ثلاثاً، رواه مسلم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2571]

(

) - (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ- حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَن ثَابِتٍ، عَن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: وَاصَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ نَاسٌ مِن الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: "لَوْ مُدَّ لنَا الشَّهْرُ، لَوَاصَلْنَا وِصَالاً يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِثْلِي -أَوْ قَالَ-: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي، وَيَسْقِينِي").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) الأحول، أبو عُمر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

3 -

(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ [5](ت 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في كلّ النسخ ببلادنا، وكذا نقله القاضي عن أكثر النسخ، قال: وهو وَهَمٌ من الراوي، وصوابه آخر شهر رمضان، وكذا رواه بعض رواة "صحيح مسلم"، وهو الموافق للحديث الذي قبله، ولباقي الأحاديث. انتهى.

وقوله: (فَوَاصَلَ نَاسٌ) وفي رواية البخاريّ: "أُناس" بضم الهمزة، وهو الناس، قال الكرمانيّ ما معناه: قلت: التنوين فيه للتبعيض، كما قال الزمخشريّ في قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] الآية، أو للتقليل، كما في قوله:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] الآية. انتهى.

ص: 620

وقوله: (إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُني رَبِّي، ويَسْقِينِي) قال النوويّ: قال أهل اللغة: يقال: ظَلّ يفعل كذا: إذا عمله في النهار دون الليل، وبات يفعل كذا: إذا عمله في الليل، ومنه قول عنترة [من الكامل]:

وَلَقَدْ أَبيْتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ

حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ الْمَأْكَلِ

أي أَظل عليه، فيستفاد من هذه الرواية دلالة للمذهب الصحيح الذي قدّمناه في تأويل "أبيت يطعمني ربي"؛ لأن ظلَّ لا يكون إلا في النهار، ولا يجوز أن يكون أكلاً حقيقيًّا في النهار. انتهى كلامه

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم ترجيح القول بحمل الحديث على ظاهره؛ لأنه لا مانع منه، وأما ما قاله النوويّ من أن "ظَلّ" لا يكون إلا في النهار، فليس كما قال، فقد يُستعمل لمطلق الوقت، قال في "الفتح" ما حاصله: وقع في حديث أنس بلفظ: "أظلّ"، وكذا في حديث عائشة عند الإسماعيليّ، وهي محمولة على مطلق الكون، لا على حقيقة اللفظ؛ لأن المتحدَّث عنه هو الإمساك ليلاً لا نهاراً، وأكثر الروايات إنما هي "أَبيتُ"، وكأنّ بعض الرواة عَبَّر عنها بـ "أظلُّ" نظراً إلى اشتراكهما في مطلق الكون، يقولون كثيراً: أضحى فلان كذا مثلاً، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58]، فإن المراد به مطلق الوقت، ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل. انتهى المقصود منه.

فقد تبيّن بهذا أن المراد بـ "أَظَلّ" مطلق الكون، لا خصوص النهار، كما هو المراد في الآية المذكورة، فلا ينافي حمل الحديث على ظاهره، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2572]

(1105) - (وَحَدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعاً عَنْ عَبْدَه، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 214 - 215.

ص: 621

أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن الْوِصَالِ؛ رَحْمَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ؟ قَالَ: "إِني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنى رَبِّي، وَيَسْقِينِي

(1)

").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

2 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهير [10](239) وله (83) سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

2 -

(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَبُوهُ) تقدّم اْيضاً في الباب الماضي.

5 -

(عَائِشَةُ) رضي الله عنها تقدّمت قبل باب.

و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه ذُكر في الباب.

وقولها: (رَحْمَةً لَهُمْ) منصوب على المفعوليّة من أجله؛ أي إنما نهاهم عن الوصال لأجل رحمته لهم، وفيه بيان سبب النهي.

[تنبيه]: قال البخاريّ رحمه الله بعد إخراج هذا الحديث عن عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن سلام، كلاهما عن عبدة بسنده ما نصّه: قال أبو عبد الله: لم يذكر عثمان: "رحمةً لهم". انتهى.

قال في "الفتح": قوله: "لم يذكر عثمان" أي ابن أبي شيبة شيخه في الحديث المذكور، قولَه:"رحمة لهم" فدلّ على اْنها من رواية محمد بن سلام وحده، وقد أخرجه مسلم عن إسحاق ابن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة جميعاً، وفيه:"رحمةً لهم"، ولم يُبَيِّن أنها ليست في رواية عثمان، وقد أخرجه أبو يعلى، والحسن بن سفيان، في "مسنديهما" عن عثمان، وليس فيه:"رحمةً لهم"، وأخرجه الإسماعيليّ عنهما كذلك، وأخرجه الْجَوْزقيّ من طريق محمد بن حاتم، عن عثمان، وفيه:"رحمةً لهم"، فَيَحْتَمِلُ أن يكون عثمان كان تارةً يذكرها، وتارة يحذفها، وقد رواها الإسماعيليّ، عن جعفر الفريابيّ، عن

(1)

وفي نسخة: "إني أبيت يطعمني ربي، ويسقيني".

ص: 622

عثمان، فجعل ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه: قالوا: إنك تواصل؟، قال: "إنما هي رحمةٌ رَحِمَكم الله بها، إني لست كهيئتكم

" الحديث. انتهى.

وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 2572](1105)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1964)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 242)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 189)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 179 - 180)، و (إسحاق ابن را هويه) في "مسنده"(2/ 168)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 282)، وأما فوائده فقد تقدّمت قريباً، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ بَيَانِ مَا جَاءَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ)

(1)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2573]

(1106) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ إِحْدَى نِسَائِهِ، وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَضْحَكُ).

(1)

كذا ترجم القرطبيّ، وهو أولى من ترجمة النوويّ:"باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرّمة على من لم تتحرك شهوته"؛ لأن هذا ليس في النصّ، وإنما أخذه من مذهبه، والمسألة فيها خلاف، سيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى -.

ص: 623

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، تقدّم قريباً.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل باب.

والباقون تقدّموا في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، وسفيان كوفيّ، ثم مكيّ، وابن حُجر مروزيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ إِحْدَى نِسَائِهِ) وفي رواية القاسم عنها: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقتلها"، وفي رواية لى:"كان صلى الله عليه وسلم يقبّلني"، وأخرجه النسائيّ من طريق يحيى القطان، عن هشام، بلفظ:"كان يقبل بعض أزواجه، وهو صائم"، وزاد الإسماعيليّ من طريق عمرو بن عليّ بن يحيى، قال هشام:"قال: إني لم أر القبلة تدعو إلى خير"، ورواه سعيد بن منصور، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن هشام، بلفظ:"كان يقبل بعض أزواجه، وهو صائم، ثم ضحكت، فقال عروة: لم أر القبلة تدعو إلى خير"، وكذا ذكره مالك في "الموطأ" عن هشام عقب الحديث، لكن لم يقل فيه:"ثم ضحكت"، ذكره في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: المتبادر إلى الفهم من القبلة تقبيل الفم، وقال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذب": سواء قَبّل الفمَ، أو الخدَّ، أو غيرهما. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَهُوَ صَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (ثُمَّ تَضْحَكُ) قال

(1)

"الفتح" 5/ 289 - 290.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 139.

ص: 624

القاضي عياض رحمه الله: قيل: يَحْتَمِل ضحكها التعجب ممن خالف في هذا، وقيل: التعجب من نفسها حيث جاءت بمثل هذا الحديث الذي يُسْتَحيى من ذكره، لا سيما حديث المرأة به عن نفسها للرجال، لكنها اضطرت إلى ذكره؛ لتجليغ الحديث والعلم، فتتعجب من ضرورة الحال المضطرَّة لها إلى ذلك، وقيل: ضحكت سروراً بتذكر مكانها من النبيّ صلى الله عليه وسلم وحالها معه، وملاطفته لها، قال القاضي: وَيحْتَمِل أنها ضحكت خَجلاً؛ لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيهًا على أنها صاحبة القصّة؛ ليكون أبلغ في الثقة بحديثها. انتهى

(1)

.

وقد رَوَى ابن أبي شيبة، عن شريك، عن هشام في هذا الحديث:"فضحكت، فظننا أنها هي"، وروى النسائيّ من طريق طلحة بن عبد الله التيميّ، عن عائشة قالت:"أهوى إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليقبّلني، فقلت: إني صائمة، فقال: وأنا صائم، فقبّلني"، قال الحافظ: وهذا يؤيد ما قدمناه أن النظر في ذلك من لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل، لا للتفرقة بين الشاب والشيخ؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت شابة، نعم لما كان الشاب مظنة لهيجان الشهوة فَرَّق مَن فَرَّق، وقال المازريّ: ينبغي أن يُعْتَبَر حال المقبِّل، فإن أثارت منه القبلة الإنزال حَرُمَت عليه؛ لأن الإنزال يُمنع منه الصائم، فكذلك ما أدى إليه، وإن كان عنها المذي فمن رأى القضاء منه قال: يحرم في حقّه، ومن رأى أن لا قضاء قال: يكره، وإن لم تؤدِّ القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها، إلا على القول بسدّ الذريعة.

ظ ل الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد هذه الآراء لإطلاق النصوص، فإنه صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئل عن قبلة الصائم، أجازه مطلقاً، ولم يفصل بين ما أدّى إلى إنزال المنيّ، أو المذي، بل غضب حين قال له السائل:"قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك، وما تأخّر".

والحاصل أن القبلة جائزة على إطلاقها، وإنما الممنوع هو الجماع فقط، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في ذلك، وترجيح الراجح بدليله، قريباً - إن شاء الله تعالى -.

(1)

"إكمال المعلم" 4/ 44.

ص: 625

قال: ومن بديع ما رُوي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للسائل عنها: "أرأيت لو تمضمضت"، فأشار إلى فقه بديع، وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم، وهي أول الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم، كما يفسده الجماع، وكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا يفسد الصيام، فكذلك أوائل الجماع. انتهى.

قال الحافظ: والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو داود، والنسائيّ من حديث عمر رضي الله عنه، قال النسائيّ: منكرٌ، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحا كم

(1)

.

[تنبيه]: رَوَى أبو داود وحده من طريق مِصْاَع بن يحيى، عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبّلها، وَيمُصّ لسانها، وإسناده ضعيف، ولو صحَّ فهو محمول على من لم يبتلع ريقه الذي خالط ريقها، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2573 و 2574 و 2575 و 2576 و 2577 و 2578 و 2579 و 2580 و 2581 و 2582 و 2583 و 2584 و 2585](1106)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1927 و 1928)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3053 و 3054 و 3055 و 3056)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 292)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 104 و 292)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7409)، و (الحميديّ) في "مسنده"(198)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 59)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 192 و 207 و 241 و 252)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 12)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 402)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 209 و 212)، و (أبو

(1)

وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ، والظاهر أن تصحيح هؤلاء مقدّم على من ادّعى أنه منكر، فتفطّن.

(2)

5/ 291.

ص: 626

نعيم) في "مستخرجه"(3/ 181 و 184)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 309 و 310 و 311 و 312 و 113)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 91)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 233) و"المعرفة"(3/ 380)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1750)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز القبلة للصائم، وأنه لا كراهة فيها، وقد اختلف في ذلك العلماء، وسيأتي بيان مذاهبهم، وترجيح الراجح منها بدليله في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.

2 -

(ومنها): بيان سماحة الشريعة، وسهولة أمرها على المكلّفين، ففي هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:"بُعثت بالحنيفيّة السمحة"

(1)

.

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن المعاشرة حيث يقبّل أزواجه، ويؤانسهم، فهذا مصداق قوله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

4 -

(ومنها): بيان مكانة عائشة رضي الله عنها، وحبّه صلى الله عليه وسلم لها حبًّا كثيراً، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئل: مَن أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة

" الحديث، متفقٌ عليه.

5 -

(ومنها): قولها: "يقبلني" فيه جواز الإخبار بمثل هذا، مما يجري بين الزوجين على الجملة؛ للضرورة، وأما في غير حال الضرورة فمنهيّ عنه، فقد أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سِرَّها".

6 -

(ومنها): أن في تصريح عائشة رضي الله عنها بذكر نفسها تأكيداً لما تخبر به، وأنها ضابطة له؛ لكونها صاحبة الواقعة، لم تخبر بذلك عن غيرها، وهوأدعى لقبول ذلك، والأخذ به، أفاده وليّ الدين رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(1)

حديث صحيح، انظر:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله-6/ 1022.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 139.

ص: 627

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم قبلة الصائم:

(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب:

[أحدهما]: إباحتها مطلقاً، وأنه لا كراهة فيها، قال ابن المنذر رحمه الله: رَوَينا الرخصة فيها عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وابن عباس، وعائشة، وبه قال عطاءٌ، والشعبيّ، والحسن، وأحمد، وإسحاق، ورَوَى ابن أبي شيبة عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لا بأس بالقبلة للصائم، وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: لا بأس بها ما لم يَعْدُ ذلك، وعن سعيد بن جبير: لا بأس بها، صمانها لبريد سَوْء، وعن مسروق: ما أبالي قبّلتها، أو قبّلت يدي، واختاره ابن عبد البرّ، ورجحه، واستَدَلَّ بما في "الموطأ" عن عطاء بن يسار، أن رجلاً قبّل امرأته، وهو صائم في رمضان، فوَجَد من ذلك وَجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبّل، وهو صائم، فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شرًّا وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِلّ الله لرسوله ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مالِ هذه المرأة؟ "، فأخبرته أم سلمة، فقال:"ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ " فقالت: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده".

قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لم يقل للمرأة: هل زوجك شيخٌ، أو شابٌّ؟ ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبين عن الله مراده. انتهى.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: والقصة المذكورة رواها أحمد في "مسنده" عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار، أن الأنصاريّ أخبر عطاءً أنه قَبَّل امرأته، وهو صائم، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، فاتَّصَل بذلك، وخرج عن أن يكون مرسلًا، والله أعلم.

ورَجَّحه أيضًا أبو بكر ابن العربيّ، فقال: والذي يُعَوَّل عليه جواز ذلك، إلا أن يعلم من نفسه أنه لا يَسْلَم من مفسد، فلا يُلِم الشريعة، ولكن لِيَلُم نفسه الأمارة بالسوء المسترسلة على المخاوف.

ص: 628

[القول الثاني]: كراهتها للصائم مطلقاً، وبه قال طائفة من السلف، فرَوَى ابنُ أبي شيبة في "مصنفه" عن عمر، وابنه عبد الله، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأبي قلابة النهي عنها، وعن عليّ، وابن مسعود: ما تصنع بخُلُوفِ فِيها؟ وعن ابن مسعود أيضاً: أنه سئل عن صائم قَبَّل، فقال: أفطر، وعن ابن عمر: أفلا يقبّل جمرةً، وعن شريح القاضي: يتقي الله، ولا يعود، وعن سعيد بن المسيّب: تنقص صيامه، ولا يفطر لها، وعن الشعبيّ: تجرح الصوم، وعن محمد ابن الحنفية: إنما الصوم من الشهوة، والقبلة من الشهوة، وعن مسروق: الليل قريبٌ، وعن ابن عمر أيضًا، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهما كراهتها للصائم.

قال ابن المنذر: ورَوَينا عن ابن مسعود أنه قال: يقضي يوماً مكانه، وحَكَى الخطابيّ عن سعيد بن المسيّب أن من قبّل في رمضان قضى يوماً مكانه، وحكاه الماورديّ عن محمد ابن الحنفية، وعبد الله بن شُبْرُمة، قال: وقال سائر الفقهاء: القبلة لا تبطل الصوم، إلا أن يكون معها إنزال، ورَوَى مالك في "الموطأ" عن عروة بن الزبير، أنه قال: لم أر القبلة تدعو إلى خير، وبالكراهة يقول مالك مطلقاً في حق الشيخ والشابّ.

قال ابن عبد البرّ: وهو شأنه في الاحتياط.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى كون هذه الأقوال مخالفة للنصوص الصريحة المذكورة في الباب، وأولى ما يُعتذر به عنهم أن يقال: لم تبلغةم هذه النصوص، أو تأوّلوها بغير وجهها.

وأما دعوى الاحتياط، فما أبعده بعد غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك الرجل لَمّا ذكر له أن الله يخصّه بما يشاء، فقال:"أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له"، فهل بعد تقواه، وخشيته صلى الله عليه وسلم احتياط، كلّا والله، ثمّ كلّا.

[القول الثالث]: التفرقة بين الشيخ والشابّ، فتكره للشابّ دون الشيخ، حكاه ابن المنذر عن فرقة، منهم: ابن عباس، ورواه ابن أبي شيبة عن مكحول، ورُوي عن ابن عمر مثل ذلك في المباشرة، وحكاه الخطابيّ عن مالك، والمعروف عنه ما تقدّم من الكراهة مطلقاً.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا المذهب أيضًا من جنس المذهب الذي

ص: 629

قبله، فلا ينبغي أن يعوّل؛ لمخالفته تلك النصوص، فتبصّر.

[القول الرابع]: الفرق بين أن يامن على نفسه بالقبلة الجماع والإنزال، فتباح، وبين أن لا يامن فتكره، وهذا مذهب الحنفية، وهو مثل قول الشافعية: إن القبلة مكروهة في الصوم من حركت شهوته دون غيره، فلا تكره له، لكن الأولى تركها، لكن ظاهر كلام الحنفية الاقتصار في ذلك على كراهة التنزيه، واختلف الشافعيّة في هذه الكراهة، فالذي ذهب إليه جماعات منهم، وصححه الرافعيّ، والنوويّ أنها كراهة تحريم، وقال آخرون منهم: هي كراهة تنزيه، وقد جعل الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ" هذا القول هو القول بالتفرقة بين الشيخ والشابّ، وأن التغاير بينهما في العبارة، والمعنى هو واحد، وهو الذي تُفهمه عبارة النوويّ في "شرح مسلم"، قال وليّ الدين: وله وجه، ويكون التعبير بالشيخ والشابّ جرى على الأغلب من أحوال الشيوخ في انكسار شهوتهم، ومن أحوال الشباب في قوّة شهوتهم، فلو انعكس الأمر كشيخ قويّ الشهوة، وشابّ ضعيف الشهوة انعكس الحكم.

قال وليّ الدين: وجعلتهما مذهبين متغايرين، وهو ظاهر كلام ابن المنذر؛ لأن صاحب القول الثالث اعتَبَر المظنة، ولم ينظر إلى نفس تحريك الشهوة وعدمها، وصاحب القول الرابع نظر إلى وجود هذا المعنى بعينه، ولم ينظر إلى مظنته، ويدل لذلك أن النوويّ قال في "شرح المهذب": ولا فرق بين الشيخ والشابّ في ذلك، فالاعتبار بتحريك الشهوة، وخوف الإنزال، فإن حركت شهوةً كشابّ، أو شيخ قويّ كُرهت، وإن لم تحركها كشيخ، أو شابٍّ ضعيف لم تكره.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه التفريقات التي قالها أهل هذا المذهب ليس عليها دليلٌ من النصوص الواردة في المسألة، فتبصّر.

[القول الخامس]: مذهب الحنابلة أنه إن كان المقبِّل ذا شهوة مُفْرِطة، بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبَّل أنزل، لم تحل له القبلة، وإن كان ذا شهوة، لكنه لا يغلب على ظنه ذلك كُرِه له التقبيل، ولا يحرم، وإن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته، كالشيخ الهرِمِ، ففي الكراهة روايتان عن أحمد.

[القول السادس]: التفرقة بين صيام الفرض والنفل، فيكره في الفرض

ص: 630

دون النفل، وهو رواية ابن وهب عن مالك، ويرُدّه حديث عمرو بن ميمون، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبّل في شهر الصوم، رواه مسلم وغيره، وفي رواية له: كان يقبّل في رمضان، وهو صائم.

فاحتَجَّ من أباح مطلقاً بهذا الحديث، وقال: الأصل استواء المكلفين في الأحكام، وأن أفعاله صلى الله عليه وسلم شَرْع يُقْتَدى به فيها.

واحتَجَّ من كره مطلقاً

(1)

بأن غيره صلى الله عليه وسلم لا يساويه في حفظ نفسه عن المواقعة بعد ميله إليها، فكان ذلك أمراً خاصًّا به، ويدل لذلك قولها:"وأيكم كان أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ".

وَيرُدّه ما في "صحيح مسلم" وغيره عن عُمَر بن أبي سلمة، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبّل الصائم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سل هذه" لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما والله، إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له".

فهذا صريح في أن ذلك ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم، قال وليّ الدين رحمه الله:

(1)

ومما احتج به المانعون أيضًا ما رواه ابن ماجه في "سننه" من طريق إسرائيل، عن زيد بن جبير، عن أبي يزيد الضِّنِّيّ، عن ميمونة مولاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن رجل قتل امرأته، وهما صائمان، قال:"قد أفطرا"، وأخرجه الطحاويّ، ولفظه: عن ميمونة بنت سعد، قالت: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم، فقال:"أفطرا جميعاً"، وإسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، وأبو يزيد الضنيّ -بكسر الضاد المعجمة، والنون المشددة-: نسبة إلى ضِنّة، قال الدارقطني: ليس بمعروف، وقال ابن حزم: مجهول، وميمونة بنت سعد، وقيل: سعيد، خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه ابن حزم، ولفظه: عن ميمونة بنت عقبة، مولاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال الدارقطنيُّ: لا يثبت هذا الحديث، وكذا قال السهيلي، والبيهقيّ، وقال الترمذيّ: سألت محمداً عنه -يعني البخاريّ - فقال: هذا حديث منكر، لا أحدث به، وأبو يزيد لا أعرف اسمه، وهو رجل مجهول. ذكره في "عمدة القاري" 11/ 90.

فقد تبيّن أن هذا أيضًا من أضعف حججهم، فلا متمسّك لهم، فتنبّه.

ص: 631

وعمر بن أبي سلمة هذا هو الْحِمْيَريّ، كذا جاء مُبَيَّناً في رواية البيهقيّ، وليس هو ابن أم سلمة

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: فهل بعد هذا النصّ خصام؟ فإن عمر بن أبي سلمة راجع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبدى له مانعاً، وهو أن هذا خاصّ به صلى الله عليه وسلم، وأما غيره فليس مثله؛ لأنه ربما تغلبه شهوته، ومع ذلك فقد رذ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذا عامّ لأمته جميعاً شباباً وشيوخاً، ومن تتحرّك شهوتهم، ومن لا تتحرّك، فهذا هو الحقّ الصريح، والمنهج الصحيح، فلا مجال للخصام بعد ظهور المرام.

قال: واحتَجّ من فرّق بين الشيخ والشاب، أو بين من يأمن على نفسه المواقعة، وبين من لا يأمنها بأنه صلى الله عليه وسلم كان آمناً من ذلك؛ لشدة تقواه وورعه، فكل من أَمِن ذلك كان في معناه، فالتحق به في حكمه، ومن ليس في معناه في ذلك فهو مغاير له في هذا الحكم.

ورخح وليّ الدين هذا القول - وقال: هذا أرجح الأقوال - بما رواه أحمد، والطبرانيّ، في "معجمه الكبير" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء شابّ، فقال: يا رسول الله أقبِّل وأنا صائم؟ قال: "لا"، فجاء شيخ، فقال: أقبّل وأنا صائم؟ قال: "نعم"، قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد علمت لمَ نظر بعضكم إلى بعض؟، إن الشيخ يملك نفسه".

ومن الغريب احتجاجه بهذا مع أنه من رواية ابن لهيعة، وهو ضعيف عند الجمهور لو روى حديثاً لم يخالف به، فكيف وقد رَوَى حديثاً خالف به الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي أخرجها الشيخان في صحيحيهما" وغيرهما من أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على من راجعه في المسألة، إن هذا لهو العجب العجاب.

(1)

هذا غلط من صاحب "الطرح"، والصواب أنه عمر بن أبي سلمة، ولد أم سلمة، وقد صرّح بهذا في "تحفة الأشراف"(7/ 317) وكذا في "الفتح"، فقد صرّح بأنه ابن أم سلمة، فقال: هو ربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما عزاه إلى البيهقيّ، فغير صحيح، ولعله التبس عليه الراوي عنه، فقد رواه عنه عبد الله بن كعب الحميريّ، كما سيأتي عند المصنّف آخر الباب، وسنحقّقه هناك، فتنبّه.

ص: 632

قال: ورَوَى البيهقيّ نحو ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند أبي داود، ولكن بدل القبلة المباشرة.

قال ابن عبد البرّ: وقد أجمع العلماء أن من كره القبلة لم يكرهها لنفسها، وإنما كرهها خشيةَ ما تؤول إليه من الإنزال، وأقلّ ذلك المذي، ولم يختلفوا في أن من قبّل، وسَلِم من قليل ذلك وكثيرة فلا شيء عليه، ثم قال: لا أعلم أحداً أرخص في القبلة للصائم إلا وهو يشترط السلامة مما يتولد منها مما يفسد صومه، ولو قبّل فأمذى لم يكن عليه شيء عند الشافعيّ، وأبي حنيفة، والثوريّ، والأوزاعيّ، وابن علية، وقال مالك: كليه القضاء، ولا كفارة، والمتأخرون من أصحاب مالك البغداديون يقولون: إن القضاء هنا استحباب. انتهى، وحَكَى ابن قدامة الفطر في صورة ما إذا قَبّل، فأمذى عن مالك، وأحمد. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن من ذكر هذه المذاهب، وأدلّتها، ومناقشتها أن المذهب الراجح هو الأول، وهو أن القبلة للصائم جائزة مطلقاً، فرضاً كان الصوم، أو نفلاً، شابًّا كان المقبّل، أو شيخًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في نصوصه الصحيحة الصريحة أباحها على الإطلاق، ولم يستفصل من ذلك شيئاً، ولم يقيّد بشيء من ذلك، ولا سيّما وقد غضب على من راجعه بأنه ليس مثل أمته، وأغلظ له القول، فقال:"أما إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له".

ومن المعلوم أن الباعث على التقبيل غالباً هو تحرّك الشهوة، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم بذلك حين أباح التقبيل على الإطلاق، وقد تبيّن ذلك في قول عمر رضي الله عنه حين سأله، فقال: هَشَشْت

(2)

، فقبّلت، فقال له صلى الله عليه وسلم:"أرأيت لو مضمضت من الماء، وأنت صائم؟ "، فقال: لا بأس به، قال:"فَمَهْ؟ "

(3)

، فقد ذكر له صلى الله عليه وسلم أن

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 135 - 139.

(2)

في "القاموس": الْهَشَاشَةُ، والْهَشَاشُ: الارتياح، والخفّة، والنشاط، قال: ويعله كدَبَّ. انتهى.

(3)

هو ما أخرجه أبو داود في "سننه" 6/ 346 عن جابر بن عبد الله، قال: قال عمر بن الخطاب: هَشِشْتُ، فقبّلت، وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً =

ص: 633

الباعث له على التقبيل هو ارتياحه له، فلم يُنكر ذلك عليه، بل شبّهه بالمضمضة، فهل بعد هذا مجال للنقاش؟ كلّا، بل هذا هو الحقّ الصريح، والدليل المقنع الصحيح.

وكذلك القول ببطلان الصوم إذا أمنى، أو أمذى مما لا دليل عليه، وقد فنّده ابن حزم رحمه الله في "المحلّى"

(1)

، ورجّح القول بعدم البطلان؛ لعدم الدليل، وهو الذي لا يظهر لي غيره، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2574]

(

) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل [6](ت 126) أو بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 822.

3 -

(أَبوهُ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، أحد الفقهاء السبعة، ثقةٌ ثبتٌ فاضل، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

والباقون ذُكروا قبله، وسفيان: هو ابن عيينة.

وقوله: (فَسَكَتَ سَاعَةً) قال النوويّ رحمه الله: إنما سكت ليتذكّر قولها: "وأيّكم يملك إربه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ ". انتهى.

= عظيماً، قبّلت، وأنا صائم، قال:"أرأيت لو مضمضت من الماء، وأنت صائم؟ " قال: قلت: لا بأس به، قال:"فمه؟ "، وهو حديث صحيح.

(1)

راجع: "المحلَّى" 6/ 203 - 214.

ص: 634

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2575]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَن الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُني، وَهُوَ صَائِمٌ، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) الْعُمريّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ) قال وليّ الدين رحمه الله: ضُبِط بكسر الهمزة، واسكان الراء، وبفتحهما، واختُلِف في الأشهر منهما، فذكر النوويّ أن الأول هوأشهرهما، ورواية الأكثرين، قال: وكذا نقله الخطابيّ، والقاضي عياض عن رواية الأكثرين، وحَكَى صاحب "النهاية" الثاني عن رواية أكثر المحدثين.

ثم اختُلِف في معناه على الروايتين معاً، فقال الخطابئ: معناهما واحد، وهو حاجة النفس، ووَطَرها، يقال: لفلان عليّ أَرَبٌ، وإِرْبٌ، وإِرْبَةٌ، ومَأْرَبَةٌ: أي حاجةٌ، والإِرْب أيضاً العضو، وتبعه النوويّ على ذلك، فقال: ومعناه بالكسر: الوَطَرُ والحاجة، وكذلك بالفتح، ولكنه يُطْلق المفتوح أيضًا على العضو.

قال وليّ الدين: صوابه المكسور، فلا نعلم المفتوح يُطلق على العضو.

وذكر صاحب "النهاية" أنه بالفتح الحاجة، وبالكسر فيه وجهان: أحدهما أنه الحاجة أيضًا، والثاني أنه العضو، وعَنَتْ به من الأعضاء الذَّكَرَ خاصّةً.

وقال في "المشارق" في رواية الكسر: فسّروه بحاجته، وقيل: لعقله،

ص: 635

وقيل: لعضوه، ثم قال: قال أبو عبيد، والخطابيّ: كذا يقوله أكثر الرواة، والإِرْب: العضو، وإنما هو لأَرَبه بفتح الهمزة والراء، ولأَرَبته: أي لحاجته، قالوا: الأَرَب أيضًا الحاجة، قال الخطابيّ: والأول أظهر، قال القاضي عياض: وقد جاء في "الموطأ" روايةِ عبيد الله: "أيكم أملك لنفسه؟ ". انتهى.

وبذلك فسّره الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال: ومعنى لأَرَبه: تعني لنفسه.

وقال العراقيّ رحمه الله في شرحه: وهو أولى الأقوال بالصواب؛ لأن أولى ما فُسِّر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث.

وفي "الموطأ" من حديث عائشة رضي الله عنها بلاغاً: "وأيكم أملك لنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". انتهى.

وذكر ابن سيده في "الْمُحْكَم" أن الأَرَب: الحاجة، قال: وفي الحديث: "كان أملككم لأربه": أي أغلبكم لهواه وحاجته.

وقال السلميّ: الأَرَب: الفرج هاهنا، وهو غير معروف. انتهى. وتخصيصه في أصل الاستعمال بالفرج غير معروف، كما قاله، ولكنه لمطلق العضو، وأريد باللفظ العامّ هنا عضو خاصّ، وهو الفرج؛ لقرينة دالّة على ذلك، وقد قال في "المحكم" بعد ذلك: الأَرَبُ العضو الموفر الكامل الذي لم ينقص منه شيء، والذي ذكره الجوهريّ وغيره أنه العضو، ولم يقيّدوه بأن يكون موفَراً كاملاً. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله، وهو مفيدٌ.

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معنى كلام عائشة رضي الله عنها أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة، ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبيّ صلى الله عليه وسلم في استباحتها؛ لأنه يملك نفسه، ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال، أو شهوة، أو هَيَجان نفس، ونحو ذلك، وأنتم لا تأمنون ذلك، فطريقكم الانكفاف عنها. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 216 - 217.

ص: 636

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2576]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، وَعَلْقَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (ح) وَحَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لإِرْبِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل بابين.

5 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل كثيراً [5](ت 96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(الْأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس بن عبد الله النخعيّ، أبو عمرو، أوأبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.

7 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرم [2] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

8 -

(شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ) الفلّاس، أبو الفضل البغويّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [10].

رَوَى عن إسماعيل بن عياش، وابن علية، وهشيم، ووكيع، وابن عيينة، ويحيى بن زكريابن أبي زائدة، وحسين بن عليّ الجعفيّ، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وإبراهيم الحربيّ، وموسى بن هارون الحمّال، وأبو القاسم البغويّ، وغيرهم.

قال ابن معين: أعرفه ليس به بأسٌ، نِعم الشيخ ثقةٌ، وقال إبراهيم

ص: 637

الحربن: حدّثني شجاع بن مخلد، ولم نكتب ها هنا عن أحد خيرٍ منه، وقال الحسين بن فَهْم: ثقةٌ ثبتٌ، وقال ابن قانع: ثقةٌ ثبتٌ، وقال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال أحمد: كان ثقةٌ، وكان كتابه صحيحاً، حكاه اللالكائيّ، وقال الخطيب: له تفسير، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وذكره العقيلي في "الضعفاء"، وأورد له عن أبي عاصم، عن سفيان، عن عَمّار الدُّهْنيّ، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس مرفوعاً:"كرسيه موضع القدمين، والعرش لا يَقْدِر قدره"، رواه الرماديّ، والكجيّ، عن أبي عاصم، فلم يرفعاه، وكذا رواه ابن مهديّ، ووكيعٌ، عن سفيان موقوفاً.

وقال هارون الحمّال: وُلد سنة (155)، وقال الحسين بن فَهْم: تُوُفّي ببغداد في صفر سنة خمس وثلاثين ومائتين، وفيها أرَّخه مُطَيَّن، وابن قانع.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1106) و (2408) و (2536).

9 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) هو: يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، تقدّم قبل بابين.

10 -

(مُسْلِمُ) بن صُبيح -بالتصغير- الْهَمْدانيّ، أبو الضُّحَى الكوفيّ العطّار، مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضلٌ [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

11 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.

والباقيان ذُكرا قبله.

قولها: (يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ) التقبيل أخصّ من المباشرة، فهو من ذكر العامّ بعد الخاصّ، وقد رواه عمرو بن ميمون، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ:"كان يقبِّل في شهر الصوم"، أخرجه مسلم، والنسائيّ، وفي رواية لمسلم:"يقبل في رمضان، وهو صائم"، فأشارت بذلك إلى عدم التفرقة بين صوم الفرض والنفل، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقولها: (وَيُبَاشِرُ) أصل المباشرة: هو التقاء البشرتين، ويُستعمل في

(1)

"الفتح" 5/ 286.

ص: 638

الجماع، سواء أولج، أو لم يولج، وليسس الجماع هنا مراداً، فتنبّه، أفاده في "الفتح"

(1)

.

[تنبيه]: ذكر البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يحرُم عليه فرجها. انتهى. قال في "الفتح": وصله الطحاويّ من طريق أبي مُرّة مولى عَقِيل، عن حكيم بن عِقال، قال: سألت عائشة: ما يحرم على من امرأتي، وأنا صائم؟ قالت: فرجها، وإسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه أيضاً ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن مسروق، سألت عائشة: ما يحل للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كلُّ شيء إلا الجماع. انتهى.

[تنبيه آخر]: أخرج البخاريّ حديث عائشة رضي الله عنها المذكور، فقال: حدّثنا سليمان بن حرب، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة

إلخ.

قال في "الفتح": كذا للأكثر، ووقع للكشميهنيّ عن سعيد، بمهملة، وآخره دالٌ، وهو غلطٌ فاحشٌ، فليس في شيوخ سليمان بن حرب أحد اسمه سعيد حدّثه عن الحكم، والحكم المذكور، هو ابن عتيبة، وإبراهيم هو النخعيّ.

وقد وقع عند الإسماعيليّ، عن يوسف القاضي، عن سليمان بن حرب، عن شعبة على الصواب، لكن وقع عنده عن إبراهيم، أن علقمة وشريح بن أرطاة رجلان من الئخَع كانا عند عائشة، فقال أحدهما لصاحبه: سلها عن القبلة للصائم، قال: ما كنت لأرفُث عند أم المؤمنين، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل، وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه.

قال الإسماعيليّ: رواه غندر، وابن أبي عديّ، وغير واحد، عن شعبة، فقالوا: عن علقمة، وحدَّث به البخاريّ، عن سليمان بن حرب، عن شعبة، فقال: عن الأسود، وفيه نظرٌ، وصزح أبو إسحاق بن حمزة، فيما ذكره أبو نعيم في "المستخرج" عنه بأنه خطأٌ.

قال الحافظ: وليس ذلك من البخاريّ، فقد أخرجه البيهقيّ من طريق

(1)

5/ 284.

ص: 639

محمد بن عبد الله بن معبد، عن سليمان بن حرب، كما قال البخاريّ، وكأنّ سليمان بن حرب حدّث به على الوجهين، فإن كان حفظه عن شعبة، فلعل شعبة حذث به على الوجهين، وإلا فأكثر أصحاب شعبة لم يقولوا فيه من هذا الوجه: عن الأسود، وإنما اختلفوا، فمنهم من قال، كرواية يوسف المتقدمة، وصورتها الإرسال، وكذا أخرجه النسائيّ من طريق عبد الرحمن بن مهديّ، عن شعبة، ومنهم من قال: عن إبراهيم، عن علقمة، وشريح.

وقد ترجم النسائيّ في "سننه" الاختلافُ فيه على إبراهيم، والاختلاف على الحكم، وعلى الأعمش، وعلى منصور، وعلى عبد الله بن عون، كلهم عن إبراهيم، وأورده من طريق إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: خرج نَفَرٌ من النَّخَع، فيهم رجل يُدْعَى شُريحاً، فحدّث أن عائشة قالت، فذكر الحديث، قال: فقال له رجل: لقد هممت أن اضرب رأسك بالقوس، فقال: قولوا له: فَلْيَكُفّ عني حتى نأتي أم المؤمنين، فلما أتوها قالوا لعلقمة: سلها، فقال: ما كنت لأرفُث عندها اليوم، فسمعته، فقالت، فذكر الحديث، ثم ساقه من طريق عبيدة، عن منصور، فجعل شريحاً هو المنكر، وأبهم الذي حدَّث بذلك عن عائشة، ثم استوعب النسائيّ طرقه، وعُرِف منها أن الحديث كان عند إبراهيم، عن علقمة، والأسود، ومسروق جميعاً، فلعله كان يحدِّث به تارةً عن هذا، وتارةً عن هذا، وتارة يجمع، وتارة يُفَرِّق.

وقد قال الدارقطنيّ بعد ذكر الاختلاف فيه على إبراهيم: كلها صحاحٌ، وعُرِف من طريق إسرائيل سبب تحديث عائشة رضي الله عنها بذلك، واستدراكها على من حدَّث عنها به على الإطلاق بقولها:"ولكنه كان أملككم لإربه"، فأشارت بذلك إلى أن الإباحة من يكون مالكاً لنفسه، دون من لا يَأْمَن من الوقوع فيما يَحْرُم.

وفي رواية حماد، عند النسائيّ: قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر، وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه، وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قاله القرطبيّ، قال: وهو اجتهاد منها، وقول أم سلمة رضي الله عنها -يعني الآتي ذكره - أولى أن يؤخذ به؛ لأنه نصٌّ في الواقعة.

ص: 640

قال الحافظ: قد ثبت عن عائشة رضي الله عنها صريحاً إباحة ذلك، كما تقدم، فيُجْمَع بين هذا وبين قولها المتقدم:"إنه يَحِلّ له كل شيء إلا الجماع" بحمل النهي هنا على كراهة التنزيه، فإنها لا تنافي الإباحة، وقد رويناه في "كتاب الصيام" ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة، عن حماد، بلفظ: سألت عائشة عن المباشرة للصائم، فكرهتها، وكأن هذا هو السر في تصدير البخاريّ بالأثر الأول عنها؛ لأنه يُفَسِّر مرادها بالنفي المذكور في طريق حماد وغيره، والله أعلم.

قال: ويدل على أنها لا ترى تحريمها، ولا كونها من الخصائص ما رواه مالك في "الموطأ" عن أبي النضر، أن عائشة بنت طلحة أخبرته، أنها كانت عند عائشة، فدخل عليها زوجها، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك، فتلاعبها، وتقبلها؟ قال: أقبِّلها وأنا صائم؟ قالت: نعم.

[تنبيه آخر]: قال في "الفتح" أيضاً: وقد اختُلِف في القبلة والمباشرة للصائم، فكرهها قوم مطلقاً، وهو مشهور عند المالكية، ورَوَى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكره القبلة والمباشرة، ونَقَلَ ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها.

واحتجوا بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الآية، فمنع المباشرة في هذه الآية نهاراً.

والجواب عن ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو المبيّن عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهاراً، فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، لا ما دونه من قبلة ونحوها، والله أعلم.

وممن أفتى بإفطار مَن قَبَّل وهو صائم: عبد الله بن شُبْرُمة، أحد فقهاء الكوفة، ونقله الطحاويّ عن قوم لم يسمّهم، وألزم ابن حزم أهل القياس أن يُلْحِقوا الصيام بالحج في منع المباشرة، ومقدمات النكاح؛ للاتفاق على إبطالهما بالجماع.

وأباح القبلة قومٌ مطلقاً، وهو المنقول صحيحاً عن أبي هريرة، وبه قال سعيد، وسعد بن أبي وقاص، وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر، فاستحبها.

ص: 641

وفَرَّق آخرون بين الشاب والشيخ، فكرهها للشاب، وأباحها للشيخ، وهو مشهور عن ابن عباس، أخرجه مالك، وسعيد بن منصور، وغيرهما، وجاء فيه حديثان مرفوعان

(1)

، فيهما ضعف، أخرج أحدهما أبو داود، من حديث أبي هريرة، والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

وفرّق آخرون بين من يملك نفسه، ومن لا يملك، كما أشارت إليه عائشة رضي الله عنها، وكما تقدم ذلك في مباشرة الحائض في "كتاب الحيض"، وقال الترمذيّ: ورأى بعض أهل العلم أن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبّل، وإلا فلا؛ لِيَسْلَم له صومه، وهو قول سفيان، والشافعيّ، ويدل على ذلك

(2)

ما رواه مسلم، من طريق عُمَر بن أبي سلمة، وهو ربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبل الصائم؟ فقال: "سل هذه" لأم سلمة، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فقال:"أما والله، إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له"، فدل ذلك على أن الشاب والشيخ سواءٌ لأن عمر حينئذ كان شابًّا، ولعله كان أول ما بلغ، وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص.

ورَوَى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار، أنه قَبّل امرأته، وهو صائم، فأمر امرأته أن تسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسألته، فقال:"إني أفعل ذلك"، فقال زوجها: يرخّص الله لنبيّه فيما يشاء، فرجعت، فقال:"أنا أعلمكم بحدود الله، وأتقاكم"، وأخرجه مالك، لكنه أرسله، قال: عن عطاء: أن رجلاً

فذكر نحوه مطوَّلاً.

واختُلف فيما إذا باشر، أو قبّل، أو نظر، فأنزل، أو أمذى، فقال الكوفيون، والشافعيّ: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الامذاء، وقال مالك، وإسحاق: يقضي في كل ذلك، ويُكَفِّر، إلا في الإمذاء، فيقضي فقط.

(1)

تقدّم ذكر الحديثين قريباً.

(2)

قال الجامع: قوله: "ويدلّ على ذلك إلخ" فيه نظرٌ لا يخفى، بل هذا يدل على عكسه، فتأمله بإمعان، والله تعالى أعلم.

ص: 642

واحتُجّ له بأن الإنزال أقصى ما يُطلب بالجماع من الالتذاذ في كل ذلك.

وتُعُقب بأن الأحكام عُلِّقت بالجماع، ولو لم يكن إنزال فافترقا، وروى عيسى بن دينار، عن ابن القاسم، عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر، أو قَبّل، فأنعظ، ولم يُمذ، ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك، وأبلغ من ذلك ما رَوَى عبد الرزاق عن حذيفة: من تأمل خَلْقَ امرأته، وهو صائم بطل صومه، لكن إسناده ضعيف.

وقال ابن قُدامة: إن قبّل فأنزل أفطر بلا خلاف، كذا قال، وفيه نظرٌ، فقد حَكَى ابن حزم أنه لا يفطر، ولو أنزل، وقَوَّى ذلك، وذهب إليه.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله هو الذي تؤيّده النصوص الكثيرة، وأما من قال ببطلان صومه بالإنزال، أو الإمذاء، فمما لا دليل عليه، فقد علم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا قبّل امرأته، ولا سيّما الشابّ ربما أمنى، أو أمذى، ومع ذلك فلم يقل ببطلان صومه، فمن أين تكون الحجة؟ فتأمله بالإنصاف.

وإنما ذكرت هذا التنبيه من عبارة الفتح مع أني ذكرت مذاهب العلماء وأدلّتهم في هذه المسألة في المسألة الرابعة من شرح حديث عائشة رضي الله عنها الأول؛ لأني رأيت في عبارة "الفتح" تحقيقاً وتنقيحاً، فأحببت أن لا يخلو شرحي من هذه الفوائد، فلا تلمني بالتكرار، حقّق الله تعالى أملي وأملك ببلوغ نهاية الكتاب، والله ذو الفضل العظيم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2577]

(

) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ).

ص: 643

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضل [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2578]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قريباً.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، تقدّم قبل باب.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضاً قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (كَانَ يُبَاشِرُ) قال النوويّ رحمه الله: معنى المباشرة هنا: اللمس باليد، وهو من التقاء البشرتين. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المئصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2579]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَوْنِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَمَسْرُون إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقُلْنَا لَهَا: كًانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ، أَوْ مِنْ أَمْلَكِكُمْ لإِرْبِهِ، شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ).

ص: 644

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدَّم في "المقدمة" 6/ 129.

2 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطَبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2580]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَن ابْنِ عَوْنٍ، عَن إِبْرَاهِيمَ، عَن الْأَسْوَدِ، وَمَسْرُوقٍ، أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ لِيَسْأَلانِهَا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) هو: يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن أفلح الْعَبْديّ مولاهم، أبو يوسف الدورقيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ) ابن عليّة، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (لِيَسْأَلانِهَا) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في كثير من الأصول: "ليسألانها" باللام، والنون، وهي لغة قليلة، وفي كثير من الأصول:"يسألانها" بحذف اللام، وهذا واضح، وهو الجاري على المشهور في العربية. انتهى.

[تنبيه]: رواية إسماعيل ابن عليّة، عن ابن عون هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" (5/ 201) فقال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا إسمعيل ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، قال: دخل الأسود ومسروق على عائشة، فقالا: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر، وهو صائم؟ قالت: كان يفعل، وكان أملككم لإربه. انتهى.

ص: 645

[تنبيه آخر]: رواية ابن عليّة هذه عند ابن ماجه صورتها صورة إرسال، ووجه ذلك أن إبراهيم قال: "دخل الأسود، ومسروق

إلخ"؛ لأن من حكى قصّةً أو واقعة لم يشهدها، ولم يكن أدركها، تكون منقطعة، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: والقاعدة أن الراوي إذا رَوَى حديثاً في قصّة، أو واقعةٍ، فإن كان أدرك ما رواه بأن حَكَى قصّة وقعت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين بعض الصحابة، والراوي لذلك صحابيّ أدرك تلك الواقعة، فهي محكوم لها بالاتصال، وإن لم يُعْلَم أنه شاهدها، وإن لم يُدرِك تلك الواقعة، فهو مرسل صحابيّ، وإن كان الراوي تابعياً، فهو منقطع، وإن رَوَى التابعيّ عن الصحابيّ قصّة أدرك وقوعها فمتصل، وكذا إن لم يدرك وقوعها، ولكن أسندها له، وإلا فمنقطعةٌ، قال: وقد حَكَى اتفاقَ أهل التمييز من أهل الحديث على ذلك ابنُ الْمَوّاق، قال: وما حكاه ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل من أن "عَنْ"، و"أنّ" ليسا سواءً، مُنَزَّل على هذه القاعدة، فإن الخطيب رواه في "الكفاية" بسنده إلى أبي داود، قال: سمعت أحمد قيل له: إن رجلاً قال: قال عروة: إن عائشة قالت: يا رسول الله، وعن عروة، عن عائشة سواءٌ؟ قال: كيف هذا سواء؟ ليس هذا بسواء، فإنما فَرّق أحمد بين اللفظين؛ لأن عروة في اللفظ الأول لم يُسند ذلك إلى عائشة، ولا أدرك القصة، فكانت مرسلة، وأما اللفظ الثاني فأسند ذلك إليها بالعنعنة، فكانت متصلة. انتهى كلام العراقيّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

وإلى القاعدة المذكورة أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ قِصَّةً رَوَى

مُتصِلٌ وَغَيْرُهُ قَطْعاً حَوَى

والجواب عن رواية ابن ماجه هذه أنه تبيّن كونها متّصلة بالروايات السابقة، حيث إن إبراهيم روى عن الأسود ومسروق، كلاهما عن عائشة، وكذا رواية المصنّف هنا ظاهرة في الاتصال أيضًا، ومثلها رواية الإمام أحمد رحمه الله من طريق ابن عليّة حيث قال في "مسنده" (6/ 216): حدّثنا

(1)

راجع: "تدريب الراوي" 1/ 218.

ص: 646

إسماعيل، قال: ثنا ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود ومسروق، قال

(1)

: أتينا عائشة لنسألها عن المباشرة للصائم، فاستحيينا، فقمنا قبل أن نسألها، فمشينا، لا أدري كم؟ ثم قلنا: جئنا لنسألها عن حاجة، ثم نرجعُ قبل أن نسألها، فرجعنا، فقلنا: يا أم المؤمنين، إنا جئنا لنسألك عن شيء، فاستَحَينا، فقمنا، فقالت: ما هو؟ سلا عما بدا لكما، قلنا: أكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: قد كان يفعل ذلك، ولكنه كان أملك لأربه منكم. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2581]

(

) - (حَدَثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا، وَهُوَ صَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب، أبو عليّ البغداديّ، قاضي الْمَوْصِلِ وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.

2 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميصي مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كثِيرٍ) الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصريّ، ثم اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس، ويرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 424.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 423.

(1)

كذا النسخة "قال" بالإفراد، والظاهر أن الصواب "قالا"، بدليل الروايات الأخرى، فتنبّه.

ص: 647

5 -

(عُمَرُ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن مروان الأمويّ، أمير المؤمنين الخليفة الراشد، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 101)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 46.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيّون، روى بعضهم عن بعض، وهم: يحيى بن أبي كثير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير رحمهم الله تعالى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث عنه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2582]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيةُ، يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثِيرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِيُّ) الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [10](ت 227)(م) من أفرافى المصنّف رحمه الله، تقدم في "صلاة المسافرين" 19/ 1725.

[تنبيه]: قوله: "الْحَرِيريّ" - بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء -: نسبة إلى الْحَرِير: نوع من الثياب، قاله في "اللباب"

(1)

، ثم إنه ليس في الكتب الستّة من يُنسب الْحَرِيري غيره، ومن عداه كلهم جُرَيري بالجيم مصغّراً، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:

يَحْيَى هُوَ ابْنُ بِشْرٍ الْحَرِيرِي

وَغَيْرُهُ بِالضَّمَّةِ الْجُرَيْرِي

2 -

(مُعَاوَيةُ بْنُ سَلَّامٍ) - بتشديد اللام - ابن أبي سلّام، أبو سلّام الدمشقيّ، وكان يسكن حمص، ثقةٌ [7] مات في حدود سنة (170)(ع) تقدم في "الإيمان" 49/ 309.

و"يحيى" ذُكر قبله.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 245.

ص: 648

[تنبيه]: رواية معاوية بن سلّام، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 183) فقال:

(2497)

- حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن بشر الْحَرِيريّ، ثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن عمر بن عبد العزيز أخبره، أن عروة بن الزبير حدّثه، أن عائشة أم المؤمنين أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبّلها، وهو صائم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2583]

(

) - (حَذَثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ زِيادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ في شَهْرِ الصَّوْمِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو الْأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الْحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

3 -

(زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ) -بكسر العين المهملة، وبالقاف- أبو مالك الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [3](ت 135)(ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 208.

4 -

(عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ) الأوديّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو يحيى الكوفيّ، مخضرمٌ مشهورٌ، ثقةٌ عابدٌ [2](ت 74) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 152.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقولها: (يُقَبّلُ فِي شَهْرِ الصَّوْمِ) تعني في حال الصوم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 218.

ص: 649

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، وإلا فأصل الحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2584]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيٌّ، حَدثَنَا زِيادُ بْنُ عِلَاقَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

يُقَبِّلُ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ، ربّما وَهِمَ [10](5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ) الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(أَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ) الكوفيّ، قيل: اسمه عبد الله بن قطاف، أو ابن أبي قطاف، وقيل: وهب، وقيل: معاوية، صدوقٌ، رُمي بالإرجاء [7](ت 166)(م ت س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1287.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف أيضاً، وإلا فأصل الحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2585]

(

) - (وَحَدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا

(1)

وفي نسخة: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ".

ص: 650

سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم أيضاً قبل بابين.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(عَلِئُ بْنُ الْحُسَيْنِ) بن عليّ بن أبي طالب الملفب زين العابدين المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابد فقيهٌ مشهوز [3](ت 93) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 30/ 1818.

والباقيان ذُكرا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2586]

(1107) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ، وَهُوَ صَائِمٌ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(شُتَيْرُ بْنُ شَكَلٍ) الأول -بشين معجمة، ثم مثنّاة مصغّراً- والثاني - بشين معجمة، وكاف مفتوحتين، ويقال بسكون الكاف أيضاً - الْعَبْسيّ - بالباء الموحّدة - الكوفيّ، يقال: إنه أدرك الجاهليّة، ثقةٌ [2](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1427.

2 -

(حَفْصَة) بنت عمر بن الخطّاب رضي الله عنها، أم المؤمنين تزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خُنَيس بن حُذافة سنة ثلاث، وماتت سنة (45)(ع) تقدّمت في "صلاة المسافرين" 15/ 1676.

ص: 651

والباقون كلّهم ذُكروا في الباب، و"مسلم": هو ابن صُبيح.

وشرح الحديث واضحُ يعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حفصة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2586 و 2587](1107)، و (ابن ماجه) في "الصوم" و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 204 و 205)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 60)، و (الحميديّ) في "مسنده"(287)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 286)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 349 و 350 و 351 و 393)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3542)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 212)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 184)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 234)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2587]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ، عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية منصور بن المعتمر، عن مسلم بن صُبيح هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (8/ 312) فقال:

ص: 652

(3542)

- أخبرنا أبو يعلى، قال: حدّثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا جرير عن منصور، عن مسلم بن صُبيح، عن شُتَير بن شَكَل، عن حفصة بنت عمر، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُقَبِّل، وهو صائم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2588]

(1108) - (حَدَّثَنِي

(1)

هَارُونُ بْن سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنى عَمْرٌو، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كعْبَ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلْ هَذِهِ"، لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لأتقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) نزيل مصر، أبو جعفر السعديّ مولاهم، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) عن (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عَمْرُو بنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أخو يحيى بن سعيد المدنيّ، ثقةٌ [5](ت 139) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1272.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْب الْحِمْيَرِيُّ) المدنيّ، مولى عثمان، صدوق [4].

رَوَى عن عمر بن أبيً سلمة، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد بن ثابت.

وروى عنه عبد ربه بن سعيد، وعبد الرحمن بن الحارث، وابن إسحاق.

(1)

وفي نسخة: "وحدّثني".

ص: 653

ذكره ابن حبان في "الثقات"، ونقل ابن خلفون أنه رَوَى عن محمود بن لبيد الأنصاريّ، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ.

روى له مسلم حديثاً في قبلة الصائم والنسائي حديثاً في الصائم يصبح جنباً. قلت: تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1108) والحديث التالي (1109)، وهما أيضاً عند النسائيّ.

6 -

(عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الأسد المخزوميّ، ربيب النبيّ، صحابيّ صغير، وأمّره عليّ على البحرين، ومات سنة (83) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 54/ 1157.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وعبد الله بن كعب، كما أسلفته آنفاً.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مصريون، والثاني مدنيّون.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلْ هَذِهِ"، لِأُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها (فَأَخْبَرَتْهُ) عطف على مقدّر؛ أي فسألها عنه، فأخبرته (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ) أي يقبّل، وهو صائم (فَقَالَ) عمر بن أبي سلمة (يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ) سبب قوله هذا أنه ظَنّ أن جواز التقبيل للصائم من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا حرج عليه فيما يَفْعَل؛ لأنه مغفور له، فأنكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا، وقال: أنا أتقاكم لله تعالى، وأشدّكم له خشيةً، فكيف تظنون بي، أو تُجَوِّزون عليّ ارتكاب منهيّ عنه، ونحوه؟ وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غَضِب حين قال له هذا القول، وجاء في "الموطأ" فيه:"يُحِلّ الله لرسوله ما شاء"، أفاده النوويّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 219.

ص: 654

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه، كـ "ألا"(وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ") قال القرطبي رحمه الله: أي لأكثركم تقوى، والتقوى بمعنى الوقاية، والخشيةُ: الخوف، وقد فرّق بعض الناس بينهما، فقال: الخشية أشدّ الخوف، وقيل: الخوف: التطلّع لنفس الضرر، والخشيةُ: التطلّع لفاعل الضرر، وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ الناس خشية؛ لأنه أعظمهم له معرفةً. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

وقال قبل ذلك: قوله: "قد غفر الله لك

إلخ" هذا قول من خطر بباله أنه يلزم من كونه مغفوراً له مسامحته في بعض الممنوعات، وهذا الخاطر مهما أُصغي إليه لزم منه إسقاط التكاليف، وكذلك قد يقع مثله أيضًا عند سماع قوله صلى الله عليه وسلم حقّ التائب بعد الثالثة: "اعمل ما شئت، فقد غفرت لك"

(1)

، وهذا الخاطر باطل بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"إني لأتقاكم لله، وأشدّكم له خشية"، وبدليل الإجماع المعلوم على أن التكاليف لا تسقط عمن حصلت له شروطها، وإنما محلّ هذه الظواهر الموجبة للغفران في المستقبل على المعونة على الطاعات، والحفظ عن المخالفات، بحيث لا تقع الذنوب منه فيما يأتي، ويصحّ أن يُعبّر عن المعنى بالمغفرة؛ لأن المغفرة هي الستر، وهذا قد سُتر بالطاعات عن المعاصي، بحيث لا تقع منه، أو لأن حاله حال المغفور له، من حيث إنه لا ذنب له، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأقرب في معنى قوله عز وجل: "اعمل ما شئت

إلخ" أي ما دُمت بهذه الصفة، وهي التوبة كلما وقع في الذنب.

(1)

هو ما أخرجه الشيخان، وأحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخكِي عن ربه: "أذنب عبدي ذنباً، فقال: يا رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربّاَ يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب - ثلاث مرار - قال: فيقول: اعمل ما شئت، قد غفرت لك"، هذا لفظ أحمد، ولفظ الشيخين مطوّل.

(2)

"المفهم" 3/ 164 - 165.

ص: 655

وحاصل المعنى: أنك إذا تبت عن ذنبك، فأنا أتوب عليك بالقبول، والعفو، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: كون هذا الحديث من أفراد المصنّف إنما هو باعتبار أنه من مسند عمر بن أبي سلمة رضي الله عنها، وإلا فالحديث متّفقٌ عليه من مسند أم سلمة رضي الله عنها، من رواية زينب بنت أبي سلمة، عنها، فقد أخرجه (البخاريّ) في "الصوم"(1929) ولفظه من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أمها رضي الله عنها قالت: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة؛ إذ حِضْتُ، فانسللت، فاخذت ثياب حِيضتي، فقال:"ما لكِ؟، أنفست؟ " قلت: نعم، فدخلت معه في الخميلة، وكانت هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتسلان من إناء واحد، وكان يقبّلها، وهو صائم.

وأخرجه (المصنّف) أيضاً في "الحيض"[689](296) إلا أنه لم يذكر قصّة التقبيل في الصوم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 2588](1108)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 211 و 5/ 128)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 185)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 309)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 261 و 5/ 221) و"الكبير"(9/ 25)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 762)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 234)، وأما فوائد الحديث، فقد تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 656

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء العشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" ليلة الخميس المباركة (3/ 8/ 1428 هـ الموافق (17 أغسطس - آب 2007 م).

أسال الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وسبباً للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 183].

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الواحد والعشرون مفتتحاً بـ (13) - (بَابُ صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الفَجْرُ، وَهُوَ جُنُبٌ) رقم الحديث [2589](1109).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك"

ص: 657