المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ليله الجمعة المباركة 4/ 8/ 1428 هـ - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٢١

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ليله الجمعة المباركة 4/ 8/ 1428 هـ أول الجزء الواحد والعشرين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج، رحمه الله تعالى.

(13) - (بَابُ صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ طلعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ، وَهُوَ جُنبٌ)

وبالسند المتَّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2589]

(1109) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْنِ جُرَيْجٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَدُ بْنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ بْنُ هَمَامٍ، أخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُصُّ، يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: مَنْ أدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُباً فَلَا يَصُمْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، لِأَبِيهِ، فَأَنكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُباً، مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلا مَا ذَهَبْتَ اِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ اِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ، قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو

ص: 5

هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ، قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أقَالَتَا

(1)

فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمام قدوة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَاقِ بْنُ هَمَّامٍ) الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ، مصنّفٌ شهير، عَمِيَ فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ يرسل ويدلّس [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْن أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام المخزوميّ المدنيّ، ثقةٌ [5] مات في أول خلافة هشام (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.

6 -

(أَبُو بَكْرِ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه كنيته، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: فالأول انفرد به هو وأبو داود، والثاني ما أخرج له ابن ماجه.

(1)

وفي نسخة: "أو قالتا".

ص: 6

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، عن صحابيّتين.

5 -

(ومنها): أن فيه صحابيتين من أمهات المؤمنين، ومن أفقه الصحابيّات رضي الله عنهن.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرْ) هو ابن عبد الرَّحمن بن الحارث أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُصُّ) أي يُحدّث، يقال: قَصَصتُ الخبرَ قَصًّا، من باب نصر: حدّث به على وجهه، والاسم الْقَصَصُ بفتحتين

(1)

. (يَقُولُ في قَصَصِهِ) بفتحتين، كما مرّ آنفًا (مَنْ أَدْرَكَهُ) أي طلع عليه (الْفَجْرُ) وقوله:(جُنُبًا) منصوب على الحال، والجنب -بضمّتين- يُطلق على الذكر، والأنثى، والمفرد، والتثنية، والجمع، وربما طابق على قلّة، فيقال: أَجْنابٌ، وجُنُبُون، ونساءٌ جُنُبات، ورجلٌ جُنُبٌ

(2)

. (فَلَا يَصُمْ) وفي رواية مالك، عن سُمَيّ، عن أبي بكر: أن أبا هريرة قال: "من أصبح جنبًا، أفطر ذلك اليوم"، وللنسائي من طريق المقبريّ:"كان أبو هريرة يفتي الناس أنه من أصبح جنبًا، فلا يصوم ذلك اليوم"، وله من طريق محمد بن عبد الرَّحمن بن ثوبان، أنه سمع أبا هريرة يقول:"من احتَلَم من الليل، أو واقع أهله، ثم أدركه الفجر، ولم يغتسل فلا يصم"، ومن طريق أبي قلابة، عن عبد الرَّحمن بن الحارث، أن أبا هريرة، كان يقول:"من أصبح جنبًا، فليُفْطِر"، فاتفقت هذه الروايات على أنه كان يفتي بذلك، وسيأتي بيان مَن روى ذلك عنه مرفوعًا قريب"

(3)

- إن شاء الله تعالى -.

(فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أي ما قاله أبو هريرة (لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ) وقوله: (لِأَبِيهِ) بدل من "لعبد الرَّحمن"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "فذكرتُ ذلك لعبد الرَّحمن بن الحارث، لأبيه"، وهو صحيحٌ مَلِيحٌ، ومعناه: ذكره أبو بكر لأبيه عبد الرَّحمن، فقوله:"لأبيه" بدل من "عبد الرَّحمن" بإعادة حرف الجرّ.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 505.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 111.

(3)

راجع: "الفتح" 5/ 277 - 278.

ص: 7

قال القاضي عياض رحمه الله: ووقع في رواية ابن ماهان: "فذَكَرَ ذلك عبدُ الرَّحمن لأبيه"، وهذا غلطٌ فاحشٌ؛ لأنه تصريح بأن الحارث والد عبد الرَّحمن هو المخاطب بذلك، وهو باطلٌ؛ لأن هذه القصّة كانت في ولاية مروان على المدينة، في خلافة معاوية رضي الله عنه، والحارث تُوُفّي في طاعون عَمَوَاس، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثمان عشرة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

(فَأَنْكَرَ) أي عبد الرَّحمن (ذَلِكَ) أي ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه؛ لأن عنده علمًا بأن من أصبح جنبًا لا يبطل صومه، ولعله أخذه من عائشة، وأم سلمة، أو من أحدهما (فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن الحارث؛ ليتأكّد مما لديه من عدم فطر من أصبح جنبًا، قال أبو بكر (وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ) أي عن حكم من أصبح جنبًا (قَالَ) أبو بكر (فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ) أفرد الضمير؛ نظرًا للفظ "كلتا"، والقاعدة في "كلا"، و"كلتا" أنه يجوز فيهما مراعاة اللفظ، ومراعاة المعنى، والأكثر مراعاة اللفظ، كما في هذا الحديث، وبه جاء القرآن الكريم في قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا.

[تنبيه]: ظاهر رواية المصنّف أنهما سمعا كلام عائشة، وأم سلمة رضي الله عنهما، لكن في رواية النسائيّ أن عبد الرَّحمن بن الحارث إنما سمعه من ذكوان مولى عائشة عنها، ومن نافع مولى أم سلمة عنها، فأخرج من طريق عبد ربه بن سعيد، عن أبي عياض، عن عبد الرَّحمن بن الحارث، قال: أرسلني مروان إلى عائشة، فأتيتها، فلقيت غلامها ذكوان، فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك، فقالت، فذكر الحديث مرفوعًا، قال: فأتيت مروان، فحدثته بذلك، فأرسلني إلى أم سلمة، فأتيتها، فلقيت غلامها نافعًا، فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك، فذكر مثله، وفي إسناده نظرٌ؛ لأن أبا عياض مجهول، فإن كان محفوظًا، فيُجْمَع بأن كلًا من الغلامين كان واسطة بين عبد الرَّحمن، وبين كلّ منهما في السؤال، كما في هذه الرواية، وسمع عبد الرَّحمن وابنه أبو بكر كلاهما من وراء الحجاب، كما في رواية المصنّف وغيره.

(1)

"شرخ النوويّ" 7/ 220.

ص: 8

وفي رواية أبي حازم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عند النسائيّ، أن عبد الرَّحمن جاء إلى عائشة، فسلّم على الباب، فقالت عائشة: يا عبد الرَّحمن

الحديث، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا، مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ) بضمّ الحاء المهملة، واللام، ويجوز إسكانها؛ تخفيفًا، يقال: حَلَمَ يَحْلُمُ، من باب نصر، حُلْمًا بضمّتين، وإسكان الثاني تخفيفًا، واحتَلَم: رأى في منامه رُؤيا

(2)

. (ثُمَّ يَصُومُ) وفي الرواية التالية من طريق يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، وأبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن عائشة:"كان يدركه الفجر في رمضان جنبًا من غير حُلُم"، وفي رواية البخاريّ:"كان يدركه الفجر، وهو جنب من أهله، ثم يغتسل، ويصوم"، وفي رواية مالك:"كان يصبح جنبًا من جماع، غير احتلام"، وللنسائيّ من طريق عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عنهما:"كان يصبح جنبًا من غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم"، وله من طريق يحيى بن عبد الرَّحمن بن حاطب، قال: قال مروان لعبد الرَّحمن بن الحارث: اذهب إلى أم سلمة، فسلها، فقالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا مني، فيصوم، ويأمرني بالصيام".

قال القرطبيّ رحمه الله: في هذا فائدتان:

[إحداهما]: أنه كان يجامع في رمضان، ويؤخِّر الغسل إلى بعد طلوع الفجر؛ بيانًا للجواز.

[والثانية]: أن ذلك كان من جماع، لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم؛ إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال غيره في قولها:"من غير احتلام"؛ إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان للاستثناء معنى.

ورُدَّ بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه

(3)

.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 276.

(2)

"المصباح" 1/ 148.

(3)

وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": وفيه دليل لمن يقول بجواز الاحتلام على الأنبياء عليهم السلام وفيه خلاف قدَّمناه، والأشهر امتناعه، قالوا: لأنه من تلاعب الشيطان، وهم منزهون عنه، ويتألون هذا الحديث على أن المراد: يُصبح جنبًا من جماع، ولا يجنب من احتلام؛ لامتناعه منه، ويكون قريبًا من معنى قول الله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21]، ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحقّ. انتهى.

ص: 9

وأجيب بأن الاحتلام يُطلَق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام، وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الردّ على من زعم أن فاعل ذلك عمدًا يُفْطِرُ، وإذا كان فاعل ذلك عمدًا لا يُفطِر، فالذي يَنْسَى الاغتسال، أو ينام عنه أولى بذلك.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: لَمّا كان الاحتلام يأتي للمرء على غير اختياره، فقد يتمسك به من يُرَخِّص لغير المتعمد الجماع، فبيّن في هذا الحديث أن ذلك كان من جماع؛ لإزالة هذا الاحتمال.

(قَالَ) أبو بكر (فَانْطَلَقْنَا، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ) بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ الأمويّ، أبو عبد الملك، ويقال: أبو القاسم، ويقال: أبو الحكم، أمه آمنة بنت علقمة بن صفوان الكنانيّ، وتُكنى أم عثمان المدنيّ، وُلد بعد الهجرة بسنتين، وقيل: بأربع، ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يصح له منه سماع، ورَوَى عن عثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وبُسْرة بنت صفوان، وعبد الرَّحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وروى عنه ابنه عبد الملك، وسهل بن سعد الساعديّ، وهو أكبر منه، وسعيد بن المسيِّب، وعلي بن الحسين، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرَّحمن بن الحارث، وغيرهم.

كتب لعثمان، وولي إمرة المدينة أيام معاوية، وبويع له بالخلافة بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية بالجابية، وكان الضحاك بن قيس غلب على دمشق، ودعا لابن الزبير، ثم دعا لنفسه، فواقعه مروان بِمَرْج راهط، فقُتل الضحاك، وغَلَب مروان على دمشق، ثم على مصر، ومات في رمضان سنة خمس وستين، وكانت ولايته تسعة أشهر.

قال البخاريّ: لَمْ ير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": وُلد يوم الخندق، وعن مالك أنه وُلد يوم أُحُد.

أخرج له البخاري

(1)

، والأربعة، وليست له رواية عند المصنّف، وإنما له ذكر فقط.

(1)

وقد عاب الإسماعيليّ على البخاريّ تخريج حديثه، وعَدّ من موبقاته أنه رَمَى طلحة أحد العشرة يوم الجمل، وهما جميعًا مع عائشة، فقتله، ثم وثب على الخلافة =

ص: 10

(فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ) أي لمروان (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن الحارث؛ أي حديث عائشة، وأم سلمة رضي الله عنهما المذكور، وفي رواية البخاريّ:"فقال أبو بكر: فكره ذلك عبد الرَّحمن، ثم قُدّر لنا أن نجتمع بذي الحليفة، وكانت لأبي هريرة هنالك أرض".

وقوله: "فكره ذلك عبد الرَّحمن" سبب كراهته ما سيأتي أنه قال: إنه لَجاري، وإني لأكره أن استقبله بما يكره، وَيحْتَمِل أن يكون كَرِه أيضًا أن يخالف مروان؛ لكونه كان أميرًا واجب الطاعة في المعروف، وبَيَّن أبو حازم، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبيه، سبب تشديد مروان في ذلك، فعند النسائيّ من هذا الوجه قال: كنت عند مروان، مع عبد الرَّحمن، فذكروا قول أبي هريرة، فقال: اذهب، فاسأل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبنا إلى عائشة، فقالت: يا عبد الرَّحمن، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟ فذكرت الحديث، ثم أتينا أم سلمة كذلك، ثم أتينا مروان، فاشتَدّ عليه اختلافهم تخوّفًا أن يكون أبو هريرة يحدث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مروان لعبد الرَّحمن: عَزَمُت عليك لما أتيته، فحدثته.

وقوله: "ثم قُدِّر لنا أن نجتمع بذي الحليفة"؛ أي المكان المعروف، وهو ميقات أهل المدينة، وقوله:"وكان لأبي هريرة هناك أرض"، فيه رفع توهُّم من يظن أنهما اجتمعا في سفر، وظاهره أنهما اجتمعا من غير قصد، لكن في رواية مالك:"فقال مروان لعبد الرَّحمن: أقسمت عليك، لتركبن دابتي، فإنها بالباب، فلتذهبن إلى أبي هريرة، فإنه بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه، قال: فركب عبد الرَّحمن، وركبت معه"، فهذا ظاهر في أنه قَصَد أبا هريرة لذلك، فيُحْمَل قوله:"ثم قُدِّر لنا أن نجتمع معه" على المعنى الأعم من التقدير، لا على معنى الاتّفاق، ولا تخالف بين قوله:"بذي الحليفة"، وبين قوله:"بأرضه بالعقيق"؛ لاحتمال أن يكونا قصداه إلى العقيق، فلم يجداه، ثم وجداه بذي الحليفة، وكان له أيضًا بها أرض.

= بالسيف، واعتذر عنه الحافظ في "هدي الساري" بأن ما أخرجه البخاري إنما هو من حدّث عنه لما كان أميرًا بالمدينة قبل أن يبدو منه شيء، وأما قتله طلحة، فكان متأولًا فيه، كما قرّره الإسماعيليّ وغيره. انتهى باختصار (2/ 1189) نسخة البراك.

ص: 11

ووقع في رواية معمر، عن الزهريّ، عن أبي بكر: فقال مروان: عَزَمتُ عليكما لَمَّا ذهبتما إلى أبي هريرة، قال: فلقينا أبا هريرة عند باب المسجد، والظاهر أن المراد بالمسجد هنا مسجد أبي هريرة بالعقيق، لا المسجد النبويّ؛ جمعًا بين الروايتين، أو يُجمع بأنهما التقيا بالعقيق، فذكر له عبد الرَّحمن القصة مجملةً، أو لَمْ يذكرها، بل شَرَع فيها، ثم لَمْ يتهيأ له ذكر تفصيلها، وسماع جواب أبي هريرة إلَّا بعد أن رجعا إلى المدينة، وأراد دخول المسجد النبويّ، قاله في "الفتح".

(فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ) أي أمرتك أمرًا جازمًا عزيمةً مُحتّمةً، وأمر وُلاة الأمور تجب طاعته في غير معصية.

وفي رواية البخاريّ: "وقال مروان لعبد الرَّحمن بن الحارث: أُقْسِم بالله لتُفْزِعَنّ

(1)

بها أبا هريرة، وكان مروان يومئذ على المدينة"، وفي رواية النسائيّ من طريق عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن: فقال مروان لعبد الرَّحمن: "الْقَ أبا هريرة، فحدِّثه بهذا، فقال: إنه لَجاري، وإني لأكره أن استقبله بما يكره، فقال: أَعْزِمُ عليك، لَتَلْقَيَنّه"، ومن طريق عُمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن أبيه: فقال عبد الرَّحمن لمروان: "غفر الله لك إنه لي صديق، ولا أحبّ أن أَرُدّ عليه قولَهُ".

(إِلَّا مَا ذَهَبْتَ إِلَى أبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ) أي الذي يقوله أبو هريرة، من أن من أدرك الفجر جُنُبًا فلا يصم (قَالَ) أبو بكر (فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وقوله:(وَأَبُو بَكْرٍ) أي ابن عبد الرَّحمن راوي الحديث (حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ) أي ما تقدَّم من سماع كلام عائشة وأم سلمة، والدخول على مروان، وتحديثه بذلك، فقوله:"وأبو بكر حاضر" ذكره تأكيدًا، وإلا فهو معلوم من قوله:"وانطلقت معه، ودخلنا"، وقوله:"فانطلقنا حتى دخلنا على مروان"(قَالَ) أبو بكر (فَذَكَرَ لَهُ) أي لأبي هريرة رضي الله عنه (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) أي ذكر عبد الرَّحمن لأبي

(1)

قوله: "لَتُفْزِعَنَّ" كذا للأكثر بالفاء، والزاي، من الفزع، وهو الخوف؛ أي لَتُخِيفنّه بهذه القصة التي تخالف فتواه، وللكشميهنيّ:"لَتَقْرَعَنّ" بفتح التاء، فقاف، وراء مفتوحة: أي تقرع بهذه القصة سمعه، يقال: قَرَعت بكذا سمع فلان: إذا أعلمته به إعلامًا صريحًا، قاله في "الفتح".

ص: 12

هريرة ما قالت عائشة، وأم سلمة رضي الله عنهما، وفي رواية البخاريّ:"فقال عبد الرَّحمن لأبي هريرة: إني ذاكر لك أمرًا، ولولا مروان أقسم عليّ فيه لَمْ أذكره لك".

وقوله: "ولولا مروان

إلخ": فيه حسن الأدب مع الأكابر، وتقديم الاعتذار قبل تبليغ ما يَظُنّ المبلِّغ أن المبلَّغ يكرهه.

(فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟) إنما قال ذلك؛ لاحتمال أن يسمع قولهما بواسطة، فلا يحصل اليقين (قَالَ) عبد الرَّحمن (نَعَمْ) قالتاه (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (هُمَا أَعْلَمُ) أي من غيرهما، ممن حدّثه أن من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم، وإنما كانتا أعلم بذلك؛ لأنهما لازمتا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، فلا يكون ذلك منسوخًا، وأما ذاك، فقد يكون سابقًا، ثم نُسخ، كما رأى بعض من جمع بين الحديثين، وهو الذي اختاره ابن المنذر رحمه الله، كما سيأتي قريبًا (ثمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ) أي الحديث الذي كان يُحدّث به من عدم صحة صوم من أصبح جنبًا (إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ) بن عبد المطّلب بن هاشم، ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبي عبد الله، ويقال: أبو العباس، ويقال: أبو محمد المدنيّ، وأمه أم الفضل لُبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية، أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وحَضَر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أخواه: عبد الله، وقثم، وابن أخيه عباس بن عبيد الله بن عباس، وابن عمة ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعمير مولى أم الفضل، وأبو معبد، وكريب موليا ابن عباس، وأبو هريرة، وسليمان بن يسار، والشعبيّ، وعطاء بن أبي رباح، وقيل: إنه لَمْ يسمع منه سوى أخيه عبد الله، وأبي هريرة، ورواية باقي من ذُكِر هنا عنه مرسلة، قال عباس الدُّوريّ عن ابن معين: قُتِل يوم اليرموك، وعليه درع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال أبو داود: قُتل بدمشق، وقال الواقديّ: مات بطاعون عَمَوَاس سنة ثمان عشرة، وقال ابن سعد: كان أسنّ ولد العباس، وثبت يوم حُنين، ومات بناحية الأُرْدُنّ في خلافة عمر.

قال الحافظ: رواية ربيعة بن الحارث عنه ممكنةٌ، لا أعلم مَن نَصَّ على أنه لَمْ يسمع منه، وأما رواية الباقين عنه فظاهرة الإرسال؛ لقدم موته. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (1109) و (1281) وأعاده بعده و (1282) و (1335).

ص: 13

(فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ) بن العبّاس رضي الله عنهما (وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية البخاريّ: "فقال: كذلك حدّثني الفضل"، أراد أن الفضل حدّثه بالقول الذي يقوله، وهو:"من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم" وفي رواية مالك، عن سميّ: فقال أبو هريرة: "لا علم لي بذلك"، وفي رواية معمر، عن ابن شهاب: فتَلَوَّن وجه أبي هريرة، ثم قال:"هكذا حدّثني الفضل".

(قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ) وكذلك وقع في رواية محمد بن عبد الرَّحمن بن ثَوْبان عند النسائيّ أنه رجع، ورَوَى ابن أبي شيبة، من طريق قتادة، عن سعيد بن المسيِّب أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنبًا فلا صوم له، وللنسائيّ من طريق عكرمة بن خالد، ويعلى بن عقبة، وعِرَاك بن مالك، كلهم عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عباس، لكن عنده من طريق عُمر بن أبي بكر، عن أبيه، أن أبا هريرة قال في هذه القصة: إنما كان أسامة بن زيد حدّثني، فَيُحْمَل على أنه كان عنده عن كلّ منهما، ويؤيِّده رواية أخرى عند النسائيّ من طريق أخرى، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبيه، قال فيها: إنما حَدَّثني فلان، وفلان، وفي رواية مالك: أخبرنيه مخبر.

قال الحافظ رحمه الله: والظاهر أن هذا من تصرف الرواة، منهم من أبهم الرجلين، ومنهم من اقتصر على أحدهما، تارةً مبهمًا، وتارةً مفسرًا، ومنهم من لَمْ يذكر عن أبي هريرة أحدًا، وهو عند النسائي أيضًا من طريق أبي قلابة، عن عبد الرَّحمن بن الحارث، ففي آخره:"فقال أبو هريرة: هكذا كنت أحسب". انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله ما حاصله: أن أبا هريرة رضي الله عنه حين بلغه قول عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما هذا رجع عن قوله، مع أنه كان رواه عن الفضل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلعل سبب رجوعه أنه تعارض عنده الحديثان، فَجَمَع بينهما، وتأول أحدهما، وهو قوله:"من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم"، وفي رواية مالك:"أفطر"، فتأوله على ما سنذكره من الأوجه في تأويله - إن شاء الله تعالى - فلما ثبت عنده أن حديث عائشة وأم سلمة على ظاهره، وهذا مُتَأَوَّل رجع عنه، وكان حديث

(1)

"الفتح" 5/ 279.

ص: 14

عائشة وأم سلمة أولى بالاعتماد؛ لأنهما أعلم بمثل هذا من غيرهما، ولأنه موافق للقرآن، فإن الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، قال الله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، والمراد بالمباشرة الجماع، ولهذا قال الله تعالى:{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]، ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جنبًا، ويصح صومه؛ لقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وإذا دلّ القرآن، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جواز الصوم لمن أصبح جنبًا، وجب الجواب عن حديث أبي هريرة عن الفضل رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وجوابه من ثلاثة أوجه:

[أحدها]: أنه إرشاد إلى الأفضل، فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز، وهذا مذهب أصحابنا، وجوابهم عن الحديث.

[فإن قيل]: كيف يكون الاغتسال قبل الفجر أفضل، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خلافه؟.

[فالجواب]: أنه صلى الله عليه وسلم فعله؛ لبيان الجواز، ويكون في حقّه حينئذ أفضل؛ لأنه يتضمن البيان للناس، وهو مأمور بالبيان، وهذا كما توضأ مرّةً مَرّةً في بعض الأوقات؛ بيانًا للجواز، ومعلوم أن الثلاث أفضل، وهو الذي واظب عليه صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به الأحاديث، وطاف على البعير؛ لبيان الجواز، ومعلوم أن الطواف ساعيًا أفضل، وهو الذي تكرر منه صلى الله عليه وسلم، ونظائره كثيرة.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعْد هذا الجواب مع إنكاره صلى الله عليه وسلم على من راجعه، فقال:"والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي"، فلو كان الأفضل في خلاف فعله لأرشده إليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

[والجواب الثاني]: لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعًا، فاستدام بعد طلوع الفجر، عالِمًا، فانه يفطر، ولا صوم له.

قال الجامع عفا الله عن: لا يخفى بُعْد هذا الجواب أيضًا؛ إذ لو كان كذلك لَمَا جاز لأبي هريرة الرجوع عن فتواه، ولا أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما ممن يعارض ذلك، فإن من استدام الجماع بعد طلوع الفجر، وهو عالمٌ بطل صومه بلا خلاف، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

ص: 15

[والثالث]: جواب ابن المنذر فيما رواه عنه البيهقيُّ أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه منسوخ، وأنه كان في أول الأمر حين كان الجماع محرَّمًا في الليل بعد النوم، كما كان الطعام والشراب محرَّمًا، ثم نُسِخَ ذلك، ولم يعلمه أبو هريرة رضي الله عنه، فكان يفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ، فرجع إليه، قال ابن المنذر رحمه الله: هذا أحسن ما سمعت فيه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي استحسنه ابن المنذر رحمه الله أشبه الأجوبة، وأرجحها، وسيأتي أنه قول المحقّقين، والله تعالى أعلم.

قال ابن جُريج: (قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا) وفي نسخة: "أَوَ قالتا"(فِي رَمَضَانَ؟) يعني أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنها هل قالتا في حديثهما: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصبح جنبًا من غير حلُم في رمضان، ثم يصوم") (قَالَ) عبد الملك (كَذَلِكَ كَانَ يُصْبحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلمٍ، ثُمَّ يَصُومُ) أراد أنه ليس في روايته ذكر "في رمضان"، وهذا لا ينافي ما سيأتي من رواية عبد ربه بن سعيد، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، أنهما قالتا:"إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنبًا من جماع، من غير احتلام في رمضان، ثم يصوم"؛ لاحتمال أن يكون أبو بكر حين حدّث به عبد الملك لَمْ يذكره، وذكره حين حدّث عبد ربه بن سعيد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 2589 و 2590 و 2591 و 2592](1109)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1925 و 1926 و 1931)، و (أبو داود) في "الصوم"(2388)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(779)، و (النسائي) في "الكبرى"(2/ 183)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 290)، و (الشافعي) في "المسند"(1/ 259 - 260)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(4/ 180)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنَّفه"

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 221.

ص: 16

(2/ 329)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 34 و 36 و 203 و 211 و 289 و 290 و 308 و 313)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2011)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3486)، و (الطحاويّ) في " شرح معاني الآثار"(2/ 102) و"مشكل الآثار"(535)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 588)(535) و"مسند الشاميين"(4/ 222)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 185 - 186)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 214)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان صحّة صوم من طلع عليه الفجر، وهو جنبٌ.

2 -

(ومنها): بيان دخول العلماء على الأمراء، ومذاكرتهم إياهم بالعلم.

3 -

(ومنها): أن فيه فضيلةً لمروان بن الحكم؛ لِما يدلُّ عليه الحديث من اهتمامه بالعلم، ومسائل الدين.

4 -

(ومنها): الاستثبات في النقل، والرجوع في المعاني إلى الأعلم، فإن الشيء إذا نوزع فيه رُدّ إلى من عنده علمه.

5 -

(ومنها): ترجيح مرويّ النساء فيما لهنّ عليه الاطلاع دون الرجال على مرويّ الرجال، كعكسه.

6 -

(ومنها): أن المباشِرَ للأمر أعلم به من المخبَر عنه.

7 -

(ومنها): الائتساء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في أفعاله ما لَمْ يَقُم دليل الخصوصية.

8 -

(ومنها): أن للمفضول إذا سمع من الأفضل خلافَ ما عنده من العلم أن يبحث عنه، حتى يَقِف على وجهه.

9 -

(ومنها): أن الحجة عند الاختلاف في المصير إلى الكتاب والسنة.

10 -

(ومنها): أن فيه الحجةَ بخبر الواحد، وأن المرأة فيه كالرجل.

11 -

(ومنها): أن فيه فضيلةً لأبي هريرة رضي الله عنه؛ لاعترافه بالحقّ، ورجوعه إليه.

12 -

(ومنها): أن فيه استعمال السلف من الصحابة والتابعين الإرسال عن العدول من غير نكير بينهم؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه اعتَرَف بأنه لَمْ يسمع هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يمكنه أن يرويه عنه بلا واسطة، وإنما بيّنها لَمّا وقع من الاختلاف.

ص: 17

13 -

(ومنها): أن فيه الأدبَ مع العلماء، والمبادرة لامتثال أمر ذي الأمر؛ إذا كان طاعة، ولو كان فيه مشقّةٌ على المأمور، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في صوم من أدركه الفجر، وهو جنب:

قال النوويّ رحمه الله: أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب، سواء كان من احتلام، أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة، والتابعين، وحُكِي عن الحسن بن صالح إبطاله، وكان عليه أبو هريرة، والصحيح أنه رجع عنه، كما صُرِّح به هنا في رواية مسلم، وقيل: لَمْ يرجع عنه، وليس بشيء، وحُكِي عن طاوس، وعروة، والنخعيّ: إن علم بجنابته لَمْ يصحّ، وإلا فيصحّ، وحُكِي مثله عن أبي هريرة، وحُكِي أيضًا عن الحسن البصريّ، والنخعيّ أنه يجزيه في صوم التطوع دون الفرض، وحُكِي عن سالم بن عبد الله، والحسن البصريّ، والحسن بن صالح: يصومه ويقضيه، ثم ارتفع هذا الخلاف، وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته، كما قدمناه، وفي صحة الإجماع بعد الخلاف خلافٌ مشهورٌ لأهل الأصول، وحديثُ عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما حجة على كلّ مخالف. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض التابعين، كما نقله الترمذيّ، ثم ارتفع ذلك الخلاف، واستقرّ الإجماع على خلافه، كما جزم به النوويّ، وأما ابن دقيق العيد، فقال: صار ذلك إجماعًا، أو كالإجماع، لكن من الآخذين بحديث أبي هريرة مَن فَرَّق بين من تعمّد الجنابة، وبين من احتلم، كما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، وكذا حكاه ابن المنذر رحمه الله، عن طاوس أيضًا، قال ابن بطال: وهو أحد قولي أبي هريرة، قال الحافظ: ولم يصح عنه، فقد أخرج ذلك ابن المنذر من طريق أبي الْمُهَزم

(2)

، وهو ضعيف، عن أبي هريرة.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 222.

(2)

قال في "التقريب": أبو الْمُهَزِّم" بتشديد الزاي المكسورة التميميّ البصريّ، اسمه يزيد، وقيل: عبد الرَّحمن بن سفيان، متروك من الثالثة. انتهى.

ص: 18

ومنهم من قال: يتم صومه ذلك اليوم، ويقضيه، حكاه ابن المنذر رحمه الله عن الحسن البصريّ، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخرج عبد الرزاق، عن ابن جريجٍ، أنه سأل عطاء عن ذلك، فقال: اختَلَف أبو هريرة وعائشة، فأرى أن يتم صومه ويقضي. انتهى، وكأنه لَمْ يثبت عنده رجوع أبي هريرة عن ذلك، وليس ما ذكره صريحًا في إيجاب القضاء.

ونَقَل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حيّ إيجاب القضاء أيضًا، والذي نقله الطحاويّ عنه استحبابه.

ونقل ابن عبد البر عنه، وعن النخعيّ إيجاب القضاء في الفرض، والإجزاء في التطوع.

قال الحافظ: ووقع لابن بطال، وابن التين، والنوويّ، والفاكهيّ، وغير واحد في نقل هذه المذاهب مغايرات، في نسبتها لقائلها، والمعتمد ما حررته.

ونَقَل الماورديّ أن هذا الاختلاف كلّه، إنما هو في حقّ الجنب، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه، وهذا النقل مُعْتَرض بما رواه النسائيّ بإسناد صحيح، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، أنه احتَلَم ليلًا في رمضان، فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر، ثم نام قبل أن يغتسل، فلم يستيقظ حتى أصبح، قال: فاستفتيت أبا هريرة، فقال: أَفْطِر، وله من طريق محمد بن عبد الرَّحمن بن ثوبان، أنه سمع أبا هريرة يقول: من احتَلَم من الليل، أو واقع أهله، ثم أدركه الفجر، ولم يغتسل فلا يصم، وهذا صريح في عدم التفرقة.

وحَمَلَ القائلون بفساد صيام الجنب حديث عائشة رضي الله عنها على أنه من الخصائص النبوية، أشار إلى ذلك الطحاويّ بقوله: وقال آخرون: يكون حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما ذكرت عائشة، وحكم الناس على ما حَكَى أبو هريرة.

وأجاب الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلَّا بدليل، وبأنه قد ورد صريحًا ما يدلُّ على عدمها، وترجم بذلك ابن حبان في "صحيحه"، حيث قال:"ذِكْرُ الخبر الدالّ على أن إباحة هذا الفعل المزجور عنه لَمْ يكن المصطفى صلى الله عليه وسلم مخصوصًا به دون أمته، وإنما هي إباحة له ولهم"، ثم أورد ما أخرجه هو ومسلم، والنسائيّ، وابن خزيمة، وغيرهم من طريق أبي يونس مولى عائشة، عن عائشة: أن رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتيه، وهي تسمع من وراء

ص: 19

الباب، فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة؛ أي صلاة الصبح، وأنا جنبٌ، أفأصوم؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم"، فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: (والله أني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتَّقِي".

وذكر ابن خزيمة أن بعض العلماء توهّم أن أبا هريرة غَلِطَ في هذا الحديث، ثم رَدَّ عليه بأنه لَمْ يَغْلَط، بل أحال على رواية صادق، إلَّا أن الخبر منسوخ؛ لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصيام، كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم، قال: فَيَحْتَمِل أن يكون خبر الفضل كان حينئذ، ثم أباح الله ذلك كله إلى طلوع الفجر، فكان للمجامع أن يستمرّ إلى طلوعه، فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدَلَّ على أن حديث عائشة رضي الله عنها ناسخ لحديث الفضل رضي الله عنه، ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة رضي الله عنهما الناسخ، فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه.

قال الحافظ: ويُقَوِّيه أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية؛ لقوله فيها: قد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر، وأشار إلى آية الفتح، وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ستّ، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، دمالى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر، والخطابيّ، وغير واحد، وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر، فيلزم إباحة الجماع فيه، ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبًا، ولا يفسد صومه، فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء.

قال الحافظ: وهذا أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين كما تقدم من قول البخاريّ: والأول أسند، وكذا قال بعضهم: إن حديث عائشة أرجح؛ لموافقة أم سلمة لها على ذلك، وروايةُ اثنين تُقَدَّم على رواية واحد، ولا سيما وهما زوجتان، وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأن روايتهما توافق المنقول، وهو ما تقدم من مدلول الآية، والمعقول وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يَحرُم على صائم، فقد يَحتلم بالنهار، فيجب عليه الغسل،

ص: 20

ولا يحرم عليه، بل يتم صومه إجماعًا، فكذلك إذا احتلم ليلًا، بل هو من باب أولي، وإنما يُمنع الصائم من تعمّد الجماع نهارًا، وهو شبيه بمن يُمنع من التطيب، وهو مُحْرِم، لكن لو تطيب، وهو حلال، ثم أحرم، فبقي عليه لونه أو ريحه، لَمْ يحرم عليه.

وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر، فلو خالف جاز، ويُحْمَل حديث عائشة على بيان الجواز، ونقل النوويّ هذا عن أصحاب الشافعيّ.

وفيه نظرٌ، فإن الذي نقله البيهقيّ وغيره عن نصّ الشافعيّ سلوك الترجيح، وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ، ويَعْكُر على حمله على الإرشاد التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر، وبالنهي عن الصيام، فكيف يصح الحمل المذكور إذا وقع ذلك في رمضان؟.

وقيل: هو محمول على من أدركه مجامعًا، فاستدام بعد طلوعه عالمًا بذلك، وَيعْكُر عليه ما رواه النسائيّ، من طريق أبي حازم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، أن أبا هريرة كان يقول: من احتَلَم، وعَلِم باحتلامه، ولم يغتسل حتى أصبح، فلا يصوم.

وحَكَى ابن التين عن بعضهم أنه سقط "لا" من حديث الفضل، وكان في الأصل: من أصبح جنبًا في رمضان فلا يفطر، فلما سقط "لا" صار فليفطر، وهذا بعيد، بل باطلٌ؛ لأنه يستلزم عدم الوثوق بكثير من الأحاديث، وإنها يطرقها مثل هذا الاحتمال، وكان قائله ما وقف على شيء من طرق هذا الحديث إلَّا على اللفظ المذكور. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان أقوال العلماء في هذه المسألة، وأدلّتهم، أن الصواب هو ما عليه الجمهور من أن من أصبح جنبًا من جماع، أو احتلام، صحّ صومه، ولا شيء عليه، وأن الأقوال المخالفة لهذا أقوال ساقطة، مصادمة للحديث الصحيح المذكور في الباب.

وأن أصحّ الأجوبة في الجمع بين حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث عائشة

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 281 - 283.

ص: 21

وأم سلمة رضي الله عنها هو القول بالنسخ، كما هو قول المحقّقين، كابن خزيمة، وابن المنذر، وابن دقيق العيد، وابن حجر، وغيرهم؛ لقوّة دليله، كما تقدّم تفصيله، وأقواها دلالة آية:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، الآية، فقد دئت الآية على صحة صوم من أدركه الفجر، وهو جنب، كما مرّ توجيهه قريبًا، فتبصّر.

وقال القرطبيّ رحمه الله بعد ذكر الاختلافات ما نصّه: وعلى الجملة فذلك الحكم -يعني الحكم ببطلان صوم من أصبح جنبًا - متروك عند جمهور العلماء بظاهر القرآن، وصحيح الأحاديث، والخلاف فيه من قبيل الخلاف الشاذّ. انتهى

(1)

.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصائم يصبح جنبًا ما فيه شفاءٌ وغِنًى واكتفاءٌ عن قول كلّ قائل، من حديث عائشة وغيرها، ودلّ كتاب الله عز وجل على مثل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال الله عز وجل:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وإذا أبيح الجماع، والأكل، والشرب، حتى يتبين الفجر، فمعلوم أن الغسل لا يكون حينئذ إلَّا بعد الفجر، وقد نَزَع بهذا جماعة من العلماء، منهم ربيعة، والشافعيِّ، وغيرهما، ومن الحجة أيضًا فيما ذهب إليه الجماعة في هذا الباب إجماعهم على أن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصيام، فترك الاغتسأل من جنابة تكون ليلًا أحرى أن لا يفسد الصوم. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب.

[تنبيه]: قال وليّ الدين رحمه الله: في معنى من أصبح جنبًا الحائض، أو النفساء؛ إذا انقطع دمها ليلًا، ثم طلع الفجر قبل اغتسالها، فقال الجمهور بصحة صومها، وخالف فيه بعضهم، قال النوويّ في "شرح مسلم": هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً، إلَّا ما حُكِي عن بعض السلف، مما لا نعلم أصحَّ عنه أم لا؟ قال: وسواء تركت الغسل عمدًا أو سهوًا، بعذر أو بغير عذر، كالجنب.

(1)

"المفهم" 3/ 168 - 169.

(2)

"التمهيد" 17/ 425.

ص: 22

قال وليّ الدين: في حكاية النوويّ إجماع الكافة إلَّا ما لا يعلم صحته نظر، ففي مذهب مالك في وجوب القضاء في هذه الصورة قولان، حكاهما الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة"، وحكاه النوويّ في "شرح المهذّب" عن الأوزاعيّ: أنه لا يصح صوم منقطعة الحيض حتى تغتسل، وحَكَى ابن عبد البر في "الاستذكار" عن عبد الملك بن الماجشون أنَّها إذا أخَّرت غسلها حتى طلع الفجر، فيومها يوم فطر؛ لأنَّها في بعضه غير طاهر، وليست كالذي يصبح جنبًا فيصوم؛ لأن الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيض ينقضه، وقال: هذه غفلة شديدةُ، وكيف تكون في بعضه حائضًا، وقد كَمُل طهرها قبل الفجر؛ وحَكَى ابن عبد البرّ أيضًا عن الحسن بن حيّ، أنه رأى عليها قضاء ذلك اليوم، وقد ظهر بذلك أن الخلاف في هذا أشهر، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ ما عليه الجمهور من أن الحائض والنفساء إذا طهرتا قبل الفجر، ثم أدركهما الفجر قبل الاغتسال، صحّ صومهما؛ لعدم ما يمنع منه شرعًا، والذي خالف هذا لَمْ يأت بحجة مقنعة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج حديث الباب ما نصّه: "وقال همّام، وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالفطر، والأول أسند". انتهى.

قال في "الفتح": أما رواية همام، فوصلها أحمد، وابن حبان من طريق معمر عنه، بلفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نودي للصلاة صلاةِ الصبح، وأحدكم جنب فلا يصم حينئذ"، وأما رواية ابن عبد الله بن عمر، فوصلها عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب، عن ابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة به، وقد اختُلِف على الزهريّ في اسمه، فقال شعيب عنه: أخبرني عَبْدُ الله بن عبد الله بن عمر، قال لي أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبًا، أخرجه النسائيّ، والطبرانيّ في "مسند الشاميين"، وقال عُقيل عنه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر به، فاختُلِف على الزهريّ، هل هو عبد الله مكبرًا، أو عبيد الله مصغرًا؟.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 126 - 127.

ص: 23

قال: وأما قول البخاريّ: "والأول أسند"، فاستشكله ابن التين، قال: لأن إسناد الخبر رفعه، فكأنه قال: إن الطريق الأولى أوضح رفعًا، قال: لكن الشيخ أبو الحسن قال: معناه أن الأول أظهر اتصالًا.

قال الحافظ: والذي يظهر لي أن مراد البخاريّ أن الرواية الأولى أقوى إسنادًا، وهي من حيث المرجحان كذلك؛ لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طُرُق كثيرة جدًّا بمعنى واحد، حتى قال ابن عبد البرّ: إنه صحّ، وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي به، وجاء عنه من طريق هذين أنه كان يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع في رواية معمر، عن الزهريّ، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فذكره، أخرجه عبد الرزاق والنسائيّ من طريق عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، قال: بلغ مروان أن أبا هريرة يُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره، وله من طريق المقبريّ قال: بعثت عائشة إلى أبي هريرة: لا تحدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القاريّ: "سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت ما أنا قلت: من أدرك الصبح، وهو جنب فلا يصم، محمد ورب الكعبة قاله".

لكن بَيَّن أبو هريرة كما مَضَى أنه لَمْ يسمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه بواسطة الفضل وأسامة، وكأنه كان لشدة وثوقه بخبرهما يَحلِف على ذلك.

وأما ما أخرجه ابن عبد البرّ، من رواية عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة، أنه قال: كنت حدثتكم: من أصبح جنبًا، فقد أفطر، وأن ذلك من كيس أبي هريرة، فلا يصحّ ذلك عن أبي هريرة؛ لأنه من رواية عُمر بن قيس، وهو متروك.

نعم قد رجع أبو هريرة عن الفتوى بذلك، إما لرجحان رواية أمَّي المؤمنين في جواز ذلك صريحًا على رواية غيرهما، مع ما في رواية غيرهما من الاحتمال؛ إذ يمكن أن يُحْمَل الأمر بذلك على الاستحباب في غير الفرض، وكذا النهي عن صوم ذلك اليوم، وإما لاعتقاده أن يكون خبر أمَّي المؤمنين

ص: 24

ناسخًا لخبر غيرهما. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2590]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ جُنُبٍ، مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، فَيَغْتَسِلُ، وَيَصُومُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله، تقدَّم في الباب الماضي.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قبل باب.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله، و"أبو بكر بن عبد الرَّحمن" هو: ابن الحارث بن هشام.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2591]

(

) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيَلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني عَمْرٌو، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ الْحِمْيَرِيِّ، أَن أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ مَرْوَانَ أَرْسَلَهُ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُ عَن الرَّجُلِ يُصْبحُ

(1)

وفي نسخة: "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ص: 25

جُنُبًا، أَيَصُومُ؟ فَقَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبحُ جُنُبًا، مِنْ جِمَاعٍ، لَا مِنْ حُلُمٍ، ثُمَّ لَا يُفْطِرُ، وَلَا يَقْضِي).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وقد تقدّموا قبل حديثين، و"أبو بكر" هو: ابن عبد الرَّحمن المذكور قبله.

وقوله: (وَلَا يَقْضِي) مؤكّد و"لا يُفطر".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث عنه مستوفي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2592]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ رَبَّهِ بْن سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجَي النَّبِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصْبحُ جُنُبًا، مِنْ جِمَاعٍ، غَيْرِ احْتِلَامٍ، في رَمَضَانَ، ثُمَّ يَصُومُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث عنه مستوفى قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2593]

(1110) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ابْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنصَارِيُّ، أَبُو طُوَالَةَ، أَنَّ أَبَا يُونُسَ، مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِيهِ، وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ،

ص: 26

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ، وَأَنَا جُنُبٌ، أفَأَصُومُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ، وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَصُومُ"، فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ:"وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُوأَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيِّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنصَارِيُّ أَبُو طُوَالَةَ) - بضمّ الطاء المهملة - هو: عبد الله بن عبد الرَّحمن بن مَعْمَر بن حَزْم بن زيد بن لَوْذان بن عمرو بن عبد عوف بن غَنْم بن مالك بن النّجّار الأنصاريّ النجاريّ المدنيّ، كان قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز، ثقةٌ [5].

رَوَى عن أنس، وعامر بن سعد، وأبي الْحُبَاب سعيد بن يسار، وأبي يونس مولى عائشة، ويحيى بن عُمارة، وأبي سلمة بن عبد الرَّحمن، وعطاء بن يسار، وغيرهم.

وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، وسليمان بن بلال، والأوزاعيّ وأبو إسحاق الفزاري، وزائدة، وفُليح بن سلمان، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر بن أبي كثير، والدَّراورديّ، وبكر بن مضر، ومسلم بن خالد، وغيرهم.

قال أحمد، وأبن معين، وابن سعد، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن حبان، والدارقطنيّ: ثقةٌ، زاد محمد بن سعد: كثير الحديث، تُوُفّي في آخر سلطان بني أمية، وقال ابن وهب: حدّثني مالك عنه، قال: وكان قاضيًا، وكان يَسْرُد الصوم، وكان يُحَدِّث حديثًا حسنًا.

ص: 27

أَرَّخ الدمياطيّ موته في "كتاب أنساب الخزرج" سنة أربع وثلاثين ومائة، قال الحافظ: ويدلّ عليه قول ابن حبان: مات في خلافة أبي العباس، وقال الدَّقّاق: لا يُعْرَف في المحدثين من يُكنى أبا طُوالة سواه، وقال ابن خِرَاش: كان صدوقًا.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط برقم (1110) و (1912) و (2029) و (2047) و (2446) و (2566).

6 -

(أبُو يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ) رضي الله عنها المدنيّ، ثقةٌ [3](بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1429.

و"عَائِشَةَ" رضي الله عنها ذُكرت قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيَّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهم، ثم أفرد ابن أيوب؛ لبيان كيفيّة أخذه، ولشارة أن لفظ الحديث له.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيوخه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالتحديث، والإخبار.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا) لا يُعرف اسمه

(1)

. (جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِيهِ) أي يطلب منه توضيح حكم ما أشكل عليه، يقال: أفتى العالم: إذا بَيّن الحكم

(2)

، وقوله:(وَهِيَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ) جملة في محلّ نصب على الحال (فَقَالَ) الرجل (يَا رَسُولَ اللهِ تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ) أي صلاة الصبح (وَأَنَا جُنُبٌ) جملة في محلّ نصب على الحال (أفَأَصُومُ؟) أي أفيحلّ لي أن أتمّ

(1)

راجع: "تنبيه المعلم"(ص 201).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 462.

ص: 28

صومي في ذلك اليوم؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَأَنَا تُدْرِكُني الصَّلَاةُ، وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ") أي فلك أسوة فيَّ في ذلك (فَقَالَ) الرجل (لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللهِ) وقوله: (قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ) جملة تعليليّة علَّل بها عدم كونه صلى الله عليه وسلم مثلنا؛ لأن من غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر لا يكون مثل من لَمْ يُغفر له (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ردًّا عليه ("وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي")"ما" موصولة، والعائد محذوف؛ أي بالأمر الذي أتقيه؛ يعني أنه أعلم الناس بالأمور التي يُتّقى الله عز وجل بها، ويَحْتَمِل أن تكون "ما" بمعنى "من"، مرادًا بها الله سبحانه وتعالى، فيكون المعنى: وأعلمكم بالله الذي أتقيه، فيكون بمعنى الحديث الآخر:"إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له"، وقد تقدَّم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه: أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 2593](1110)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 190 و 6/ 462)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 289)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 104)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 67 و 156 و 245)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2014)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 201)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 401)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 187)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3492 و 3495 و 3501)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 214)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان صحّة صوم من أدركه الفجر، وهو جنبٌ، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفيه المعنى المقصود إليه في هذا الحديث، وذلك أن الجنب إذا لَحِقته جنابة ليلًا قبل الفجر لَمْ يَضُرّ صيامه أن لا يغتسل إلَّا بعد الفجر، وقد اختَلَفَت الآثار في هذا الباب، واختَلَف فيه العلماء أيضًا، وإن كان

ص: 29

الاختلاف في ذلك كله عندي ضعيفًا، يشبه الشذوذ. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): جواز سؤال العالم، وهو واقفٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان واقفًا وراء الباب.

3 -

(ومنها): أن الروايةَ، والشهادةَ على السماع جائزتان، وإن لَمْ يَرَ الْمُشْهِد، أو الْمُحَدِّث؛ إذا كان المعنى المسموع مُسْتَوْفًى، قد استوقن، وأحيط به علمًا.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز شهادة الأعمى

(2)

، وقد مضى القول فيه قريبًا، وسيأتي أيضًا في موضعه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2594]

(

) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْن عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عَنَ الرَّجُلِ يُصْبِحُ جُنُبًا، أَيَصُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَصُومُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أبو عثمان البصريّ، الملقّب أبا الجوزاء، ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضَّحّاك بن مخلد النبيل، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن عبد الله بن يزيد الكِنْديّ المدنيّ الأعرج، ثقةٌ ثبتٌ [5].

رَوَى عن جدّه لأمه، وقيل: خالة، وقيل: عمة السائب بن يزيد، وسعيد بن المسيِّب، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وغيرهم.

وروى عنه ابن جريجٍ، ومالك بن أنس، وابن أبي الزناد، وإسماعيل بن جعفر، وعبد الله بن غمر العُمَريّ، وحفص بن غياث، وحاتم بن إسماعيل، والقطّان، وغيرهم.

(1)

"التمهيد" 420/ 17.

(2)

ذكر هذه الفوائد في "التمهيد" 17/ 420.

ص: 30

قال ابن المدينيّ: سمعت يحيى بن سعيد يقول: محمد بن يوسف أثبت من عبد الرَّحمن بن حميد، وعبد الرَّحمن بن عمار، وكان أعرج، وكاتبًا، وقال صدقة بن الفضل: كان يحيى يثني عليه، ويفضّله على محمد بن أبي يحيي، قال البخاريّ: كان يحيى بن سعيد يُشبهه، وقال ابن معين: قال لي يحيى: لَمْ أر شيخًا يشبهه في الثقة، وقال ابن معين، وأحمد، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال مصعب الزبيريّ: كان له شَرَفُّ، وقَدَمٌ بالمدينة، وقال ابن المدينيّ: محمد بن يوسف الأعرج ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن صالح -يعني المصريّ -: ثَبَتَ له شأنٌ، قال: وكان أحمد بن صالح به مُعْجَبًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط

(1)

، برقم (1109) و (1568): "شرّ الكسب مهر الْبَغِيّ، وثمن الكلب

".

4 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، وقال: أم سلمة رضي الله عنها، ثقةٌ فقيه فاضلٌ، وهو أحد الفقهاء السبعة، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 489.

والباقيان ذُكرا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله عند شرح حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وذكر في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة" أن البخاريّ رَوَى عنه (62) حديثًا. انتهى.

قال الجامع: الظاهر أن هذا غلط؛ لأن الذي ذكره في برنامج الحديث أنه روى له البخاريّ ثلاثة أحاديث فقط، وأيضًا فقوله:"روى عنه" يوهم أنه شيخه، وليس كذلك، ولعله التبس عليه بمحمد بن يوسف الفريابيّ، فإنه شيخه، وقد روى عنه نحو (88) حديثًا، وكذا محمد بن يوسف البيكنديّ، فإنه شيخه، وقد روى عنه نحو عشرة أحاديث، فليُتبنّه.

ص: 31

(14) - (بَابُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ جَامَعَ أَهْلَهُ في نَهَارِ رَمَضَانَ)

(1)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2595]

(1111) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟

(2)

" قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: "هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ، فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ:"تَصَدَّقْ بِهَذَا"، قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابْتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ:"اذْهَبْ، فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

3 -

(زهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، ثقةٌ ثبت [10](ت 234) وله (74) سنة (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

(1)

ترجم الإمام أبو نعيم رحمه الله بنحو هذه الترجمة في "مستخرجه"(3/ 188).

(2)

وفي نسخة: "وماذا أهلكك؟ ".

ص: 32

5 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة إمام، من كبار [8](ت 198) وله (91) سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.

6 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الحافظ الفقيه الحجة الشهير، من كبار [4](ت 125)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 348.

7 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهما، ثم أفرد يحيى؛ لاختلافه معهم فيها، وللإشارة إلى أن سياق اللفظ له.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيوخه الثلاثة الأولين.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي ابن عوف، وفي رواية للبخاريّ:"أخبرني حُميد بن الرَّحمن"، قال في "الفتح": هكذا توارد عليه أصحاب الزهريّ، وقد جمعت منهم في جزء مفرد لطرق هذا الحديث أكثر من أربعين نفسًا، منهم ابن عيينة، والليث، ومعمر، ومنصور، عند الشيخين، والأوزاعيّ، وشعيب، وإبرأهيم بن سعد، عند البخاريّ، ومالك، وابن جريجٍ، عند مسلم، ويحيى بن سعيد، وعِرَاك بن مالك، عند النسائيّ، وعبد الجبار بن عمر، عند أبي عوانة، والْجَوْزقيّ، وعبد الرَّحمن بن مسافر، عند الطحاويّ، وعُقيل عند ابن خزيمة، وابنُ أبي حفصة عند أحمد، ويونس، وحجاج بن أرطاة،

ص: 33

وصالح بن أبي الأخضر عند الدارقطنيّ، ومحمد بن إسحاق عند البزار، قال: وسأذكر ما عند كلّ منهم من زيادة فائدة - إن شاء الله تعالى -.

وخالفهم هشام بن سعد، فرواه عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أخرجه أبو داود وغيره، قال البزار، وابنُ خزيمة، وأبو عوانة: أخطأ فيه هشام بن سعد.

قال الحافظ: وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء، عن محمد بن أبي حفصة، فرواه عن الزهريّ، أخرجه الدارقطنيّ، في "العلل"، والمحفوظ عن ابن أبي حفصة كالجماعة، كذلك أخرجه أحمد وغيره، من طريق رَوْح بن عُبادة عنه.

وَيحْتَمِل أن يكون الحديث عند الزهريّ عنهما، فقد جمعهما عنه صالح بن أبي الأخضر، أخرجه الدارقطنيّ في "العلل" من طريقه.

قال: اختلاف آخر فيه على منصور، فقد رواه أكثر أصحابه عنه، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرَّحمن، وكذا رواه مؤمّل بن إسماعيل، عن الثوريّ، عن منصور، عن الزهريّ، عن حميد، وخالفه مِهْران بن أبي عمر، فرواه رحمه الله عن الثوريّ بهذا الإسناد، فقال: عن سعيد بن المسيِّب، جدل حُميد بن عبد الرَّحمن، أخرجه ابن خزيمة، وهو قول شاذّ، والمحفوظ الأول

(1)

.

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) وفي الرواية الآتية من طريق عبد الرزّاق، عن ابن جريجٍ، قال: "حدّثني ابن شهاب، عن حمبد بن عبد الرَّحمن، أن أبا هريرة حدّثه

"، وكذا ثبت التصريح بالتحديث بين حميد، وأبي هريرة من رواية عُقيل عند ابن خزيمة، وابنُ أبي أويس عند الدارقطنيُّ، كلاهما عن ابن شهاب (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال صاحب "التنبيه": هو سلمة بن صخر البياضيّ، قاله عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ، وساق له شاهدًا، ولا أعرف اسم امرأته. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 308 كتاب "الصوم" رقم (1936).

(2)

"تنبيه المعلم" ص 202.

ص: 34

وأما الحافظ، فقال: لَمْ أقف على تسمية هذا الرجل إلَّا أن عبد الغنيّ في "المبهمات"، وتبعه ابن بشكوال، جَزَمَا بأنه سليمان، أو سلمة بن صخر البياضيّ، واستندا إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، من طريق سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر، أنه ظاهر من امرأته في رمضان، وأنه وطئها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لك رقبة غيرها، وضرب صفحة رقبته، قال:"فصم شهرين متتابعين"، قال: وهل أُصبت الذي أُصبت إلَّا من الصيام؟، قال:"فأعم ستين مسكينًا قال: والذي بعثك بالحق ما لنا طعام، قال: "فانطَلِقْ إلى صاحب صدقة بني زُرَيق، فليدفعها إليك".

والظاهر أنهما واقعتان، فإن في قصة المجامع في حديث الباب أنه كان صائمًا، كما سيأتي، وفي قصة سلمة بن صخر أن ذلك كان ليلًا، فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما في كونهما من بني بياضة، وفي صفة الكفارة، وكونها مرتبة، وفي كون كلّ منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها، اتحاد القصتين، قال: وسنذكر أيضًا ما يؤيد المغايرة بينهما.

وأخرج ابن عبد البرّ في ترجمة عطاء الخرسانيّ من "التمهيد" من طريق سعيد بن بَشِير، عن قتادة، عن سعيد بن المسيِّب أن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو سليمان بن صخر، قال ابن عبد البرّ: أظن هذا وَهَمًا؛ لأن المحفوظ أنه ظاهر من امرأته، ووقع عليها في الليل، لا أن ذلك كان منه بالنهار. انتهى.

ويَحْتَمِل أن يكون قوله في الرواية المذكورة: "وقع على امرأته في رمضان" أي ليلًا بعد أن ظاهر، فلا يكون وَهَمًا، ولا يلزم الاتحاد.

ووقع في مباحث العامّ من شرح ابن الحاجب ما يوهم أن هذا الرجل هو أبو بُرْدة بن يسار، وهو وَهَمٌ يظهر مِن تأمّل بقية كلامه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ) زاد عبد الجبار بن عمر، عن الزهريّ:"جاء رجل، وهو يَنْتِف شعره، وَيدُقّ صدره، ويقول: هلك الأبعد"، ولمحمد بن أبي

(1)

"الفتح" 5/ 309.

ص: 35

حفصة: "يَلْطِم وجهه"، ولحجاج بن أرطاة:"يدعو ويله"، وفي مرسل ابن المسيّب عند الدارقطنيّ:"ويحثي على رأسه التراب".

واستُدِلّ بهذا على جواز هذا الفعل والقول، ممن وقعت له معصية، ويُفَرَّق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا، فيجوز في مصيبة الدين؛ لِمَا يُشعر به الحال من شدّة الندم، وصحة الإقلاع.

ويَحْتَمِل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود، وحلق الشعر عند المصيبة، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: عندي هذا الاحتمال هو الأقرب والأشبه، فتأمل، والله تعالى أعلم.

وفي رواية البخاريّ من طريق منصور، عن الزهريّ:"جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الآخر وقع على امرأته في رمضان"، والآخر - بهمزة مفتوحة، وخاء معجمة مكسورة، بغير مدّ - هو الأبعد، وقيل: الغائب، وقيل: الأرذل.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَهْلَكَكَ؟ ") وفي نسخة: "وماذا أهلكك؟ "، وفي رواية للبخاريّ:"قال: مالَكَ؟ " بفتح اللام، وهو استفهام عن حاله، وفي رواية عُقيل:"ويحك ما شأنك؟ "، ولابن أبي حفصة:"وما الذي أهلكك؟ "، ولعمرو:"ما ذاك؟ "، وفي رواية الأوزاعيّ:"ويحك ما صنعتَ؟ ".

(قَالَ) الرجل (وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي) وفي رواية ابن إسحاق: "أصبت أهلي"، وفي حديث عائشة رضي الله عنها الآتي:"وَطِئت امرأتِي"(فِي رَمَضَانَ) وفي البخاريّ: "وقعت على امرأتي، وأنا صائمٌ"، فقوله:"وأنا صائم" جملة حاليّة من قوله: "وقعت"، فيؤخذ منه أنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتقّ بقاءُ المعنى المشتقّ منه حقيقةً؛ لاستحالة كونه صائمًا مجامعًا في حالة واحدة، فعلى هذا قوله:"وَطِئتُ" أي شرعت في الوطء، أو أراد: جامعت بعد إذ أنا صائمٌ، ووقع في رواية عبد الجبار بن عمر:"وقعت على أهلي اليومَ، وذلك في رمضان"

(1)

.

(1)

"الفتح" 5/ 311.

ص: 36

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ ")"ما" موصولة مفعول "تجد"، و"تُعتق" بضمّ أوله، من الإعتاق صلتها، والعائد محذوف؛ أي الذي تُعتقه، و"رقبةً" منصوب على البدليّة من "ما"، وفي رواية الليث:"هل تجد رقبةً؟ "، وفي مالك:"فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُكفّر بعتق رقبة"، وفي رواية ابن جريجٍ:"أمر رجلًا أفطر في رمضان أن يُعتق رقبةً"، وكلّها تأتي للمصنّف، وفي رواية:"هل تجد رقبةً نُعتقها؟ "، وفي رواية منصور:"أتجد ما تُحَرِّر رقبةً؟ "، وفي رواية إبراهيم بن سعد، والأوزاعيّ:"فقال: أعتق رقبةً"، وكلها عند البخاريّ، وفي رواية ابن أبي حفصة عند أحمد:"أتستطيع أن تُعتِق رقبةً؟ "، زاد في رواية مجاهد، عن أبي هريرة:"فقال: بئسما صنعتَ، أَعْتِق رقبةً".

[تنبيه]: قال الأزهريّ: إنما قيل لمن أَعتق نسمة: أَعْتَق رقبةً، وفَكّ رقبةً، فخُصّت الرقبة دون بقية الأعضاء؛ لأن حكم السيد، وملكه كالحبل في رقبة العبد، وكالْغُلّ المانع له من الخروج عنه، فإذا أُعتق فكأنه أطلق من ذلك. انتهى

(1)

.

(قَالَ) الرجل (لَا) أي لا أستطيع، في رواية عبد الرَّحمن بن مسافر عند الطحاويّ:"فقال: لا، والله يا رسول الله"، وفي رواية ابن إسحاق عند البزّار:"ليس عندي"، وفي حديث ابن عمر:"فقال: والذي بعثك بالحقّ ما ملكت رقبةً قطّ".

واستُدِلّ بإطلاق الرقبة على جواز إخراج الرقبة الكافرة، كقول الحنفية، وهو ينبني على أن السبب إذا اختَلَف، واتّحَد الحكمُ، هل يُقَيَّد المطلق، أو لا؟ وهل تقييده بالقياس أو لا؛ والأقرب أنه بالقياس، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ رحمه الله: وإطلاق الرقبة يقتضي جواز الكافرة، وهو مذهب أبي حنيفة، وجواز المعيبة، وهو مذهب داود، والجمهور على خلافهما، فإنهم شرطوا في إجزاء الرقبة الإيمان، بدليل تقييدها به في كفّارة القتل، وهي مسألة حمل المطلق على المقيّد المعروفة في الأصول، وبدليل أن مقصود الشرع

(1)

"المجموع شرح المهذّب" 6/ 345.

ص: 37

الأول بالعتق تخليص الرقاب من الرقّ؛ ليتفرّغوا لعبادة الله تعالى، ولنصر المسلمين، وهذا المعنى مفقود في حقّ الكافر، وقد دلّ على صحّة هذا المعنى قوله في حديث السوداء:"أعتقها، فإنها مؤمنة"، رواه مسلم، وأما العيب فنقص في المعنى، وفي القيمة، فلا يجوز له؛ لأنه في معنى عتق الجزء، كالثلث، والربع، وهو ممنوع با لاتفاق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَهَلْ تَسْتَطِيعُ) أي تَقْوَي، وتَقْدِرُ (أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ ") أي متواليين، وهو حجة للجمهور في اشتراط التتابع في الكفّارة على ابن أبي ليلى؛ إذ لَمْ يشترطه، قاله القرطبيّ

(2)

.

(قَالَ) الرجل (لَا) وفي رواية إبراهيم بن سعد المذكورة: "قال: فصم شهرين متتابعين"، وفي حديث سعد:"قال: لا أقدر"، وفي رواية ابن إسحاق: (وهل لقيتُ ما لقيتُ إلَّا من الصيام؟ ".

قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام، لكن رواية ابن إسحاق هذه اقتضت أن عدم استطاعته؛ لشدة شَبَقِه، وعدم صبره عن الوقاع، فنشأ للشافعية نظر: هل يكون ذلك عذرًا؛ أي شدّة الشَّبَق حتى يُعَدّ صاحبه غير مستطيع للصوم، أو لا؛ والصحيح عندهم اعتبار ذلك، ويَلتحق به من يَجِد رقبة لا غنى به عنها، فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها؛ لكونه في حكم غير الواجد.

وأما ما رواه الدارقطنيّ من طريق شريك، عن إبراهيم بن عامر، عن سعيد بن المسيِّب في هذه القصة مرسلًا أنه قال في جواب قوله:"هل تستطيع أن تصوم؟ ": إني لأدع الطعام ساعةً، فما أطيق ذلك، ففي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته، فلعله اعتل بالأمرين، قاله في "الفتح"

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ ")"ما" موصولة بتقدير العائد؛ أي الذي تُطعمه، أو مصدريّة؛ أي إطعام ستين مسكينًا، وفي رواية

(1)

"المفهم" 3/ 170.

(2)

"المفهم" 3/ 170.

(3)

"الفتح" 5/ 312.

ص: 38

البخاريّ: "فهل تجد إطعام ستين مسكينًا"(قَالَ) الرجل (لَا) أي لا أستطيع، وفي رواية ابن أبي حفصة:"أفتستطيع أن تُطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا"، وذكر الحاجة، وفي حديث ابن عمر:"قال: والذي بعثك بالحقّ ما أُشبع أهلي".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ستين مسكينًا" حجة للجمهور في اشتراط عدد الستّين على الحسن؛ إذ قال: يُطعم أربعين، وعلى أبي حنيفة؛ إذ يقول: يجوز إعطاء طعام ستين مسكينًا لمسكين واحد، وهوأصله في هذا الباب. انتهى

(1)

.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى "ستين"، فلا يكون ذلك موجودًا في حقّ من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلًا، ومن أجاز ذلك، فكأنه استَنْبَطَ من النص معنى يعود عليه بالإبطال، والمشهور عن الحنفية الإجزاء، حتى لو أطعم الجميع مسكينًا واحدًا في ستين يومًا كفى.

والمراد بالإطعام الإعطاء، لا اشتراط حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في الفم، بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف.

وفي إطلاق الإطعام ما يدلّ على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة، بخلاف زكاة الفرض، فإن فيها النصّ على الإيتاء، وصدقة الفطر، فإن فيها النصّ على الأداء.

وفي ذكر الإطعام ما يدلّ على وجود طاعمين، فيخرج الطفل الذي لَمْ يَطْعَم، كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع، فقال يُسَلَّم لوليّه.

وذكر الستين؛ ليُفْهِم أنه لا يجب ما زاد عليها، ومن لَمْ يقل بالمفهوم تمسك بالإجماع على ذلك.

[تنبيه]: ذُكِر في حكمة هذه الخصال من المناسبة، أن مَن انتهك حرمة الصوم بالجماع، فقد أهلك نفسه بالمعصية، فناسب أن يُعتِق رقبةً، فَيَفْدي نفسه، وقد ثبت أن:"من أعتق رقبة، أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار"، رواه أحمد

(2)

.

(1)

"المفهم" 3/ 170.

(2)

رواه أحمد من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، =

ص: 39

وأما الصيام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه كالمقاصّة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أُمر بمصابرة النفس في حفظ كلّ يوم من شهر رمضان على الولاء، فلما أفسد منه يومًا، كان كمن أفسد الشهر كله، من حيث إنه عبادة واحدة بالنوع، فكلِّف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده.

وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة؛ لأنه مقابلة كلّ يوم بإطعام مسكين، ثم إن هذه الخصال جامعةٌ؛ لاشتمالها على حق الله تعالى، وهو الصوم، وحقّ الأحرار بالإطعام، وحقّ الأرقاء بالإعتاق، وحقّ الجاني بثواب الامتثال

(1)

، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (ثُمَّ جَلَسَ) أي الرجل، وفي رواية البخاريّ:"فمَكُث عند النبيّ صلى الله عليه وسلم " قال في "الفتح": كذا هنا بالميم، والكاف المفتوحة، ويجوز ضمها، والثاء المثلثة، وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج" من وجهين، عن أبي اليمان:"فسكت" بالمهملة، والكاف المفتوحة، والمثناة، وكذا في رواية ابن مسافر، وابن أبي الأخضر، وفي رواية ابن عيينة:"فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: اجْلِس، فجلس".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اجلس" انتظار منه لوجه يتخلّص به مما حصل فيه، أو ليوحى إليه في ذلك. انتهى

(2)

.

(فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، و"النبيّ" نائب فاعله، وفي رواية البخاريّ:"فبينا نحن على ذلك أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم "، قال في "الفتح": في رواية ابن عيينة: "فبينما هو جالس كذلك"، قال بعضهم: يَحْتَمِل أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحى إليه في حقّه، ويَحْتَمِل أنه كان عَرَف أنه سيؤتى بشيء يعينه به، وَيحْتَمِل أن يكون أسقط عنه الكفارة بالعجز، وهذا الثالث ليس بقويّ؛ لأنَّها لو سقطت ما عادت عليه حيث أمره بها بعد إعطائه إياه الْمِكْتَلَ.

قال: والآتي المذكور لَمْ يُسَمّ، لكن وقع في رواية معمر عند البخاريّ

= وقد أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار حتى فرجه بفرجه".

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 312 - 313.

(2)

"المفهم" 3/ 171.

ص: 40

في "الكفارات": "فجاء رجل من الأنصار"، وعند الدارقطنيّ من طريق داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيِّب مرسلًا:"فأتى رجل من ثقيف"، فإن لَمْ يُحْمَل على أنه كان حليفًا للأنصار، أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعمّ، وإلا فرواية "الصحيح" أصحّ.

ووقع في رواية ابن إسحاق: "فجاء رجل بصدقته يحملها"، وفي مرسل الحسن عند سعيد بن منصور:"بتمر من تمر الصدقة". انتهى.

(بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ) - بفتح العين والراء - قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصواب المشهور في الرواية واللغة، وكذا حكاه القاضي عن رواية الجمهور، ثم قال: ورواه كثير من شيوخنا وغيرهم بإسكان الراء، قال: والصواب الفتح، ويقال للعرق:"الزَّبِيل" - بفتح الزاي، من غير نون -، و"الزِّنْبِيل" - بكسر الزاي، وزيادة نون - ويقال له: الْقُفَّة"، و"الْمِكْتَل" - بكسر الميم، وفتح التاء المثناة - فوقُ، و"السَّفِيفة" - بفتح السين المهملة، وبالفائين - قال القاضي: قال ابن دُريد: سُمِّي زَبِيلًا؛ لأنه يُحْمَل فيه الزبل، والعَرَق عند الفقهاء: ما يسع خمسة عشر صاعًا، وهي ستون مُدًّا لستين مسكينًا، لكل مسكين مدٌّ. انتهى.

وقال في "الفتح": "الْعَرَقُ" -بفتح المهملة والراء، بعدها قاف- قال ابن التين: كذا لأكثر الرواة، وفي رواية أبي الحسن -يعني القابسيّ- بإسكان الراء، قال عياض: والصواب الفتح، وقال ابن التين: أنكر بعضهم الإسكان؛ لأن الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم.

قال الحافظ: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم، فليُنْكَر الفتح؛ لأنه يشترك مع الماء الذي يتحَلَّب من الجسد، نعم الراجح من حيث الرواية الفتح، ومن حيث اللغة أيضًا، إلَّا أن الإسكان ليس بمنكر، بل أثبته بعض أهل اللغة، كالقزاز. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْعَرَق" بفتح الراء لا غير، وسُمّي بذلك؛ لأنه جمع عَرَقَة، وهي الضَّفِيرة من الْخُوص، وهو الزِّنْبِيلُ بكسر الزاي على رواية الطبريّ، وبفتح الزاي

(2)

لغيره، وهما صَحِيحان، وسُمّي بذلك؛ لأنه يُحمل فيه

(1)

"الفتح" 5/ 316.

(2)

أي: مع حذف النون.

ص: 41

الزبل، ذكره ابن دُريد، وهذا العرق تقديره عندهم خمسة عشر صاعًا، وهو مفسّر في الحديث، وقد تقدّم أن الصاع أربعة أمداد، فيكون مبلغ أمداد العرق ستين مُدًّا، ولهذا قال الجمهور: إن مقدار ما يُدفع لكلّ مسكين من الستين مدٌّ، وفيه حجة للجمهور على أبي حنيفة والثوريّ؛ إذ قالا: لا يُجزئ أقلّ من نصف صاع لكلّ مسكين. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: وقع في رواية البخاريّ تفسير العرق، فقال:"والْعَرَقُ": "الْمِكْتَل" - بكسر الميم، وسكون الكاف، وفتح المثناة، بعدها لام - قال في "الفتح": زاد ابن عيينة عند الإسماعيليّ، وابن خزيمة:"الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ"، قال الأخفش: سُمِّي المكتل عَرَقًا؛ لأنه يُضَفَّر عَرَقَةً عَرَقَةً، فالعَرَق جمع عَرَقة، كعَلَق وعَلَقَة، والعَرَقة الضَّفِيرة من الْخُوص.

وقوله: "والْعَرَقُ: الْمِكْتَل" تفسير من أحد رواته، وظاهر هذه الرواية أنه الصحابيّ، لكن في رواية ابن عيينة ما يُشعر بأنه الزهريّ، وفي رواية منصور عند البخاريّ:"فَأُتِي بعرق فيه تمر، وهو الزَّبِيل"، وفي رواية ابن أبي حفصة:"فأتي بزَبيل، وهو المكتل"، والزَّبِيل - بفتح الزاي، وتخفيف الموحدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم لام، بوزن رغيف -: هو المكتل، قال ابن دُريد: سُمّي زَبيلًا؛ لحمل الزبل فيه، وفيه لغة أخرى: زِنبيل - بكسر الزاي أوله، وزيادة نون ساكنة، وقد تدغم النون، فتشدَّد الباء، مع بقاء وزنه، وجمعه على اللغات الثلاث زَنابيل.

[تنبيه آخر]: سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها الآتي في الباب: "فجاءه عَرَقَان" بالتثنية، والمشهور في غيرها عَرَق، ورجحه البيهقيّ، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة، قال الحافظ: وهو جمع لا نرضاه؛ لاتحاد مخرج الحديث، والأصل عدم التعدد، والذي يظهر أن التمر كان قدر عَرَق، لكنه كان في عَرَقين في حال التحميل على الدابة؛ ليكون أسهل في الحمل، فَيَحْتَمِل أن الآتي به لَفا وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال: عرقان أراد ابتداء الحال، ومن قال: عرقٌ أراد ما آل إليه، والله أعلم. انتهى.

(1)

"المفهم" 3/ 171.

ص: 42

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَصَدَّقْ بِهَذَا") وفي رواية البخاريّ: "خُذْ هذا، فتصدق به"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، ومنهم من ذكره بمعناه، وزاد ابن إسحاق:"فتصدق به عن نفسك"، ويؤيده رواية منصور عند البخاريّ بلفظ:"أطعم هذا عنك"، ونحوه في مرسل سعيد بن المسيِّب، من رواية داود بن أبي هند عنه، عند الدارقطنيّ، وعنده من طريق ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة:"نحن نتصدق به عنك"، واستُدلّ بإفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده، دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة:"هل تستطيع"، و"هل تجد"، وغير ذلك

(1)

، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه قريبًا - إن شاء الله تعالى -.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تصدّق بهذا" يلزم منه أن يكون قد ملّكه إياه؛ ليتصدّق به عن كفارته، ويكون هذا كقول القائل: أعتقت عبدي عن فلان، فإنه يتضمّن سبقيّة الملك عند قوم، وأباه أصحابنا مع الاتفاق على أن الولاء للمُعْتَق عنه، وأن الكفّارة تسقط بذلك. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الرجل (أَفْقَرَ مِنَّا؟) قال النوويّ رحمه الله: كذا ضبطناه "أَفْقَرَ" - بالنصب، وكذا نَقَل القاضي عياض أن الرواية فيه بالنصب، على إضمار فعل، تقديره: أَتَجِد أفقر منا، أو أتعطي، قال: ويصح رفعه على تقدير: هل أحدٌ أفقرُ منا؟، كما قال في الحديث الآخر بعده:"أغيرُنا"، كذا ضبطناه بالرفع، ويصح النصب على ما سبق، قال النوويّ: وقد ضبطنا الثاني بالنصب أيضًا، فهما جائزان، كما سبق توجيههما. انتهى.

وفي رواية البخاريّ: "فقال الرجل: على أفقر مني"؛ أي أتصدق به على شخص أفقر مني، وهذا يشعر بأنه فَهِمَ الإذن له في المتصدق على من يتصف بالفقر، وقد بيّن ابن عمر في حديثه ذلك، فزاد فيه:"إلى من أدفعه؟ قال: إلى أفقر من تعلم"، أخرجه البزار، والطبرانيّ في "الأوسط"، وفي رواية إبراهيم بن سعد:"أعَلى أفقر من أهلي؟ "، ولابن مسافر:"أعلى أهل بيتٍ أفقر مني؟ "، وللأوزاعيّ:"أعَلى غير أهلي؟ "، ولمنصور:"أعَلى أحوج منّا؟ "، ولابن إسحاق:"وهل الصدقة إلَّا لي، وعليّ؟ ".

(1)

"الفتح" 5/ 318.

(2)

"المفهم" 3/ 171.

ص: 43

(فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) تثنية "لابة"، والضمير للمدينة، قال النوويّ رحمه الله:"اللابتان": هما الْحَرّتان، والمدينة بين حرتين، والْحَرَّة: هي الأرض الْمُلَبَّسة حجارةً سُودًا، ويقال: لابةٌ، ولُوبةٌ، ونُوبةٌ، بالنون، حكاهنّ أبو عبيد، والجوهريّ، ومن لا يُحصَى من أهل اللغة، قالوا: ومنه قيل للأسود: لُوبيّ، ونُوبيّ، با للام والنون، قالوا: وجمع اللابة لُوْبٌ، ولابٌ، ولاباتٌ، وهي غير مهموزة. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: اللَّابَةُ: الْحَرَّةُ، وهي الأرض ذات الحجارة السُّود، والجمع لَابٌ، مثلُ ساعة وسَاعٍ. انتهى

(2)

.

وفي رواية البخاريّ: "فوالله ما بين لابتيها، يريد الحرتين"، وقوله:"يريد الحرّتين" من كلام بعض رواته، زاد في رواية ابن عيينة ومعمر:"والذي بعثك بالحق"، ووقع في حديث ابن عمر:"ما بين حرتيها"، وفي رواية الأوزاعيّ:"والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة"، وهو تثنية طُنُب، وهو بضم الطاء المهملة، بعدها نون، والطُّنُبُ أحد أطناب الخيمة، فاستعاره للطَّرَف.

(أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ) أي إلى هذا الطعام، فقوله:"أهلُ" بالرفع على أنه اسم "ما" النافية الحجازيّة، و"أحوج" بالنصب على أنه خبرها، ويَحْتَمِل أن تكون "ما" تميميّة، لا تعمل، فـ "أهلُ" بالرفع على الابتداء، و"أحوجُ" بالرفع على أنه خبر المبتدأ، أفاده الزركشيّ وغيره.

وقال البدر الدمامينيّ: وكذا إن جُعلت "ما" حجازيّة ملغاة من عمل النصب، (مِنَّا) وفي رواية البخاريّ:"أفقر من أهل بيتي"، وفي رواية عُقيل:"ما أحدٌ أحقّ به من أهلي، ما أحد أحوج إليه مني"، وفي مرسل سعيد، من رواية داود عنه:"والله ما لعيالي من طعام"، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة:"ما لنا عشاءُ ليلة".

(فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ) بفتح الهمزة: جمع ناب، وهو السنّ الذي بعد الرَّبَاعية، وهي أربعة، وقال الفيّوميّ: الناب من الأسنان مذكّرٌ ما دام له هذا الاسم، والجمع أنيابٌ، وهو الذي يلي الرَّبَاعيات، قال ابن سينا: ولا

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 226.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 560.

ص: 44

يجتمع في حيوان نابٌ وقرنٌ. انتهى

(1)

.

وفي رواية ابن إسحاق: "حتى بدت نواجذه"، ولأبي قُرّة في "السنن"، عن ابن جريجٍ:"حتى بدت ثناياه"، قال الحافظ: ولعلها تصحيف من "أنيابه"، فإن الثنايا تَبين بالتبسم غالبًا، وظاهر السياق إرادة الزيادة على التبسم، ويُحْمَل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان تبسمًا على غالب أحواله، وقيل: كان لا يضحك إلَّا في أمر يتعلق بالآخرة، فإن كان في أمر الدنيا لَمْ يزد على التبسم، قيل: وهذه القضية تَعْكُر عليه، وليس كذلك، فقد قيل: إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل، حيث جاء خائفًا على نفسه، راغبًا في فدائها، مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة، طَمِعَ في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة، وقيل: ضَحِكَ من حال الرجل في مقاطع كلامه، وحسن تأتّيه، وتلطفه في الخطاب، وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. انتهى.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اذْهَبْ، فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ،) وفي رواية لابن عيينة: "أطعمه عيالك"، ولإبراهيم بن سعد:"فأنتم إذًا"، وقُدِّم على ذلك ذكر الضحك، ولأبي قرة، عن ابن جريجٍ:"ثم قال: كله"، ونحوه ليحيى بن سعيد، وعِراك، وجمع بينهما ابن إسحاق، ولفظه:"خذها، وكلها، وأنفقها على عيالك"، ونحوه في رواية عبد الجبار، وحجاج، وهشام بن سعد، كلهم عن الزهريّ، ولابن خزيمة في حديث عائشة رضي الله عنها:"عُدْ به عليك، وعلى أهلك"، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأطعمه أهلك" تخيّل قوم من هذا الكلام سقوط الكفّارة عن هذا الرجل، فقالوا: هو خاصّ به، وليس فيه ما يدلّ على ذلك، بل نقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بيّن له ما يترتّب على جنايته من الكفّارة لزم الحكم، وتقرّر في الذمّة، ثم لَمّا تبيّن من حاله هذا أنه عاجزٌ عن الكفارة سقط عنه القيام بما لا يقدر عليه في تلك الحال، وبقي الحكم في الذمّة على ما رتّبه أَوّلًا، فبقيت الكفّارة عليه إلى أن يستطيع شيئًا من خصالها، وهذا مذهب الجمهور، وأئمة الفتوى، وقد ذهب الأوزاعيّ، وأحمد إلى أن حكم من لَمْ يجد الكفّارة من سائر الناس سقوطها عنه.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 632.

(2)

"الفتح" 5/ 320.

ص: 45

قال الجامع عفا الله عنه: قول الجمهور عندي أرجح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يقل له: سقطت عنك الكفّارة، بل أمره بالجلوس فدلّ على أنَّها باقية؛ لأن أمره به؛ لكي يساعده عليها، فهذا دليل بقائها، فتأمل، والله تعالى أعلم.

قال: ولم يتعرّض النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لقضاء ذلك اليوم، ولذلك قال بسقوط القضاء عنه طائفة من أهل العلم، وأنه ليس عليه الكفّارة، والجمهور على لزوم القضاء مع الكفّارة؛ إذ الصوم المطلوب منه لَمْ يفعله، فهو باق عليه، كالصلوات وغيرها إذا لَمْ تُفعل بشروطها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي قريبًا أنه صلى الله عليه وسلم أمره بقضاء يوم، والحديث بمجموع طرقه يصلح للاحتاج به - كما أشار إليه الحافظ - فقول الجمهور بوجوب القضاء هو الحقّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2595 و 2596 و 2597 و 2598 و 2599 و 2600](1111)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1936 و 1937) و"الهبة"(2600) و"الأدب"(6087 و 6164) و"الكفّارات"(6709 و 6710 و 6711) و"الحدود"(6821)، و (أبو داود) في "الصوم"(2390)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(724)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 213)، و (ابن ماجة) في "الصيام"(1671)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 194)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 106)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1008)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 241)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 19)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1944)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3525)، و (الطبرانيّ) في

(1)

"المفهم" 3/ 172.

ص: 46

"الأوسط"(2/ 364)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 281)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 61)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(384)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 209)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 203)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 188)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 221 و 222 و 224)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1752)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وجوب الكفّارة على من جامع في نهار رمضان.

2 -

(ومنها): السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفًا للشرع، والتحدث بذلك لمصلحة معرفة الحكم.

3 -

(ومنها): استعمال الكناية فيما يُستقبح ظهوره بصريح لفظه؛ لقوله: "واقعت، أوأصبت"، على أنه قد ورد في بعض طرقه كما تقدم:"وَطِئت"، قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أنه من تصرف الرواة.

4 -

(ومنها): أن فيه الرفقَ بالمتعلم، والتلطف في التعليم، والتألّف على الدين.

5 -

(ومنها): الندم على المعصية، واستشعار الخوف.

6 -

(ومنها): جواز الجلوس في المسجد لغير الصلاة، من المصالح الدينية، كنشر العلم.

7 -

(ومنها): جواز الضحك عند وجود سببه.

8 -

(ومنها): إخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة.

9 -

(ومنها): جواز الحلف؛ لتأكيد الكلام.

10 -

(ومنها): قبول قول المكلَّف مما لا يُطَّلَع عليه إلَّا من قبله؛ لقوله في جواب قوله: "على أفقرَ منا؟ ": "أطعمه أهلك"، ويَحْتَمِل أن يكون هناك قرينة لصدقه.

11 -

(ومنها): أن فيه التعاونَ على العبادة، والسعي في إخلاص المسلم، واعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفارة أهل بيت واحد.

12 -

(ومنها): أن المضطرّ إلى ما بيده لا يجب عليه أن يعطيه، أو بعضه

ص: 47

لمضطرّ آخر، قاله في "الفتح"

(1)

.

13 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز إعطاء الصدقة جميعها في صنف واحد، وفيه نظرٌ؛ لأنه لَمْ يتعيّن أن ذلك القدر هو جميع ما يجب على ذلك الرجل الذي أحضر التمر.

14 -

(ومنها): أنه استُدلّ به على سقوط قضاء اليوم الذي أفسده المجامع اكتفاءً بالكفارة؛ إذ لَمْ يقع التصريح في "الصحيحين" بقضائه، وهو مَحكيّ في مذهب الشافعيّ، وعن الأوزاعيّ: يقضي إن كفّر بغير الصوم، وهو وجه للشافعية أيضًا، قال ابن العربيّ: إسقاط القضاء لا يشبه مَنْصِب الشافعيّ؛ إذ لا كلام في القضاء؛ لكونه أفسد العبادة، وأما الكفارة فإنما هي لما اقترف من الإثم، قال: وأما كلام الأوزاعيّ، فليس بشيء.

قال الحافظ: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث، في رواية أبي أويس، وعبد الجبار، وهشام بن سعد، كلهم عن الزهريّ، وأخرجه البيهقيّ من طريق إبراهيم بن سعد، عن الليث، عن الزهريّ، وحديث إبراهيم بن سعد في "الصحيح"، عن الزهريّ نفسه بغير هذه الزيادة، وحديث الليث عن الزهريّ في "الصحيحين" بدونها، ووقعت الزيادة أيضًا في مرسل سعيد بن المسيّب، ونافع بن جبير، والحسن، ومحمد بن كعب، وبمجموع هذه الطرق يُعرف أن لهذه الزيادة أصلًا، ويؤخذ من قوله:"صم يومًا" عدم اشتراط الفورية؛ للتنكير في قوله: "يومًا". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بوجوب القضاء هو مذهب الجمهور كما تقدّم قريبًا، وهو الحقّ؛ للزيادة المذكورة؛ لأنَّها صالحة للاحتجاج بها، كما أشار إلى ذلك الحافظ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

[فائدة]: قال الحافظ رحمه الله: وقد اعتنى بعض المتأخّرين ممن أدركه شيوخنا، فتكلم على هذا الحديث في مجلّدين، جَمَع فيهما ألف فائدة وفائدةً، ومحصّله - إن شاء الله تعالى - فيما لخّصته مع زيادات كثيرة عليه، فلله الحمد على ما أنعم. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 5/ 322 كتاب "الصوم" رقم (1936).

(2)

"الفتح" 5/ 323.

ص: 48

قال الجامع عفا الله عنه: وأنا أيضًا تَتبّعت ما لخّصه الحافظ رحمه الله، فأوردته في هذا الشرح، ولله تعالى الحمد والمنّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في حكم كفّارة من جامع في نهار رمضان

(1)

: قال النوويّ رحمه الله: مذهبنا، ومذهب العلماء كافّة وجوب الكفارة عليه؛ إذا جامع عامدًا جماعًا أفسد به صوم يوم من رمضان، والكفارة عتق رقبة مؤمنة، سليمة من العيوب التي تضرّ بالعمل إضرارًا بَيّنًا، فإن عجز عنها فصوم شهرين متتابعين، فإن عجز، فإطعام ستين مسكينًا، كلّ مسكين مُدّ من طعام، وهو رطل وثلث بالبغداديّ، فإن عجز عن الخصال الثلاث، فللشافعي قولان:

[أحدهما]: لا شيء عليه، وإن استطاع بعد ذلك فلا شيء عليه، واحتُجّ لهذا القول بأن حديث هذا المجامع ظاهر بأنه لَمْ يستقرّ في ذمته شيء؛ لأنه أخبر بعجزه، ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكفارة ثابتة في ذمته، بل أَذِن له في إطعام عياله.

[والقول الثاني]: وهو الصحيح عند أصحابنا، وهو المختار أن الكفارة لا تسقط، بل تستقرّ في ذمته، حتى يُمَكَّن؛ قياسًا عَلى سائر الديون والحقوق، والمؤاخذات، كجزاء الصيد، وغيره، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة، بل فيه دليلٌ لاستقرارها؛ لأنه أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكفارة بأنه عاجز عن الخصال الثلاث، ثم أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرق التمر، فأمره بإخراجه، فلو كانت تسقط بالعجز، لَمْ يكن عليه شيء، ولم يأمره بإخراجه، فدل على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله؛ لأنه كان محتاجًا، ومضطرًّا إِلى الإنفاق على عياله في الحال، والكفارة على التراخي، فأذن له في أكله، وإطعام عياله، وبقيت الكفارة في ذمته، وإنما لَمْ يُبَيِّن له بقاءها في ذمته؛ لأن تأخير

(1)

قال في "الفتح": الحديث دليل على إيجاب الكفارة بالجماع خلافًا لمن شذّ، فقال: لا تجب؛ مستندًا إلى أنه لو كان واجبًا لما سقط بالإعسار، وتُعُقّب بمنع الإسقاط كما سيأتي البحث فيه.

ص: 49

البيان إلى وقت الحاجة جائز، عند جماهير الأصوليين، وهذا هو الصواب في معنى الحديث، وحكمِ المسألة، وفيها أقوال، وتأويلات أُخَرُ ضعيفة.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ضعّف النوويّ القول بأن المحتاج له إنفاق كفّارته على عياله، كما أمره صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن كفّارته تسقط بذلك، مع أن هذا هو الموافق لظاهر النصّ، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: تباينت في هذه القصة المذاهب، فقيل: إنه دلّ على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها؛ لأن الكفارة لا تُصْرَف إلى النفس، ولا إلى العيال، ولم يُبَيِّن النبيّ صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعية، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية، وقال الأوزاعيّ: يستغفر الله، ولا يعود، ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها، وهو هلال الفطر، لكن الفرق بينهما أن صدقة الفطر لها أمدٌ تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها، فتستقر في الذِّمة، وليس في الخبر ما يدلُّ على إسقاطها، بل فيه ما يدلّ على استمرارها على العاجز.

وقال الجمهور: لا تسقط الكفارة بالإعسار، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة، ثم اختلفوا، فقال الزهريّ: هو خاصّ بهذا الرجل، وإلى هذا نحا إمام الحرمين، ورُدّ بأن الأصل عدم الخصوصية، وقال بعضهم: هو منسوخ، ولم يبيِّن قائله ناسخه.

وقيل: المراد بالأهل الذين أُمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وهو قول بعض الشافعية، وضُعِّف بالرواية الأخرى التي فيها:"عيالك"، وبالرواية المصرحة بالإذن له في الأكل من ذلك.

وقيل: لما كان عاجزًا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الذي حَمَل أصحاب الأقوال الماضية على ما قالوه بأن المرء لا يأكل من كفارة نفسه.

قال الشيخ ابن دقيق العيد: وأقوى من ذلك أن يُجعل الإعطاء، لا على جهة الكفارة، بل على جهة المتصدق عليه، وعلى أهله بتلك الصدقة؛ لما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمته

ص: 50

مأخوذًا من هذا الحديث، وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه؛ لأن العلم بالوجوب قد تقدّم، ولم يرد في الحديث ما يدلُّ على الإسقاط؛ لأنه لما أخبره بعجزه، ثم أمره بإخراج العَرَق دلّ على أن لا سقوط عن العاجز، ولعله أخّر البيان إلى وقت الحاجة، وهو القدرة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن ما قاله ابن دقيق العيد من التكلّف البعيد عن ظاهر الحديث، وأن من تأمّل بالإنصاف تبيّن له أن القول بأن المكفّر إذا كان محتاجًا يجوز له أن ينفق كفّارته على نفسه، وعلى عياله، كما هو ظاهر الحديث هو الأرجح.

وقال الحافظ بعد ذكر ما تقدّم ما نصّه: وقد ورد ما يدلّ على إسقاط الكفارة، أو على إجزائها عنه بإنفاقه إياها على عياله، وهو قوله في حديث عليّ رضي الله عنه:"وكُلْه أنت وعيالك، فقد كفَّر الله عنك"، ولكنه حديث ضعيف، لا يُحتج بما انفرد به.

قال: والحقّ أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم: "خذ هذا، فتصدق به"، لَمْ يقبضه، بل اعتذر بأنه أحوج إليه من غيره، فأَذِنَ له حينئذ في أكله، فلو كان قبضه لملكه ملكًا مشروطًا بصفة، وهو إخراجه عنه في كفارته، فينبني على الخلاف المشهور في التمليك المقيد بشرط، لكنه لما لَمْ يقبضه لَمْ يملكه، فلما أذن له صلى الله عليه وسلم في إطعامه لأهله، وأكلِه منه كان تمليكًا مطلقًا بالنسبة إليه، وإلى أهله، وأخذهم إياه بصفة الفقر المشروحة، وقد تقدم أنه كان في مال الصدقة، وتصرّف النبي صلى الله عليه وسلم فيه تصرف الإمام في إخراج مال الصدقة، واحتَمَلَ أنه كان تمليكًا بالشرط الأول، ومن ثم نشأ الإشكال، والأول أظهر، فلا يكون فيه إسقاط، ولا أكل المرء من كفارة نفسه، ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفارة نفسه.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد كلام الحافظ هذا من ظاهر النصّ، فلو كان ما ذكره مرادًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمَا أهمله، بل بيّن له، وفصَّل له الأمر تفصيلًا لا غموض فيه، فلما قال له بعد أن بيّن له أنه أعطاه ليكفّر به:"اذهب به، فأطعمه أهلك"، وفي رواية ابن إسحاق:"خذها، وكلها، وأنفقها على عيالك"، دلّ على أنه إذا كان محتاجًا إليها أنفقها على نفسه، وعياله، وتكون كفّارته، فليس على ذمته شيء، والله تعالى أعلم.

ص: 51

قال: وأما ترجمة البخاريّ بقوله: "باب المجامع في رمضان، هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج؟ "، فليس فيه تصريح بما تضمنه حكم الترجمة، وإنما أشار إلى الاحتمالين المذكورين بإتيانه بصيغة الاستفهام. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن صنيع البخاريّ رحمه الله ظاهر في ترجيحه هذا القول من الاحتمالين؛ لأنه أورد فيه الحديث المذكور، ودلالته على هذا القول ظاهرة.

والحاصل أن القول بجواز إطعام المكفّر كفّارته أهله هو الأرجح، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم المجامع ناسيًا: قال النوويّ رحمه الله: وأما المجامع ناسيًا فلا يفطر، ولا كفارة عليه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وبه قال جمهور العلماء، ولأصحاب مالك خلاف في وجوبها عليه، وقال أحمد: يفطر، وتجب به الكفارة، وقال عطاء، وربيعة، والأوزاعيّ، والليث، والثوريّ: يجب القضاء، ولا كفارة، قال: دليلنا أن الحديث صحّ أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه، وأما الأحاديث الواردة في الكفارة في الجماع، فإنما هي في جماع العامد، ولهذا قال في بعضها:"هلكتُ"، وفي بعضها:"احترقتُ احترقتُ"، وهذا لا يكون إلَّا في عامد، فإن الناسي لا إثم عليه بالإجماع. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: استَدَلّ الجمهور بهذا الحديث على أنه كان متعمّدًا، وقصروا الكفّارة على المتعمّد دون الناسي، وهو مشهور قول مالك، وأصحابه، وذهب أحمد، وبعض أهل الظاهر، وعبد الملك، وابن حبيب إلى إيجابها على الناسي، ورُوي ذلك عن عطاء، ومالك، متمسّكين بترك استفسار النبيّ صلى الله عليه وسلم السائل، وإطلاق الفتيا مع هذا الاحتمال، وهذا كما قاله الشافعي في الأصول: ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزّل منزلة العموم في المقال، قال القرطبيّ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يمكن أن يقال: إنه ترك استفصاله لأنه قد تبيّن

(1)

شرح النوويّ" 7/ 224 - 225.

ص: 52

حاله، وهو أنه كان عامدًا، كما يدلّ عليه ظاهر قوله:"هلكت"، و"احترقت". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بعدم وجوب الكفّارة على الناسي هو الأرجح عندي؛ لأن الحديث ظاهر في كونه عامدًا، فإن دلالة قوله:"هلكت"، و"احترقت" على أنه كان عامدًا عارفًا بالتحريم ظاهرٌ، فتأمله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في أنواع الكفّارة:

قال القرطبيّ رحمه الله: ذهب الجمهور إلى أن الكفّارة ثلاثة أنواع، كما جاء في هذا الحديث، وذهب الحسن وعطاء إلى أن المكفّر إن لَمْ يجد رقبة أهدى بدنة إلى مكة، وقال عطاء: أو بقرةً، وتمسّكوا بما رواه مالك في "الموطّأ" من مرسل سعيد بن المسيّب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"هل تستطيع أن تُعتق رقبةً؟ " قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تُهدي بدنةً؟ " قال: لا، والصحيح المسند من الأحاديث، ليس فيه شيء من ذلك. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": في الحديث أنه لا مدخل لغير هذه الخصال الثلاث في الكفّارة، وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق إفساد الصيام بإفساد الحجِّ، وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيِّب، عثد مالك في "الموطأ"، عن عطاء الخرسانيّ عنه، وهو مع إرساله قد رَدّه سعيد بن المسيِّب، وكذب من نقله عنه، كما روى سعيد بن منصور، عن ابن عُلَيّة، عن خالد الحذّاء، عن القاسم بن عاصم، قلت لسعيد بن المسيِّب: ما حديث حدّثناه عطاء الخرسانيّ عنك في الذي وقع على امرأته في رمضان أنه يُعتق رقبة، أو يُهدي بدنة؟ فقال: كَذَبَ، فذكر الحديث، وهكذا رواه الليث، عن عمرو بن الحارث، عن أيوب، عن القاسم بن عاصم، وتابعه همام، عن قتادة، عن سعيد، وذكر ابن عبد البرّ أن عطاء لَمْ ينفرد بذلك، فقد ورد من طريق مجاهد، عن أبي هريرة، موصولًا، ثم ساقه بإسناده، لكنه من رواية ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد، وليث ضعيفٌ، وقد اضْطَرَب في روايته سندًا ومتنًا، فلا حجة فيه. انتهى.

(1)

"المفهم" 3/ 169.

(2)

"المفهم" 3/ 173 - 174.

ص: 53

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن الحقّ أن كفّارة الجماع في نهار رمضان هو المذكور في حديث الباب، وهو عتق رقبة، فإن لَمْ يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لَمْ يجد فإطعام ستين مسكينًا، وأما غير ذلك من البدنة، أو غيرها فلا يُجزئ؛ لضعف دليله، مع مخالفته للحديث الصحيح المذكور في الباب، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم في ترتيب الكفّارة كما ذُكر في هذا الحديث:

قال القرطبيّ رحمه الله: إن قوله: "هل تجد؟ "، وبعده:"فهل تستطيع؟ "، وبعده:"فهل تجد ما تُطعم؟ " ظاهر في ترتيب هذه الخصال، بدليل عطف الْجُمَل بالفاء المرتِّبة الْمُعَقِّبة، وإليه ذهب الشافعيّ، والكوفيّون، وابن حبيب من أصحابنا، وذهب مالك وأصحابه إلى التخيير في ذلك، إلَّا أنه استَحَمت الإطعام؛ لشدّة الحاجة إليه، وخُصوصًا بالحجاز، واستَدَلّ أصحابنا لمذهبهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا، وهو أنه قال: أفطر رجلٌ في رمضان، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُعتق رقبةً، أو يصوم شهرين، أو يُطعم ستين مسكينًا، فخَيَّره بـ "أو" التي هي موضوعة للتخيير. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": وفي الحديث أيضًا أن الكفّارة بالخصال الثلاث على الترتيب المذكور، قال ابن العربيّ: لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نقله مِن أمرٍ بعد عدمه لأمر آخر، وليس هذا شأن التخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك، فقال: إن مثل هذا السؤال قد يُستعمل فيما هو على التخيير، وقرره ابن الْمُنَيِّر في "الحاشية" بأن شخصًا لو حَنِث فاستفتي، فقال له المفتي: أعتق رقبةً، فقال: لا أجد، فقال: صم ثلاثة أيام إلخ لَمْ يكن مخالفًا لحقيقة التخيير، بل يُحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفّارة، وقال البيضاويّ: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول، ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني، يدلُّ على عدم التخيير، مع كونها في معرض البيان، وجوابِ السؤال، فينزل منزلة الشرط للحكم.

(1)

"المفهم" 3/ 173.

ص: 54

وسلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح بأن الذين رووا الترتيب عن الزهريّ أكثر ممن روى التخيير.

وتعقبه ابن التين بأن الذين رووا الترتيب: ابن عيينة، ومعمر، والأوزاعيّ، والذين رووا التخيير: مالك، وابن جريجٍ، وفُليح بن سليمان، وعمرو بن عثمان المخزوميّ، قال الحافظ: وهو كما قال في الثاني دون الأول، فالذين رووا الترتيب في البخاريّ الذي نحن في شرحه أيضًا: إبراهيم بن سعد، والليث بن سعد، وشعيب بن أبي حمزة، ومنصور، ورواية هذين في هذا الباب الذي نشرحه، وفي الذي يليه، فكيف غفل ابن التين عن ذلك، وهو ينظر فيه؟ بل روى الترتيب عن الزهريّ كذلك تمام ثلاثين نفسًا، أو أزيد.

ورُجّح الترتيب أيضًا بأن راويه حَكَى لفظ القصة على وجهها، فمعه زيادة علم، من سورة الواقعة، وراوي التخيير حَكَى لفظ راوي الحديث، فدلّ على أنه من تصرّف بعض الرواة، إما لقصد الاختصار، أو لغير ذلك.

ويترجح الترتيب أيضًا بأنه أحوط؛ لأن الأخذ به مجزئ سواء قلنا بالتخيير أو لا، بخلاف العكس.

وجمع بعضهم بين الروايتين كالمهلَّب والقرطبيّ بالحمل على التعدد، وهو بعيد؛ لأن القصة واحدة، والمخرج متحد، والأصل عدم التعدد.

وبعضهم حمل الترتيب على الأولوية، والتخيير على الجواز، وعكسه بعضهم، فقال:"أو" في الرواية الأخرى ليست للتخيير، وإنما هي للتفسير، والتقدير: أَمَرَ رجلًا أن يعتق رقبة، أو يصوم إن عجز عن العتق، أو يطعم إن عجز عنهما.

وذكر الطحاويّ أن سبب إتيان بعض الرواة بالتخيير، أن الزهريّ راوي الحديث قال في آخر حديثه: فصارت الكفّارة إلى عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو الإطعام، قال: فرواه بعضهم مختصرًا مقتصِرًا على ما ذكر الزهريّ أنه آل إليه الأمر، قال: وقد قَصّ عبد الرَّحمن بن خالد بن مسافر عن الزهريّ القصة على وجهها، ثم ساقه من طريقه، مثل حديث الباب إلى قوله:"أطعمه أهلك"، قال: فصارت الكفّارة إلى عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا.

ص: 55

وكذلك رواه الدارقطنيّ في "العلل" من طريق صالح بن أبي الأخضر، عن الزهريّ، وقال في آخره: فصارت سنة عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينًا، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح هو القول بكون الكفّارة على الترتيب المذكور في هذا الحديث؛ لظاهر النصّ.

وأما حديث أبي هريرة الآتي الذي احتجّ به المالكيّة؛ لكونه بـ "أو"، فإن "أو" فيه للتقسيم، لا للتخيير؛ جمعًا بين الروايات، قال النوويّ رحمه الله: لفظة "أو" فيه للتقسيم، لا للتخيير، تقديره: أن يُعتق، أو يصوم إن عجز عن العتق، أو يُطعم إن عجز عنهما، وتبيّنه الروايات الباقية. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم، هل على المرأة كفّارة أم لا؟:

قال القرطبيّ رحمه الله: إن هذه الكفّارة هل هي على الجاني وحده؟ وهذا كما هو مذهب الجمهور، أو عنه وعن موطوءته؟ كما صار إليه الشافعيّ، وأهل الظاهر، وليس في الحديث ما يدلّ على ذلك، لكن الحديث إنما تعرّض للرجل، وسكت عن المرأة، فيؤخذ حكمها من دليل آخر، ولعله إنما سكت عنها؛ لأنَّها كانت غير صائمة؛ لأنَّها طهرت من حيضتها في أضعاف اليوم، أو كتابيّة، وعلى الجملة فحالها مجهولٌ، ولا سبيل إلى التحكّم بأنها كانت مكرهةً، أو مختارةً، أو غير ذلك، ومشهور مذهب مالك في المكرهة أن مكرِهها يكفّر عنها؛ لأنه هَتَكَ صومين بالنسبة إليها وإليه، فكأنه هتك يومين، قال سحنون: لا شيء عليه لها، ولا عليها، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر

(3)

، ولم يختلف المذهب في أن عليها القضاء. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 5/ 314 - 315.

(2)

"شرح النوويّ" 7/ 227.

(3)

سيأتي في عبارة "الفتح" أن أبا ثور، وابن المنذر من القائلين بالوجوب على المرأة، فليُحرّر.

(4)

"المفهم" 3/ 172 - 173.

ص: 56

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه القائلون بعدم وجوب الكفّارة على المرأة هو الأقرب؛ لأنه يدلّ عليه ظاهر الحديث، وأما القول بالوجوب، فيحتاج إلى دليل، ولذا قال في "الفتح": واستُدِلّ بإفراد الرجل بذلك على أن الكفارة عليه وحده دودن الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة:"هل تستطيع"، و"هل تجد" وغير ذلك، وهو الأصح من قولي الشافعية، وبه قال الأوزاعيّ، وقال الجمهور، وأبو ثور، وابن المنذر: تجب الكفارة على المرأة أيضًا، على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرّة والأمة، والمطاوِعة والمكرَهة، وهل هي عليها، أو على الرجل عنها.

واستَدلّ الشافعية بسكوته صلى الله عليه وسلم عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة.

وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك؛ لأنها لم تَعترف، ولم تُسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكمًا ما لم تعترف، وبأنها قضية حال، فالسكوت عنها لا يدلّ على الحكم؛ لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة؛ لعذر من الأعذار، ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقّها؛ لاشتراكهما في تحريم الفطر، وانتهاك حرمة الصوم، كما لم يأمره بالغسل، والتنصيص على الحكم في حقّ بعض المكلفين كافٍ عن ذكره في حقّ الباقين.

وَيحْتَمِل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء.

واستدلّ بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث: "هلكت، وأهلكت " وهي زيادة فيها مقال، فقال ابن الجوزي في قوله:"وأهلكت" تنبيه على أنه أكرهها، ولولا ذلك لم يكن مُهلكًا لها.

قال الحافظ: ولا يلزم من ذلك تعدد الكفارة، بل لا يلزم من قوله:"وأهلكت" إيجاب الكفارة عليها، بل يَحتمل أن يريد بقوله:"هلكت": أَثِمت، وأهلكت: أي كنت سببًا في تأثيم من طاوعتني فواقعتها؛ إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوِعة، ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة، ولا نفيبها، أو المعنى:"هلكتُ": أي حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفارته، "وأهلكتُ": أي نفسي بفعلي الذي جرّ عليّ الإثم.

ص: 57

وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة، وقد ذكر البيهقيّ أن للحاكم في بطلانها ثلاثةَ أجزاء، ومُحَصَّل القول فيها أنها وردت من طريق الأوزاعيّ، ومن طريق ابن عيينة.

أما الأوزاعيّ: فتفرد بها محمد بن المسيب، عن عبد السلام بن عبد الحميد، عن عمر بن عبد الواحد، والوليد بن مسلم، وعن محمد بن عقبة، عن علقمة، عن أبيه، ثلاثتهم عن الأوزاعيّ، قال البيهقيّ: رواه جميع أصحاب الأوزاعيّ بدونها، وكذلك جميع الرواة عن الوليد، وعقبة، وعمر، ومحمد بن المسيب كان حافظًا مكثرًا إلا أنه كان في آخر أمره عَمِي، فلعل هذه اللفظة أُدخلت عليه، وقد رواه أبو عليّ النيسابوريّ عنه بدونها، ويدلّ على بطلانها ما رواه العباس بن الوليد، عن أبيه، قال: سئل الأوزاعيّ عن رجل جامع امرأته في رمضان؟، قال: عليهما كفارة واحدةٌ إلا الصيام، قيل له: فإن استكرهها؟ قال: عليه الصيام وحده.

وأما ابن عيينة: فتفرد بها أبو ثور، عن معلى بن منصور، عنه، قال الخطابيّ: المعلى ليس بذاك الحافظ.

وتعقبه ابن الجوزيّ بأنه لا يَعرف أحدًا طعن في المعلى، وغفل عن قول الإمام أحمد: إنه كان يخطئ كل يوم في حديثين أو ثلاثة، فلعله حدّث من حفظه بهذا، فوهم، وقد قال الحاكم: وقفت على كتاب الصيام للمعلى بخط موثوق به، وليست هذه اللفظة فيه، وزعم ابن الجوزيّ أن الدارقطنيّ أخرجه من طريق عُقيل أيضًا، وهو غلطٌ منه، فإن الدارقطنيّ لم يخرج طريق عُقيل في "السنن"، وقد ساقه في "العلل" بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزيّ بدونها.

[تنبيه]: القائل بوجوب كفارة واحدة على الزوج عنه وعن موطوءته، يقول: يُعتبر حالهما، فإن كانا من أهل العتق أجزأت رقبةٌ، وإن كانا من أهل الإطعام، أطعم ما سبق، كمان كانا من أهل الصيام وإما جميعًا، فإن اختلف حالهما، ففيه تفريع، محله كتب الفروع. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 5/ 318 - 319.

ص: 58

قال الجامع عفا الله منه: قد تبيّن بما ذُكر أن زيادة: "وأهلكت" لا تصحّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة التاسعة): لم يُعَيَّن في هذه الرواية مقدار ما في الْمِكْتَل من التمر، بل ولا في شيء من طرق "الصحيحين" في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ووقع في رواية ابن أبي حفصة:"فيه خمسة عشر صاعًا"، وفي رواية مؤمَّل، عن سفيان:"فيه خمسة عشر، أو نحو ذلك"، وفي رواية مِهران بن أبي عمر، عن الثوريّ، عند ابن خزيمة:"فيه خمسة عشر، أو عشرون"، وكذا هو عند مالك، وعبد الرزاق، في مرسل سعيد بن المسيِّب، وفي مرسله عند الدارقطنيّ الجزم بعشرين صاعًا، ووقع في حديث عائشة، عند ابن خزيمة:"فَأُتي بعَرَق فيه عشرون صاعًا"، قال البيهقيّ: قوله: "عشرون صاعًا"، بلاغٌ بلغ محمد بن جعفر؛ يعني بعض رواته، وقد بَيّن ذلك محمد بن إسحاق عنه، فذكر الحديث، وقال في آخره: قال محمد بن جعفر: فحُدِّثتُ بعدُ أنه كان عشرين صاعًا من تمر.

قال الحافظ: ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره، عند مسدد:"فأمر له ببعضه"، وهذا يَجْمَع الروايات، فمن قال: إنه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومن قال: خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة، وُيبَيِّن ذلك حديث عليّ عند الدارقطنيّ:"تطعم ستين مسكينًا، لكل مسكين مدٌ"، وفيه:"فأُتي بخمسة عشر صاعًا، فقال: أطعمه ستين مسكينًا"، وكذا في رواية حجاج، عن الزهريّ عند الدارقطنيّ، في حديث أبي هريرة.

وفيه رَدّ على الكوفيين في قولهم: إن واجبه من الْقَمْح ثلاثون صاعًا، ومن غيره ستون صاعًا، ويقول عطاء: إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعًا، وعلى أشهب في قوله: لو غدّاهم، أو عشّاهم كفى تصدق الإطعام

(1)

، ويقول الحسن: يُطعم أربعين مسكينًا عشرين صاعًا، أو بالجماع: أطعم خمسة عشر.

وفيه رد على الجوهريّ حيث قال في "الصحاح": المكتل يشبه الزَّبِيل يسع خمسة عشر صاعًا؛ لأنه لا حصر في ذلك، وروى عن مالك أنه قال:

(1)

كذا النسخة، ولعله:"كفى عن تصدّق الإطعام"، فليُحرّر.

ص: 59

يسع خمسة عشر، أو عشرين، ولعله قال ذلك في هذه القصة الخاصّة، فيوافق رواية مِهْران، وإلا فالظاهر أنه لا حصر في ذلك، والله أعلم.

وأما ما وقع في رواية عطاء، ومجاهد، عن أبي هريرة عند الطبرانيّ في "الأوسط": أنه أُتِي بمكتل فيه عشرون صاعًا فقال: "تصدق بهذا"، وقال قبل ذلك:"تصدق بعشرين صاعًا، أو بتسع عشرة، أو بإحدى وعشرين"، فلا حجة فيه" لما فيه من الشكّ، ولأنه من رواية ليث بن أبي سُليم، وهو ضعيف، وقد اضطَرَب فيه، وفي الإسناد إليه مع ذلك مَن لا يُحتَجّ به، ذكره في "الفتح"، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2596]

(

) - (حَدَّثَنَا إِسحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ: بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَهُوَ اَلزِّنْبِيلُ

(1)

، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم أيضًا قبل باب.

و"الزهريّ" ذُكر قبله.

وقوله: (بِهَذَا الإِسْنَادِ) أي بإسناد الزهريّ المذكور قبل هذا، وهو: عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ: بِعَرَق فِيهِ تَمْرٌ) فاعل "قال" ضمير منصور.

وقوله: (وَهُوَ الزِّنْبِيلُ) تقدّم أنه بكسر الزاي، بعدها نون، وفي نسخة:"وهو الزَّبِيل" بإسقاط النون، وعليه فتكون الزاي مفتوحة.

[تنبيه]: رواية منصور، عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(1)

وفي نسخة: "وهو الزَّبيلُ".

ص: 60

(1937)

- حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جريرٌ، عن منصور، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الأَخِرَ

(1)

وَقَع على امرأته في رمضان، فقال:"أتجد ما تُحَرِّر رقبةً؟ "، قال: لا، قال:"فتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال:"أفتجد ما تُطعم به ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، قال: فأُتِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعَرَق، فيه تمرٌ - وهو الزبيل- قال:"أطعم هذا عنك"، قال: على أحوج منا؟ ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، قال:"فأطعمه أهلك". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2597]

(

) - (حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ

(2)

فِي رَمَضَانَ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:"هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"وَهَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:"فَاَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(قتيْبَةُ) بن سعيد، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ) أي جامعها، وفي نسخة:"واقع امرأته".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في حديث أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

بهمزة غير ممدودة بعدها خاء معجمة مكسورة، وحكى ابن القوطية فيه مدّ الهمز.

(2)

وفي نسخة: "واقع امرأته".

ص: 61

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2598]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا مَالِكْ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ: أَنَّ رَجُلًا أفطَرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَمرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، ثُم ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى) بن نَجِيح البغداديّ، أبو يعقوب ابن الطّبّاع، سَكَنَ أَذَنَةَ، صدوقٌ [9](ت 214) أو بعدها بسنة (م ت س ق) تقدم في "صلاة الكسوف" 3/ 2110.

3 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(الزُّهْرِيُّ): ذُكر قبله.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير مالك.

[تنبيه]: رواية مالك، عن الزهريّ هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 189) فقال:

(2513)

- ثنا أبو بكر بن خلاد غير مرة، ثنا محمد بن غالب (ح) وثنا فاروق، ثنا أبو مسلم، قالا: ثنا القعنبيّ، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يُطعم ستين مسكينًا، فقال: لا أجد، فقال له:"اجلس"، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَرَق تمر، فقال:"خذ هذا، فتصدق به"، فقال: يا رسول الله، ما أجد أحوج مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:"كله". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2599]

(

) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنى ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَن أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّ

ص: 62

النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا أفطَرَ فِي رَمَضَانَ، أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أوْ يُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينًا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَاقِ) بن هَمّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا أفطَرَ فِي رَمَضَانَ إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا متمسّك أصحابنا على أن الكفّارة معلّقة على كلّ فطر قُصِد به هَتْكُ الصيام على ما تقدّم، ووجه استدلالهم أنه علّق الكفّارة على من أفطر مجرّدًا عن القيود، فيلزم مطلقًا، وهذا على قول الشافعيّ في مسألة ترك الاستفصال، فإن قيل: فهذا الحديث هو الحديث الأول، والقضيّة واحدةٌ، فتُردّ إليها، قلنا: لا نسلّم، بل هما قضيّتان مختلفتان؛ لأن مساقهما مختلفٌ، وهذا هو الظاهر، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن الأولى حمل هذه الرواية على أن بعض الرواة اختصرها من الرواية الأولى، والقضيّة واحدة، فيتعيّن حملها عليها، فلا يكون الحديث دليلًا على وجوب الكفّارة في غير الجماع، فتنبّه.

وقال في "الفتح": ووقع في رواية مالك، وابن جريج، وغيرهما في أول الحديث: "أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم

" الحديث، واستُدِلَّ به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقًا بأيّ شيء كان، وهو قول المالكية، والجمهور حَمَلُوا قوله: "أفطر" هنا على المقيَّد في الرواية الأخرى، وهو قوله: "وقعت على أهلي"، وكأنه قال: أفطر بجماع، وهو أولى من دعوى القرطبيّ وغيره تعدد القصة، واحتَجَّ من أوجب الكفارة مطلقًا بقياس الأكل على المجامع، بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصوم، وبأن من أُكره على الأكل

(1)

"المفهم" 3/ 174.

ص: 63

فسد صومه، كما يفسد صوم من أكره على الجماع، بجامع ما بينهما.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد قياس من أفطر بغير الجماع على من أفطر بالجماع لمن تأمله، فالذي يظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الكفّارة على من أفطر بغير الجماع هو الأقرب، فتأمل، والله تعالى أعلم.

قال: وقد وقع في حديث عائشة رضي الله عنها نظير ما وقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فمعظم الروايات فيها:"وَطِئْتُ"، ونحو ذلك، وفي رواية ساق مسلم إسنادها، وساق أبو عوانة في "مستخرجه" متنها أنه قال:"أفطرت في رمضان"، والقصّة واحدة، ومخرجها مُتَّحِد، فَيُحْمَل على أنه أراد: أفطرت في رمضان بجماع، وقد وقع في مرسل ابن المسيَّب عند سعيد بن منصور:"أصبت امرأتي ظهرًا في رمضان"، وتعيين رمضان معمول بمفهومه، وللفرق في وجوب كفارة المجامع في الصوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنذر، وفي كلام أبي عوانة في "صحيحه" إشارة إلى وجوب ذلك على من وقع منه في رمضان نهارًا، سواء كان الصوم واجبًا عليه، أو غير واجب. انتهى

(1)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه متّفقٌ عليه باللفظ الذي مضى، وأما بهذا اللفظ فمن أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2600]

(

) - (حَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الْكِسّيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(مَعَمَرُ) بن راشد، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ فاضل [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

(1)

"الفتح" 5/ 310 - 311.

ص: 64

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها البخاري في "صحيحه"، فقال:

(2460)

- حدّثنا محمد بن محبوب، حدّثنا عبد الواحد، حدّثنا معمر، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، فقال:"وما ذاك؟ "، قال: وقعت بأهلي في رمضان، قال:"تجد رقبة؟ "، قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال:"فتستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، قال: فجاء رجل من الأنصار بعَرَق -والعَرَقُ: الْمِكْتَلُ- فيه تمر، فقال:"اذهب بهذا، فتصدق به"، قال: على أحوج منّا يا رسول الله؟ والذي بعثك بالحقّ ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منّا، قال:"اذهب، فأطعمه أهلك". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2601]

(1112) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزبَيْرِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَهَا قَالَتْ: جَاءَ رَجُل إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: احْتَرَقْتُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِمَ؟ " قَالَ: وَطِئْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ نَهَارًا، قَالَ: "تَصَدَّقْ، تَصَدَّقْ" قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ، فَجَاءَهُ عَرَقَانِ، فِيهِمَا طَعَامٌ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ القاضي، أبو سعيد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق، تقدّم قبل باب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزبَيْرِ) بن الْعَوّام الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات سنة بضع (110)(ع) تقدم في "الجمعة" 2/ 1958.

ص: 65

4 -

(عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن الْعَوّام، كان قاضي مكة زمن أبيه، وخليفته إذا حجّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الجنائز" 32/ 2252.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد انفرد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من يحيى، والباقيان مصريّان.

4 -

(ومنها): أن فيه أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وكلّهم من أهل المدينة: يحيى وعبد الرحمن تابعيان صغيران، من طبقة واحدة، وفوقهما قليلًا محمد بن جعفر، وأما ابن عمة عباد، فمن أواسط التابعين.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210).

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ) قيل: هو سلمة بن صخر البياضيّ، ولا يصحّ ذلك كما تقدّم بيانه، وفي رواية عمر بن الحارث الآتية:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان"(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: احْتَرَقْتُ) وفي رواية عمرو بن الحارث الآتية: "احترقت، احترقتُ" مكرّرًا، وتقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عَبَّر بقوله:"هلكت"، ورواية الاحتراق تُفَسِّر رواية الهلاك، وكأنه لما اعتَقَد أن مرتكب الإثم يعذب بالنار أطلق على نفسه أنه احتَرَق لذلك، وقد أثبت النبيّ صلى الله عليه وسلم له هذا الوصف، فقال:"أين المحترق؟ " إشارةً إلى أنه لوأصرّ على ذلك لاستحق ذلك، وفيه دلالة على أنه كان عامدًا، كما سبق بيانه، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 5/ 306.

ص: 66

وقال النوويّ رحمه الله: فيه استعمال المجاز، وأنه لا إنكار على مستعملة. انتهى

(1)

.

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِمَ؟ ") أي لأيّ شيء احترقت؟، وفي الرواية الآتية:"فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه؟ "(قَالَ) الرجل (وَطِئْتُ) بكسر الطاء، يقال: وَطِئَ يَطَأ وَطْأً، من باب فَهِمَ يَفْهَمُ فَهْمًا، قال في (اللسان: قال سيبويه: أما وَطِئ يَطَأُ، فمثلُ وَرِمَ يَرِمُ، ولكنهم فتحوا يَفْعَلُ، وأصله الكسر. انتهى

(2)

؛ يعني أن أصل عين مضارع وَطِئ بالكسر، لكنهم فتحوها؛ لأجل حرف الحلق، والمعنى: جامعت (امْرَأَتي فِي رَمَضَانَ نَهَارًا) وفي الرواية الآتية: "أصبت أهلي"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (" تَصَدَّقْ، تَصَدَّق") كذا هنا بالتكرار، وفي الرواية التالية بدونه (قَالَ) الرجل (مَا) نافيةٌ (عِنْدِي شَيْءٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ) وفي الرواية الآتية: "فقال: والله يا نبيّ الله ما لي شيء، وما أقدر عليه، قال: اجلس"(فَجَاءَهُ عَرَقَانِ) تثنية عَرَق بفتحتين، وهو الْمِكتل، وهو الزِّنْبِيل أيضًا، وقد تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فأُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر" بالإفراد، فجمع بعضهم بينهما بتعدّد القصّة، والأحسن ما قاله الحافظ رحمه الله أنه كان قدر عرق، لكنه كان في عَرَقين في حال التحميل على الدابة؛ ليكون أسهل في الحمل، فيَحتمل أن الآتي به لَمّا وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال: عَرَقان أراد ابتداء الحال، ومن قال عَرَق أراد ما آل إليه، والله تعالى أعلم.

(فِيهِمَا طَعَامٌ) أي بُرٌّ، وَيحْتَمل أن يراد به مطلق الطعام، قال في "القاموس": الطعام: الْبُرّ، وما يؤكل، جمعه أطعمة. انتهى. وقال في "المصباح": وإذا أَطلَق أهل الحجاز لفظ الطعام عَنَوْا به البرّ خاصّة، وفي الْعُرف اسم لما يُؤكل، وجمعه أَطعمة. انتهى

(3)

.

(فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ) وفي الرواية الآتية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدّق بهذا"، وهو لفظ البخاريّ، قال في "الفتح": قوله: "تصدّق بهذا" هكذا وقع مختصرًا، وأورده مسلم، وأبو داود من طريق عمرو بن

(1)

"شرح النووي" 7/ 227.

(2)

"لسان العرب" 1/ 195.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 373.

ص: 67

الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، وفيه قال: أصبت أهلي، قال:"تصدّق"، قال: والله ما لي شيءٌ، قال:"اجلس"، فجلس، فأقبل رجل يسوق حمارًا، عليه طعام، فقال:"أين المحترق آنفًا؟ "، فقام الرجل: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدق بهذا"، فقال: أعلى غيرنا؟، فوالله إنّا لجياع، قال:"كلوه".

قال: وقد استُدِلّ به لمالك، حيث جزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام، دون غيره من الصيام، والعتق، ولا حجة فيه؛ لأن القصة واحدة، وقد حفظها أبو هريرة رضي الله عنه، وقَصَّها على وجهها، وأوردتها عائشة رضي الله عنها مختصرةً، أشار إلى هذا الجواب الطحاويّ، قال الحافظ: والظاهر أن الاختصار من بعض الرواة، فقد رواه عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر بن الزبير، بهذا الإسناد، مفسَّرًا، ولفظه: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظلّ فارع -يعني بالفاء، والمهملة- فجاءه رجل من بني بياضة، فقال: احترقت، وقعت بامرأتي في رمضان، قال:"أعتق رقبةً"، قال: لا أجدها، قال:"أطعم ستين مسكينًا"، قال: ليس عندي

، فذكر الحديث، أخرجه أبو داود، ولم يسق لفظه، وساقه ابن خزيمة في "صحيحه"، والبخاريّ في "تاريخه"، ومن طريقه البيهقيّ، ولم يقع في هذه الرواية أيضًا ذكر صيام شهرين، ومن حَفِظ حجة على من لم يحفظ.

[تنبيه]: اختَلَفَت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور ما تقدم، وعنه يُكَفِّر في الأكل بالتخيير، وفي الجماع بالإطعام فقط، وعنه التخيير مطلقًا، وقيل: يُراعَى زمان الْخِصْب والجدب، وقيل: يُعتبر حالة المكفِّر، وقيل غير ذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 5/ 307.

ص: 68

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 2601 و 2602 و 2603](1112)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1935) وعلّقه في "الحدود"(6822) ووصله في "التاريخ الصغير"(1/ 289)، و (أبو داود) في "الصوم"(2394 و 2395)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 210 و 211)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 111)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 140)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 20)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1946 و 1947)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3528)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 59 - 60)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 365)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 207)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 191)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 223 و 224)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2652]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أنَهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: أتى رَجُل إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: "تَصَدَّقْ، تَصَدَّقْ"، وَلَا قَوْلُهُ: نَهَارًا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَبْدُ الْوَفَابِ الثَّقَفِيُّ) هو: عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) الفاعل ضمير عبد الوهّاب.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها إسحاق ابن راهويه في "مسنده" (2/ 365) فقال:

ص: 69

(907)

- أخبرنا عبد الوهاب الثقفيّ، نا يحيى بن سعيد، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم، يقول: أخبرني محمد بن جعفر بن الزبير، أن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره، أن عائشة أم المؤمنين حدَّثته، قالت: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني احترقت، فسأله ما له؟، فقال: أفطرت في رمضان، ثم جلس، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكتل عظيم يُدْعَى الْعَرَق، فيه تمر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل، فقال:"أين المحترق؟ "، فقام الرجل، فقال:"تصدق بهذا". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2603]

(

) - (حَدَّثَني أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِم حَدَّثَهُ، أَن مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَن عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ احْتَرَقْتُ، احْتَرَقْتُ، فَسَأَلهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُهُ؟، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي، قَالَ:"تَصَدَّقْ"، فَقَالَ: وَاللهِ يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا لِي شَيْءٌ، وَمَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ:"اجْلِسْ"، فَجَلَسَ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، أَقْبَلَ رَجُلٌ يَسُوقُ حِمَارًا، عَلَيْهِ طَعَامْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ آنِفاً؟ " فَقَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقْ بِهَذَا"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغَيْرَنَا؟

(1)

، فَوَاللهِ، إِنَّا لَجِيَاعٌ، مَا لنَا شَئٌ، قَالَ:"فَكُلُوهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُوالطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

(1)

وفي نسخة: "أعَلى غيرنا".

ص: 70

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَقْبَلَ رَجُلٌ يَسُوقُ حِمَارًا) لم يسمّ هذا الرجل.

وقوله: (أَغَيْرَنَا) منصوب بفعل مضمر، تقديره: أتعطيه غيرنا؟، وفي نسخة:"أعَلى غيرنا"، وهو واضح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابُ جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالتَّخْيِيرِ في ذَلِكَ)

(1)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2604]

(1113) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٍ، عَن ابْنِ شِهَابِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ أخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اَللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتى بَلَغَ الْكَدِيدَ، ثُمَّ أفطَرَ، قَالَ: وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتبِعُونَ الْأَحْدَثَ، فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذَليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

(1)

هذه الترجمة هي اللائقة بالأحاديث الآتية، وهكذا ترجم القرطبيّ في مختصره، وأما النووي فترجم بقوله:"باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إلخ"، وفيه أن قوله:"في غير معصية" مأخوذ من مذهبه، لا من أحاديث الباب؛ فأحاديث الباب لم تتعرّض له، والمسألة مختلف فيها، وقد سبق أن التراجم لا ينبغي أن تُقَيّد بما يُفهَم من بعض المذاهب، وإنما تصاغ مما دلّ عليه حديث الباب، فتفطّن.

ص: 71

2 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله الحبر البحر رضي الله عنه تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون كلّهم تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بين اثنين، لاتفاقهما في كيفيّة التحمّل والأداء، وأفرد الثالث، لاختلافه معهما في ذلك.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وابن رُمح، فانفرد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون، إلا قتيبة، فبغلانيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن عبيد الله أحدُ الفقهاء السبعة، وابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

[تنبيه]: قال القابسيّ رحمه الله: هذا الحديث من مرسلات الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه كان في هذه السفرة مقيمًا مع أبويه بمكة، فلم يشاهد هذه القصّة، فكأنه سمعها من غيره من "الصحابة". انتهى

(1)

.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ) أي ابن عبّاس رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ) أي أخبر عبيدَ الله (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ) أي عام فتح مكة، وكان سنة ثمان من الهجرة (فِي رَمَضَانَ) وفي رواية ابن إسحاق في "المغازي" عن الزهريّ في حديث الباب أنه خَرَج لعشر مضين من رمضان، ووقع في حديث أبي سعيد الخدريّ الآتي في الباب اختلاف من الرواة في ضبط ذلك، قال في "الفتح": والذي اتَّفَقَ عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه. انتهى

(2)

.

(فَصَامَ حَتى بَلَغَ الْكَدِيدَ) -بفتح الكاف، وكسر الدال المهملة- وهي عين

(1)

"الفتح" 5/ 337.

(2)

"الفتح" 5/ 336.

ص: 72

جاريةٌ بينها وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها، وبينها وبين مكة قريب من مرحلتين، وهي أقرب إلى المدينة من عُسفان، قال القاضي عياض رحمه الله: الكديد: عين جاريةٌ على اثنين وأربعين ميلًا من مكة، قال: وعُسفان قرية جامعة، بها منبر، على ستة وثلاثين ميلّا من مكة، قال: والكديد ما بينها وبين قُديد.

وفي الحديث الآخر: "فصام حتى بلغ كُرَاع الغميم"، وهو بفتح الغين المعجمة، وهو واد أمام عُسفان بثمانية أميال، يضاف إليه هذا الكُراع، وهو جبل أسود، متصل به، والكُراع كلُّ أنف سال من جبل، أو حَرَّة، قال القاضي: وهذا كله في سفر واحد في غَزَاة الفتح، قال: وسُمِّيت هذه المواضع في هذه الأحاديث؛ لتقاربها، وإن كانت عُسفان متباعدة شيئًا عن هذه المواضع، لكنها كلها مضافة إليها، ومِن عَمَلها، فاشتَمَل اسم عُسفان عليها، قال: وقد يكون صلى الله عليه وسلم عَلِمَ حال الناس، ومشقتهم في بعضها، فأفطر، وأمرهم بالفطر في بعضها. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله بعد نقل كلام القاضي هذا: وهو كما قال إلا في مسافة عُسفان، فإن المشهور أنها على أربعة بُرُدٍ من مكة، وكل بَرِيد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، فالجملة ثمانية وأربعون ميلًا، هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فلما بلغ الكَدِيد"- بفتح الكاف، وكسر الدال المهملة-: مكان معروف، وقع تفسيره في نفس الحديث بأنه بين عُسفان وقُديد -يعني بضم القاف على التصغير- ووقع في رواية المستملي وحده نسبة هذا التفسير للبخاريّ، لكن سيأتي في "المغازي" موصولًا من وجه آخر في نفس الحديث، وسيأتي قريبًا

(3)

عن ابن عباس من وجه آخر: "حتى بلغ عُسفان " بدل الكَدِيد وفيه مجاز القرب؛ لأن الكَديد أقرب إلى المدينة من عُسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان، قال البكريّ: هو بين أَمَج -بفتحتين، وجيم- وعُسفان

(1)

"إكمال المعلم" 4/ 64.

(2)

"شرح النووي " 7/ 230.

(3)

هي الرواية الخامسة هنا عند مسلم رقم [2608].

ص: 73

وهو ماء عليه نخل كثير، ووقع عند مسلم في حديث جابر:"فلما بلغ كُراع الغميم"، هو بضم الكاف، والغَمِيم بفتح المعجمة، وهو اسم وادٍ أمام عُسفان، قال عياض: اختَلَفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه، والكل في قصة واحدة، وكلها متقاربة، والجميع من عَمَل عُسفان. انتهى.

(ثُمَّ أفطَرَ) وقد وقع الحديث عند البخاريّ في "المغازي" بسياق أوضح من هذا من طريق معمر، عن الزهريّ، ولفظه:"خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة، ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مَقْدَمه المدينة، فسار ومن معه من المسلمين، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكَدِيد، فأفطر وأفطروا".

وأخرج أيضًا في "المغازي" من طريق خالد الحذّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان، والناس صائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن، أو ماء فوضعه على راحلته، ثم نظر الناس، زاد في رواية أخرى، من طريق طاوس، عن ابن عباس:"ثم دعا بماء، فشرب نهارًا؛ ليراه الناس".

وأخرجه الطحاويّ من طريق أبي الأسود، عن عكرمة أوضح من سياق خالد، ولفظه:"فلما بلغ الكَدِيد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن، فأمسكه بيده حتى رآه الناس، وهو على راحلته، ثم شَرِبَ، فأفطر، فناوله رجلًا إلى جنبه، فشرب"، ويأتي للمصنّف في الباب من طريق الدّراوَرْديّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه في هذا الحديث:"فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلتَ، فدعا بقدَح من ماء بعد العصر"، وله من طريق عبد الوهّاب الثقفيّ، عن جعفر:"ثم شَرِبَ، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة"، واستَدَلّ بهذا الحديث على تحتم الفطر في السفر، ولا دلالة فيه، كما سيأتي بيانه، أفاده في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دليلٌ لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان،

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 335.

ص: 74

وفيه أن المسافر له أن يصوم بعض رمضان دون بعض، ولا يلزمه بصوم بعضه إتمامه، وقد غَلِطَ بعض العلماء كيفَهْم هذا الحديث، فتوهَّم أن الكَدِيد وكُراع الغَمِيم قريب من المدينة، وأن قوله:"فصام حتى بلغ الكَدِيد، وكُرَاع الغَمِيم"، كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائمًا، فلما بلغ كُراع الغميم في يومه أفطر في النهار، قال: واستَدَلّ به هذا القائل على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائمًا له أن يفطر في يومه، ومذهب الشافعيّ والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طَلَع عليه الفجر في السفر، واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة؛ لأن الكَديد وكُراع الغميم على سبع مراحل، أو أكثر من المدينة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قَالَ: وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبِعُونَ الْأَحْدَثَ، فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهَ صلى الله عليه وسلم) يعني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا اختلفت عليهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعارضت يأخذون بالمتأخر، ويجعلون المتقدّم منسوخًا به.

[تنييه]: قوله: "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ " هذا الكلام من قول الزهريّ، وقع مدرجًا عند المصنّف في رواية الليث هذه، قال في "الفتح": هذه الزيادة التي في آخره من قول الزهريّ وقعت مدرجة عند مسلم من طريق الليث، عن الزهريّ، وأخرجه بعده من طريق سفيان، عن الزهريّ، قال: مثله، قال سفيان: لا أدري من قول من هو؟، ثم أخرجه من طريق معمر، ومن طريق يونس، كلاهما عن الزهريّ، وبَيّنا أنه من قول الزهريّ، وبذلك جزم البخاريّ في "كتاب الجهاد" من "صحيحه"، وظاهره أن الزهريّ ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ، ولم يوافق على ذلك، كما سيأتي قريبًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر كلام ابن شهاب: أن الذي استَقَرّ عليه أمره صلى الله عليه وسلم إنما كان: الفطر في السفر، وأن الصوم السابق منسوخ.

وهذا الظاهر ليس بصحيح، بدليل الأحاديث الآتية بعد هذا؛ فإنها تدل على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صام بعد ذلك في السفر، وأصحابه كذلك، وخيّر فيه، ومِن

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 230 - 231.

ص: 75

أدلّ ذلك قول أبي سعيد رضي الله عنه: ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما أخرجه النسائي عن عائشة رضي الله عنها: أنها سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قصرتَ وأتممتُ، وأفطرتَ وصمتُ، فقال:"أحسنتِ يا عائشة"، وما عابه عليّ.

ويمكن أن يُحْمَل قول الزهريّ على أنه أراد أن يخبر بقاعدتهم الكلية الأصولية في الاقتداء بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما تحققت فيه المعارضة، لا في هذا الموضع؛ فإنه لم تتحقق فيه المعارضة، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ: رحمه الله: قوله: "يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ، فَالْأَحْدَثَ إلخ " هذا محمول على ما عَلِموا منه النسخ، أو رجحان الثاني مع جوازهما، وإلا فقد طاف صلى الله عليه وسلم على بعيره، وتوضأ مرةً مرةً، ونظائر ذلك من الجائزات التي عَمِلها مرةً، أو مرات قليلة؛ لبيان جوازها، وحافظ على الأفضل منها. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 2604 و 2605 و 2606 و 2607 و 2608 و 2609](1113)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1944 و 1948) و"الجهاد"(2953) و"المغازي"(4275 و 4276 و 4277 و 4278 و 4279)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 189)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1661)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 294)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7762)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2716)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 271)(2716)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 15)، و (الحميديّ) في "مسنده"(514)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 219 و 259 و 325 و 334)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 9)، و (الطحاويّ)

(1)

"المفهم" 3/ 177 - 178.

ص: 76

في "شرح معاني الآثار"(2/ 64)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2036)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3555 و 3563 و 3564 و 3566)، و (الطبرانيّ) في " الأوسط"(1/ 175)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 238)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 240 - 241 و 246) و"المعرفة"(3/ 388)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4/ 240)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز الفطر في رمضان للمسافر.

2 -

(ومنها): إباحة السفر في رمضان، وفي ذلك ردُّ قولِ من قال: ليس لمن ابتدأ صيام رمضان في الحضر أن يسافر، فيفطرَ، لقول الله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ورَدُّ قولِ من قال: إن المسافر في رمضان إن صام بعضه في الحضر، لم يجز له الفطر في سفره، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن للمسافر أن يُفطر في أثناء النهار، ولو استَهَلّ

(2)

رمضانَ في الحضر، والحديث نصٌّ في الجواز؛ إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم استَهَلّ رمضانَ في عام غزوة الفتح، وهو بالمدينة، ثم سافر في أثنائه.

4 -

(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على أن للمرء أن يفطر، ولو نوى الصيام من الليل، وأصبح صائمًا فله أن يفطر في أثناء النهار، وهو قول الجمهور، وقَطَع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر، وكأنّ مستند قائله ما وقع في البويطيّ من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر، فأما لو نوى الصوم، وهو مقيم، ثم سافر في أثناء النهار، فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟، منعه الجمهور، وقال أحمد، وإسحاق بالجواز، واختاره المزنيّ؛ مُحْتَجًّا بهذا الحديث؛ ظنًّا منه أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، وليس كذلك، فإن بين المدينة والكديد عِدَّة أيام، وأبلغ من ذلك ما رواه ابن أبي

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 9/ 65.

(2)

بالبناء للفاعل، والأكثر في الاستعمال بناؤه للمفعول.

ص: 77

شيبة، والبيهقيّ عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا أراد السفر يفطر في الحضر قبل أن يَرْكَب، ثم لا فرق عند المجيزين في الفطر بكل مُفَطِّر، وفرّق أحمد في المشهور عنه بين الفطر بالجماع وغيره، فمنعه في الجماع، قال: فلو جامع فعليه الكفارة، إلا إن أفطر بغير الجماع قبل الجماع.

واعترض بعض المانعين في أصل المسألة، فقال: ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فَيَحْتَمِل أن يكون نوى أن يصبح مُفطرًا، ثم أظهر الإفطار؛ ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهرٌ في أنه صلى الله عليه وسلم كان أصبح صائمًا، ثم أفطر، قاله في "الفتح".

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله هذا البعض عجيب منه، فلو سلّمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم ينو ليلًا، فبماذا يُجيب عن حال الصحابة؟ فإنهم أفطروا بعدما نووا الصيام بلا شكّ.

ومما يُرَدّ به عليه أيضًا ما أخرجه النسائيّ وغيره، وصححه ابن خزيمة، من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظهران، فأُتي بطعام، فقال لأبي بكر وعمر: ادْنُوَا، فكلا، فقالا: إنا صائمان، فقال:"اعملوا لصاحبيكم، ارحلوا لصاحبيكم، ادنوا فكلا"، قال ابن خزيمة: فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مُضِيّ بعض النهار. انتهى.

والحاصل أن الصواب ما ذهب إليه الجمهور من جواز الفطر للمسافر أثناءَ النهار، وإن نوى الصوم من الليل، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخًا ومنسوخًا، وهذا أمر مجمعٌ عليه، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم الصوم في السفر:

قال في "الفتح": قد اختلف السلف في هذه المسألة، فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل مَن صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر؛ لظاهر قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]،

(1)

"التمهيد" 9/ 69.

ص: 78

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"، ومقابلُ البرّ الإثم، وإذا كان آثمًا بصومه لم يجزئه، وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحُكِي عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة، والزهريّ، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهم.

واحتَجُّوا بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] الآية، قالوا: ظاهره فعليه عدّة، أو فالواجب عدّة، وتأوّله الجمهور بأن التقدير: فأفطر فعدّة.

ومقابل هذا القول قول مَن قال: إن الصوم في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك، أو المشقة الشديدة، حكاه الطبريّ عن قوم.

وذهب أكثر العلماء، ومنهم: مالكٌ، والشافعيّ، وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قَوِيَ عليه، ولم يشقّ عليه.

وقال كثير منهم: الفطر أفضل؛ عملًا بالرخصة، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق.

وقال آخرون: هو مخيّر مطلقًا، وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] الآية، فإن كان الفطر أيسر عليه، فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر، كمن يَسْهُل عليه حينئذ، ويشقّ عليه قضاؤه بعد ذلك، فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.

قال الحافظ: والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتدّ عليه الصوم، وتضرر به، وكذلك من ظُنّ به الإعراض عن قبول الرخصة، كما تقدم نظيره في المسح على الخفين، وفي تعجيل الإفطار.

وقد رَوَى أحمد من طريق أبي طعمة، قال: قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله، كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة، وهذا محمول على مَن رَغِب عن الرخصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن رَغِبَ عن سنتي، فليس مني"، وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبريّ، من طريق مجاهد، قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكْفُوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك،

ص: 79

وقالوا: فلان صائم، فلا تزال كذلك، حتى يذهب أجرك، ومن طريق مجاهد أيضًا عن جنادة بن أمية، عن أبي ذرّ رضي الله عنه نحو ذلك، وقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه نحو هذا مرفوعًا حيث قال كليلى للمفطرين حيث خَدَموا الصُّوَّام:"ذهب المفطرون اليوم بالأجر".

واحتَجّ من منع الصوم أيضًا بما وقع في آخر هذا الحديث أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم، وزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخٌ.

وتُعُقّب أوّلًا بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهريّ، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر، من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام، ونَسَبَ من صام إلى العصيان، ولا حجة في شيء من ذلك؛ لأنه سيأتي لمسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونحن صيام، فنزلنا منزلًا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنكم قد دنوتم من عدوّكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا"، فكانت رخصةً، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فنزلنا منزلًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنكم مُصَبِّحو عدوّكم، فالفطر أقوى لكم، فأفطروا"، فكانت عزيمةً، فأفطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا الحديث نصّ في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان؛ لأنه عزم عليهم، فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شقّ عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يَحتاج إلى الفطر؛ للتقوي به على لقاء العدوّ.

وروى الطبريّ في "تهذيبه" من طريق خيثمة: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصوم في السفر، فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال: فقلت له: فأين هذه الآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]؟، فقال: إنها نزلت، ونحن نرتحل جياعًا، وننزل على غير شِبَعٍ، وأما اليوم فنرتحل شِبَاعًا، وننزل على شِبَع، فأشأر أنس رضي الله عنه إلى الصفة التى يكون فيها الفطر أفضل من الصوم.

وأما الحديث المشهور: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"، فقد أخرجه ابن ماجه مرفوعًا، من حديث ابن عمر رضي الله عنها بسند ضعيف، وأخرجه

ص: 80

الطبريّ من طريق أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا أيضًا، وفيه ابن لَهِيعة، وهو ضعيف، ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة، عن أبيه، مرفوعًا، والمحفوظ عن أبي سلمة، عن أبيه موقوفًا، كذلك أخرجه النسائيّ، وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على ما تقدم أوّلًا حيث يكون الفطر أولى من الصوم، والله أعلم.

وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"، فسيأتي قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

قال الجامع عفا الله: قد تبيّن مما سبق أن الأرجح في هذه المسألة قول من قال: إنه يجوز الصوم والفطر للمسافر، وأن الأفضل منها هو ما كان أيسر عليه، من الفطر، أو الصوم، وقد سبق أنه مذهب عمر بن عبد العزيز رحمه الله، واختاره ابن المنذر رحمه الله؛ لأن الله تعالى شرع الفطر للمرض والسفر بقوله:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ثم أتبعه بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]؛ بيانًا لحكمة تشريع الفطر للأمرين المذكورين، فكلّ ما كان أيسر على المكلّف كان هو محلّ إرادة الشارع الحكيم.

والحاصل أن من كان الصوم أيسر عليه من الفطر في حال السفر، وشقّ عليه قضاؤه بعده يكون الصوم في حقّه أفضل، ومن كان الصوم عليه أشقّ، فالفطر في حقّه أفضل، وكذا من ثقُل على قلبه قبول رخصة الله تعالى، فإن الفطر في حقّه أفضل، وأما من لم يتحقق المشقة، فإنه يخيّر بين الصوم والفطر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في مسافر يدخل يومه في الحضر مفطرًا:

قال في "التمهيد": اختلفوا في المسافر يكون مفطرًا في سفره، ويدخل الحضر في بقية من يومه ذلك، فقال مالك، والشافعيّ، وأصحابهما، وهو قول ابن عُلَيّة، وداود في المرأة تَطْهُرُ، والمسافر يَقْدَم، وقد أفطرا في السفر: إنهما يأكلان، ولا يمسكان، قال مالك، والشافعيّ: ولو قَدِمَ مسافر في هذه الحال، فوجد امرأته قد طَهُرت جاز له وطؤها، قال الشافعيّ: أُحِبّ لهما أن يستترا

ص: 81

بالأكل والجماع؛ خوفَ التُّهْمَة، وروى الثوريّ عن أبي عبيد، عن جابر بن زيد أنه قَدِمَ من سفر في شهر رمضان، فوجد المرأة قد اغتسلت من حيضتها، فجامعها، ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من أكل أول النهار، فليأكل آخره، قال سفيان: هو كصنيع جابر بن زيد، ولم يذكر سفيان عن نفسه خلافًا لهما، وقال ابن علية: القول ما قال ابن مسعود: مَن أكل أول النهار فليأكل آخره.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والحسن بن حيّ، وعبيد الله بن الحسن في المرأة تَطْهُر في بعض النهار، والمسافر يَقْدَم، وقد أفطر في سفره: إنهما يمسكان بقية يومهما، وعليهما القضاء، واحتَجّ لهم الطحاويّ بأن قال: لم يختلفوا أن من غُمّ عليه هلال رمضان، فأكل، ثم عَلِمَ أنه يمسك عما يمسك عنه الصائم، قال: فكذلك الحائض والمسافر.

وفَرّق ابن شُبْرُمة بين الحائض والمسافر، فقال في الحائض: تأكل، ولا تصوم إذا طهرت بقية يومها، والمسافر إذا قَدِمَ، ولم يأكل شيئًا يصوم يومه، ويقضي.

قال أبو عمر: قد رَوَى ابن جريج، عن عطاء في الذي يُصبح مفطرًا في أول يوم من رمضان، يظنه من شعبان، فيأكل، ثم يأتيه الخبر الثبت أنه رمضان، أنه يأكل ويشرب بقية يومه إن شاء، ولا نعلم أحدًا قاله غير عطاء، والله أعلم. انتهى كلام ابن البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الأولون من عدم وجوب الإمساك على المسافر إذا وصل بلده أثناء النهار مفطرًا، وكذا الحائض إذا طهرت أثناء النهار هو الذي يظهر رجحانه؛ لأنهما ليسا أهلًا للوجوب في أول النهار، وأما قياس من قاسهما على من بلغه ثبوت الهلال أثناء النهار، حيث يجب عليه أن يصوم، فليس بصحيح؛ لأن هذا أهل للوجوب في أول النهار، وإنما أكل لعدم علمه بثبوت الهلال، فليس مثلهما، وإنما هو مثل من أكل ناسيًا، فإنه يُعذر بذلك، ويصوم، فتامله حقّ التأمّل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 22/ 52 - 54.

ص: 82

[2605]

(

) - (حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ يَحْيى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَن سُفْيَانَ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، قَالَ يَحْيَى: قَالَ سُفْيَانُ: لَا أَدْرِي مِنْ قَوْلِ مَنْ هُوَ؟ يَعْنِي: وَكَانَ يُؤْخَذُ بِالآخِرِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بكير، تقدّم قريبًا.

3 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (لَا أدْرِي مِنْ قَوْلِ مَنْ هُوَ؟) سيأتي في رواية معمر أنه من قول الزهريّ، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده" (1/ 238):

(514)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهريّ قال: سمعت عبيد الله، يحدث عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة عام الفتح، في شهر رمضان، فصام حتى إذا بلغ الكديد أفطر، قال: وإنما يؤخذ بالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سفيان: لا أدري قاله الزهريّ عن عبيد الله، أو عن ابن عباس. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2606]

(

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ الزهْرِيُّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْآخِرِ، فَالآخِرِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَصَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ).

ص: 83

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

و"الزهريّ" ذُكر قبله.

وقوله: (فَصَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ) أي أتاهم صباحًا.

وقوله: الِثَلَاثَ عَشْرَةَ

إلخ) هكذا في هذه الرواية، وسيأتي ما يُخالفها، في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، ففي رواية:"لستّ عشرة مضت من رمضان"، وفي رواية:"لثمان عشرة خلت"، وفي رواية سعيد:"في ثنتي عشرة"، ولشعبة:"لسبع عشرة، أو تسع عشرة"، وروى أحمد بإسناد صحيح من طريق قَزَعَة بن يحيى، عن أبي سعيد قال:"خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان"، قال في "الفتح": وهذا يدلّ أنه أقام في الطريق اثني عشر يومًا، وأما ما قال الواقديّ: إنه خرج لعشر خلون من رمضان، فليس بقويّ؛ لمخالفته ما هو أصح منه.

قال: وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخرى، منها عند مسلم:"لستّ عشرة"، ولأحمد:"لثماني عشرة"، وفى أخرى:"لثنتى عشرة".

قال: والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى، والأخرى على ما بقي، والذي في المغازي:"دخل لتسع عشرة مضت"، وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى بالشك "في تسع عشرة، أو سبع عشرة"، وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق، عن جماعة من مشايخه أن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حُمِل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير. انتهى

(1)

.

وقوله: (خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ) أي مضت منه.

[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها عبد بن حُميد رحمه الله في "مسنده" (1/ 216) فقال:

(1)

"الفتح" 9/ 386 كتاب "المغازي" رقم (4279).

ص: 84

(645)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة، ومعه عشرة آلاف من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى إذا بلغ الكَدِيد، وهو ما بين عُسفان وقُدَيد أفطر، وأفطر المسلمون معه، فلم يصوموا من بقية رمضان شيئًا، قال الزهريّ: فكان الفطر آخر الأمرين، قال الزهريّ: وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر، قال الزهريّ: فصبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خَلَتْ من رمضان. انتهى.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، واللُّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2607]

(

) - (وحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْثِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانُوا يَتَبِعُونَ الْأَحْدَثَ، فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَرَوْنَهُ النَّاسِخَ الْمُحْكَمَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

و"ابن شهاب" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية يونس، عن الزهريّ هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 193) فقال:

(2522)

- حدّثنا محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن الحسن، ثنا حرملة بن يحيى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، قال ابن شهاب: وكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، وَيرَوْنه الناسخ المحكم. انتهى.

ص: 85

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2658]

(

) - وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سَافَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثمَّ دَعَا بِإنَاء فِيهِ شَرَابٌ، فَشَرِبَهُ نَهَارًا؛ لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أفطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَصَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأفطَرَ، فَمَنْ شَاءَ

(1)

صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(مُجَاهِدُ) بن جبر المخزوميّ، أبو الحجاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ إمام [3](ت 101) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

5 -

(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيريّ مولاهم، أبو عبد الرحمن اليمانيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 106) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

و"ابْنُ عَبَّاس" رضي الله عنهما ذُكر قبله.

[تنبيه]: قوله في هذه الرواية: "عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما "، وكذا هو عند البخاريّ، قال في "الفتح": كذا عنده من طريق أبي عوانة، عن منصور، عن مجاهد، وكذا أخرجه من طريق جرير، عن منصور، في "المغازي"، وأخرجه النسائي من طريق شعبة، عن منصور، فلم يذكر طاوسًا في الإسناد، وكذا أخرجه من طريق الْحَكَم، عن مجاهد، عن ابن

(1)

وفي نسخة: "من شاء".

ص: 86

عباس، فَيَحْتَمِل أن يكون مجاهد أخذه عن طاوس، عن ابن عباس، ثم لقي ابنَ عباس، فحمله عنه، أو سمعه من ابن عباس، وثَبَّته فيه طاوس، وقد تقدم نظير ذلك في حديث ابن عباس في قصة الجريدتين على القبرين في "الطهارة". انتهى.

وقوله: (سَافَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ) أي في عام الفتح، وفي رواية البخاريّ: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عُسفان

".

وقوله: (حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ) بضمّ العين، وسكون السين المهملتين: موضع بين مكة والمدينة، ويُذكّر ويؤنّث، قال الفيّوميّ: ويُسمّى في زماننا مَدْرَجَ عثمان، وبينه وبين مكة نحو ثلاث مراحل، ونونه زائدة. انتهى.

وقد تقدّم الجمع بين هذا، وبين قوله:"حتى بلغ الكديد"، وقوله الآتي:"حتى بلغ كُراع الغَمِيم" في شرح الحديث الماضي، فتنبّه.

وقوله: (لِيَرَاهُ النَّاسُ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، و"الناسُ" بالرفع على الفاعلية، وفي رواية المستمفي:"لِيُرِيه" بضم أوله، وكسر الراء، وفتح التحتانية و"الناسَ" بالنصب على المفعولية، وَيحْتَمِل أن يكون الناسخ كتب "ليراه الناسُ" بالياء، فلا يكون بين الروايتين اختلاف. انتهى.

وقوله: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَصَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

إلخ)، وفي رواية البخاريّ: "فكان ابن عبّاس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفطر

"، فَهِمَ ابنُ عباس رضي الله عنهما من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك أنه لبيان الجواز، لا للأولوية، وسيأتي في حديث أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما ما يوضح المراد.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعًا

(1)

. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 232.

ص: 87

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2659]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: لَا تَعِبْ عَلَى مَنْ صَامَ، وَلَا عَلَى مَنْ أفْطَرَ، قَدْ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ، وَأفطَرَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل بابين.

2 -

(وَكِيعُ) بن الْجرّاح، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قبل بابين.

4 -

(عَبْدُ الْكَرِيمِ) بن مالك الأمويّ مولاهم، أبو سعيد الْجَزَريّ الْحَرّانيّ، مولى بني أمية، ويقال له: الْخِضْرميّ -بالخاء المعجمة المكسورة- وهي من قرى اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [5]

(1)

.

رَأَى أنسًا، وروى عن عطاء، وعكرمة، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وطاووس، وغيرهم.

وروى عنه أيوب السَّخْتيانيّ، وهو من أقرانه، وابن جريج، ومالك، ومعمر، ومِسْعَر، وزهير بن معاوية، وإسرائيل بن يونس، وغيرهم.

قال أحمد: ثقةٌ ثبتٌ، وهو أثبت من خُصَيف، وهو صاحب سنّة، وقال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: ثقةٌ ثبثٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال ابن عمار، والعجليّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغير واحد: ثقةٌ، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: ثقةٌ، أخذ عنه الأكابر، قال سفيان: ما رأيت غرببًا أثبت منه، وقال يعقوب بن شيبة: هو إلى الضعف ما هو، وهو صدوق، وقد رَوَى عنه مالك، وكان ممن ينقي الرجال، وقال

(1)

جعله في "التقريب" من السادسة، والظاهر أنه من الخامسة مثل الأعمش؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه مثله، كما ذُكر في ترجمته هنا، فتنبّه.

ص: 88

الحميديّ، عن سفيان: كان حافظًا، وكان من الثقات، لا يقول: إلا سمعت، وحدّثنا، ورأيت، وقال الثوريّ لابن عيينة: أرأيت عبد الكريم الجزريّ، وأيوب، وعمرو بن دينار؟ فهؤلاء ومن أشبههم ليس لأحد فيهم متكلَّمٌ، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: حديث عبد الكريم، عن عطاء رديء، قال ابن عديّ: يعني عن عائشة كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقبّلها، ولا يُحْدِث وضوءًا، إنما أراد ابن معين هذا؛ لأنه ليس بمحفوظ، ولعبد الكريم أحاديث صالحة مستقيمة، يرويها عن قوم ثقات، وإذا روى عنه الثقات، فأحاديثه مستقيمة، وقال النسائيّ: أنا إبراهيم بن يعقوب، عن أحمد، قال: قلت لعليّ -يعني ابن المدينيّ-: عبد الكريم إلى من تضمُّه؟ قال: ذاك ثبت، قلت: هو مثل ابن أبي نجيح؟ قال: ابن أبي نجيح أعلم بمجاهد، وهو أعلم بالمشايخ، وهو ثقةٌ ثبتٌ، وقال عبد الله بن عمرو الرّقّيّ: قال لي سفيان بن سعيد: يا أبا وهب، لقد جاءنا صاحبكم عبد الكريم الجزريّ بأحاديث، لو حدَّث بها هؤلاء الكوفيون ما زالوا يفتخرون بها علينا، منها:"الندم توبةٌ". وقال أبو عروبة: هو ثبتٌ عند العارفين بالنقل، وقال ابن نمير، والترمذيّ، وأبو بكر البزار، وابن الْبَرْقيّ، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال سفيان الثوريّ: ما رأيت أفضل منه، كان يحدِّث بشيء لا يوجد إلا عنده، فلا يُعْرَف ذلك فيه؛ يعني لا يفتخر، وقال ابن عبد البرّ: كان ثقةً مأمونًا، كثير الحديث، وقال صالح بن أحمد، عن عليّ ابن المدينيّ: قلت ليحيى بن سعيد: حدَّث عبد الكريم عن عطاء في لحم البغل؟، فقال: ما سمعته، وأنكره يحيى.

وقال ابن سعد، وغير واحد: مات سنة سبع وعشرين ومائة.

وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، برقم (1113) و (1201) و (1317) وأعاده بعده و (1646) و (2471).

والباقيان ذُكرا قبله، وشرح الحديث واضح، وهو بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، وإلا فأصل حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما متّفق عليه، كما مرّ قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 89

(16) - (بَابُ وُجُوبِ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وَتَضَرَّرَ بِهِ)

(1)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2610]

(1114) - (حَدَّثَنى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، يَعْنى ابْنَ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ركِبها: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ، فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَرَفَعَهُ حَتى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِن بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أولَئِكَ الْعُصَاةُ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ) الثقفيّ، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(جَعْفَرُ) بن محمد المعروف بالصادق الهاشميّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ إمامٌ [6](ت 148)(بخ م 4) تقدم في "الحيض" 10/ 749.

4 -

(أَبُوهُ) محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب المعروف بالباقر، أبو جعفر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [4] مات سنة بضع (110)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

(1)

ترجم القرطبيّ رحمه الله في مختصره بقريب من هذه الترجمة، ولم يترجم النووي هنا.

ص: 90

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى جعفر، فأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد".

3 -

(ومنها): أن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد نظمتهم بقولي:

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي

وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثَنَى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

وقد تقدّموا غير مرّة، وإنما أعدتهم؛ تذكيرًا؛ لطول العهد بهم.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من جعفر، والباقيان بصريّان.

5 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه ذو مناقب جمّة، فهو ابن صحابيّ، وغزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وهو من المعمّرين، كما سبق آنفًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْن عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ) أي سنة غزوة الفتح (إِلَى مَكَّةَ، فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيم) بضمّ الكاف، وفتح الغين المعجمة.

قال ابن الأثير رحمه الله: كُرَاعُ الغَمِيم: هو: اسم موضع بين مكة والمدينة، والْكُرَاع: جانبٌ مستطيلٌ من الْحَرَّة؛ تشبيهًا بالكُرَاع، وهو ما دون الرُّكبة من الساق، و"الْغَمِيمُ " بالفتح: وادٍ بالحجاز. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وكُرَاعُ الْغَمِيم، وزانُ كَرِيم: وادٍ بينه وبين المدينة نحو مائة وسبعين مِيلًا، وبينه وبين مكة نحو ثلاثين ميلًا، ومن عُسفان إليه ثلاثة

(1)

"النهاية" 4/ 165.

ص: 91

أميال، وكُراعُ كلِّ شيءٍ: طَرَفُهُ. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الغميم" -بفتح الغين-: وادٍ أمام عُسفان بثمانية أميال. و"كُرَاع" جبل أسود هناد يُضاف إلى "الغَمِيم"، والكُراع لغة: هو كلّ أنفٍ مالَ من جبل أو غيره. انتهى.

وفي حديث ابن عباس المتقدّم: "حتى بلغ الْكَديد"، وفي رواية:"حتى أتى قُدَيدًا"، وفي رواية:"حتى أتى عُسفان"، قال القرطبيّ بعد أن ساق هذه الروايات ما نصّه: وهذه الأحاديث المشتملة على ذكر هذه المواضع الثلاثة

(2)

كلها ترجع إلى معنى واحد، وهي حكاية حاله صلى الله عليه وسلم عند سفره في قدومه إلى مكة، وكان في رمضان في سنة عشرة منه، كما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وهذه المواضع متقاربة، ولذا عبّر كلّ واحد من الرواة بما حضر له من تلك الموضع؛ لتقاربها. انتهى

(3)

.

(فَصَامَ النَّاسُ) أي اقتداءً به صلى الله عليه وسلم حيث صام، وفيه دليل على جواز الصوم في السفر، وهو مذهب الجمهور، وهو الحقّ، وقد تقدّم تمام البحث فيه. (ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ) بفتحتين: إناءٌ يُرْوي الرجلين، جمعه أَقْداح، كسبب وأسباب

(4)

. (مِنْ مَا، فَرَفَعَهُ) أي إلى فيه، وقوله:(حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ) غاية لرفعه، وفيه بيان سبب الرفع، فكأنه قال: إنما رفعه لأجل أن يراه الناس.

وفي رواية البخاريّ في "المغازي" من طريق خالد الحذّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:"خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، والناس صائم، ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن، أو ماء، فوضعه على راحلته، ثم نظر الناس"، زاد في رواية أخرى من طريق طاوس، عن ابن عباس:"ثم دعا بماء، فشرب نهارًا ليراه الناس".

وعند الطحاويّ من طريق أبي الأسود، عن عكرمة أوضح من سياق خالد، ولفظه: "فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس شقّ عليهم الصيام، فدعا بقدح

(1)

"المصباح المنير" 2/ 454.

(2)

هذا بالنسبة لما ذكره، وأما هنا فهي أربعة، فتنبّه.

(3)

"المفهم، 3/ 175.

(4)

راجع: "القاموس" 1/ 241.

ص: 92

من لبن، فأمسكه بيده حتى رآه الناس، وهو على راحلته، ثم شرب، فأفطر، فناوله رجلًا إلى جنبه، فشرب"

(1)

.

(ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ) لم يُعرف القائل

(2)

. (بَعْدَ ذَلِكَ) أي بعد أن أفطر، وحثّ الناس على الفطر (إِن بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ) أي ظنًّا منهم أن الفطر رخصةٌ، ورأوا أن لهم قوّةً على الصوم.

وفي الرواية التالية: "فقيل له: إن الناس قد شقّ عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلتَ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر"(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ") مبتدأ وخبره، هكذا وقع عند المصنّف مكررًا مرتين؛ للتأكيد.

وفي رواية النسائيّ: "فأفطر بعض الناس، وصام بعضٌ، فبلغه أن ناسًا صاموا، فقال: أولئك العصاة".

قال الإمام ابن حبّان رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أولئك العصاة" إنما أَطْلَق عليهم هذه اللفظة بتركهم الأمر الذي أَمَرَهم به، وهو الإفطار، لا أنهم صاروا عُصَاة بصومهم في السفر.

وقال في موضع آخر: سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العصاة بتركهم الأمر الذي أمرهم بالإفطار في السفر؛ لِيَقْوَوْا به، لا أنهم عُصاة بصومهم في السفر؛ إذ الصوم والإفطار في السفر جميعًا طَلْقٌ مُباحٌ. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وهذا محمول على من تضرر بالصوم، أوأنهم أُمِروا بالفطر أمرًا جازمًا؛ لمصلحة بيان جوازه، فخالفوا الواجب، وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيًا إذا لم يتضرر به، ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية:"إن الناس قد شقّ عليهم الصيام". انتهى

(4)

.

[تنبيه]: أخرج ابن حبّان رحمه الله هذا الحديث في "صحيحه" مطوّلًا (6/ 423) فقال:

(2706)

- أخبرنا أبو يعلى، قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبيان، قال: حدّثنا عبد الوهاب الثقفيّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 690 - 691.

(2)

راجع: "تنبيه المعلم"(ص 203).

(3)

"صحيح ابن حبان" 8/ 318 - 319.

(4)

"شرح النوويّ" 7/ 232 - 233.

ص: 93

رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، حتى بلغ كُرَاع الْغَمِيم، قال: فصام الناس، وهم مشاةٌ ورُكبان، فقيل له: إن الناس قد شَقّ عليهم الصوم، إنما ينظرون ما تفعل، فدعا بقدح، فرفعه إلى فيه حتى نظر الناس، ثم شَرِب، فأفطر بعض الناس، وصام بعضٌ، فقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن بعضهم صام، فقال:"أولئك العصاة"، واجتمع المشاةُ من أصحابه، فقالوا: نتعرض لدعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتدّ السفر، وطالت المشقّة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعينوا بالنَسْل

(1)

، فإنه يقطع عَلَمَ الأرض، وتَخِفُّون له"، قال: ففعلنا، فخَفَفْنا له

(2)

. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 2610 و 2611، (1114)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(710)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 177) و"الكبرى"(2/ 101)، و (الشا فعيّ) في "المسند"(1/ 270)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1289)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1667)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2019)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2707 و 3549)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 194)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 65)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 121)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 241 و 246) و"المعرفة"(3/ 391)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): وجوب الفطر على من تضرّر به.

(1)

"النَّسْلُ": هو الإسراع في المشي.

(2)

وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"(2537)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 443) وصححه، ووافقه الذهبيّ.

ص: 94

2 -

(ومنها): جواز الفطر في رمضان للمسافر.

3 -

(ومنها): جواز الفطر أثناء النهار لمن بات ناويًا للصوم.

4 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة بأمته.

5 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من متابعته صلى الله عليه وسلم، ولو شقّ عليهم ذلك.

6 -

(ومنها): سماحة الشريعة، وسهولة تكاليفها، حيث أباحت الفطر للمسافر، وخففت شطر الصلاة، لما يلحقه من التعب بسبب عناء السفر.

7 -

(ومنها): أن من لم يقبل رخصة الشرع في مواضع الترخيص، وأبى إلا العزيمة، يكون عاصيًا بسبب إعراضه عن قبول رخصة الله تعالى، فإن الرخصة في مواضعها لا تقلّ عن العزيمة في مواضعها، فإتيانها كإتيانها، والإعراض عنها كالإعراض عنها.

فقد أخرج أحمد في "مسنده"، والبيهقيّ في "سننه"، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والطبرانيّ في "معجمه الكبير" من حديث ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم، مرفوعًا:"إن الله تعالى يُحبّ أن تُؤْتَى رُخَصُه، كما يُحبّ أن تؤتى عزائمه"، وأخرج أحمد، وابن حبان في "صحيحه"، والبيهقيّ في "شعب الإيمان"عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعًا أيضًا:"إن الله تعالى يحبّ أن تُوتَى رُخَصُهُ، كما يَكْرَه أن تُؤْتَى معصيته"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2611]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنْ جَعْفَرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدّحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيز الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد بن عُبيد الْجُهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوق كان يُحدّث من كُتُب غيره فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

ص: 95

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (وَزَادَ) فاعله ضمير عبد العزيز.

وقوله: (فَقِيلَ لَهُ

إلخ) مفعول "زاد" منصوب محكيّ؛ لقصد لفظه.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز الدراورديّ، عن جعفر هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" (3/ 146) فقال:

(644)

- حدّثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كُرَاع الْغَمِيم، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شَقّ عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلتَ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغة أن ناسًا صاموا، فقال:"أولئك العصاة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2612]

(1115) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَرَأَى رَجُلًا، قَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا لَهُ؟ "، قَالُوا: رَجُلٌ صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد، تقدم قبل بابين.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ) تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قبل بابين.

ص: 96

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ) بن زُرَارة الأنصاريّ المدنيّ، وهو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، ويقال: ابن محمد بدل عبد الله، ومنهم من ينسبه إلى جدّه لأمه، فيقول: محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرارة، ثقةٌ [6](ت 124)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 15/ 1684.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ) بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ المدنيّ، ثقةٌ [4](خ م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 41/ 1461.

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فرّق؛ لما تقدّم غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، ومحمد بن عمر، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ) قال في "الفتح": أدخل محمد بن عبد الرحمن بن سعد بينه وبين جابر محمدَ بنَ عمرو بن الحسن في رواية شعبة عنه، واختُلِف في حديثه على يحيى بن أبي كثير، فأخرجه النسائيّ من طريق شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعيّ، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، حدّثني جابر بن عبد الله، فذكره، قال النسائيّ: هذا خطأٌ، ثم ساقه من طريق الْفِرْيابيّ، عن الأوزاعيّ، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، حدّثني من سمع جابرًا، ومن طريق عليّ بن المبارك، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رجل، عن جابر، ثم قال:"ذكرُ تسمية هذا الرجل المبهم"،

ص: 97

فساق طريق شعبة، ثم قال: هذا هو الصحيح؛ يعني إدخال رجل بين محمد بن عبد الرحمن وجابر.

وتعقبه المزّيّ، فقال: ظَنَّ النسائيّ أن محمد بن عبد الرحمن شيخ شعبة في هذا الحديث هو محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى بن أبي كثير فيه، وليس كذلك؛ لأن شيخ يحيى هو محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وشيخ شعبة هو ابن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة. انتهى. قال الحافظ: والذي يترجح في نظري أن الصواب مع النسائيّ؛ لأن مسلمًا لَمّا روى الحديث من طريق أبي داود، عن شعبة، قال في آخره: قال شعبة: كان بلغني هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، أنه كان يزيد في هذا الإسناد في هذا الحديث:"عليكم برخصة الله التي رَخَّصَ لكم"، فلما سألته لم يحفظه. انتهى.

والضمير في "سألت" يرجع إلى محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى؛ لأن شعبة لم يَلْقَ يحيى، فدلّ على أن شعبة أُخْبِرَ أنه كان يبلغه عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو، عن جابر في هذا الحديث زيادة، وأنه لَمّا لقي محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى مسألة عنها، فلم يحفظها.

وأما ما وقع في رواية الأوزاعيّ، عن يحيى أنه نسب محمد بن عبد الرحمن، فقال فيه: ابن ثوبان، فهو الذي اعتمده المزيّ، لكن جزم أبو حاتم كما نقله عنه ابنه في "العلل" بأن من قال فيه: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان فقد وَهِمَ، وإنما هو ابن عبد الرحمن بن سعد. انتهى.

وقد اختُلِفَ فيه مع ذلك على الأوزاعيّ، وجُلُّ الرواة عن يحيى بن أبي كثير لم يزيدوا على محمد بن عبد الرحمن، لا يذكرون جدَّه، ولا جدّ جده. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

(1)

"الفتح" 5/ 341 - 342.

ص: 98

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ردّ به الحافظ كلام الحافظ المزّيّ فيه نظرٌ، بل الصواب -والله تعالى أعلم- ما قاله المزّيّ رحمه الله، كما حقّقه الحافظ أبي الحسن ابن القطان رحمه الله في كتابه "بيان الوهم والإيهام"، وقد نقلته في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) وقد تقدّم في حديث جابر صلى الله عليه وسلم الماضي من طريق جعفر، عن أبيه، عنه أن ذلك السفر كان إلى مكة عام الفتح، ولابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم رمضان، فذكر نحوه (فَرَأَى رَجُلًا قَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ) وفي رواية النسائيّ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ناسًا مجتمعين على رجل"(وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول، وفي رواية النسائيّ: "مرّ برجل في ظلّ شجرة، يُرشّ عليه الماء

"، وفي رواية له: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلًا قد ظُلّل عليه في السفر

"، وفي رواية ابن خزيمة: "فشقّ على رجل الصومُ، فجعلت راحلته تَهِيم به تحت الشجرة، فأُخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمره أن يفطر".

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم هذا الرجل -يعني المظلَّل عليه- ولولا ما قدّمته من أن عبد الله بن رواحة استُشهِد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسّر به؛ لقول أبي الدرداء: إنه لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائمًا غير، وزعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل، وعزا ذلك لـ"مبهمات الخطيب"، ولم يقل الخطيب ذلك في هذه القصّة، وإنما أورد حديث مالك، عن حميد بن قيس وغيره: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس، فقالوا: نذر أن لا يستظلّ، ولا يتكلّم، ولا يجلس، ويصوم

" الحديث، ثم قال: هذا الرجل هو أبو إسرائيل القرشيّ العامريّ، ثم ساق بإسناده إلى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فنظر إلى رجل من قريش، يقال له: أبو إسرائيل، فقالوا: نذر أن يصوم، ويقوم في الشمس

" الحديث، فلم يزد الخطيب على هذا، وبين القصّتين مغايرات ظاهرة، أظهرها

ص: 99

أنه كان في الحضر في المسجد، وصاحب القصّة في حديث جابر كان في السفر، تحت ظلال الشجرة، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ: "مَا لَهُ؟ ")"ما" استفهاميّة؛ أي أيُّ شيء أصابه؟، وفي رواية للنسائيّ:"ما بال صاحبكم هذا؟ "(قَالُوا) أي الصحابة الحاضرون الواقعة، ولم يُسَمّوا (رَجُلٌ صَائِمٌ) خبر لمحذوف؛ أي هو رجل صائم (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ") ولفظ البخاريّ: "ليس من البرّ الصوم في السفر"، والمصدر المؤوّل هنا اسم "ليس" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور قبله.

وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله: "ليس من البرّ" فهو كقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] و"من " قد تكون زائدةً، كقولهم: ما جاءني من أحد؛ أي ما جاءني أحد. انتهى.

قال النوويّ رحمه الله: معناه: إذا شَقّ عليكم، وخِفْتم الضرر، وسياق الحديث يقتضي هذا التأويل، وهذه الرواية مبيّنة للروايات المطلقة:"ليس من البر الصيام في السفر"، ومعنى الجميع فيمن تضرر بالصوم. انتهى.

وقد أشار البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى هذا التأويل حيث ترجم عليه، فقال: باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن ظُلِّل عليه، واشتَدّ الحرّ:"ليس من البرّ الصيام في السفر"، قال في "الفتح": أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البرّ الصيام في السفر" ما ذُكِرَ من المشقّة، وأن مَن روى الحديث مجردًا فقد اختَصَر القصّة، وبما أشار إليه من اعتبار شدّة المشقّة يُجْمَع بين حديث الباب، والذي قبله، فالحاصل أن الصوم لمن قَوِي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شقّ عليه الصومِ، أوأعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأنّ من لم يتحقق المشقّة يُخَيَّر بين الصوم والفطر، وقد اختلف السلف في هذه المسألة، قال الإمام الترمذيّ رحمه الله: واختَلَف أهل العلم في الصوم في السفر، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الفطر في السفر

(1)

"الفتح" 5/ 342.

ص: 100

أفضل، حتى رأى بعضهم عليه الإعادة إذا صام في السفر، واختار أحمد وإسحاق الفطر في السفر، وقال بعض أهل العلم، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إن وجد قُوّةً فصام فحسن، وهو أفضل، وإن أفطر فحسن، وهو قول سفيان الثوريّ، ومالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، وقال الشافعي: وإنما معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"، وقوله حين بلغه: أن ناسًا صاموا، فقال:"أولئك العصاة"، فوجه هذا إذا لم يَحْتَمِل قلبه قبول رخصة الله، فأما من رأى الفطر مباحًا، وصام، وقَوِي على ذلك، فهوأعجب إليّ. انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله، وسيأتي إتمام البحث في هذا في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى-.

[تنبيه]: هذا الحديث باللفظ المذكور -أعني: "ليس من البرّ الصيام في السفر" هو المشهور، كما رواه المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، والدارميّ، والطحاويّ، والبيهقيّ، وقد جاء ب "أم" بدل "آل"، روأه الإمام أحمد في "مسنده"(5/ 434)، فقال:

23167 -

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري، وكان من أصحاب السَّقِيفَة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس من امبر امصيام في امسفر". انتهى.

وهذا الإسناد وإن كان صحيحًا، إلا أن الظاهر أنه بهذا اللفظ شاذّ، والمحفوظ هو اللفظ الأول. راجع:"إرواء الغليل"(4/ 58 - 59) للشيخ الألباني رحمه الله، ورواه بإسنادين آخرين باللفظ الأول.

قال الحافظ رحمه الله: وهذه لغة لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميمًا، ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم خاطب بها هذا الأشعريّ؛ لأنها لغته، ويَحْتَمِل أن يكون الأشعريّ هذا نطق بها على ما أَلِفَ من لغته، فحملها الراوي عنه، وأدّاها باللفظ الذي سمعها منه، وهذا الثاني أوجه عندي، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

(1)

"التلخيص الحبير" 2/ 393. طبعة مؤسسة قرطبة.

ص: 101

وقال الزمخشريّ: هي لغة طيّئ، فإنهم يبدلون اللام ميمًا، وقال الجزريّ في "جامع الأصول" (7/ 546): الميم بدل من لام التعريف في لغة قوم من اليمن، فلا ينطقون بلام التعريف، ويجعلون مكانها الميم. انتهى.

وقال ابن هشام الأنصاريّ في "مغني اللبيب" عند الكلام على أقسام "أم" ما نضه: (الرابع): أن تكون للتعريف، نُقِلَت عن طيئ، وعن حمير، وأنشدوا [من الخفيف]:

ذَاكَ خَلِيلِي وَذُو يُوَاصِلُنِي

يَرْمِي وَرَائِي بِامْسَهْمِ وَامْسَلِمَهْ

وفي الحديث: "ليس من امبر امصيام في امسفر"، كذا رواه النمر بن تَوْلَب رضي الله عنه

(1)

، وقيل: إن هذه اللغة مختصّة بالأسماء التي لا تدغم لام التعريف في أولها، نحو غلام، وكتاب، بخلاف رجل، وناس، ولباس، قال: وحَكَى لنا بعض طلبة اليمن أنه سمع في بلادهم من يقول: خذ الرمح، واركب امفرس، ولعلّ ذلك لغة لبعضهم، لا لجميعهم، ألا ترى إلى البيت السابق، وأنها في الحديث دخلت على النوعين. انتهى كلام ابن هشام رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخرجه:

أخرجه (المصتّف) هنا [16/ 2612 و 2613 و 2614](1115)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1946)، و (أبو داود) في "الصوم"(2407)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 177)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 157)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1721)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 14)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 319 و 399)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 9)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2017)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3552)،

(1)

الحديث مشهور بكعب بن عاصم، ولا أدري من أين أخذه ابن هشام؟.

(2)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 48 - 49.

ص: 102

و (الطبريّ) في "تفسيره"(2892) وفي "تهذيب الآثار"(1/ 152)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(399)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 62)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 240) و"الكبير"(12/ 379)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 403 و 4/ 143)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 191)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 195)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 242 - 243) و"المعرفة"(3/ 389)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1764)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في التوفيق بين هذا الحديث، والأحاديث الدالّة على مشروعيّة الصوم في السفر:

قال في "الفتح": وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر"، فسلك المجيزون الصوم في السفر فيه طُرُقًا، فقال بعضهم: قد خَرَجَ على سبب، فيُقْصَر عليه، وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاريّ في ترجمته السابقة، ولذا قال الطبريّ بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعريّ، ولفظه:"سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في حرّ شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة، وهو مضطجعٌ كضِجْعَة الوَجِعِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لصاحبكم؟ أيُّ وجع به؟ "، فقالوا: ليس به وجعٌ، ولكنه صائمٌ، وقد اشتدّ عليه الحرّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ: "ليس البرّ أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رَخَّصَ لكم": فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال.

وقال ابن دقيق العيد: أُخِذ من هذه القصّة أن كراهة الصوم في السفر مختصّة بمن هو في مثل هذه الحالة، ممن يُجهِده الصوم، وَيشُقّ عليه، أو يؤدِّي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم، من وجوه الْقُرَب، فَيُنَزَّل قوله:"ليس من البرّ الصوم في السفر" على مثل هذه الحالة، قال: والمانعون عن الصوم في السفر يقولون: إن اللفظ عامّ، والعبرة بعمومه، لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يُتَنَبَّه للفرق بين دلالة السبب، والسياق، والقرائن على تخصيص العامّ، وعلى مراد المتكلم، وبين مجرّد ورود العامّ على سبب، فإن بين العامّين فرقًا واضحًا، ومن أجراهما مُجْرًى واحدًا لم يُصِبْ، فإن مجرّد ورود

ص: 103

العامّ على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان، وأما السياق، والقرائن الدالة على مراد المتكلم، فهي المرشدة لبيان المجملات، وتعيين المحتمِلات، كما في حديث الباب.

وقال ابن الْمُنَيِّر في "الحاشية" هذه القصة تُشعر بأن مَن اتَّفَقَ له مثل ما اتَفَق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما مَن سَلِمَ من ذلك ونحوه، فهو في جواز الصوم على أصله، والله أعلم.

وحَمَلَ الشافعيّ نفي البرّ المذكور في الحديث على مَن أَبَى قبول الرخصة، فقال: معنى قوله: "ليس من البرّ

" أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم، ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يُفطر، وهو صحيح، قال: ويَحْتَمِل أن يكون معناه: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أَثِمَ، وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول.

وقال الطحاويّ: المراد بالبرّ هنا البرّ الكامل الذي هوأعلى مراتب البرّ، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برًّا؛ لأن الإفطار قد يكون أبرّ من الصوم؛ إذا كان للتَّقَوِّي على لقاء العدوّ مثلًا، قال: وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطوّاف

" الحديث

(1)

، فإنه لم يُرِد إخراجه من أسباب المسكنة كلِّها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يَجِد غنى يُغنيه، ويَستحي أن يسأل، ولا يُفْطَن له. انتهى.

وقال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: فإن قال قائل، ممن يميل إلى قول أهل الظاهر في هذه المسألة: قد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس البرّ"، أو:"ليس من البر الصيامُ في السفر"، وما لم يكن من البرّ فهو من الإثم، واستَدَلّ بهذا على أن صوم رمضان في السفر لا يُجزئ، فالجواب عن ذلك أن هذا الحديث خرج لفظه على شخص معين، وهو رجل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صائم قد ظُلِّل عليه، وهو يجود.

وَيحْتَمِل قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس البر الصيام في السفر" أي ليس هوأبرّ البرّ؛ لأنه قد يكون الإفطار أبرّ منه؛ إذا كان في حجّ، أو جهاد؛ لِيَقْوَى عليه، وقد

(1)

الحديث متّفق عليه.

ص: 104

يكون الفطر في السفر المباح بِرًّا؛ لأن الله أباحه، ونظير هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم قوله:"ليس المسكين الطوّاف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان"، قيل: فمن المسكين؟ قال: "الذي لا يسأل، ولا يَجِد ما يُغنيه، ولا يُفْطَن له، فيتصدقَ عليه"، متّفقٌ عليه، ومعلوم أن الطوّاف مسكين، وأنه من أهل الصدقة؛ إذا لم يكن له شيء غير تطوافه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"رُدُّوا المسكين، ولو بظلف مُحْرَق"، وفي لفظ:"رُدُّوا السائل، ولو بظِلفٍ مُحْرَق"

(1)

، وقالت عائشة رضي الله عنها: إن المسكين ليقف على بابي

الحديث

(2)

، وقال عز وجل:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية، وأجمعوا أن الطوّاف منهم، فعُلِم أن قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين بالطوّاف عليكم"، معناه: ليس السائل بأشدّ الناس مسكنةً؛ لأن المتعفِّف الذي لا يسئل الناس، ولا يُفْطَن له أشدّ مسكنة منه، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس البر الصيام في السفر"، معناه: ليس البرّ كله في الصيام في السفر؛ لأن الفطر في السفر برٌ أيضًا لمن شاء أن يأخذ برخصة الله تعالى.

قال: وأما قوله: "ليس من البرّ" فهو كقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] و"من" قد تكون زائدةً، كقولهم: ما جاءني من أحد؛ أي ما جاءني أحد، والله أعلم.

قال: فأما من احتج بقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] الآية، وزعم أن ذلك عَزْمَةٌ فلا دليل معه على ذلك؛ لأن ظاهر الكلام، وسياقه إنما يدلّ على الرخصة والتخيير، والدليل على ذلك قوله عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآية، ودليل آخر، وهو إجماعهم أن المريض إذا تحامل على نفسه فصام، وأتمّ يومه إن ذلك مجزئ عنه، فدلّ على أن ذلك رخصة له، والمسافر في التلاوة، وفي المعنى مثله، والكلام في هذا أوضح من أن يُحتاج فيه إلى إكثار، والله المستعان. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(3)

.

(1)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ والنسائيّ، وغيرهما.

(2)

أخرجه أحمد، والترمذي بإسناد حسن، من حديث أم بجيد رضي الله عنها، ولم أره من حديث عائشة رضي الله عنها، فليُنظر.

(3)

"التمهيد" 2/ 172.

ص: 105

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من أقوال أهل العلم أن المذهب الراجح هو مذهب الجمهور، وهو أن الصوم والفطر في السفر جائزان مشروعان، وأما حديث:"ليس من البرّ الصوم في السفر"، فمحمول على من تضرّر بالصوم، أو من لا يقبل رخصة الله تعالى في ذلك، فبهذا تجتمع الأحاديث دون أيّ تعارض، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2613]

(

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ، يُحَدِّثُ أنَهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) (خ م د س (تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسَّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، عن شعبة لم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2614]

(

) - (وَحَدثَنَاه أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: قَالَ شُعْبَةُ: وَكَانَ يَبْلُغُنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي هَذَا الإِسْنَادِ: "أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّذِي

(1)

رَخصَ لَكُمْ"، قَالَ: فَلَمَّا سَأَلْتُهُ لَمْ يَحْفَظْهُ).

(1)

وفي نسخة: "التي".

ص: 106

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

و"شعبة" ذُكر قبله.

وقوله: (وَزَادَ) الفاعل ضمير أبي داود.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ

إلخ) مفعول "زاد" محكيّ؛ لقصد لفظه.

وقوله: (وَكَانَ يَبْلُغُنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَني هَذَا الإسنادِ: "أنهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ

" إلخ) المصدر المؤوّل مفعولُ "يزيد".

وقوله: (عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ الله)"عليكم" اسم فعل منقول من الجارّ والمجرور، بمعنى "الْزَمُوا"، و"برخصة الله" الباء زائدة، و"رخصة الله " مفعول به و"عليكم"، وقيل: إن الباء للتعدية، فيكون المعنى: استمسكوا برخصة الله، و"الرخصة" وزان غُرْفة، وتضم الخاء للإتباع، والجمع رُخَص، ورُخُصَات مثل غُرَف، وغُرُفات: التسهيلُ في الأمر والتيسيرُ فيه، والمعنى هنا: استمسكوا بتسهيل الله تعالى لكم فيما شَرَع لكم من الفطر في السفر، كما قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] الآية.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: قوله: "عليكم برخصة الله التي رَخَّصَ لكم" دليل على أنه يُستحبّ التمسك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، وترك التنطع والتعمّق، ومن لم يشق عليه الصوم فهو له أفضل؛ مسارعة لبراءة الذمّة، ولفضيلة الوقت. انتهى

(1)

.

وقوله: (الَّذِي رَخَّصَ لَكُمْ) ببناء الفعل للفاعل، والموصول صفة و"الله"، وفي نسخة:"التي رخّص لكم"، وعليها فالموصول صفة لـ"رُخصة"، والفعل

(1)

"إحكام الأحكام" 3/ 373 بنسخة "الحاشية"، و"مرقاة المفاتيح" 4/ 450.

ص: 107

يَحْتمل أن يكون مبنيًّا للفاعل، والعائد محذوف؛ أي التي رَخّصها لكم، وَيحتمل أن يكون مبنيًّا للمفعول؛ أي التي رُخِّصت لكم، فالعائد مستتر، فتنبه.

[تنبيه]: قال في "الفتح": أوهم صاحب "العمدة"

(1)

أن قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم برخصة الله التي رخّص لكم، مما أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك، وإنما هو بقية في الحديث لم يوصل إسنادها، نعم وقعت عند النسائيّ موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده

(2)

، وعند الطبرانيّ من حديث كعب بن عاصم الأشعريّ. انتهى

(3)

.

وقوله: (قَالَ: فَلَمَا سَأَلتُهُ لَمْ يَحْفَظْهُ) فاعل "قال" ضمير شعبة، والضمير المنصوب في "سألته " لشيخه محمد بن عبد الرحمن المذكور في السند السابق، والمعنى أن شعبة كان يبلغه عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يروي هذا الحديث عن محمد بن عبد الرحمن شيخ شعبة المذكور، ويزيد في الحديث قوله:"عليكم برخصة الله الذي رخّص لكم"، فسأل شعبة شيخه محمد بن عبد الرحمن عن هذه الزيادة، فلم يحفظها في جملة الحديث الذي رواه عن محمد بن عمرو، عن جابر رضي الله عنه.

وهذا يدلّ على أن هذه الزيادة في حديث يحيى من هذا الطريق، أعني طريق محمد بن عبد الرحمن بن سعد غير محفوظة، وإنما هي محفوظة في

(1)

يعني صاحب "عمدة الأحكام"، وهو المقدسيّ.

(2)

قال الإمام النسائيّ رضي الله عنه في "المجتبى"(2226): أخبرني شعيب بن شعيب بن إسحاق، قال: حدّثنا عبد الوهاب بن سعيد، قال: حدّثنا شعيب، قال: حدّثنا الأوزاعيّ، قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن، قال: أخبرني جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرّ برجل في ظل شجرة، يُرَشّ عليه الماء، قال:"ما بال صاحبكم هذا؟ " قالوا: يا رسول الله صائم، قال:"إنه لشى من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رَخَّص لكم، فاقبلوها". انتهى. وهذا الإسناد تكلّم فيه النسائيّ، وقد ذكرت تحقيق ذلك في "شرحي"، ورجّحت أن الحقّ أنه صحيح، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(3)

"الفتح" 4/ 697.

ص: 108

رواية يحيى عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، فهي صحيحة بهذا الطريق.

والحاصل أن يحيى بن أبي كثير يروي حديث جابر رضي الله عنه هذا عن كلّ من محمد بن عبد الرحمن بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، فأما ابن سعد، فيروي عن جابر بواسطة محمد بن عمرو بن الحسن، عنه، وأما ابن ثوبان، فيروي عن جابر مباشرة، بل صرّح بتحديث جابر رضي الله عنه له عند النسائيّ من رواية شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، فصرّح بالإخبار، وتابعه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، فصرح به أيضًا أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار".

وخلاصة القول أن زيادة "عليكم برخصة الله

" ثابتة صحيحة من رواية يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر رضي الله عنه، وأما من رواية يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد، كما أشار إليه المصنّف هنا فليست ثابتة، وقد تكلّم في الرواية الأولى النسائيّ، وغيره، وقد استوفيت البحث في ذلك في "شرح النسائيّ"، ورجّحت صحتها، فراجعه تستفد

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله: ما ذكره شعبة عن يحيى من هذه الزيادة، فلما سأله لم يحفظها، فإن كان سمعها من ثقةٌ عنه ساغ له الحديث بها عمن حدّثه عنه، ولم يضرّه نسيانه لها على قول جمهور محققي الأصوليين والمحدثين؛ خلافًا للكرخي، ومن تبعه من الحنفيّة في أنه لا يُقبل، ولا يُعمل به، وأما أَبُو قال الراوي: هذا لم أحدّث به قط، ولا رويته، فهم متّفقون على طرحه؛ لأنه مكذّب للرواية عنه، والأول غير قاطع، والراوي عنه مصحّح لها. انتهى

(2)

.

وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ رحمه الله في" ألفيّة الأثر" حيث قال:

وَمَنْ نَفَى مَا عَنْهُ يُرْوَى فَالأَصَحْ

إِسْقَاطُهُ لَكِنْ بِفَرْعٍ مَا قَدَحْ

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 21/ 148 - 153.

(2)

"إكمال المعلم" 4/ 68.

ص: 109

أَوْ قالَ لَا أَذْكُرُهُ أَوْ نَحْوَ ذَا

كَأَنْ نَسِي فَصَحَّحُوا أَنْ يُؤْخَذَا

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي صححه في النظم من إسقاطه في الأول، وكذا ما ذكره القاضي من أنهم متّفقون على طرحه، محل نظر، بل المحقّقون على قبوله فيه أيضًا، كما اختاره في "جمع الجوامع"؛ وفاقاً لابن السمعانيّ وغيره، وحكاه الفخر الشاشيّ عن الشافعيّ، وحكى الصفيّ الهنديّ والآمديّ الاتفاق عليه؛ لاحتمال نسيان الأصل له بعد روايته للفرع، ولأن الفرع عدل ضابط إلى آخر شروطه، وقد تقرّر أنه يجب العمل بخبره، والوجوب لا يسقط بالاحتمال، والأصل وإن كان عدلًا ضابطًا أيضًا لكنه كذبَ عدلًا، وتكذيب العدل خلاف الظاهر.

لا يقال: يلزم أن يكون الأصل كاذبًا، وهو أيضًا عدلٌ، فيكون خلاف الظاهر؛ لأنا نقول: بل هو الظاهر؛ لأنه كذّب في التكذيب للفرع العدل، وقد عَلِمت أنه خلاف الظاهر، فيكون كذب الأصل هو الأصل إلا أنه لعدالته يُحمَل على النسيان.

وهذا القول هو الراجح عند المحدّثين كما قال السخاويّ نقلاً عن الحافظ، ويدلّ عليه صنيع الشيخين، حيث أخرجا حديث عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عبّاس رضي الله عنها "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير" مع قول أبي معبد لعمرو: لم أُحدّثك به، فمانه دلّ على أن الشيخين يريان صحّة الحديث، ولو أنكره الأصل؛ إذ الناقل عنه عدلٌ، فيُحَمل على أن الشيخ نسي.

هذا كلّه فيما إذا نفاه الشيخ صريحًا، أما إذا نفاه بما يَحتمل، كأن قال: لا أعرفه، أو لا أذكره، أو قال: نسيت، أو نحو ذلك، فإنه يُقبل من باب أولى، والقول بإنكار هذا ضعيفٌ، راجع شرحي "إسعاف ذوي الوطر على ألفيّة الأثر" المذكورة

(1)

.

وقد نظمت هذا بقولي:

وَمَنْ نَفَى مَا عَنْهُ يُرْوَى فَالأَصَحّ

قَبُولُهُ فَلَيْسَ ذَا مِمَّا قَدَحْ

(1)

راجع: "إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفيّة الأثر" 1/ 407 - 411.

ص: 110

وَهْوَ الْمُرَجَّحُ لَدَى الْمُحَدِّثِينْ

وَمَذْهَبُ الشَّيْخَيْنِ فِيهِ يَسْتَبِينْ

إِذْ أَخْرَجَا حَدِيثَ عَمْرٍ وعَنْ أَبِي

مَعْبَدٍ النّافِي لَهُ فَلْتَطِبِ

وَإِنْ يَقُلْ نَسِيتُ أَوْ لَمْ يَجْزِمِ

بِالنَّفْي فَالْقَبُولُ أَوْلَى فَاعْلَمِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}

(17) - (بَاب لَا يَنبغِي أَنْ يَعِيبَ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ في السَّفَرِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله لمذكور أولَ الكتاب قال:

[2615]

(1116) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسِت عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنَا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أفطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) ويقال: هُدْبة بن خالد بن الأسود الْقَيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابد، من صغار [9] مات سنة بضع (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى) بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

3 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعَة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (63) وقيل غير ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

ص: 111

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وأبي نضرة، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: غَزَوْنَا) وفي رواية أبي مَسْلمة: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان"، وفي رواية عاصم:"سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية حميد عن أنس:"سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان".

[تنبيه]: هذه الغزوة هي غزوة مكة، كما بُيّن ذلك في رواية ابن حبّان، في "صحيحه" كما طريق شعبة، عن قتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع عشرة حين فتح مكة، فصام صائمون

" الحديث

(1)

.

(مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ) كذا في هذه الرواية، وفي رواية التيميّ، وعُمر بن عامر، وهشام: الثمان عشرة خلت"، وفي رواية سعيد بن أبي عروبة: "في ثنتي عشرة"، وفي رواية شعبة: "لسبع عشرة، أو تسع عشرة"، وقال الزهريّ: "صبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان"، قال القرطبيّ رحمه الله: وهذه أقوال مضطربةٌ، والذي أطبق عليه أصحاب السير أن خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم لغزوة الفتح كان لعشر خلون من رمضان، ودخوله مكة كان في تسع عشرة، وهو أحسنها، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

. (فَمِنَّا) أي بعضٌ من الصحابة رضي الله عنهم (مَنْ صَامَ) أي وهم الأقوياء (وَمِنَّا مَنْ أفطَرَ)

(1)

"صحيح ابن حبّان" 8/ 328.

(2)

"المفهم" 3/ 179 - 180.

ص: 112

أي وهُم الضعفاء (فَلَمْ يَعِبْ) بفتح أوله، وكسر ثانية: أي لا يلوم، ولا يعاتب (الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ) أي لأنه عَمِل بالرخصة، ومن أخذ بها لا لوم عليه (وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) أي لعمله بالعزيمة، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وهذا تصريح بأن هذا الصوم وقع في رمضان

(1)

، ومذهب جمهور الفقهاء صحة صوم المسافر، والظاهرية خالفت فيه، أو بعضهم بناءً على ظاهر لفظ القرآن، من غير اعتبارهم للإضمار، وهذا الحديث يردّ عليهم. قال: هذا معنى حسنٌ؛ لأنه أضاف الإباحة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يعب على واحدة من الطائفتين، وهو من أصح إسناد جاء في هذا الحديث. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2615 و 2616 و 2617 و 2618](1116)، و (أبو داود) في "الصوم"(2406)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(713)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 188)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2157)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 17)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 45 و 74)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 68)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 195)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 197)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2030)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3562)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 307)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 244 - 245)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أنه لا ينبغي أن يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر

(1)

أي لأن الروايات الآتية نصّ في ذلك، حيث قال:"كنا نسافر في رمضان"، وفي لفظ:"سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان".

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 2/ 176.

ص: 113

على الصائم في السفر؛ لكون كلّ منهما على صواب، فالصائم أخذ بالعزيمة، والمفطر أخذ بالرخصة، وكلّ منهما مما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده.

2 -

(ومنها): أن من فعل شيئًا مما شرعه الله عز وجل لا ينبغي للآخرين أن يعيبوا عليه، وإن كانوا يرونه خلاف الأولى.

3 -

(ومنها): بيان جواز الصوم والفطر في رمضان لمن لم يشقّ عليه، ولم يرغب عن الرخصة.

4 -

(ومنها): بيان إباحة السفر في رمضان، وفى ذلك ردّ لقول من قال: من دخل عليه رمضان لم يجز له أن يسافر فيه، إلا أن يصوم؛ لأنه قد لزمه صومه في الحضر، ولو دخل عليه رمضان في سفره، كان له أن يفطر في سفره ذلك

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله الحافظ أبو عمر رحمه الله: وفيه ردٌّ لقول من زعم أن الصيام في السفر لا يجزئ؛ لأن الفطر عزيمة من الله تعالى، كما رُوي عن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس رضي الله عنه، وقال بذلك قوم من أهل الظاهر، ورُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: من صام في السفر قضى في الحضر.

ورُوي عن عبد الرحمن بن عوف: أن الصائم في السفر كالمفطر، ورُوي عن ابن عباس أيضًا والحسن أنهما قالا: إن الفطر في السفر عَزْمةٌ لا ينبغي تركها، وحديث هذا الباب يردّ هذه الأقاويل، ويبطلها كلّها.

وقد رُوي عن ابن عباس في هذه المسألة: خذ بيسر الله، وهذا منه إباحة للصوم والفطر للمسافر، خلاف القولين اللذين ذكرناهما عنه.

قال: وعلى إباحة الصوم والفطر للمسافر جماعةُ العلماء، وأئمة الفقه بجميع الأمصار إلا ما ذكرتُ لك عمن قدمنا ذكره، ولا حجة في أحد مع السنة الثابتة، هذا إن ثبتٌ ما ذكرناه عنهم.

وقد ثبتٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه صام في السفر، وأنه لم يَعِب على من أفطر، ولا على من صام، فثبتت حجته، ولزم التسليم له، وإنما اختلف الفقهاء في الأفضل من الفطر في السفر، أو الصوم فيه لمن قدر عليه. انتهى

(1)

"الاستذكار" 3/ 299.

ص: 114

كلام ابن عبد رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم قريبًا تحقيق الخلاف في هذه المسألة، وأن الأرجح أن من كان الصوم عليه أيسر، فهو أفضل في حقّه، ومن كان الفطر أيسر عليه، فهو الأفضل في حقّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2616]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن التَّيْمِيِّ (ح) وَحَدَّثناه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدثنا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثنا شُعْبَةُ (ح) وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ، يَعْنِي ابْنَ عَامِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ هَمَّامٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ التَّيْمِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَامِرٍ، وَهِشَامٍ: "لِثَمَانَ عَشْرَةَ

(2)

خَلَتْ"، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: "فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ"، وَشُعْبَةَ: "لِسَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ").

رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقن حافظٌ إمام حجة، من كبار [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

3 -

(التَّيْمِيُّ) سليمان بن طَرْخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابد [4](ت 143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

4 -

(ابْنُ مَهْدِيٍّ) عبد الرحمن الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 2/ 170 - 171.

(2)

وفي نسخة: "لثماني عشرة".

ص: 115

5 -

(أَبُو عَامِرٍ) عبد الملك بن عمرو الْقَيسيّ الْعَقَديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

6 -

(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

7 -

(سَالِمُ بْنُ نُوحِ) بن أبي عطاء البصريّ، أبو سعيد الْعُطارديّ، صدوقٌ له أوهامٌ [9] مات بعد المائتين (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 55/ 1532.

8 -

(عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ) السلميّ البصريّ قاضيها، صدوقٌ له أوهامٌ [6](م س) تقدم في "الصيام " 9/ 2553.

9 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

10 -

(سَعِيدُ) بن أبي عَرُوبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان أثبت الناس في قتادة [6](ت 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كلّهُمْ عَنْ قَتَادَةَ) أي كلّ هؤلاء الخمسة: سليمان التيميّ، وشعبة، وهشام الدستوائيّ، وعُمر بن عامر، وسعيد بن أبي عَروبة.

وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بإسناد قتادة المذكور قبله، وهو: عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية التيميّ، عن قتادة هذه، لم أجد من ساقها.

وأما رواية شعبة، عنه، فساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (8/ 328) فقال:

(3562)

- أخبرنا أبو خليفة، قال: حدّثنا أبو الوليد، قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع عشرة حين فتح مكة، فصام صائمون، وأفطر مفطرون، فلم يعب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء. انتهى.

وأما رواية هشام الدستوائيّ، عنه، فساقها أبو عوانة في "مسنده" (2/ 195) فقال:

ص: 116

(2824)

- وحدّثنا أبو أمية، حدّثنا مسلم، حدثنا هشام، حدّثنا قتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، قال: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة من رمضان، فصام بعضنا، وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. انتهى.

وأما رواية عُمر بن عامر، فقد ساقها الطبريّ رحمه الله في "تهذيب الآثار" (109/ 1) فقال:

(147)

- حدّثنا بشار، قال: حدّثنا سالم بن نوح، قال: حدّثنا عُمر بن عامر، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: خرجنا مع النبيّ لمجر لثماني عشرة مضت من رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. انتهى.

وأما رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (3/ 45) فقال:

(11431)

- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لثنتي عشرة ليلة بقيت من رمضان، مخرجه إلى حنين، فصام طوائف من الناس، وأفطر آخرون، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2617]

(

) - (حَدَّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثنا بِشْرٌ، يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَمَا يُعَابُ عَلَى الصَّائِمِ صَوْمُهُ، وَلَا عَلَى الْمُفْطِرِ إِفْطَارُهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيُّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

ص: 117

2 -

(بِشْرُ بْنَ مُفَضلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(أَبُو مَسْلَمَةَ) سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزديّ، ثم الطاحيّ البصريّ القصير، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 466.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2618]

(

) - (حَدَّثَنِي عَمْرُو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَن الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَا يَجِدُ

(1)

الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّة فَصَامَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَن، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفطَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة، تقدّم قبل بابين.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختَلَط قبل موته بثلاث سنين، لكن إسماعيل ابن عُليّة ممن روى عنه قبل الاختلاط [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَلَا يَجدُ الصَّائِمُ

إلخ) مضارع وجد، من باب ضرب، يقال: وجدت عليه مَوْجدة: إذا غضبت عليه؛ أي لا يَغضب، ولا يَعترض، وهو بمعنى قوله في الرواية السابقة: "فلم يعب الصائم على المفطر

إلخ".

وقوله: (يَرَوْنَ أَن مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ) قال النوويّ رحمه الله:

(1)

وفي نسخة: "ولا يجد".

ص: 118

هذا تصريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر، ولا مشقّة ظاهرة، وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء؛ لتعادل الأحاديث، والصحيح قول الأكثرين. انتهى.

وقال في "الفتح" بعد ذكر الحديث ما لفظه: وهذا التفصيل هو المعتمد، وهو رافع للنزاع. انتهى.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2619]

(1117) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَثيُّ، وَسَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، كُلُّهُمْ عَنْ مَرْوَانَ، قَالَ سَعِيدٌ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ، يُحَدَّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما قَالَا: سَافَرْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَيَصُومُ الصَّائِمُ، وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍ والْأَشْعَثِيُّ) الْكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 19/ 4.

2 -

(سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الْكِنديّ، أبو مسعود الْعَسْكريّ، نزيل الريّ، أحد الحفّاظ، ثقةٌ [10](ت 235)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

3 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدَثانيّ، هَرَويّ الأصل، صدوقٌ إلا أنه عَمِيَ، فتلقّن، من كبار [10](ت 240) وله مائة سنة (م ت) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

4 -

(حُسَيْنُ بْنُ حرَيْثٍ) بن الحسن بن ثابت بن قُطْبة الْخُزاعيّ مولاهم، أبو عمّار المروزيّ، ثقةٌ [10].

رَوَى عن الفضل بن موسى السِّينَانيّ، والفضيل بن عياض، وابن عيينة، وابن المبارك، وجرير، وابن عُلية، والدراورديّ، والوليد بن مسلم، ووكيع، وغيرهم.

ص: 119

ورَوى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه، وسوى أبي داود، فكتابةً، وحامد بن شعيب البلخيّ، وابن خزيمة، وأبو أحمد الفراء، والذُّهْليّ، وأبو زرعة، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال السَّرّاج: مات بعد مائتين منصرفًا من الحج سنة (244).

روى عنه البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط برقم (1117) و (2153) و (2154) و (2516) و (2865).

5 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) الْفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الايمان" 8/ 138.

6 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] مات بعد (140)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.

والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 2619](1117)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 189)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 316)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2029)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 194)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 197)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2620]

(1118) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سُئِلَ أنسٌ رضي الله عنه عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ

ص: 120

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيى بْنُ يَحْيى) ذُكر في الباب.

2 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ) زُهير بن معاوية بن حُدَيج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الْجَزِيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، ثقةٌ عابد [5](ت 2 أو 143)(ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

4 -

(أشرُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

[تنبيه]: هذا الإسناد كلاحقه من رباعيّات المصنّف رحمه الله وهو (165) من رباعيّات الكتاب، وشرح الحديث يُعلم مما مضى.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أنجرجه (المصنّف) هنا [17/ 2620 و 2621](1118)، و (البخاريّ) في "الصوم "(1947)، و (أبو داود) في "الصوم"(2405)، و (مالك) في "الموطّأ "(1/ 295)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3561)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 68)، و (أبو نعيم) في "المستخرج"(3/ 197)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 244)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1761)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2621]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: خَرَجْتُ، فَصُمْتُ، فَقَالُو لِي: أَعِدْ، قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ أنسًا أَخْبَرَني أَنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم-كَانُوا يُسَافِرُونَ، فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، فَلَقِيتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِمِثْلِهِ).

ص: 121

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(؛ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: هذا الإسناد كسابقه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (166) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة زهير بن عبد الله بن جُدْعان المكيّ الفقيه، تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 4/ 22، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابُ أَجْرِ الْمُفْطِرِ فِي السَّفَرِ إِذَا تَوَلَّى الْعَمَلَ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2622]

(1119) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا

(1)

أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُوَرِّقٍ، عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ، فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو فعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ أحفظ الناس

(1)

وفي نسخة "حدثنا".

ص: 122

لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) وله (82) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

3 -

(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(مُوَرِّقُ) بن مُشَمْرِج، ويقال: ابن عبد الله الْعِجليّ، أبو المعتمر البصريّ، ويقال: الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، من كبار [3](ت 3 أو 5 أو 108)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

5 -

(أنسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فكوفيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه أنسًا رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ) هو سفر غزوة الفتح، وفي رواية قَزَعة الآتية:"سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونحن صيام"(فَمِنَّا الصَّائِمُ) أراد به الجنس (وَمِنَّا الْمُفْطِرُ) وفي رواية: "فصام بعضٌ، وأفطر بعض". وفيه دليل على جواز الصوم في السفر؛ لتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْم حَارٍّ) أي شديد الحرارة (أَكثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الْكِسَاءِ) وفي رواية البخاريّ: "أكثرنا ظلًّا من يستظلّ بكسائه"، وفي رواية النسائيّ:"واتخذنا ظلالًا"، والمعنى أنهم لم يكن لهم فَساطيط، ولا أخبية (وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ) أي يستتر منها (بِيَدهِ) أي لعدم

ص: 123

قدرته على الاتّقاء بكساء (قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ) بالضمّ: جمع صائم؛ أي صاروا قاعدين في الأرض، وضعفوا عن الحركة، ومباشرة حوائجهم؛ لأجل ضعفهم بسبب الصوم (وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ) أي بالخدمة، وفي الرواية التالية:"فتحزم المفطرون، وعَمِلوا" -بالحاء المهملة، والزاي- ووقع في بعض النسخ:"فتخدّموا" -بالخاء المعجمة، والدال المهملة- وادَّعَى بعضهم أنه الصواب؛ أي أنهم كانوا يخدمون، وفي رواية البخاريّ:"وأما الذين أفطروا، فبعثوا الرِّكاب، وامْتَهَنوا، وعالجوا".

(فَضَرَبُوا الْأَبْنِيَةَ) بالفتح: جمع بناء، والمراد بها الأخبية؛ أي أقاموا على أوتاد مضروبة في الأرض (وَسَقَوُا الرِّكَابَ) بكسر الراء: أي الإبل التي يُسار عليها، واحدها راحلة، ولا واحد لها من لفظها (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ) أي الأجر الوافر، وهو ما فعلوه من خدمة الصائمين بسقي الركاب، وضرب الخباء، ونحوهما؛ لما حصل منهم من النفع المتعدّي، وليس المراد نقص أجر الصُّوّام، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم، ومثل أجر الصُّوّام؛ لتعاطيهم أشغالهم، وأشغال الصوّام، فلذلك قال:"بالأجر كله "؛ لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم، قاله الحافظ رحمه الله.

وقيل: المعنى: أي ذهبوا بالثواب الأكمل؛ لأن الإفطار كان في حقهم أفضل، وفي ذكر "اليوم " إشارة إلى عدم إطلاق هذا الحكم.

وقال الطيبيّ رحمه الله: أي إنهم مَضَوا، واستصحبوا الأجر، ولم يتركوا لغيرهم شيئًا منه، على طريقة المبالغة، يقال: ذهب به: إذا استصحبه، ومضى به معه.

وقيل: "أل" فيه يَحْتَمل أن تكون للعهد، مشيرًا إلى أجر أعمال المفطرين، وأن تكون للجنس يقيد مبالغة بأن يبلغ أجرهم مبلغًا ينغمر فيه أجر الصوم، ويُجعل كأن الأجر كلّه للمفطر، كما يقال: عمرو الشجاع.

ص: 124

وقال ابن دقيق العيد: فيه وجهان:

[أحدهما]: أن يرإد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها، والمصالح التي جرت على أيديهم، ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم.

[والثاني]: أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغاً يَنغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك، ويجعل كأنّ الأجر كله للمفطر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا مُتَّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2622 و 2623](1119)، و (البخاريّ) في "الجها د"(2890)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2283) وفي "الكبرى"(2592)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 279)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 192)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 198)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2023)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3559)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 209)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(68/ 2)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 243)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 106)، والله تعالى أعلم.

[فائدة]: قال الحافظ: هذا الحديث من الأحاديث التي أوردها البخاريّ في غير مظنتها؛ لكونه لم يذكرها في الصيام، واقتصر على إيرادها في الجهاد. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 9.

(2)

"الفتح" 7/ 167 كتاب "الجهاد" رقم (2890).

ص: 125

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(منها): بيان فضل الإفطار في السفر على الصيام.

2 -

(ومنها): الحضّ على المعاونة في الجهاد.

3 -

(ومنها): أن أجر الخدمة في الغزوأعظم من أجر الصيام، قاله بعضهم، وتُعُفب بانه ليس ذلك على العموم.

4 -

(ومنها): جواز الصوم في السفر؛ خلافًا لمن قال: لا ينعقد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2632]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلي، عَنْ مُوَرِّقٍ، عَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَصَامَ بَعْضٌ، وَأفطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ، وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، قَالَ: فَقَالَ فِي ذَلِكَ: "ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حَفْصُ) بن غياث بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيه تغيّر قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الايمان" 8/ 136.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 126

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2624]

(1125) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَزَعَةُ، قَالَ: أتيْتُ أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه، وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، قُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْأَلكَ عَمَّا يَسْأَلكَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ، سَأَلتُهُ عَن الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَةَ، وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أقوَى لَكُمْ"، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أفطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أقوَى لَكُمْ، فَأَفطِرُوا"، وَكَانَتْ عَزْمَةً، فَأفطَرْنَا، ثمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ في السَّفَرِ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيٍّ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدير الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له أفراد [7](ت 158)(ز م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

4 -

(رَبِيعَةُ) بن يزيد الدمشقيّ، أبو شعيب الإياديّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 أو 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

5 -

(قَزَعَة) بن يحيى البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1025.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ رَبِيعَةَ) بن يزيد أنه (قَالَ: حَدَّثَنى قَزَعَةُ) -بفتحات- ابن يحيى (قَالَ: أَتَيْتُ أَبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه، وَهُوَ مَكْثُورٌ عَلَيْهِ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي والحال أن عنده كثيرًا من الناس (فَلَمَا تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، قُلْتُ: إِنِّي

ص: 127

لَا أَسْأَلكَ عَمَا يَسْأَلكَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ) أي لكونه مما لا حاجة له إليه (سَأَلتُهُ عَن الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ) أي عن حكمه، هل هو جائز، أم لا؟ (فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَةَ) أي في عام الفتح (وَنَحْنُ صِيَامٌ) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي صائمون؛ لمصادفة سفر الفتح شهر رمضان (قَالَ: فَنَزَلْتا مَنْزِلًا، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) أي قربتم من ملاقاتهم، يقال: دنا منه، وإليه يَدْنو دُنُوًّا: أي قرُبَ (وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ ") أي على قتالهم، وفيه دليلٌ على أن حفظ القوّة بالفطر أفضل لمن هو منتظر لقاء العدوّ، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

. (فَكَانَتْ) أي كانت مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والفطر أقوى لكم"(رُخْصَةً) بضمّ الراء، وسكون الخاء المعجمة، ويجوز ضمّها؛ للإتباع، والرخصة: التسهيل في الأمر، والتيسير فيه، يقال: رَخَّصَ الشرع لنا في كذا ترخيصًا، وأرخص لنا إرخاصًا: إذا يسّره وسهّله

(2)

.

والمعنى: صار توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا تسهيلًا لنا، وتخييرًا بين الفطر والصوم، ولذلك صاروا على قسمين، كما قال:(فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أفطَرَ) أي حيث رأوها رخصة غير ملزمة للفطر.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فكانت رخصة"؛ يعني: أنهم لم يفهموا من هذا الكلام الأمر بالفطر، ولا الجزم به، وإنما نبَّه به على أن الفطر أولى لمن خاف الضعف.

وسُمِّي هذا رخصة بناءً على أن كل مكلف مخاطبٌ بصوم رمضان، كما قد أفهمه قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أو بالنسبة إليهم؛ إذ قد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد صام حين خروجه من المدينة، وصام الناس معه إلى أن بلغ الكَدِيد، كما تقدَّم، فلما خاف عليهم الضعف نبههم على جواز الفطر، وأنه الأفضل، فسُمّي ذلك رخصة بالنسبة إلى ترك ما كانوا قد اختاروه من الصوم، ولما فهموا: أن هذا من باب الرُّخص كان منهم من هو موفور القوّة فصام، وكان منهم من خاف على نفسه فأفطر.

ثم بعد ذلك قال لهم: "إنكم مُصَبِّحو عدوكم، والفطر أقوى لكم،

(1)

"المفهم" 3/ 183.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 223.

ص: 128

فأفطروا". قال: "وكانت عزمة"؛ أي: أنهم فهموا من أمره بالفطر أنه جزم، ولا بدَّ منه، وأنه واجب، فلم يصم منهم أحد عند ذلك فيما بلغنا، ولو قدّر هنالك صائم لاستحقُّوا أن يقال لهم: "أولئك العصاة"، وقد حَمَل بعض علمائنا قوله: "أولئك العصاة" على هذا، بناءً على أن منهم من صام بعد الأمر بالفطر، ولم يُسمع ذلك في حديث مرويّ، وانما هو تقدير من هذا القائل. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ) أي ملاقوهم صباحًا، يقال: صبّحتُ فلانًا بالتشديد: إذا أتيته وقت الصباح (وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفطِرُوا) هذا أمر بالإفطار، وهو للوجوب، ولذا قال:(وَكَانَتْ) أي تلك الحال، وهي الفطر، أو مقالته صلى الله عليه وسلم هذه (عَزْمَةً) بفتح فسكون: خلاف الرخصة، يقال: عزم على الشيء، وعَزَمه عَزْمًا، من باب ضرب: عَقَد ضميره على فعله، وعَزَمَ عزيمة، وعَزْمَة: اجتَهَد، وجدَّ في أمره، وعزيمة الله تعالى: فريضته التي افترضها، والجمع: عزائم

(2)

.

وقيل: معنى "عزمة": أي فريضة؛ لأن الجهاد كان فرضًا في ذلك، وكان حاصلًا بالإفطار، والصوم كان جائزًا لهم، وترك الفرض لأجل الجائز لم يكن جائزًا لهم. انتهى.

(فَأَفطَرْنَا) أي أفطر كلّ الصحابة الذين صاموا في المرّة الأولى، والذين لم يصوموا؛ لكون الأمر عزيمة، فلا يجوز الترخّص فيه؛ لأن الله تعالى توعّد من خالف أمره بالعقاب، فقال عز وجل:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وقال المناويّ رحمه الله: وأخذ من تعليله صلى الله عليه وسلم بدنوّ العدوّ، واحتياجهم إلى القوّة التي يَلْقَوْن العدوّ بها أن الفطر هنا للجهاد، لا للسفر، فلو وافاهم العدوّ في الحضر، واحتاجوا إلى التقوّي بالفطر جاز، على ما قيل؛ لأنه أولى من الفطر بمجرد السفر، والقوّةُ ثَمّ تخص المسافر، وَهُنا له وللمسلمين، ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 3/ 183.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 408.

(3)

"فيض القدير" 2/ 555 - 556.

ص: 129

(ثمَّ قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (لَقَدْ رَأَيْتُنَا) أي رأيت أنفسنا أيها الصحابة رضي الله عنهم (نَصُومُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ) هذا يدلّ على ثبوت استمرار التخيير لهم بين الصوم والفطر في السفر غير حالة دنوّهم من عدوّهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن الصوم هو الأصل والأفضل، وأن الفطر إنما كان لعلة وسبب، ولما زال ذلك رجع إلى الأفضل.

انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف:.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 2624، (1120)] و (أبو داود) في "الصوم"(2/ 316)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 462)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 35)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 427 و 2/ 193)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 199)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 257)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 110)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 131)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 242)، وفوائد الحديث تقدّمت في الأحاديث السابقة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَاب التخْيِيرِ: في الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ في السَّفَرِ)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2625]

(1121) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْث، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَل حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍ والْأَسْلَمِيُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفطِرْ").

(1)

"المفهم" 3/ 184.

ص: 130

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد، أبو الحارث المصريّ الإمام، ثقةٌ ثبثٌ فقيه حجة [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقيةٌ ربما دلّس [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه مشهور [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ ص 315.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلّهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، وليث مصريّ، وقُتيبة بغلانيّ.

4 -

(ومنها): أنه فيه رواية تابعي، عن تابعيّ، والابن، عن أبيه، عن خالته، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه أنَّهَا قَالَتْ: سَأَل حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ) هو: حمزة بن عمرو بن عويمر الأسلميّ، أبو صالح، ويقال: أبو محمد المدنيّ.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وعنه ابنه محمد، وحنظلة بن عليّ الأسلميّ، وسليمان بن يسار، وأبو مُراوح، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.

قال البخاريّ في "التاريخ": حدّثني أحمد بن الحجاج، ثنا سفيان بن حمزة، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة الأسلميّ، عن أبيه، قال: كنا

ص: 131

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ظلماء، دُحْمُسة

(1)

، فأضاءت أصابعي، حتى جمعوا عليها ظهرهم، وما هلك منهم، وإن أصابعي لَتُنير، قال ابن سعد وغيره: مات سنة (61) وهو ابن (71) سنةً، وقيل: إنه بلغ ثمانين.

أخرج البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثه الآتي في الباب.

وقولها: (سَأَل حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ) وفي رواية البخاريّ: "أن حمزة بن عمر الأسلميّ قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم

"، قال في "الفتح": قوله: "أن حمزة بن عمرو الأسلميّ" هكذا رواه الحفاظ عن هشام، وقال عبد الرحيم بن سليمان عند النسائيّ، والدراورديّ عند الطبرانيّ، ويحيى بن عبد الله بن سالم عند الدارقطنيّ، ثلاثتهم عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنه، عن حمزة بن عمرو رضي الله عنه، فجعلوه من مسند حمزة رضي الله عنه، والمحفوظ أنه من مسند عائشة رضي الله عنها.

وَيحْتَمِل أن يكون هؤلاء لم يَقْصِدوا بقولهم: "عن حمزة" الرواية عنه، وإنما أرادوا الإخبار عن حكايته، فالتقدير عن عائشة، عن قصة حمزة، أنه سأل

إلخ، لكن قد صَحّ مجيء الحديث من رواية حمزة، فأخرجه مسلم

(2)

من طريق أبي الأسود، عن عروة، عن أبي مُراوح، عن حمزة، وكذلك رواه محمد بن إبراهيم التيميّ، عن عروة، لكنه أسقط أبا مُراوح، والصواب إثباته، وهو محمول على أن لعروة فيه طريقين: سمعه من عائشة، وسمعه من أبي مُراوح، عن حمزة. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أخرج الإمام مالك رحمه الله هذا الحديث في "الموطّأ"، فقال: عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن حمزة بن عمرو الأسلميّ

(1)

أي مظلمة شديدة الظلمة، قاله في "النهاية" 2/ 106، وفي "القاموس" (2/ 214): الدَحْمَس، كجَعْفر، وزِبْرِجٍ زو بُرْقُعٍ: الأسود من كلّ شيء، وليلةٌ دُحْمُسةٌ، وليلٌ دُحْمُسٌ: مظلم. انتهى.

(2)

هو الحديث الآتي بعد ثلاثة أحاديث برقم [2629].

(3)

"الفتح" 5/ 333.

ص: 132

قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله إني رجل أصوم أفأصوم في السفر؟

" الحديث، فجعله مرسلًا؛ لأن عروة لم يشهد السؤال.

قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هكذا قال يحيى، عن مالك، عن هشام، عن أبيه: أن حمزة بن عمرو، وقال سائر أصحاب مالك: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلميّ قال: يا رسول الله أصوم في السفر؛، وكان كثير الصيام، والحديث محفوظ عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، كذلك رواه جماعة عن هشام، منهم: ابنُ عيينة، وحماد بن سلمة، ومحمد بن عجلان، وعبد الرحيم بن سليمان، ويحيى القطان، ويحيى بن هاشم، ويحيى بن عبد الله بن سالم، وعمرو بن هاشم، وابن نمير، وأبو أُسامة، ووكيع، وأبو معاوية، والليث بن سعد، وأبو ضمرة، وأبو إسحاق الفزاريّ، كلهم رووه عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، كما رواه جمهور أصحاب مالك، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

ورواه أبو معشر المدنيّ، وجرير بن عبد الحميد، والمفضل بن فَضالة، كلهم عن هشام، عن أبيه: أن حمزة بن عمرو. كما رواه يحيى، عن مالك سواءً، حدّثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدّثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا محمد بن الجهم، قال: حدّثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أبو معشر المدنيّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن حمزة بن عمرو الأسلميّ قال: جئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألته، فقلت: يا رسول الله، إني رجل أصوم، أفأصوم في السفر؟ قال:"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

ورَوَى ابن وهب في "موطئه" قال: أخبرني عمرو بن الحرث، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن أبي مُراوح، عن حمزة بن عمرو الأسلميّ، أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوّة على الصيام في السفر، فهل عليّ من جناح؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"، فهذا أبو الأسود، وهو ثبتٌ في عروة وغيره، قد خالف هشاماً، فجعل الحديث عن عروة، عن أبي مُراوح، عن حمزة، وهشامٌ يجعله عن عروة، عن عائشة، وفي رواية أبي الأسود ما يدلّ على أن رواية يحيى ليست بخطأ.

ص: 133

وقد روى سليمان بن يسار هذا الحديث عن حمزة بن عمرو الأسلميّ، وسنّه قريب من سنّ عروة، والحديث صحيح لعروة، وقد يجوز أن يكون عروة سمعه من عائشة، ومن أبي مُراوح جميعًا عن حمزة، فحدّث به عن كل واحد منهما، وأرسله أحيانًا، والله أعلم. انتهى كلام أبي عمر بن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما سبق أن الحديث صحيح من رواية عروة عن عائشة قالت: سأل حمزة بن عمرو الأسلميّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن روايته، عن أبي مراوح، عن حمزة بن عمرو الأسلميّ رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله

إلخ.

والحاصل أنه صحيح، من مسند عائشة رضي الله عنها، ومن مسند حمزة رضي الله عنه نفسه، وأما رواية عروة أن حمزة بن عمرو

إلخ، المذكورة في "الموطا"، فمانها مرسلة، كما سبق بيانه، فتفظن، والله تعالى أعلم.

(رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ) وفي رواية حماد بن زيد التالية: "إني رجلٌ أسرُد الصوم، أفاصوم في السفر؟ "، وفي رواية أبي مُراوح الآتية:"قال: يا رسول الله أجد بي قوّة على الصيام في السفر، فهل عليّ جُناح؟ ".

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ليس في قوله: "أأصوم في السفر

إلخ " تصريح بأنه صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر.

قال الحافظ رحمه الله وهو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مُراوح الآتية عند مسلم، أنه قال: يا رسول الله أجد بي قُوّة على الصيام في السفر، فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"، وهذا يشعر بانه سأل عن صيام الفريضة، وذلك أن الرخصة إنما تُطلق في مقابلة ما هو واجب، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود، والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو، عن أبيه، أنه قال: يا رسول الله، إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه، وأُكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- وأنا أجد القوّة،

(1)

"التمهيد" 22/ 146 - 147.

ص: 134

وأجدني أن أصوم أهون عليّ من أن أؤخِّره، فيكون دينًا عليّ؟ فقال:"أيَّ ذلك شئت يا حمزة". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحديث المذكور فيه ضعف؛ لأن في سنده محمد بن حمزة بن عمرو مجهول الحال، كما قال ابن القطان، بل ضعّفه ابن حزم، وإن لم يوافق عليه، فتنبّه.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفطِرْ") قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث التخيير للصائم في رمضان، إن شاء أن يصوم في سفره، وإن شاء أن يفطر، وهو أمر مُجْمَعٌ عليه، من جماعة فقهاء الأمصار، وهو الصحيح في هذا الباب، وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، قال: دعا عمر بن عبد العزيز سالم بن عبد الله، وعروة بن الزبير، فسألهما عن الصيام في السفر، فقال عروة: يصوم، وقال سالم: لا يصوم، فقال عروة: إنما أحَدِّث عن عائشة رضي الله عنها، وقال سالم: إنما أُحَدِّث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها، قال: فلما امتريا قال عمر: اللهم غَفْرًا، صُمْه في الْيُسْر، وأفطره في العسر. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو: "إن شئت صم، وإن شئت فأفطر"؛ نص في التخيير، ولا يقال: يَحْتَمِل أنه سأله عن سرد صوم التطوع لوجهين:

أحدهما: قوله في الرواية الأخرى: "هى رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"، ولا يقال في التطوّع مثل هذا.

والثاني: أن حديثه هذا خرَّجه أبو داود، وقال فيه: يا رسول الله! إني صاحب ظهر، أسافر عليه، وأكريه في هذا الوجه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني: رمضان- وأنا أجد القوة، وأنا شاب، وأجدني أن أصوم أهون من أن أؤخره فيكون دينًا عليّ، أفأصوم يا رسول الله! أعظم لأجري أو أفطر؛ فقال:"أي ذلك شئت يا حمزُ"، وهذا نصٌّ في أنه صوم رمضان.

(1)

"الفتح" 5/ 333 - 334.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 22/ 147 - 148.

ص: 135

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت ما في هذا الحديث من الضعف، ولكن سياق الروايات يدلّ على أنه أراد صوم رمضان، فتأملّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 2625 و 2626 و 2627 و 2628 و 12629 (1121)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1942 و 1943)، و (أبو داود) في "الصوم"(2402)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(711)، و (النسائيّ) في "الصيام "(4/ 187 - 188) و"الكبرى"(2/ 107 و 108 و 109)، و (ابن ماجه) في "الصيام "(1662)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 295)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2/ 517)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 16)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 101)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 46 و 193 و 202 و 207)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 8 - 9)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2028)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3560)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(397)، و (الطبريّ) في "تفسيره "(2/ 154)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 69)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 196 و 227)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 199)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 152 و 153 و 154 و 155 و 156 و 157) و"المعجم الصغير"(2/ 6)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(118/ 8 و 317)، و (إسحاق ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 166 و 167)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 243) و"المعرفة"(3/ 392 و 1393، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1760)، وفوائد الحديث تقدّمت غير مرّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2626]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّاد، وَهُوَ ابْنُ زيدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍ والْأَسلَمِيُّ سَأَلَ

ص: 136

رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي رَجُل أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أفَاَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ

(1)

: "صُمْ إِنْ شِئْتَ، وَأفطِرْ إِنْ شِئْتَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، من كبار [8](ت 179)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (أَسْرُد الصوم) أي أتابعه -يعني آتي به متواليًا- والمراد ما عدا الأيام المنهيّة، وهو من سَرَد يَسْرُد، من باب نصر ينصر، وقال ابن التين: وضُبِط في بعض الأمهات بضم الهمزة، ولا وجه له في اللغة، إلَّا أن يريد بفتح السين، وتشديد الراء، على التكثير.

قيل: وفيه ردٌّ على من يرى أن صوم الدهر مكروه؛ لأنه أخبر بسرده، ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل أقرّه، وأَذِنَ له في السفر، ففي الحضر أولى.

وتُعُقّب بأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبتٌ النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح، قاله في "الفتح".

[فإن قلت]: إذنه صلى الله عليه وسلم هذا لحمزة بن عمرو رضي الله عنهما يعارضه نهيه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

[أجيب]: يحمل نهيه على ضعف عبد الله بن عمرو عن ذلك، بخلاف حمزة؛ لأنه ذكر أنه يجد قوّة على الصوم، فأذن له لذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "فقال".

ص: 137

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2627]

(

) - (وَحَدَّثنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زيدٍ: إِنِّي رَجُل أَسْرُدُ الصَّوْمَ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم في الباب الماضي.

و"هشام" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية، عن هشام هذه ساقها إسحاق ابن راهويه رحمه الله في (مسنده" (2/ 168) فقال:

(668)

- أخبرنا أبو معاوية، نا هشام، عن أبيه، عن عائشة: أن حمزة السلمييّ

(1)

، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رجل أَسْرُد الصوم في السفر، فقال:"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2628]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدثنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَابم، بِهَذَا الْإِسْنَادِ: أَن حَمْزَةَ قَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أَصُومُ، أفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

(1)

هكذا النسخة، والمشهور أنه الأسلميّ، فليُحرّر.

ص: 138

4 -

(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكِنَانيّ، أو الطائيّ، أبو عليّ الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ له تصانيف، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الحيض " 26/ 817.

و"هشام " ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) معناه أن أبا بكر بن أبي شيبة روى عن شيخين، وهما ابن نمير، وعبد الرحيم بن سلمان، وقد شاركه أبو كريب في شيخه ابن نمير، فقوله: "وقال أبو بكر

إلخ"؛ يعني أنه زاد عبد الرحيم على ابن نمير.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ) الضمير لابن نُمير، وعبد الرحيم.

[تنبيه]: رواية ابن نُمير، عن هشام هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه " (5/ 166) فقال:

(1652)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا عبد الله بن نُمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سأل حمزة الأسلميّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال صلى الله عليه وسلم "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". انتهى.

وأما رواية عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام، فساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"

(1)

(2/ 110) فقال:

(2613)

- أنبا عليّ بن الحسن اللانيّ الكوفيّ، قال: أنبا عبد الرحيم، قال: حدّثنا هشام، عن عروة، عن عائشة، عن حمزة بن عمرو، أنه قال: يا رسول الله، إني رجل أصوم، فأصوم في السفر؟ قال:"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2629]

(1121) - (وَحَدَّثَنى أَبُو الطَّاهِرِ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأيْلِيُّ، قَالَ هَارُونُ: حَدَّثنَا، وَقَالَ أَبُو الطَّاهِرِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ،

(1)

وأخرجه أيضًا في "المجتبى" برقم (2305).

ص: 139

عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي مُرَاوحٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَام فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ"، قَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثِهِ:"هِيَ رُخْصَةٌ"، وَلَمْ يَذْكُرْ:"مِنَ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح، تقدّم قريبًا.

2 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ وَهْب) عبد الله، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَبُو الْأَسْوَدِ) محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسديّ المدنيّ، يتيم عروة، ثقةٌ [6] مات سنة بضع و (130)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.

6 -

(أَبُو مُرَاوحٍ) الغفاريّ، ويقال: الليثيّ المدنيّ، يقال: اسمه سعد، ثقةٌ [3](خ م ق) تقدم في "الإيمان" 57/ 238.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟) بضمّ الجيم: أي إثم.

وقوله: (هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ) الضمير للإفطار، وإنما أنثه باعتبار الخبر، والكلام جاء على اعتقاد السائل، فلا يلزم أن ظاهره ترجيح الإفطار، حيث قال:"فحسنٌ"، وقال في الصوم:"فلا جناح عليه"، قاله السنديّ رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ: رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "هو رخصة من الله" دليلٌ على أن الخطاب بالصوم متوجه لجميع المكلفين؛ المسافرين وغيرهم، ثم رُخِّص لأهل الأعذار بسببها، وبيان ذلك: أن الرخصة حاصلها راجع إلى تخلف الحكم الجزم مع تحقق سببه لأمر خارج عن ذلك السبب، كما تقوله في إباحة الميتة عند الضرورة، وبهذا يتحقق بطلان قول من قال: إن صوم المسافر لا ينعقد،

(1)

"شرح السنديّ على النسائيّ" 4/ 188.

ص: 140

والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه" في مغايرة العبارة بين الشرطين إشارة لطيفة إلى أفضلية الصوم؛ إذ كان ظاهر المقابلة أن يقول: "فحسن"، أو "فأحسن"؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، بل مقتضى كون الأوّل رخصةً، والثاني عزيمةً أن يُعْكَس في الجزاء بأن يقال في الأوّل: فلا جناح عليه، وفي الثاني فحسن، لكن أريد المبالغة؛ لأن الرخصة إذا كانت حسنًا، فالعزيمة أولى بذلك، ولعله صلى الله عليه وسلم علم بنور النبوّة أن مراد السائل بقوله:"فهل عليّ جناح؟ " أي في الصوم، ويدل عليه ما تقدّم من قوله:"إني أجد بي قوّةً على الصيام"، والله تعالى أعلم بالصواب. انتهى

(2)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2630]

(1122) - (حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْداءِ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي حَرّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ، مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ) الهاشميّ مولاهم الْخُوَارَزْميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)(خ م دس ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

2 -

(الْوَليدُ بْنُ مُسْلِم) القُرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

(1)

"المفهم" 3/ 179.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 459.

ص: 141

3 -

(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) التَّنُوخيّ الدمشقيّ، ثقةٌ إمامٌ، لكنه اختَلَط بآخره [7](ت 167) أو بعدها (بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) بن أبي المهاجر أقرم المخزوميّ مولاهم الدمشقيّ، أبو عبد الحميد، مؤدِّب ولد عبد الملك، ثقةٌ [4].

أدرك معاوية، وهو غلام صغير وغيره، ورَوَى عن أنس، وعبد الرحمن بن غَنْم، وفَضالة بن عُبيد، وفي سماعه منه نظر، وميسرة مولى فَضالة، وأبي صالح الأشعريّ، وكريمة بنت الحسحاس، وأم الدرداء.

ورَوَى عنه ربيعة بن يزيد، وسعيد بن عبد العزيز، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبوه، والأوزاعيّ، وخلق.

روى أبو حاتم أن الأوزاعيّ قال: كان مأمونًا على ما حدّث، وكان سعيد بن عبد العزيز إذا حَدَّث عنه قال: كان ثقةٌ صدوقًا، وقال المفضل الغلابيّ: هو ممن يُرْضَى به في الحديث، وقال العجليّ، والفسويّ، ومعاوية بن صالح، والدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال خليفة في تسمية عُمّال عمر بن عبد العزيز: ثم ولي إسماعيل بن عبيد الله مولى بني مخزوم البربر، فقَدِمَها سنة مائة، فأسلم عامة البربر في ولايته، وكان حسن السيرة.

وقال أبو مسهر: مات في خلافة مروان، وقال ابن يونس: تُوُفّي سنة (131)، وكان مولده سنة (61). قال الحافظ: فعلى هذا لا يكون أدرك معاوية، وقال ابن حبّان في "الثقات": مات سنة (132) قبل دخول عبد الله بن عليّ بثلاثة أشهر. انتهى.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(أمُّ الدَّرْدَاءِ) الصغرى، زوج أبي الدرداء، اسمها هُجَيمة، ويقال: جهيمة بنت حُعَى الأوصابية الدمشقية، ثقةٌ [3].

رَوَت عن زوجها، وسلمان الفارسيّ، وفَضالة بن عُبيد، وأبي هريرة، وكعب بن عاصم، وعائشة رضي الله عنها.

ورَوَى عنها جبير بن نفير، وهو أكبر منها، وابن أخيها مَهْديّ بن

ص: 142

عبد الرحمن، ومولاها أبو عمران الأنصاريّ، وسالم بن أبي الجعد، وزيد بن أسلم، وغيرهم.

ذكرها ابن سُميع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: سمعت أبا مسهر يقول: أم الدرداء الصغرى هُجيمة بنت حُييّ الوَصّابية، وأم الدرداء الكبرى خيرة بنت أبي حَدْرَد، وقال أبو أحمد العَسّال: أم الدرداء الصغرى هي يُروَى عنها الحديث الكثير، وكانت أم الدرداء الكبرى صحابيةً، وقال الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة، وأم جابر: كانت أم الدرداء يتيمة في حجر أبي الدرداء، تختلف مع أبي الدرداء في بُرْنُس تصلي في صفوف الرجال، وتجلس في حِلق القرّاء، حتى قال لها أبو الدرداء: الْحَقِي بصفوف النساء، وقال أبو الزاهرية، عن جُبير بن نُفير، عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء: إنك خطبتني إلى أبويّ في الدنيا، فأنكحوني، وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة، قال: فلا تنكحي بعدي، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال: عليك بالصيام، وقال رُديح بن عطية المقدسيّ، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن أم الدرداء: أن رجلًا أتاها، فقال: إن رجلًا نال منك عند عبد الملك، فقالت: إن يؤثر بما ليس فينا، فطالما زُكِّينا بما ليس فينا، وقال عبد ربه بن سليمان بن زيتون: حجّت أم الدرداء سنة إحدى وثمانين، وقال ابن حبان في "الثقات": كانت تقيم ستة أشهر ببيت المقدس، وستة أشهر بدمشق، وماتت بعد سنة إحدى وثمانين، وكانت من العابدات، ووقع عند البيهقي اسمها حمامة، فينظر.

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1122) وأعاده بعده، و (2598) وأعاده أيضًا بعده، و (2732) وكرّره ثلاث مرّات.

6 -

(أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ، اختُلف في اسم أبيه، وقيل: اسمه عامر، وعُويمر لقبه، الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل: عاش بعد ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 1098/ 44.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

ص: 143

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، وإسماعيل بن عبيد الله، فما أخرج لهما الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالدمشقيين، غير شيخه، فبغداديّ.

4 -

(ومنها): أنه رواية تابعيّ، عن تابعيّة، روت عن زوجها.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ) الصغرى التابعيّة، هُجيمة، أو جهيمة بنت حُييّ الوصّابية، في رواية أبي داود:"حدّثتني أم الدرداء"، فصرّح إسماعيل بالتحديث.

[تنبيه]: لأبي الدرداء رضي الله عنه امرأتان كلتاهما يقال لها: أم الدرداء، إحداهما رأت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي الكبرى، واسمها: خيرة بنت أبي حدرد، وماتت قبل أبي الدرداء، والثانية: هي الصغرى، واسمها هجيمة، أو جهيمة بنت حُييّ الوصّابية، تزوّجها أبو الدرداء بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي تابعيّة تروي عن زوجها، وسلمان، فتنبّه.

(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه) عُويمر بن زيد رضي الله عنه، أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم شديد الحرّ"، وفي رواية البخاريّ:"خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره "(فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) قال في "الفتح" ما حاصله: أن بقوله هنا: "في رمضان" يتم المراد من الاستدلال؛ يعني الاستدلال على ردّ قول من قال: من سافر في شهر رمضان امتنع عليه الفطر، ويتوجه أيضًا الردّ بها على أبي محمد بن حزم في زعمه أن حديث أبي الدرداء هذا لا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكون ذلك الصوم تطوعًا.

قال الحافظ: وقد كنت ظننت أن هذه السفرة غزوة الفتح؛ لما رأيت في "الموطأ" من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن، عن رجل من الصحابة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالْعَرْج في الحرّ، وهو يصب على رأسه الماء، وهو صائم من العطش، ومن الحرّ، فلما بلغ الكديد أفطر، فإنه يدلّ على أن غزاة الفتح كانت في أيام شدّة الحرّ، وقد اتَّفَقَت الروايتان على أن كلًّا من السفرتين كان

ص: 144

في رمضان، لكنني رجعت عن ذلك، وعرفت أنه ليس بصواب؛ لأن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه استُشْهِد بمؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف، وإن كانتا جميعًا في سنة واحدة، وقد استثناه أبو الدرداء في هذه السفرة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصح أنها كانت سفرة أخرى، وأيضًا فإن في سياق أحاديث غزوة الفتح أن الذين استمرُّوا من الصحابة صيامًا كانوا جماعة، وفي هذا أنه عبد الله بن رواحة وحده.

وأخرج الترمذيّ من حديث عمر رضي الله عنه: غزونا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان يوم بدر، ويوم الفتح

الحديث، ولا يصح حمله أيضًا على بدر؛ لأن أبا الدرداء لم يكن حينئذ أسلم.

وفي الحديث دليل على أن لا كراهية في الصوم في السفر لمن قَوِي عليه، ولم يُصِبه منه مشقةٌ شديدةٌ. انتهى

(1)

.

(فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ)"حتى" بيان لغاية شدّهْ الحرّ، و"إِنْ" مخفّفة من الثقيلة، ولذا دخلت في خبرها اللام الفارقة بينها وبين "إن" النافية، قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَرُبًّا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا

مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا

فَلَا تُلْفِيهِ غَالِبًا بِإِنْ ذِي مُوصَلَا

(كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ، مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا) نافية؛ أي لم يوجد (فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَبْدُ الله بْنُ رَوَاحَةَ) بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير وكان شاعرًا، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، شَهِدَ بدرًا، واستُشهِد بمؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وكان ثالث الأمراء بها، وله ذكر في "صحيح مسلم"، ولا رواية له، وقد تقدّم في (10/ 2154)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 5/ 337 - 338.

ص: 145

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 2630 و 2631، (1122)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1945)، و (أبو داود) في "الصوم"(2409)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1663)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 46)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 194 و 6/ 444)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 191)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 201)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 301)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 160)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 100)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 245) و"المعرفة"(3/ 393)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2631]

(

) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَيَّانَ الدِّمَشْقِي، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَقَدْ رَأَيتُنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارر، فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عباد، أو أبو سعد المدنيّ، صدوقٌ له أوهامٌ، ورُمي بالتشيّع، من كبار [7](ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.

3 -

(عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: عثمان بن حيّان بن مَعْبد بن شدّاد بن

ص: 146

نعمان بن رَبَاح بن سعد بن ربيعة بن عامر بن يربوع بن غيط بن مُرّة بن عوف الْمُزنيّ -بضم الميم، بعدها زاي -أبو المغراء- بفتح الميم، وسكون الغين المعجمة- الدمشقيّ مولى أم الدرداء، ويقال: مولى عتبة بن أبي سفيان

(1)

.

رَوَى عن أم الدرداء، وعنه هشام بن سعد، وقال: كان رجلًا من أهل الخير، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وسعيد البزار، وعبد الله بن سليمان، قال ابن وهب، عن مالك: بعث ابن حيان، وهو أمير المدينة إلى محمد بن المنكدر وأصحابه، فضربهم لما كان من كلامهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وقال ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، قال: قال عمر بن عبد العزيز: الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، ومحمد بن يوسف باليمن، وعثمان بن حيان بالمدينة، وقرة بن شريك بمصر، امتلأت والله الأرض جَوْراً، وقال ابن عساكر: استعمله الوليد على المدينة، وكان في سيرته عُنْف، وقال الواقديّ: نزع سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيّان عن المدينة سنة (96) وكانت إمرته عليها ثلاث سنين، وقال خليفة: ولي عثمان بن حيان الصائفة سنة (103)، وغزا قيصرة من أرض الروم سنة (104)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، مات سنة (150).

انفرد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.

قال الجامع عفا الله عنه: خالف الحافظ رحمه الله عادته في "التقريب"، فإنه كان يذكر طبقة الراوي، وتوثيقه، أو ضدّه، وهنا لم يذكر لا طبقة، ولا توثيقًا، بل أشار إلى ضدّه بقوله: وكان عمر بن عبد العزيز يصفه بالجور.

[فإن قلت]: كيف أخرج له المصنّف مع كونه مجروحًا؟

[قلت]: إنما أخرج له متابعةً، لا أصالةً، فإن الحديث رواه إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء في السند الماضي، وأيضًا إنما أتى به لعلوّه، فإنه أعلى من السند الماضي بدرجة، والله تعالى أعلم.

والباقيان ذُكرا قبله، وشرح الحديث، ومسائله ذُكرت قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، دماليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

هكذا في "التقريب، لم يذكر له طبقةً، ولا توثيقًا.

ص: 147

(20) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ لِلْحَاجّ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2632]

(1123) - (حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ يَحْيى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، أَن نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ، فَشَرِبَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيى) التيميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أُميّة، مولى عُمر بن عبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.

4 -

(عُمَيْرٌ مَوْلَى عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ) هو: عمير بن عبد الله الهلاليّ، أبو عبد الله المدنيّ، مولى أم الفضل، ثقةٌ [3](ت 104)(خ م د س) تقدم في "الحيض" 27/ 828.

5 -

(أمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ) لبابة بنت الحارث بن حَزْن الهلاليّة، زوج العبّاس رضي الله عنها، وأخت ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنه (ع) تقدمت في "الصلاة" 36/ 1038.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وعمير، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

ص: 148

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) وفي الرواية التالية: "مولى أم الفضل"، قال في "الفتح": قوله: "عمير مولى أم الفضل"، هو عمير مولى ابن عباس، فمن قال: مولى أم الفضل، فباعتبار أصله، ومن قال: مولى ابن عباس فباعتبار ما آل إليه حاله؛ لأن أم الفضل هي والدة ابن عباس، وقد انتَقَلَ إلى ابن عباس ولاءُ موالي أمه. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: الظاهر أنه مولى أم الفضل حقيقةً، ويقال له: مولى ابن عباس، وقال البخاريّ وغيره من الأئمة: هو مولى أم الفضل حقيقةً، ويقال له: مولى ابن عباس؛ لملازمته له، وأخذه عنه، وانتمائه إليه، كما قالوا في أبي مُرّة: مولى أم هانئ بنت أبي طالب، يقولون أيضًا: مولى عقيل بن أبي طالب، قالوا: للزومه إياه، وانتمائه إليه، وقريب منه مِقْسَم مولى ابن عباس، ليمس هو مولاه حقيقةً، وإنما قيل: مولى ابن عباس؛ للزومه إياه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": وليس لِعُمير في البخاريّ سوى هذا الحديث، وقد أخرجه أيضًا في "الحج " في موضعين، وفي "الأشربة" في ثلاثة مواضع، وحديث آخر تقدم في التيمم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت في ترجمته في "كتاب الحيض، باب التيمّم" برقم [27/ 828] أنه ليس له عند مسلم إلا حديثان، حديث في "التيمّم": "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل

"، وحديث الباب، وقد كرّره مرّتين، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(عَنْ أُمِّ الْفَضْل) كنية لبابة (بِنْتِ الْحَارِثِ) كُنيت بأكبر أولادها الفضل بن عبّاس رضي الله عنهم (أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا) أي اختلفوا، وتجادلوا، ووقع عند الدارقطنيّ في "الموطآت" من طريق أبي نوح، عن مالك:"اختَلَف ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"(عِنْدَهَا) أي عند أم الفضل (يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 3 - 4.

ص: 149

هذا يشعر بان صوم يوم عرفة كان معروفًا عندهم، معتادًا لهم في الحضر، وكانّ مَن جَزَم بأنه صائم استَنَدَ إلى ما أَلِفَه من العبادة، ومَن جَزَم بأنه غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافرًا، وقد عُرِف عدم صومه عن الفرض في السفر فضلًا عن النفل، قاله في "الفتح".

وقال القرطبيّ رحمه الله: وسبب هذا الاختلاف: أنه تعارض عندهم ترغيب النبيّ صلى الله عليه وسلم في صوم يوم عرفة، وسبب الاشتغال بعبادة الحج، فشكُّوا في حاله، فارتفع الشك لَمّا شرب، وفُهِم: أن صوم عرفة إنما يكون فيه ذلك الفضل بغير عرفة، وأن الأولى ترك صومه بعرفة؛ لمشقة عبادة الحج، وقد روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة

(1)

، وهذا لما قلناه، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِم، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ) بضمّ التاء للمتكلّم، وسيأتي في الحديث الذي يليه أن ميمونة بِنت الحارث - ضي الله عنها- هي التي أرسلت، فيَحْتَمِل التعدد، وَيحْتَمِل أنهما معًا أرسلتا، فنُسب ذلك إلى كل منهما؛ لأنهما كانتا أختين، فتكون ميمونة أرسلت بسؤال أم الفضل لها في ذلك؛ لكشف الحال في ذلك، ويَحْتَمِل العكس، وسيأتي الإشارة إلى تعيين كون ميمونة هي التي باشرت الإرسال، ولم يُسَمَّ الرسول في طُرُق حديث أم الفضل، لكن رَوَى النسائيّ من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يدلّ على أنه كان الرسول بذلك، ويُقَوِّي ذلك أنه كان ممن جاء عنه أنه أَرْسَل إما أمه، وإما خالته، قاله في "الفتح"

(3)

.

(بِقَدَحِ لَبَنٍ) تقدّم أن القدح بفتحتين: إناء يُروي الرجلين (وَهُوَ وَاقِفٌ) جملة في محل نصب على الحال (عَلَى بَعِيرِهِ) بفتح الموحّدة، وقد تُكسَر: مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى، فيقال: حلبت بعير، والجمل بمنزلة الرجل يختصّ بالذكر، والناقة بمنزلة المرأة تختصّ بالأنثى، وقد تقدم تمام البحث في هذا في "كتاب الحيض، باب التيمّم"[27/ 822].

(1)

تقدّم أن الحديث ضعيف.

(2)

"المفهم" 3/ 189.

(3)

"الفتح" 5/ 424.

ص: 150

(بِعَرَفَه) زاد أبو نعيم في "مستخرجه" من طريق يحيى بن سعيد، عن مالك:"وهو يخطب الناس بعرفة"، وللبخاريّ في "الأشربة"، من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن أبي النضر:"وهو واقف عشية عرفة"، ولأحمد، والنسائيّ، من طريق عبد الله بن عباس، عن أمه، أم الفضل:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة".

و"عَرَفَةُ": بفتحات: موضع وقوف الحجّاج، ممنوعة من الصرف؛ للعلميّة والتانيث، ولا يدخلها الألف واللام، قيل: جمعها عَرَفات، قال الفيّوميّ رحمه الله: و"عَرَفاتُ": موضع وقوف الْحَجِيج، ويقال: بينها وبين مكة نحو تسعة أميال، وُيعْرَب إعراب مسلماتٍ، ومؤمناتٍ، والتنوين يشبه تنوين المقابلة، كما في باب مسلمات، وليس بتنوين صرف؛ لوجود مقتضى المنع من الصرف، وهو العلمية والتأنيث، ولهذا لا يدخلها الألف واللام، وبعضهم يقول:"عرفةُ" هي الجبل، و"عرفاتُ" جمع: عرفة؛ تقديرًا؛ لأنه يقال: وقفت بعرفة، كما يقال: بعرفات، وعَرَّفوا تعريفاً وقفوا بعرفاتٍ، كما يقال: عَيَّدُوا: إذا حضروا العيد، وجَمَّعُوا: إذا حضروا الجمعة. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": و"عَرَفاتُ": موقف الحاج في اليوم التاسع من ذي الحجة، على اثني عشر ميلًا من مكة، وغَلِطَ الجوهريّ، فقال: موضع بمنى، سُمِّيت؛ لأن آدم وحواء تعارفا بها، أو لقول جبريل لإبراهيم عليه السلام لَمّا عَلَّمَه المناسك: أعرفت؟ قال: عرفتُ، أو لأنها مُقَدَّسة معظّمة، كأنها عُرِّفَت؛ أي طُيِّبَتْ، وهو اسم في لفظ الجمع، فلا يُجْمَعُ، معرفة، وإن كان جمعًا؛ لأن الأماكن لا تزول، فصارت كالشيء الواحد، مصروفةٌ؛ لأن التاء بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون. انتهى

(2)

.

(فَشَرِبَهُ) أي شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك اللبن.

قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: مَحْمِل هذا الحديث عندنا أنه كان بعرفة، وقد رُوي ذلك منصوصاً، وإذا كان بعرفة فالفطر أفضل تاسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوّةً على الدعاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة"، ونَهَى عن

(1)

"المصباح المنير" 2/ 404 - 405.

(2)

"القاموس المحيط" 3/ 173.

ص: 151

صوم يوم عرفة بعرفة، وتخصيصه بعرفة دليلٌ على أن غير عرفة ليست كذلك، وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم فضل صوم عرفة، وأنه يكفّر سنتين، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم الفضل -رضي الله عنهام- هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 2632 و 2633 و 2634 و 2635، (1123)، و (البخاريّ) في "الحج"(1658 و 1661) و "الصوم"(1988) و"الجهاد"(56040 و 5618 و 5636)، و (أبو داود) في "الصوم"(1441)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 375)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 282)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 339 و 340)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2828)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 204)، و"الطبرانيّ" في "الكبير"(25/ 24)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 116)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): استحباب الفطر للواقف بعرفة، قال الإمام ابن القيّم رحمه الله: وقد ذُكِر لفطره صلى الله عليه وسلم في عرفة عدّةُ حِكَم: منها: أنه أقوى على الدعاء.

ومنها: أن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم، فكيف بنفله.

ومنها: أن ذلك اليوم كان يوم الجمعة، وقد نُهِي عن إفراده بالصوم، فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيدًا لنهيه عن تخصيصه بالصوم، وإن كان صومه؛ لكونه يوم عرفة، لا يوم جمعة، قال: وكان شيخنا -يعني ابن تيميّة رحمه الله يسلك مسلكًا آخر، وهو أنه يوم عيد لأهل عرفة؛ لاجتماعهم فيه، كاجتماع الناس يوم العيد، وهذا الاجتماع يختصّ بمن بعرفة دون أهل الآفاق،

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 21/ 157.

ص: 152

قال: وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا في الحديث الذي رواه أهل "السنن": "يومُ عرفة، ويوم النحر، وأيام منى عيدنا أهلَ الإسلام"، ومعلوم أن كونه عيدًا هو لأهل ذلك الجمع؛ لاجتماعهم فيه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

2 -

(ومنها): استحباب الوقوف راكبًا، قال النوويّ رحمه الله: وهو الصحيح في مذهبنا، ولنا قول: إن غير الركوب أفضل، وقيل: إنهما سواء.

3 -

(ومنها): جواز الشرب قائمًا وراكبًا.

4 -

(ومنها): إباحة الهدية للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

5 -

(ومنها): إباحة قبول هدية المرأة المزوَّجة الموثوق بدينها، ولا يشترط أن يسأل: هل هو من مالها أم من مال زوجها؟، أوأنه أذن فيه أم لا؟ إذا كانت موثوقًا بدينها، قاله النوويّ رحمه الله.

وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو هذا ما نصّه: ولعل ذلك من القدر الذي لا يقع فيه المشاححة، قال المهلَّب: وفيه نظر؛ لما تقدم من احتمال أنه من بيت ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى

(2)

.

6 -

(ومنها): أن تصرّف المرأة في مالها جائزٌ، ولا يشترط إذن الزوج، سواء تصرَّفت في الثلث، أو أكثر، قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال مالك: لا تتصرف فيما فوق الثلث إلا بإذنه، وموضع الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل: هل هو من مالها، وَيخرُج من الثلث، أو بإذن الزوج أم لا؟، ولو اختَلَف الحكم لسأل. انتهى

(3)

.

7 -

(ومنها): أن العيان أقطع للحجة، وأنه فوق الخبر.

8 -

(ومنها): أن الأكل والشرب في المحافل مباحٌ، ولا كراهة فيه؛ للضرورة.

9 -

(ومنها): أن فيه تأسي الناس بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): مشروعيّة البحث، والاجتهاد في حياته صلى الله عليه وسلم.

(1)

"زاد المعاد" 2/ 77 - 78.

(2)

"الفتح" 5/ 425.

(3)

"شرح النووي" 8/ 2/ 3.

ص: 153

11 -

(ومنها): مشروعيّة المناظرة في العلم بين الرجال والنساء، والتحيّل على الاطلاع على الحكم بغير سؤال.

12 -

(ومنها): أن فيه بيان فِطنة أم الفضل رضي الله عنها؛ لاستكشافها عن الحكم الشريع بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال؛ لأن ذلك كان في يوم حرّ بعد الظهيرة.

قال ابن الْمُنَيِّر رحمه الله في "الحاشية": لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم ناول فضله أحدًا، فلعله عَلِم أنها خصته به، فيؤخذ منه مسألة التمليك المقيد. انتهى. ولا يخفى بُعده، وقد وقع في حديث ميمونة رضي الله عنه:"فشرب منه"، وهو مشعر بأنه لم يستوف شربه منه، وقال الزين ابن الْمُنَيِّر: لعل استبقاءه لِما في القدح كان قصدًا؛ لإطالة زمن الشرب حتى يعمّ نظر الناس إليه؛ ليكون أبلغ في البيان.

13 -

(ومنها): مشروعيّة الركوب في حال الوقوف

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صوم يوم عرفة:

قال النوويّ رحمه الله: مذهب الشافعيّ، ومالك، وأبي حنيفة، وجمهور العلماء استحباب فطر يوم عرفة بعرفة للحاجّ، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان بن عفان، وابن عمر، والثوريّ. قال: وكان ابن الزبير، وعائشة يصومانه، ورُوي عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وكان إسحاق يميل إليه، وكان عطاء يصومه في الشتاء دون الصيف، وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء.

واحتَجّ الجمهور بفطر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، ولأنه أرفق بالحاجّ في آداب الوقوف، ومهمات المناسك.

واحتَجّ الآخرون بالأحاديث المطلقة أن صوم عرفة كفارة سنتين، وحمله الجمهور على من ليس هناك. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": واستُدِلّ بهذين الحديثين -يعني حديث أم الفضل، وحديث ميمونة رضي الله عنها على استحباب الفطر يوم عرفة بعرفة، وفيه نظر؛ لأن

(1)

"الفتح" 5/ 435 - 436.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 2.

ص: 154

فعله المجرد لا يدلّ على نفي الاستحباب؛ إذ قد يترك الشيء المستحبّ؛ لبيان الجواز، ويكون في حقه أفضل لمصلحة التبليغ، نعم رَوَى أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، من طريق عكرمة، أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عن صوم يوم عرفة بعرفة".

وأخذ بظاهره بعض السلف، فجاء عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ قال: يجب فطر يوم عرفة للحاجّ، وعن ابن الزبير، وأسامة بن زيد، وعائشة رضي الله عنها أنهم كانوا يصومونه، وكان ذلك يُعْجِب الحسن، ويحكيه عن عثمان، وعن قتادة مذهب آخر، قال: لا بأس به إذا لم يَضْعُف عن الدعاء، ونقله البيهقيّ في "المعرفة" عن الشافعيّ في القديم، واختاره الخطابيّ، والمتولي من الشافعية.

وقال الجمهور: يستحب فطره، حتى قال عطاء: من أفطوه ليتقوى به على الذكر، كان له مثل أجر الصائم.

وقال الطبريّ: إنما أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة؛ ليدل على الاختيار للحاجّ بمكة؛ لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة.

وقيل: إنما أفطر لموافقته يوم الجمعة، وقد نُهِي عن إفراده بالصوم، ويُبعِده سياق أول الحديث.

وقيل: إنما كُره صوم يوم عرفة؛ لأنه يوم عيد لأهل الموقف؛ لاجتماعهم فيه، ويؤيِّده ما رواه أصحاب "السنن" عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا:"يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى، عيدنا أهلَ الإسلام". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور، من استحباب الفطر يوم عرفة بعرفة؛ تاسّيًا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نَهَى عن صوم يوم عرفة بعرفة"، وإن صححه ابن خزيمة، إلا أن في سنده مهديًّا الهجريّ، فقد قال ابن معين: لا أعرفه، قاله في "التهذيب"، وكذا أبو حاتم، وقال ابن حزم: مجهول، نقله الذهبيّ في "الميزان"

(2)

، وقال في "التقريب": مقبولٌ؛ أي حيث يتابع، ولم

(1)

"الفتح" 5/ 425.

(2)

"ميزان الاعتدال" 4/ 195.

ص: 155

يتابع هنا، فلا يصلح للاحتجاج به، فتنئه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2633]

(

) - (حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ "، وَقَالَ: عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أبي النضر هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في"صحيحه"فقال:

(5282)

- حدثنا الْحُمَيْدِيُّ، سمع سُفْيَانَ، أخبرنا سالِمٌ أبو النَّضْرِ، أَنَّهُ سمع عُمَيْرًا مولى أُمِّ الْفَضْلِ، يحدث عن أُمِّ الْفَضْلِ، قالت: شَكَّ الناس في صِيَامِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يوم عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إليه بِإِنَاءٍ فيه لَبَنٌ، فَشَرِبَ، فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قال: شَكَّ الناس في صِيَامِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يوم عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إليه أُمُّ الْفَضْلِ، فإذا وُقِّفَ عليه قال: هو عن أُمِّ الْفَضْلِ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2634]

(

) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَالِم أَبِي النَّضْرِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ: عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أُّمِّ الْفَضْلِ).

ص: 156

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم قبل باب.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ

(1)

، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن أبي النضر هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 204) فقال:

(2550)

- حدّثنا عبد الله بن محمد، ومحمد بن إبراهيم قالا: ثنا أحمد بن عليّ، ثنا أبو خيثمة (ح) وثنا أبو عمرو، ثنا الحسن، ثنا محمد بن خلاد، وشعيب بن يوسف، قالوا: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن عُمير مولى أم الفضل، عن أم الفضل، أنهم تماروا في صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فبَعَثت إليه بقدح من لبن، فشرب. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2635]

(

) - (وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ عُمَيْرًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حَدَّثَهُ، أَنَّهُ

(1)

كون سفيان هنا هو الثوريّ هو الصواب، وأما في السند الماضي فهو ابن عيينة، وقد وقع هنا في برنامج الحديث خطأ حيث أثبتت ترجمة ابن عيينة، وهو غلط فاحش، وقد صرّح الحافظ المزيّ رحمه الله بما ذكرته في "تحفة الأشراف"(12/ 44) فراجعه.

[فائدة]: من القاعدة المفيدة في الفرق بين السفيانين ما نظمته في أبيات، فمن ذلك أن الراوي عن سفيان إذا كان من الطبقة التاسعة، كعبد الرحمن بن مهديّ، ووكيع، ويحيى القطّان ونحوهم، أو كان من كبار العاشرة، كمحمد بن كثير، فسفيان هو الثوريّ، وإن كان الراوي من الطبقة العاشرة، كإسحاق ابن راهويه، وزهير بن حرب، وابن أبي عمر، ونحوهم، فسفيان هو ابن عيينة، فانتبه لهذه القاعدة، واحفظ الأبيات المذكورة، وهي في "الفوائد السَّمِيَّة" ص (49)، تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

ص: 157

سَمِعَ أمَّ الْفَضْلِ رضي الله عنها تَقُولُ: شَكَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَنَحْنُ بِهَا، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَعْبٍ، فِيهِ لَبَنٌ، وَهُوَ بِعَرَفَةَ، فَشَرِبَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

وقد ذكروا قبله، فالثلاثة الأولون تقدموا في الباب الماضي، والباقون ذُكروا في السند الماضي.

وقولها: (فِي صِيَامِ يَوْم عَرَفَةَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: و"يوم عرفة" تاسع ذي الحجة عَلَمٌ، لا يدخلها الأَلف واللام، وهي ممنوعة من الصرف؛ للتأنيث والعلميّة. انتهى

(1)

.

وقولها: (وَنَحْنُ بِهَا) أي بعرفة، كما هو المصرّح به في قولها:"وهو بعرفة".

وقولها: (بِقَعْبٍ) بفتح، فسكون: إناء ضَخْمٌ، كالقَصْعَة، والجمعُ: قِعَاب، وأَقْعُبٌ، مثلُ سَهْمٍ وسِهَامٍ وأَسْهُمٍ، قاله في "المصباح"

(2)

.

وقال في "القاموس": الْقَعْبُ: الْقَدَح الضَّخْم الجافي، أو إلى الصِّغَر، أو يُرْوِي الرجل، جمعه أَقْعُبٌ، وقِعَابٌ، وقِعَبَة. انتهى

(3)

.

وقال في "اللسان": "الْقَعْبُ": القَدَح الضَّخْم الغليظ الجافي، وقيل: قَدَحٌ من خشب مُقَعَّر، وقيل: هو قَدَحٌ إلى الصغر، يُشَبَّه به الحافر، وهو يُروي الرجل، والجمع القليل أَقْعُب، وأنشد ابن الأعرابي [من الطويل]:

إِذَا مَا أَتَتْكَ الْعِيرُ فَانْصَحْ فُتُوقَهَا

وَلَا تَسْقِيَنْ جَاريكَ مِنْهَا بِأَقْعُبِ

والكثير قِعَابٌ، وقِعَبَةٌ، مثلُ جَبْءٍ وَجِبَأَةِ، قال ابن الأعرابيّ: أول الأَقْدَاح الْغُمَرُ، وهو الذي لا يبلغ الرِّيَّ، ثم الْقَعْبُ، وهو قد يُروِي الرجل، وقد يُروِي الاثنين، والثلاثة، ثم الْعُسّ. انتهى

(4)

.

والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى شرحه وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 404 - 405.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 510.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 118.

(4)

"لسان العرب" 1/ 683 - 684.

ص: 158

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2636]

(1124) - (وَحَدَّثَني هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِي، حَدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ، أخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ مَيْمُونَةَ

(1)

زَوْجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: إِن النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَام رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ مَيْمُونَةُ بِحِلَابِ اللَّبَنِ، وَهُوَ وَاقِفٌ فِي المَوْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) ابن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، أبو رِشْدين المدنيّ، ثقة [3](ت 198)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.

2 -

(مَيْمُونَةُ) بنت الحارث الهلاليّة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل: اسمها برّة، فسمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم ميمونة، تزوّجها بسَرِف سنة سبع من الهجرة، وماتت بها سنة (51) على الصحيح (ع) تقدمت في "الحيض" 1/ 687.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

وقوله: (عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) هي أخت أم الفضل المذكورة في الحديث الماضي وقوله: (فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ مَيْمُونَةُ) فيه العدول عن التكلّم إلى الغيبة؛ إذ المقام مقام الإضمار، فكان الأصل أن تقول:"فأرسلتُ إليه" بضمير المتكلّم، وهو الذي في "صحيح البخاريّ"، وإنما أظهرت للإيضاح، أو من باب التجريد.

وقيل: يَحْتَمل أن يكون من كلام غريب، ولا يخفى بعده.

وقوله: (بِحِلَاب اللّبَنِ) بكسر الحاء المهملة: هو الإناء الذي يُحلب فيه، ويقال له: الْمِحْلب، بكسر الميم

(2)

، وتمام شرح الحديث واضح يُعلم مما سبق في حديث أم الفضل رضي الله عنها.

(1)

وفي نسخة: "بنت الحارث".

(2)

"شرح النوويّ" 4/ 8.

ص: 159

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث رضي الله عنها هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 2636](1124)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1989)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 245)، و (أبو عوانة) في "مستخرجه"(3/ 205)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 283)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ)

[تنبيهان]:

(الأول): قال الفيّوميّ رحمه الله: عاشوراء: عاشر المحرّم، وفيها لغات: المدّ، والقصر مع الألف بعد العين، وعَشُوراء بالمد مع حذف الألف. انتهى

(1)

.

وقال في "القاموس": والعاشوراء، والْعَشُوراءُ، ويُقصَران، والعاشورُ: عاشر المحرّم، أو تاسعه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "عاشوراء": وزنه فَاعُولاء، والهمزة فيه للتأنيث، وهو معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل: صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخود من العشر الذي هو اسم العقد الأول، واليوم مضاف إليها، فإذا قلت: يوم عاشوراء، فكأنك قلت: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، وعلى هذا: فيوم عاشوراء هو العاشر؛ قاله الخليل وغيره. وقيل: هو التاسع.

ويُسَمَّى: عاشوراء على عادة العرب في الإظماء، وذلك أنهم: إذا وردوا

(1)

"المصباح المنير" 2/ 412.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 89.

ص: 160

الماء لتسعة سموه: عشرًا؛ وذلك أنهم: يحسبون في الإظماء يوم الورود، فإذا أقامت الإبل في الرعي يومين، ثم وردت في الثالث قالوا: وَرَدت رِبْعًا. وإذا وردت في الرابع قالوا: وردت خِمْسًا؛ لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الرعي، وأول اليوم الذي ترِد فيه بعده، وهذا فيه بُعْد؛ إذ لا يمكن أن يعتبر في عدد ليالي العشر وأيامه ما يعتبر في الإظماء، فتأمله.

وعلى القول الأول سعيد والحسن ومالك وجماعة من السَّلف، وذهب قوم: إلى أنه التاسع، وبه قال الشافعي متمسِّكًا بما ذكر في الإظماء، وبحديث ابن عباس الآتي إن شاء الله.

وذهب جماعة من السَّلف: إلى الجمع بين صيام التاسع والعاشر، وبه قال الشافعيّ قوله الآخر، وأحمد، وإسحاق، وهو قول من أشكل عليه التعيين، فجمع بين الأمرين احتياطًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

[التنبيه الثاني]: زعم ابن دُريد أن عاشوراء اسم إسلاميّ، وأنه لا يُعْرَف في الجاهلية، ورَدّ ذلك عليه ابن دحية بأن ابن الأعرابيّ حَكَى أنه سمع في كلامهم خابوراء، وبقول عائشة رضي الله عنها أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه. انتهى، قال الحافظ: وهذا الأخير لا دلالة فيه على ردّ ما قال ابن دريد. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن لفظ عاشورء مما استعملته العرب قبل الإسلام، وكذا سائر الألفاظ الشرعيّة، كالصلاة، والزكاة، والحج، ونحوها، فإنه كانت مستعملة عندهم في الجاهليّة، ثم جاء الإسلام فخاطبهم بما كانوا يعرفونه، ولذا لم يُسمع أنهم استفسروا النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الألفاظ، فلم يقولوا: ما الصلاة، وما الزكاة، وما الحج؛ وهكذا، بل بمجرّد أنْ خَاطَبَهُمْ بتلك الألفاظ أجاب من أجاب، وأبى من أبي.

ولقد أجاد في هذا البحث القاضي عياض رحمه الله، حيث قال ما حاصله: إن ألفاظ العبادات واردة في الشرع على ما عَهِدَه أهل اللغة، خلافًا لجماهير المتكلّمين؛ إذ كانوا يصومون، وَيَعْرِفون الصوم، ويحجّون، ويعرفون الحجّ، فخاطبهم الشرع بما عَلِموه تحقيقًا، لا أنه أتاهم بألفاظ مؤتنقة ابتدعها لهم،

(1)

"المفهم" 3/ 190.

ص: 161

كما قاله المخالف، أو بألفاظ لغويّة، لا يُعلم منها المقصود إلا رمزًا. انتهى كلام القاضي رحمه الله

(1)

.

فبيّن رحمه الله أن المختار أن العرب قبل ورود الشرع كانوا يستعملون هذه الألفاظ في معانيها الشرعية، من أقوال، وأفعال، فعَرَفوا الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والعمرة، وغير ذلك، فما خاطبهم الشرع إلا بما عَرَفوه؛ تحقيقًا، لا أنه أتاهم بألفاظٍ ابتدَعَها لهم، أو بألفاظ لغوية، لا يُعْرَف منها المقصود إلا رمزًا، كما قال المخالف، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2637]

(1125) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ

(2)

، فَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ:"مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

3 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) تقدّم قبل باب.

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، تقدّم أيضًا قبل باب.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل باب، وكذا لطائف الإسناد ذُكرت هناك.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه) أنها (قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ) أي قبيلة قريش، وهم مَن وَلَدَهُم النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ، وقيل: قريش من وَلَدَه

(1)

"إكمال المعلم" 4/ 77 - 78.

(2)

وفي نسخة "بصومه".

ص: 162

فهر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش، قاله في "المصباح"

(1)

.

وقال في "القاموس": قَرَشَهُ يَقْرُشُه، وَيقْرِشُهُ -من بابي نصر، وضرب-: قَطَعه، وجمعه من هاهنا وهاهنا، وضَمّ بعضه إلى بعض، ومنه قُريش؛ لتجَمُّعهم إلى الحرم، أو لأنهم كانوا يتقرشون البِيَاعاتِ، فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يومًا، فقالوا: تَقَرَّش، أو لأنه جاء إلى قومه، فقالوا: كأنه جَمَلٌ قَرِيشٌ؛ أي شديد، أو لأن قُصَيًّا كان يقال له: القرشيّ، أو لأنهم كانوا يُفَتِّشُون الْحَاجَ، فيَسُدُّون خَلَّتها، أو سميت بمصغّر القِرْش، وهو دابة بحرية، تخافها دواب البحر كلُّها، أو سميت بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عِيرِهم، فكانوا يقولون: قَدِمَت عِيرُ قريش، وخَرَجت عِير قريش، والنسبة قُرَشيّ، وقُرَيشي. انتهى

(2)

.

(تَصُومُ عَاشُورَاءَ) بالمدّ، وحُكي قصرها، وسيأتي تمام البحث فيه أول الباب (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه وتعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكبر، والتجبّر، وغير ذلك، ويقال: كان ذلك في الجاهليّة الْجَهْلاء، وهو توكيد للأول، اشتُقّ له من اسمه، ما يؤكّد به، كما يقال: وَتِدٌ واتدٌ، وليلةٌ ليلاءُ، وَلومٌ أَيْوَمُ، أفاده في "اللسان"

(3)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: قول عائشة رضي الله عنه: "كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية"؛ يدلّ على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلومَ المشروعيّة والقدر، ولعلهم كانوا يستندون في صومه إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل- صلوات الله وسلامه عليهما-؛ فإنهم كانوا ينتسبون إليهما، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما.

وأما صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم له فيَحْتَمِل أن يكون بحكم الموافقة لهم عليه، كما وافقهم على أن يَحُجّ معهم على ما كانوا يحجّون -أعني: حجته الأولى التي حجها قبل هجرته، وقبل فرض الحج-؛ إذ كل ذلك فعل خير.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 497.

(2)

"القاموس المحيط" 2/ 283 - 284.

(3)

راجع: "لسان العرب" 11/ 130.

ص: 163

ويمكن أن يقال: أذن الله تعالى له في صيامه، فلما قَدِم المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن الحامل لهم على صومه؟ فقالوا ما ذكره ابن عباس رضي الله عنها: إنه يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى عليه السلام شكرًا، فنحن نصومه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فنحن أحق وأولى بموسى منكم"؛ فحينئذ صامه بالمدينة، وأمر بصيامه؛ أي: أوجب صيامه، وأكّد أمره؛ حتى كانوا يُصوِّمون الصغار، فالتزمه صلى الله عليه وسلم، وألزمه أصحابه إلى أن فُرِض شهر رمضان، ونُسِخ صوم يوم عاشوراء، فقال إذ ذاك:"إن الله لم يكتب عليكم صيام هذا اليوم"، ثم خَيَّر في صومه وفطره، وأبقى عليه الفضيلة بقوله:"وأنا صائم"، كما جاء في حديث معاوية رضي الله عنه.

وعلى هذا: فلم يصم النبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء اقتداء باليهود؛ فإنه كان يصوم قبل قدومه عليهم، وقبل علمه بحالهم، لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه؛ استئلافًا لليهود، واستدراجًا لهم، كما كانت الحكمة في استقباله قبلتهم، وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحبُّ فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْهَ عنه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: دعواه كون صومه صلى الله عليه وسلم لشوراء استئلافًا لليهود فيه نظر؛ إذ كان يصومه قبل ذلك، كما أشار إليه قبل، وأيضًا فقد علّل في صومه بأنه اتباع لموسى عليه السلام، حيث قال:"نحن أولى بموسى منكم".

وأما دعواه كون استقبال القبلة؛ للاستئلاف أيضًا، فغير صحيح؛ لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان وهو بمكة يستقبل بيت المقدس، فلما هاجر استمرّ عليه، وليس ذلك؛ لاستئلافهم، حتى نُسخ ذلك بالكعبة، وقد تقدّم تحقيق هذا في بابه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ) وفي رواية البخاريّ: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهليّة": أي قبل أن يهاجر إلى المدينة (فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ) أي صام صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء (وَأَمَرَ) الناس (بِصِيَامِهِ) وفي نسخة: "بصومه"، قال في "الفتح" ما حاصله: يستفاد من هذا تعيين الوقت الذي وقع

(1)

"المفهم" 3/ 190 - 192.

ص: 164

فيه الأمر بصيام عاشوراء، وقد كان أوّلَ قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية، وفي السنة الثانية فُرِض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصيام عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فُوِّض الأمر في صومه إلى رأي المتطوِّع، فعلى تقدير صحة قول من يَدَّعِي أنه كان قد فُرِض فقد نُسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة.

ونَقَل القاضي عياض أن بعض السلف كان يَرَى بقاء فرضية عاشوراء، لكن انقرض القائلون بذلك، ونَقَل ابن عبد البر الإجماع على أنه الآن ليس بفرض، والإجماعَ على أنه مستحبّ، وكان ابن عمر يَكْرَه قصده بالصوم، ثم انقرضَ القول بذلك.

وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلّهم تلقَّوه من الشرع السالف، ولهذا كانوا يعظِّمونه بكسوة الكعبة فيه، وغير ذلك، قال: ثم رأيت في المجلس الثالث من مجالس الباغنديّ الكبير، عن عكرمة أنه سُئل عن ذلك، فقال: أذنبت قريش ذنبًا في الجاهلية، فعَظُم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يُكَفّر ذلك. هذا أو معناه. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا فُرِضَ) بالبناء للمفعول (شَهْرُ رَمَضَانَ) أي صيامه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَنْ شَاءَ صَامَهُ) أي صام يوم عاشوراء (وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ") أي لكونه تطوّعًا، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أنه ليس متحتِّمًا، فأبو حنيفة يقدره: ليس بواجب، والشافعية يقدرونه: ليس متأكدًا أكمل التأكيد، وعلى المذهبين فهو سنة مستحبة الآن من حين قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، قال: والعلماء مُجْمِعون على استحبابه وتعيينه؛ للأحاديث الصحيحة المذكورة في الباب، وأما قول ابن مسعود رحمه الله:"كنا نصومه، ثم تُرِك": فمعناه: أنه لم يَبْقَ كما كان من الوجوب، أو تأكد الندب. انتهى كلام النوويّ بتصرّف

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 5/ 437.

(2)

راجع: "شرح النوويّ" 8/ 4 - 5.

ص: 165

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2637 و 2638 و 2639 و 2640 و 2641](1125)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1592) و"الصوم"(1893 و 2001) و"المناقب"(3831) و"التفسير"(4502 و 4504)، و (أبو داود) في "الصوم"(2442)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(753)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 157)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 299)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7842 و 7844 و 7845)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 55)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 262 - 263)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 106)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 162 و 244)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 23)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2080)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3621)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 212)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 74)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 236 و 237 و 240)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 206 و 209)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 288 و 290) و"المعرفة"(3/ 432)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل صوم يوم عاشوراء؛ لأنه لم يخصّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بندبه أمته إلى صيامه، وإرشادهم إلى ذلك، وإخباره إياهم بأنه صائم له؛ ليقتدوا به، إلا لفضل فيه، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قاله أبو عمر رحمه الله

(1)

.

2 -

(ومنها): بيان استحباب صوم يوم عاشوراء، وأنه بأن لا نسخ فيه.

3 -

(منها): بيان أن صوم عاشوراء كان واجبًا قبل فرض رمضان، ثم نُسخ، وفيه اختلاف بين العلماء، سيأتي تحقيقه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

(1)

"الاستذكار" 3/ 327.

ص: 166

4 -

(ومنها): بيان جواز النسخ في شريعتنا، ووقوعه أيضًا، وهو مجمع عليه بين المسلمين، وقد ذكرت ذلك في "التحفة المرضيّة" في الأصول بقولي:

اعْلَمْ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَهْ

نَاسِخَةٌ لِمَا مَضَى جَمِيعَهْ

صَالِحَةٌ لِكُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانْ

تَعُمُّ كُلَّ النَّاسِ أَمْنًا ذَا ضَمَانْ

لِذَاكَ صَارَتْ خَيْرَ شِرْعَةِ السَّمَا

وَأَهْلُهَا الْوَسَطُ تَعْلُو الأُمَمَا

ثُمَّ اعْلَمَنْ أَيْضًا بِأَنْ الأُمّهْ

قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى وِفَاقِ الْحِكْمَهْ

عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ مَعْ وُقُوعِهِ

يَمْحُو الإِلَهُ مَا يَشَا مِنْ شَرْعِهِ

يَقُولُ سُبْحَانَهُ "مَا نَنْسَخْ" كَذَا

قَدْ قَالَ "يَمْحُو" خُذْ مِثَالًا يُحْتَذَى

تَحْوِيلَ قِبْلَةٍ وَنَسْخَ عِدَّةِ

وَصَبْرَ وَاحِدٍ لَدَى عَشَرَةِ

وقلت في بيان حكمة النسخ:

فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يَحْكُمُ مَا

يَشَا فَفِي النَّسْخ أَرَادَ حِكَمَا

تَخْفِيفُهُ عَنْ خَلْقِهِ وَتَوْسِعَهْ

كَنَسْخِهِ الأَثْقَلَ قُلْ مَا أَوْسَعَهْ

تَكْثِيرُ أَجْرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ يَكُنْ

نَسْخُ الأَخَفِّ أَيْ بِأَثْقَلَ فَصُنْ

وَدَفْعُ حُجَّةِ الْيَهُودِ الْفَجَرَهْ

وَالْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ الكَفَرَهْ

إِذْ أَنْكَرُوا النَّسْخَ مِنَ الْقُدْسِ إِلَى

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَامِلِ الْعَلَا

تَمْيِيزُهُ الْقَوِيَّ فِي الإِيمَانِ

مِمَّنْ هُوَ الضَّعِيفُ فِي الإِيقَانِ

وَالامْتِحَانُ بِكَمَالِ الانْقِيَادْ

مُبَادِرًا لأَمْرِ قَاهِرِ الْعِبَادْ

وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي النَّسْخِ تُرَى

قَبْلَ تَمَكُّنٍ مِنَ الْفِعْلِ جَرَى

كَمِثْلِ مَا جَرَى لإِبْرَاهِيمَ فِي

ذَبْحِ ابْنِهِ الْحَلِيمِ ذِي الْعَهْدِ الْوَفِي

ثُمَّةَ ذَا النَّاسِخُ خَيْرٌ مُطْلَقَا

أَخَفَّ أَوْ أَثْقَلَ أَوْ قَدْ وَافَقَا

5 -

(ومنها): بيان أن النسخ قد يكون بالأثقل، فإن صوم عاشوراء يوم واحد نُسخ بصوم شهر رمضان.

6 -

(ومنها): بيان أن لا فرض في الصوم غير شهر رمضان، وهذا مجمع.

7 -

(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يوافق قريشًا على ما يفعلونه من الخير، كصوم يوم عاشوراء، وكالحج والعمرة.

8 -

(ومنها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يوافق أهل الكتاب أيضًا فيما يفعلونه حتى

ص: 167

أُمِر بمخالفتهم، فخالفهم فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَسْدِل شعره، وكان المشركون يَفْرُقُون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يَسْدِلون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه.

9 -

(ومنها): بيان مشروعيّة شكر الله تعالى بالصوم لمن حصل له خير من تفريج كرب، أو تيسير أمر.

10 -

(ومنها): بيان أن ما حصل من النعم للأنبياء السابقين -كنجاة نوح عليه السلام، ونجاة موسى عليه السلام، وغرق فرعون- ينبغي لنا أن نفرح به، ونشكر الله تعالى على ذلك؛ فإنه من جملة النعم الواصلة إلينا بالواسطة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في صوم يوم عاشوراء:

قال النوويّ رحمه الله: اتَّفَق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليومَ سنةٌ، ليس بواجب، واختلفوا في حكمه في أول الإسلام حين شُرِع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبًا، واختَلَف أصحاب الشافعيّ فيه على وجهين مشهورين: أشهرهما عندهم أنه لم يزل سنةً من حين شُرع، ولم يكن واجبًا قطّ في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبًّا دون ذلك الاستحباب، والثاني كان واجبًا يقول أبي حنيفة، وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مُفطرين أول يوم عاشوراء، ثم أمروا بصيامه بنيّة من النهار، ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه، وأصحاب الشافعيّ يقولون: كان مستحبًّا فصحّ بنيّة من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله:"أَمَر بصيامه"، والأمر للوجوب، وبقوله:"فلما فُرِض رمضان قال: من شاء صامه، ومن شاء تركه"، ويحتجّ الشافعية بقوله:"هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه"، انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى قوّة ما ذهب إله الإمام أبو حنيفة، وسيأتي ترجيحه، والجواب عما تمسّك به الشافعيّة في كلام ابن القيّم رحمه الله.

قال رحمه الله: واختَلَف الناس في يوم عاشوراء، هل كان صومه واجبًا أو

ص: 168

تطوعًا؟ فقالت طائفة: كان واجبًا، وهذا قول أبي حنيفة، ورُوي عن أحمد، وقال أصحاب الشافعيّ: لم يكن واجبًا، وإنما كان تطوعًا، واختاره القاضي أبو يعلى من الحنبليّة، وقال: هو قياس المذهب

(1)

، واحتج هؤلاء بثلاث حُجَج:

[إحداها]: ما أخرجاه في "الصحيحين" عن حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خطيبًا بالمدينة؛ يعني في قدمة قَدِمَها خطبهم يوم عاشوراء، فقال:"أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول إلله صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم: "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم، ومن أحب منكم أن يفطر فليفطر". اهـ.

[الحجة الثانية]: ما في "الصحيحين" أيضًا عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا مِن أسلم يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذن في الناس: من كان لم يصم فليصم"، قالوا: فهذا أمر بإنشاء الصيام أثناء النهار، وهذا لا يجوز إلا في التطوع، وأما الصيام الواجب فلا يصح إلا بنيّة قبل الفجر.

[الحجة الثالثة]: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر المفطرين فيه إذ ذاك بالقضاء.

واحتج الأولون بحُجَج:

[إحداها]: ما أخرجاه في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فُرض شهر رمضان، قال:"من شاء صامه، ومن شاء تركه"، وفي صحيح البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صام النبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضان تركه.

قالوا: ومعلوم أن الذي تُرِك هو وجوب صومه، لا استحبابه؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُرَغِّب فيه، ويُخبر أن صيامه كفارة سنة، وقد أخبر ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصومه إلى حين وفاته، وأنه عَزَم قبل وفاته بعام على صيام التاسع، فلو كان المتروك مشروعيته لم يكن لقصد المخالفة بضم التاسع إليه معنى، فعُلِم أن المتروك هو وجوبه.

(1)

أي: المذهب الحنبليّ.

ص: 169

[الحجة الثانية]: أن في "الصحيحين" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر مَن كان أكل بأن يمسك بقية يومه، وهذا صريح في الوجوب، فإن صوم التطوع لا يُتصوَّر فيه إمساك بعد الفطر.

[الحجة الثالثة]: ما في "الصحيحين" أيضًا عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، فذكرت الحديث، إلى أن قالت: فلما فُرِض رمضان كان هو الفريضة

الحديث، وهذا اللفظ من سياق البيهقيّ، فقولها: كان هو الفريضةَ دالّ على أن عاشوراء كان واجبًا، وأن رمضان صار هو الفرض، لا عاشوراءُ، وإلا لم يكن لقولها: كان هو الفريضة معنى.

قال الموجبون: وأما حديث معاوية رضي الله عنه فمعناه: ليس مكتوبًا عليكم الآن، أو لم يكتبه بعد نزول رمضان، أو إنما نَفَى الكَتْب، وهو الفرض المؤكد الثابت بالقرآن، ووجوب عاشوراء إنما كان بالسنة، ولا يلزم من نفي كتبِه وفرضه نفيُ كونه واجبًا، فإن المكتوب أخصّ من مطلق الواجب، وهذا جارٍ على أصل مَن يُفَرِّق بين الفرض والواجب، وقد نصّ أحمد في إحدى الروايتين عنه على أنه لا يقال: فرضٌ إلا لما ثبت بالقرآن، وأما ما ثبت بالسنة فإنه يسميه واجبًا.

قالوا: وأما تصحيحه بنيّة من النهار، فالجواب عنه من وجهين:

[أحدهما]: أن هذا حجة لمن يقول بجواز صوم الفرض بنيّة من النهار، قالوا: وهو عمدتنا في المسألة، فليس لكم أن تنفوا وجوبه بناءًا على بطلان هذا القول، فإنه دَوْرٌ ممتنع، ومصادر باطلة، وهذا جواب أصحاب أبي حنيفة.

قال منازعوهم: إذا قلتم إنه كان واجبًا ثبت نسخه اتفاقًا، وأنتم إنما جوّزتم الصوم المفروض بنيّة من النهار بطريق الاستنباط منه، وأن ذلك من متعلقاته ولوازمه، والحكم إذا نُسِخ نسخت لوازمه، ومتعلقاته، ومفهومه، وما ثبت بالقياس عليه؛ لأنها فرع الثبوت على الأصل، فإذا ارتَفَع الأصل امتنع بقاء الفرع بعده.

قال الحنفية: الحديث دلّ على شيئين: أحدهما إجزاء الصوم الواجب بنيّة من النهار، والثاني تعيين الصوم الواجب بأنه يوم عاشوراء، فنُسِخ تعيين الواجب برمضان، وبقي الحكم الآخر لا معارض له، فلا يصح دعوى نسخه؛

ص: 170

إذ الناسخ إنما هو تعيين الصوم، وإبداله بغيره، لا إجزاؤه بنية من النهار.

[الجواب الثماني]: أن ذلك الصوم إنما صح بنيّة من النهار؛ لأن الوجوب إنما ثبت في حقّ المكلفين من النهار، حين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم المنادي أن ينادي بالأمر بصومه، فحينئذ تجدد الوجوب، فقارنت النية وقت وجوبه.

وقيل: هذا لم يكن واجبًا، فلم تكن نية التبييت واجبة.

قالوا: وهذا نظير الكافر يُسلم في أثناء النهار، أو الصبيّ يَبْلُغ، فإنه يُمْسِك من حين يثبت الوجوب في ذمته، ولا قضاء عليه، كما قاله مالك، وأبو ثور، وابن المنذر، وأحمد في إحدى الروايتين عنه.

ونظيره أيضًا إذا أثبتنا الصوم تطوعًا بنيّة من النهار، ثم نَذَر إتمامه، فإنه يجزئه بنيّته عند مقارنة الوجوب.

قالوا: ولا يَرِد علينا ما إذا قامت البينة برؤية هلال رمضان في أثناء النهار، حيث يلزم القضاء لمن لم يكن قد بيّت الصوم؛ لأن الوجوب هنا كان ثابتًا، وإنما خفي على بعض الناس، وتساوي المكلفين في العلم بالوجوب لا يشترط، بخلاف ابتداء الأمر بصيام عاشوراء، فإنه حينئذ ابتداء وجوبه، فالفرق إنما هو بين ابتداء الوجوب، والشروع في الإمساك عقبه، وبين خفاء ما تقدم وجوبه، ثم تجدد سبب العلم بوجوبه، فإن صحّ هذا الفرق، وإلا فالصواب التسوية بين الصورتين، وعدم وجوب القضاء، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن من علم برؤية الهلال أثناء النهار وجب عليه صوم بقيّة اليوم، ولا قضاء عليه، وهذا هو القول الراجح؛ لقوّة دليله، كما حقّقته في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد

(1)

، وبالله تعالى التوفيق.

قال: قالوا: وأما حجتكم الثالثة بأنه لم يأمرهم بالقضاء، فجوابها من وجهين:

أحدهما: أنا قد ذكرنا حديث أبي داود أنهم أُمِرُوا بالقضاء، وقد اختُلِف في هذا الحديث، فإن كان ثابتًا فهو دليل على الوجوب، وإن لم يكن ثابتًا فإنما لم يؤمروا بالقضاء؛ لعدم تقدم الوجوب؛ إذ الوجوب إنما ثبت عند أمره،

(1)

راجع: "ذخيرة العقبى" 21/ 230 - 232.

ص: 171

فاكتفى منهم بإمساك ما بقي، كالصبي يبلغ، والكافر يسلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله باختصار

(1)

.

ظ ل الجامع عفا الله عنه: أشار بحديث أبي داود إلى ما أخرجه هو والنسائيّ، من طريق قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمة، أن أسلم أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"صمتم يومكم هذا؟ " قالوا: لا، قال:"فأتموا بقية يومكم، واقضوه".

وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الرحمن بن سلمة، قال ابن القطّان: مجهول، وقال الذهبيّ: لا يُعرف، وقال في "التقريب": مقبولٌ؛ أي حيث يُتابع، ولم يُتابع هنا، فالحديث بزيادة:"واقضوه" لا يصحّ؛ لما ذُكر، فتنبه.

والحاصل أن مجموع الأحاديث تدلّ دلالة قويّةً على أن صوم عاشوراء كان واجبًا، وذلك لثبوت الأمر بصومه، والأمر للوجوب، ثم تأكُّد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العامّ، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يُرضعن فيه الأطفال، كما سيأتي معظم هذه الأحاديث في الباب، وبقول ابن مسعود رضي الله عنهما الثابت فيه أيضًا:"لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء"، مع العلم بأنه ما تُرِك استحبابه، بل هو باق، فدلّ على أن المتروك وجوبه.

وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه، فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه بأن، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:"لئن عِشت لأصومنّ التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه، وأنه يكفّر سنة، وأيّ تأكيد أبلغ من هذا؟.

فتلخّص مما سبق أن صوم عاشوراء كان واجبًا، ثم نُسخ وجوبه برمضان، وبقي استحبابه، وهذا هو المذهب الراجح؛ لقوّة حُججه، كما سبق إيضاحه آنفًا.

ومن الغريب أن الحافظ رحمه الله حقق هذه الحجج، كما سمعت، لكنه مال

(1)

"حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" 7/ 81 - 84.

ص: 172

إلى ترجيح قول من قال بعدم الوجوب، حيث قال: والذي يترجّح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضًا، وعلى تقدير أنه كان فرضًا، فقد نُسِخ بلا ريب، فنسخ حكمه، وشرائطه بدليل قوله:"من أكل فليتمّ"، ومن لا يشترط النيّة من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار.

قمال الجامع عفا الله عنه: قوله: "والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضًا"، إن أراد كونه مذهب الجمهور، فمسلَّم، وإن أراد أنه راجح من حيث الدليل فلا؛ لأن الذي يترجح بالأدلة الواضحة كونه فرضًا، لكنه نسخ برمضان، كما سمعته آنفًا، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): ذكر الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه القيّم: زاد المعاد" عدّة استشكالات وردت على أحاديث صوم يوم عاشوراء، ثم أجاب عنها، أحببت إيرادها هنا؛ تكميلًا للفائدة، ونشرًا للعائدة، قال رحمه الله:

وأما صيام يوم عاشوراء، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صومه على سائر الأيام، ولَمّا قَدِم المدينة وجد اليهود تصومه وتعظمه، فقال:"نحن أحقّ بموسى منكم" فصامه، وأمر بصيامه، وذلك قبل فرض رمضان، فلما فُرِض رمضان قال:"من شاء صامه، ومن شاء تركه".

قال: وقد استَشْكَل بعض الناس هذا، وقال: إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول، فكيف يقول ابن عباس: إنه قَدِمَ المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء.

وفيه إشكال آخر، وهو أنه قد ثبت في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فُرِض شهر رمضان قال:"من شاء صامه، ومن شاء تركه".

وإشكال آخر، وهو ما ثبت في "الصحيحين" أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، وهو يتغدى، فقال: يا أبا محمد ادْنُ إلى الغداء، فقال: أوَ ليس اليوم يوم عاشوراء؟ فقال: وهل تدري ما يوم عاشوراء؟

ص: 173

قال: وما هو؟ قال: إنما هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان تركه.

وقد روى مسلم في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا فيه أن صومه، والأمر بصيامه قبل وفاته بعام، وحديثه المتقدّم فيه أن ذلك كان عند مَقْدَمه المدينة، ثم إن ابن مسعود رضي الله عنه أخبر أن يوم عاشوراء تُرِك برمضان، وهذا يخالفه حديث ابن عباس المذكور، ولا يمكن أن يقال تُرك فرضه؛ لأنه لم يُفْرَض؛ لما ثبت في "الصحيحين" عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر"، ومعاوية إنما سمع هذا بعد الفتح قطعًا.

وإشكال آخر، وهو أن مسلمًا روى في "صحيحه" عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اليوم تعظمه اليهود والنصارى، قال:"لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع"، فلم يأت العام القابل حتى تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رَوَى مسلم في "صحيحه" عن الحكم بن الأعرج، قال: انتهيت إلى ابن عباس، وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرَّم، فاعدُد، وأصبح يوم التاسع صائمًا، قلت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم.

وإشكال آخر، وهو أن صومه إن كان واجبًا مفروضًا في أول الإسلام، فلمَ لم يأمرهم بقضائه؟ وقد فات تبييت النية له من الليل، وإن لم يكن فرضًا، فكيف أمر بإتمام الإمساك من كان أكل؟، كما في "المسند"، و"السنن" من وجوه متعددة أنه عليه السلام أمر من كان طَعِمَ فيه أن يصوم بقية يومه، وهذا إنما يكون في الواجب، وكيف يصحّ قول ابن مسعود رضي الله عنه: فلما فُرِض رمضان تُرِك عاشوراء، واستحبابه لم يترك؟.

وإشكال آخر، وهو أن ابن عباس جعل يوم عاشوراء يوم التاسع، وأخبر

ص: 174

أن هكذا كان يصومه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده"

(1)

، ذكره أحمد، وهو الذي روى: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر، ذكره الترمذيّ

(2)

.

[فالجواب]: عن هذه الإشكالات -بعون الله وتأييده وتوفيقه-:

أما الإشكال الأول، وهو أنه لَمّا قَدِم المدينة وجدهم يصومون يوم عاشوراء، فليس فيه أن يوم قدومه وجدهم يصومونه، فإنه إنما قَدِم يوم الاثنين في ربيع الأول ثاني عشرة، ولكن أول علمه بذلك بوقوع القصة في العام الثاني الذي كان بعد قدومه المدينة، ولم يكن وهو بمكة، هذا إن كان حساب أهل الكتاب في صومه بالأشهر الهلالية، وإن كان بالشمسية زال الإشكال بالكلية، ويكون اليوم الذي نَجَّى الله فيه موسى هو يوم عاشوراء، من أول المحرَّم، فضبطه أهل الكتاب بالشهور الشمسية، فوافق ذلك مَقْدَم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، وصوم أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، وصوم المسلمين إنما هو بالشهر الهلالي، وكذلك حجّهم، وجميع ما تعتبر له الأشهر من واجب، أو مستحبّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نحن أحقّ بموسى منكم"، فظهر حكم هذه الأولوية في تعظيم هذا اليوم، وفي تعيينه، وهم أخطؤوا تعيينه لدورانه في السنة الشمسية، كما أخطأ النصارى في تعيين صومهم بأن جعلوه في فصل من السنة تختلف فيه الأشهر.

وأما الإشكال الثاني، وهو أن قريشًا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلا ريب أن قريشًا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولكن إنما كانوا يَعُدُّون بالأهلة،

(1)

أخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 241)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2095)، وفي سنده ابن أبي ليلى، سيئ الحفظ. وأخرجه عبد الرزّاق (7839)، والبيهقيّ في "الكبرى" (4/ 287) موقوفًا على ابن عبّاس رضي الله عنه بلفظ:"صوموا اليوم التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود" وسنده صحيح.

(2)

أخرجه الترمذيّ (755)، ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة الحسن.

ص: 175

فكان عندهم عاشر المحرم، فلما قَدِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وجدهم يعظمون ذلك اليوم، ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم:"نحن أحقّ منكم بموسى"، فصامه، وأمر بصيامه؛ تقريرًا لتعظيمه، وتأكيدًا، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه وأمته أحق بموسى من اليهود، فإذا صامه موسى شكرًا لله، كنا أحق أن نقتدي به من اليهود، لا سيما إذا قلنا: شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما لم يخالفه شرعنا.

[فإن قيل]: من أين لكم أن موسى صامه؟.

[قلنا]: ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألهم عنه، فقالوا: يوم عظيم، نجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه، وأمر بصيامه، فلما أقرهم على ذلك، ولم يكذِّبهم عُلِم أن موسى صامه شكرًا لله، فانضم هذا القدر إلى التعظيم الذي كان له قبل الهجرة، فازداد تأكيدًا حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي في الأمصار بصومه، وإمساك من كان أكل، والظاهر أنه حَتَمَ ذلك عليهم، وأوجبه، كما سيأتي تقريره.

وأما الإشكال الثالث، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم عاشوراء قبل أن ينزل فرض رمضان، فلما نزل فرض رمضان تركه، فهذ، لا يمكن التخلص منه إلا بأن صيامه كان فرضًا قبل رمضان، وحينئذ فيكون المتروك وجوب صومه، لا استحبابه، ويتعين هذا، ولا بدّ؛ لأنه عليه السلام قال قبل وفاته بعام، وقد قيل له: إن اليهود يصومونه: "لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع"؛ أي معه، وقال:"خالفوا اليهود، وصوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده"

(1)

؛ أي معه، ولا ريب أن هذا كان في آخر الأمر، وأما في أول الأمر فكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فعلم أن استحبابه لم يترك.

ويلزم من قال: إن صومه لم يكن واجبًا أحد الأمرين: إما أن يقول بترك

(1)

تقدّم تخريجه، وأنه ضعيف مرفوعًا، صحيح موقوفًا.

ص: 176

استحبابه، فلم يبق مستحبًّا، أو يقول: هذا قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برأيه، وخَفِي عليه استحباب صومه، وهذا بعيد، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حثهم على صيامه، وأخبر أن صومه يكفّر السنة الماضية، واستمرّ الصحابة على صيامه إلى حين وفاته، ولم يروَ عنه حرف واحد بالنهي عنه، وكراهة صومه، فعُلِم أن الذي تُرِك وجوبه، لا استحبابه.

[فإن قيل]: حديث معاوية رضي الله عنه المتفق على صحته صريح في عدم فرضيته، وأنه لم يُفْرَض قط.

[فالجواب]: أن حديث معاوية رضي الله عنه صريح في نفي استمرار وجوبه، وأنه الآن غير واجب، ولا ينفي وجوبًا متقدمًا منسوخًا، فإنه لا يمتنع أن يقال لما كان واجبًا ونُسخ وجوبه: إن الله لم يكتبه علينا.

وجواب ثانٍ: أن غايته أن يكون النفي عامًّا في الزمان الماضي والحاضر، فَيُخَصّ بأدلة الوجوب في الماضي، وترك النفي في استمرار الوجوب.

وجواب ثالث: وهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما نفى أن يكون فرضه ووجوبه مستفادًا من جهة القرآن، ويدل على هذا قوله:"إن الله لم يكتبه علينا"، وهذا لا ينفي الوجوب بغير ذلك، فإن الواجب الذي كتبه الله على عباده هو ما أخبرهم بأنه كتبه عليهم، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية [البقرة: 183] فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عاشوراء لم يكن داخلًا في هذا المكتوب الذي كتبه الله علينا؛ دفعًا لتوهّم من يتوهّم أنه داخل فيما كتبه الله علينا، فلا تناقض بين هذا وبين الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخًا بهذا الصيام المكتوب، يوضح هذا أن معاوبة رضي الله عنه إنما سمع هذا منه بعد فتح مكة، واستقرار فرض رمضان، ونسخ وجوب عاشوراء به، والذين شَهِدوا أمره بصيامه، والنداء بذلك، وبالإمساك لمن أكل، شهدوا ذلك قبل فرض رمضان عند مقدمه المدينة، وفَرْضُ رمضان كان في السنة الثانية من الهجرة، فتُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات، فمن شَهِد الأمر بصيامه، شهده قبل نزول رمضان، ومن شهد الإخبار عن عدم فرضه، شهده في آخر الأمر، بعد فرض رمضان، وإن لم يُسْلَك هذا المسلكُ تناقضت أحاديث الباب واضطربت.

ص: 177

[فإن قيل]: فكيف يكون فرضًا، ولم يحصل تبييت النية من الليل، وقد قال:"لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل؟ ".

[فالجواب]: أن هذا الحديث مختلَفٌ فيه، هل هو من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من قول حفصة وعائشة رضي الله عنهما؟.

فأما حديث حفصة فأوقفه عليها معمر، وسفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد الأيليّ، عن الزهريّ، ورفعه بعضهم، وأكثر أهل الحديث يقولون: الموقوف أصحّ، قال الترمذيّ: وقد رواه نافع، عن ابن عمر قولَهُ، وهو أصحّ، ومنهم من يصحِّح رفعه؛ لثقة رافعه، وعدالته.

وحديث عائشة رضي الله عنها أيضًا روي مرفوعًا وموقوفًا، واختُلف في تصحيح رفعه، فإن لم يثبت رفعه فلا كلام، وإن ثبت رفعه فمعلوم أن هذا إنما قاله بعد فرض رمضان، وذلك متأخر عن الأمر بصيام يوم عاشوراء، وذلك تجديد حكمٍ واجب، وهو التبييت، وليس نسخًا الحاكم ثابت بخطاب، فإجزاء صيام يوم عاشوراء بنيّة من النهار كان قبل فرض رمضان، وقبل فرض التبييت من الليل، ثم نُسِخ وجوب صومه برمضان، وتجدد وجوب التبييت، فهذه طريقة.

وطريقة ثانية: هي طريقة أصحاب أبي حنيفة، أن وجوب صيام يوم عاشوراء تضمن أمرين: وجوب صوم ذلك اليوم، وإجزاء صومه بنيّة من النهار، ثم نُسِخ تعيين الواجب بواجب آخر، فبقي حكم الإجزاء بنيّة من النهار غير منسوخ.

وطريقة ثالثة: وهي أن الواجب تابع للعلم، ووجوب عاشوراء إنما عُلِم من النهار، وحينئذ فلم يكن التبييت ممكنًا، فالنية وجبت وقت تجدد الوجوب، والعلم به، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق، وهو ممتنع.

قالوا: وعلى هذا إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار، أجزأ صومه بنيّة مقارنة للعلم بالوجوب، وأصله صوم يوم عاشوراء، وهذه طريقة شيخنا -يعني ابن تيميّة- وهي كما تراها أصحّ الطرق، وأقربها إلى موافقة أصول الشرع، وقواعده، وعليها تدل الأحاديث، ويجتمع شملها الذي يُظَنّ تفرُّقه، ويُتَخَلَّص من دعوى النسخ بغير ضرورة، وغير هذه الطريقة لا بدّ فيه من مخالفة قاعدة من قواعد الشرع، أو مخالفة بعض الآثار، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل

ص: 178

قباء بإعادة الصلاة التي صَلَّوا بعضها إلى القبلة المنسوخة؛ إذ لم يبلغهم وجوب التحول، فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم، أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه، لم يؤمر بالقضاء.

ولا يقال: إنه ترك التبييت الواجب؛ إذ وجوب التبييت تابع للعلم بوجوب المبيَّت، وهذا في غاية الظهور، ولا ريب أن هذه الطريقة أصحّ من طريقة من يقول: كان عاشوراء فرضًا، وكان يجزئ صيامه بنية من النهار، ثم نُسخ الحكم بوجوبه، فنُسخت متعلّقاته، ومن متعلّقاته إجزاء صيامه بنيّة من النهار؛ لأن متعلقاته تابعة له، وإذا زال المتبوع زالت توابعه، ومتعلقاته، فإن إجزاء الصوم الواجب بنيّة من النهار، لم يكن من متعلقات خصوص هذا اليوم، بل من متعلقات الصوم الواجب، والصومُ الواجب لم يزل، وإنما زال تعيينه، فنُقِل من محل إلى محل، والإجزاء بنيّة من النهار وعدمه، من توابع أصل الصوم، لا تعيينه.

وأصح من طريقة من يقول: إن صوم يوم عاشوراء لم يكن واجبًا قط؛ لأنه قد ثبت الأمر به، وتأكيد الأمر بالنداء العامّ، وزيادة تأكيده بالأمر لمن كان أكل بالإمساك، وكل هذا ظاهرٌ قويّ في الوجوب، ويقول ابن مسعود لأنَّه: إنه لما فُرِض رمضان تُرِك عاشوراء، ومعلوم أن استحبابه لم يترك بالأدلة التي تقدمت، وغيرها، فيتعين أن يكون المتروك وجوبه، فهذه خمسُ طرق للناس في ذلك، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أفاد العلامة ابن القيّم رحمه الله في هذا التحقيق، وخلاصته ترجيح أنه إنما جاز صوم عاشوراء بنيّة من النهار؛ لعدم علمهم بوجوبه في الليل، فلما علموا في النهار تعيّن عليهم الإمساك منه، ولم يؤمروا بقضائه، فدلّ على أنه لا مخالفة بينه وبين دليل وجوب تبييت النيّة، وهو رأي شيخه شيخ الإسلام ابن تيميّة، وهو وجه وجيه قويّ، ينبغي الاعتماد عليه في دفع الإشكال المذكور، فتأمل، والله تعالى أعلم.

قال: وأما الإشكال الرابع، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لئن بَقِيت إلى قابل لأصومنّ التاسع"، وأنه تُوُفّي قبل العام، وقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع، فابن عباس رَوَى هذا وهذا، وصح عنه هذا

ص: 179

وهذا، ولا تنافي بينهما؛ إذ من الممكن أن يصوم التاسع، ويخبر أنه إن بقي إلى العام المقبل صامه، أو يكون ابن عباس أخبر عن فعله؛ مستندًا إلى ما عَزَم عليه، ووعد به، ويصح الإخبار عن ذلك مقيدًا؛ أي كذلك كان يفعل لو بقي، ومطلقًا إذا علم الحال، وعلى كل واحد من الاحتمالين، فلا تنافي بين الخبرين.

وأما الإشكال الخامس، فقد تقدم جوابه بما فيه كفاية.

وأما الإشكال السادس، وهو قول ابن عباس: اعدُد، وأصبح يوم التاسع صائمًا، فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبيّن له زوال الإشكال، وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع، بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يَعُدّه الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعلُ ذلك هو الأولى، وإما أن يكون حَمَلَ فعله على الأمر به، وعزمِه عليه في المستقبل، ويدل على ذلك أنه هو الذي روى:"صوموا يومًا قبله، ويومًا بعده"، وهو الذي روى: أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر، وكل هذه الآثار عنه يصدِّق بعضها بعضًا، ويؤيد بعضها بعضًا.

فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يومٌ، وبعده يوم

(1)

، ويلي ذلك أن يصام التاسع العاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم.

وأما إفراد التاسع فمِنْ نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.

وقد سلك بعض أهل العلم مسلكًا آخر، فقال: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة، مع الإتيان بها، وذلك يحصُل بأحد أمرين: إما بنقل العاشر إلى التاسع، أو بصيامهما معًا، وقوله:"إذا كان العام المقبل صمنا التاسع" يَحْتَمِل الأمرين، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبيّن لنا مراده، فكان

(1)

تقدّم: "صوموا يومًا قبله، ويومًا بعده" ضعيف.

ص: 180

الاحتياط صيام اليومين معًا، قال ابن القيّم رحمه الله: والطريقة التي ذكرناها أصوب -إن شاء الله- ومجموع أحاديث ابن عباس يدل عليها؛ لأن قوله في حديث أحمد: "خالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده"

(1)

، وقوله في حديث الترمذيّ:"أمرنا بصيام عاشوراء يوم العاشر" يبيّن صحة الطريقة التي سلكناها، والله أعلم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(2)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2638]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَوَّلِ الْحًدِيثِ: "وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ"، وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: "وَتَرَكَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ"، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرِوَايَةِ جَرِيرٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل باب أيضًا.

و"هشام " ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ) الفاعل ضمير ابن نُمير.

وقوله: (وَترك عاشوراء) يَحْتَمِلُ أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضميره صلى الله عليه وسلم، وَيحتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، و"عاشوراء" هو النائب.

وقوله: (وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرِوَايَةِ جَرِيرِ) يعني أن ابن نُمير جعل قوله: "وترك عاشوراء" من فعله صلى الله عليه وسلم، لا من قوله، بخلاف جرير، فإنه جعله من قوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "فلما فُرض رمضانُ قال: من شاء

إلخ"، ففاعل "قال" ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد جعله من قوله صلى الله عليه وسلم صريحًا، فتنبّه.

(1)

تقدّم أنه ضعيف مرفوعًا.

(2)

"زاد المعاد" 2/ 66 - 77.

ص: 181

[تنبيه]: رواية ابن نُمير، عن هشام بن عروة هذه، ساقها أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله في "مصنفه" (2/ 311) فقال:

(9357)

- حدّثنا ابن نُمَير، حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان عاشوراء يوم

(1)

تصومه قريش في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فُرِض رمضان كان هو الفريضة، وتَرَك عاشوراءَ

(2)

، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2639]

(

) - حَدَّثَنِي عَمْرٌو النّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه: أَنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ يُصَامُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(الزهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: هذه الرواية فيها اختصار تبيّنه الرواية السابقة، والآتية؛ أي: وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وهو بهذا اللفظ من أفراد المصنّف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

وفي نسخة: "يومًا"، وهي أوضح.

(2)

يَحْتَمل أن يكون ببناء الفعل للفاعل؛ أي ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بالبناء للمفعول.

ص: 182

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2640]

(

) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْن شِهَابٍ، أخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأْمُرُ بِصِيَامِهِ، قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ، كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَمَنْ شَاءَ أفطَرَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2641]

(

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، جَمِيعًا عَن اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ ابْنُ رُمْحٍ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ عِرَاكًا أَخْبَرَهُ، أَن عُرْوَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَن قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِهِ، حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر، تقدّم قريبًا.

3 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) تقدّم قبل باب.

4 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) سُويد، أبو رجاء المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ، يرسل [5](ت 123) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

ص: 183

5 -

(عِرَاكُ) بن مالك الغفاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقولها: (ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِهِ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوا "أُمِر" هنا بوجهين: أظهرهما بفتح الهمزة والميم، والثاني: بضمّ الهمزة، وكسر الميم، ولم يذكر القاضي عياض غيره. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وهو مما اتّفق عليه الشيخان بروايته من شيخ واحد، وهو قتيبة بن سعيد، فقد رواه البخاريّ عنه وحده، وزاد مسلم محمد بن رُمح، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في حديث أوّل الباب، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2642]

(1126) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ، قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ رَمَضَانُ، فَلَفَا افْتُرِضَ رَمَضَانُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابنُ نُمَيرِ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم العمريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ مشهور [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنها، مات سنة (3 أو 47)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

ص: 184

والباقيان ذُكرا في الباب، وشرحه يُعلم من شرح حديث عائشة رضي الله عنها الماضي.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2642 و 2643 و 2644 و 2645 و 2646 و 2647](1126)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1892) و"التفسير"(4501)، و (أبو داود) في "الصوم"(2443)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1737)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 311)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 4 و 57 و 143)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2082)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 207)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 373)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 124)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 289)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2643]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْب، قَالَا: حَدَّثنا يَحْيَى، وَهُوَ الْقَطَّانُ (ح) وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِمِثْلِهِ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(يَحْيى) بن سعيد القطّان، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 21) وهو ابن (80) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (كلَاهُما) الضمير ليحيى القطّان، وأبي أسامة.

[تنبيه]: رواية يحيى القطّان، عن عبيد الله المذكورة ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

ص: 185

(2087)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: كان عاشوراء يومًا نصومه في الجاهلية، فلما نزل رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه". انتهى.

وأما رواية أبي أسامة، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2644]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْث (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أنهُ ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كانَ يَوْمًا يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنكُمْ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَرِهَ فَلْيَدَعْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ

الخ) هذا قاله بعد فرض رمضان، كما بيّن في الروايات السابقة، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2645]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَن الْوَلِيدِ، يَعْنِي ابْنَ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ، أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ:؛ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ كَانَ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ"، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه لَا يَصُومُهُ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ صِيَامَهُ).

1 -

(الْوَليدُ بْنُ كثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، رُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

ص: 186

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَكَانَ عَبْدُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَصُومُهُ

إلخ) هذا من كلام نافع؛ يعني أن عبد الله بن عمر كان لا يرى صوم يوم عاشوراء، ولا يصومه طلبًا لفضله إلا أن يوافق يوم عادة صيامه، فيصومه لذلك، وهذا ظاهر في كون ابن عمر رضي الله عنها لا يرى استحباب صوم يوم عاشورء، ولكن السنّة ثبتت بخلاف رأيه، فهي الحجة، لا رأيه.

قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وكان طاوس لا يصومه؛ لأنه- والله أعلم- لم يبلغه ما جاء فيه من الفضل، وليس فيما خَفِي عليه على ما عَلِمه غيره حجةٌ، ومعلوم أن قوله عز وجل:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] الآية لا تَدفع هذه الإباحةُ فضلَ انتظار الصلاة في المسجد، وعملها، والله تعالى أعلم. وعلى هذا يُحْمَل حديث معاوية المذكور في هذا الباب أن تخييره إنما كان لسقوط وجوب صيامه، لا أنه لا معنى لصومه، ولما سَقَطَ وجوبه صحيح على جهة الفضل، والآثارُ تدل على ذلك.

قال: وهذا عندي مثل قيام الليل، كان في أول الإسلام فريضةً حولًا كاملًا، فلما فُرضت الصلوات الخمس صار قيام الليل فضيلة بعد فريضة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق مفيدٌ.

[تنبيه]: كون عبد الله هنا هو ابنَ عمر هو الصواب، وأما ما وقع في برنامج الحديث من أنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فغلط فاحشٌ، فتنبّه لذا المهمّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2646]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْأَخْنَسِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 7/ 208.

ص: 187

قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ سَوَاءً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) أبو عبد الله البغداديّ الْقَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

2 -

(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ له تصانيف [9](ت 5 أو 2257)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

3 -

(أَبُو مَالِكٍ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْأَخْنَسِ) النخعيّ الْخَزّاز -بمعجمات- ويقال: مولى الأزد، ثقةٌ [7].

رَوَى عن ابن أبي مُليكة، ونافع مولى ابن عمر، وأبي الزبير، وعمرو بن شعيب، وابن أبي بردة، والوليد بن عبد الله بن أبي مُغِيث، ويحيى بن أبي كثير.

وروى عنه يحيى القطان، وأبو قُدامة الحارث بن عبيد، وسعيد بن أبي عروبة، ورَوْح بن عُبادة، وأبو عوانة، ومحمد بن سَوَاء، ومحمد بن عبد الله الأنصاريّ، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، وأبو داود، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ كثيرًا.

قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن حبّان هذا فيه نظر لا يخفى، فعبيد الله ثقةٌ لم يتكلّم فيه غيره، بل وثقه الأئمة على الإطلاق آنفًا، واحتجّ به الشيخان في "الصحيحين".

وأما قول ابن معين في رواية: ليس به بأس، فهو كقوله: ثقةٌ، ففي:"مقدّمة ابن الصلاح"(ص 134): قال ابن أبي خيثمة: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: فلانٌ ليس به بأس، وفلان ضعيف؛ قال: إذا قلت لك: ليس به بأس، فثقةٌ، وإذا قلت لك: ضعيف، فهو ليس بثقةٌ، لا تكتب حديثه. انتهى.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1126) وحديث (2099):"لا يستلقين أحدكم، ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى".

ص: 188

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ

إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عبيد الله بن الأخنس.

[تنبيه]: رواية عبيد الله بن الأخنس، عن نافع هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 238) فقال:

(2992)

- حدّثنا الحارث بن أبي أسامة، حدّثنا رَوْح بن عُبادة، حدّثنا عبيد الله بن الأخنس.

وحدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المقرئ ببغداد، حدثنا رَوْح بن عُبادة، حدّثنا عبيد الله بن الأخنس، قال: أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: ذُكِر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم عاشوراء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كان يوم عاشوراء يصومه أهل الجاهلية، فمن أحبّ منكم أن يصومه فليصمه، ومن كَرِهه فَلْيَدَعه". انتهى.

والحديث متّفق عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2647]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زيل، الْعَسْقَلَانِيّ، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "ذَاكَ

(1)

يَوْمٌ كَانَ يَصُومُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

(1)

وفي نسخة "ذلك يوم".

ص: 189

3 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَسْقَلَانِيُّ) هو: عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عُمر بن الخطّاب المدنيّ، نزيل عَسْقَلان، ثقةٌ [6] مات قبل (150)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.

4 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عُمر، أوأبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ فاضلٌ، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

و"عبد الله بن عمر رضي الله عنها " ذُكر قبله.

وقوله: (فَمَنْ شَاءَ صّامَهُ

إلخ) هذا السؤال والجواب وقع في ثاني الحال، وهو ما كان بعد فرض رمضان، ونسخ وجوب صوم عاشوراء، كما بيّن ذلك في رواية نافع السابقة، والروايات الأخرى، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في رواية نافع، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2648]

(1127) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِبةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: دَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَبْدِ اللهِ، وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ادْنُ إلَى الْغَدَاءِ، فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟ قَالَ: وَهَلْ تَدْرِي مَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ يَوْمٌ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ تُرِكَ، وقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: تَرَكَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل باب.

2 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظ ورعُ، لكنه يدلّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 هـ 297.

3 -

(عُمَارَةُ) بن عُمير التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4] مات بعد المائة، أو قبلها بسنتين (ع) تقدم في "الصلاة" 29/ 977.

ص: 190

4 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعي، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.

5 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيِّ الشهير، مات رضي الله عنه (32)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفية أخذه عنهما، ثم فرّق؛ لاختلافهما في ذلك.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ، وأما أبو كُريب، فهو أحد التسعة الذين اتّفق الجماعة بالرواية عنهم بلا واسطة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثةً من التابعين الثقات الكوفيين روى بعضهم عن بعض.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه ذو مناقب جمة، وقد سبق ذكرها قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ) بن قيس، هوأخو الأسود بن يزيد، وابن أخي علقمة، أنه (قَالَ: دَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ) بن معدي كرب الْكِنْديّ، أبو محمد الصحابيّ، نزل الكوفة، ومات سنة (40) أو (41) وقيل:(46)(ع)، وله في هذا الكتاب حديث واحد فقط، برقم [64/ 362](138) تقدّمت ترجمته في "كتاب الإيمان" بالرقم المذكور.

(عَلَى عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (وَهُوَ يَتَغَدَّى) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي والحال أن عبد الله يأكل غداءه (فَقَالَ) عبد الله رضي الله عنه (يَا أَبا مُحَمَّدٍ) كنية الأشعث رضي الله عنه (ادْنُ) بوصل الهمزة، أمرٌ من دنا يدنو، دُنُوًّا: إذا قَرُب منه؛ أي: اقرُب (إِلَى الْغَدَاءِ) بفتح الغين المعجمة، والمدّ: طعام الْغَدَاة؛ أي أول النهار، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغداء بالمدّ: طعام الغَدَاة، وإذا قيل: تَغَدّ، أو تَعَشَّ، فالجواب: ما بي من تَغَدٍّ، ولا تَعَشٍّ، قال ثعلب: ولا يقال: ما بي

ص: 191

غَدَاءٌ، ولا عَشَاءٌ؛ لأن الغداء نفس الطعام. انتهى

(1)

. (فَقَالَ) الأشعث رضي الله عنه (أَوَ لَيْسَ الْيَوْمُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؟) يعني بذلك أنه يوم صوم، لا يوم أكل (قَالَ) عبد الله صلى الله عليه وسلم (وَهَلْ تَدْرِي مَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ؟) أي أيّ شيء حكمه من حيث الصوم والفطر؟ (قَالَ) الأشعث (وَمَا هُوَ؟) أي أيُّ شيء حكمه؟ (قَالَ) عبد الله (إِنَّمَا هُوَ) أي يوم عاشوراء (يَوْمٌ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ شَهْرُ رَمَضَانَ) أي وجوب صومط (فَلَمَّا نَزَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ تُرِكَ) المراد ترك فرضيّته، وبقي استحبابه، وليس المراد عدم مشروعيّة صومه أصلًا؛ بدليل الأحاديث السابقة واللاحقة، فتنبّه.

واستُدِلّ بهذا الحديث على أن صيام عاشوراء كان مُفترضًا قبل أن ينزل فرض رمضان، ثم نسخ به، وهذا هو القول الصحيح في المسألة، وقد تقدم البحث في هذا مستوفى، فارجع إليه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: (وقَالَ أَبُو كُرَيْب) محمد بن العلاء شيخه الثاني (تَرَكَهُ) يعني أن شيخيه اختلفا في هذه اللفظة، فقال ابن أبي شيبة:"تُرِك" بالبناء للمفعول، وقال أبو غريب:"تركه" بالبناء للفاعل، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى الروايتين واحد، وإنما هذا من شدّة عناية المصنّف رحمه الله ببيان اختلاف ألفاظ شيوخه، وإن لم يختلف المعنى، وهذا هو الذي امتاز به على غيره من المصنّفين، فالمحدّثون -رحمهم الله تعالى- وإن كانوا كلّهم يعتنون بمثل هذا، إلا أن المصنّف رحمه الله أشدهم عناية، فلله درّه، ما أشدّ ورعه، وأكثر احتياطه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [21/ 2648 و 2649 و 2650 و 2651](1127)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4503)، و (النسائي) في "الكبرى" 28431 و 2844

(1)

"المصباح المنير" 2/ 443.

ص: 192

و 2845 و 2846)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 311)، وفي "مسنده"(1/ 175)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 424 و 455)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2081)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 235)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 208)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 372)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 298)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 16)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 288)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والماب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2649]

(

) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَن الْأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَا: فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تَرَكَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ شهير [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.

والباقون ذُكروا في الباب، و"جرير": هو ابن عبد الحميد.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" (9/ 106) فقال:

(5175)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: دخل الأشعث بن قيس على عبد الله، وهو يتغدَّى، فقال: ادْنُهْ، فقال الأشعث: أليس اليوم يوم عاشوراء؟ فقال عبد الله: وما يدريك ما عاشوراء؟ إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما نزل رمضان تركه. انتهى.

والحديث متّفق عليه، ومضى البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 193

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2650]

(

) - (وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا وَكِيعٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي زُبَيْدٌ الْيَامِيُّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَكَنٍ، أَن الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: يَا أَبّا مُحَمَّدٍ ادْنُ فَكُلْ، قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: كُنَّا نَصُومُهُ، ثُمَّ تُرِكَ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) تقدّم قبل بابين.

3 -

(سُفْيَانُ) الثوريّ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(زُبَيْذ الْيَامِيُّ) هو: زُبيد بن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 122) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.

5 -

(قَيْسُ بْنُ سَكَنٍ) الأسديّ الكوفيّ، أخو بني سُوَاءة، ثقةٌ [2].

رَوى عَن ابن مسعود، والأشعث بن قيس، وعنه ابنه النعمان، وأبو إسحاق السبيعيّ، وعُمارة بن عُمير، وسعد بن عُبيدة، والمنهال بن عمرو، وأبو الشعثاء المحاربيّ.

قال ابن معين: ثقةٌ، وعَدّهُ أبو الشعثاء في الفقهاء من أصحاب ابن مسعود، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: تُوُفّي زمن مصعب بن الزبير، وقال ابن سعد: تُوُفّي زمن مصعب بالكوفة، وله أحاديث، وكان ثقةً.

تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 194

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2651]

(

) - (وَحَدثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدثنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: دَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ يَأْكُلُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُصَامُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ تُرِكَ، فَإِنْ كُنْتَ مُفْطِرًا فَاطْعَمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) تقدّم قبل بابين.

2 -

(إسْحَاقُ بْنُ مَنصُورٍ) الْكوسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.

4 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السَّلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.

5 -

(إبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ يرسل كثيرًا [5](96)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.

6 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2]، مات بعد الستين، أو بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

و"ابن مسعود رضي الله عنه " ذُكر قبله.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2652]

(1128) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ

ص: 195

جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رحمه الله قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأمُرُنَا بصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ

(1)

، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ، وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأَمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ يتشيّع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

3 -

(أَشْعَثُ بْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ) سُليم بن الأسود المحاربيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 125)(عِ) تقدم في "الإيمان" 11/ 153.

4 -

(جَعْفرُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ) واسم أبيه عكرمة، وقيل غير ذلك، أبو ثور الكوفيّ، صدوق

(2)

[3](م ق) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

5 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة السُّوائيّ الصحابي ابن الصحابيّ ربها، مات بالكوفة بعد سنة (70)(ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

و"ابن أبي شيبة" ذُكر قبل حديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وجعفر، فانفرد به هو وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا) أي أمرًا

(1)

وفي نسخة: "يأمر بصيام يوم عاشوراء".

(2)

هذا أولى من قول "التقريب": مقبول، فقد روى عنه جماعة، وصحح حديثه مسلم، وابن خزيمة، ووثقه ابن حبّان، فتأمل.

ص: 196

مؤكدًا، وفي نسخة:"يأمر"(بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، ويَحُثُّتَا عَلَيْهِ) أي يُرغّبنا إلى صومه، ويحضّنا عليه (وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ) أي يحفظنا، ويراعي حالنا، ويتفحّص عن صومنا له، أو يتخوّلنا بالموعظة عنده (فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ) أي صومه الَمْ يَأْمُرْنَا) أي لم يأمر بصوم يوم عاشوراء، والمراد الأمر الحتم (وَلَمْ يَنْهَنَا) أي عن صومه (وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا) أي لم يتفقّدنا (عِنْدَهُ).

قال ابن حجر الهيتميّ رحمه الله في "شرح "المشكاة": في قوله: "يأمر بصيام يوم عاشوراء" حجة لمن قال: كان واجبًا، ثم نُسِخ، والأصح عند الشافعيّ أنه لم يجب أصلًا؛ لما رواه البخاريّ عن معاوية أنه عام حجّ خطب بالمدينة يوم عاشوراء، فقال: "يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه"، فهذا نصِّ في أنه لم يجب أصلًا. انتهى.

وتعقّبه القاري رحمه الله، فقال: هو مردود بأنه ليس له دلالة مّا على عدم الوجوب إلا حين قاله، وأما كون ما بعده، وما قبله فمحل احتمال، فكيف يكون نصًا، أو يصلح معارضًا لما في "الصحيحين" عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا من أسلم: أن أَذِّن في الناس: "من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء"؟ فإنه صريح في أنه كان أمر إيجاب قبل نسخه برمضان؛ إذ لا يؤمر من أكل بإمساك بقية يومه إلا في يوم مفروض الصوم بعينه، فلا بدّ من الجمع بوجوبه أولًا، ونسخه ثانيًا، أو المراد أنه لم يكتب عليكم في القرآن مطلقًا. انتهى كلام القاري رحمه الله

(1)

، وهو تعقّبٌ وجيهٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 495.

ص: 197

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2652](1128)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 106)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 96 و 105)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2083)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 240)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 209)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 212)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 380)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 289) وفوائده تعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2653]

(1129) - (حَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَني حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أنهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، خَطِيبًا بِالْمَدِينَةِ، يَعْني فِي قَدْمَةٍ قَدِمَهَا، خَطَبَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْم: "هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُب اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأنا صَائِمٌ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

2 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب بن أميّة الأموي، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ، الخليفة، أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات في رجب سنة (60) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.

والباقون ذُكروا في الباب، و"يونس": هو ابن يزيد الأيليّ.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والنسائيّ، وابن ماجه.

ص: 198

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ شِهَاب، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، قال في "الفتح": هكذا رواه مالك، وتابعه يونس، وصالح بن كيسان، وابن عيينة، وغيرهم، وقال الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وقال النعمان بن راشد، عن الزهريّ، عن السائب بن يزيد، كلاهما عن معاوية، والمحفوظ رواية الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، قاله النسائي وغيره. انتهى.

(أنهُ سَمِعَ مُعَاوِيةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ) رضي الله عنهما، وهو وأبوه من مسلمة الفتح، وقيل: أسلم معاوية في عمرة القضاء، وكتم إسلامه، وكان رضي الله عنه أميرًا عشرين سنةً، وخليفةً عشرين سنةً، وكان يقول: أنا أول الملوك. حال كونه (خَطِيبًا بِالْمَدِينَةِ) النبويّة (يَعْنِي فِي قَدْمَةٍ) العناية من أحد الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟، و"القدمة" بفتح، فسكون: المرّة من القدوم؛ أي قال ذلك في مرّة من قدومه المدينة، فإنه كانت له قَدَمات إليها من الشام (قَدِمَهَا) بكسر الدال، من قَدِمَ الرجلالبلد يَقْدمه، من باب تَعِبَ قُدُومًا، ومَقْدَمًا بفتح الميم، والدال: دخله.

وفي رواية البخاريّ من طريق مالك، عن ابن شهاب:"عام حجّ على المنبر"، قال في "الفتح": وكأنه تأخر بمكة، أو المدينة في حجته إلى يوم عاشوراء، وذكر أبو جعفر الطبريّ أن أول حجة حَجَّها معاوية بعد أن استُخْلِف كانت في سنة أربع وأربعين، وآخر حجة حجها سنة سبع وخمسين، قال الحافظ: والذي يظهر أن المراد بها في هذا الحديث الحجة الأخيرة. انتهى.

(خَطَبَهُمْ) أي خطب أهل المدينة (يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ؟) قال القاضي عياض وغيره: هذا يدلّ على أنه سمع من يوجبه، أو يُحَرَّمه، أو يكرهه، فأراد إعلامهم أنه ليس كذلك، واستدعاؤه العلماء تنبيهًا لهم على الحكم، أو استعانة بما عندهم على ما عنده، أو توبيخًا أنه رأى، أو

ص: 199

سمع من خالفه، وقد خطب به في ذلك الجمع العظيم، ولم يُنْكَر عليه. انتهى.

وقال الحافظ: وفيه إشعار بأنه لم يَرَ لهم اهتمامًا بصيامه، فلذا سأل عن علمائهم، أو بلغه عمن يَكْرَه صيامه، أو يوجبه. انتهى.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِهَذَا الْيَوْم: "هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ) وقوله: (وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيُفْطِرْ) كله من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنه النسائيّ في روايته، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا اليوم: "إني صائم، فمن شاء منكم أن يصوم فليصم، ومن شاء فليفطر".

قال الحافظ رحمه الله: وقد استُدِلّ به على أنه لم يكن فرضًا قط، ولا دلالة فيه؛ لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام، كصيام رمضان، وغايته أنه عامٌّ خُصّ بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] ثم فَسَّره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخًا، ويؤيد ذلك أن معاوية رحمه الله إنما صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شَهِدوا أمره بصيام عاشوراء، والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى، أوائل العام الثاني، ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبًا؛ لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العامّ، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يُرِضِعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في مسلم:"لَمّا فُرِض رمضان تُرِك عاشوراء" مع العلم بأنه ما تُرِك استحبابه، بل هو بأن، فدل على أن المتروك وجوبه، وأما قول بعضهم: المتروك تأكّد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه، فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باقٍ، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه، وأنه يُكَفّر سنةً، وأي تأكيد أبلغ من هذا الحديث. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى

(1)

"الفتح" 5/ 438.

ص: 200

أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث معاوية بن أبي سُفيان رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2653 و 2654 و 2655](1129)، و (البخاريّ) في "الصوم"(2003)، و (النسائي) في "الصيام"(4/ 204) و"الكبرى"(2/ 161)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 161)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 95 و 97)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2085)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 239)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 210)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 289) و"المعرفة"(3/ 433)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2654]

(

) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أنَسٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(مَالِكُ بْنُ أنسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية مالك، عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2003)

- حدّثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان بيوم عاشوراء، عام حجّ على المنبر، يقول: يا أهل المدينةّ أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 201

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2655]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ: (إِنِّي صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ"، وَلَمْ يَذْكُرْ بَاقي

(1)

حَدِيثِ مَالِكٍ ويُونُسَ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

و"الزهريّ " ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ بَاقِي حَدِيثِ مَالِكٍ ويُونُسَ) فاعل "يذكر" ضمير سفيان بن عيينة؛ يعني أن ابن عيينة لم يذكر في حديثه ما ذكره مالك ويونس، وأشار به إلى قوله:"هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه"، بل اقتصر على قوله:"إني صائم، فمن شاء أن يصوم فليصم".

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها النسائي في "الكبرى" (2/ 161) فقال:

(854)

- أنبأ قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: سمعت معاوية يوم عاشوراء، وهو على المنبر بالمدينة، يقول: أين علماؤكم يا أهل المدينة؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا اليوم: "إني صائم فمن شاء منكم أن يصوم فليصم". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2656]

(1130) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي

(1)

وفي نسخة: "ولم يذكر ما في حديث مالك".

ص: 202

بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ

(1)

، فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَني إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

3 -

(أَبُو بِشْرٍ) بن أبي وَحْشيّة جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ، من أثبت الناس في سعيد بن جُبير [5](ت هـ أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) الأسديّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ) أي مهاجرًا

(1)

وفي نسخة: "فسئلوا عن ذلك اليوم".

ص: 203

من مكة (فَوَجَدَ الْيَهُودَ) أي في السنة الثانية؛ لأن قدومه صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى كان بعد عاشوراء في ربيع الأول.

قال في "الفتح": وقد استشكل ظاهر الخبر؛ لاقتضائه أنه صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، وإنما قَدِم المدينة في ربيع الأول.

والجواب عن ذلك أن المراد أن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة، لا أنه قبل أن يَقْدَمها علم ذلك، وغايته أن في الكلام حذفًا، تقديره: قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صيامًا.

وَيحْتَمِل أن يكون أولئك اليهود كانوا يَحسُبُون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه صلى الله عليه وسلم المدينة، وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين، وأحقيتهم بموسى عليه الصلاة والسلام لإضلالهم اليوم المذكور، وهداية الله للمسلمين له، ولكن سياق الأحاديث تدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول.

قال: ثم وجدت في "المعجم الكبير" للطبراني ما يؤيِّد الاحتمال المذكور أوّلًا، وهو ما أخرجه في ترجمة زيد بن ثابت، من طريق أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال:"ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقوله الناس، إنما كان يوم تُسْتَر فيه الكعبة، وكان يدور في السنة، وكانوا يأتون فلاناً اليهوديّ -يعني ليحسب لهم- فلما مات أتوا زيد بن ثابت، فسألوه"، وسنده حسن.

قال شيخنا الهيثميّ في "زوائد المسانيد": لا أدري ما معنى هذا؟.

قال الحافظ: ظَفِرت بمعناه في "كتاب الآثار القديمة" لأبي الريحان البيروني، فذكر ما حاصله: أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم، وأعيادهم حساب النجوم، فالسنة عندهم شمسية، لا هلالية.

قلت

(1)

: فمن ثَمّ احتاجوا إلى من يعرف الحساب؛ ليعتمدوا عليه في ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ.

(1)

القائل هو الحافظ ابن حجر رحمه الله.

(2)

"الفتح" 5/ 439.

ص: 204

(يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ) وفي نسخة: "فسئلوا عن ذلك اليوم"، وفي الرواية التالية:"فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ "، وفي رواية البخاريّ:"فقال: ما هذا؟ "، (فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ) قال في "الفتح": الإشارة إلى نوع اليوم، لا إلى شخصه، ومثله قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [الأعراف: 19] فيما ذكره الفخر الرازيّ في "تفسيره". انتهى

(1)

.

(الَّذِي أَظْهَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى) أي جعله في ذلك اليوم غالبًا، يقال: ظهر على عدوّه: إذا غلبه (وَبَني إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ) وفي الرواية التالية: "فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شُكرًا، فنحن نصومه"، وفي رواية البخاريّ:"قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم، فصامه موسى"، وعند أحمد من طريق شُبيل بن عوف، عن أبي هريرة: نحوه، وزاد فيه:"وهو اليوم الذي استَوَت فيه السفينة على الْجُوديّ، فصامه نوح شكرًا". (فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهْ) أي لذلك اليوم؛ لكونه يومًا حصل فيه خير عظيم (فَقَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ") وفي رواية للبخاريّ: "فقال لأصحابه: أنتم أحقّ بموسى منهم، فصوموا"، والمعنى: نحن أحق بمتابعة موسى عليه السلام منكم؛ لأنا موافقون له في أصول الدين، ومصدّقون لكتابه، وأما أنتم فمخالفون لهما بالتغيير والتحريف، قال السنديّ رحمه الله: قوله: "أحقّ بموسى منكم" يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم قَصَدَ موافقة موسى عليه السلام؛ لقوله عزو جل: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، لا موافقة اليهود حتى يقال: اللائق مخالفتهم، وكأنه لهذا عَزَمَ في آخر الأمر على ضمّ اليوم التاسع إلى عاشوراء تحقيقًا للمخالفة. انتهى.

وقال الطيبيّ رحمه الله: وافقهم في صوم يوم عاشوراء مع أن مخالفتهم مطلوبة، والجواب عنه أن المخالفة مطلوبة فيما أخطأوا فيه كما في يوم السبت، لا في كلّ أمر.

وقال القاري رحمه الله: الأظهر في الجواب أنه صلى الله عليه وسلم أول الهجرة لم يكن

(1)

"الفتح" 5/ 441.

ص: 205

مأمورًا بالمخالفة، بل كان يتألّفهم في كثير من الأمور، ومنها أمر القبلة

(1)

، ثم لَمّا ثبتت عليهم الحجة، ولم يمنعهم الملائمة، وظهر منهم العناد والمكابرة اختار مخالفتهم، وترك مؤالفتهم. انتهى

(2)

.

(فَأَمَرَ بِصَوْمِهِ) وفي الرواية التالية: "فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه"، وفيه دليل لقول من قال بوجوب صوم عاشوراء؛ لأن الأمر للإيجاب، وهو القول الراجح، وقد تقدّم البحث فيه مستوفى -ولله الحمد-.

قال في "الفتح": واستُشكِل رجوعه إليهم في ذلك -أي لأن إخبارهم غير مقبول- وأجاب المازريّ باحتمال أن يكون أُوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك، زاد عياض: أو أخبره به من أسلم منهم، كابن سلام، ثم قال: ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر بصيامه، بل في حديث عائشة رضي الله عنها التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك، فغاية ما في القصة أنه لم يَحْدُث له بقول اليهود تجديد حكم، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال.

ولم تختلف الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها:"إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه"، كما تقدم؛ إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه، مع اختلاف السبب في ذلك.

قال القرطبيّ: لعل قريشًا كانوا يستندون في صومه إلى شرع مَن مضى، كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحْتَمِل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما في الحج، أوأَذِن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر، ووجد اليهود يصومونه، وسألهم، وصامه، وأمر بصيامه احتَمَلَ ذلك أن يكون ذلك استئلافًا لليهود، كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويَحْتَمِل غير ذلك، وعلى كل حال فلم يصمه صلى الله عليه وسلم اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْهَ عنه. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

كون أمر القبلة لتأليف اليهود محل نظر، وقد أسلفت الكلام فيه فتنبّه.

(2)

راجع: "المرعاة" 7/ 95.

(3)

"الفتح" 5/ 440.

ص: 206

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2656 و 2657 و 2658 و 2659](1130)، و (البخاريّ) في "الصوم"(2004) و"أحاديث الأنبياء"(3397) و"الفضائل"(3943) و"التفسير"(4680 و 4737)، و (أبو داود) في "الصوم"(2/ 326)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2834 و 2735 و 2836)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1/ 552)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7843)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 311)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 239)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 291 و 310 و 336 و 340)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 22)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2084)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 21)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 211)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 233)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 384)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3625)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 12362)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 286 و 289)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1782)، وأما فوائده فقد تقدّمت، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2657]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه ابْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، جَمِيعًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: فَسَأَلهُمْ عَنْ ذلِكَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ بَشَّارٍ) محمد، بُندار، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد العبديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

ص: 207

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، تقدّم قريبًا.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا أيضًا.

و"أبو بشر" ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَالَ: فَسَأَلهُمْ عَنْ ذَلِكَ) فاعل "قال" ضمير "شعبة"؛ أي قال شبعة في روايته: "فسألهم عن ذلك" بدل قول هُشيم: "فسئلوا عن ذلك".

[تنبيه]: رواية شعبة عن أبي بشر هذه ساقها البخاري في "صحيحه" فقال:

(4368)

- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا رَوْح، حدّثنا شعبة، حدَّثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لَمّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، واليهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نحن أولى بموسى منهم، فصوموه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2658]

(

) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ " فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَنَحْنُ أَحَقُّ، وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [5](131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) الأسديّ الوالبيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ فاضلٌ [6].

ص: 208

رَوَى عن أبيه، وعنه أبو إسحاق السَّبِيعيّ وأيوب السَّخْتيانيّ، ومحمد بن أبي القاسم الطويل.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أيضًا عقب حديثه في "السنن": ثقةٌ مأمونٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وحَكَى الترمذيّ عن أيوب قال: كانوا يعدُّونه أفضل من أبيه.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

والباقون ذُكروا قبله، و"ابن أبي عمر": هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، ثم المكيّ" و"سفيان": هو ابن عيينة.

وقوله: (صِيَامًا) هو على حذف مضاف؛ أي ذوي صيام، أو بمعنى اسم الفاعل؛ أي صائمين.

وقوله: (مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟) أي ما سبب صومكم له.

وقوله: (هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ) أي حيث وقع فيه أمور عظيمة توجب تعظيم مثل هذا اليوم.

وقوله: (وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ) بتشديد الراء، ونصب "فرعونَ"، و"قومه" على المفعوليّة، قال الطيبيّ: غرّقه، وأغرقه بمعنى، وفى نسخة

(1)

: "أغرق"، وفي أخرى بكسر الراء، ورفع المنصوبين. انتهى.

وقوله: (فَنَحْنُ نَصُومُهُ) أي شكرًا أيضًا، أو متابعة لموسى عليه السلام، وفي الرواية السابقة:"ونحن نصومه تعظيمًا له"، وهذا أولى من التقديرين قبله، فتنبّه.

وقوله: (فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي كما كان يصومه قبل الهجرة.

وقوله: (وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) هذا دليلٌ قويّ لمن قال بوجوب صوم عاشوراء، ثم نسخه، وهو المذهب الراجح، كما سبق بيانه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

أراد به نسخة "مشكاة المصابيح"، وليس نسخة مسلم، فتنبّه.

ص: 209

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2659]

(

) - (وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَن ابْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يُسَمِّهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، تقدّم قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أيوب" ذُكر قبله.

وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ قَالَ

إلخ) فاعل "قال" ضمير معمر.

وقوله: (لَمْ يُسَمِّهِ) أي لم يسمّ معمر في روايته ابنَ سعيد بن جبير، بل أبهمه، وهو عبد الله بن سعيد بن جبير المسمّى في السند الماضي.

[تنبيه]: رواية معمر، عن أيوب هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" (8/ 389) فقال:

(3625)

- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد يهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم:"ما هذا؟ " قالوا: يوم عظيم نَجّى الله فيه موسى، وأغرق آل فرعون، فصامه موسى شكرًا لله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا أولى بموسى، وأحقّ بصيامه منكم"، فصامه، وأمر بصيامه. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2660]

(1131) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِم، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تُعَظمُهُ الْيَهُودُ، وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوهُ أَنتُمْ").

ص: 210

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو عُمَيْسٍ) - بضمّ العين المهملة، مصغّرًا- عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الْهُذليّ الْمَسْعُوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.

3 -

(قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ) الْجَدَليّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالإرجاء [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 185.

4 -

(طَارِقُ بْنُ شِهَابِ) بن عبد شمس الْبَجَليّ الأحمسيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 2 أو 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 185.

5 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حضّار الأشعريّ الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة (50) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان"16/ 171.

والباقون ذُكروا في الباب، و"ابْنُ نُمَيْرٍ" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"أبو أسامة": هو حمّاد بن أُسامة.

[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد" بعد إيراده هذا الإسناد ما نصّه: في نسخة أبي عبد الله بن الحذّاء في إسناد هذا الحديث: "حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وابن أبي عُمر، قالا: نا أبو أسامة" جعل "ابنَ أبي عمر" مكان "ابن نُمير"، والأول الصواب، وهي رواية الجُلُوديّ وغيره. انتهى

(1)

.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفية الأخذ والأداء عنهما.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه أبي بكر، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، فالصحابيّ كان أميرًا على البصرة، والكوفة.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 838 - 839.

ص: 211

شرح الحديث:

(عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ) البجليّ الأحمسيّ، رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلًا (عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه) الأَشعريّ أنه (قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَتَتَّخِذُهُ عِيدًا) وفي رواية البخاريّ:"كان يوم عاشوراء تعُدّه اليهود عيدًا"(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوهُ أَنْتُمْ") وفي رواية ابن حبّان: "خالفوهم، صوموه أنتم"، وظاهر هذا أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود، حتى يصام ما يفطرون فيه؛ لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب، وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى عليه السلام، لكن لا يلزم من تعظيمهم له، واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعلهم كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أن يصوموه، وقد ورد ذلك صريحًا في حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا فيما أخرجه البخاريّ في "الهجرة" بلفظ:"وإذا أناس من اليهود يعظمون عاشوراء، ويصومونه"، ولمسلم بعد هذا قال:"كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدًا، ويلبسون نساءهم فيه حليّهم وشارتهم"، وهو بالشين المعجمة: أي هيئتهم الحسنة، أفاده في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2660 و 2661](1131)، و (البخاريّ) في "الصوم"(2005) و"المناقب"(3942)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 159)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 55)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 409)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3627)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 212)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 289)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 441.

ص: 212

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2661]

(

) - (وَحَدَّثنَاه أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، حَدَّثنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، أَخْبَرَنِي قَيْسٌ، فَذَكَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: فَحَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا، وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيهُمْ، وَشَارَتَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَصُومُوهُ أنتُمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ) بن الجارود البزّاز، أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [11].

رَوَى عن أبي أسامة، وابن أبي فُديك، وغيرهما.

وروى عنه مسلم، وإبراهيم بن فَهد، وعبد الله بن أحمد الدَّوْرقيّ، ورَوَى عنه أبو يعلى في "معجمه".

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لا أعرفه، وعَرَضت عليه حديثه، فقال: حديث صحيح، وقال ابن قانع: صالح، وقال موسى بن هارون: مات بالبصرة في ذي القعدة سنة (230).

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا برقم (1131) و (1438) و (1575) و (2176) و (2263).

2 -

(صَدَقَةُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ) الكوفيّ، قاضي الأهواز، صدوقٌ [7].

روى عن عون بن أبي جُحيفة، وقيس بن مسلم، وأبي إسحاق السَّبيعيّ، وإياد بن لَقِيط، وغيرهم.

وروى عنه أبو أسامة، وسعيد بن يحيى بن صالح اللَّخْميّ، ومحمد بن بكر الْبُرْسانيّ، ومحمد بن عُيينة أخو سفيان، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه سئل عن صدقة بن أبي عمران، فقال: لا أعرفه؛ يعني لا أعرف حقيقة أمره، وقال أبو داود: سألت يحيى بن معين عنه، فقال: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: صدوقٌ ليس بذاك

ص: 213

المشهور، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: مجهول ضعيف.

تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله، و"حمّاد بن أسامة" هو أبو أسامة المذكور في السند الماضي بكنيته.

وقوله: (وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ) قال أهل اللغة: الْحَلْيُ -بفتح الحاء، وإسكان اللام- مفرد، وجمعه حِلِيّ -بضم الحاء، وكسرها، والضم أشهر وأكثر، وقد قرئ بهما في السبع، وأكثرهم على الضم، واللام مكسورة، والياء مشددة فيهما، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (وَشَارَتَهُمْ) -بالشين المعجمة، بلا همز- وهي الهيئة الحسنة، والجمال: أي يلبسونهن لباسهم الحسن الجميل، ويقال لها: الشارة والشُّورة بضم الشين، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": والشَّوْرَةُ، والشَّارَةُ، والشَّوْرُ -بالفَتْح في الكُلّ- والشِّيَارُ، ككِتَاب، والشَوَارُ، كسَحَاب: الحُسْنُ، والجَمَالُ، والهَيْئَةُ، واللِّبَاسُ، والسِّمَنُ، والزِّينَةُ. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: رواية أبي أسامة، عن صدقة بن أبي عمران هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه"(3/ 212) مع اختلاف قليل، فقال:

(2575)

- حدّثنا أبو محمد بن حيان، ثنا عبد الرحمن بن الحسن، ثنا المشرقيّ، وعمر الأوديّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن صدقة بن أبي عمران، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى، قال؛ كان يوم عاشوراء يوم يصومه أهل خيبر، ويلبسون فيه نساءهم، حليهم وشارتهم، فسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عاشوراء، فقال:"صوموه". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 10.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 10.

(3)

"تاج العروس" 12/ 254.

ص: 214

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2662]

(1132) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَسُئِلَ عَنْ صِيَام يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الأَيَّامِ، إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ، يَعْنى رَمَضَانَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ) المكيّ، مولى آل قارظ بن شيبة، ثقةٌ كثير الحديث [4].

رَوَى عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبي لبابة بن عبد المنذر، والحسين بن علي بن أبي طالب، وأبيه أبي يزيد، ومجاهد، ونافع بن جُبير بن مُطْعِم، وغيرهم.

وروى عنه ابنه محمد، وابن المنكدر، وهو أكبر منه، وابن جريج، وورقاء بن عُمر، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وآخرون.

قال ابن المدينيّ، وابن معين، والعجليّ، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال ابن عيينة: مات سنة ست وعشرين ومائتين، وله (86) سنةً.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، برقم (1132) و (1293) وأعاده بعده و (1596) و (2421) وأعاده بعده و (2477) و (2727).

والباقون ذُكروا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (167) من رباعيّات الكتاب، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فرّق؛ لما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمكيين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني بغداديّ.

ص: 215

(ومنها): أن فيه ابن عباس رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بن أبي يزيد، وفي رواية أحمد عن ابن عيينة، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد منذ سبعين سنة، أنه (سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، والسائل يَحْتَمل أن يكون هو الحكم بن الأعرج، كما سيأتي ذلك في الباب التالي، ويَحْتَمِل أن يكون غيره (قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ) ولفظ النسائيّ: "يَتَحَرَّى" أي يقصده، ويعتقدُ (فَضْلَه عَلَى الأَيَّامِ) هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصائم بعد رمضان، لكن ابن عباس رضي الله عنهما أسند ذلك إلى علمه، فليس فيه ما يردّ عِلْمَ غيره، فقد روى مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، مرفوعًا: "إن صوم عاشوراء يكفّر سنة، وإن صوم يوم عرفة يكفر سنتين لا، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء.

وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل. قاله في "الفتح"

(1)

. (إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ) أي يوم عاشوراء (وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِي رَمَضَانَ) ولفظ البخاريّ: "ما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحرّى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر -يعني شهر رمضان-".

قال في "الفتح": كذا ثبت في جميع الروايات، وكذا هو عند مسلم وغيره، وكأن ابن عباس اقتصر على قوله:"وهذا الشهر" وأشار بذلك إلى شيء مذكور، كأنه تقدم ذكر رمضان، وذكر عاشوراء، أو كانت المقابلة في أحد الزمانين، وذكر الآخر، فلهذا قال الراوي عنه:"يعني رمضان"، أو أخذه الراوي من جهة الحصر في أن لا شهر يُصام إلا رمضان؛ لما تقدّم له عن ابن

(1)

"الفتح" 4/ 776.

ص: 216

عباس أنه كان يقول: "لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرًا كاملًا غير رمضان".

وإنما جمع ابن عباس بين عاشوراء ورمضان -وإن كان أحدهما واجبًا، والآخر مندوبًا- لاشتراكهما في حصول الثواب؛ لأن معنى "يتحرّى" أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه، والرغبة فيه. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فضّله على غيره" في بعض نسخ "المصابيح": "فَضْلَه" بسكون الضاد، ونصب اللام، وتؤيّده رواية "شرح السنّة":"ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صوم يوم يبتغي فضله إلا صيام رمضان، وهذا اليوم يوم عاشوراء"، وقال المظهر:"فَضْله" بدل من قوله: "صيام يوم"، والتقدير: يتحرّى فضل صيام يوم على غيره، والتحرّي طلب الصواب، والمبالغة في طلب شيء، والمعنى: ما رأيته يبالغ في تفضيل يوم على يوم إلا عاشوراء، ورمضان، وذلك لأن رمضان فريضةٌ، وعاشوراء كانت فريضةً، ثم نُسخت.

قال الطيبيّ: وأقول: على هذا المبدل هنا ليس في حكم المنحى؛ لاستدعاء الضمير ما يرجع إليه، نحو قولك: زيد رأيت غلامه رجلًا صالحًا، وفي أكثر النسخ "فَضَّلَهُ" بتشديد الضاد، قيل: هو بدل من "يتحرَّى"، والحمل على الصفة أولى؛ لأن قوله:"هذا اليوم" مستثنًى، ولا بدّ من مستثنى منه، وليس ها هنا إلا قوله:"يوم"، وهو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، فالمعنى: ما رأيته صلى الله عليه وسلم يتحرَّى في صيام يوم من الأيّام صفته أنه مفضَّلٌ على غيره إلا صيام هذا اليوم، فإنه كان يتحرّى في تفضيل صيامه ما لم يكن يتحرَّى في تفضيل غيره، ونحوه في اعتبار المستثنى منه قوله:"ما أيام أحبّ إلى الله أن يُتعبّد له فيها من عشر ذي الحجة".

وقوله: "وهذا الشهر" عطف على قوله: "هذا اليوم"، ولا يستقيم إلا بالتأويل، إما أن يقدّر في المستثنى منه:"وصيام شهر فضله على غيره"، وهو من اللف التقديريّ، وإما أن يُعتبر في الشهر أيامه يومًا فيومًا موصوفًا بهذا الوصف. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 4/ 776.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1605 - 1606.

ص: 217

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 2662 و 2663](1132)، و (البخاريّ) في "الصوم"(2006)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2370) وفي "الكبرى"(3679)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 313)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 226)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 222)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 212)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 287)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(11/ 128)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 385)، و (البيهقيّ) في "المعرفة"(3/ 435)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2663]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنى عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا. والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن عبيد الله بن يزيد هذه ساقها أبو نعيم في "مستخرجه" (3/ 213) فقال:

(2577)

- حدّثنا أبو بكر بن خلاد، ثنا الحارث، عن أبي أسامة، ثنا رَوْح بن عُبادة، ثنا ابن جريج، وأنبأ سليمان بن أحمد، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد، أنه سمع ابن عباس يقول: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام يوم يبتغي فضله على غيره، إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، أو شهر رمضان. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 218

(22) - (بَابٌ أَيُّ يَوْم يُصَامُ فِي عَاشُورَاءَ؟)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2664]

(1133) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَثنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ، عَن الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ، فَاعْدُدْ، وَأَصْبحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حَاجِبُ بْنُ عُمَرَ) الثقفيّ، أبو خُشينة -بشين معجمة، ونون مصغّرًا- البصريّ، ثقةٌ رُمي برأي الخوارج [6](ت 158)(م ت د) تقدم في "الإيمان" 100/ 531.

2 -

(الْحَكَمُ بْنُ الْأَعْرَجِ) هو: الحكم بن عبد الله بن إسحاق بن الأعرج البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [3](م دت) تقدم في "الإيمان" 100/ 531.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، غير أبي بكر، ووكيع، فكوفيّان.

3 -

(ومنها): أن فيه ابن عبّاس رضي الله عنهما، وقد مضى الكلام فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَن الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ) هو ابن عبد الله بن إسحاق بن الأعرج، نُسب لجدّه، أنه (قَالَ: انْتَهَيْتُ) أي وصلت (إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي والحال أن ابن عبّاس رضي الله عنهما متوسّد؛ أي متّكئ (رِدَاءَهُ) بالكسر والمدّ: ما يُرتدى به، وهو مذكّر، ولا يجوز تأنيثه، قاله ابن الأنباريّ، والتثنية رداءان بالهمز، وربّما قُلبت الهمزة واوًا، فقيل: رداوان،

ص: 219

وجمعه أرديةٌ، مثل سِلاح وأسلحة، أفاده الفيّوميّ

(1)

. (فِي زَمْزَمَ) أي عند زمزم، وهو اسم للبئر المعروف بمكة، ولا تنصرف؛ للتأنيث والعلميّة

(2)

.

وفي رواية ابن حبّان: "فجلست إليه، ونعم الجليسُ كان، فسألته عن عاشوراء، فاستوى جالسًا، ثم قال: عن أبيّ بابه تسأل؟، قال: قلت: عن صيامه؛ أيَّ يوم نصومه؟ "(فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ؟) أي عن يومه ووقته؛ أيّ يوم هو؟ (فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ) بصيغة اسم المفعول المضعّف: اسم للشهر الأول من السنة العربيّة، أدخلوا عليه الألف واللام؛ للمح الصفة في الأصل، وجعلوه علمًا بهما، مثل النجم، والدبَرَان، ونحوهما، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَبَعْضُ الأعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا

لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا

كَالْفَضْلِ وَالْحَارِثِ وَالنُّعْمَانِ

فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سيَّانِ

ولا يجوز دخول الألف واللام على غيره من الشهور عند قوم، وعند قوم يجوز على صفر وشوّال، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

(فَاعْدُدْ) فعل أمر من عدّ الشيء يعدّه، من باب نصر: إذا أحصاه (وَأَصْبِحْ) فعل أمر من أصبح: إذا دخل في وقت الصباح، وهو الفجر، قال الفيّوميّ رحمه الله: الصبح: الفجر، والصباح مثله، وهو أول النهار، والصباح أيضًا خلاف المساء، قال ابن الْجَوَاليقيّ: الصباح عند العرب من نصف الليل إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول، هكذا رُوي عن ثعلب. انتهى

(4)

. (يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا) ظاهر هذا فيه أن ابن عبّاس رضي الله عنهما يرى أن العاشوراء هو اليوم التاسع، وسيأتي تحقيقه قريبًا، قال الحكم بن الأعرج (قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي أهكذا إلخ (قَالَ) ابن عبّاس (نَعَمْ) أي كان يصومه، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني أنه لو عاش لصامه كذلك؛ لوعده الذي وَعَدَ به، لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام اليوم التاسع بدل العاشر؛ إذ لم يُسمع ذلك عنه، ولا رُوي قط. انتهى.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 225.

(2)

راجع: "المصباح" 1/ 256.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 131.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 331.

ص: 220

وقال البيهقيّ رحمه الله: وكأن ابن عبّاس رضي الله عنهما أراد صومه مع العاشر، وأراد بقوله في الجواب:"نعم" ما رُوي من عزمه صلى الله عليه وسلم على صومه، والذي يبيّن هذا

فذكر حديث ابن عبّاس موقوفًا: "صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود". انتهى

(1)

، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 2664 و 2665](1133)، و (أبو داود) في "الصوم"(2446)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(754)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(7839)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 58)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 239 و 246 - 247 و 280 و 344 و 360)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2096 و 2098)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3633)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 241)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 213)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 75)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 287)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1786)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في تعيين يوم عاشوراء:

ذهب أكثر العلماء إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر، قال القرطبيّ رحمه الله: عاشوراء مَعدُول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم مضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء، فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة؛ إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسميّة، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ عَلَمًا على اليوم العاشر.

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقيّ 4/ 287.

ص: 221

وذكر أبو منصور الْجَوَاليقيّ أنه لم يُسمع فاعولاء إلا هذا، وضاروراء، وساروراء، ودالولاء، من الضارّ، والسارّ، والدالّ، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر، وهذا قول الخليل وغيره.

وقال الزين ابن الْمُنَيّر رحمه الله: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرّم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.

وقيل: هو اليوم التاسع، فعلى الأول فاليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني هو مضاف لليلته الآتية، وقيل: إنما سُمّي يوم التاسع عاشوراء أخذًا من إيراد الإبل، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام، ثم أوردوها في التاسع قالوا: وردنا عِشْرًا -بكسر العين- وكذلك إلى الثلاثة.

وظاهر حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المذكور أن عاشوراء هو اليوم التاسع، وقال النوويّ رحمه الله: هذا تصريح من ابن عباس رضي الله عنهما بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرَّم، ويتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الوِرْد رِبْعًا

(1)

، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عِشرًا.

وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك سعيد بن المسيِّب، والحسن البصريّ، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وخلائق، وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس الثاني يَرُدّ عليه؛ لأنه قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء، فذكروا أن اليهود والنصارى تصومه، فقال: إنه في العام المقبل يصوم التاسع، وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع، فتعيّن كونه العاشر.

قال الشافعيّ، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وآخرون: يُستحبّ صوم التاسع والعاشر جميعًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم صام العاشر، ونوى صيام التاسع، وقد

(1)

الرِّبْع بالكسر: هي التي تَعْرِضُ يومًا، وتُقلِع يومين، ثم تأتي في الرابع، وهكذا، يقال: أربعتِ الْحُمّى عليه بالألف، وفي لغة: رَبَعَت رَبْعًا، من باب نفع. انتهى. "المصباح" 1/ 217.

ص: 222

سبق في "صحيح مسلم" في "كتاب الصلاة" من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم".

قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الزين ابن المنيّر: قوله: إذا أصبحت من تاسعه، فأصْبحْ يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائمًا بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهي الليلة العاشرة.

قال الحافظ: ويقوّي هذا الاحتمال ما يأتي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع، فمات قبل ذلك"، فإنه ظاهر في أنه كان يصوم العاشر، وهمّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما همّ به من صوم التاسع يَحْتَمِل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر؛ إما احتياطًا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى، وهو الأرجح، وبه تُشعر رواية أبي غطفان التالية، ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا:"صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده".

وهذا كان في آخر الأمر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان، فلما فُتحت مكة، واشتهر أمر الإسلام أحبّ مخالفة أهل الكتاب أيضًا، كما ثبت في "الصحيح"، فهذا من ذلك، فوافقهم أوّلًا، وقال:"نحن أحقّ بموسى منكم"، ثم أحبّ مخالفتهم، فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله، أو يوم بعده خلافًا لهم، ويؤيّده رواية الترمذيّ من طريق أخرى بلفظ:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء، يوم العاشر".

وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع" يَحْتَمِل أمرين:

[أحدهما]: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 12 - 13.

ص: 223

[والثاني]: أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفّي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين، وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الصحيح، وأما نقله إلى التاسع فبعيد.

والحاصل أن الأرجح هو ما ذهب إليه الجمهور، من أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرّم، وأما قول ابن عبّاس رضي الله عنهما:"وأصبح يوم التاسع صائمًا"، فهو مذهب انفرد به، وتخالفه ظواهر الأحاديث، إلا إذا حُمل أنه أراد صومه مع العاشر، فيتّفق مع مذهب الجمهور، وهذا أولى ما أوّل به قوله، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2665]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ مُعَاوِيةَ بْنِ عَمْرٍو، حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْن الْأَعْرَجِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ عِنْدَ زَمْزَمَ، عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(مُعَاوِيةُ بْنُ عَمْرِو) بن خالد بن غَلَاب -بالغين المعجمة، وتخفيف اللام- النصريّ -بالنون- مولى بني نصر بن معاوية، البصريّ -بالباء الموحّدة- ويقال: إن غَلَاب اسم امرأة، وهي أم خالد، وهو ابن الحارث بن أوس بن

(1)

"الفتح" 4/ 771 - 772.

ص: 224

النابغة بن عنبر بن حبيب بن دهمان بن نصر، نسبه حفيده المفضل بن غسان بن المفضل بن معاوية الغلابيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن أبيه، والحكم بن الأعرج، ويقال: إنه عمة.

وروى عنه ابنه عمرو، وحماد بن سلمة، وعثمان بن عبد الحميد بن لاحق، ومعاذ بن معاذ، ويحيى بن سعيد القطان، وعلي بن عاصم.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال يحيى بن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

والباقيالن ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية معاوية بن عمرو، عن الحكم بن الأعرج هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 213) فقال:

(2579)

- حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، ثنا عليّ بن عاصم، أنبأ معاوية بن عمرو بن غَلَاب، عن الحكم بن الأعرج، وقال على: الحكم بن عبد الله بن الأعرج، قال: أتيت ابن عباس في المسجد الحرام، وهو متوسد رداءه، فسألته (ح) وثنا محمد بن إبراهيم، أنبأ أحمد بن عليّ، ثنا موسى بن محمد بن حبان، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا معاوية بن عمرو (ح) وثنا أبو حامد الجلوديّ، ثنا أبو بكر بن خزيمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا الحكم بن الأعرج، قال: سألت ابن عباس، وقال عليّ: الحكم بن عبد الله بن الأعرج، قال: أتيت ابن عباس في المسجد الحرام، وهو متوسد رداءه، فسألته عن صيام عاشوراء، فقال: اعدُدْ، فإذا أصبحت يوم التاسع، فأصبح صائمًا، قلت؛ هذا شيء كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم، لفظ يحيى بن سعيد. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 225

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2666]

(1134) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْن عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ"، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله (80) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.

3 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ، أبو العبّاس المصريّ، صدوقٌ ربما أخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 820.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

5 -

(أَبُو غَطَفَانَ بْنُ طَرِيفٍ الْمُرِّيُّ) أو ابن مالك المدنيّ، قيل: اسمه سعد، ثقةٌ، من كبار [3](م دس ق) تقدم في "الحيض" 23/ 803.

و"ابن عبّاس رضي الله عنهما " ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره.

ص: 226

شرح الحديث:

عن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ) - بفتح الغين المعجمة، ثم الطاء المهملة، بعدها فاء - (ابْنَ طَرِيفٍ) - بفتح الطاء المهملة، وكسر الراء، بوزن عظيم - (الْمُرِّيَّ) - بضمّ الميم، وتشديد الراء-: نسبة إلى مرّة قبيلة (يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاء، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) أي أمر الناس بصيام يوم عاشوراء (قَالُوا) لم يُسمّ القائل (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) استُشكل هذا بأن التعليل بنجاة موسى، وغَرَق فرعون يَختص بموسى واليهود، فكيف ذُكرت النصارى؟.

وأجيب باحتمال أن يكون عيسى عليه السلام كان يصومه، وهو مما لم يُنسَخ من شريعة موسى عليه السلام؛ لأن كثيرًا منها ما نُسخ بشريعة عيسى؛ لقوله تعالى:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} الآية [آل عمران: 50]، ويقال: إن أكثر الأحكام الفرعية إنما تتلقاها النصارى من التوراة، وقد أخرج أحمد من وجه آخر، عن ابن عباس رضي الله عنهما زيادة في سبب صيام اليهود له، وحاصلها أن السفينة استوت على الجوديّ فيه، فصامه نوح وموسى شكرًا، وكأن ذكر موسى دون غيره هنا؛ لمشاركته لنوح في النجاة، وغرق أعدائهما، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ)"كان" هنا تامّة؛ أي جاء، وَيحْتَمِل أن تكون ناقصة، وخبرها محذوف؛ أي آتيًا، وقوله:(إِنْ شَاءَ اللهُ) ذكره للتبرّك؛ امتثالًا لقوله عز وجل: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} [الكهف: 23، 24](صُمْنَا الْيَوْمَ التاسِعَ") أي مع العاشر، وهذا هو الظاهر، وقيل: يَحْتمل أن يكون المراد تعويضه به، والأول أظهر، والله تعالى أعلم (قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فثبتت سنّيّته بعزمه صلى الله عليه وسلم على صومه.

وقال المظهر رحمه الله: لم يعش النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى القابل، بل توفّي في الثاني عشر من ربيع الأول، فصار اليوم التاسع من المحرّم صومه سنّةً، وإن لم يصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عَزَم على صومه.

(1)

"الفتح" 5/ 440.

ص: 227

وقال التوربشتيّ رحمه الله: قيل: أراد بذلك أن يضمّ إليه يومًا آخر؛ ليكون هديه مخالفًا لهدي أهل الكتاب، وهذا هو الوجه؛ لأنه وقع جوابًا لقولهم:"إنه يوم تعظّمه اليهود". انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قول الصحابة رضي الله عنهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن يوم عاشوراء يوم تعظّمه اليهود

" كان هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن تمادى على صومه عشر سنين أو نحوها، بدليل أن أمره بصومه إنما كان حين قَدِم المدينة، وهذا القول الآخَرُ كان في السَّنة التي تُوُفّي فيها، في يوم عاشوراء من محرّم تلك السنة، وتوفي هو صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول منها، لم يُخْتَلف في ذلك؛ وإن كانوا اختلفوا في أي يوم منه، وأصح الأقوال: في الثاني عشر منه، والله تعالى أعلم. انتهى.

قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع"؛ إنما قال هذا؛ لحصول فائدة الاستئلاف المتقدم، وكانت فائدئه: إصغاءهم لما جاء به حتى يتبين لهم الرشد من الغيّ، فيحيا مَن حَيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ولما ظهر عنادهم كان يجب مخالفتهم -أعني: أهل الكتاب- فيما لم يؤمر به، وبهذا النظر، وبالذي تقدَّم يرتفع التعارض المتوهم في كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب، وكان يحب مخالفتهم. وأن ذلك في وقتين وحالتين، لكن الذي استقر حاله عليه: أنه كان يحب مخالفتهم؛ إذ قد وضح الحق، وظهر الأمر ولو كره الكافرون. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22221/ 2666 و 2667](1134)، و (أبو داود) في "الصوم"(2445)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 241)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 214)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 384)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 287) و"الصغرى"(3/ 416)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 228

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2667]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَن ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَن الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَيْرٍ، لَعَلَّهُ قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: قَالَ: يَعْني يَوْمَ عَاشُورَاءَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

3 -

(الْقَاسِمُ بْنُ عَبَّاسٍ) بن محمد بن مُعَتِّب بن أبي لهب الهاشميّ، أبو العباس المدنيّ، ثقةٌ [6].

رَوَى عن نافع بن جُبير بن مُطْعِم، وعبد الله بن نيار بن مكرم، وعبد الله بن عُمير مولى ابن عباس، وعبد الله بن رافع مولى أم سلمة، وعمرو بن عُمير.

وروى عنه بكير بن الأشج، وروى هو أيضًا عنه، وابن أبي ذئب.

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال عليّ ابن المدينيّ في حديث ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن ابن الأشجّ، عن ابن المكرز، عن أبي هريرة، قيل: يا رسول الله الرجل يجاهد، وهو يحب أن يُحْمَد: لم يروه غير ابن أبي ذئب، والقاسم مجهول، وابن مكرز مجهول، لم يرو عنه غير ابن الأشجّ. وذكره ابن حبان في "الثقات".

قُتل سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل: إنه مات بالمدينة أيام الحرورية، وقال البخاريّ، عن عبد الرحمن بن شيبة: قُتل سنة ثلاثين ومائة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1134)، و (2295).

ص: 229

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَيْرٍ) أبو محمد، مولى أم الفضل، وقيل: مولى ابنها عبد الله بن عباس، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ابن عباس، وعنه القاسم بن عباس، قال ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة: ثقة، وقال ابن المنذر: لا يُعرف هو ولا شيخه إلا في هذا الحديث؛ يعني حديث ابن عباس في عاشوراء، وقال محمد بن سعد: تُوُفّي سنة سبع عشرة ومائة، وكان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة 117.

تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث فقط.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (لَعَلَّهُ قَالَ) هكذا عند المصنّف، والظاهر أنه من شيخي المصنّف، أو من أحدهما؛ لأن الحديث رواه أحمد في "مسنده"(1/ 344) عن وكيع، وكذا ابن ماجه في "سننه"(1/ 552) عن عليّ بن محمد، عن وكيع، وليس عندهما "لعله"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره: أنه كان عَزَم على أن يصوم التاسع بدل العاشر، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس رضي الله عنهما، حتى قال للذي سأله عن يوم عاشوراء: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا، وبهذا تمسَّك من رآه التاسع، ويمكن أن يقول من رأى صوم التاسع والعاشر: ليس فيه دليل على أنه يترك صوم العاشر، بل وعد بأن يصوم التاسع مضافًا إلى العاشر، وفيه بُعد عند تأمل مساق الحديث، مبنيًا على أنه جواب سؤالٍ سبق، فتأمَّل. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يصوم التاسع مضافًا إلى العاشر الذي كان يصومه، لا أنه أراد أن يستبدل العاشر بالتاسع، كما هو ظاهر جواب ابن عبّاس رضي الله عنهما، لكن مجموع الأحاديث الواردة في ذلك تأبى هذا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 230

(23) - (بَابُ مَنْ أَكَلَ فِي عَاشُورَاءَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ بَقِيَّةَ يَومِهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2668]

(1135) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ -يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ- عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكوَعِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: "مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ")

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، كوفيّ الأصل، صدوق يَهِم، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميّ مولى سلمة بن الأكوع المدنيّ، ثقةٌ [4] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

4 -

(سَلَمَةُ بْنُ الْأَكوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، أوأبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِد بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقيه، وهو (168) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة.

ص: 231

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ) بن أبي عُبيد، مولى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكوَعِ رضي الله عنه) وفي رواية النسائيّ:"قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ"(أنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ) أي من قبيلة أسلم.

قال في "الفتح": واسم هذا الرجل هند بن أسماء بن حارثة الأسلميّ، له ولأبيه، ولعمه هند بن حارثة صحبة، أخرج حديثه أحمد، وابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق: حدّثني عبد الله بن أبي بكر، عن حبيب بن هند بن أسماء الأسلميّ، عن أبيه، قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قومي من أسلم، فقال:"مُرْ قومك أن يصوموا هذا اليوم، يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه، فليصم آخره"، وروى أحمد أيضًا من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن يحيى بن هند، قال: وكان هند من أصحاب الحُدَيبية، وأخوه الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء، قال: فحدّثني يحيى بن هند، عن أسماء بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه، فقال:"مر قومك بصيام هذا اليوم"، قال: أرأيت إن وجدتهم قد طَعِمُوا؟ قال: "فليتمّوا آخر يومهم".

قال الحافظ: فيَحْتَمِل أن يكون كلّ من أسماء، وولده هند أُرسلا بذلك، وَيحْتَمِل أن يكون أطلق في الرواية الأولى على الجدّ اسم الأب، فيكون الحديث من رواية حبيب بن هند، عن جدّه أسماء، فتتحد الروايتان، والله أعلم. انتهى.

(يَوْمَ عَاشُورَاءَ) متعلّقٌ بـ "بَعَثَ"(فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ) بتشديد الذال المعجمة، من التأذين، ويَحتَمِل أن يكون بتخفيفها (فِي النَّاسِ:"مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ) أي ولم يأكل أيضًا (فَلْيَصُمْ، وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ") هذا ظاهرٌ في أن صومه بقية يومه صوم لكله، وإن تقدمه أكل، أو شرب، أو نحوه، فهو بمنزلة من أكل، أو شرب ناسيًا، فإن صومه صحيح بإجماع، ومن تأوله بأن المراد مجرد الإمساك لحرمة اليوم، فقد حفله ما لا يتحمّله من دون ضرورة تُلجِئ إليه، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: احتجّ أبو حنيفة رحمه الله بهذا الحديث لمذهبه أن صوم

ص: 232

رمضان وغيره من الفرض يجوز نيّته في النهار، ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار، وأجزأهم.

وقال الجمهور: لا يجوز رمضان، ولا غيره من الصوم الواجب إلا بنيّة من الليل، وأجابوا عن هذا الحديث بأن المراد إمساك بقية النهار، لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا أنهم أكلوا، ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل أو غيره.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الجواب فيه نظر لا يخفى؛ إذ هو مخالف لظاهر النصّ، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"فليتمّ صيامه إلى الليل"، فيُثبِت كونه صومًا صحيحًا، بنصه الصريح، وهو إنما بُعِث لتبيين الحقائق الشرعيّة، وهم يقولون: ليس صومًا صحيحًا، إن هذا لشيءٌ عُجاب.

والحاصل أن الصواب أن هذا الصوم صحيح، وجاز بنيّة من النهار للعذر بالجهل به، كما تقدّم، والله تعالى أعلم.

قال: وجواب آخر أن صوم عاشوراء لم يكن واجبًا عند الجمهور، وإنما كان سنة متأكدة.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد قدّمنا أن الصحيح كون صوم عاشوراء واجبًا، ثم نُسِخ، لظواهر النصوص، والله تعالى أعلم.

قال: وجواب ثالث أنه ليس فيه أنه يجزيهم، ولا يقضونه، بل لعلهم قضوه، وقد جاء في سنن أبي داود في هذا الحديث:"فأتموا بقية يومكم، واقضوه"

(1)

. انتهى كلام النوويّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لعلهم قضوه" غير صحيح، فمن

(1)

هو ما أخرجه أبو داود في "سننه" من طريق قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمّه: أن أسلم أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"صُمتم يومكم هذا؟ " قالوا: لا، قال "فأتمّوا بقيّة يومكم، واقضوه"، وهو ضعيف؛ لأن في سنده عبد الرحمن بن سلمة لم يرو عنه إلا قتادة، قال ابن القظان: مجهول الحال، وقال الذهبيّ: لا يُعرَف، وقال في "التقريب": مقبول؛ أي حيث يتابَع، ولم يُتابَع هنا.

ص: 233

أين هذا الظنّ؟، والزيادة التي ذكرها من "سنن أبي داود" غير صحيحة.

والحاصل أن صوم من لم يعلم بكون اليوم من رمضان، ثم تبيّن له في أثناء النهار أنه منه، فليتم يومه صائمًا سواء تقدم له أكل ونحوه، أو لم يتقدم، فيكون صومه صحيحًا مجزئًا عن فرضه؛ لحديث الباب وغيره، فيكون كمن أكل، أو شرب ناسيًا، فإن صومه صحيح تامّ بلا خلاف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة رضي الله عنه هذا مُتَّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 2668](1135)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1924 و 2007) وفي "أخبار الآحاد"(7265)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2321) و" الكبرى"(2630)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 47 و 48 و 50)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2092)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 215)(الدارميّ) في "سننه"(1761)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في وجوب تبييت النيّة من الليل في الصوم:

قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا جواز إحداث نية الصوم في أضعاف النهار، ولا يلزم التبييت، وقد اختُلِف في ذلك: فذهب أبو حنيفة، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى جواز ذلك في النفل، وخصَّت طائفة منهم جواز ذلك بما قبل الزوال؛ منهم: الشافعيّ في أحد قوليه، وذهب مالك، وابن أبي ذئب، والليث، والمزني: إلى أنه لا يصح صوم إلا بنيّة من الليل. وذهب الكوفيون: إلى أن كل ما فرض من الصوم في وقت معين؛ فإنه لا يحتاج إلى تبييت نية، ويجزئه إذا نواه قبل الزوال. وهو قول الأوزاعي، وإليه ذهب عبد الملك ابن الماجشون، ورواه عن مالك فيمن لم يعلم برمضان إلا في يومه. وذهب مالك في المشهور عنه، والشافعي،

ص: 234

وأحمد، وعامتهم: إلى أن الفرض لا يجزئ إلا بنيّة من الليل. وهذا هو الصحيح بدليل ما رواه النسائي عن حفصة، والدارقطني عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل"، وغاية ما قيل في هذا الحديث: إنه روي موقوفًا، والمسندون له ثقاث، ولا حجة فيما تقدم من ابتداء الصيام في يوم عاشوراء؛ لأنه كان ذلك في أول الأمر، وهو منسوخ كما قد تقدم. ولو سلِّم أنه ليس بمنسوخ؛ لأمكن أن يقال بموجبه، فإن من تذكر فرض صوم يوم هو فيه، أو ثبت أنه يوم صومه لزمه إتمام صومه.

وهذا مما لا يختلف فيه، لكن عليه قضاؤه؛ إذ الصوم المطلوب منه لم يأت به؛ فإنه طلب منه صوم يوم كامل، وهذا بعض يوم، هذا مع ما قد رواه أبو داود من أنه قال صلى الله عليه وسلم:"فأتموا بقية يومكم واقضوه"؛ يعني: عاشوراء. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي داود المذكور ضعيف، فالقول بوجوب القضاء مما لا دليل عليه، بل الظاهر أنه لا يجب القضاء، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": استُدلّ بحديث الباب على صحة الصيام لمن لم ينوه من الليل، سواء كان رمضان، أو غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم في أثناء النهار، فدلّ على أن النيّة لا تشترط من الليل.

قال الحافظ: وأجيب بأن ذلك يتوقّف على أن صيام عاشوراء كان واجبًا، والذي يترجّح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضًا، وعلى تقدير أنه كان فرضًا، فقد نسخ بلا ريب، فنسخ حكمه، وشرائطه بدليل قوله:"من أكل فليتمّ"، ومن لا يشترط النيّة من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضًا"، إن أراد كونه مذهب الجمهور، فمسلّم، وإن أراد أنه راجح من حيث الدليل فلا؛ لأن الذي يترجح بالأدلة الواضحة كونه فرضًا، لكنه نسخ برمضان.

وقد ذكر الحافظ نفسه ما يناقض كلامه المذكور، فقال عند شرح حديث معاوية رضي الله عنه:"ولم يكتب الله عليكم صيامه" ما ملخّصه: ويؤخذ من مجموع

ص: 235

الأحاديث أنه كان واجبًا؛ لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكُّد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العامّ، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يُرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم:"لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء"، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدلّ على أن المتروك وجوبه. وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه، فلا يخفى ضعفه، بل تاكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:"لئن عشت لأصومنّ التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه، وأنه يكفّر سنة، وأيّ تأكيد أبلغ من هذا؟. انتهى.

فتبيّن بهذا أن الصواب أن صوم عاشوراء كان فرضًا، ثم نسخ بفرض رمضان. والله تعالى أعلم.

قال: وصرّح ابن حبيب من المالكيّة بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء، وعلى تقدير أن حكمه باق، فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء، فيحتمل أن يكون أمر بالإمساك لحرمة الوقت، كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارًا، وكما يؤمر من أفطر يوم الشكّ، ثم رأى الهلال، وكلّ ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء.

بل ورد ذلك صريحًا في حديث أبي داود، والنسائيّ، من طريق قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة

(1)

، عن عمّه: أن أسلم أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"صمتم يومكم هذا؟ "، قالوا: لا، قال:"فأتمّوا بقية يومكم، واقضوه". وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء، فلا يتعيّن ترك القضاء؛ لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء، كمن بلغ، أو أسلم في أثناء النهار.

واحتجّ الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب "السنن" من حديث عبد الله بن عمر، عن أخته حفصة رضي الله عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

قال ابن القطان: مجهول، وقال الذهبيّ: لا يعرف. فالحديث بزيادة: "واقضوه" زيادة لا يصحّ، لكونه من طريق عبد الرحمن بن سلمة، وهو وإن ذكره ابن حبان في "الثقات"، مجهول. فتنبّه.

ص: 236

"من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له". لفظ النسائيّ، ولأبي داود، والترمذيّ:"من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له".

واختُلف في رفعه ووقفه، ورجّح الترمذيّ، والنسائيّ الموقوف، بعد أن أطنب النسائيّ في تخريج طرقه. وحكى الترمذيّ في "العلل" عن البخاريّ ترجيح وقفه.

وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة، فصحّحوا الحديث، منهم: ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، وابن حزم، وروى له الدارقطنيّ طريقًا آخر، وقال: رجالها ثقات.

وأبعَدَ من خصّه من الحنفيّة بصيام القضاء والنذر، وأبعَدُ من ذلك تفرقة الطحاويّ بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه، كعاشوراء، فتجزئ النيّة في النهار، أو لا في يوم بعينه، كرمضان، فلا يجزئ إلا بنيّة من الليل، وبين صوم التطوّع، فيجزئ في الليل وفي النهار.

وقد تعقّبه إمام الحرمين بأنه كلام غثّ، لا أصل له. وقال ابن قُدامة: تعتبر النية في رمضان لكلّ يوم في قول الجمهور، وعن أحمد أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر، وهو كقول مالك، وإسحاق. وقال زفر: يصحّ صوم رمضان في حقّ المقيم الصحيح بغير نية، وبه قال عطاء، ومجاهد.

واحتجّ زفر بأنه لا يصحّ فيه غير صوم رمضان؛ لتعيّنه، فلا يفتقر إلى نيّة؛ لأن الزمن معيار له، فلا يتصوّر في يوم واحد إلا صوم واحد.

وقال أبو بكر الرازيّ: يلزم قائل هذا أن يصحح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل، ولم يشرب؛ لوجود الإمساك بغير نيّة، قال: فإن التزمه كان مستشنعًا، وقال غيره: يلزمه أن من أخّر الصلاة حتى لم يبق من وقتها إلا قدرها، فصلى حينئذ تطوعًا أنه يجزئه عن الفرض.

واستدلّ ابن حزم

(1)

بحديث الباب، وحديث محمد بن صيفيّ رضي الله عنه عند النسائيّ بسند صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ عاشوراء: "أمنكم أحدٌ أكل اليوم؟ " فقالوا: منا من صام، ومنا من لم يصم، قال: "فأتمّوا بقيّة يومكم،

(1)

راجع: "المحلّى" 6/ 164 - 170.

ص: 237

وابعَثُوا إلى أهل الْعَرُوض، فليُتموا بقيّة يومهم"

(1)

، على أن من ثبت له هلال رمضان بالنهار جاز له استدراك النية حينئذ، ويجزئه، وبناه على أن عاشوراء كان فرضًا أوّلًا، وقد أُمروا أن يمسكوا في أثناء النهار، قال: وحكم الفرض لا يتغيّر.

قال الحافظ: ولا يخفى ما يَرِدُ عليه مما قدمناه. وألحق بذلك من نسي أن ينوي من الليل؛ لاستواء حكم الجاهل والناسي. انتهى كلام الحافظ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله، هو الراجح الذي يؤيده الدليل الواضح البيّن، وما ادعاه الحافظ من أنه يَرِدُ عليه ما تقدم غير مقبول؛ لأن ما قدّمه من ترجيح عدم كون صوم عاشوراء فرضًا، غير مسفم، فتنبّه.

والحاصل أن الصوم فرضه ونفله لا يصحّ إلا بنيّة من الليل، إلا ما خصّ بحديث الباب، ونحوه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[2669]

(1136) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ بْنِ لَاحِقٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: "مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ"، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ، إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِن الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطعَامِ، أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع، تقدّم قبل باب.

2 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ بْنِ لَاحِقٍ) الرَّقاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

(1)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ برقم (2320).

ص: 238

3 -

(خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ) أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن المدنيّ، نزيل البصرة، صدوقٌ [5].

رَوَى عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء، ولها صحبة، وأم الدرداء الصغرى، وأيوب بن بشير بن كعب.

ورَوَى عنه حماد بن سلمة، وبشر بن المفضل، وعبد الواحد بن زياد، وأبو معشر البراء، ومحبوب بن الحسن، ومحمد بن دينار الطائيّ.

قال إسحاق بن منصور، وعثمان بن سعيد، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال: هو أحبّ إليّ من عبد الله بن محمد بن عَقِيل، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، قليل الحديث، محلّه الصدق، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال ابن عديّ: حديثه ليس بالكثير، وأرجوأنه لا بأس به وبرواياته، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال الحافظ: قرأت بخط الذهبيّ: ما أدري لأيّ شيء ذكره ابن عدي في "الكامل". انتهى. وابن عديّ أشعر كلامه بأنه تَبع البخاريُّ في ذلك، وقد قال ابن خزيمة عقب حديثه في الصيام الذي رواه عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ: خالد بن ذكوان حسن الحديث، وفي القلب منه. انتهى.

وقال في "الفتح": هو تابعيّ صغير، وليس له من الصحابة سماعٌ، من سوى الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ، وهي من صغار الصحابة، ولم يُخرِج البخاريّ من حديثه عن غيرها. انتهى

(1)

.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ

(2)

ابْنِ عَفْرَاءَ) وعفراء أم مُعَوِّذ، وأبوه الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غَنْم بن مالك بن النّجّار، الأنصارية، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها ابنتها عائشة بنت أنس بن مالك، وخالد بن ذكوان، وسليمان بن يسار، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وأبو سلمة بن

(1)

"الفتح" 5/ 366.

(2)

"الرُّبَيِّع" بضم الراء، وتشديد الياء، مصغّرًا، و"مُعَوِّذ" بضمّ الميم، وتشديد الواو المكسورة، بصيغة اسم الفاعل.

ص: 239

عبد الرحمن، ونافع مولى ابن عمر، وأبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وعبادة بن الوليد بن عبادة، وعبد الله بن محمد بن عَقِيل، قال ابن أبي خيثمة، عن أبيه: كانت من المبايعات تحت الشجرة.

أخرج لها الجماعة، وليس لها في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقه، وهو (169) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فانفرد به هو والترمذيّ، والنسائيّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.

شرح الحديث:

(عَنْ الرُّبَيِّعِ) وفي الرواية التالية: "سألت الربيّع"، وهي بضمّ الراء، وتشديد الياء التحتانيّة، مصغّرًا (بنْتِ مُعَوِّذِ) بضمّ الميم، وتشديد الواو المكسورة (ابْنِ عَفْرَاءَ) تقدّم أن عفراء أَم مُعوِّذ، أنها (قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ) أي صباح يوم عاشوراء، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغداة: الضحوة، وهي مؤنّثةٌ، قال ابن الأنباريّ: ولم يُسمع تذكيرها، ولو حملها حاملٌ على معنى أوَّل النهار جاز له التذكير، والجمع: غَدَوات. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما خصَّ هذا الوقت بالإرسال؛ لأنه الوقت الذي أُوحي إليه فيه في شأن صوم عاشوراء، وهذا مما يدلّ على أنه كان واجبًا؛ إذ لا ينتهي الاعتناء بالندب غالبًا إلى أن يفعل فيه هكذا من الإفشاء، والأمر به، وبيان أحكامه، والإبلاع لمن بَعُدَ، وشدة التهمم.

ولما فهمت الصحابة رضي الله عنه هذا التزموه، وحملوا عليه صغارهم الذين ليسوا بمخاطبين بشيء من التكاليف تدريبًا، وتمرينًا، ومبالغة في الامتثال والطواعية، على أن جمهور من قال من العلماء: إن الصغار يؤمرون بالصلاة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 443.

ص: 240

وهم أبناء سبع، ويُضْرَبون عليها وهم أبناء عشر؛ ذهبوا إلى أنهم: لا يؤمرون بالصوم لمشقته عليهم، بخلاف الصلاة.

وقد شذَّ عروة فقال: إن من أطاق الصوم منهم وجب عليه، وهذا مخالف لما عليه جمهور المسلمين؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ"، وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، ولقوله تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ} [النور: 59]. انتهى.

(إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ) المراد قُرى المدينة، وهي بضمّ القاف، مقصورًا: جمع قرية، قال الفيّوميّ رحمه الله: القرية: هي الضيعة، وقال في "كفاية المتحفّظ": القَرْية: كلُّ مكان اتَّصَلت به الأبنية، واتُّخِذ قرارًا، وتقع على المدن وغيرها، والجمع: قُرى على غير قياس، قال بعضهم: لأن كلّ ما كان على فَعْلَة من المعتلّ فبابه أن يُجمَع على فِعَالٍ بالكسر، مثلُ ظَبْية وظِبَاء، ورَكْوَة ورِكاء، والنسبة إليها قَرَويّ بفتح الراء على غير قياس. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه المذكور قبله أن الرجل الذي أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تلك القرى هو هند بن أسماء بن حارثة الأسلميّ رضي الله عنه.

(الَّتى حَوْلَ الْمَدِينَةِ: "مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ"، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ) أي يوم عاشوراء (وَنُصَوِّمُ) بتشديد الواو، مبنيًّا للفاعل (صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ) أي نجعلهم صائمين (إِنَّ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ) أي مع الصبيان (فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ) بضمّ اللام، وسكون العين المهملة: اسم لما يُلعَبُ به، قال الفيّوميّ رحمه الله: لَعِبَ يَلْعَبُ لَعِبًا بفتح اللام، وكسر العين، ويجوز تخفيفه بكسر اللام، وسكون العين، قال ابن قُتيبة: ولم يُسمع في التخفيف فتح اللام مع السكون، واللُّعْبة، وزانُ غُرْفة: اسمٌ منه، يقال: لمن اللُّعْبَةُ، وفَرَغَ من لُعْبَته، وكلُّ ما يُلعب به، فهو لُعْبَةٌ، مثلُ الشِّطْرَنج، والنَّرْد، وهو حَسَنُ اللِّعْبة بالكسر للحال والهَيئة التي يكون الإنسان عليها. انتهى

(2)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 501.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 554.

ص: 241

وقولها: (مِنَ الْعِهْنِ) بيان للُّعْبة، وهو بكسر العين المهملة، وسكون الهاء: أي الصوف، وقد فسّره البخاريّ في رواية المستملي في آخر الحديث، وقيل: العِهْن الصوف المصبوغ، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ) أي فقده الطعام (أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "عند الإفطار"، قال القاضي: فيه محذوف، وصوابه حتى يكون عند الإفطار، فبهذا يتم الكلام، وكذا وقع في البخاريّ من رواية مسدّد، وهو معنى ما ذكره مسلم في الرواية الأخرى:"فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللُّعبة، تلهيهم حتى يُتِمُّوا صومهم"

(2)

.

وفي رواية البخاريّ: "أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار"، قال في "الفتح": هكذا رواه ابن خزيمة وابن حبان، ووقع في رواية مسلم:"أعطيناه إياه عند الإفطار"، وهو مشكل، ورواية البخاريّ توضِّح أنه سقط منه شيء، وقد رواه مسلم من وجه آخر عن خالد بن ذكوان، فقال فيه:"فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم"، وهو يوضح صحة رواية البخاريّ.

ووقع لمسلم شك في تقييده الصبيان بالصغار، وهو ثابت في "صحيح ابن خزيمة" وغيره، وتقييده بالصغار لا يخرج الكبار، بل يُدخلهم من باب أولى، وأبلغ من ذلك ما جاء في حديث رَزِينة -بفتح الراء، وكسر الزاي- أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأمر مرضعاته في عاشوراء، ورضعاء فاطمة، فيتفل في أفواههم، ويأمر أمهاتهم أن لا يُرْضِعن إلى الليل، أخرجه ابن خزيمة، وتوقف في صحته، وإسنادُه لا بأس به. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 5/ 367.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 14.

(3)

"الفتح" 5/ 367.

ص: 242

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 2669 و 2670](1136)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1960)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 359 و 360)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 700)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 73)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 234)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 288)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3620)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 288) و"المعرفة"(3/ 435)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1783)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تأكّد صوم يوم عاشوراء.

2 -

(ومنها): بيان أن عاشوراء كان فرضًا قبل أن يُفْرَض رمضان، وقد تقدم بيان اختلاف العلماء في ذلك.

3 -

(ومنها): بيان مشروعية تمرين الصبيان على الصيام؛ لأن من كان في مثل السن الذي ذُكِر في هذا الحديث فهو غير مكلف، وإنما صنع لهم ذلك للتمرين، وأغرب القرطبيّ، فقال: لعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك، ويبعد أن يكون أمر بذلك؛ لأنه تعذيب صغير بعبادة غير متكررة في السنة، وما تقدّم من حديث رَزِينة يردّ عليه، مع أن الصحيح عند أهل الحديث، وأهل الأصول أن الصحابيّ إذا قال: فعلنا كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكمه الرفعَ؛ لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتقريرهم عليه، مع توفّر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، مع أن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه فما فعلوه إلا بتوقيف، والله تعالى أعلم، قاله في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم صوم الصبيان:

ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب الصوم على من دون البلوغ، واستَحَبّ جماعة من السلف، منهم ابن سيرين، والزهريّ، وبه قال الشافعيّ أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه، وحُدُّ ذلك عند أصحاب الشافعيّ بالسبع والعشر

(1)

"الفتح" 5/ 367.

ص: 243

كالصلاة، وعند إسحاق حدُّه اثنتا عشرة سنةً، وعند أحمد في رواية: عشر سنين، وقال الأوزاعيّ: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يَضْعُف فيهنّ حُمِل على الصوم، والمشهور عند المالكية أنه لا يُشْرَع في حق الصبيان.

وقال ابن بطّال: أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض، إلَّا عند البلوغ، إلَّا أن أكثر العلماء استحسنوا تدريب الصبيان على العبادات؛ رجاء البركة، وأنهم يعتادونها، فتَسْهُل عليهم؛ إذا لَزِمتهم، وأن من فعل ذلك بهم مأجور.

وقال في "الأشراف": اختلفوا في الوقت الذي يؤمر فيه الصبيّ بالصيام، فكان ابن سيرين، والحسن، والزهريّ، وعطاء، وعروة، وقتادة، والشافعيّ يقولون: يؤمر به إذا أطاقه، ونُقِل عن الأوزاعيّ مثل ما ذكرنا الآن، واحتَجَّ بحديث ابن أبي لبيبة، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة، فقد وجب عليه صيام رمضان".

وقال ابن الماجشون: إذا طاقوا الصيام أُلْزِموه، فإذا أفطروا بغير عذر ولا علة، فعليهم القضاء.

وقال أشهب: يستحب لهم إذا أطاقوه، وقال عروة: إذا أطاقوا الصوم وجب عليهم، قال عياض: وهذا غلط، يردّه قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِع القلم عن ثلاثة

"

(1)

، فذكر الصبيّ حتى يحتلم، وفي رواية:"حتى يبلغ"، ذكره في "العمدة"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يجب على الصبيّ شيء من العبادات حتى يبلغ، وأما ما ذُكر في الباب من حديث الربَيِّع رضي الله عنهما فللتمرين، ودليل الجمهور حديث:"رُفِع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"، وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره، بإسناد صحيح، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

حديث صحيح.

(2)

"عمدة القاري" 11/ 69 - 70.

ص: 244

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2670]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثنا أَبُو مَعْشَرٍ الْعَطَّارُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُسُلَهُ فِي قُرَى الْأَنْصَارِ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بِشْرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَنَصْنَعُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَنَذْهَبُ بِهِ مَعَنَا، فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُمُ اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ، حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو مَعْشَرٍ الْعَطَّارُ) يوسف بن يزيد البَرّاء -بتشديد الراء- البصريّ، صدوقٌ ربما أخطأ [6].

رَوَى عن عبيد الله بن الأخنس، وسعيد بن عبد الله بن جبير بن حيَّة، وخالد بن ذكوان، وأبي حازم بن دينار، وموسى بن دهقان، وعثمان بن غياث، وغيرهم.

ورَوَى عنه زيد بن الخطاب، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وأبو كامل فُضيل بن حسين الجحدريّ، ومحمد بن أبي بكر المقدميّ، ولُوَين، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، وقال أبو داود: ليس بذاك، وقال علي بن الجنيد، عن محمد بن أبي بكر المقدميّ: ثنا أبو معشر البرّاء، وكان ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به البخاريّ، والمصنف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُسُلَهُ

إلخ) لم يسمّ منهم أحد، إلا ما تقدّم أنه رجل من أسلم، وهو هند بن أسماء.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بِشْرٍ إلخ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير أبي معشر.

وقوله: (تُلْهِيهِمْ) أي تَشْغَلهم.

ص: 245

[تنبيه]: رواية أبي معشر، عن خالد بن ذكوان هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "معرفة السنن والآثار" (3/ 435) فقال:

(2593)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسين، قال: حدّثنا يحيى بن يحيى، قال: أخبرنا أبو معشر العطار، عن خالد بن ذكوان، قال: سألت الرُّبَيِّعَ بنت مُعَوِّذ بن عفراء، عن صوم يوم عاشوراء، فقالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرى الأنصار، قال:"من أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصبح مُفْطِرًا فليتم صومه آخر يومه". قالت: فلم نزل نصومه بعدُ، ونُصَوِّم صبياننا، وهم صغار، ونصنع لهم اللُّعْبة من الْعِهْن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللُّعْبة، تلهيهم حتى يتموا صومهم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(24) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيوْمِ الْأَضْحَى)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2671]

(1137) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَجَاءَ، فَصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِن هَذَيْنِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَالْآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) تقدّم في السند الماضي.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

3 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل باب أيضًا.

4 -

(أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ) اسمه سعد بن عُبيد الزهريّ، مولى

ص: 246

عبد الرحمن بن أزهر المدنيّ، ثقةٌ [2]، وقيل: له إدراك تقدم في "الإيمان"(ع) 73/ 390.

5 -

(عُمَرُ بْنُ الْخَطَابِ) رضي الله عنه الخليفة الراشد، استُشهد في ذي الحجة سنة (23) وولي الخلافة عشر سنين ونصفًا (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين، والسابقين إلى الإسلام، ذو مناقب جمة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ) ووقع عند البخاريّ في رواية الكشميهنيّ: "مولى بني أزهر"، وعزاه في "الفتح" إلى مسلم، وليس في النسخ التي بين أيدينا إلا الأول.

وقال البخاريّ بعد إخراج الحديث ما نصّه: قال أبو عبد الله: قال ابن عُيينة: من قال: مولى ابن أزهر، فقد أصاب، ومن قال: مولى عبد الرحمن بن عوف، فقد أصاب. انتهى.

قال في "الفتح": كلام ابن عيينة هذا حكاه عنه عليّ ابن المدينيّ في "العلل"، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده"، عن ابن عيينة، عن الزهريّ، فقال: عن أبي عُبيد مولى ابن أزهر، وأخرجه الحميديّ في "مسنده"، عن ابن عيينة: حدّثني الزهريّ، سمعت أبا عُبيد، فذكر الحديث، ولم يَصِفْه بشيء، ورواه عبد الرزاق في "مصنّفه"، عن معمر، عن الزهريّ، فقال: عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، وكذا قال جويرية، وسعيد الزبيريّ، ومكيّ بن إبراهيم، عن مالك، حكاه أبو عمر، وذكر أن ابن عيينة أيضًا كان يقول فيه كذلك.

ص: 247

وقال ابن التين: وجه كون القولين صوابًا ما رُوي أنهما اشتركا في ولائه، وقيل: يُحْمَل أحدهما على الحقيقة، والآخر على المجاز، وسبب المجاز إما بأنه كان يُكثر ملازمة أحدهما، إما لخدمته، أو للأخذ عنه، أو لانتقاله من ملك أحدهما إلى ملك الآخر، وجزم الزبير بن بكار بأنه كان مولى عبد الرحمن بن عوف، فعلى هذا فنسبته إلى ابن أزهر هي المجازية، ولعلها بسبب انقطاعه إليه بعد موت عبد الرحمن بن عوف، واسم ابن أزهر أيضًا عبد الرحمن، وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف، وقيل: ابن أخيه. انتهى

(1)

.

(أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ) زاد في رواية البخاريّ من طريق يونس، عن الزهريّ:"يوم الأضحى"(مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطابِ رضي الله عنه، فَجَاءَ) أي عمر (فَصَلَّى) أي صلاة العيد (ثُمَّ انْصَرَفَ) أي إلى محلّ خطبته (فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ يَوْمَانِ) ولفظ البخاريّ: "هذان يومان"، وفيه التغليب، وذلك أن الحاضر يشار إليه بـ "هذا"، والغائب يشار إليه بـ "ذاك"، فلما أن جمعهما اللفظ قال: هذان، تغليبًا للحاضر على الغائب

(2)

.

(نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا) وقوله: (يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ) برفع "يومُ" إما على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أحدهما، أو على البدل من قوله:"يومان"، وفي رواية يونس المذكورة عند البخاريّ:"أما أحدهما فيوم فطركم"، قيل: وفائدة وصف اليومين الإشارة إلى العلة في وجوب فطرهما، وهو الفصل من الصوم، وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده، والآخر لأجل النسك المتقرَّب بذبحه؛ ليؤكل منه، ولو شُرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى، فعَبَّر عن علة التحريم بالأكل من النسك؛ لأنه يستلزم النحر، ويزيد فائدة التنبيه على التعليل، قيل: ويُستنبَطُ من هذه العلة تعيّن السلام للفصل من الصلاة، أفاده في "الفتح".

(وَالْآخَرُ) أي اليوم الثاني من اليومين المنهيّ صومهما، وهو مبتدأ خبره قوله:(يَوْمٌ) يَحْتَمل أن يكون منوّنًا، والجملة بعده صفته، ويَحْتَمِل أن يكون

(1)

"الفتح" 5/ 428.

(2)

"الفتح" 5/ 427.

ص: 248

مضافًا إلى ما بعده، كما في قوله تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]، وعليه يجوز أن يُعرب؛ لإضافته إلى الفعل المعرب، ويجوز بناؤه؛ نظرًا لإضافته إلى الجملة، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَأَلْزَمُوا إِضَافَةً إِلَى الْجُمَلْ

"حَيْثُ" وَ"إِذْ" وَإِنْ يُنَوَّنْ يُحْتَمَلْ

إِفْرَادُ "إِذْ" وَمَا كَـ "إِذْ" مَعْنًى كَـ "إِذْ"

أَضِفْ جَوَازًا نَحْوُ "حِينَ جَا نُبِذْ"

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلِ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

(تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ) - ضم السين وسكونها-: أي أضحيتكم، قال في "القاموس": النَسْكُ مثلّثةً، وبضمتين: العبادةُ وكلُّ حقٍّ لله تعالى، وقد نَسُكَ، كنَصَرَ، وكَرُمَ، وتنسّك نُسْكًا، مثلّثةً، وبضمتين، ونَسْكَةً، ومَنْسَكًا، ونَسَاكَةً، والنُّسُكُ بالضم، وبضمتين، وكسَفِينة: الذبيحةُ أو النسك: الدم، والنَّسِيكة: الذبح، وكمَجْلِسٍ، ومَقْعَد: شِرْعَةُ النَّسْكِ، {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]: مُتَعَبَّدَاتنا، ونَفْسُ النسك، وموضغ تُذْبَحُ فيه النَّسِيكة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": المراد بالنسك هنا: الذبيحةُ المتقرَّب بها. انتهى.

[تنبيه]: هذا الحديث عند المصنّف رحمه الله مختصر، وقد ساقه البخاريّ رحمه الله في "الأضاحي" من "صحيحه" مطوّلًا، فقال:

(5145)

- حدّثنا حِبّان بن موسى، أخبرنا عبد الله، قال: أخبرني يونس، عن الزهريّ، قال: حدّثني أبو عبيد مولى ابن أزهر: أنه شَهِد العيد يوم الأضحى، مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم عن صيام هذين العيدين: أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم، وأما الآخر فيوم تأكلون من نسككم، قال أبو عبيد: ثم شَهِدت العيد مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب، فقال: يا أيها الناس إن هذا يومٌ قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أَذِنتُ له، قال أبو عبيد: ثم شَهِدته مع علي بن أبي طالب، فصلى

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 321.

ص: 249

قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث. انتهى.

وقد أورده مسلم في "الأضاحي" برقم (1969) مختصرًا على حديث عليّ رضي الله عنه الأخير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2671](1137)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1990) و"الأضاحي"(5571)، و (أبو داود) في "الصوم"(2416)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(771)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1722)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 178 - 179)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 103 - 104)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 40)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(401)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3600)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 218)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 216)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 297) و"المعرفة"(3/ 47)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 201)، و (البغويّ) في شرح السنّة" (1795)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم صوم يومي العيد، سواء النذر، والكفارة، والتطوع، والقضاء، والتمتع، وهو بالإجماع، قال الإمام أبو عمر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء في صحة هذا الحديث، واستعماله، وكلهم مُجْمِعٌ على أن صيام يوم الفطر، ويوم الأضحى، لا يجوز بوجه من الوجوه، لا للمتطوع، ولا لنذر صومه، ولا أن يقضي فيهما رمضان؛ لأن ذلك معصية، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا نذر في معصية الله"، رواه مسلم، وإنما اختَلَف الفقهاء في صيام أيام التشريق للمتمتع، والناذر صومها، وقضاء رمضان فيها، والتطوع بآخر يوم منها. انتهى.

ص: 250

قال الجامع عفا الله عنه: صيام أيام التشريق محرّم أيضًا إلا لمتمتّع فاتته صيام ثلاثة أيام على الراجح؛ لصحّة الحديث بذلك، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على مشروعيّة الأكل من الضحايا، وسائر النسك، قال أبو عمر رحمه الله: وإن كان في قول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ما يغني عن قول كل قائل، إلا أني أقول: الأكل من الهدي بالقرآن، ومن الضحية بالسنة. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): استحباب اهتمام الإمام في خطبة العيد ببيان أحكام العيد للناس حتى يكونوا عالمين بالسنة، وعاملين بها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في نذر صوم يومي العيد:

اختلفوا فيمن نذر، فصام يوم عيد، فعن أبي حنيفة ينعقد، وخالفه الجمهور، وهو الحقّ، كما سيأتي؛ فلو نذر صوم يوم قدوم زيد، فقَدِم يوم العيد، فالأكثر لا ينعقد النذر، وعن الحنفية ينعقد، ويلزمه القضاء، وفي رواية يلزمه الإطعام، وعن الأوزاعيّ: يقضي إلا أن نوى استثناء العيد، وعن مالك في رواية: يقضي إن نوى القضاء، وإلا فلا، وتوقّف ابن عمر رضي الله عنهما عن جواب من سأله عن ذلك، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن زياد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: رجل نذر أن يصوم يومًا، قال: أظنه قال: الاثنين، فوافق ذلك يوم عيد؛ فقال ابن عمر: أمر الله بوفاء النذر، ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم.

قال في "الفتح": وأصل الخلاف في هذه المسألة أن النهي هل يقتضي صحة المنهي عنه؟ قال الأكثر: لا، وعن محمد بن الحسن: نعم، واحتج بأنه لا يقال للأعمى: لا يبصر؛ لأنه تحصيل الحاصل، فدلّ على أن صوم يوم العيد ممكنٌ، وإذا أمكن ثبتت الصحّة.

(1)

"التمهيد" لابن عبد البر 10/ 267 - 266.

ص: 251

وأجيب أن الإمكان المذكور عقليّ، والنزاع في الشرعيّ، والمنهيّ عنه شرعًا غير ممكن فعله شرعًا.

ومن حجج المانعين أن النفل المطلق إذا نُهِي عن فعله لم ينعقد؛ لأن المنهيّ مطلوب الترك، سواء كان للتحريم، أو للتنزيه، والنفل مطلوب الفعل، فلا يجتمع الضدان، والفرق بينه وبين الأمر ذي الوجهين، كانصلاة في الدار المغصوبة، أن النهي عن الإقامة في المغصوب ليست لذات الصلاة، بل للإقامة، وطلبُ الفعل لذات العبادة، بخلاف صوم يوم النحر مثلًا، فإن النهي فيه لذات الصوم، فافترقا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ ما ذهب إليه الجمهور من أن نذر صوم يومي العيد غير منعقد أصلًا، لا أداءً، ولا قضاءً؛ للحديث الصحيح:"لا نذر في معصية الله"، رواه مسلم، وكذلك الصحيح في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من أنه لا تصحّ الصلاة أصلًا.

والحاصل أنه لا فرق بين المسألتين، كما ادّعاه صاحب "الفتح"، وقد حقّقت المسألة في "التحفة المرضيّة" و"شرحها" في الأصول، فراجعها تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2672]

(1138) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْأَضْحَى، وَيَوْمِ الْفِطْرِ).

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 427.

ص: 252

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) -بفتح الحاء المهملة- ابن مُنقذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [4](ت 121) وهو ابن (74) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.

2 -

(الْأَعْرَح) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيةٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) والباقيان ذُكرا قبله، وكذا شرح الحديث يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2673](1138)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1993)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 150)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 300)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 511 و 529)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 157)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 218 - و 219)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 216 - 217)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 363)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 297) و"المعرفة"(3/ 438)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2673]

(827) - (حَدَّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْهُ حَدِيثًا، فَأَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: فَأَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ أَسْمَعْ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "لَا يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْأَضْحَى، وَيَوْمِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ").

ص: 253

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم بابين.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) اللَّخْميّ الْفَرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه 29 وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103) سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

4 -

(قَزَعَةُ) بن يحمص البصريّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1025.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنَان الخدريّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 64)(ع) تقدّم "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

وقوله: (لَا يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا حجة للجمهور على أن الصوم في هذين اليومين لا ينعقد. انتهى.

[تنبيه]: هذا الحديث مختصر عند المصنّف رحمه الله، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال:

(1995)

- حدّثنا حجّاج بن مِنهال، حدّثنا شعبة، حدّثنا عبد الملك بن عُمير، قال: سمعت قَزَعَة، قال: سمعت أبا سعيد الخدريّ، وكان غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غَزْوة، قال: سمعت أربعًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعجبنني، قال:"لا تسافرِ المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها، أو ذو محرم، ولا صوم في يومين: الفطر، والأضحى، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب، ولا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا". انتهى.

وأما المصنّف رحمه الله فأخرجه مفرّقًا في أبواب، فجزء الصوم أخرجه هنا، وجزء الصلاة أخرجه في "الصلاة"، وجزء شدّ الرحال، وسفر المرأة سيأتي في "الحج".

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الْخُدْريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

ص: 254

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2673 و 2674](827)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(1197) و"الحجّ"(1864) و"الصوم"(1991 و 1995)، و (أبو داود) في "الصوم"(2417)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(772)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 150)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1721)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2238)، و (الحميديّ) في "مسنده"(750)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 104)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 7 و 34 و 51 - 52)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 20)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1160)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 218 - 219)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 216 - 217)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3599)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 297)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2674]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خت م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 14/ 1674.

3 -

(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى) بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاريّ المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد (130)(ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.

4 -

(أَبُوهُ) يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاريّ المدنيّ، ثقة [3](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.

و"أبو سعيد" رضي الله عنه ذُكر قبله.

ص: 255

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2675]

(1139) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَن ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ زِيادِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا، فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى، أَوْ فِطْرٍ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب أيضًا.

3 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في شرح المقدّمة جـ 1 ص 303.

4 -

(زِيادُ بْنُ جُبَيْرٍ) بن حَيّة -بالحاء المهملة، والتحتانيّة الثقيلة- ابن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ يرسل [3].

رَوَى عن أبيه، وابن عمر، وسعد، والمغيرة بن شعبة، والمحفوظ عن أبيه، عنه.

وروى عنه ابن أخيه سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حَيّة، وأخوه المغيرة بن عبد الله، ويونس بن عبيد، وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد: من الثقات، وقال مرّةً: رجل معروف، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: روايته عن سعد بن أبي وقاص مرسلة، وذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات، فكأنه لم يقع له روايته عن ابن عمر، ونَقَلَ ابن خلفون أن أحمد بن صالح -يعني العجلي- وثّقه، ونسبه ابن حية بن مسعود بن معتب بن مالك بن عمرو، وقال الآجريّ: سئل أبو داود، فقال: هذا زياد الْجِهْبِذُ

(1)

، وقال الدارقطنيّ:

(1)

بكسر الجيم؛ النَّقَّاد الخبير. انتهى. "القاموس" 1/ 352.

ص: 256

ليس به بأسٌ، وروى ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن أبي نُعْم قال: كان زياد بن جبير يقع في الحسن والحسين، فقلت له: يا أبا محمد إن أبا سعيد حدّثني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"

(1)

.

وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (1139)، وحديث (1320): "ابعثها قيامًا مقيّدة

".

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.

3 -

(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ) بالجيم، والموحّدة، مصغّرًا، أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، ووقع عند أحمد، عن هشيم، عن يونس بن عُبيد، عن زياد بن جُبير: رأيت رجلًا جاء إلى ابن عمر، فذكره، وأخرج ابن حبان من طريق كَرِيمة بنت سيرين: أنها سألت ابن عمر، فقالت: جعلتُ على نفسي أن أصوم كل يوم أربعاء، واليوم يوم الأربعاء، وهو يوم النحر، فقال: أمر الله بوفاء النذر

الحديث، وله عن إسماعيل، عن يونس، بسنده: سأل رجل ابن عمر، وهو يمشي بمنى. انتهى.

(فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا) وفي رواية البخاريّ: "جاء رجلٌ إلى ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: رجلٌ نذر أن يصوم يومًا، قال: أظنّه قال: الاثنين، فوافق ذلك يوم عيدٍ"، وعند الإسماعيليّ من طريق النضر بن شُميل، عن ابن عون:"نذر أن يصوم كل اثنين، أو خميس"، ومثله لأبي عوانة من طريق

(1)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه.

ص: 257

شعبة، عن يونس بن عبيد، عن زياد، لكن لم يقل:"أو خميس"، وفي رواية يزيد بن زريع، عن يونس بن عبيد عند البخاريّ في "النذور":"أن أصوم كل ثلاثاء وأربعاء"، ومثله للدارقطنيّ من رواية هشيم، لكن لم يذكر الثلاثاء، وللجوزقيّ من طريق أبي قتيبة، عن شعبة، عن يونس: أنه نذر أن يصوم كل جمعة، ونحوه لأبي داود الطيالسيّ في "مسنده" عن شعبة، أفاده في "الفتح"

(1)

.

(فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى، أَوْ فِطْرٍ) الظاهر أن"أو" للشكّ من الراوي، وقال في "الفتح": محتملٌ أن تكون للشكّ، أو للتقسيم. انتهى.

وفي رواية للبخاريّ في "النذور": "فوافق يوم النحر"، ومثله عند أحمد في "مسنده".

(فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ) قال الخطابيّ رحمه الله: تورّع ابن عمر رضي الله عنه عن قطع الفتيا فيه، وأما فقهاء الأمصار فاختلفوا. انتهى.

قال في "الفتح": أمر ابن عمر رضي الله عنه في التورع عن بَتّ الحكم، ولا سيما عند تعارض الأدلة مشهور، وقال الزين ابن الْمُنَيِّر: يَحْتَمِل أن يكون ابن عمر أراد أن كلًّا من الدليلين يُعْمَل به، فيصوم يومًا مكان يوم النذر، ويترك الصوم يوم العيد، فيكون فيه سلفٌ لمن قال بوجوب القضاء، وزعم أخوه ابن المنير في "الحاشية" أن ابن عمر نَبَّه على أن الوفاء بالنذر عامّ، والمنع من صوم العيد خاصّ، فكأنه أفهمه أنه يُقْضى بالخاص على العامّ.

وتعقبه أخوه بأن النهي عن صوم يوم العيد أيضًا عموم للمخاطبين، ولكل عيد، فلا يكون من حمل الخاصّ على العام.

وَيحْتَمِل أن يكون ابن عمر أشار إلى قاعدة أخرى، وهي أن الأمر والنهي إذا التقيا في محلّ واحد؛ أيُّهما يقدَّم، والراجح يقدم النهي، فكأنه قال: لا تصم.

وقال أبو عبد الملك: توقُّفُ ابن عمر يُشعر بأن النهي عن صيامه ليس لعينه.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 430.

ص: 258

وقال الداوديّ: المفهوم من كلام ابن عمر تقديم النهي؛ لأنه قد رَوَى أمر مَن نذر أن يمشي في الحجّ بالركوب، فلو كان يجب الوفاء به لم يأمره بالركوب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي من فتوى ابن عمر رضي الله عنهما هذا أنه نهاه عن الوفاء بنذره، فكأنه قال له: الوفاء بالنذر واجب، لكن إذا كان النذر طاعةً، فأما إذا كان معصية، فلا وفاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نذر في معصية"، وفي لفظ:"لا نذر في معصية الله"، رواه مسلم.

وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز صوم يوم الفطر، ولا يوم النحر، لا تطوّعًا، ولا عن نذر، سواء عيّنهما، أو أحدهما بالنذر، أو وقعا معًا، أو أحدهما اتفاقًا، فلو نذر لم ينعقد نذره عند الجمهور، وعند الحنابلة روايتان في وجوب القضاء، وخالف أبو حنيفة، فقال: لو أقدم، فصام وقع ذلك عن نذره، وهذا منابذ لظواهر النصوص، فلا ينبغي الالتفات إليه، وقد تقدّم تحقيق الاختلاف في هذا قريبًا، فراجعه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): أثر ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2675](1139)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1994) و"النذور"(6705 و 6706)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2833)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 346)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 2 و 59 و 138)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 217)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 198)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 84) و"المعرفة"(7/ 350)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 430 - 431.

ص: 259

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2676]

(1140) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَتْني عَمْرَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَفَمَ عَنْ صَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الْأَضْحَى).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم قبل بابين أيضًا.

3 -

(سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن قيس بن عمرو الأنصاريّ، أخو يحيى، صدوقٌ سيّئ الحفظ [4](ت 141)(خت م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 26/ 1775.

4 -

(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل بابين، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 2676](1140)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 346)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 219)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 217 - 218)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 260

(25) - (بَابُ تَحْرِيمِ صَوْمِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2677]

(1141) - (وَحَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُرْبٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(خَالِدُ) بن مِهْران الحذّاء، أبو الْمَنَازِل البصريّ، ثقةٌ حافظ تغيّر حفظ في الآخر [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

4 -

(أَبُو الْمَلِيحِ) بن أُسامة بن عُمير، أو عامر بن حُنيف بن ناجية الْهُذليّ، اسمه عامر، وقيل: زبد، وقيل: زياد، ثقةٌ [3] (ت 98) وقيل:(108) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 373.

5 -

(نبيْشَةُ الْهُذَلِيُّ) -مصغّرًا- وهو نبيشة الخير ابن عبد الله بن عمرو بن عَتّاب بن الحارث بن نُصَير بن حُصَين، وقيل في نسبه غير ذلك، صحابيّ قليل الحديث، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه أبو المليح الهذليّ، وأم عاصم جدّة أبي اليمان المعلى بن راشد النّبّال.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، شوى شيخه، فتفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ، ونُبيشة، فما أخرج له البخاريّ.

ص: 261

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا أربعة أحاديث فقط، راجع:"تحفة الأشراف"

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) - بفتح الميم، وكسر اللام- عامر بن أسامة، وقيل غيره، كما مرّ آنفًا (عَنْ نُبَيْشَةَ) - بضمّ النون، وفتح الباء الموحدة، وبالشين المعجمة، مصغّرًا- ابن عبد الله، وقال القرطبيّ رحمه الله: هو صحابيّ معروف، وهو ابن عمّ سَلَمَة الْمُحَبِّق، وهو نبيشة بن عمرو بن سلمة الْهُذليّ، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نُبيشة الخير. انتهى

(2)

.

وقوله: (الْهُذَلِيِّ) - بضمِّ الهاء، وفتح اللام-: نسبة إلى هُذيل، أبو قبيلة، وهو هُذيل بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان.

[تنبيه]: وقع في نسخة ابن ماهان "الهذليّة" تخيّله امرأة، وهو وَهَمٌ، وليس في الصحابيّات من تُسَمَّى بهذا الاسم، وإنما فيهنّ "نُسَيبة" بتقديم السين المهملة، قاله القرطبيّ: رحمه الله

(3)

.

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ) أي الأيام التي بعد يوم النحر، وقد اختُلِف في كونها يومين أو ثلاثة، وسُمّيت أيام التشريق؛ لأن لحوم الأضاحي تُشْرَق فيها؛ أي تُنْشَر في الشمس، وقيل: لأن الهدي لا يُنْحَر حتى تُشْرِق الشمس، وقيل: لأن صلاة العيد تقع عند شروق الشمس، وقيل: التشريق: التكبير دبرَ كل صلاة.

وهل تَلْتَحِق بيوم النحر في ترك الصيام، كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحجّ، أو يجوز صيامها مطلقًا، أو للمتمتع خاصّة، أو له ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء، سيأتي بيانه في "المسألة الثالثة" -إن شاء الله تعالى-.

(1)

"تحفة الأشراف" 8/ 227 - 228.

(2)

"المفهم" 3/ 199.

(3)

"المفهم" 3/ 199.

ص: 262

فقوله: "أيّامُ التشريق" مبتدأ خبره قوله: (أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ") أي فلا يُشرع صومها، إلا لمن لم يصم الثلاثة الأيام في التمتّع؛ لصحّة استثناء ذلك في حديث عائشة، وابن عمر رضي الله عنهما، كما سيأتي.

زاد في رواية ابن عليّة التالية: "وذكر لله"، ولفظ النسائيّ:"وذكر الله" أي: هي أيضًا أيام ذكر لله عز وجل، لأمر الله تعالى بذلك في قوله:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] الآية.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا المساق -يعني قوله: "أيامُ أكل وشرب" -يدلّ على أن صومهما ليس محرمًا؛ كصوم يومي العيدين؛ إذ لم يُنْهَ عنها كما نُهِيَ عن صوم يوم العيدين، ولذلك قال بجواز صومها مطلقًا بعض السَّلف. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "إذ لم يُنه عنه" فيه نظر لا يخفى، فقد صحّ النهي عن صومها في حديث عمرو بن العاص مرفوعًا، كما سيأتي قريبًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث نُبيشة الْهُذليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصتف) هنا [25/ 2677 و 2678](1141)، و (أبو داود) في "الأضاحي"(3/ 100)، و (النسائيّ) في "الفَرَع والعَتِيرة"(7/ 170)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 75 - 76)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 245)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 225)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 218)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 297)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم صوم أيام التشريق مطلقًا إلا ما استثني، وهو صوم المتمتّع الذي فاتته الأيام الثلاثة؛ لما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن عروة، عن عائشة، وعن سالم، عن ابن عمر قالا:"لم يُرَخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي".

ص: 263

2 -

(ومنها): بيان استحباب ذكر الله عز وجل في هذه الأيام، وهو موافق لقوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، والله تعالى أعلم بالصواب.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في حكم صوم أيام التشريق: ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يصح صومها بحال، وهو أظهر القولين في مذهب الشافعيّ، وبه قال أبو حنيفة، وابن المنذر، وغيرهما.

وذهب جماعة إلى أنه يجوز صيامها لكل أحد تطوعًا وغيره، حكاه ابن المنذر عن الزبير بن العوّام، وابن عمر، وابن سيرين، وقال مالك، والأوزاعيّ، وإسحاق، والشافعيّ في أحد قوليه: يجوز صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي، ولا يجوز لغيره.

واحتج هؤلاء بحديث البخاريّ المذكور، أفاده النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": والراجح عند البخاريّ جواز صومها للمتمتع، فإنه ذكر في الباب حديثي عائشة وابن عمر رضي الله عنهم في جواز ذلك، ولم يورد غيره، وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوّام، وأبي طلحة من الصحابة الجواز مطلقًا، وعن عليّ وعبد الله بن عمرو بن العاص المنع مطلقًا، وهو المشهور عن الشافعيّ، وعن ابن عمر وعائشة وعُبيد بن عُمير في آخرين منعه إلا للمتمتع الذي لا يجد الهدي، وهو قول مالك، والشافعيّ في القديم، وعن الأوزاعيّ وغيره يصومها أيضًا المحصر، والقارن.

وحجة مَن منع حديث نُبيشة الهذليّ رضي الله عنه المذكور في الباب: "أيام التشريق أيام أكل وشرب"، وحديث كعب بن مالك رضي الله عنه:"أيام منى أيام أكل وشرب".

ومنها حديث عمرو بن العاص "أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق: إنها الأيام التي نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهنّ، وأمر بفطرهنّ". أخرجه أبو داود، وابن المنذر بإسناد صحيح، وصححه ابن خزيمة، والحاكم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن أرجح المذاهب مذهب من

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 17.

(2)

"الفتح" 5/ 432.

ص: 264

قال بتحريم صوم أيام التشريق؛ لصحّة النهي بذلك، ولا سيّما حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإنه أصرح في ذلك، فقد أخرج أبو داود، وغيره بإسناد صحيح، عن أبي مُرّة مولى أم هانئ، أنه دخل مع عبد الله بن عمرو، على أبيه عمرو بن العاص، فقَرَّب إليهما طعامًا، فقال: كُلْ، فقال: إني صائم، فقال عمرو: كُلْ فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها، وينهانا عن صيامها، قال مالك

(1)

: وهي أيام التشريق

(2)

.

ولفظ ابن خزيمة في "صحيحه"(3/ 311): عن أبي مُرّة مولى عَقِيل أنه دخل هو وعبد الله على عمرو بن العاص، وذلك الغد، أو بعد الغد من يوم الأضحى، فقَرَّب إليهم عمرو طعامًا، فقال عبد الله: إني صائم، فقال له عمرو: أفطر فإن هذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفطرها، وينهى عن صيامها، فأفطر عبد الله، فأكل، وأكلت معه. انتهى.

ويُعتذر عن الذين قالوا بجواز صومها بأنه لم يبلغهم الحديث.

ثم إنه يُستثنى من ذلك من لم يجد الهدي في التمتع، فيجوز أن يصومها؛ لِمَا أخرجه البخاريُّ عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم-المذكور آنفًا-، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2678]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْني ابْنَ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، حَدَّثَنى أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ نُبيْشَةَ، قَالَ خَالِدٌ: فَلَقِيتُ أَبَا الْمَلِيحِ، فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي بِهِ، فَذَكَرَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

بِمِثْلِ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، وَزَادَ فِيهِ:"وَذِكْرٍ لِلَّهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل حديث.

(1)

هو ابن أنس إمام دار الهجرة، رواي الحديث.

(2)

"سنن أبي داود" 6/ 390.

(3)

وفي نسخة: "فذَكَر لي عن النبي صلى الله عليه وسلم ".

ص: 265

2 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنَ عُلَيَّةَ) هو ابن إبراهيم، وعُليّة أمه، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

3 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ كثير الإرسال، قيل: فيه نصبٌ يسير [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية خالد الحذّاء، عن أبي قلابة هذه ساقها البيهقيّ في "السنن الكبرى" (3/ 312) فقال:

(6060)

- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، ثنا إسماعيل ابن علية، عن خالد الحذّاء، قال: حدّثني أبو قلابة، عن أبي الْمَلِيح، عن نُبَيشة، قال خالد: فلقيت أبا مليح، فسألته، فحدّثني به، فذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أيامُ التشريق أيامُ أكل، وشرب، وذكر الله". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2679]

(1142) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَن ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ، وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَنَادَى أَنَّهُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِن، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ) التميميّ مولاهم، أبو جعفر، ويقال: أبو سعيد البزار الكوفيّ، أصله من فارس، ثم سكن بغداد، صدوقٌ، من كبار [10].

رَوَى عن إبراهيم بن طهمان، وزائدة بن قُدامة، ومبارك بن فَضالة وإسرائيل، وشيبان بن عبد الرحمن، ومالك بن مِغْوَل، وغيرهم.

ورَوَى عنه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وقال في "الوصايا" من

ص: 266

"صحيحه": ثنا محمد بن سابق، والفضل بن يعقوب عنه، ورَوَى له البخاريّ أيضًا، والباقون سوى ابن ماجه بواسطة، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن إبراهيم الدورقيّ، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وغيرهم.

قال عبيد الله بن إسماعيل البغداديّ: سئل أحمد عن محمد بن سابق، فقال: إذا أردت أبا نعيم فعليك بابن سابق، وقال العجليّ: كوفيٌّ ثقةٌ، وقال يعقوب بن شيبة: كان شيخًا صدوقًا ثقةً، وليس ممن يوسف بالضبط للحديث، وقال ابن عقدة: سمعت محمد بن صالح، وذكر محمد بن سابق، فقال: كان خيارًا لا بأس به، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ولا يحتجّ به، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيفٌ.

قال الحضرميّ: مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقال ابن قانع، وابن حبان: مات سنة (214) وفيها أرّخه البخاريّ، وغير واحد.

أخرج له الجماعة، إلا ابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ) أبو سعيد الْخُرَاسانيّ، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقةٌ يُغْرب، وتُكُلّم فيه للإرجاء، ويقال: رجع عنه [7](ت 168)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1391.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يُدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(ابْنُ كعْبِ بْنِ مَالِكٍ) هو: عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ، يقال: له رؤيةٌ [2](ت 2 أو 98)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 64/ 360.

6 -

(أَبُوهُ) كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاريّ السَّلَميّ -بالفتح- الصحابيّ المشهور المدنيّ، أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا، مات في خلافة عليّ رضي الله عنهما (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 13/ 1659.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.

ص: 267

3 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وهو أحد الثلاثة الذين خُلّفوا، وقصّتهم مشهورة في كتاب الله، وكتب السنّة، وكان شاعرًا رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَن) عبد الله (بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ) كعب بن مالك رضي الله عنه (أَنَّهُ) أي كعبًا (حَدَّثَهُ) أي ابنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ) أي كعبًا (وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَنَادَى أَنَّهُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا مُؤْمِنٌ) أي فلا يدخلها كافر؛ لأنها محرّمة عليه، كما قال الله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)} [الأعراف: 50](وَأَيَّامُ مِنًى) قال أبو عمر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أن أيام منى هى الأيام المعدودات التي ذكر الله في قوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وهي أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، قال: وأيام منى هي أيام رمي الجمار بمنى، وهي واقعة بإجماع على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاجّ منها في يومين بعد يوم النحر، فأيام منى ثلاثة بإجماع، وهي أيام التشريق، وهي الأيام المعدودات، ومما يدلك على أنها ثلاثة قول العرجيّ [من الكامل]:

مَا نَلْتَقِي إَلَّا ثَلَاثَ مِنًى

حَتى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ

وقال عروة بن أذينة [من الكامل]:

نَزَلُوا ثَلَاثَ مِنًى بِمَنْزِلِ غِبْطَةٍ

وَهُمُ عَلَى سَفَرٍ لَعَمْرُكَ مَا هُمُو

قال أبو عمر: من تعجّل من الحاجّ في يومين من أيام منى صار مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر، ومن لم ينفر منها إلا في آخر اليوم الثالث حصل له بمنى مقام أربعة أيام، من أجل يوم النحر، والتعجيل لا يكون أبدًا إلا في آخر النهار، وكذلك اليوم الثالث؛ لأن الرمي في تلك الأيام إنما وقته بعد الزوال.

قال: و"مِنَى": اسم لذلك الموضع، يُذَكَّر عند أهل اللغة، ويؤنث، قال ابن الأنباريّ: هو مشتق من مَنيت الدمَ: إذا أصبته، قال، وقال أبو هفان: يقال: هو منًى، وهي مِنَى، فمن ذَكَّره ذهب إلى المكان، ومن أنثه ذهب إلى البقعة، وتكتب في الوجهين جميعًا بالياء، وروى ابن جريج، عن عطاء، قال:

ص: 268

حَدُّ منى رأس العقبة مما يلي منى إلى المنحر، قال ابن جريج: حدّ منى إذا هبطت من وادي مُحَسِّرٍ، فأصعدت في بطن المسيل، فأنت في منى إلى العقبة عند جمرة العقبة. انتهى

(1)

.

(أيَّامٌ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) أي فلا يجوز صومها، مطلقًا، واجبًا كان أو تطوّعًا، كما سبق تمام البحثً فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث كعب بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 2679 و 2680](1142)، و (ابن أبي شيبة) في "مسنده"(1/ 341)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 460)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(374)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 219)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 223) و"الصغير"(1/ 67) و"الكبير"(1/ 224 و 19/ 97)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 260) و"الصغرى"(3/ 456)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2680]

(

) - (وَحَدَّثَناه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثنا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أنهُ قَالَ: فَنَادَيَا).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكِسّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) الْعَقَديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

و"إبراهيم" ذُكر قبله.

(1)

"التمهيد" 21/ 233 - 234.

ص: 269

[تنبيه]: رواية أبي عامر، عن إبراهيم بن طهمان هذه ساقها عبد بن حُميد رحمه الله في "مسنده" (1/ 146) فقال:

(374)

- أخبرنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه، وأوس بن حَدَثان، فناديا أيام التشريق:"أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمن، وأن هذه أيام أكل وشرب". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(26) - (بَابُ كَرَاهَةِ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2681]

(1143) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَادِ بْنِ جَعْفَرٍ، سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ: أنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزيل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م دس) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الحجة الفقيه الثبت المشهور المكيّ، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.

3 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ) بن شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدريّ الْحَجَبيّ المكيّ، ثقةٌ [5].

روى عن أخيه شيبة بن جبير، وعمته صفية بنت شيبة القرشية، وهى من صغار الصحابيّات

(1)

، ومحمد بن عباد بن جعفر، وسعيد بن المسيِّب، وأبي يعلى بن أمية، وغيرهم.

(1)

قاله في "الفتح" 5/ 417.

ص: 270

ورَوَى عنه ابن أخيه زُرارة بن مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة، وابن جريج، وقُرّة بن خالد، وابن عيينة، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ، وابن سعد: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره خليفة في الطبقة الثالثة من أهل مكة.

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1143) و (1211) و (2237) وأعاده بعده.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرِ) بن رِفاعة بن أُميّة بن عائذ بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1027.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن (94) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الحميد، عن محمد بن جُبير.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة، ذو مناقب جمّة، فهو ابن صحابيّة، وغزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، وهو أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ) وفي رواية عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عبد الحميد أن محمد بن عباد أخبره (سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) جملة في محلّ نصب على الحال (أنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟، فَقَالَ) جابر رضي الله عنه (نَعَمْ) أي نهى عنه، والمراد إفراده بالصوم؛ لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعده مرفوعًا: "لا يصُم أحدكم يوم الجمعة،

ص: 271

إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده"، وقد أشار البخاريّ إلى أن التقييد بذلك ورفى في حديث جابر رضي الله عنه أيضًا، حيث قال بعد إخراجه الحديث عن أبي عاصم، عن ابن جريج ما نصّه: زاد غير أبي عاصم: يعني أن ينفرد بصومه. انتهى.

قال في "الفتح": والغير المشار إليه جزم البيهقيّ بأنه يحيى بن سعيد القطان، وهو كما قال، لكن لم يتعيّن، فقد أخرجه النسائيّ بالزيادة من طريقه، ومن طريق النضر بن شُميل، وحفص بن غياث، ولفظ يحيى:"أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يُفْرَد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب الكعبة"، ولفظ حفص:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة مفردًا"، ولفظ النضر:"أن جابرًا سئل عن صوم يوم الجمعة، فقال: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُفْرَد". انتهى

(1)

.

وقوله: (وَرَث هَذَا الْبَيْتِ) قسم ذكره تأكيدًا لجوابه، وفي رواية النسائيّ:"وربّ الكعبة"، وعزاها صاحب "العمدة" لمسلم، فوَهِمَ، قاله في "الفتح"

(2)

.

قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث الدلالة الظاهرة لقول جمهور أصحاب الشافعيّ وموافقيهم: إنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يوافق عادة له، فإن وصله بيوم قبله، أو بعده، أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبدًا، فوافق يوم الجمعة لم يكره؛ لهذه الأحاديث، وأما قول مالك في "الموطأ": لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن به يُقْتَدَى نهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامُهُ حَسَنٌ، وقد رأيت بعض أهل العلم

(3)

يصومه، وأراه كان يتحراه، فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، فيتعيّن القول به، ومالك معذور، فإنه لم يبلغه، قال الداوديّ من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكًا هذا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 417/ 5 - 418.

(2)

"الفتح" 5/ 417.

(3)

قال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"(3/ 201): قيل: إنه محمد بن المنكدر. انتهى.

ص: 272

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 2681 و 2682](1143)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1984)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2745 و 2746 و 2747 و 2748)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1724)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1226)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 296 و 312)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 220)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 219)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم صوم يوم الجمعة، وهذا إذا أفرده، وأما إذا صام يومًا قبله، أو يومًا بعده، فلا منع، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي، ولصحّة زيادة الاستثناء في حديث جابر رضي الله عنه، كما أشار إليه البخاريّ.

2 -

(ومنها): مشروعيّة الْحَلِف من غير استحلاف؛ لتأكيد الأمر.

3 -

(ومنها): إضافة الربوبية إلى المخلوقات المعظمَّة؛ تنويهًا بتعظيمها.

4 -

(ومنها): الاكتفاء في الجواب بـ "نعم" من غير ذكر الأمر المفسَّر بها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم صوم يوم الجمعة:

استدلت طائفة بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، ونقله أبو الطيب الطبريّ عن أحمد، وابن المنذر، وبعض الشافعية، قال في "الفتح": وكأنه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم، فهذا قد يُشعِر بأنه يرى بتحريمه.

وقال أبو جعفر الطبريّ: يُفَرَّق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد، ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده.

ونقل ابن المنذر، وابن حزم منع صومه عن عليّ، وأبي هريرة، وسلمان، وأبي ذرّ رضي الله عنه، قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفًا من الصحابة.

ص: 273

وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه.

وعن مالك، وأبي حنيفة: لا يكره، قال مالك: لم أسمع أحدًا ممن يُقْتَدى به يَنْهَى عنه، قال الداوديّ: لعل النهي ما بلغ مالكًا، وزعم القاضي عياض أن كلام مالك يؤخذ منه النهي عن إفراده؛ لأنه كره أن يخص يوم من الأيام بالعبادة، فيكون له في المسألة روايتان.

وعاب ابن العربيّ قول عبد الوهاب منهم: يوم لا يُكْرَه صومه مع غيره، فلا يكره وحده؛ لكونه قياسًا مع وجود النصّ.

واستدلّ الحنفية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وقلّما كان يُفطر يوم الجمعة، حسّنه الترمذيّ، قال الحافظ: وليس فيه حجة؛ لأنه يَحْتَمِل أن يريد: كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضادّ ذلك كراهة إفراده بالصوم؛ جمعًا بين الحديثين، ومنهم من عدّه من الخصائص، وليس بجيد؛ لأنها لا تثبت بالاحتمال.

والمشهور عند الشافعية وجهان:

أحدهما- ونقله المزنيّ عن الشافعيّ- أنه لا يكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة التي تقع فيه، من الصلاة، والدعاء، والذكر.

والثاني -وهو الذي صححه المتأخرون- كقول الجمهور. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سلف من أقوال أهل العلم، وأدلّتهم أن أرجحها قول من قال بتحريم إفراد صوم يوم الجمعة، إلا لمن وافق عادته، وذلك لصراحة أحاديث الباب في ذلك، فقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده" صريح في تحريم إفراده بالصوم، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تخصّوا يوم الجمعة من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" صريح أيضًا في تحريم صومه إلا لمن وافق عادته.

والحاصل أن الحقّ تحريم إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا لذي العادة، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في سبب النهي عن إفراد يوم الجمعة بصوم:

ص: 274

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال:

[أحدهما]: لكونه يوم عيد، والعيد لا يصام.

واستُشْكِل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره.

وأجاب ابن القيِّم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة، ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم.

[ثانيها]: لئلا يَضْعُف عن العبادة، وهذا اختاره النوويّ.

وتُعُقِّب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه.

وأجاب بأنه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتور، أو تقصير.

وفيه نظر، فإن الجبران لا ينحصر في الصوم، بل يحصل بجميع أفعال الخير، فيلزم منه جواز إفراده لمن عَمِل فيه خيرًا كثيرًا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده، كمن أَعْتَق فيه رقبةً مثلًا، ولا قائل بذلك.

وأيضًا فكان النهي يختص بمن يُخْشَى عليه الضعف، لا من يتحقق القوّة.

ويمكن الجواب عن هذا بأن المظِنَّة أقيمت مقام الْمَئِنَّة، كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يَشُقّ عليه.

[ثالثها]: خوف المبالغة في تعظيمه، فيُفْتَتَن به كما افتُتِن اليهود بالسبت، وهو منتقضٌ بثبوت تعظيمه بغير الصيام.

وأيضًا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام، فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه؛ لأنهم لا يصومونه.

وقد رَوَى أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبّان من حديث أم سلمة رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد، وكان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين، فأُحِبّ أن أخالفهم.

[رابعها]: خوف اعتقاد وجوبه، وهو منتقضٌ بصوم الاثنين والخميس.

[خامسها]: خشية أن يُفْرَض عليهم، كما خَشِي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك، قال المهلَّب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره، وبأنه لو كان كذلك

ص: 275

لجاز بعده صلى الله عليه وسلم؛ لارتفاع السبب، لكن المهلَّب حمله على ذلك اعتقاده عدم الكراهة على ظاهر مذهبه.

[سادسها]: مخالفة النصارى؛ لأنه يجب عليهم صومه، ونحن مأمورون بمخالفتهم، نقله القَمُّوليّ، وهو ضعيف.

قال الحافظ رحمه الله -بعد ذكر هذه الأقول-: وأقوى الأقوال، وأولاها بالصواب أَوّلها، وورد فيه صريحًا حديثان:

أحدهما: رواه الحاكم وغيره، من طريق عامر بن لدين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"يومُ الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده"

(1)

.

والثاني: رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن، عن عليّ رضي الله عنه قال:"من كان منكم متطوعًا من الشهر، فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام، وشراب، وذِكْرٍ". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي رجّحه الحافظ رحمه الله في سبب النهي هو الأظهر عندي، وحاصله أنه إنما نُهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم لكونه عيدًا، والعيد لا يُصام، وأما حديث أبي هريرة المذكور، فإنه ضعيف؛ للجهالة في سنده، كما تعقّب الذهبيّ الحاكم به.

وأما استشكال صومه مع يوم قبله، أو بعده فقد سبق الجواب عنه في قول ابن القيّم وغيره، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في بيان ما ورد من الأحاديث في صوم يوم السبت:

(اعلم): أنه وردت أحاديث في النهي عن صوم يوم السبت، ووردت أحاديث في إباحة صومه:

فمن الأول: ما رَوَى الإمام أحمد، وأبو داود عن عبد الله بن بُسْر

(1)

أخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 603 وهو ضعيف؛ لأن فيه مجهولًا، كما قاله الذهبيّ رحمه الله.

(2)

"الفتح" 5/ 420 - 421.

ص: 276

السُّلَميّ، عن أخته الصماء: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لِحَاء عِنَبة، أو عُود شجرة فليمضغه".

وأحاديث الجواز كثيرة:

(منها): حديث جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما المذكوران في الباب، وهما متّفق عليهما.

(ومنها): ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال:"أصمت أمس؟ " قالت: لا، قال:"تُرِيدين أن تصومي غدًا؟ " قالت: لا، قال:"فأفطري".

(ومنها): ما أخرجه ابن خزيمة، وابن حبّان في "صحيحيهما" عن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ، عن أبيه: أن كريبًا مولى ابن عباس أخبره، أن ابن عباس، وناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوني إلى أم سلمة أُسائلها عن أيّ الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لصيامها، فقالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم، فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا، وذكر أنك قلت كذا، فقالت: صدق، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، وكان يقول:"إنهما عيدان للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم"

(1)

.

وقد اختلف الناس في الجمع بين هذه الأحاديث، فقال مالك رحمه الله في حديث الصمّاء: هذا كَذِب، وقال أبو داود: هذا حديث منسوخٌ، وقال النسائيّ: هو حديث مضطربٌ.

وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بين الأحاديث، فإن النهي عن

(1)

صححه ابن خزيمة (2167)، وابن حبّان (3616)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 436)، وأقرّه الذهبيّ.

وعبد الله بن محمد بن عليّ قد روى عنه جماعة، منهم حماد بن أسامة، وابن المبارك، والدراوردي، وغيرهم، ووثقه جماعة، منهم: ابن حبّان، وقال يعقوب بن شيبة عن ابن المدينيّ: هو وسطٌ، وقال الذهبيّ في "الكاشف" (2/ 127): ثقة، فقوله في "التقريب":"مقبول" غير مقبول، فتبصّر.

ص: 277

صومه إنما هو إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال:"باب النهي أن يُخَصّ يوم السبت بالصوم"، وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد، قالوا: ونظير هذا أنه نهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يصوم يومًا قبله، أو يومًا بعده، قال ابن القيّم رحمه الله: وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال: إن صومه نوع تعظيم له فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه، وإن تضمن مخالفتهم في صومه، فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم، ولا ريب أن الحديث لم يجئ بإفراده، وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم. انتهى

(1)

.

وقال الطحاويّ رحمه الله في "شرح معاني الآثار": ولقد أنكر الزهريّ حديث الصماء في كراهة صوم يوم السبت، ولم يعدّه من حديث أهل العلم بعد معرفته به، ثم أخرج بسنده عن الليث بن سعد قال: سئل الزهريّ عن صوم يوم السبت، فقال: لا بأس به، فقيل له: فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في كراهته، فقال: ذلك حديث حمصيّ، فلم يعدّه الزهريّ حديثًا يقال به، وضَعّفَه

(2)

.

وقال الحافظ في "التلخيص الحبير": حديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم"، رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والطبرانيّ، والبيهقيّ، من حديث عبد الله بن بُسر، عن أخته الصماء، وصححه ابن السكن، ورَوَى الحاكم عن الزهريّ أنه كان إذا ذُكِر له الحديث قال: هذا حديثٌ حمصيّ، وعن الأوزاعيّ قال: ما زلت له كاتِمًا حتى رأيته قد اشتهر، وقال أبو داود في "السنن": قال مالك: هذا الحديث كَذِبٌ، قال الحاكم: وله معارض بإسناد صحيح، ثم رَوَى حديث كريب المتقدّم، قال: ورواه النسائيّ، والبيهقيّ، وابن حبان، وروى الترمذيّ من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر: السبت، والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء، والأربعاء، والخميس

(3)

.

قال الحافظ رحمه الله: قد أُعِلّ حديث الصماء بالمعارضة المذكورة، وأُعِلّ أيضًا باضطرابه، فقيل هكذا، وقيل: عن عبد الله بن بسر، وليس فيه عن أخته

(1)

"زاد المعاد" 2/ 79 - 80.

(2)

"شرح معاني الآثار" 2/ 81.

(3)

حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ (746).

ص: 278

الصماء، وهذه رواية ابن حبان، وليست بعلة قادحة، فإنه أيضًا صحابيّ، وقيل: عنه، عن أبيه بسر، وقيل: عنه، عن الصماء، عن عائشة، قال النسائيّ: هذا حديث مضطرب.

قال الحافظ: وَيحْتَمِل أن يكون عند عبد الله، عن أبيه، وعن أخته، وعند أخته بواسطة، وهذه طريقة مَن صححه، ورجح عبد الحقّ الرواية الأولى، وتبع في ذلك الدارقطنيّ، لكن هذا التلوّن في الحديث الواحد، بالإسناد الواحد، مع اتحاد المخرج يوهن راويه، وينبئ بقلة ضبطه، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث، فلا يكون ذلك دالًّا على قلة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا، بل اختلف فيه أيضًا على الراوي، عن عبد الله بن بسر أيضًا.

وادعى أبو داود أن هذا منسوخ، ولا يتبين وجه النسخ فيه، قال: ويمكن أن يكون أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر أمره قال:"خالفوهم"، فالنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية، وهذه صورة النسخ، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

وذكر ابن مفلح الحنبليّ في "الفروع": قال الأثرم: قال أبو عبد الله: قد جاء فيه حديث الصمّاء، وكان يحيى بن سعيد يتّقيه، وأبى أن يُحدّثني به، قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة -يَعْنِي أَنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَصُومُ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَيَقُولُ:"هُمَا عِيدَانِ لِلْمُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمَا"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَاخْتَارَ شَيْخُنَا -يعني ابن تيميّة- أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَأَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّهُ الذي فَهِمَهُ الْأَثْرَمُ من روايته. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الذي يترجّح جواز صوم السبت؛ لصحّة الأحاديث بذلك، وأما حديث الصمّاء فالظاهر عدم صحّته؛

(1)

"التلخيص الحبير" 2/ 216 - 217.

(2)

راجع: "الفروع" 3/ 92.

ص: 279

للاضطراب المذكور، كما مال إليه الحافظ في آخر كلامه، وقد أنكره الأئمة: الزهريّ، ومالك، والأوزاعيّ، ويحيى القطّان، وأحمد، وأبو داود، وغيرهم.

وعلى تقدير صحّته، فلا يَقْوَى لمعارضة أحاديث الجواز؛ إذ هي أكثر، وأقوى صحّة منه، ولا سيّما حديث جابر، وأبي هريرة المذكوران في الباب، وهما في "الصحيحين"، وحديث جويرة المتقدّم، وهو في "صحيح البخاريّ".

أو يُحمَل النهي فيه على إفراده، كما سلكه ابن حبّان حيث ترجم بقوله:"ذكرُ العلّة التي من أجلها نُهي عن صيام يوم السبت، مع البيان بأنه إذا قُرن بيوم آخر جاز صومه"

(1)

، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2682]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّهُ سَأَل جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما بِمِثْلِهِ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية ابن جُريج، عن عبد الحميد بن جُبير هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (3/ 296):

حدّثنا عبد اللهِ

(2)

، حدّثني أبي، ثنا عبد الرَّزاقِ، أنا ابنُ جُرَيْجٍ، أخبرني عبد الْحَمِيدِ بن جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أخبره محمد بن عَبَّادِ بن جَعْفَرٍ، أَنَهُ سمع جَابِرَ بن

(1)

"صحيح ابن حبّان" 8/ 381.

(2)

عبد الله هو ولد الإمام أحمد، والقائل:"حدّثني" هو الراوي عنه.

ص: 280

عبد اللهِ الأنصاريّ، وهو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ: أَسَمِعْتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عن صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قال: نعم، وَرَبِّ هذا الْبَيْتِ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2683]

(1144) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ، عَن الْأَعْمَشِ (ح) حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَن الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ، أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حَفْصُ) بن غياث بن طلق النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقة فقيه تغيّر قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

4 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم قبل باب.

5 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم قريبًا.

6 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ الناس لأحاديث الأعمش، والأعمش أحفظ من روى عن أبي صالح.

ص: 281

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ)"لا" ناهية، ولذا جُزم الفعل بعدها، وفي رواية البخاريّ:"لا يصوم أحدكم"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وهو بلفظ النفي، والمراد به النهيُ، وفي رواية الكشميهنيّ:"لا يصومنّ" بلفظ النهي المؤكد.

(يَوْمَ الْجُمُعَةِ) ظرف لـ"يَصُم"(إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ، أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ") وفي رواية البخاريّ: "إلا يومًا قبله، أو بعده"، قال في "الفتح": تقديره: إلا أن يصوم يومًا قبله"؛ لأن "يومًا" لا يصح استثناؤه من "يوم الجمعة"، وقال الكرمانيّ: يجوز أن يكون منصوبًا بنزع الخافض، تقديره: إلا بيوم قبله، وتكون الباء للمصاحبة، وفي رواية الإسماعيليّ: "إلا أن تصوموا قبله أو بعده"، وفي رواية النسائيّ: "إلا أن يصوم قبله يومًا، أو يصوم بعده يومًا"، وفي رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة الآتية: "لا تختصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، ورواه أحمد من طريق عوف، عن ابن سيرين، بلفظ: "نُهي أن يُفْرَد يومُ الجمعة بصوم"، وله من طريق أبي الأوبر زياد الحارثيّ: أن رجلًا قال لأبي هريرة: أنت الذي تنهى الناس عن صوم يوم الجمعة؟ قال: ها ورب الكعبة ثلاثًا، لقد سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة وحده، إلا في أيام معه"، وله من طريق ليلى امرأة بَشِير ابن الْخَصَاصية، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تصم يوم الجمعة، إلا في أيام هو أحدها".

وهذه الأحاديث تُقَيِّد النهي المطلق في حديث جابر رضي الله عنه المتقدّم، وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد، ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده، أو اتَّفَقَ وقوعه في أيام له عادةٌ بصومها، كمن يصوم أيام البيض، أو من له عادة بصوم يوم معيّن، كيوم عرفة، فوافق يوم الجمعة،

ص: 282

ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يومَ قدوم زيد مثلًا، أو يومَ شفاء فلان. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذه متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 2683 و 2684](1144)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1985)، و (أبو داود) في "الصوم"(2420)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(743)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2756)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1723)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7805)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 43)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 495)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2158)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3614)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(18020)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 302)، و (أبو محمد البغويّ) في "شرح السنّة"(1804)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2684]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْن، يَعْنِي الْجُعْفِيَّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَن ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْب) محمد بن العلاء، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(حُسَيْنٌ الجُعْفِيُّ) ابن على بن الوليد الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 418.

ص: 283

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

4 -

(هِشَامُ) بن حسّان الأزديّ القُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ من أثبت الناس في ابن سيرين [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

5 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابد [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

و"أبو هريرة رضي الله عنه " ذُكر قبله.

وقوله: (لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في الأصول: "تختصّوا ليلة الجمعة، ولا تخُصُّوا يوم الجمعة" بإثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد، وبحذفها في الثاني، وهما صحيحان. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: خَصَصته بكذا أَخُصُّهُ خُصُوصًا، من باب قَعَدَ، وخُصُوصيّةً بالفتح، والضمُّ لغة: إذا جعلته له دون غيره، وخَصَّصته بالتثقيل مبالغةٌ، واختصصته به، فاخْتَصَّ هو به، وتخصّص، وخَصَّ الشيءُ خُصُوصًا، من باب قَعَدَ: خلاف عمّ، فهو خاصّ، واختَصَّ مثله. انتهى

(2)

.

فأفاد أن كلًّا من خَصّ، واختَصّ يتعدّى، ويلزم، فتنبّه.

وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي، ويومها بصوم كما تقدم، وهذا مُتَّفقٌ على كراهيته، واحتَجَّ به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تُسَمَّى الرغائب، قاتل الله واضعها ومخترعها، فإنها بدعة منكرة، من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة، وقد صنّف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها، وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلائلُ قبحها وبطلانها، وتضلل فاعلها أكثر من أن تُحْصَر. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذا الحديث، ونصّه في "العلل":

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 19.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 171.

(3)

"شرح النوويّ" 8/ 20.

ص: 284

(1453)

- وسئل عن حديث ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه:"نَهَى أن يخص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، وأن يخص يوم الجمعة بصيام من بين الأيام"، فقال: هو حديث يرويه عوف الأعرابيّ، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وتابعه حسين الجعفيّ، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلاهما وَهَمٌ، وأما حديث عوف، فالوهم فيه منه على ابن سيرين، وأما حديث هشام، فالوهم فيه من حسين الجعفيّ على زائدة؛ لأن زائدة من الأثبات، لا يَحْتَمِل هذا، ورواه معاوية بن عمرو، عن زائدة على الصواب، عن هشام، عن محمد بن سيرين: أن سلمان زار أبا الدرداء، فذكر الحديث بطوله، فرأى أبا الدرداء يوم الجمعة صائمًا، فنهاه من ذلك، فارتفعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقصّا عليه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"عويمرُ سلمانُ أفقه منك"

(2)

، ثم ذكر ذلك، وحدّث بهذا الحديث شيخ من أهل الثَّغْر، عن ابن عيينة، فوهم فيه عليه، فقال: عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى أن يخص يوم الجمعة

" الحديث، حدّثناه أبو طالب الحافظ من أصله، ثنا جعفر بن محمد الفريابيّ، ثنا الحسن بن عيسى الحربيّ بإذنه

(3)

، ثنا سفيان بذلك، والصحيح عن ابن عيينة وغيره، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي الدرداء، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(4)

، وكذلك رواه الثوريّ، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبي الدرداء

(5)

، وهو الصواب. انتهى

(6)

.

قال أبو مسعود الدمشقيّ مجيبًا عن هذا الاعتراض: وحسين الجعفيّ من الأثبات الحفّاظ، وقول معاوية، عن زائدة، عن هشام، عن محمد، عن بعض

(1)

رواه أحمد في "مسنده" 2/ 394.

(2)

رواه الطبرانيّ في "الكبير"، عزاه إليه الهيثميّ في "المجمع" 3/ 199 - 200.

(3)

هكذا نسخة "العلل"، ولعله بأَذَنَةَ اسم موضع، فليُحرّر.

(4)

أخرجه عبد الرزّاق في "مصنّفه" 4/ 279.

(5)

أخرجه النسائيّ في "الكبرى"، عزاه إليه في "تحفة الأشراف" 8/ 232.

(6)

"العلل" للدارقطنيّ 8/ 128 - 129.

ص: 285

أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

مما يقوّي حديث حسين.

وحديث الصوم له أصلٌ عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاريّ ومسلم من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة.

وقد أخرجا حديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم: نهى عن صوم يوم الجمعة من حديث جابر رضي الله عنه، وهذا ما يبيّن أن الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن له أصلًا، وإنما أراد مسلم إخراج حديث هشام، عن محمد بن سيرين؛ لتكثر طرق الحديث. انتهى كلام أبي مسعود.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في هذا الحديث أنه مما اختُلف في تصحيحه، وإعلاله، فممن صححه الإمام مسلم رحمه الله حيث أورده بهذا السياق في "صحيحه"، والحافظ رحمه الله حيث ذكره في "الفتح"(5/ 418) بهذا السياق، وعزاه لمسلم، وسكت عليه.

فممن أعلّه الدارقطنيّ، قال: إن عوفًا الأعرابيّ خالف أصحاب ابن سيرين، حيث رواه عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وأصحاب ابن سيرين يروونه عن ابن سيرين، عن حديث أبي الدرداء، كما أعلّه أيضًا بأن حسينًا الجعفيّ خالف معاوية بن عمرو، فروى الحديث عن زائدة، من حديث أبي هريرة، ورواه معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن ابن سيرين، من حديث أبي الدرداء، وهو الصواب عنده. "العلل"(8/ 128 - 129).

وممن أعلّه أيضًا: أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيّان، قالا: إن حسينًا الجعفيّ وَهِم فيه، فجعله من حديث أبي هريرة، وهو من مرسل ابن سيرين، نقل ذلك عنهما ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 158).

والذي يظهر أن إعلال هؤلاء ظاهر، فالحديث بسياق المصنّف معلولٌ

(2)

.

(1)

كذا نقل أبو مسعود، والذي في كلام الدارقطنيّ أن ابن سيرين يرويه من حديث أبي الدرداء، فليُحرّر.

(2)

وقد أجاد البحث في هذا محقّق كتاب "الأجوبة" للحافظ أبي مسعود الدمشقيّ، فراجعه تستفد.

ص: 286

هذا كلّه بالنسبة لقوله: "لا تختصّوا ليلة الجمعة بقيام"، وأما قوله:"ولا تخصّوا يوم الجمعة بصيام" فهو صحيح من حديث أبي هريرة، ومن حديث جابر رضي الله عنهما، كما هو في "الصحيحين"، ومن حديث غيرهما أيضًا، فتنبّه.

ثم إنه يُجاب عن المصنّف بأنه أراد بإيراد هذا الطريق مجرّد تكثير طرق الحديث، كما أشار إليه أبو مسعود رحمه الله في كلامه السابق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(27) - (بَابُ بَيَانِ نَسْخِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} بِقَوْلهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ})

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2685]

(1145) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا بَكْرٌ - يَعْني ابْنَ مُضَرَ- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ "قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ، وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَت الْآيَةُ الَّتى بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قتيبة) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبت [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(بكر بن مضر) بن محمد، أبو محمد، أو أبو عبد الملك المصريّ، ثقة ثبت [8](ت 174)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.

3 -

(عمرو بن الحارث) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقة ثبت فقيه [7] مات قبل (150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

4 -

(بكير) بن عبد الله بن الأشجّ المخزوميّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدني، ثم المصريّ، ثقة [5](ت 120)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

5 -

(يزيد مولى سلمة بن الأكوع) هو: ابن أبي عبيد الأسلميّ المدنيّ، ثقة [4] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.

ص: 287

6 -

(سلمة بن الأكوع) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع -نُسب لجدّه- الأسلميّ، أبو مسلم، أو أبو إياس الصحابيّ الشهير، شهد بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة (64)(ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سداسيات المصنِّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بثقات المصريين، وقتيبة، وإن كان بغلانيًّا، إلا أنه سكن مصر، ونصفه الثاني مسلسل بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) هو ابن عمرو بن الأكوع نُسب لجدّه الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، أنه (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]) قال القرطبيّ رحمه الله: اختُلِف في قراءتها، وفي معناها، فأما قراءتها: فالجمهور على: {يُطِيقُونَهُ} بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله: يطوقونه، وكذلك قراءة حميد.

ومشهور قراءة ابن عباس: "يُطَوَّقُونَه" بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو، وقد روي عنه:"يُطَّيَّقُونَهُ" بفتح الطاء والياء مشددتين، وقرأت عائشة، وطاووس، وعمرو بن دينار:"يُطيَّقُونَه" بفتح الطاء والياء مشددتين، وقرأت عائشة، وطاووس، وعمرو بن دينار:"تَطَّوقُونه".

فأما قراءة الجمهور فمعناها: يَقدِرون عليه، وعلى هذا تكون الآية منسوخة كما قال سلمة بن الأكوع، وابن عمر، ومعاذ بن جبل، وعلقمة، والنخعيّ، والحسن، والشعبيّ، وابن شهاب.

وقال السُّدي: هم الذين كانوا يطيقونه، وهم بحال الشباب ثم استحالوا بالشيخ فلا يستطيعون الصوم، وهي عنده محكمة، وتلزم الشيوخ عنده الفدية. ونحوه عن ابن عباس، وزاد: المريض الذي لا يقدر على الصوم، وعضد هذا بقراءته المذكورة قبل.

ص: 288

قال القاضي أبو محمد بن عطية: الآية عند مالك؛ إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من رمضان المتقدم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم، فترك، فعليه الفدية. وحكى الطبري عن عكرمة: أنه كان يقرؤها: "وعلى الذين يطيقونه فأفطروا".

وأما قراءة: "يُطوَّقُونَه"؛ فمعناه: يُكَلَّفونه مع المشقة اللاحقة لهم كالمريض والحامل؛ فإنهما يقدران عليه؛ لكن بمشقة تلحق رضيعها، فذهب بعض الناس: إلى أنها محكمة لهؤلاء، فإن صاموا أجزأهم، وإن افتدوا فلهم ذلك، وقاله ابن عباس فيما حكاه عنه البخاريّ، وأبو داود، ورأيا: أنها ليست بمنسوخة؛ لكنها مثبتة للشيخ والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما، وللحامل والمرضع.

و"يُطيّوقونه" بالياء مكان الواو مشددة، مبنيًّا للمفعول، مثل:"يَتَطَوَّقُونه" في المعنى.

فأما قراءة عائشة: فأصلها: "تَتَطَوَّقُونه" فأُدغمت التاء في الطاء، ومعناها: يتكففون ذلك بأنفسهم مع المشقة، ويرجع ذلك لما تقدَّم كالمريض ومن ذكر معه.

فأما قوله تعالى: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، ففدية: مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف؛ أي: فعليهم فدية، أو خبر مبتدأ؛ أي: فحكمهم فدية، وقراءة نافع وابن عامر:"ففديةُ طعام مساكين" بإضافة {فِدْيَةٌ} إلى {طَعَامُ} وجمع {مَسَاكينَ} . وقرأ هشام: {فِدْيَةٌ طَعَامُ} ، بتنوين {فِدْيَةٌ} ورفع {طَعَامُ} على أن الطعام بدل منها. وقرأ بقية السبعة كذلك، إلا أنهم وحّدوا {مَسَاكينَ} وهي قراءة حسنة؛ لأنها بيَّنت: أن الواجب في فطر يوم إطعام مسكين واحد، فأما الجمع فلا يعرف من مساق الآية هل هم -أعني: المساكين- بإزاء يوم واحد، أو بإزاء أيام؟ وإنما يعلم ذلك من دليل آخر.

ثم اختلفوا في مقدار هذا الطعام حيث يجب: فذهب مالك وجماعة من العلماء: إلى أنه مُدٌّ لكل مسكين بمدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد تقدَّم في الزكاة.

ص: 289

وقال أشهب: مُدّ وثلث بمد أهل المدينة. وقال قوم: قوت يوم عشاء وسحور. وقال سفيان الثوري، وأبو حنيفة: نصف صاع من قَمْح، وصاع من تمر أو زبيب.

وقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184]؛ أي: من تطوع بزيادة على إطعام مسكين، قاله ابن عباس وجماعة. وقال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد.

و {خَيْرٌ} الأول والثاني بمعنى: أَخْيَر، وأفضل، معناه: من تطوَّع بأكثر من ذلك فهو أفضل عند الله تعالى.

وقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]؛ أي: الصوم خير. وكذلك قرأها أُبَيّ. ومعناه: أن الصوم أفضل وأولى من الفدية. انتهى

(1)

.

(كَانَ مَنْ أَرَادَ) زاد في رواية النسائيّ: "منّا"(أَنْ يُفْطِرَ) بضمّ أوله، من الإفطار (ويَفْتَدِيَ) خبر "كان" محذوف؛ أي فَعَلَ ذلك (حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا) أي قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الآية [البقرة: 185](فَنَسَخَتْهَا) أي نسخت آية التخيير، وأوجبت الصوم على كلّ من شَهِد الشهر.

حديثُ سلمة رضي الله عنه هذا صريح في أن هذه الآية منسوخة، وثبت مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" من طريق نافع، عنه أنه قرأ:"فدية طعام مساكين" قال: "هي منسوخة".

ورجّح النسخَ ابنُ المنذر من جهة قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، قال: لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، مع أنه لا يُطيق الصيام.

وقيل: إن الناسخ قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .

قال البخاريّ تعليقًا: وقال ابن نمير: حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرّة، حدثنا ابن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:"نزل رمضان، فشقّ عليهم، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينًا، ترك الصوم، ممن يُطيقه، ورُخّص لهم في ذلك، فنسختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فأمروا بالصوم".

(1)

"المفهم" 3/ 202 - 203.

ص: 290

وهذا التعليق وصله أبو نعيم في "المستخرج"، والبيهقيّ من طريقه، ولفظ البيهقيّ: قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا عهد لهم بالصيام، فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كلّ شهر، حتى نزل:{شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185]، فاستكثروا ذلك، وشقّ عليهم، فكان من أطعم مسكينًا كلّ يوم ترك الصيام، ممن يُطيقه، ورخّص لهم في ذلك، ثم نسخه:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، فأُمروا بالصيام.

قال الحافظ رحمه الله: وإذا تقرّر أن الإفطار والإطعام كان رخصة، ثم نُسِخ لزم أن يصير الصيام حتمًا واجبًا، فكيف يلتئم مع قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، والخيريّة لا تدلّ على الوجوب، بل المشاركة في أصل الخير؟.

أجاب الكرمانيّ رحمه الله بأن المعنى: فالصوم خير من التطوّع بالفدية، والتطوّع بها كان سنّة، والخير من السنة لا يكون إلا واجبًا؛ أي لا يكون شيء خيرًا من السنّة إلا الواجب، كذا قال، ولا يخفى بُعده، وتكلّفه، ودعوى الوجوب في خصوص الصيام في هذه الآية ليست بظاهرة، بل هو واجب مخيّر، من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم، فنصّت الآية على أن الصوم أفضل، وكون بعض الواجب المخيّر أفضل من بعض لا إشكال فيه. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: إن ذلك نسخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، هذا مقبول من قول الصحابيّ؛ لأنه أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، كما إذا قال: أُمِرَ ونُهِي، ووجه النسخ في هذا واضح؛ وهو: أن آية الفدية تقتضي التخيير بين الفدية والصوم مطلقًا، كما قال سلمة، وهذه الآية الأخرى جاءت جازمة بالصوم لمن شهد الشهر، رافعة لذلك التخيير.

ومعنى: شهد الشهر؛ أي: حضر فيه مقيمًا في المصر، هذا قول جمهور العلماء، وعلى هذا يكون "الشهر" منصوبًا على الظرف، ويكون معناه عندهم: أن من دخل عليه الشهر وهو مسافر، أو طرأ عليه فيه سفر؛ لم يجب عليه صومه.

وروي عن عليّ، وابن عباس، وعبيدة السلماني: أن معنى {مَنْ شَهِدَ} : من حضر دخول الشهر، وكان مقيمًا في أوله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام؛ وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في السفر.

ص: 291

قال القرطبيّ: وهذا القول يردّه فطر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في السَّفر الطارئ عليهم بفتح مكة، على ما تقدَّم، وقد كانوا ابتدؤوا الصوم في الحضر.

وقال أبو حنيفة: من شهد الشهر بشروط التكليف فليصمه، ومن دخل عليه وهو مجنون، وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جُنَّ أول الشهر، أو آخره؛ فإنه يقضي أيام جنونه.

قال القاضي أبو محمد بن عطية: ونصب الشهر على هذا التأويل على المفعول الصريح: يشهد.

قال القرطبيّ: وتكميله أن يكون {شَهِدَ} بمعنى: شاهد. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 2685 و 2686](1145)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4507)، و (أبو داود) في "الصوم"(2315)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(798)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 190) و"الكبرى"(2/ 112 و 6/ 295)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 197)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 220)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1903)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 27)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 200)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان نسخ التخيير بين الصوم والفدية لمن أطاق الصوم.

2 -

(ومنها): ثبوت النسخ في القرآن، وقد أجمعت الأمة على ذلك، ودلّ عليه قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106].

3 -

(ومنها): التدرّج في تشريع الصوم، تسهيلًا على المكلّفين، فكان

(1)

"المفهم" 3/ 204 - 205.

ص: 292

أول ما شُرع من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يُطعم أطعم وأفطر، حتى إذا أَلِفُوه، وسهل عليهم نزل قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فأوجب الله عليهم صيامه، ونسخ الفدية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في نسخ هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الآية:

قال القاضي عياض رحمه الله: اختَلَف السلف هل هي محكمة، أو مخصوصة، أو منسوخة كلها أو بعضها؟ فقال الجمهور: منسوخة، كقول سلمة رضي الله عنه، ثم اختَلَفوا هل بقي منها ما لم يُنسَخ؟:

فرُوي عن ابن عمر والجمهور أن حكم الإطعام باقٍ على من لم يطق الصوم لِكِبَر.

وقال جماعة من السلف، ومالك، وأبو ثور، وداود: جميع الإطعام منسوخ، وليس على الكبير إذا لم يُطِق الصوم إطعام، واستحبه له مالك.

وقال قتادة: كانت الرخصة لكبير يقدر على الصوم، ثم نُسِخَ فيه، وبقي فيمن لا يطيق.

وقال ابن عباس وغيره: نزلت في الكبير والمريض اللذين لا يقدران على الصوم، فهي عنده محكمة، لكن المريض يقضي إذا برئ، وأكثر العلماء على أنه لا إطعام على المريض.

وقال زيد بن أسلم، والزهريّ، ومالك: هي محكمة، ونزلت في المريض يُفطر، ثم يبرأ، ولا يقضي حتى يدخل رمضان آخر، فيلزمه صومه، ثم يقضي بعده ما أفطر، ويطعم عن كل يوم مُدًّا من حنطة، فأما من اتَّصَل مرضه برمضان الثاني، فليس عليه إطعام، بل عليه القضاء فقط.

وقال الحسن البصريّ وغيره: الضمير في {يُطِيقُونَهُ} عائد على الإطعام، لا على الصوم، ثم نُسِخ ذلك فهي عنده عامّةٌ.

ثم جمهور العلماء على أن الإطعام عن كل يوم مدّ، وقال أبو حنيفة: مدّان، ووافقه صاحباه، وقال أشهب المالكيّ: مدّ وثلث لغير أهل المدينة، ثم جمهور العلماء أن المرض المبيح للفطر هو ما يَشُقّ معه الصوم، وأباحه

ص: 293

بعضهم لكل مريض. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"(1/ 216): وقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كما قال معاذ رضي الله عنه: كان في ابتداء الأمر من شاء صام، ومن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينًا، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أنه قال: لما نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كان من أراد أن يُفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.

وروي أيضًا من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: هي منسوخة.

وقال السديّ، عن مُرّة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي يتجشمونه، قال عبد الله: فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، {فَمَنْ تَطَوَّعَ} يقول: أطعم مسكينًا آخر، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، فكانوا كذلك حتى نسختها:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

وأخرج البخاريّ عن عطاء، سمع ابن عباس يقرأ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا، وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه.

وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ثم ضَعُف، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينًا.

وأخرج ابن مردويه عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء في رمضان، وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية، فنَسَخت الأولى إلا الكبير الفاني، إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينًا، وأفطر.

(1)

"إكمال المعلم" 4/ 99 - 100.

ص: 294

فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وأما الشيخ الفاني الْهَرِم الذي لا يستطيع الصيام، فله أن يفطر، ولا قضاء عليه؛ لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا؛ إذا كان ذا جِدَة؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما: لا يجب عليه إطعام؛ لأنه ضعيف عنه لسنّه، فلم يجب عليه فدية، كالصبيّ؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعيّ.

والثاني -وهو الصحيح- وعليه أكثر العلماء: أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} : أي يتجشمونه، كما قاله ابن مسعود وغيره، وهو اختيار البخاريّ، فإنه قال: وأما الشيخ الكبير إذا لم يُطق الصيام فقد أطعم أنس بعدما كَبِر عامًا أو عامين، عن كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا، وأفطر، وهذا الذي علّقه البخاريّ قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في "مسنده"، فقال: حدّثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدّثنا عمران، عن أيوب بن أبي تميمة، قال: ضَعُف أنس عن الصوم، فصَنَع جَفْنَةً من ثَرِيد، فدعا ثلاثين مسكينًا، فأطعمهم.

ورواه عبد بن حميد، عن رَوْح بن عُبادة، عن عِمران، وهو ابن حُدَير، عن أيوب به، ورواه عبد أيضًا من حديث ستة من أصحاب أنس، عن أنس بمعناه. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أو على أولادهما لو صامتا:

قال الإمام الترمذيّ -بعد إخراجه حديث: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عن الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَن الْحَامِلِ، أو الْمُرْضِعِ الصَّوْمَ"، وهو حديث صحيح- ما نصّه: والعمل على هذا عند أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: الحامل والمرضع يفطران، ويقضيان، ويُطعمان، وبه يقول سفيان، ومالك، والشافعيّ، وأحمد. وقال بعضهم: يفطران، ويُطعمان، ولا قضاء

ص: 295

عليهما، وإن شاءتا قضتا، ولا طعام عليهما، وبه يقول إسحاق. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": اختُلِفَ في الحامل والمرضع، ومن أفطر لكِبَر، ثم قَوِي على القضاء بعدُ، فقال الشافعيّ: يقضون، ويُطعمون، وقال الأوزاعيّ، والكوفيون: لا إطعام. انتهى.

وحكى ابن قُدامة، والزرقانيّ اتفاق العلماء على وجوب القضاء من غير فدية فيما إذا خافت الحامل، والمرضع على أنفسهما، قال ابن قدامة في "المغني" (3/ 139): إن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، فلهما الفطر، وعليهما القضاء، فحسبُ، لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافًا؛ لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه.

وقال الزرقانيّ: إذا خافتا على أنفسهما، فلا فدية باتفاق أهل المذاهب، وهو إجماع؛ إلا عند من أوجب الفدية على المريض. انتهى.

وأما إذا خافتا على ولديهما فقط، وأفطرتا، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال:(أحدها): يُطعمان، ولا قضاء عليهما، وهو مرويّ عن ابن عمر، وابن عباس، رواه أبو داود، والبزّار، والدارقطنيّ، والبيهقيّ عن ابن عباس، ومالكٌ، وابنُ أبي حاتم، والدارقطنيّ، والبيهقيّ عن ابن عمر، وهو أحد أقوال مالك.

(الثاني): يقضيان فقط، ولا إطعام عليهما، وبه قال عطاء، والزهريّ، والحسن، وسعيد بن جُبير، والنخعيّ، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعيّ، والثوريّ، واستُدلّ لهم بحديث الباب.

قال الجصّاص: ووجه الدلالة على هذا إخباره صلى الله عليه وسلم بأنّ وضعَ الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر، ألا ترى أن وضع الصوم الذي جَعَلَه من حكم المسافر هو بعينه جَعَلَه من حكم الحامل والمرضع؛ لأنه عطفهما عليه من غير استثناء ذكر شيء غيره، فثبت بذلك أن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو حكم وضعه عن المسافر، لا فرق بينهما، ومعلوم أن

(1)

انظر: الجامع 3/ 402 - 403. بنسخة تحفة الأحوذيّ.

ص: 296

وضع الصوم عن المسافر إنما هو على جهة إيجاب قضائه بالإفطار من غير فدية، فوجب أن يكون ذلك حكمَ الحامل والمرضع.

وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أو ولديهما؛ إذ لم يفصّل النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما، وأيضًا لما كانت الحامل والمرضع يُرجى لهما القضاء، وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس، أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الجصّاص رحمه الله، حسنٌ جدًّا.

(الثالث): يقضيان، ويُطعمان، وهو المشهور من مذهب الشافعيّ، وهو ثاني أقوال مالك، وإليه ذهب أحمد.

(الرابع): إن الحامل تقضي، ولا تطعم، والمرضع تقضي وتطعم، وبه قال الليث، وهو المشهور من أقوال مالك؛ لأن المرضع يمكن أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل، ولأن الحمل متّصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها.

(الخامس): يطعمان، ولا قضاء عليهما، وإن شاءتا قضتا، ولا إطعام. حكاه الترمذيّ عن إسحاق ابن راهويه

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يترجّح عندي من هذه الأقوال قول من قال: يجب عليهما القضاء، فقط، دون الإطعام؛ لأنهما في حكم المريض، ولم يُجِب الله تعالى الإطعام عليه، فكذلك هما، وأيضًا فقد سوّى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وبين المسافر في وضع الصوم عنهم، ومعلوم أن المسافر يقضي، ولا إطعام عليه، كما تقدّم تقريره في كلام الجصّاص رحمه الله.

والحاصل أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا لما ذُكر تقضيان، ولا فدية عليهما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

[2686]

(

) - (حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ الْعَامِرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ

(1)

أفاده في "المرعاة" 7/ 15 - 16.

ص: 297

وَهْب، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أفطَرَ، فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ، حَتَّى أُنْزِلَتْ

(1)

هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ

(2)

الْعَامِرِيُّ) أبو محمد المصريّ، ثقةٌ [11](ت 245)(م دس ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(28) - (بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2687]

(1146) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما تَقُولُ: كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أقضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) التميميّ الْيَرْبوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظ، من كبار [10] [217) (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

(1)

وفي نسخة: "حتى نزلت".

(2)

بتشديد الواو.

ص: 298

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ، أبو خيثمة الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ، أبو سعيد المدنيّ القاضي، ثقة ثبت [5](ت 144)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

[تنبيه]: يحيى بن سعيد هو الأنصاريّ، ووقع في رواية البخاريُّ:"عن يحيى" ولم ينسبه، فقال في "الفتح": هو ابن سعيد الأنصاريّ، ووَهِم الكرمانيّ تبعًا لابن التين، فقال: هو يحيى بن أبي كثير، قال الحافظ: وغَفَلَ عما أخرجه مسلم، عن أحمد بن يونس شيخ البخاريّ فيه، فقال في نفس السند:"عن يحيى بن سعيد، ويحيى بن سعيد هذا هو الأنصاريّ"، وذَهِل مغلطاي، فنَقَل عن الحافظ الضياء أنه القطان، وليس كما قال، فإن الضياء حَكَى قول من قال: إنه يحيى بن أبي كثير، ثم رَدّه، وجزم بأنه يحيى بن سعيد، ولم يقل: القطان، ولا جائز أن يكون القطان؛ لأنه لم يدرك أبا سلمة، وليست لزهير بن معاوية عنه رواية، وإنما هو يروي عن زهير. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله تحقيق نفيسٌ جدًّا، وقد اعترض عليه العينيّ في تعقّبه على الكرماني وابن التين بما هو ظاهر التعصّب، فتنبّه.

وأما قوله: إن مسلمًا قال: "ويحيى بن سعيد هو الأنصاريّ" فلم أجد نسخة مما بأيدينا تنصّ على هذا، ولعله وجد نسخة كذلك، وإنما الذي في نُسَخِنا:"حدّثنا يحيى بن سعيد"، فتأمّل، والله تعالى أعلم.

4 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 5/ 350.

ص: 299

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه، فكوفيّان.

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي سَلَمَةَ) وفي رواية الإسماعيليّ من طريق أبي خالد، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أبا سلمة (قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما تَقُولُ: كَانَ) أي الشأن (يَكُونُ عَلَيَّ) بتشديد الياء التحتانيّة (الصَّوْمُ) أي قضاؤه، وقولها:(مِنْ رَمَضَانَ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي حال كونه كائنًا من رمضان، أرادت بذلك أيامًا من رمضان فاتتها بسبب الحيض، أو غيره من الأعذار المبيحة للفطر.

قيل: فائدة اجتماع "كان" مع "يكون" يذكر أحدهما بصيغة الماضي، والآخر بصيغة المستقبل تحقيق القضية، وتعظيمها، والتقدير: كان الشأن يكون كذا، والتعبير بلفظ الماضي أوّلًا، والمضارع ثانيًا؛ لإرادة الاستمرار، وتكرار الفعل، وقيل: لفظة "يكون" زائدة.

قال الجامع عفا الله عنه: الغالب في زيادة "كان" أن تكون بلفظ الماضي، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدْ تُزَادُ "كَانَ" فِي حَشْوٍ كَـ "مَا

كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا"

وأما زيادتها بلفظ المضارع فشاذّ، كما في قوله [من الرجز]:

أَنْتَ تَكُونُ مَاجِدٌ نَبِيلُ

إِذَا تَهُبُّ شَمْأَلٌ بَلِيلُ

(1)

وقال الطيبيّ: "الصوم" بالرفع اسم "كان"، و"عليّ" خبرها؛ أي كان الصوم واجبًا عليّ، وقوله: و"يكون" زائدة، كما في قولهم: إن من أفضلهم

(1)

راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 166.

ص: 300

كان زيدًا. انتهى

(1)

.

(فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ) أي ما فاتني من أيام رمضان (إِلَّا فِي شَعْبَانَ) غير منصرف؛ للعلميّة، وزيادة الألف والنون، وجمعه شعبانات، وشَعَابين

(2)

.

وقوله: (الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) برفع "الشغل" خبرًا لمحذوف؛ أي المانع لها الشغل، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي الشغل هو المانع لها، وسيأتي في "التنبيه" أنه مدرج من كلام يحيى، فتنبّه.

(أَوْ بِرَسُولٍ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"أو" للشكّ من الراوي، هل قال:"من رسول الله صلى الله عليه وسلم "، أو "برسول الله صلى الله عليه وسلم "؟.

وقال القاري رحمه الله: "أو" للشك من أحد الرواة عن يحيى على ما هو الظاهر، ويمكن أن يكون للتنويع، و"الشغلُ" مبتدأ، والتقدير: الشغل المانع لقضاء الصوم كان ثابتًا من جهته، أو اشتغالها بخدمته هو المانع من القضاء، وقال الزركشيّ: هو بالرفع بفعل مضمر؛ أي أوجب ذلك الشغل، أو مني الشغل. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: كون "أو" هنا للتنويع لا يخفى بُعده، فتأمل، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النسخ "الشغلُ" بالألف واللام، مرفوعًا؛ أي يمنعني الشغلُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعني بالشغل، وبقولها في الحديث الثاني:"فما تقدر على أن تقضيه" أن كل واحدة منهنّ كانت مُهَيِّئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مُتَرَصِّدةً لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك، ولا تدري متى يريده، ولم تستأذنه في الصوم؛ مخافةَ أن يأذن، وقد يكون له حاجة فيها، فتفوتها عليه، وهذا من الأدب

(4)

.

[تنبيه]: قوله: "الشغلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ" مدرج من كلام يحيى بن سعيد، وليس من كلام عائشة رضي الله عنها، وقد وقع بيان ذلك في "صحيح البخاريّ"، ولفظه: "قال يحيى: الشغل من النبيّ، أو بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ".

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1601.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 314.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 460.

(4)

"شرح النوويّ" 8/ 22.

ص: 301

قال في "الفتح": قوله: "قال يحيى" هذا تفصيل لكلام عائشة رضي الله عنها من كلام غيرها.

ووقع في رواية مسلم مُدرجًا لم يقل فيه: "قال يحيى"، فصار كأنه من كلام عائشة، أو ممن روى عنها، وكذا أخرجه أبو عوانة من وجه آخر، عن زهير، وأخرجه مسلم من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى مدرجًا أيضًا، ولفظه:"وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وأخرجه من طريق ابن جريج، عن يحيى، فَبَيَّن إدراجه، ولفظه:"فظننت أن ذلك لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحيى يقوله.

وأخرجه أبو داود من طريق مالك، والنسائيّ من طريق يحيى القطان، وسعيد بن منصور، عن ابن شهاب، وسفيان

(1)

، والإسماعيليّ من طريق أبي خالد، كلهم عن يحيى بدون الزيادة.

وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة بدون الزيادة، لكن فيه ما يُشعِر بها، فإنه قال فيه ما معناه:"فما أستطيع قضاءها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالمعية الزمان؛ أي أن ذلك كان خاصّا بزمانه.

وللترمذيّ، وابن خزيمة من طريق عبد الله البَهِيّ، عن عائشة: "ما قضيت

شيئًا مما يكون عليّ من رمضان إلا في شعبان، حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ومما يَدُلّ على ضعف الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يَقْسِم لنسائه، فَيَعْدِل، وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها، فيُقَبِّل، ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم، اللهم إلا أن يقال: إنها كانت لا تصوم إلا بإذنه، ولم يكن يَأْذَن؛ لاحتمال احتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت أَذِنَ لها، وكان هو صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان، فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان. انتهى

(2)

.

(1)

كذا وقع في نسخة "الفتح"، وهو محل نظر، فلتراجع:"سنن سعيد بن منصور"، والله تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 5/ 350 - 351.

ص: 302

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن قوله: "الشغل

إلخ" في رواية المصنّف مدرج من كلام يحيى بن سعيد الأنصاريّ، كما بيّن من رواية البخاريّ وغيره، وأنه ظن من يحيى أن سببه هو الشغل به صلى الله عليه وسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 2687 و 2688 و 2689 و 2690 و 2691](1146)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1950)، و (أبو داود) في "الصوم"(2399)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(783)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 191 و 150 - 151) و"الكبرى"(5/ 113)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 308)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7676 و 7677)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 98)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1509)، و (أحمد) في "باقي مسنده"(24407 و 24934)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2046 و 2047 و 2048)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3516)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(489 و 490)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 212)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 221 - 222)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(400)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 252) و"الصغرى"(3/ 345)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1770)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان وضع الصيام عن الحائض أيام حيضها.

2 -

(ومنها): وجوب القضاء على الحائض بعدما طهرت عن الحيض.

3 -

(ومنها): جواز تأخير قضاء رمضان مطلقًا، سواء كان لعذر أو لغير عذر؛ لأن الزيادة -يعني قوله:"الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم "- كما بيّناه مدرجةٌ، فلو لم تكن مرفوعة لكان الجواز مقيَّدًا بالضرورة؛ لأن للحديث حكم الرفع؛ لأن الظاهر اطلاع النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع توفر دواعي أزواجه على السؤال

ص: 303

منه عن أمر الشرع، فلولا أن ذلك كان جائزًا لم تواظب عائشة رضي الله عنها عليه، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وقد اتَّفَق العلماءُ على أن المرأة لا يحل لها صوم التطوع وزوجها حاضر، إلا بإذنه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق في "صحيح مسلم، في "كتاب الزكاة"، وإنما كانت تصومه في شعبان؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له فيهنّ حينئذ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان، فإنه لا يجوز تأخيره عنه. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": مما يستفاد من هذا الحديث أن القضاء موسَّع، ويصير في شعبان مضيِّقًا، ويؤخذ من حرص عائشة رضي الله عنهما على القضاء في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان، فإن دخل فالقضاء واجب أيضًا، فلا يسقط، وأما الإطعام فليس في الحديث له ذكرٌ لا بالنفي، ولا بالإثبات

(3)

، وسيأتي بيان الخلاف فيه، وأن الراجح عدم وجوب الفدية، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): عدم وجوب الفدية لتأخيره، وقد اختلفوا في وجوبها إذا أخّره عن رمضان الذي بعده، وسيأتي بيان ذلك قريبًا أيضًا -إن شاء الله تعالى-.

6 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن حقّ الزوج من العشرة والخدمة يُقدَّم على سائر الحقوق، ما لم يكن فرضًا محصورًا في الوقت، وقيل: قول عائشة رضي الله عنها: "فما أستطيع أن أقضيه إلَّا في شعبان" يدلّ على أنها كانت لا تتطوع بشيء من الصيام، لا في عشر ذي الحجة، ولا في عاشوراء، ولا في غيرهما، وهو مبني على أنها ما كانت ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان، ولكن من أين ذلك لمن يقول به، والحديث ساكت عن هذا؟ قاله في "العمدة"

(4)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في جواز تأخير قضاء رمضان، ووجوب التتابع فيه:

(1)

"الفتح" 5/ 351.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 22 - 23.

(3)

"عمدة القاري" 11/ 56.

(4)

"عمدة القاري" 11/ 56.

ص: 304

قال النوويّ رحمه الله: مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وجماهير السلف والخلف أن قضاء رمضان في حقّ من أفطر بعذر، كحيض، وسفر، يجب على التراخي، ولا يشترط المبادرة به في أول الإمكان، لكن قالوا: لا يجوز تأخيره عن شعبان الآتي؛ لأنه يؤخره حينئذ إلى زمان لا يقبله، وهو رمضان الآتي، فصار كمن أخره إلى الموت.

وقال داود: تجب المبادرة به في أول يوم بعد العيد من شوال، وحديث عائشة رضي الله عنها هذا يردّ عليه.

قال الجمهور: وتُستَحَبّ المبادرة به؛ للاحتياط فيه، فإن أخّره فالصحيح عند المحققين من الفقهاء، وأهل الأصول أنه يجب العزم على فعله، وكذلك القول في جميع الواجب الموسَّع إنما يجوز تأخيره بشرط العزم على فعله، حتى لو أخره بلا عزم عصى، وقيل: لا يشترط العزم، وأجمعوا أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركه عن كل يوم مدّ من طعام، هذا إذا كان تمكن من القضاء فلم يقض، فأما من أفطر في رمضان بعذر، ثم اتَّصُل عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات، فلا صوم عليه، ولا يُطْعَم عنه، ولا يصام عنه.

ومن أراد قضاء صوم رمضان نُدِب مرتَّبًا متواليًا، فلو قضاه غير مرتَّب، أو مفرَّقًا جاز عندنا وعند الجمهور؛ لأن اسم الصوم يقع على الجميع، وقال جماعة من الصحابة، والتابعين، وأهل الظاهر: يجب تتابعه، كما يجب الأداء. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب متى يُقْضَى قضاءُ رمضان"، وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق؛ لقول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وقال سعيد بن المسيِّب في صوم العشر: لا يصلح حتى يبدأ برمضان، وقال إبراهيم: إذا فرَّط، حتى جاء رمضان آخر يصومهما، ولم يَرَ عليه طعامًا، ويذكر عن أبي هريرة مرسلًا، وابن عباس، أنه يُطعِم، ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 22 - 23.

ص: 305

قال الحافظ رحمه الله: ظاهر صنيع البخاريّ يقتضي جواز التراخي والتفريق؛ لما أودعه في الترجمة من الآثار كعادته، وهو قول الجمهور، ونقل ابن المنذر وغيره عن عليّ وعائشة رضي الله عنهما وجوب التتابع، وهو قول بعض أهل الظاهر، ورَوَى عبد الرزاق بسنده، عن ابن عمر رضي الله عنهما يقال: يقضيه تباعًا، وعن عائشة رضي الله عنهما نزلت:"فعدة من أيام آخر متتابعات"، فسقطت "متتابعات"، وفي "الموطأ" أنها قراءة أبي بن كعب، وهذا إن صح يُشْعِر بعدم وجوب التتابع، فكأنه كان أوّلًا واجبًا ثم نُسِخَ، ولا يختلف المجيزون للتفريق أن التتابع أولى. انتهى.

وقال الشوكانيّ رحمه الله بعد احتجاجهم بقراءة "أُبيّ" المذكورة ما نصّه: على أنه قد اختُلِف في الاحتجاج بقراءة الآحاد؛ كما تقرر في "الأصول"، وإذا سلم أنها لم تسقط فهي منزّلة عند من قال بالاحتجاج بها منزلة أخبار الآحاد، وقد عارضها ما في الباب من الأحاديث.

ومما احتُجّ به للتتابع ما أخرجه الدارقطنيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه صوم من رمضان، فليسرده، ولا يقطعه". لكن قال البيهقيّ: لا يصحّ، وفي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاضي، وهو مختلف فيه. قال الدارقطنيّ: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، رَوَى حديثًا منكرًا، قال عبد الحقّ: يعني هذا، وتعقّبه ابن القطان بأنه لم ينصّ عليه فلعله غيره، قال: ولم يأت مَن ضعفه بحجة، والحديث حسن.

قال الحافظ: قد صرّح ابن أبي حاتم عن أبيه بأنه أنكر هذا الحديث بعينه على عبد الرحمن. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور من جواز تفريق قضاء رمضان هو الأرجح عندي؛ لإطلاق قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، ولعدم صحة دليل على خلافه، والحديث المذكور قد عرفت ما فيه، فلا يصلح لمخالفة ظواهر النصوص، فتبضر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في وجوب الفدية على من أخّر قضاء رمضان حتى جاء رمضان آخر:

ص: 306

ذهب الجمهور إلى وجوب الفدية عليه، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وأبو هرير رضي الله عنهم، وقال الطحاويّ، عن يحيى بن أكثم، قال: وجدته عن ستة من الصحابة، لا أعلم لهم مخالفًا.

وذهب إبراهيم النخعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه، إلى أن الفدية لا تجب، وقد مال الإمام البخاريّ إلى هذا القول، فقال في "صحيحه": ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله بعد ذكر الخلاف ما نصّه: وقد بيّنّا أنه لم يثبت في ذلك -أي في وجوب الفدية- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء، وأقوال الصحابة لا حجة فيها، وذهاب الجمهور إلى قول لا يدلّ على أنه الحقّ، والبراءة الأصليّة قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها، ولا دليل هاهنا، فالظاهر عدم الوجوب. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الشوكانيّ رحمه الله من عدم وجوب الفدية في التأخير حسنٌ جدًّا، وهو الذي مال إليه الإمام البخاريّ رحمه الله، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2688]

(

) - (وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانيُّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

(1)

انظر: "نيل الأوطار" 4/ 278.

ص: 307

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

2 -

(بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ) هو: بشر بن عُمر بن الْحَكَم بن عُقبة الزهرانيّ الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

و"يحيى بن سعيد" ذُكر قبله.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فاعل "قال" ضمير يحيى، كما سبق بيانه؛ أي قال يحيى بن سعيد:"وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم" بدل قوله: "الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

[تنبيه]: رواية سليمان بلال، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها إسحاق ابن راهويه رحمه الله في "مسنده" (2/ 489) فقال:

(1073)

- أخبرنا بشر بن عمر، نا سليمان بن بلال، نا يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كان يكون عليّ الأيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه، حتى يدخل شعبان، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2689]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ

(2)

: "فَظَنَنْتُ أَن ذَلِكَ لِمَكَانِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "، يَحْيَى يَقُولُهُ).

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

(2)

وفي نسخة: "قال".

ص: 308

رجال هذا الإسناد: أربعة، تقدّموا قبل باب، و"يحيى بن سعيد" ذُكر في السند الماضي.

[تنبيه]: رواية ابن جريج، عن يحيى بن سعيد هذه ساقها عبد الرزاق في "مصنّفه" (4/ 245) فقال:

(7676)

- عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت عائشة تقول: قد كان يكون عليّ الشيءُ من رمضان، ثم لا أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان، قال: فظننت أن ذلك لمكانها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، يحيى يقوله. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2690]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ (ح) وَحَدَّثنا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثنا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْحَدِيثِ:"الشُّغْلُ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد الثقفيّ، البصريّ، ثقةٌ [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل باب.

4 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قبل باب.

و"يحيى" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب، عن يحيى بن سعيد ساقها إسحاق ابن راهويه رحمه الله في "مسنده" أيضًا (2/ 490) فقال:

ص: 309

(1074)

- أخبرنا الثّقَفيّ

(1)

قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت أبا سلمة يقول: قالت عائشة: كان يكون عليّ الأيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه حتى يجيء شعبان. انتهى.

وأما رواية سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2691]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ

(2)

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتى يَأْتِيَ شَعْبَانُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ) الْجُهنيّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، صدوقٌ كان يُحدّث من كُتُب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْهَادِ) الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

(1)

هو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ.

(2)

وفي نسخة "في زمن".

ص: 310

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقولها: (إِنْ كانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ)"إن" مخفّفة من الثقيلة، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَم اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا

مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا

تُلْفِيهِ غَالِبًا بِـ "إِنْ" ذِيْ مُوصَلَا

وقولها: (فِي زَمَانِ) وفي نسخة: "في زمن"، وهو مختصرٌ منه، قال الفيّوميّ رحمه الله: الزمان: مدّة قابلة للقسمة، ولهذا يُطلق على الوقت القليل والكثير، والجمع: أزمنة، والزَّمَنُ: مقصور منه، والجمع أزمان، مثلُ سبب وأسباب، وقد يُجمَع على أزمنة. انتهى

(1)

.

قال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "إن كانت إحدانا لتفطر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ يفيد هذا اللفظ: أن التأخير لأجل الشغل لم يكن لها وحدها، بل لها ولغيرها من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقولها: "فما نقدر على أن نقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ يعني: أنها كانت تتوقع حاجته إليها على الدوام.

فإن قيل: وكيف لا تقدر على الصوم لحقه فيها وقد كان له تسع نسوة، وكان يقسم بينهن، فلا تصل النوبة لإحداهن إلا بعد ثمان، فكان يمكنها أن تصوم في هذه الأيام التي يكون فيها عند غيرها؟.

فالجواب: أن القسم لم يكن عليه واجبًا لهن، وإنما كان يفعله بحكم تطييب قلوبهن، ودفعًا لما يتوقع من الشرور، وفساد القلوب، ألا ترى قول الله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، فلما علم نساؤه هذا -أو من سألته

(1)

"المصباح المنير" 1/ 256.

ص: 311

منهنّ- كن يتهيأن له دائمًا، ويتوقعن حاجته إليهن في أكثر الأوقات، والله تعالى أعلم.

ويستفاد من هذا: أن المرأة لا تصوم القضاء وزوجها شاهد إلا بإذنه، إلا أن تخاف الفوات، فيتعين، وترتفع التوسعة.

وقد قال بعض شيوخنا: لها أن تصوم القضاء بغير إذنه؛ لأنه واجب؛ وإنما محمل الحديث المقتضي لنهيها عن الصوم إلا بإذنه على التطوع، فأما الواجبات فلا يحتاج فيها إلى إذن واحد. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه مستوفًى، وكذا بيان مسائله قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(29) - (بَابُ قَضَاءِ الصِّيَامِ عَن الْمَيِّتِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2692]

(1147) - (وَحَدَّثَنى هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَاتَ، وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله (83) سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسّان المصريّ، المعروف بالتستريّ، صدوقٌ، تكُلّم فيه بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.

3 -

(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الحافظ المصريّ، تقدّم قبل باب.

(1)

"المفهم" 3/ 207 - 208.

ص: 312

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ) الفقيه، أبو بكر المصريّ، قيل: اسم أبيه يسار، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 2 أو 4 أو 5 أو 136)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1306.

6 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات سنة بضع (110)(ع) تقدم في "الجمعة" 2/ 1958.

7 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.

8 -

(عَائِشَةُ رضي الله عنها) تقدّمت في الباب الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُباعيّات المصنّف، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما مز آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من محمد بن جعفر، والباقون كلّهم مصريون.

4 -

(ومنها): أن فيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَاتَ)"من" شرطيّة، والمراد من مات من المكلّفين بقرينة قوله:(وَعَلَيْهِ صِيَامٌ) لأن كلمة "على" للإيجاب، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والمعنى أن من مات، وعليه قضاء صوم، سواء كان قضاء رمضان، أو النذر، أو الكفارة (صَامَ عَنْهُ) أي عن الميت (وَليُّهُ") قال النوويّ رحمه الله: المراد بالوليّ القريب، سواء كان عصبةً، أو وارثًا، أو غيرهما، وقيل: المراد الوارث، وقيل: العصبة، والصحيح الأول، قال: ولو صام عنه أجنبيّ إن كان بإذن الوليّ صحّ، وإلا فلا في الأصحّ، ولا يجب على الوليّ الصوم عنه

(1)

،

(1)

قال الجامع: قوله: "ولا يجب على الوليّ إلخ" مخالف لظاهر النصّ، فإنه يدلّ=

ص: 313

لكن يستحب. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": واختُلِف في المراد بقوله: "وليه"، فقيل: كلُّ قريب، وقيل: الوارث خا صّة، وقيل: عصبته والأول أرجح، والثاني قريب، ويردّ الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها.

قال: واختلفوا أيضًا هل يختص ذلك بالوليّ؛ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية، ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة، فكذلك في الموت، إلا ما ورد فيه الدليل، فيُقْتَصر على ما ورد فيه، ويبقى الباقي على الأصل، وهذا هو الراجح، وقيل: يختصى بالوليّ، فلوأمر أجنبيًّا بأن يصوم عنه أجزأ، كما في الحجّ، وقيل: يصحّ استقلال الأجنبيّ بذلك، وذِكرُ الوليّ؛ لكونه الغالب، وظاهر صنيع البخاريّ اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبريّ، وقوّاه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين، والدينُ لا يختصّ بالقريب. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عدم اختصاص القضاء بالوليّ هو الأرجح عندي، كما قال أبو الطيب الطبريّ رحمه الله، وكما هو ظاهر مذهب البخاريّ رحمه الله؛ لعدم ورود نصّ يمنع من ذلك، ولما ذكره أبو الطيّب رحمه الله، فتأمل، والله تعالى أعلم.

وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا الحديث دليل بعمومه على أن الولي يصوم عن الميت، وأن النيابة تدخل في الصوم، وذهب إليه قوم، وهو قول قديم للشافعيّ، والجديد الذي عليه الأكثرون عدم دخول النيابة في الصوم؛ لأنها عبادة بدنية، والحديث لا يقتضي التخصيص بالنذر، كما ذكر أبو داود، عن أحمد بن حنبل، نعم قد ورد في بعض الأحاديث ما يقتضي الإذن في الصوم عمن مات وعليه نذر بصوم، وليس ذلك بمقتضى للتخصيص بصورة النذر.

= على الوجوب؛ لأن "صام عنه وليّه" خبر بمعنى الأمر، بل ورد بصيغة الأمر، والأمر للوجوب، ولا صارف له، وقد ذهب إليه طائفة من المحقّقين، وسيأتي تحقيقه، والله تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 26.

ص: 314

قال: وقد تكلم الفقهاء في أن المعتبر في الولاية ما ورد في لفظ الخبر، أهو مطلق القرابة، أو بشرط العصوبة والإرث، وتوقف في ذلك إمام الحرمين، وقال: لا نقل عندي في ذلك، وقال غيره من فضلاء المتأخرين: وأنت إذا فحصت عن نظائره وجدت الأشبه اعتبار الإرث.

قال: وقوله: "صام عنه وليه" قيل: ليس المراد أنه يلزمه ذلك، وإنما يجوز ذلك له إن أراد، هكذا ذكره صاحب "التهذيب" من مصنفي الشافعية، وحكاه إمام الحرمين عن الشيخ أبي محمد أبيه، وفي هذا بحث، وهو أن الصيغة صيغة خبر، أعني "صام"، ويمتنع الحمل على ظاهره، فينصرف إلى الأمر، ويبقى النظر في أن الوجوب يتوقف على صيغة الأمر المعينة، وهي "افْعَلْ" مثلًا، أو يعمّها مع ما يقوم مقامها.

قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر يعم ما يقوم مقامها؛ لأنه بمعناها، فتأمل.

وقال الحافظ رحمه الله: قوله: "صام عنه وليه" خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمام الحرمين، ومن تبعه، فادعوا الإجماع على ذلك، وفيه نظر؛ لأن بعض أهل الظاهر أوجبه، فلعله لم يعتدّ بخلافهم على قاعدته. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: عدم الاعتداد بخلاف أهل الظاهر مما أحدثه بعض المتأخّرين، فقد كان السلف من عهد داود الظاهريّ رحمه الله يعتدّون بهم، ويعقدون لهم مجالس للناظرة، وقد استوفيت هذا البحث في أبواب الطهارة من "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد علمًا.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: وقد يؤخذ من الحديث أنه لا يصوم عنه الأجنبيّ، إما لأجل التخصيص مع مناسبة الولاية لذلك، وإما لأن الأصل عدم جواز النيابة في الصوم؛ لأنه عبادة لا يدخلها النيابة في الحياة، فلا يدخلها بعد الموت كالصلاة، وإذا كان الأصل عدم جواز النيابة، وجب أن يُقْتَصَر فيها على ما ورد في الحديث، وَيجْرِي في الباقي على القياس، وقد قال أصحاب الشافعيّ: لوأمر الوليّ أجنبيًّا أن يصوم عنه بأجرة، أو بغير أجرة جاز، كما في الحجّ، فلو استقلّ به الأجنبي ففي إجزائه وجهان: أظهرهما المنع، وأما إلحاق غير الصوم بالصوم، فإنما يكون بالقياس، وليس أخذ الحكم منه من نصّ الحديث. انتهى كلام ابن دقيق العيد رحمه الله.

ص: 315

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن رجّحت عدم اختصاص القضاء بالوليّ، كما قال أبو الطيب الطبريّ رحمه الله، وكما هو ظاهر مذهب الإمام البخاريّ رحمه الله؛ لعدم نصّ يمنع من ذلك، ولأنه صلى الله عليه وسلم شبّهه بقضاء الدَّين، وهو لا يختصّ بالوليّ فقط، فكذا هذا، كما قال أبو الطيّب الطبريّ رحمه الله، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 2692](1147)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1952)، و (أبو داود) في "الصوم"(2400) و"الأيمان والنذور"(3311)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 175)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 69)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 271 - 273)، و (ابن حبهان) في "صحيحه"(3569)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 223)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 237)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 390 و 8/ 200)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 194 - 195)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 255 و 6/ 279)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(1773)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم:

قال النوويّ رحمه الله: اختلفوا فيمن مات، وعليه صوم واجب، من رمضان، أو قضاء، أو نذر، أو غيره، هل يُقْضَى عنه؟ وللشافعيّ في المسألة قولان مشهوران: أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصحّ عن ميت صوم أصلًا، والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويصح صومه عنه، ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى إطعام عنه، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققوأصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث؛ لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وأما الحديث الوارد:"من مات وعليه صيام أُطْعِم عنه"، فليس بثابت، ولو ثبت أَمْكَن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث، بأن يُحْمَل على جواز الأمرين، فإن من يقول بالصيام يجوز عنده الإطعام، فثبت أن الصواب

ص: 316

المتعين تجويز الصيام، وتجويز الإطعام، والوليّ مخير بينهما.

قال: هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وممن قال به من السلف: طاوسٌ، والحسن البصريّ، والزهريّ، وقتادة، وأبو ثور، وبه قال الليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد في صوم النذر، دون رمضان وغيره.

وذهب الجمهور إلى أنه لا يصام عن ميت، لا نذر، ولا غيره، حكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، ورواية عن الحسن، والزهريّ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، قال القاضي عياض وغيره: هو قول جمهور العلماء، وتأولوا الحديث على أنه يُطعِم عنه وليه، وهذا تأويل ضعيفٌ، بل باطلٌ، وأيّ ضرورة إليه، وأيُّ مانع يمنع من العمل بظاهره، مع تظاهر الأحاديث، مع عدم المعارض لها.

قال القاضي، وأصحابنا: وأجمعوا على أنه لا يصلى عنه صلاة فائتة، وعلى أنه لا يصام عن أحد في حياته، وإنما الخلاف في الميت، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": وقد اختَلَف السلف في هذه المسألة، فأجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث، وعلَّق الشافعيّ في القديم القول به على صحة الحديث، كما نقله البيهقيّ في "المعرفة"، وهو قول أبي ثور، وجماعة، من محدثي الشافعية، وقال البيهقيّ في "الخلافيات": هذه المسألة ثابتةٌ، لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها، فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعيّ، قال: كلُّ ما قلتُ، وصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خلافه، فخذوا بالحديث، ولا تقلدوني.

وقال الشافعيّ في الجديد: ومالكٌ، وأبو حنيفة: لا يصام عن الميت.

وقال الليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: لا يصام عنه إلا النذر، وأما رمضان فيُطْعَم عنه.

وإنما قالوا في النذر فقط؛ حملًا للعموم الذي في حديث عائشة رضي الله عنها على المقيّد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 25 - 26.

ص: 317

قال الحافظ رحمه الله: وليس بينهما تعارضٌ حتى يُجْمَع بينهما، فحديث ابن عباس رضي الله عنهما صورةٌ مستقلةٌ، سأل عنها مَن وقعت له، وأما حديث عائشة رضي الله عنها فهو تقريرُ قاعدةٍ عامّةٍ، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما إلى نحو هذا العموم، حيث قيل في آخره:"فدينُ الله أحقّ أن يُقْضَى".

وأما المالكية: فأجابوا عن حديث الباب بدعوى عمل أهل المدينة كعادتهم.

وادَّعَى القرطبيّ تبعًا لعياضٍ أن الحديث مضطربٌ، وهذا لا يتأتى إلا في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ثاني حديثي الباب، وليس الاضطراب فيه مُسَلَّمًا، كما سيأتي.

وأما حديث عائشة رضي الله عنهما، فلا اضطراب فيه.

واحتَجَّ القرطبيّ بما في رواية البزّار: "فليصُم عنه وليّه إن شاء"، وهي زيادة ضعيفة؛ لأنها من طريق ابن لَهِيعَة، فتنبّه.

قال: وأجاب الماورديّ عن الجديد بأن المراد بقوله: "صام عنه وليه" أي فَعَل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم، وهو الإطعام، قال: وهو نظير قوله: "التراب وَضُوء المسلم إذا لم يجد الماء"، قال: فسَمَّى البدل باسم المبدل، فكذلك هنا.

وتُعُقِّب بأنه صرف للَّفظ عن ظاهره بغير دليل.

وأما الحنفية: فاعتلوا لعدم القول بهذين الحديثين بما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن امرأة ماتت، وعليها صوم، قالت:"يطْعَمُ عنها"، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:"لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم"، أخرجه البيهقيّ، وبما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في رجل مات، وعليه رمضان، قال:"يُطْعَم عنه ثلاثون مسكينًا"، أخرجه عبد الرزاق.

ورَوَى النسائيّ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد"، قالوا: فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دلّ ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه، وهذه قاعدة لهم معروفةٌ، إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة، وعن ابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام، إلا الأثر الذي عن عائشة، وهو ضعيف جدًّا.

ص: 318

قال الحافظ رحمه الله: والراجح أن المعتبر ما رواه، لا ما رآه؛ لاحتمال أن يخالف ذلك؛ لاجتهاد، ومستندُه فيه لم يتحقق، ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تُحُقِّقَتْ صحةُ الحديث لم يُترك المحقَّقُ للمظنون، والمسألة مشهورة في الأصول. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من بيان أقوال أهل العلم وأدلّتهم أن المذهب الراجح هو القول بوجوب قضاء صوم من مات وعليه صوم؛ وذلك لأمره رضي الله عنه به، والأمر للوجوب؛ إذ لا صارف له.

وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ومن مات، وعليه صوم فرض، من قضاء رمضان، أو نذر، أو كفّارة واجبة، ففرض على أوليائه أن يصوموه عنه، هم أو بعضهم، ولا إطعام في ذلك أصلًا، أوصى به أو لم يوص به، فإن لم يكن وليّ استؤجر عنه من رأس ماله مَن يصومه عنه، ولا بُدّ، أوصى بكل ذلك أو لم يوص، وهو مُقَدَّم على ديون الناس، وهو قول أبي ثور، وأبي سليمان -يعني داود الظاهريّ- وغيرهما.

وقال أبو حنيفة، ومالك: إن أوصى أن يُطْعَم عنه أطعم عنه، مكانَ كل يوم مسكينٌ، وإن لم يوص بذلك فلا شيء عليه، والإطعام عند مالك في ذلك مُدّ مُدّ، وعند أبي حنيفة صاع من غير البر، لكل مسكين، ونصف صاع من البر، أو دقيقه، وقال الليث كما قلنا، وهو قول أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه في النذر خاصّة.

قال الله تعالى: مِنما بَغدِ وَصيَّم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، ثم أورد الأحاديث التي أوردها مسلم في الباب.

ثم قال: فهذا القرآن، والسنن المتواترة المتظاهرة التي لا يحل خلافها، وكلهم يقول: يُحَجّ عن الميت إن أوصى بذلك، ثم لا يرون أن يصام عنه، وإن أوصى بذلك، وكلاهما عمل بدن، وللمال في إصلاح ما فَسَد منهما مدخل بالهدي، وبالإطعام، وبالعتق، فلا القرآن اتبعوا، ولا بالسنن أخذوا، ولا القياس عَرَفُوا، وشَغّبوا في ذلك بأشياء، منها أنهم ذكروا قول الله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث: علم علَّمه، أو صدقة جارية، أو

ص: 319

ولد صالح يدعو له"، وبأثر رويناه من طريق عبد الرزاق، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن الحجاج بن أرطاة، عن عُبَادة بن نُسَيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن مَرِضَ في رمضان، فلم يزل مريضًا حتى مات لم يُطْعم عنه، وإن صح فلم يقضه حتى مات أُطعِم عنه".

وقال بعضهم: وقد رُوي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، وهما رويا الحديث المذكور أنهما لم يريا الصيام عن الميت، كما رويتمِ من طريق ابن أبي شيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن امرأة منهم، اسمها عمرة، أن أمها ماتت، وعليها من رمضان، فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: لا، بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين.

وإذا ترك الصاحب الخبر الذي رَوَى فهو دليل على نسخه، لا يجوز أن يُظَنّ به غير ذلك، وإذ لو تعمد ترك ما رواه لكانت جرحة فيه، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، وقالوا: لا يصام عنه كما لا يصلى عنه.

قال ابن حزم: أما قول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، فحقٌّ إلا أن الذي أَنزَل هذا هو الذي أنزل:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وهو الذي قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وهو الذي قال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، فصحَّ أنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وما حكم الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم أن له من سعي غيره عنه، والصوم عنه من جملة ذلك.

والعجب أنهم نَسُوا أنفسهم في الاحتجاج بهذه الآية، فقالوا: إن حجّ عن الميت، أو أعتق عنه، أو تصدق عنه، فأجر كل ذلك له، ولاحِقٌ به، فظهر تناقضهم.

[فإن قال منهم قائل]: إنما يُحَجّ عنه إذا أوصى بذلك؛ لأنه داخل فيما سعى.

[قلنا له]: فقولوا بأن يصام عنه كما إذا أوصى بذلك؛ لأنه داخل فيما سعى.

[فإن قالوا]: للمال في الحجّ مدخل في جبر ما نقص منه.

[قلنا]: وللمال في الصوم مدخل في جبر ما نقص منه بالعتق، والإطعام،

ص: 320

وكل هذا منهم تخليط، وتناقض، وهم يجيزون العتق عنه، والصدقة عنه، وإن لم يوص بذلك، فبطل تعلّقهم بهذه الآية.

وأما إخباره صلى الله عليه وسلم بأن عمل الميت ينقطع إلا من ثلاث، فصحيحٌ، وليت شعري من قال لهم: إن صوم الوليّ عن الميت هو عمل الميت، حتى يأتوا بهذا الخبر الذي ليس فيه إلا انقطاع عمل الميت فقط، وليس فيه انقطاع عمل غيره عنه أصلًا، ولا المنع من ذلك، فظهر فساد احتجاجهم بهذا الخبر جملةً.

وأما حديث عبد الرزاق، فلا تحل روايته إلا على سبيل بيان فسادها؛ لعلل ثلاث فيه: إحداها: أنه مرسل، والثانية أن فيه الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط، والثالثة أن فيه إبراهيم بن أبي يحيى، وهو كذاب.

ثم لو صح لكان عليهم، لا لهم؛ لأن فيه إيجاب الإطعام عنه إن صحّ بعد أن مرض، والحنفيون والمالكيون لا يقولون بذلك، إلا أن يوصي بذلك، وإلا فلا.

وأما احتجاجهم بأن عائشة وابن عباس رويا الخبر، وتركاه، فقول فاسدٌ؛ لوجوه:

أحدها: أنه لا يجوز ما قالوا؛ لأن الله تعالى إنما افترض علينا اتباع رواية الصاحب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يفترض علينا قط اتباع رأي أحدهم.

والثاني: أنه قد يَتْرُك الصاحب اتباع ما رَوَى لوجوه غير تعمد المعصية، وهي أن يتاول فيما روى تأويلًا مّا اجتَهَدَ فيه، فأخطأ فأُجِر مرةً، أو أن يكون نَسِي ما رَوَى، فأفتى بخلافه، أو أن تكون الرواية عنه بخلافه وَهَمًا ممن رَوَى ذلك عن الصاحب، فإذ كل ذلك ممكن فلا يحلّ ترك ما افتَرَضَ علينا اتباعه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا لم يأمرنا باتباعه لو لم تكن فيه هذه العِلَلُ، فكيف وكلُّها ممكن فيه، ولا معنى لقول من قال: هذا دليل على نسخ الخبر؛ لأنه يُعارَض بأن يقال: كون ذلك الخبر عند ذلك الصاحب دليل على ضعف الرواية عنه بخلافه، أو لعله قد رَجَع عن ذلك.

والثالث: أنهم إنما يحتجون بهذه الجملة إذا وافقت تقليد أبي حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وأما إذا خالف قولُ الصاحب رأي أحد ممن ذكرنا، فأهون شيء عندهم اطِّراح رأي الصاحب، والتعلق بروايته.

ص: 321

فمن ذلك أن عائشة رضي الله عنها رَوَت: "فُرِضت الصلاةُ ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر على الحالة الأولى"، ثم رُوي عنها من أصح طريق الإتمام في السفر، فتعلق الحنفيون، والمالكيون بروايتها، وتركوا رأيها؛ إذ خالفت فيه ما روت.

وهي التي روت: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل"، ثم أنكحت بنت أخيها عبد الرحمن من المنذر بن الزبير، وأبوها غائب بالشام، بغير إذنه، وأنكر ذلك إذ بلغه أشدّ الإنكار، فخالفوا رأيها، واتبعوا روايتها، وهي التي رَوَت التحريم بلبن الفحل، ثم كانت لا تُدخل عليها من أرضعه نساء إخوتها، وتُدخل عليها من أرضعه بنات أخواتها، فتركوا رأيها، واتبعوا روايتها.

ورَوَى أبو هريرة من طريق لا تصح عنه إيجاب القضاء على من تعمد الفطر في نهار رمضان، وصحّ عنه أنه لا يجزئه صيام الدهر، وإن صامه، وأنه لا يقضيه، فتركوا الثابت من رأيه للهالك من روايته.

وروى أبو هريرة في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، ثم روينا عنه من طريق سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن إبراهيم، هو ابن عُلية، عن هشام الدستوائي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة:"ماءان لا يجزئان من غسل الجنابة: ماء البحر، وماء الحمام".

ورُوي عن ابن عباس في صدقة الفطر: مُدّان من قَمْح، من طريق لا تصحّ، وصح عنه من رأيه صاع من برّ في صدقة الفطر، فترك الحنفيون رأيه لروايته، وهذا كثير منهم جدًّا، وفيما ذكرنا كفاية تبيّن تناقضهم. انتهى المقصود من كلام ابن حزم، على اختصار، وبعض تغيير

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في هذه المسألة أن الأرجح قول من قال بمشروعيّة صوم الوليّ عمن مات، وعليه صوم واجبٌ؛ لظهور أدلتّه، كما تقدّم إيضاحه، بل القول بالوجوب هو الأظهر؛ لمجيئه بصيغة الأمر، ولا صارف له، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "المحلّى" 2/ 7 - 6.

ص: 322

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2693]

(1148) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ امْرَأةٌ أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِن أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، كُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

3 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل بابين.

4 -

(مُسْلِمٌ الْبَطِينُ) هو: مسلم بن عمران، ويقال: ابن أبي عمران، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الجمعة" 20/ 2031.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) الأسديّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

6 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سنة (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فنيسابوري، وابن عبّاس رضي الله عنهما، فبصريّ.

4 -

(ومنها): أن رواية الأعمش عن مسلم البطين من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن الأعمش رأى أنسًا رضي الله عنه، وهو من الطبقة الخامسة، ومسلم من السادسة.

ص: 323

5 -

(ومنها): أن صحابيّه حبر الأمة وبحرها، وترجمان القرآن، ومن العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ) - بفتح الموحدة، وكسر المهملة، ثم تحتانية ساكنة، ثم نون- وقد جاء الحديث من رواية شعبة، عن الأعمش، عن مسلم المذكور، وشعبة لا يحدّث عن شيوخه الذين ربما دَلَّسوا إلا بما تحقق أنهم سمعوه، قاله في "الفتح"

(1)

.

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَن امْرَأةً) وفي رواية زائدة التالية: "جاء رجلٌ"، ويُجمع بأنهما قضيّتان، السائل في إحداهما امرأة، وفي الأخرى رجل، قال في "الفتح": واتَّفَقَ مَن عدا زائدة وعَبْثَر بن القاسم على أن السائل امرأة، وزاد أبو حَرِيز في روايته أنها خثعميّة. انتهى.

ولم يُعرف اسم الرجل، ولا المرأة.

(أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِن أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ) زاد في رواية زائدة التالية: "أفأقضيه عنها؟ "، وفي رواية الحكم:"أفأصوم عنها؟ ".

قال في "الفتح": قوله: "وعليها صوم شهر": هكذا في أكثر الروايات، وفي رواية أبي حَرِيز:"خمسة عشر يومًا"، وفي رواية أبي خالد:"شهرين متتابعين"، وروايته تقتضي أن لا يكون الذي عليها صوم شهر رمضان، بخلاف رواية غيره، فإنها مُحْتَمِلة إلا رواية زيد بن أبي أنيسة، فقال:"إن عليها صوم نذر"، وهذا واضح في أنه غير رمضان.

وبَيَّنَ أبو بِشْر في روايته سبب النذر، فروى أحمد، من طريق شعبة، عن أبي بشر: "أن امرأة رَكِبت البحر، فنَذَرت أن تصوم شهرًا، فماتت قبل أن تصوم، فأتت أختها النبيَّ صلى الله عليه وسلم

" الحديث، ورواه أيضًا عن هشيم، عن أبي بشر نحوه، وأخرجه البيهقيّ من حديث حماد بن سلمة.

وقد ادَّعَى بعضهم أن هذا الحديث اضطرب فيه الرواة عن سعيد بن

(1)

"الفتح" 5/ 356.

ص: 324

جبير، فمنهم من قال: إن السائل امرأة، ومنهم من قال: رجل، ومنهم من قال: إن السؤال وقع عن نذر، فمنهم من فَسَّره بالصوم، ومنهم من فسره بالحج، والذي يظهر أنهما قِصَّتان، ويؤيده أن السائلة في نذر الصوم خثعمية، كما في رواية أبي حريز المعلّقة عند البخاريّ، والسائلة عن نذر الحج جُهنية. وقد روى مسلم من حديث بُريدة: أن امرأة سألت عن الحج، وعن الصوم معًا.

وأما الاختلاف في كون السائل رجلًا أو امرأةً، والمسؤل عنه أختًا، أوأُمًّا فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث؛ لأن الغرض منه مشروعية الصوم، أو الحج عن الميت، ولا اضطراب في ذلك. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَرَأَيْتِ) أي: أخبريني (لَوْ كَانَ عَلَيْهَا) أي على أمها (دَيْن، "كُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ ") وفي رواية الحكم: "قال: أرأيت لو كان على أمك دين، فقضيته، أكان يؤدّي ذلكِ عنها؟ "(قَالَتْ) المرأة السائلة (نَعَمْ) أي أقضيه عنها، ويؤدّي ما كان عليها (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ") وفي رواية زائدة:"فدين الله أحقّ أن يُقضى"، وفي رواية الحكم:"قال: فصومي عن أمّك".

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "لو كان على أمك دين كنت قاضيته؟ " مشعر: بأن ذلك على الندب لمن طابت به نفسه؛ لأنه لا يجب على ولي الميت أن يؤدِّي من ماله عن الميت دينًا بالاتفاق، لكن من تبرع به انتفع به الميت، وبرئت ذمته، ويمكن أن يقال: إن مقصود الشرع: أن وليّ الميت إذا عَمِل العمل بنفسه من صوم، أو حج، أو عمرة، فصيَّره للميت انتفع به الميت، ووصل إليه ثوابه، ويعتضد ذلك: بأنه صلى الله عليه وسلم شبَّه قضاء الصوم عن الميت بقضاء الدَّين عنه، والدَّين إنما يقضيه الإنسان عن غيره من مال حصَّله لنفسه، ثم بعد ذلك يقضيه عن غيره، أو يهبه له. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"الفتح" 5/ 357.

(2)

"المفهم" 3/ 210.

ص: 325

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 2693 و 2694 و 2695 و 2696](1148)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1953)، و (أبو داود) في "الصوم"(3310)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2912 و 2913 و 2915 و 2916)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 224 و 227 و 258 و 362)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 215 - 216)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 223)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 218) و"الكبير"(4/ 26 و 12/ 14 - 15 و 50 و 72)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 196)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 255)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة صوم الوليّ عمن مات، وعليه صوم، وقد اختلف العلماء فيه، والصحيح مشروعيّته، قال النوويّ: واعتذر القاضي عياض عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصوم عن الميّت والحج عنه بأنه مضطربٌ.

وتعقّبه النوويّ، فقال: وهذا عذرٌ باطلٌ، وليس في الحديث اضطراب، وإنما فيه اختلاف جمعنا بينه كما سبق، ويكفي في صحته احتجاج مسلم به في "صحيحه". انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تعقّب حسنٌ جدًّا، وقد تقدّم تحقيق الخلاف في ذلك في شرح حديث عائشة رضي الله عنهما المذكور قبل هذا.

2 -

(ومنها): جواز سماع كلام المرأة الأجنبية في الاستفتاء ونحوه، من مواضع الحاجة.

3 -

(ومنها): بيان مشروعيّة القياس، وضرب الْمَثَل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فدَيْنُ الله أحقّ بالقضاء"، وذلك ليكون أوضح، وأوقع في نفس السامع، وأقرب إلى سُرْعة فهمه.

4 -

(ومنها): تشبيه ما اختُلف فيه، وأشكَلَ بما اتُّفِق عليه

(1)

.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 149 كتاب "جزاء الصيد" رقم (1852).

ص: 326

5 -

(ومنها): بيان قضاء الدين عن الميت، وقد أجمعت الأمة عليه، ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره، فيبرأ به بلا خلاف.

6 -

(ومنها): أن وفاء الدين الماليّ عن الميت كان معلومًا عندهم، مقرّرًا، ولهذا حسُن الإلحاق به.

7 -

(ومنها): أن فيه دليلًا لمن يقول: إذا مات وعليه دين لله تعالى، ودين لآدميّ، وضاق ماله قُدِّم دَين الله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"فدَينُ الله أحقّ بالقضاء"، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال للشافعيّ: أصحها تقديم دين الله تعالى؛ لما ذكرناه، والثاني: تقديم دين الآدميّ؛ لأنه مبنيّ على الشح والمضايقة، والثالث: هما سواء، فيُقْسَم بينهما.

8 -

(ومنها): أنه يستحب للمفتي أن ينبه على وجه الدليل إذا كان مختصرًا واضحًا، وبالسائل إليه حاجة، أو يترتب عليه مصلحةٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قاس على دين الآدميّ؛ تنبيهًا على وجه الدليل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2694]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكيعِيُّ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِلَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُسْلِم الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِن أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ:"لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْن، كُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:"فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".

قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَالَ الْحَكَمُ، وَسَلَمَةُ بْنُ كهَيْلٍ جَمِيعًا، وَنَحْنُ جُلُوسٌ حِينَ حَدَّثَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَا: سَمِعْنَا مُجَاهِدًا يَذْكُرُ هَذَا عَن ابْنِ عَبَّاسٍ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ) أحمد بن عمر بن حفص بن جَهْم بن واقد الكنديّ، أبو جعفر الْجَلّاب -بالجيم- الضرير الْمُقَدَّمِيّ المعروف بالْوَكِيعيّ، ثقةٌ [10].

ص: 327

رَوَى عن ابن فُضيل، وعبد الحميد الْحِمَّانيّ، وحفص بن غياث، وغيرهم.

ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود في "المسائل"، وابنه إبراهيم بن أحمد الوَكِيعيّ، والأثرم، والْمَعْمَريّ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو زرعة، ونصر بن القاسم الفرائضيّ، وغيرهم.

قال ابن معين: ثقةٌ، وقال مرةً: ما أرى به بأسًا، وقال عبد الله بن أحمد، ومحمد بن عبدوس: الوكيعيّ ثقةٌ، وقال ابن قانع: كان عبدًا صالحًا ثقةً ثَبْتًا، وقال موسى بن هارون: كان صالحًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يُغْرِب.

وقال مُطَيَّن وغيره: مات في سنة (235)، زاد غيره: في صفر.

وقال السمعانيّ في "الأنساب": قيل له: الوكيعيّ لصحبته وكيع بن الجراح.

انفرد به المصنّف، وأخرج له أبو داود في "المسائل"، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (1148) و (2732) و (2852) و (2905).

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَليٍّ) الْجُعفيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(الْحَكَمُ) بن عتيبة أبو محمد الكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

5 -

(سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 122)(ع) تقدم في "الحيض" 5/ 704.

6 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر الْمَخْزوميّ مولاهم، أبو الحجّاج المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104) وله (83) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

والباقون ذُكروا قبله، و"سليمان " هو: الأعمش.

وقوله: (قَالَ سُلَيْمَانُ) هو الأعمش المذكور في السند الماضي؛ أي سليمان الأعمش بالإسناد المذكور إليه أوّلًا.

وقوله: (فَقَالَ الْحَكَمُ) أي: ابن عتيبة.

وقوله: (وَنَحْنُ جُلُوسٌ) جملة في محلّ نصب على الحال.

ص: 328

وقوله: (حِينَ حَدَّثَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ) أي البطين.

وقوله: (فَقَالَا: سَمِعْنَا مُجَاهِدًا

إلخ) أي قال كلّ من الحكم، وسلمة بن كُهيل: سمعنا هذا الحديث الذي حدّث به مسلم البطين عن مجاهد بن جَبْر، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، كما سمعه مسلم عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

وحاصل ما أشار إليه أنّ الأعمش سمع هذا الحديث من ثلاثة أنفس في مجلس واحد: من مسلم البطين أوّلًا عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ثم من الحكم وسلمة كلاهما عن مجاهد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

[تنبيه]: سيأتي في السند التالي أن أبا خالد الأحمر خالف زائدة، فجعل شيوخ الأعمش الثلاثة، فحدّث به عنه عنهم، عن شيوخ ثلاثة، وهم: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء بن أبي رَبَاح، وسيأتي الكلام عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2695]

(

) - (وَحَدَّثنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَذَثنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، حَدَّثنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كهَيْلٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَمُسْلِم الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) من مشايخ الجماعة بلا واسطة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190) أو قبلها وله بضع و (70) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

3 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح، واسم أبيه أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمامٌ، كثير الإرسال [3](ت 114)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

والباقون ذُكروا قبله.

قال الجامع عفا الله عنه: محصل ما أشار إليه أن أبا خالد الأحمر خالف

ص: 329

زائدة بن قُدامة في هذا الإسناد، فجمع بين شيوخ الأعمش الثلاثة، وهم: سلمة بن كُهيل، والحكم بن عُتيبة، ومسلم البطين، فحدث به عنه، عنهم

(1)

، عن شيوخ ثلاثة، وهم: سعيد بن جُبير، ومجاهد، وعطاء.

قال الحافظ رحمه الله: وظاهره أنه عند كلّ منهم، عن كل منهم.

وَيحْتَمِل أن يكون أراد به اللفّ والنشر بغير ترتيب، فيكون شيخ الحكم عطاءً، وشيخ البَطِين سعيدَ بنَ جبير، وشيخُ سلمة مجاهدًا.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الاحتمال هو الأظهر؛ لما سيأتي في التنبيه من رواية النسائي من طريق عبد الرحمن بن مَغْراء، عن الأعمش مُفَضَّلًا، وهو أيضًا مما يُقَوِّي رواية أبي خالد هذه.

قال الحافظ: وقد وصلها -أي رواية أبي خالد- مسلمٌ، لكن لم يسق المتن، بل أحال به على رواية زائدة، وهو مُعْتَرَضٌ؛ لأن بينهما مخالفة سيأتي بيانها.

قال: ووصلها أيضًا الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن خزيمة، والدارقطنيّ، من طريق أبي خالد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

[تنبيه]: رواية أبي خالد الأحمر، عن الأعمش هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"(2/ 173) عن شيخ مسلم، فقال:

(2914)

- أنبأ عبد الله بن سعيد، قال: حدَّثنا أبو خالد، قال: حدّثنا الأعمش، عن سلمة، والْحَكَم، ومسلم، عن سعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، عن ابن عباس، قال: جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صيام شهرين متتابعين، فقال:"أرأيت لو كان على أختك دين، أكنت تقضينه؟ " قالت: نعم، قال:"فحق الله أحقّ". انتهى.

وهذا صريح في أن رواية أبي خالد فيها أن السائلة امرأة، سألت عن أختها، والسائل في رواية زائدة رجل سال عن أمه، فاختلفا، فإحالة مسلم بقوله:"بهذا الحديث" فيه نظر لا يخفى، وقد تقدّم تنبيه الحافظ رحمه الله عليه، فتنبّه.

(1)

قوله "فحدّث به" أي: بهذا الحديث، وقوله:"عنه" أي: عن الأعمش، وقوله "عنهم" أي: عن شيوخه الثلاثة المذكورين.

ص: 330

ثم قال النسائيّ رحمه الله:

(2915)

- أنبأ الحسين بن منصور النيسابوريّ، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مَغْراء، عن الأعمش، عن مسلم الْبَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وعن سلمة بن كهيل، عن مجاهد، عن ابن عباس، وعن الحكم بن عتيبة، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أتته امرأة، فقالت: إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟، قال:"أرأيت لو كان عليها دينٌ، أكنت تقضينه؟ " قالت: نعم، قال:"فدين الله أحقّ أن يُقْضَى". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: رواية عبد الرحمن بن مَغْراء هذه فيها تفصيل لما أجمله أبو خالد الأحمر في شيوخ الأعمش، كما سبق التنبيه عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2696]

(

) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زيدِ بْنِ أَبِي أُنيْسَةَ، حَدَّثنَا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَت امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِن أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْن، فَقَضَيْتِيهِ

(1)

أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الْكَوْسج التميميّ، أبو يعقوب المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

(1)

كذا بزيادة الياء بعد التاء في أكثر النسخ، وفي بعضها:"فقضيته" بدونها على الأصل.

ص: 331

2 -

(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خَلَف السلميّ، أبو عبد الله البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 237)(م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

4 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ عَدِيٍّ) التيميّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظ فاضلٌ، من كبار [10](ت 11 أو 212)(خ م مد ت س ق) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 88.

5 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الرَّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيه، ربّما وَهِمَ [8](ت 180) عن (80) سنة (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

6 -

(زيدُ بْنُ أَبِي أُنيْسَةَ) الْجَزَريّ، أبو أسامة، كوفيّ الأصل، ثقةٌ له أفراد [6] (ت 119) وقيل:(124)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَقَضَيْتِيهِ) هكذا في أكثر النسخ "قضيتيه" بالياء بعد التاء، وفي بعضها "قضيته" بدونها على الأصل.

وقوله: (أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟) أي يقضي ذلك الذي قضيته عما على أمك من الدين.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2697]

(1149) - (وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ أبُو الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: بَيْنَا أنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أتتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارَيةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، قَالَ: فَقَالَ: "وَجَبَ أَجْرُكِ، وَرَدَّهَا عَلَيكِ الْمِيرَاثُ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: "صُومِي

ص: 332

عَنْهَا"، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ

(1)

: "حُجِّي عَنْهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، ثقةٌ حافظ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَبُو الْحَسَنِ) القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَطَاءٍ) الطائفيّ المكيّ، ويقال: الكوفيّ، ويقال: الواسطيّ، ويقال: المدنيّ، أبو عطاء، مولى المطلب بن عبد الله بن قيس بن مَخْرمة، وقيل: مولى بني هاشم، ومنهم من جعلهما اثنين، وقيل: ثلاثة، صدوقٌ يُخطئ ويُدلّس [6].

رَوَى عن أبي الطفيل، وسليمان وعبد الله ابني بُريدة، وعقبة بن عامر مرسلًا، وعكرمة بن خالد، ونافع مولى ابن عمر، وسعد بن إبراهيم، وغيرهم.

وروى عنه أبو إسحاق السَّبِيعيّ، وزهير بن معاوية، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وعلي بن مسهر، وشعبة، وعبد الله بن نمير، وغيرهم.

قال الدُّوريّ، عن ابن معين: هو كوفيّ كان ينزل بمكة، قال الترمذيّ: ثقة عند أهل الحديث، وقال النسائيّ: ضعيفٌ، وقال في موضع آخر: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: عبد الله بن عطاء صاحب ابن بريدة ثقة، كذا هو في "تاريخ الدوريّ" رواية أبي سعيد ابن الأعرابيّ عنه.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1149)، و (2645): "إن النطفة تقع في الرحم

".

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3](ت 105 أو 115) وله مائة سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

5 -

(أَبُوهُ) بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو عبد الله، وقيل غير ذلك، الصحابيّ، أسلم قبل بدر، ومات سنة (63)(ع) تقدم في "الإيمان" 100/ 533.

(1)

وفي نسخة: "قال: نعم، حجي عنها".

ص: 333

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: بَيْنَا) هي "بين" الظرفيّة أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها ألف، وقد سبق البحث فيها غير مرّة (أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ أتتْهُ امْرَأَةٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفها، ولا أمها، ولا الجارية. انتهى

(1)

. (فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ) أي قبل هذا الوقت (عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ) أي بتمليكها لها هبةً، أو صدقةً، والجارية: الأمة الشابّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الجارية هي السفينة، سُمّيت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمة على التشبيه؛ لجريها مُستسخَرةً في أَشغال مواليها، والأصل فيها الشابّة؛ لخفّتها، ثم توسّعوا حتى سمَّوا كل أمة جارية، وإن كانت عجوزًا لا تقدر على السعي؛ تسميةً بما كانت عليه، والجمع الجواري. انتهى

(2)

. (وَإِنَّهَا مَاتَتْ) أي فهل يجوز لي أن أرث الجارية من تركتها؟ (قَالَ) بُريدة رضي الله عنه (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَجَبَ) أي ثبت (أَجْرُكِ) حيث وصلتِ أمك بالجاربة (وَرَدَّهَا) أي الجارية (عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ") أي الإرث، قال القاري رحمه الله: النسبة مجازية؛ أي ردّها الله عليك بالميراث، وصارت الجارية ملكًا لك بالإرث، وعادت إليك بالوجه الحلال، والمعنى أنه ليس هذا من باب العود في الصدقة؛ لأنه ليس أمرًا اختياريًا، قال ابن الملك: أكثر العلماء على أن الشخص إذا تصدق بصدقة على قريبه، ثم وَرِثها حَلَّت له، وقيل: يجب صرفها إلى فقير؛ لأنها صارت حقًا لله تعالى. انتهى.

قال القاري: وهذا تعليل في معرض النصّ فلا يُعْقَل. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما أجمل تعقّب القاري؛ أي فإذا كان غير

(1)

"تنبيه المعلم"(ص 207).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 98.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 383.

ص: 334

معقول، فإنه غير مقبول، بل باطل مردود، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمًا

تُجَارِي فِي ميَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

(قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي إن الأمر والشأن (كَانَ عَلَيْهَا) أي على أمها (صَوْمُ شَهْرٍ) اختُلِف في مقدار الصوم في رواية عبد الله بن بُريدة، والظاهر أن شهر أرجح؛ لموافقة رواية سليمان له، والله تعالى أعلم.

(أفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صُومِي عَنْهَا"، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ، أفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: "حُجِّي عَنْهَا") وفي نسخة: "قال: نعم حُجِّي عنها"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث بُريدة بن الْحُصيب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 2697 و 2698 و 2699 و 2700 و 2701](1149)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1656) و"الوصايا"(2877) و"الأيمان والنذور"(3309)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(667 و 929)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 66 و 67)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1759)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 120)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 356)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 349 و 351 و 359 و 361)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 217)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 224 - 225)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 386)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 256)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان مشروعيّة قضاء الصوم عن الميت، قال البيهقيّ رحمه الله في "الخلافيّات" -بعد إيراده الحديثَ-: فهذا الحديث قد صحّ، وهو صريح في جواز الصوم عن الميت، بعيدٌ من التأويل، ومذهب إمامنا الشافعيّ: اتباع السنة

ص: 335

بعد ثبوتها، وترك ما يخالفها بعد صحتها، وهذه الأخبار ثابتةٌ، ولا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها، فوجب على من سمعها اتباعها، ولا يسعه خلافها.

قال: وأما الحديث الذي رُوي عن محمد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: أن فيه الكفارة، ولم يذكر الصيام، فإن رَفْعَهُ وَهَمٌ، والصواب عن ابن عمر موقوفًا، ومحمد هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قاله ابن عديّ، وهو ضعيف الحديث، كثير الوَهْم.

وما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يحجّ أحد عن أحد فإنما أراد به- والله أعلم- في حال الحياة، ثم اتباعُ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، وعلمي أنه لو بلغه الخبر لصار إليه.

ورُوي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهما أفتيا بالكفارة دون ذكر الصوم عنه، ومن قال من أصحابنا بذلك احتج به عنهما، وهما رويا الحديث المرفوع في القضاء عن الميت، فدل على أن المراد بالحديث المرفوع فِعْلُ ما يكون قضاءً لصومه، وهو الإطعام الذي فسره -والله أعلم-.

والأحاديث المرفوعة أصحُّ إسنادًا، وأحفظ رجالًا من الذي رُوي موقوفًا، والأحاديث على ظاهرها، حتى يأتي دلالة على غير ذلك، وبالله التوفيق. انتهى كلام البيهقيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق حسنٌ جدًّا.

وحاصله أن أحاديث الباب على ظاهرها، فيُشرع الصوم والحج عمن مات ولم يصم، ولم يحُجّ، وأن ذلك مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله؛ لأن مذهبه: إذا صحّ الحديث فهو المقدّم على قوله، وأما ما روي عن بعض الصحابة بخلاف ذلك يُعتذر عنهم بأنه لم يبلغهم النصّ، وعلى تقدير بلوغه لهم، فالنصّ مقدّم على فتاواهم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): جواز دفع صدقة التطوّع إلى الوالدين، والورثة.

3 -

(ومنها): أنه إذا تصدّق بشيء، ثم عاد إليه بسبب الإرث جاز له، وقيل: لا يجوز، وهو ضعيف، قال الترمذيّ رحمه الله بعد إخراجه الحديث ما

(1)

راجع: "مختصر خلافيات البيهقيُّ" 3/ 70 - 71.

ص: 336

نصّه: وَالْعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْم: أَنَّ الرَّجُلَ إذا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، ثُمَّ وَرِثَهَا حَلَّتْ له، وقال بَعْضُهُمْ: إنما الصَّدَقَةُ شَيْءٌ جَعَلَهَا لِلَّهِ، فإذا وَرِثَهَا فَيَجِبُ أَنْ يَصْرِفَهَا في مِثْلِهِ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول الثاني ضعيف، بل باطلٌ؛ لمصادمته هذا الحديث الصحيح، فتنئه.

4 -

(ومنها): مشروعيّة قضاء الحج عن الميت، وسيأتي تمام البحث فيه في محلّه -إن شاء الله تعالى-، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2698]

(

) - (وَحَدَّثنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطَاء، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: صَوْمُ شَهْرَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ) الظاهر أنه أراد قصّة الصوم؛ لأنه موضوع المسألة، وأما قصّة الحجّ فلم يذكرها عبد الله بن نمير، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ

إلخ) فعل "قال" ضمير عبد الله بن نمير.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "صوم شهرين" كذا في رواية عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن عطاء هذه، وتابعه عبيد الله بن موسى، عن الثوريّ في الرواية الآتية، وخالفهما عليّ بن مسهر، عن عبد الله بن عطاء في روايته السابقة،

(1)

"جامع الترمذيّ" 3/ 55.

ص: 337

فقال: "صوم شهر"، وتابعه عبد الرزاق، عن الثوريّ في روايته الآتية أيضًا، وكذا رواه عبد الملك بن أبي سليمان، عن عبد الله بن عطاء كما يأتي آخر الباب، قال أبو عوانة: ورواه الأشجعيّ، عن سفيان، فقال:"وعليها صوم من رمضان"

(1)

.

فتبيّن بما ذُكر أن رواية الأكثرين بلفظ "صوم شهر"، والظاهر أنها أرجح، فتأمل، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن عبد الله بن عطاء هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (7/ 284) فقال:

(36121)

- حدّثنا ابن نُمير، عن عبد الله بن عطاء، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءته امرأة، فقالت: إنه كان على أمي صوم شهرين، أفأصوم عنها؟ قال:"صومي عنها- قال-: أرأيتِ إن كان على أمك دين، قضيته، أكان يجزئ عنها؟ "، قالت: بلى، قال:"فصومي عنها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2699]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَن ابْنِ بُرَيْدَةَ

(2)

، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَت امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ، وَقَالَ: صَوْمُ شَهْرٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(الثَّوْرِيُّ) سفيان بن سعيد الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَن ابْنِ بُرَيْدَةَ) وفي بعض النسخ: "عن عبد الله بن بُريدة".

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ، عن عبد الله بن عطاء هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 217) فقال:

(1)

"مسند أبي عوانة" 2/ 217.

(2)

وفي نسخة: "عن عبد الله بن بريدة".

ص: 338

(2905)

- حدّثنا الدَّبَريّ، عن عبد الرزاق، عن الثوريّ، عن عبد الله بن عطاء، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، قال:"صومي مكانها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2700]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ سُفْيَانَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: صَوْمُ شَهْرَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ كان يتشيّع، قال أبو حاتم: كان أثبت في إسرائيل من أبي نُعيم، واستُصغِر في سفيان الثوريّ [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقيان ذُكرا في الباب، و"إسحاق بن منصور": هو الْكَوْسَج، و"سفيان": هو الثوريّ.

[تنبيه]: رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان الثوريّ هذه ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(2/ 217) فقال:

(2906)

- حدّثنا أُمَيَّة، حدّثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا سفيان الثوريّ، عن عبد الله بن عطاء، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه، قال: أتت امرأة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي تُوُفِّيت، وعليها صوم شهرين، قال:"صومي عنها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2701]

(

) - (وَحَدَّثَني ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطَاء الْمَكِّيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَت امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَقَالَ: صَوْمُ شَهْرٍ").

ص: 339

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ) هو: إسحاق بن يوسف بن مِرْداس الْمَخْزوميّ الواسطيّ المعروف بالأزرق، ثقةٌ [9](ت 195) عن (78) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 191.

2 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ) بن الْحُصيب الأسلميّ المروزيّ قاضيها، ثقةٌ [3](ت 105) وله (90) سنةً (م 4) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ) أي حدّث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عبد الله بن عطاء بمثل ما حدّث به الرواة السابقون عنه، وهو: عليّ بن مسهر، وعبد الله بن نُمير، والثوريّ.

[تنبيه]: رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عبد الله بن عطاء هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" (5/ 349) فقال:

(23006)

- حدّثنا عبد اللهِ

(1)

، حدّثني أبي، ثنا إِسْحَاقُ بن يُوسُفَ، عن عبد الْمَلِكِ بن أبي سُلَيْمَانَ، عن عبد اللهِ بن عَطَاءٍ المكيّ، عن سُلَيْمَانَ بن بُرَيْدةَ، عن أبيه، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي تَصَدَّقْتُ على أمي بِجَارِيةٍ، فَمَاتَتْ، وَإِنَّهَا رَجَعَتْ إليَّ في الْمِيرَاثِ؟، قال:"قد آجَرَكِ الله، وَرَدَّ عَلَيْكِ الْمِيرَاثَ"، قالت: فإن أمي مَاتَتْ، ولم تَحُجَّ، فَيُجْزِئُهَا أَنْ أَحُجَّ عنها؟ قال:"نعم"، قالت: فإن أمي كان عليها صَوْمُ شَهْرٍ، فيجزئها أَنْ أَصُومَ عنها؟ قال:"نعم". انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: انتقد النسائيّ رحمه الله هذا السند في "السنن الكبرى"(4/ 66)، فقال:

(6314)

- أخبرنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرميّ، وعبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرسوسيّ، واللفظ له، قال: حدّثنا إسحاق الأزرق، قال: حدَّثنا

(1)

هو ولد الإمام أحمد رحمه الله راوي "المسند" عنه.

ص: 340

عبد الملك بن أبي سليمان

(1)

، عن عبد الله بن عطاء، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، فماتت، فرجعت إليّ في الميراث، فقال:"قد آجرك الله، ورَدّ عليك في الميراث".

قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ، والصواب: عبد الله بن بريدة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: إنما خطّأ النسائيّ رحمه الله هذه الرواية لمخالفة عبد الملك بن أبي سليمان الحفّاظ الذين رووا عن عبد الله بن عطاء بجعله شيخه سليمان بن بُريدة، وهم جعلوه عبد الله بن بُريدة، وهم أكثر وأحفظ منه، وهم: عليّ بن مسهر، وعبد الله بن نُمير، وسفيان الثوريّ، ورواياتهم عند المصنّف في هذا الباب، ووافقهم زهير بن معاوية، عند أبي داود، وابن أبي ليلى، عند النسائيّ، إلا أنه قال:"عن ابن بُريدة"، ولم يسمّه.

على أن عبد الملك، وإن كان ثقةً، إلا أن بعضهم وصفه بأنه يُخطئ، قال أبو داود: قلت لأحمد: عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: ثقةٌ، قلت: يُخطئ؟ قال: نعم، وكان من أحفظ أهل الكوفة، إلا أنه رفع أحاديث عن عطاء، تكلّم فيه أيضًا شعبة، وغيره

(2)

.

والحاصل أن اتّفاق هؤلاء يُرجّح على عبد الملك بن أبي سليمان، فالحديث لعبد الله بن بُريدة، لا لسليمان بن بُريدة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: نقل الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ رحمه الله في "تحفته" ما نصّه: قال النسائيّ: حديث إسحاق الأزرق خطأ، والصواب حديث عبد الله بن بُريدة، وعبدُ الله بن عطاء ليس بذاك القويّ. انتهى

(3)

.

وهذا الكلام لم أجده في النسخة التي بين يديّ من "السنن الكبرى" للنسائيّ، وإنما الموجود فيها ما أسلفته، ولعله لاختلاف النسخ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

وقع في الطبعة القديمة من "الكبرى": "عبد الله بن أبي سليمان"، والصواب ما في النسخة الجديدة:"عبد الملك بن أبي سليمان"، فتنبّه.

(2)

راجع: ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 613 - 614.

(3)

"تحفة الأشراف" 2/ 104.

ص: 341

(30) - (بَابُ الصَّائِمِ يُدْعَى لِطَعَامٍ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2702]

(1150) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: رِوَايَةً، وَقَالَ عَمْرٌو: يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ زُهَيْرٌ: عَن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد، تقدّم قبل باب.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريبًا.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل باب.

5 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القُرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيه [5](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

6 -

(الْأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتفاق كيفيّة الأخذ والأداء.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيوخه، فالأول والثالث ما أخرج له الترمذيّ، والثاني ما أخرج له الترمذيّ وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 342

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: رِوَايَةً) يعني أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة قال: "عن أبي هريرة روايةً"؛ أي ينقله أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نقلًا (وَقَالَ عَمْرٌو: يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) يعني أن شيخه عمرًا الناقد قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم "، والمعنى: أن أبا هريرة عزا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم (وقَالَ زُهَيْرٌ: عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) يعني أن شيخه زهيرًا قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "، وغرض المصنّف رحمه الله بهذا بيان اختلاف ألفاظ شيوخه، وكلّها متقاربة المعنى، إلا أن قوله:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم " صريح في الرفع، وأما قوله:"روايةً"، وقوله:"يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم " من صيغ الرفع حكمًا، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذَا دُعِيَ) بالبناء للمفعول (أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ، وَهُوَ صَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي والحال أنه صائم؛ أي: صوم نفل، قاله ابن حجر الهيتميّ، وتعقّبه القاري، فقال: ولا دلالة في الحديث؛ لاحتمال أن يكون صوم قضاء ونحوه. انتهى.

(فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ") اعتذارًا للداعي، فإن سَمَح، ولم يطالبه بالحضور فله التخلف، وإلا حضر، وليس الصوم عذرًا في التخلف.

قيل: إنما أَمَر المدعوّ حين لا يجيب الداعي أن يَعتذر عنه بقوله: "إني صائم"، وإن كان يُستحب إخفاء النوافل؛ لئلا يؤدي ذلك إلى عداوة، أو تباغض بينه وبين الداعي

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنه يقول له اعتذارًا له، وإعلامًا بحاله، فإن سَمَح له، ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، وإن لم يسمح، وطالبه بالحضور لزمه الحضور، وليس الصوم عذرًا في إجابة الدعوة، ولكن إذا حضر لا يلزمه الأكل، ويكون الصوم عذرًا في ترك الأكل، بخلاف المفطر،

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 501.

ص: 343

فإنه يلزمه الأكل على أصحّ الوجهين عندنا، كما سيأتي واضحًا -إن شاء الله تعالى- في بابه، والفرق بين الصائم والمفطر منصوص عليه في الحديث الصحيح، كما هو معروف في موضعه، وأما الأفضل للصائم، فقال أصحابنا: إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استُحِبّ له الفطر، وإلا فلا، هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صومًا واجبًا حَرُم الفطر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 2702](1150)، و (أبو داود) في "الصوم"(2461)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(781)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3269)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1750)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 317)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1012)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242)، و (الدارميّ) في "سننه"(1744)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(3/ 65)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 226)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 168)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن المستحبّ لمن دعي إلى طعام، وهو صائم، ولا يريد الإفطار أن يقول: إني صائم.

2 -

(منها): بيان أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصوم والصلاة وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحبّ إخفاؤها إذا لم تكن حاجة.

3 -

(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: فيه حجةُ أنه ليس للمتنفّل إفساد نيّته، وفطر يومه لغير عذر، ولو كان الفطر مباحًا له ابتداءً لم يرشده إلى العذر بصومه. انتهى

(2)

.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 28.

(2)

"إكمال المعلم" 4/ 108.

ص: 344

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله عياض من أنه ليس للمتنفّل الفطر ضعيف، والصحيح أن له أن يفطر؛ لحديث:"الصائم التطوّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر"، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن فيه الحضّ على حسن المعاشرة والصحبة، ومراعاة الألفة، وحسن الاعتذار عند وجود سببه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(31) - (بَابُ مَا يَقُولُهُ الصَّائِمُ إِذَا شُوتمَ، أَوْ قُوتِلَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2703]

(1151) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَن الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رِوَايَةً، قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِن إمْرُؤٌ شَاتَمَهُ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وهو الإسناد الذي سبق قبله في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رِوَايَةً) منصوب بفعل مقدّر؛ أي يرويه روايةً، والجملة في محلّ نصب على الحال؛ أي حال كون أبي هريرة ينقله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نقلًا (قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم ("إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ) - بضم الفاء، وكسرها، ويجوز في ماضيه التثليث، والمراد بالرفث هنا -وهو بفتح الراء والفاء، ثمّ المثلّثة-: الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدّماته، وعلى ذكره مع النساء، أو مطلقًا، وَيحْتَمِل أن يكون

ص: 345

لما هوأعمّ منها، قاله في "الفتح"، وقوله:(وَلَا يَجْهَلْ) أعمّ من "لا يرفُث": أي لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل، كالصياح، والسَّفَه، ونحو ذلك، ولسعيد بن منصور من طريق سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه:"فلا يرفث، ولا يُجادل"، قال القرطبيّ: لا يُفهَم من هذا أن غير يوم الصوم يباح فيه ما ذُكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكّد بالصوم. انتهى.

(فَإِن امْرُؤٌ شَاتَمَهُ، أَوْ قَاتَلَهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فإن سابّه أحدٌ، أو قاتله"، وفي رواية له: "وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه

"، وفي رواية أبي قرّة: "وإن شتمه إنسان، فلا يكلّمه"، ونحوه في رواية عند أحمد، ولسعيد بن منصور: "فإن سابّه أحد، أو ماراه"؛ أي جادله، ولابن خزيمة: "لا تُسابّ، وأنت صائم، فإن سبّك أحد، فقل: إني صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس"

(1)

، وللنسائيّ من حديث عائشة رضي الله عنها:"وإن امرؤ جَهِل عليه، فلا يشتمه، ولا يسبّه"(فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو مرتين، واختلفوا في معناه، فقيل: يقوله بلسانه جهرًا، يسمعه الشاتمَ، والمقاتلَ، فينزجر غالبًا، وقيل: لا يقوله بلسانه، بل يُحَدِّث به نفسه؛ ليمنعها من مشاتمته، ومقاتلته، ومقابلته، ويَصون صومه عن المكدرات، ولو جمع بين الأمرين كان حسنًا، انتهى.

وقال السنديّ رحمه الله: أي فليعتذر عنده من عدم المقابلة بأن حاله لا يساعد المقابلة بمثله، أو فليذكُر في نفسه أنه صائم؛ ليمنعه ذلك عن المقابلة بمثله، قاله السنديّ

(2)

.

وقال في "الفتح": واتفقت الروايات على أنه يقول: "إني صائم"، فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة.

وقد استشكِل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين،

(1)

إسناده صحيح. وعجلان المدنيّ مولى المشمعلّ -بضمّ الميم، وسكون المعجمة، وفتح الميم، وكسر المهملة، وتشديد اللام- لا بأس به، من الرابعة. أفاده في "ت".

(2)

"شرح السنديّ" 4/ 164.

ص: 346

والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رتّب عليها الجواب، خصوصًا المقاتلة.

والجواب عن ذلك أن المراد بالمفاعلة التهيّؤ لها؛ أي إن تهيّأ لمقاتلته، أو مشاتمته، فليقل: إني صائم، فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكفّ عنه، فإن أصرّ دَفَعه بالأخفّ، فالأخفّ، كالصائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله:"قاتله" شاتمه؛ لأن القتل يطلق على اللعن، واللعنُ من جملة السبّ -ويؤيّده ما تقدّم من الألفاظ المختلفة، فإن حاصلها يرجع إلى الشتم- فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله، بل يقتصر على قوله:"إني صائم".

واختُلف في المراد بقوله: "فليقل: إني صائم"، هل يخاطب بها الذي يكلّمه بذلك، أو يقولها في نفسه؟. وبالثاني جزم المتوليّ، ونقله الرافعيّ عن الأئمة، ورجح النوويّ الأول في "الأذكار"، وقال في "شرح المهذّب": كلّ منهما حسن، والقول باللسان أقوى، ولو جمعهما لكان حسنًا، ولهذا التردّد أتي البخاري، في ترجمته، فقال:"باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم؟ ". وقال الرويانيّ: إن كان رمضان فليقل بلسانه، وإن كان غيره في نفسه. وادعى ابن العربيّ أن موضع الخلاف في التطوّع، وأما في الفرض فيقوله بلسانه قطعًا.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه يقوله بلسانه مطلقًا؛ لإطلاق النصّ، فإنه لم يفرّق بين فرض وتطوّع، والله تعالى أعلم.

قال: وأما تكرير قوله: "إني صائم"، فليتأكّد الانزجار منه، أو ممن يخاطبه بذلك.

ونقل الزركشيّ أن المراد بقوله: "فليقل: إني صائم مرتين" يقوله مرّة بقلبه، ومرّة بلسانه، فيستفيد بقوله بقلبه كفّ لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كفّ خصمه عنه.

وتُعقّب بأن القول حقيقة باللسان، وأجيب بأنه لا يمنع المجاز.

[تنبيه]: نهي الصائم عن الرفث، والجهل، والمخاصمة، والمشاتمة، ليس مختصًّا به، بل كل أحد مثله في أصل النهي عن ذلك، لكن الصائم آكد،

ص: 347

قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 2703](1151)، و (البخاريّ) في "الصيام"(1894)، و (أبو داود) في "الصوم"(2363)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 163 و 164) وفي "الكبرى"(3252 و 3253)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1/ 539)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 310)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(4/ 356)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 271)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 442)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 245 و 257 و 465)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 165)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 226 و 227 و 228)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 240)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 205)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 144)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 156) و"الكبير"(10/ 129)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 269 و 270) و"الصغرى"(3/ 442) و"المعرفة"(3/ 414)، وفوائده تأتي في الباب التالي -إن شاء الله تعالى- والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{نْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(32) - (بَابُ فَضْلِ الصِّيَامِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2704]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 28 - 29.

ص: 348

هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، هُوَ لِي، وَأنَا أَجْزِي بِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخِلْفَةُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابد [9](ت 197) عن (72) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، أبو بكر المدنيّ الإمام الحجة الثبت الشهير، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه حجة [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

وقوله: (لَخِلْفَة فم الصائم) -بكسر الخاء المعجمة، وسكون اللام- قال ابن الأثير رحمه الله:"الْخِلْفةُ" بالكسر: تغيّر ريح الفم، وأصلها في النبات أن ينبُت الشيء بعد الشيء؛ لأنها رائحة حدثت بعد الرائحة الأولى، يقال: خَلَف فمه يَخْلُف من باب قَعَد يقعُدُ خِلْفَةً وخُلُوفًا. انتهى

(1)

.

وضبطه النوويّ رحمه الله بضم الخاء، فقال:"قوله: "لَخُلْفة"، وفي رواية: "لَخُلُوف" هو بضمّ الخاء فيهما. انتهى، وتمام شرح الحديث يأتي بعد حديث- إن شاء الله تعالى-.

(1)

"النهاية" 2/ 67.

ص: 349

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2705]

(

) - (حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَب، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، تَالَا: حَدَّثنا الْمُغِيرَةُ، وَهُوَ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَن الْأًعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه "قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ البصريّ، مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9] مات بمكة أول سنة (221)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(الْمُغِيرَةُ) بن عبد الرحمن بن خالد بن حِزَام الْحِزَامِيُّ المدنيّ، لقبه قُصيّ، ثقةٌ له غرائب [7](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي.

وقوله: ("الصِّيَامُ جُنَّةٌ") -بضم الجيم- ومعناه: سُترة، ومانع من الرَّفَث والآثام، ومانع أيضًا من النار، ومنه الْمِجَنّ، وهو التُّرْس، ومنه الْجِنّ؛ لاستتارهم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

، وسيأتي تمام البحث فيه في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2706]

(

) - (وَحَدَّثَنى مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّة، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 30 - 31.

ص: 350

يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَللصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ، مصنّفٌ، تغيّر بعدما عَمِيَ، وكان يتشيّع [9](211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقةٌ فقية فاضل، لكنه يرسل ويدلّس [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(عَطَاءُ) بن أبي رَباح أسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمامٌ، كثير الإرسال [3](ت 114) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.

5 -

(أَبُو صَالِحٍ الزَّيَّاتُ) ذكوان السمّان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له ابن عمر.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عطاء، عن أبي صالح، وهو من رواية الأقران.

4 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.

ص: 351

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ) نسبة إلى بيع الزيت، ويقال له أيضًا: السمّان، وكان أبو صالح يتّجر بالزيت والسمن (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأنَا أَجْزِي بِهِ) قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى، فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يُعْبَد أحد غير الله تعالى به، فلم يُعَظِّم الكفار في عصر من الأعصار معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة، والسجود، والصدقة، والذكر، وغير ذلك، وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء؛ لخفائه، بخلاف الصلاة، والحجّ، والغزو، والصدقة، وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظّ، قاله الخطابيّ، قال: وقيل: إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى، فتقرّب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء، وقيل: معناه أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه، أو تضعيف حسناته، وغيره من العبادات أظهر عز وجل بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها، وقيل: هي إضافة تشريف، كقوله تعالى:{نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13]، مع أن العالم كله لله تعالى. انتهى، وسنعود لاستكمال هذا البحث في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

(وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ)"الجُنّة" -بضمّ الجيم-: السُّتْرَة، ومنه الْمِجَنّ، وهو الترس، زاد سعيد بن منصور، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"جنة من النار"، وللنسائيّ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، ومن حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه بلفظ:"الصوم جنّة من النار، كجنة أحدكم من القتال"، ولأحمد من طريق أبي يونس، عن أبي هريرة:"جنة، وحصن حصين من النار"، وللنسائيّ من حديث أبي عُبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه:"الصوم جنّة، ما لم يَخْرِقها"، زاد الدارميّ:"بالغيبة"

(1)

، وبذلك ترجم له هو، وأبو داود.

(1)

في كون هذه الزيادة من جملة المرفوع نظر لا يخفى، فإن الظاهر أنها من كلام الدارميّ، راجع:"شرحي" على النسائيّ.

ص: 352

و"الجُنّة": -بضمّ الجيم-: الوقاية والستر، وقد تبيّن بهذه الروايات متعلَّق هذا الستر، وأنه "من النار"، وبهذا جزم ابن عبد البرّ.

وأما صاحب "النهاية"، فقال: معنى كونه جُنّةً: أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات.

وقال القرطبيّ: جنة: أي سترة؛ يعني بحسب مشروعيّته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يُفسده، وينقص ثوابه، واليه الإشارة بقوله:"فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث إلخ"، ويصحّ أن يراد أنه سترة بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النفس، واليه الإشارة بقوله:"يَدَعُ شهوته إلخ"، ويصحّ أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب، وتضعيف الحسنات.

وقال عياض في "الإكمال": معناه سترة من الآثام، أو من النار، أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النوويّ، وقال ابن العربيّ: إنما كان الصوم جنة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات.

فالحاصل أنه إذا كفّ نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة.

وفي زيادة أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه إشارة إلى أن الغيبة تضرّ بالصيام، وقد حُكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعيّ أن الغيبة تفطّر الصائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم.

قال الحافظ: وأفرط ابن حزم، فقال: يبطله كلّ معصية من متعمّد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلًا، أو قولًا؛ لعموم قوله:"فلا يرفث، ولا يجهل"، ولقوله في الحديث الآخر:"من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

والجمهور، وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصّوا الفطر بالأكل والشرب والجماع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: دعوى الحافظ على ما قاله ابن حزم بالإفراط غير صحيحة، كيف يقال لمن قال بما اقتضاه ظواهر النصوص: إنه

ص: 353

أفرط؟، بل هذا هو الإفراط نفسه، فما قاله ابن حزم هو الظاهر، وقد تقدّم قريبًا النقل عن عائشة، والأوزاعيّ أن الغيبة تفطر الصائم، فَلِمَ لم يعترض عليهما؟، مع أن الجمهور لا يرون ذلك أيضًا.

والحاصل أن مذهب الجمهور هو الذي يحتاج إلى دليل، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب.

وأشار ابن عبد البرّ إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات، فقال: حسبك بكون الصوم جُنّة من النار فضلًا، وقد أخرج النسائيّ بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله مُرْني بأمر آخذه عنك، قال:"عليك بالصوم، فإنه لا مثل له"، وفي لفظ:"لا عدل له"، والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الجمهور يؤيّده ما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والدارميّ بأسانيد صحيحة، عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"، والله تعالى أعلم.

(فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ)"كان" هنا تامّة، و"يومُ" مرفوع على الفاعليّة، وَيحْتَمِل أن تكون ناقصة، واسمها "الوقت" مقدّرًا، و"يوم" بالنصب خبرها.

(فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ) بضم الفاء، وكسرها، ويجوز في ماضيه التثليث، والمراد بالرفث هنا: الكلام الفاحش، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا.

(وَلَا يَسْخَبْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو هنا بالسين، ويقال: بالسين والصاد، وهو الصياح، وهو بمعنى الرواية الأخرى:"ولا يجهل، ولا يرفُث"، قال القاضي: ورواه الطبريّ: "ولا يسخر" بالراء، قال: ومعناه صحيح؛ لأن السخرية تكون بالقول والفعل، وكله من الجهل، قال النوويّ: وهذه الرواية تصحيف، وإن كان لها معنى. - انتهى.

(1)

انظر: "الفتح" 4/ 594 - 595.

ص: 354

قال الجامع عفا الله عنه: إن أراد النوويّ بالتصحيف أنها غير ثابتة رواية، فمسلّم، وإلا فلا كما قال القاضي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": قوله: "ولا يصخب" كذا للأكثر بالمهملة الساكنة، بعدها خاء معجمة، ولبعضهم: بالسين بدل الصاد، وهو بمعناه، والصخب الخصام والصياح، والمراد بالنهي عن ذلك تاكيده حالة الصوم، وإلا فغير الصائم منهيّ عن ذلك أيضًا. انتهى.

(فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ) وتقدّم بلفظ: "فإن امرؤ شاتمه، أو قاتله"، وفي رواية للبخاريّ من طريق الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: "وإن امرؤ قاتله، أو شاتمه

"، ولأبي قُرّة من طريق سهيل، عن أبيه: "وإن شتمه إنسان، فلا يكلّمه"، ونحوه في رواية هشام، عن أبي هريرة، عند أحمد، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل: "فإن سابّه أحد، أو ماراه"؛ أي جادله، ولابن خزيمة من طريق عجلان مولى الْمُشْمَعِلِّ، عن أبي هريرة: "لا تُسابّ، وأنت صائم، فإن سبّك أحد، فقل: إني صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس"

(1)

، وللنسائيّ من حديث عائشة رضي الله عنها:"وإن امرؤ جهل عليه، فلا يشتمه، ولا يسبّه".

(فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) تقدّم أنه يقول: "إني صائم، إني صائم"، مرتين، وتقدّم البحث فيه هناك مستوفًى.

(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) أقسم على ذلك تأكيدًا، وفيه إثبات صفة اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ) بفتح لام جواب القسم، و"الخُلُوف" -بضم الخاء، واللام، بعدها واو، وآخره فاء-: تغيّر رائحة الفم، يقال: خَلَفَ فم الصائم خُلُوفًا، من باب قَعَدَ: تغيّرت ريحه، وأخلف بالألف لغة، وزاد في "الجمهرة": من صوم، أو مرض. قاله في "المصباح".

وقال القاضي عياض رحمه الله: كونه بضم الخاء واللام هو الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقوله بفتح الخاء. قال الخطّابيّ: وهو خطأ. وحكى

(1)

تقدّم ص 454 أن إسناده صحيح.

ص: 355

القابسيّ الوجهين، وصوّب الضمّ، وبالغ النوويّ في "شرح المهذّب"، فقال: لا يجوز فتح الخاء، واحتجَّ غيره لذلك بأنّ المصادر التي جاءت على فَعُول بفتح أوله قليلة، ذكرها سيبويه وغيره، وليس هذا منها. واتفقوا على أن المراد به تغيّر رائحة فم الصائم بسبب الصيام. كذا في "الفتح".

وقال الباجيّ: الخلوف تغيّر رائحة فم الصائم، وإنما يَحدُث من خُلُوّ المعدة بترك الأكل، ولا يذهب بالسواك؛ لأنها رائحة النفَس الخارج من المعدة، وإنما يذهب بالسواك ما كان في الأسنان من التغيّر.

وقال البَرْقيّ: هو تغيّر طعم الفم، وريحه لتأخّر الطعام. وقال عياض: هو ما يخلف بعد الطعام في الفم من رائحة كريهة؛ لخلوّ المعدة من الطعام

(1)

.

[تنبيه]: "الخلوف" بالضبط المذكور هو المشهور في الرواية، ووقع عند البخاريّ في رواية الكشميهنيّ:"لَخُلُف" بحذف الواو، قال العينيّ: والظاهر أنه جمع خِلْفَة -بالكسر-، وقال ابن الأثير: الخِلْفة -بالكسر- تغيّر ريح الفم، وأصلها في النبات أن ينبت الشيء بعد الشيء؛ لأنها رائحة بعد الرائحة الأولى، وروي في غير البخاريّ بهذه اللفظة، أعني "خِلْفَة". انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الرواية تقدّمت قبل حديث، والله تعالى أعلم.

[فائدة]: قوله: "فم الصائم" فيه ردّ على أبي عليّ الفارسيّ في قوله: إن ثبوت الميم في "الفم" خاصّ بضرورة الشعر

(3)

، فقد ثبت في هذا الحديث في الاختيار، وأما في الشعر فقد ثبت في قوله [من الرجز]:

كَالْحُوتِ لَا يُلْهِيهِ شَيْءٌ يَلْقَمُهُ

يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ

(أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) وفي الرواية السابقة: "لخِلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وقد تقدّم أن "الْخِلَفة" بكسر الخاء، وضبطها النوويّ بضمّها، وهي بمعنى الْخُلُوف.

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 408 - 409.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 9/ 29.

(3)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 95.

ص: 356

[فائدة]: وقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، والشيخ أبي محمد بن عبد السلام -رحمهما الله تعالى- في أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة، أم في الآخرة خاصة؟ فقال أبو محمد: في الآخرة خاصة؛ لتقييده في رواية مسلم بيوم القيامة.

وقال أبو عمرو: هو عامّ في الدنيا والآخرة، واستدل بأشياء كثيرة منها ما جاء في "صحيح ابن حبّان"، قال: باب في كون ذلك يوم القيامة، وباب في كونه في الدنيا، وروى في هذا الباب بإسناده الثابت أنه صلى الله عليه وسلم:"لخلوف فم الصائم حين يُخْلِف أطيب عند الله من ريح المسك"، وروى الإمام الحسن بن سفيان في "مسنده" عن جابر رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا

" قال: "وأما الثانية فإنهم يُمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك"، وروى هذا الحديث الإمامُ الحافظ أبو بكر السمعاني في "أماليه"، وقال: هو حديث حسن، فكل واحد من الحديثين مصرِّح بأنه في وقت وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك، قال: وقد قال العلماء شرقًا وغربًا معنى ما ذكرته في تفسيره، قال الخطابي: طيبه عند الله رضاه به، وثناؤه عليه، وقال ابن عبد البر: معناه: أزكى عند الله تعالى وأقرب إليه، وأرفع عنده من ريح المسك، وقال البغوي في "شرح السنة": معناه الثناء على الصائم، والرضا بفعله، وكذا قال الإمام القدوري إمام الحنفية في الخلاف: معناه أفضل عند الله من الرائحة الطيبة، ومثله قال البوني من المالكية، وكذا قال الإمام أبو عثمان الصابونيّ، وأبو بكر السمعانيّ، وأبو حفص ابن الصفار الشافعيون في "أماليهم" وأبو بكر ابن العربي المالكي، وغيرهم، فهؤلاء أئمة المسلمين شرقًا وغربًا لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد منهم وجهاً بتخصيصه بالآخرة مع أن كتبهم جامعة للوجوه المشهورة والغريبة، ومع أن الرواية التي فيها ذكر يوم القيامة مشهورة في الصحيح بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا، والقبول، ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة، وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء وفيهْ يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبًا لرضا الله

ص: 357

تعالى، حيث يؤمر باجتنابها، واجتلاب الرائحة الطيبة، كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر في رواية لذلك كما خص في قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} [العاديات: 11]، وأطلق في باقي الروايات نظرًا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين، كما سبق تقريره، هذا مختصر ما ذكر الشيخ أبو عمرو رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا يخفى كون ما ذهب إليه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله هو الأرجحَ؛ لظهور حجته، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(وَللصَّائمِ فَرْحَتَانِ) جملة اسميّة من المبتدأ المؤخّر والخبر المقدّم؛ أي للذي قام بحقوق الصوم، فاداه بواجباته، ومستحباته مرّتان من الفَرَح عظيمتان: إحداهما في الدنيا، والأخرى في الأخرى.

وقوله: (يَفْرَحُهُمَا) جملة في محلّ رفع صفة و"فرحتان".

[تنبيه]: المراد بالصائم هو الذي أدّى حقّ الصوم، كما يشير إليه سياق هذا الحديث، قال العلّامة ابن القيّم رحمه الله في "كتابه "الوابل الصيّب": والصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش، وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرَّفَث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يُفسِد صومه، فَيُخرِج كلامَه كله نافعًا صالحًا وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمّها من جالس حامل المسك كذلك، من جالس الصائم انتفع بمجالسته، وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، ففي الحديث الصحيح:"من لم يَدَعْ قول الزور، والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يَدَع طعامه وشرابه"، وفي الحديث:"رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"

(2)

. فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام،

(1)

"المجموع شرح المهذّب" 1/ 279.

(2)

هو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"، رواه ابن ماجه، واللفظ له، والنسائيّ، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاريّ.

ص: 358

وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه، وتفسد ثمرته، فتُصَيِّره بمنزلة من لم يصم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.

وقوله: (اِذَا أفطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ) إشارة إلى الفرحة الأولى؛ يعني أنه يَفْرَح وقتَ إفطاره بالخروج عن عُهدة المأمور، أو بوجدان التوفيق لإتمام الصوم، أو بخلوص الصوم، وسلامته من المفسدات، من الرفث واللغو، أو بما يرجوه من حصول الثواب، أو بالأكل، والشرب بعد الجوع والعطش.

قال القرطبيّ رحمه الله: معناه يفرح بزوال جوعه وعطشه حيث أُبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعيّ، وهو السابق للفهم، وقيل: إن فَرَحَه بفطره إنما هو من حيث إنه تمام صومه، وخاتمة عبادته، وتخفيف من ربّه، ومعونة على مستقبل صومه.

قال الحافظ: ولا مانع من الحمل على ما هو أعمّ مما ذُكر، ففرح كلّ أحد بحسبه؛ لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحه مباحًا، وهو الطبيعيّ، ومنهم من يكون مستحبًّا، وهو من يكون سببه شيئًا مما ذُكر. انتهى، وهو تحقيقٌ حسنٌ.

وقوله: (وَءاِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ،) إشارة إلى الفرحة الثانية؛ يعني أنه يفرح وقت لقاء ربه، بنيل الجزاء، أو الفوز باللقاء، وقيل: هو السرور بقبول صومه، وترتّب الجزاء الوافر عليه، ولا تنافي بين المعاني، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2706/ 32 و 2707 و 2708 و 2709] (

)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1904)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 163 و 166)

(1)

"الوابل الصيب" 1/ 43.

ص: 359

و"الكبرى" 21/ 90 و 91 و 199)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 312)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 273 و 516 و 6/ 244)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 455)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1890 و 1896)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8/ 210)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 227 - 228)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 163 - 164)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 288)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 286)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 273) و"الكبير"(2/ 45 و 20/ 70)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 270)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عظيم فضل الصوم، والحثّ عليه.

2 -

(ومنها): إثبات صفة الكلام لله تعالى، وأنه يتكلم حيث يشاء، ويكلّم من يشاء بما يشاء، وأن كلامه ليس خاصًّا بالقرآن الكريم، وهذا هو الذي يُسمّى بالحديث القدسيّ، وهو كلام الله تعالى على الحقيقة، والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن متعبّد بتلاوته، بخلاف هذا.

3 -

(ومنها): أن قوله: "وأنا أجزي به" فيه بيانٌ لعظم فضله، وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عِظَم قدر الجزاء، وسعة العطاء.

4 -

(ومنها): أن العبادات تتفاوت من حيث الثواب.

5 -

(ومنها): أن ثواب الصوم لا يعلم مقداره إلا الله تعالى.

6 -

(ومنها): أن الصائم له الفرح في الدنيا والآخرة.

7 -

(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى تفضّل على عباده بأن جعل الروائح الكريهة بسبب الصوم أطيب من ريح المسك.

8 -

(ومنها): أن خلوف فم الصائم أعظم من دم الشهيد؛ لأن دم الشهيد شُبِّهَ ريحه بريح المسك، وخلوف فم الصائم وُصف بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أن يكون الصيام أفضل من الشهادة لما لا يخفى

(1)

، والله ذو الفضل

(1)

أفاده في "الفتح" 4/ 598.

ص: 360

العظيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في المعنى المراد بقول الله تعالى: "الصوم لي، وأنا أجزي به"، مع أن الأعمال كلها لله تعالى، وهو الذي يَجزي بها:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال، أوصلها الحافظ رحمه الله في "الفتح" إلى عشرة:

[أحدها]: أن الصوم لا يقع فيه الرياء؛ كما يقع في غيره، حكاه المازريّ، ونقله عياض عن أبي عُبيد، ولفظ أبي عُبيد في "غريبه": قد علمنا أن أعمال البرّ كلها لثه، وهو الذي يَجزي بها، فنرى -والله أعلم- أنه إنما خصّ الصيام؛ لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب، ويؤئد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس في الصيام رياء"، حدّثنيه شبابة، عن عُقيل، عن الزهريّ، فذكره -يعني مرسلًا-. قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم، فإنما هو بالنيّة التي تخفى عن الناس، هذا هو وجه الحديث عندي. انتهى.

وقد روى الحديثَ المذكورَ البيهقيُّ في "الشعب" من طريق عُقيل، وأورده من وجه آخر عن الزهريّ موصولًا، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وإسناده ضعيف، ولفظه:"الصيام لا رياء فيه، قال الله عز وجل: هو لي، وأنا أجزي به". وهذا لو صحّ لكان قاطعًا للنزاع. وقال القرطبيّ: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يَطَّلِعُ عليه بمجرّد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث:"يَدَع شهوته من أجلي".

وقال ابن الجوزيّ: جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلّ أن يَسلَم ما يظهر من شَوْب، بخلاف الصوم، وارتضى هذا الجواب المازريّ، وقرّره القرطبيّ بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم، فإن حال الممسك شبعاً مثلُ حال الممسك تقرّبًا؛ يعني في الصورة الظاهرة.

قال الحافظ: معني قوله: "لا رياء في الصوم" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم، ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله

ص: 361

الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقئة الأعمال، فإن الرياء قد يدخلها بمجرّد فعلها، وقد حاول بعض الأئمّة إلحاق شيء من العبادات البدنيّة بالصوم، فقال: إن الذكر بـ"لا إله إلا الله، يمكن أن لا يدخله الرياء؛ لأنه بحركة اللسان خاصّة، دون غيره من أعضاء الفم، فيمكن الذاكر أن يقولها بمحضر الناس، ولا يشعرون منه بذلك.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن أراد قائل هذا القول إلحاق الذكر المذكور بالصوم من حيث عدم دخول الرياء، فمسلّم، دمان أراد إلحاقه به من حيث الثواب والجزاء، فليس بصحيح، فإن هذا مما لا مدخل للقياس فيه، فلا يلحق بالصوم في الثواب شيء من العبادات، بل يقتصر الوارد عليه، كما هو ظاهر النصّ. والله تعالى أعلم.

[ثانيها]: أن المراد بقوله: "وأنا أجزي به" أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه، وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات، فقد اطلع عليها بعض الناس.

قال القرطبيّ رحمه الله: معناه أن الأعمال قد كُشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام، فإن الله يُثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا السياق رواية الأعمش، عن أبي صالح، حيث قال:"كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، قال الله: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به". أي أجازي عليه جزاء كثيرًا من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. انتهى، و"الصابرون" الصائمون في أكثر الأقوال، وسبق إلى هذا أبو عُبيد في غريبه، فقال: بلغني عن ابن عُيينة أنه قال ذلك، استدلّ له بأن الصوم هو الصبر؛ لأن الصائم يصبر نفسَهُ عن الشهوات، وقد قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . انتهى.

ويشهد له رواية المسيّب بن رافع، عن أبي صالح، عند سمويه:"إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، فإنه لا يدري أحد ما فيه".

ويشهد له أيضًا ما رواه ابن وهب في "جامعه" عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن جدّه زيد مرسلًا، ووصله الطبرانيّ، والبيهقيّ، في "الشعب" من طريق أخرى، عن عمر بن محمد، عن عبد الله بن دينار، عن

ص: 362

ابن عمر، مرفوعًا:"الأعمال عند الله سبع" الحديث. وفيه: "وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله"، ثم قال:"وأما العمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلا الله، فالصيام"، ثم قال القرطبيّ: هذا القول ظاهر الْحُسْن، قال: غير أنه تقدّم، ويأتي في غير ما حديث أن صوم اليوم بعشرة أيام، وهي نصّ في إظهار التضعيف، فبَعُدَ هذا الجوابُ، بل بطل.

قال الحافظ: لا يلزم من الذي ذُكِرَ بطلانه، بل المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك، فلا يعلمه إلا الله تعالى.

ويؤيده أيضًا العرف المستفاد من قوله: "أنا أجزي به "؛ لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه.

(ثالثها): معنى قوله: "الصوم لي"؛ أي إنه أحبّ العبادات إليّ، والمقدم عندي، وقد تقدّم قول ابن عبد البرّ: كفى بقوله: "الصوم لي"، فضلًا للصيام على سائر العبادات، وروى النسائيّ وغيره من حديث أبي أمامة، مرفوعًا:"عليك بالصوم، فإنه لا مثل له "

(1)

، لكن يعكر على هذا الحديثُ الصحيحُ:"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة".

(رابعها): الإضافة إضافة تشريف، وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وإن كانت البيوت كلها لله، قال الزين ابن المنيّر: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف.

(خامسها): أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الربّ جل جلاله، فلما تقرّب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه. وقال القرطبيّ: معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام، فإنه مناسب لصفة من صفات الحقّ، كانه يقول: إن الصائم يتقرّب إليّ بامر هو متعلّق بصفة من صفاتي.

(سادسها): أن المعنى كذلك، لكن بالنسبة إلى الملائكة؛ لأن ذلك من صفاتهم.

(1)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ برقم 43/ 2220.

ص: 363

(سابعها): أنه خالص لله، وليس للعبد فيه حظّ. قاله الخطابيّ. هكذا نقله عياض وغيره، فإن أراد بالحظّ ما يحصل من الثناء عليه لأجل العبادة رجع إلى المعنى الأول، وقد أفصح بذلك ابن الجوزيّ، فقال: المعنى ليس لنفس الصائم فيه حظ، بخلاف غيره، فإن له فيه حظًّا لثناء الناس عليه لعبادته.

(ثامنها): سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يُعبَد به غيرُ الله، بخلاف الصلاة، والصدقة، والطواف، ونحو ذلك.

واعترض على هذا بما يقع من عبّاد النجوم، وأصحاب الهياكل، والاستخدامات، فإنهم يتعبّدون لها بالصيام.

وأجيب بأنهم لا يعتقدون إلهيّة الكواكب، وإنما يعتقدون أنها فعّالة بأنفسها.

قال الحافظ: وهذا الجواب عندي ليس بطائل؛ لأنهم طائفتان: إحداهما كانت تعتقد إلهيّة الكواكب، وهم من كان قبل ظهور الإسلام، واستمرّ منهم من استمرّ على كفره. والأخرى من دخل منهم في الإسلام، واستمرّ على تعظيم الكواكب، وهم الذين أشير إليهم.

(تاسعها): أن جميع العبادات تُوَفَّى منها مظالم العباد إلا الصيام، روى البيهقيّ من طريق إسحادتى بن أيوب بن حسان الواسطيّ، عن أبيه، عن ابن عيينة، قال: إذا كان يوم القيامة يُحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنّة.

قال القرطبيّ: قد كنت استحسنت هذا الجواب إلى أن فكّرت في حديث المقاصّة، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال حيث قال: "المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصدقة، وصيام، ويأتي وقد شَتَم هذا، وضَرَب هذا، وأَكَل مال هذا

" الحديث، وفيه: "فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فماذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخذ من سيّئاتهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار"، فظاهره أن الصيام مشترك مع بقيّة الأعمال في ذلك.

قال الحافظ: إن ثبتٌ قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، فقد يستدلّ له بما رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد،

ص: 364

عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "كلّ العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي، وأنا أجزي به".

وكذا رواه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"، عن شعبة، عن محمد بن زياد، ولفظه:"قال ربّكم تبارك وتعالى: كلّ العمل كفّارة إلا الصوم".

ورواه قاسم بن أصبغ من طريق أخرى، عن شعبة بلفظ:"كلّ ما يعمله ابن آدم كفّارة له إلا الصوم".

وقد أخرجه البخاريّ في "التوحيد" عن آدم، عن شعبة بلفظ:"يرويه عن ربكم، قال: لكلّ عمل كفّارة، والصوم لي، وأنا أجزي به"، فحذف الاستثناء.

وكذا رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، لكن قال:"كلّ العمل كفّارة"، وهذا يخالف رواية آدم؛ لأن معناه أن لكلّ عمل من المعاصي كفّارة من الطاعات، ومعنى رواية غندر: كلّ عمل من الطاعات كفّارة للمعاصي. وقد بيَّن الإسماعيليّ الاختلاف فيه في ذلك على شعبة. وأخرجه من طريق غندر بذكر الاستثناء، فاختلف فيه أيضًا على غندر، والاستثناء المذكور يشهد لما ذهب إليه ابن عيينة، لكنه وإن كان صحيح السند، فإنه يعارضه حديث حذيفة:"فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده يكفّرها الصلاة، والصيام، والصدقة".

(عاشرها): أن الصوم لا يظهر، فتكتبه الحفظة كما تكتب سائر الأعمال، واستند قائله إلى حديث واهٍ جدًّا أورده ابن العربيّ في "المسلسلات"، ولفظه:"قال الله: الإخلاص سرّ من سرّي، استودعته قلب من أُحبّ، لا يطّلع عليه ملك، فيكتبَهُ، ولا شيطان، فيفسدَهُ". ويكفي في ردّ هذا القول الحديثُ الصحيح في كتابة الحسنة لمن همّ بها، وإن لم يعملها.

قال الحافظ: فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة، وقد بلغني أن بعض العلماء بلّغها إلى أكثر من هذا، وهو الطالقانيّ في "حظائر القدس" له، ولم أقف عليه

(1)

.

(1)

ثم وقف عليه بعدُ، فقال في كتاب "اللباس" رقم (5927) ما نصّه: وقد تقدّم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب "الصوم" مع الإشارة إلى ما بيّنت هنا، وذكرت أقوال العلماء في معنى إضافته عز وجل الصيام إليه بقوله:"فإنه لي"، ونقلت عن=

ص: 365

قال الحافظ: وأقرب الأجوبة التي ذكرتها إلى الصواب الأول، والثاني، ويقرب منها الثامن والتاسع.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأقرب هو الجواب الثاني، وهو أنه تعالى منفرد بعلم مقدار ثوابه، وأنه يثيب الصائم بغير حساب، فهذا هو الذي يؤيّده السياق، بل هو كالصريح فيه، حيث قال:"كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، قال الله: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سَلِمَ صيامه من المعاصي قولًا وفعلًا.

ونقل ابن العربيّ عن بعض الزهّاد أنه مخصوص بصيام خواصّ الخواصّ، فقال: إن الصوم على أربعة أنواع:

صيام العوامّ، وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع.

وصيام خواصّ العوامّ، وهو هذا، مع اجتناب المحرّمات، من قول أو فعل.

وصيام الخواصّ، وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته.

وصيام خواصّ الخواصّ، وهو الصوم عن غير الله، فلا فطر لهم إلى يوم القيامة، وهذا مقام عال، لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يَخفى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: بل في كون هذا النوع داخلًا في الحديث المذكور نظر لا يخفى؛ إذ الصوم الشرعيّ هو الذي نزل القرآن ببيان وقته

= أبي الخير الطالقاني أنه أجاب عنه أجوبة كثيرة، نحو الخمسين، وأنني لم أقف عليه، وقد يسر الله تعالى الوقوف على كلامه، وتتئعت ما ذكره متأمّلًا، فلم أجد فيه زيادة على الأجوبة العشرة التي حرّرتها هناك إلا إشارات صوفيّة، وأشياء تكرّرت معنى، وإن تغايرت لفظاً، وغالبها يمكن ردّها إلى ما ذكرته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

ص: 366

المحدّد بما بين تبيّن طلوع الفجر الصادق، إلى غروب الشمس، حيث نصّ عليه في قوله عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] الآية. فحيثما ورد فضل الصوم في النصّ فإنما يُراد به هذا النوع، وأما إعراض المرء عن غير الله تعالى، فليس له وقت محدّد، وأيضًا إن أراد بغير الله ما يصدّ عن ذكر الله تعالى، ويَشغل عن طاعته، فإن هذا الإعراض مطلوب محمود شرعًا، ولكن إطلاق الصوم عليه في عرف الشرع محلّ نظر، وإن أراد عدم الالتفات إلى غير الله تعالى أصلًا، سواء كان ذلك أمرًا دينيًّا أو دنيويًا، بحيث إنه لا يلتفت إلى التكاليف الشرعيّة، فلا يصلّي، ولا يصوم، ولا، ولا، لكونه وصل إلى مراده، فهذا ضلال، وزندقة، وإلحاد، فضلَا عن أن يكون مطلوبًا للشارع الحكيم جلّ وعلا، فتنبّه، فقد زلّ فيه كثير من جهال العبّاد، فاعتبروا هذا مقاماً شريفًا، وحالًا منيفًا، بينما هو الضلال والهلاك.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: اختُلف في معنى كون هذا الخلوف أطيب من ريح المسك بعد الاتفاق على أنه عز وجل منزّه عن استطابة الروائح الطيّبة، واستقذار الروائح الخبيثة؛ فإن ذلك من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء، فتستطيبه، وتنفر من شيء، فتتقذّره

(1)

، على أقوال:

(1)

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما أوقعهم في هذه الأقوال المنتشرة التي لا تنبني على حجة، إلا مجرّد التخيّل، وقياس الغائب بالشاهد، تقليدًا للمتكلّمين الذين هم أذناب الفلاسفة الملحدين، وإلا فلو فكروا في أن الله تعالى له الصفات العلى، لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تشبه ذواتهم، لما تطرّق إلى أذهانهم الإشكال المزعوم أصلًا، كما هو هدي السلف الصالحين الذين كانوا إذا سمعوا مثل هذا الحديث لم يتلجلج في قلوبهم شيء من الخيالات الفاسدة، والأوهام الكاسدة، بل سلّموا، وأثبتوا ما أثبته النصّ، على مراد الله تعالى، والخير كل الخير هو الذي كانوا عليه:

وَكُلّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ

وَكُلُّ شَرِّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

ص: 367

(أحدها): قال المازريّ: هو مجاز، واستعارة؛ لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيّبة منا، فاستعير ذلك في الصوم؛ لتقريبه من الله تعالى. انتهى. فيكون المعنى: إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم؛ أي إنه يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وذكر ابن عبد البرّ نحوه.

(الثاني): أن معناه أن الله تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك؛ كما يقال في المكلوم في سبيل الله: "الريح ريح المسك". حكاه القاضي عياض.

(الثالث): أن المعنى أن صاحب الخُلُوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا، لا سيّما بالإضافة إلى الخلوف، وهما ضدّان. حكاه القاضي عياض أيضًا.

(الرابع): أن المعنى أنه يُعتدّ برائحة الخلوف، وتدّخر على ما هي عليه أكثر مما يعتدّ بريح المسك، وإن كانت عندنا بخلافه. حكاه القاضي عياض أيضًا.

(الخامس): أن المعنى أن الخلوف أكثر ثوابًا من المسك، حيث ندب إليه في الجُمَع والأعياد، ومجالس الحديث والذكر، وسائر مجامع الخير. قاله الدا وديّ، وابن العربيّ، وصاحب "المفهم"، وبعض الشافعيّة، قال النوويّ: إنه الأصحّ.

(السادس): قال صاحب "المفهم": يَحْتَمِل أن يكون ذلك في حقّ الملائكة، يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. انتهى كلام وليّ الدين

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأقوال كلها ساقطة، لا أثارة عليها من علم، بل هي مبنيّة على هواء الهوى الفاسد، والتشبيه المتخيّل الكاسد، وليس فيها عن السلف شيء، بل كلها جاءت عن متأخري الأشاعرة، ومن سار على دَرْبهم، فإن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" لم يأمره ببيان كونه من المتشابه، وأن ظاهره

(1)

"طرح التثريب" 4/ 95 - 96.

ص: 368

غير مراد، بل تأويله كذا وكذا، مع أنه تعالى هو الذي قال له {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية، ولم يتعرّض النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما أخبر بهذا الخبر لبيان الإشكال المزعوم، ولا للجواب عنه، ولا الصحابة الكرام رضي الله عنهم لناس بلغه العرب، وبمقاصد الشريعة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم استشكلوه، ولا سألوا عن تأويله، وهكذا التابعون لهم باحسان رحمهم الله تعالى، سلكوا مسلكهم، أفلا يسعنا ما وسعهم؟.

فيا أيها العقلاء، ويا أيها المنصفون الذين لم تنصبغ عقولهم بخيالات الفلاسفة، وأوهام المتكلمين: إن واجب كل مسلم إذا سمع شيئًا من النصوص، أن يتلقاه بالقبول، ولا يذهب به كلَّ مذهب تتخيّله نفسه، فإن هذه النصوص لم تأت إلا من العليم الحكيم الذي هو أعلم بما يجوز أن يُنسب إليه، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

وخلاصة القول أن ما ثبتٌ نسبته إلى الله تعالى في كتابه العزيز، أو في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيح وجب قبوله، وإجراءه علي المعنى الذي أراده الله تعالى، دون تشبيه ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل.

اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

ثم رأيت العلامة ابن القيّم رحمه الله ذا الموضوع في كتابه "الوابل الصيّب" وفنّد كلام الشراح لهذا الحديث في معنى كونه أطيب عند الله، وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم، والرضا بفعله على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة، فقال: وأيّ ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله، والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته، وكثير من هؤلاء ينشئ للّفظ معنى، ثم يَدّعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النصّ من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عيّنه، أو احتمال اللغة له، ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن مراده من

ص: 369

كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلومًا بوضع اللفظ لذلك المعنى، أو عرف الشارع صلى الله عليه وسلم وعادته المطردة، أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادة باطلة.

ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثّل النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا، وأعظم ونسبة استطابة ذلك إليه عز وجل كنسبة سائر صفاته، وأفعاله إليه، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبة وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته عز وجل لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم، وأفعاله لا تشبه أفعالهم، وهو عز وجل يستطيب الكلم الطيب، فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا.

ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله الرضا، فإن قال: رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا: استطابة ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألةالسابعة): [إن قيل]: ما الحكمة في تحريم إزالة دم الشهيد مع أن رائحته مساوية لرائحة المسك، وعدمِ تحريم إزالة الخُلُوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟.

[قلت]: ذكر الإمام جمال الدين الإسنويّ رحمه الله في "المهمّات" خمسة أوجه من الأجوبة:

(أحدها): أن دم الشهيد حجة له على خصمه، وليس للصائم خصم، يَحتجّ عليه بالخلوف، إنما هو شاهد له بالصيام، وذلك محفوظ عند الله، وملائكته.

(ثانيها): أن دم الشهيد حق له، فلا يُزال إلا بإذنه، وقد انقطع ذلك بموته، وقد كان له غسله في حياته، والخلوف حقّ للصائم، فلا حرج عليه في ترك حقّه، وإزالة ما يشهد له بالفضل.

(1)

"الوابل الصيّب"45.

ص: 370

(ثالثها): أن كون رائحة دم الشهيد كرائحة المسك أمر حقيقيّ، وكون رائحة الخلوف أطيب من رائحة المسك أمر حكميّ، له تأويل يصرفه عن ظاهره في أكثر الأقوال المتقدّم بيانها.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: التأويلات التي تقدّم بيانها غير صحيحة، كما تقدم تحقيق ذلك، فلا تغفل.

(رابعها): أنه ورد النهي عن إزالة دم الشهيد مع وجوب إزالة الدم

(1)

، ومع وجوب غسل الميت، فما اغتفر ترك هذين الواجبين إلا لتحريم إزالته، فلذلك قلنا بتحريمه، ولم يَرِد ذلك في السواك، وإنما قيل بالاستنباط.

(خمامسها): أنه عارض ذلك في خلوف الصائم بقاء الحياة، وهي محلّ التكليف، والعبادات، وملاقاة البشر، فامكن أن يُزال الخلوف لما عارضه، بخلاف دم الشهيد، فإنه بخلاف ذلك. انتهى منقولًا من "طرح التثريب" بتصرف

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الجواب الأول عندي هو الأقرب؛ لظهور حجته، فتامل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2707]

(

) - (وَحَدثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَن الْأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشجُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ: إِلَّا الصَّوْمَ،

(1)

في وجوب إزالة الدم غير دم الحيض نظر لا يخفى؛ إذ لا دليل على وجوبه، وقد تقدّم تحقيق ذلك في كتاب "الطهارة"، فتفطّن.

(2)

راجع: "طرح التثريب" 4/ 101، فإنه منقول عنه بتصرّف.

ص: 371

فَإِنَّهُ لِي، وَأنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَة عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَه) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.

3 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(الْأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل بابين.

5 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

6 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.

7 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَبجُّ) عبد الله بن سعيد، تقدّم قبل بابين.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَمامَهُ مِنْ أَجْلِي) تعليل لاختصاصه بعظيم الجزاء، وعطف: دزطعامه " من عطف الخاصّ على العامّ، فإن الشهوة تشمل الطعام وغيره، وفي رواية ابن خزيمة رقم -1897 - من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه: "يدع الطعام، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذّته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي"، وعند الحافظ سمويه في "فوائده" من طريق المسيّب بن رافع، عن أبي صالح: "يترك شهوته، من الطعام، والشراب، والجماع من أجلي".

ووقع بأداة الحصر في رواية أحمد، ولفظه:"يقول الله عز وجل: إنما يذر شهوته إلخ"، وكذا عند سعيد بن منصور، ولفظه:"يقول الله عز وجل: كلّ عمل ابن آدم هو له، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، وإنما يذر ابن آدم شهوته، وطعامه من أجلي" الحديث.

قال في "الفتح": وقد يُفْهَم من الإتيان بصيغة الحصر في قوله: "إنما يذر إلخ" التنبيه على الجهة التي يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاصّ به،

ص: 372

حتى أَبُو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتُّخَمَة لا يحصل للصائم الفضل المذكور، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القويّ الذي يدور معه الفعل وجودًا وعدمًا، ولا شكّ أن من لم يَعْرِض في خاطره شهوة شيء من الأشياء طول نهاره إلى أن أفطر ليس هو في الفضل كمن عرض له ذلك، فجاهد نفسه في تركه.

والحديث متّفقٌ عليه، وتمام شرح الحديث، وبيان مسائله تقدّمت، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج والله رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2708]

(

) - (وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنها قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِن اللهَ يَقُولُ: إِن الصَّوْمَ لِي، وَأنا أَجْزِي بِهِ، إِن لِلصَّائِمِ فَرْحَتَيْنِ: إِذَا أفطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ اللهَ فَرِحَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غزوان الضّبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

2 -

(أَبُو سِنَانٍ) الشيبانيّ الأكبر، ضِرَار بن مُرّة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 132)(بخ م مد ت س) تقدم في "الجنائز" 34/ 2260.

[تنبيه]: ولهم أبو سنان الشيباني الأصغر، واسمه سعيد بن سنان الْبُرْجميّ الكوفيّ، نزيل الريّ، تقدّم في "المساجد ومواضع الصلاة" 18/ 1267.

3 -

(أَبُو سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدريّ رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِذَا أفطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ اللهَ فَرِحَ) قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه، وتذكّر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته، وسلامتها من

ص: 373

المفسدات، وما يرجوه من ثوابها، ذكره النوويّ رحمه الله

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المئصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2709]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ، وَهُوَ أَبُو سِنَانٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالَ: (وَقَالَ: إِذَا لَقِيَ اللهَ، فَجَزَاهُ فَرِحَ").

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الْهُذَلِيُّ) أبو يعقوب البصريّ، صدوق [10].

رَوَى عن حماد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة، وعبد العزيز بن مسلم، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود في "فضائل الأنصار"، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وحرب الكرمانيّ، وموسى بن هارون الحمّال، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ليس به بأسٌ، وقال ابن قانع في "الوفيات": صالحٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قيل: مات سنة (229)، وقيل: سنة (223).

تفرّد به المصنّف، وأبو داود في "فضائل الأنصار"، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، برقم (1151) و (2472) و (2873) و (2967).

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِم) الْقَسْمَليّ، أبو زيد المروزيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ عابدٌ ربّما وَهِمَ [7](ت 167)(خ م د س ت) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 2/ 1183.

و"ضِرارُ بن مرّة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز بن مسلم، عن ضِرَار بن مُرّة هذه لم أجد من

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 31 - 32.

ص: 374

ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2710]

(1152) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَهُوَ الْقَطَوَانِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَني أبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرَّهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخلْ مِنْهُ أَحَدٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْقَطَوَانِيُّ) البَجَليّ مولاهم، أبو الْهَيثم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10](ت 213) أو بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

وقوله: (الْقَطَوَانيُّ) هو بفتح القاف والطاء، قال البخاريّ، والكلاباذيّ: معناه: الْبَقّال، كأنهم نسبوه إلى بيع القطنية، قال القاضي: وقال الباجيّ: هي قرية على باب الكوفة، قال: وقاله أبو ذر أيضًا، وفي "تاريخ البخاريّ": إن قَطَوَان موضع، ذكره النوويّ

(1)

.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، أبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

3 -

(أَبُو حَازِم) سلمة بن دينار الأعرج الأثور التّمّار القاصّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

4 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العبّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (88) وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 32.

ص: 375

وشيخه ذكر قبل حديث.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وشيخ شيخه، كما أسلفته آنفًا.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وشيخ شيخه، فكوفيّان.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن فِي الْجَنَّةِ بَابًا) قال الزين ابن المنيّر: إنما قال: "في الجنّة"، ولم يقل: "للجنة"؛ ليشعر بأن في الباب المذكور من النعيم، والراحة ما في الجنة، فيكون أبلغ في التشوّق إليه. انتهى.

قال الحافظ: قلت: وقد جاء الحديث من وجه آخر بلفظ: "إن للجنّة ثمانية أبواب، منها باب يسمّى الريّان، لا يدخله إلا الصائمون"، أخرجه هكذا الجوزقيّ من طريق أبي غسّان، عن أبي حازم -أي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو للبخاريّ من هذا الوجه في "بدء الخلق"، لكن قال:"في الجنّة ثمانية أبواب". انتهى

(1)

.

(يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ) -بفتح الراء، وتشديد التحتانيّة، وزان فَعْلَان- من الرَّيّ، اسم عَلَمٌ على باب من أبواب الجنة، يختصّ بالدخول منه الصائمون، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتقّ من الرّيّ، وهو مناسب لحال الصائمين، واكتَفَى بذكر الريّ عن الشِّبَع؛ لأنه يدلّ عليه من حيث إنه يستلزمه، أو لكونه أشقّ على الصائم من الجوع، أفاده في "الفتح"

(2)

. (يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ) بالبناء للمفعول، من

(1)

"الفتح" 4/ 60.

(2)

المصدر المذكور.

ص: 376

الإغلاق، قال الجوهريّ: أَغلَقت الباب، فهو مُغْلَق، والاسم: الغَلْق، ويقال: غَلَقتُ البابَ غَلْقًا. انتهى.

وقال الفيّوميّ: وأغلقتُ البابَ بالألف: أوثقته بالْغَلَق -بفتحتين

(1)

، وغلّقته بالتشديد مبالغة وتكثيرٌ، وانغلق ضدّ انفتح، وغَلَقته، من باب ضرب لغةٌ قليلةٌ، حكاها ابن دُريد عن أبي زيد. انتهى

(2)

.

وقوله أيضًا: (فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ) قال النوويّ رحمه الله هكذا وقع في بعض الأصول: "فإذا دخل آخرهم"، وفي بعضها:"فإذا دخل أولهم"، قال القاضي وغيره: وهو وَهَمٌ، والصواب:"آخرهم". انتهى.

وقال في "الفتح": وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده"، وأبو نعيم في "مستخرجيه" معًا من طريقه، وكذا أخرجه الإسماعيليّ، والْجَوْزقيّ من طرُق، عن خالد بن مخلد، وكذا أخرجه النسائيّ، وابن خزيمة، من طريق سعيد بن عبد الرحمن وغيره، وزاد فيه:"من دَخَلَ شَرِب، ومن شَرِب لا يَظْمَأ أبدًا"، وللترمذيّ، من طريق هشام بن سعد، عن أبي حازم نحوه، وزاد:"ومن دخله لم يظما أبدًا"، ونحوه للنسائيّ، والإسماعيليّ، من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، لكنه وقفه، وهو مرفوع قطعًا؛ لأن مثله لا مجال للرأي فيه. انتهى

(3)

.

وقوله: (فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ") القياس "فلا يدخل "؛ لأن "لم يدخل" للماضي، ولكنه عَطْفٌ على قوله:"لا يدخل"، فيكون في حكم المستقبل. انتهى

(4)

.

وإنما أعاده بعد قوله: "لا يدخل معهم غيرهم" تأكيدًا.

وقال الحافظ زين الدين العراقيّ رحمه الله: وقد استَشْكَل بعضهم الجمع بين حديث باب الريان، وبين الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من حديث

(1)

"الْغَلَقُ " بفتحتين: المفتاح، جمعه أَغلاق بالفتح، مثلُ سعبب وأسباب، أفاده في "المصباح" 2/ 451.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 451.

(3)

"الفتح" 5/ 226.

(4)

"عمدة القاري" 10/ 263.

ص: 377

عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد، يتوضأ، فيبلغ، أو يسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، إلَّا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء".

قالوا: فقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يدخل من أيها شاء، وقد لا يكون فاعل هذا الفعل من أهل الصيام، بأن لا يبلغ وقت الصيام الواجب، أو لا يتطوع بالصيام.

والجواب عنه من وجهين:

[أحدهما]: أنه يُصْرَف عن أن يشاء باب الصيام، فلا يشاء الدخول منه، ويدخل من أيّ باب شاء غير الصيام، فيكون قد دخل من الباب الذي شاءه.

[والثاني]: أن حديث عمر رضي الله عنه قد اختَلَفت ألفاظه، فعند الترمذيّ:"فتحت له ثمانية أبواب من الجنة، يدخل من أيها شاء"، فهذه الرواية تدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية، وقد لا يكون باب الصيام من هذه الثمانية، ولا تعارض حينئذ. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [32/ 2710](1152)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1896) و"بدء الخلق"(3257)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(765)، و (النسائيّ) في "الصيام"(2236 و 2237)، و"الكبرى"(2544 و 2545)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1640)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 5 - 6) وفي "مسنده"(1/ 88)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 333 و 335)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1902)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3420 و 3421)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 165)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 229)،

(1)

راجع: "عمدة القاري" 10/ 263.

ص: 378

و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 192) و"الكبير"(6/ 134 و 152 و 184 و 192)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 525)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 168)، و ((البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 305)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1708 و 1709)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عظمة فضل الصيام.

2 -

(ومنها): بيان كرامة الصائمين، حيث خصهم الله تعالى على سائر الناس بدخولهم من باب الريّان.

3 -

(ومنها): إثبات أبواب للجنّة، ومن تلك الأبواب باب الريّان مخصوص بالصائمين، فإذا دخلوا منه أُغلق، فلم يدخل منه أحد غيرهم.

4 -

(ومنها): فضل باب الريّان على غيره من الأبواب، حيث إن من دخله شَرِب عند الدخول، ثم لم يظمأ بعده أبدًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(33) - (بَابُ فَضْلِ الصِّيَامِ في سَبِيلِ اللهِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2711]

(1153) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَن ابْنِ الْهَادِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَن النُّعْمَانِ بْنِ أَبي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ الله، إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَن النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ) التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

22 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الفهميّ، أبو الحارث المصريّ،

ص: 379

ثقةٌ ثبتٌ فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(سَهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان، أبو يزيد المدنيّ، ثقةٌ تغيّر بآخره [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

5 -

(النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ) الزُّرقيّ الأنصاريّ، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [4](خ م ت س ق) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 484.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه، تقدّم في السند الماضي.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، وابن ماجه، والنعمان بن أبي عيّاش، فما أخرج له أبو داود.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن الهاد، والباقيان مصريّان.

4 -

(ومنها): أن رواية ابن الهاد عن سُهيل من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن ابن الهاد من الطبقة الخامسة، وسهيلًا من السادسة.

شرح الحديث:

(عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ) اسم أبيه ذكوان السمّان (عَن النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ) بتشديد التحتانيّة، آخره معجمة.

[تنبيه]: قد اختلف في إسناد هذا الحديث على سهيل، فرواه الأكثرون عنه هكذا، وخالفهم شعبة، فرواه عنه عن صفوان بن يزيد، عن أبي سعيد الخدريّ، أخرجه النسائيّ، قال الحافظ رحمه الله: ولعل لسهيل فيه شيخين، وأخرجه النسائي أيضًا من طريق أبي معاوية، عن سهيل، عن المقبريّ، عن أبي سعيد، ووَهِمَ فيه أبو معاوية، وإنما يرويه المقبريّ، عن أبي هريرة، لا عن أبي سعيد، وإنما رواه سهيل من حديث أبي هريرة، عن أبيه، عنه، لا عن

ص: 380

المقبريّ، كذلك أخرجه النسائيّ من طريق سعيد بن عبد الرحمن، عن سهيل، عن أبيه، وكذا أخرجه أحمد، عن أنس بن عياض، عن سهيل، قاله في "الفتح"

(1)

.

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا) نافية، وهي تعمل عمل "ليس" عند الحجازيين

(2)

، كما قال في "الخلاصة":

إِعْمَالَ "لَيْسَ" أُعْمِلَتْ "مَا" دُونَ "إِنْ"

مَعَ بَقَا النَّفْيِ وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ

وَسَبْقَ حَرْفِ جَرٍّ اوْ ظَرْفٍ كـ"مَا

بِي أَنْتَ مَعْنِيًّا" أَجَازَ الْعُلَمَا

(مِنْ) زائدة كما قال في "الخلاصة" أيضًا:

وَزِيدَ فِي نَفْيِ وَشِبْهِهِ فَجَرْ

نَكِرَةً كـ"مَا لِبَاغِ مِنْ مَفَرْ"

وقوله: (عَبْدٍ) اسم "ما" مرفوع بضمّة مقدّرة؛ لاشتغال المحلّ بحركة حرف الجرّ الزائد، وخبرها "إلا باعد الله

إلخ"، وَيحْتَمِل أن تكون "ما" تميميّة، فلا عمل لها، ويكون ما بعدها مبتدأ وخبرًا.

وقوله: (يَصُومُ يَوْمًا) جملة في محلّ النعت لـ"عبد"(فِي سَبِيلِ الله) أي في الجهاد، أو في أعمّ منه، قال في "النهاية": السبيل في الأصل الطريق، ويذكّر ويؤنّث، والتأنيث فيها أغلب، وسبيلُ الله عامّ يقع على كلّ عمل خالص لله، سُلِك به طريقُ التقرّب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل، وأنواع الطاعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال، كأنه مقصور عليه. انتهى

(3)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: إذا أُطلق ذِكر سبيل الله، فالمراد به الجهاد، وقال القرطبيّ رحمه الله: سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصدًا وجه الله،

(1)

"الفتح" 6/ 48 كتاب "الجهاد" رقم (2840).

(2)

[تنبيه]: إعمال "ما" مع انتقاض خبرها بـ "إلا" مذهب بعض النحويين، وذهب إليه ابن مالك في "التسهيل" وغيره، لوروده في قول الشاعر:

وَمَا الدَّهْرُ إِلا مَنْجَنُونًا بِأهْلِهِ

وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إِلَّا مُعَذَّبَا

وغير ذلك، ومنعه الجمهور، راجع: ما كتبه شرّاح "الخلاصة" في هذا الباب.

(3)

"النهاية" 2/ 338 - 339.

ص: 381

قال الحافظ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون ما هو أعمّ من ذلك، ثم وجدته في "فوائد أبي الطاهر الذُّهْليّ" من طريق عبد الله بن عبد العزيز الليثيّ، عن المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: "ما من مرابط يُرابط في سبيل الله، فيصوم يومًا في سبيل الله

" الحديث.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حُمِل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، قال: ويَحْتَمِل أن يراد بسبيل الله طاعته كيف كانت، والأول أقرب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن دقيق العيد: رحمه الله من ترجيح كون المراد بسبيل الله هو الجهاد هو الظاهر عندي، والله تعالى أعلم.

قال: ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى؛ لأن الصائم يَضْعُف عن اللقاء؛ لأن الفضل المذكور محمول على من لم يَخْشَ ضعفًا، ولا سيما من اعتاد به، فصار ذلك من الأمور النسبيّة، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد، فالصوم في حقّه أفضل؛ ليجمع بين الفضيلتين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد سبق حكم الصيام في السفر، واختلاف أهل العلم فيه، فراجعه في بابه.

(إِلَّا بَاعَدَ) أي أبعد، فليست المفاعلة مرادةً (اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ) أي بسبب صوم ذلك اليوم (وَجْهَه) أي ذاته، وإنما عبّر به؛ لأن الإنسان أول ما يواجه الشيء يكون بوجهه، فإذا أبعد الله وجهه عن مواجهة النار، فبالأحرى إبعاد سائر أجزائه عنها، والله تعالى أعلم

(عَن النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا") قال في "النهاية": أن نحّاه، وباعده عن النار مسافةً تُقطَع في سبعين سنة؛ لأنه كلما مرّ خريف، فقد انقضت سنة.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "باعد الله وجهه عن النار

إلخ": معناه المباعدة عن النار، والمعافاة منها، والخريف السنة، والمراد سبعين سنةً. انتهى

(2)

.

وقال التُّوربشتيّ: كانت العرب تؤرّخ أعوامها بالخريف؛ لأنه كان أوان

(1)

"الفتح" 6/ 133 - 134.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 33.

ص: 382

جِدَادهم، وقِطَافهم، وإدراك غلّاتهم، وكان الأمر على ذلك حتى أرّخ عمر رضي الله عنه بسنة الهجرة. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": الخريف زمان معلوم من السنة، والمراد هنا العامُ، وتخصيص الخريف بالذكر، دون بقية الفصول -الصيف، والشتاء، والربيع- لأن الخريف أزكى الفصول؛ لكونه تُجنَى فيه الثمار، ونقل الفاكهيّ أن الخريف تجتمع فيه الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، دون غيره، ورُدّ بأن الربيع كذلك، قال القرطبيّ: وَرَدَ ذكرُ السبعين لإرادة التكثير كثيرًا. انتهى.

ويؤيّده -كما قال الحافظ- ما رواه النسائيّ من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وما رواه الطبرانيّ عن عمرو بن عَبَسَة، وأبو يعلى عن معاذ بن أنس، فقالوا جميعًا في رواياتهم:"مائة عام"

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما تقدّم أن قوله: "سبعين خريفًا" ليس للتحديد، وإنما هو للتكثير بدليل روايته بلفظ:"مائة عام".

والحاصل أنه لا تعارض بين رواية "سبعين"، ورواية "مائة"؛ لكون المراد التكثير، لا التحديد.

ويُحتَمَل أن الله تعالى وعد الصائم في سبيل الله بإبعاد جهنّم عنه مسيرة سبعين خريفاً، ثم تفضّل الله تعالى بالزيادة على ذلك، حتى كان مسيرة مائة عام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 2711 و 2712 و 2713](1153)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2840)، و (الترمذيّ) في "كتاب فضائل الجهاد"(1623)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 173 - 174)، و (ابن ماجه) في

(1)

انظر: "زهر الربى" 4/ 172.

(2)

المصدر السابق.

ص: 383

"الصوم"(1717)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 302)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 26 و 59)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 267)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2112 و 2113)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 192)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 1229، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 448 و 458)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 301)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 296) و (9/ 173)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضيلة الصيام في سبيل الله.

2 -

(ومنها): جواز الصوم في السفر، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يُفَوِّت به حقًّا، ولا يَختلّ به قتاله، ولا غيره من مهمات غزوة؛ وإنما حملناه على هذا؛ جمعًا بينه وبين حديث:"ليس من البرّ الصيام في السفر"، متّفقٌ عليه، وحديث:"أولئك العُصاة، أولئك العصاة"، رواه مسلم.

3 -

(ومنها): بيان سعة فضل الله تعالى ورحمته، حيث يُعطي على العمل قليل الأجر الجزيل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2712]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) هو: ابن محمد المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كُتُب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

و"سُهيل" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية الدراوريّ، عن سُهيل هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 384

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2713]

(

) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْيعَبْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَيسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، أنَّهُمَا سَمِعَا النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ، بَاعَدَ اللهُ وَجْهَهُ عَن النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الْكَوْسج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 260) أو بعدها تقدم في "المقدمة" 6/ 99.

3 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

5 -

(يَحْيى بْن سَعِيدٍ) الأنصاريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(34) - (بَابُ جَوَازِ صَوْمِ النَّافِلَةِ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ قَبْلَ الزوَالِ، وَجَوَازِ فِطْرِ الصَّائِمِ نَفْلًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ).

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2714]

(1154) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِل فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيى بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ،

ص: 385

عَنْ عَائِشَةَ أمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ: "يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٍ؟

(1)

"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيءٌ، قَالَ: "فَإِنِّي صَائِمٌ"، قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّة، أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَتْ لنَا هَدِيَّة، أَوْ جَاءنَا زَوْرٌ، وَقَدْ خَبَأَتُ لَكَ شَيْئًا، قَالَ: "مَا هُوَ؟ " قُلْتُ: حَيْسٌ، قَالَ: "هَاتِيهِ"، فَجِئْتُ بِهِ، فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ: "قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا"، قَالَ طَلْحَةُ: فَحَدَّثْتُ مُجَاهِدًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: ذَاكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) الْجَحْدريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8](ت 176) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

3 -

(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ الله) هو: طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ يُخطئ [6](148)(م 4) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.

4 -

(عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيميّة، أم عمران المدنيّة، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر، كانت فائقة الجمال، وكانت ثقةً حجّة [3].

رَوَت عن خالتها عائشة، وعنها ابنها طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن، وحبيب بن أبي عمرو، وابن أخيها طلحة بن يحيى بن طلحة، وابن أخيها الآخر معاوية بن إسحاق، وابن أخيها موسى بن عبيد الله بن إسحاق، والمنهال بن عمرو، وفضيل بن عمرو، وعطاء بن أبي رَبَاح وعمر بن سعيد، وغيرهم.

قال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقةٌ حجةٌ، وقال العجليّ: مدنيةٌ تابعيةٌ ثقةٌ، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: حَدَّث عنها الناس؛ لفضلها وأدبها، وذكرها ابن حبان في "الثقات".

(1)

وفي نسخة: "هل عندكم من شيء؟ ".

ص: 386

أخرج لها الجماعة، ولها في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1153) وأعاده بعده، و (2452) و (2662) وأعاده بعده.

5 -

(عَائِشَةُ أمُّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها، تقدّمت قبل ثلاثة أبواب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنف رحمه الله.

2 -

"ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فعلّق له البخاريّ، وما أخرج له ابن ماجه، وطلحة ما أخرج له البخاريّ.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وشيخ شيخه فبصريّان، وطلحة مدنيّ، ثم كوفيّ.

4 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالتحديث.

5 -

(ومنها): أن فيه عائشة رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روت (2210) والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها) أنها (قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْم) أي يومًا من الأيّام، أو ساعةَ يوم، أو أوقاتَ يوم، أو في نهار، قاله في "المرقاة"

(1)

. ("يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٍ؟ ") وفي نسخة: "من شيء"؛ أي مما يُؤكل من الطعام، وفي رواية لأبي داود:"هل عندكم طعام؟ "، وفي رواية للنسائيّ:"هل عندكم غداء؟ "، وفي رواية للترمذيّ:"هل عندك غداءٌ؟ " و"الْغَداء" -بفتح الغين المعجمة، والدال المهملة- هو ما يؤكل قبل الزوال (قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عِنْدَنَا شَيءٌ، قَالَ:"فَإِنِّي صَائِمٌ؟ ") وفي الرواية التالية: "فإني إذن صائم"، وفي رواية للنسائيّ:"إذن أصوم"، وهذا يدلّ على جواز نية النفل في النهار، وبه قال الأكثرون، وقال مالك، وداود: يجب التبييت كما في الفرض؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يُجْمِع الصيام من الليل"، والجواب أنه عامّ خصٌ منه صوم التطوّع؛ للأدلّة الواردة في ذلك، كحديث الباب وغيره، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 499.

ص: 387

وقال النوويّ رحمه الله: وفيه دليل لمذهب الجمهور، أن صوم النافلة يجوز بنيّة في النهار قبل زوال الشمس، ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم: هل عندكم شيءٌ؟؛ لكونه ضَعُف عن الصوم، وكان نواه من الليل، فأراد الفطر للضعف، وهذا تأويل فاسد، وتكلف بعيد. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّة) بتشديد التحتانيّة: فعيلة بمعنى مفعولة؛ أي مُهداةٌ، قال الفيّوميّ رحمه الله يقال: أهديتُ للرجل كذا بالألف: بَعَثتُ به إليه إكرامًا، فهو هدِيّة بالتثقيل لا غيرُ. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": الْهَديّةُ كغنيّة: ما أُتْحِفَ به، جمعه هَدَايَا، وهَدَاوَى، وتُكسر الواو، وهَدَاوٍ، وأهدى الْهَدِيّةَ، وهَدَّاهَا. انتهى

(3)

.

(أَوْ) للشك من الراوي، أي أو قالت:(جَاءَنَا زَوْرٌ) -بفتح الزاي، وسكون الواو، آخره راء-: الزُّوَّار، ويقع الزَّوْر على الواحد، والجماعة القليلة، والكثيرة، قاله النوويّ رحمه الله

(4)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: زار زيارةً وزَوْرًا: قصَدَه، فهو زائر، وزَوْر، وقوم زَوْرٌ، وزُوّارٌ، مثل سافر، وسَفْرٍ، وسُفارٍ، ونسوةٌ زَوْرٌ أيضًا، وزُوَّارٌ، وزائراتٌ، والْمَزَارُ يكون مصدرًا، وموضعَ الزيارة، والزيارةُ في الْعُرف: قَصْدُ المزور؛ إكرامًا له، واستئناسًا به. انتهى

(5)

.

(قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي من المكان الذي خرج إليه (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّة، أَوْ) للشكّ من الراوي (جَاءَنَا زَوْرٌ، وَقَدْ خَبَأتُ لَكَ شَيْئًا) أي أفردت لك بعضه، وتركته مستورًا عن أعين الناس (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا هُوَ؟ ") "ما" استفهاميّة: أي أَيُّ شيء هو، أي المخبوء لي (قُلْتُ: حَيْسٌ) -بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتانيّة، آخره سين مهملة-: شيءٌ يُتّخذ من تمر، وسَمْن، وأَقِطٍ، وقال القاري رحمه الله: هو تمر مخلوطٌ بسمن، وأَقِطٍ، وقيل:

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 35.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 636.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 403.

(4)

"شرح النوويّ" 8/ 34.

(5)

"المصباح المنير" 1/ 260.

ص: 388

طعامٌ يُتَّخَذ من الزُّبْد، والتمر، والأقط، وقد يُبْدَل الأقط بالدقيق، والزبدُ بالسمن، وقد يبدل السمن بالزيت. انتهى.

وقال الفيّوميّ: تمر يُنزَع نواه، ويُدَقّ مع أَقِطٍ، ويُعجنان بالسمن، ثم يُدْلَكُ باليد حتى يبقى كالثريد، وربّما جُعل معه سَوِيقٌ، وهو مصدرٌ في الأصل، يقال: حاسَ الرجلُ حَيْساً، من باب باع: إذا اتخذ ذلك. انتهى.

وقال محمد المرتضى رحمه الله في "شرح القاموس": "الحَيْس": الخَلْطُ، ومنه سُمِّيَ الحَيْسُ هو تَمْرٌ يُخلَطُ بسَمنٍ، وأقِطٍ، فيُعجَن، وفي "اللِّسان": هو التَّمرُ البَرْنيُّ، والأَقِطُ، يُدَقَّانِ، ويُعجَنانِ بالسَّمنِ عَجْنًا شديدًا، ثم يُندَرُ النَّوى عنه نواةً نَواةً، ثمّ يُسَوَّى كالثَّريدِ، وهي الوَطيئَةُ، وربّما جُعِلَ فيه سَويقٌ، أو فَتيتٌ عِوَضَ الأَقِط، قال: وقد حاسَهُ يَحِيسُه اتَّخذَهُ، قال الراجز:

التَّمرُ والسَّمنُ معًا ثمَّ الأَقِطْ

الحَيْس إلّا أنّه لم يَخْتَلِطْ

وقال هُنَيُّ بن أَحْمَرَ الكنانيُّ، وقيل: هو لزَرافَةَ الباهِليِّ [من الكامل]:

هل في القَضيَّةِ أنْ إذا اسْتَغنَيْتُمُ

وأَمِنْتُمُ فأنا البَعيدُ الأَجْنَبُ

وإذا الكَتائبُ بالشَّدائدِ مَرةً

حَجَرَتْكُمُ فأنا الحبيبُ الأَقربُ

ولجُندَب سَهْلُ البلادِ وعَذْبُها

وليَ المِلاحُ وحَزْنُهُنَّ المُجدِبُ

وإذا تكون كَريهةٌ أُدعى لها

وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدعى جُنْدَبُ

عَجَبَاً لتلكَ قَضِيَّةً وإقامَتي

فيكم على تلكَ القضيَّةِ أَعْجَبُ

هذا لَعَمْرُكم الصَّغارُ بعَيْنهِ

لا أمَّ لي إنْ كان ذاكَ ولا أَبُ

انتهى ما قاله المرتضى رحمه الله باختصار

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَاتِيهِ") أي أحضري عندي ذلك الحيس حتى آكل منه.

[تنبيه]: قال السمين الحلبيّ رحمه الله اختُلف في "هات" على ثلاثة أقوال:

[أحدها]: أنه فعلٌ، وهذا هو الصحيح؛ لاتصاله بالضمائر المرفوعة البارزة، نحو هاتوا، وهاتي، وهاتيا، وهاتين.

[الثاني]: أنه اسم فعل، بمعنى أَحْضرْ.

(1)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 15/ 568 - 569.

ص: 389

[والثالث]: -وبه قال الزمخشريّ- أنه اسم صوتٍ، بمعنى ها التي بمعنى أَحْضِرْ.

وإذا قيل: بأنه فعلٌ، فاختُلف فيه على ثلاثة أقوال أيضًا:

[أصحّها]: أن هاءه أصل بنفسها، وأن أصله هاتَى يُهاتي مُهاتاةً، مثلُ رامَى يُرامِي مُراماةً، فوزنه فاعَلَ، فتقول: هاتِ يا زيدُ، وهاتي يا هندُ، وهاتوا يا قومُ، وهاتين يا هنداتُ، كما تقول: رامِ، رامي، راميا، راموا، رامين، وزعم ابن عطيّة أن تصريفه مهجورٌ، لا يُقال فيه إلا الأمر، وليس كذلك.

[الثاني]: أن الهاء بدلٌ من الهمزة، وأن الأصل: أَاْتَى وزنه أَفْعَلَ، مثلُ أَكْرَمَ، وهذا ليس بجيّد؛ لوجهين: أحدهما: أن آتى يتعدّى لاثنين، وهاتى يتعدّى لواحد فقط.

والثاني من الوجهين: أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها؛ لزوال موجب قلبها، وهو الهمزة الأولى، ولم يُسمَع ذلك.

[الثالث]: أن هذه "ها" للتنبيه دخلت على "أتى"، ولزمتها، وحُذفت همزة "أتى دا لزوماً، وهذا مردود، فإن معنى "هات" أَحْضِرْ كذا، ومعنى "ائت": احْضُرْ أنت، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادّة.

فتحصّل في "هاتوا" سبعة أقوال: فعلٌ، أو اسمُ فعلٍ، أو اسم صوتٍ، والفعل هل يتصرّف، أو لا يتصرّف؟ وهل هاؤه أصليّة، أو بدلٌ من همزة، أو هي ها التنبيه زيدت، وحُذفت همزته؟ وأصل "هاتوا" هاتيوا، فاستثقلت الضمّة على الياء، فحُذفت، فالتقى ساكنان، فحُذف أولهما، وضُمّ ما قبله؛ لمجانسة الواو، فصار هاتوا. انتهى كلام السمين الحلبيّ رحمه الله

(1)

.

وفي الرواية التالية: "أرنيه"، من الإراءة، وفي رواية أبي داود والنسائيّ:"أدنيه" من الإدناء، وهو التقريب.

(فَجِئْتُ بِهِ، فَأَكَلَ) زاد في رواية النسائيّ: "وكان يُحبّ الْحَيْسَ" (ثُمَّ

(1)

"الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" 2/ 71 - 72 عند قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء: 24] الآية.

ص: 390

قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا") أي مريدًا للصوم، وفي رواية النسائيّ:"إني قد أصبحتُ أريد الصوم".

قال النوويّ: رحمه الله: وهاتان الروايتان -يعني هذا الحديث، والذي بعده- هما حديث واحد، والثانية مفسرة للأولى، ومُبَيِّنةٌ أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين، لا في يوم واحد، كذا قاله القاضي وغيره، وهو ظاهرٌ.

قال: وفي الرواية الثانية التصريح بالدلالة لمذهب الشافعيّ، وموافقيه، في أن صوم النافلة يجوز قطعه، والأكل في أثناء النهار، ويبطل الصوم؛ لأنه نفلٌ، فهو إلى خِيرة الإنسان في الابتداء، وكذا في الدوام، وممن قال بهذا جماعة من الصحابة، وأحمد، وإسحاق، وآخرون، ولكنهم كلهم، والشافعيّ معهم متفقون على استحباب إتمامه، وقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجوز قطعه، ويأثم بذلك، وبه قال الحسن البصرفي، ومكحول، والنخعيّ، وأوجبوا قضاءه على من أفطر بلا عذر، قال ابن عبد البرّ: وأجمعوا على أن لا قضاء على من أفطره بعذر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي تمام البحث في هذه المسألة في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.

(قَالَ طَلْحَةُ) بن يحيى الراوي عن عائشة بنت طلحة (فَحَدَّثْتُ مُجَاهِدًا) أي ابن جبر، أبا الحجّاج المخزوميّ مولاهم المكيّ الإمام الحجة المشهور المتوفّى سنة (1 أو 2 أو 3 أو 104) تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 4/ 21. (بِهَذَا الْحَدِيثِ) أي بما حدّثته عائشة بنت طلحة (فَقَالَ) مجاهد رحمه الله (ذَاكَ) أي الصائم المتطوّع المفطر بعد شروعه في الصوم (بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ) أي ناويًا الصدقة بها (فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَما) أي أنفذ الصدقة، ودفعها للفقير (وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) أي ترك التصدّق بها.

وحاصل ما أشار إليه مجاهد رحمه الله أن إفطار الصائم المتطوّع جائز، وهذا الذي قاله يدلّ عليه ما أخرجه الترمذيّ عن أم هانئ رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فدَعَا بشراب، فشرب، ثم ناولها، فشربت، فقالت: يا رسول الله،

(1)

سيأتي تعقّب الحافظ رحمه الله لدعوى ابن عبد البرّ رحمه الله الإجماع المذكور، فتنبّه.

ص: 391

أما إني كنت صائمةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصائم المتطوع أمين نفسه، وفي رواية: أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر"، صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، وفيه نظر، سيأتي.

[تنبيه]: رواية المصنّف صريحة في أن هذا الكلام موقوف على مجاهد، ووقع في رواية النسائيّ ما يدلّ على أنه مرفوع، ولفظه: ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مَثَلُ الرَّجُلِ، يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا"، فظاهره يدلّ على أن قوله:"إنما مثل صوم المتطوّع إلخ" من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن الذي في "صحيح مسلم" أصحّ، فهو من كلام مجاهد، لا من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقد صحح الشيخ الألبانيّ رحمه الله رفع هذه الزيادة

(1)

، وقال: إن الرواي قد يرفع الحديث تارة، ويوقفه أخرى، فإذا صحّ السند بالرفع بدون شذوذ كما هنا، فالحكم له، ولذلك قالوا: زيادة الثقة مقبولة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: تصحيح هذا الحديث فيه نظر لا يخفى، والذي يظهر أنه من كلام مجاهد

(2)

، كما هو في "صحيح مسلم"، فتأملّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 2714 و 2715](1154)، و (أبو داود) في "الصوم"(2455)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(733 و 734) و"الشمائل"(182)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 194 - 195) و"الكبرى"(2/ 114 - 116)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1701)، و (الشافعيّ) في "المسند"(1/ 706)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7793)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 98)

(1)

راجع: "إرواء الغليل" 4/ 136.

(2)

كنت وافقت الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "شرح النسائي"، ثم ظهر لي هنا خلافه، فتراجعت، فتنبّه، والله تعالى ولي التوفيق.

ص: 392

98)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 49 و 207)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2141 و 2143)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3628)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(9/ 102)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4563)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 233)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 452 - 453)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 199)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 230)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 176 - 177)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 203)، و (البغويّ) في "شرح السنّهْ "(1745)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز صوم التطوّع بنيّة من النهار.

2 -

(ومنها): جواز الفطر للمتطوّع متى شاء، ولو بلا عذر.

3 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التقلّل من الدنيا زهدًا في ملذّات الدنيا الفانية، وإيثارًا لما عند الله، من نعيم الآخرة. قال الله تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].

4 -

(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنه من مواساة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عندهم من طيبات الطعام.

5 -

(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم قبول الهدية.

6 -

(ومنها): ضرب المثل للتقريب إلى الأذهان.

7 -

(ومنها): أن من أخرج شيئًا من ماله للتصدق به، ثم بدا له أن لا يتصدّق، فله ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم فطر الصائم المتطوّع: ذهبت طائفة إلى جواز الفطر لمن كان صائمًا تطوعًا، ولا قضاء عليه، وبه قال عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وحذيفة، وأبو الدرداء، والثوريّ، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق.

واحتجّوا بحديث الباب؛ لأنه لم يُذكر فيه القضاء.

وأجيب عنه بأنه زاد فيه بعضهم: "فأكل، ثم قال: أصوم يومًا مكانه"، أخرجه النسائيّ في "الكبرى"، والدارقطنيّ، والشافعيّ، والبيهقيّ في "المعرفة"،

ص: 393

و"السنن الكبرى"، والطحاويّ، كلّهم من رواية ابن عُيينة، عن طلحة بن يحيى، عن عمّته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين، قد صحّح هذه الزيادة أبو محمد عبد الحقّ، وقال ابن التركمانيّ: هذه زيادة من ثقةٌ أصرّ عليها، فهي مقبولة.

قال صاحب "المرعاة": في كون هذه الزيادة محفوظة صحيحة نظرٌ؛ فإنها قد ضغفها الأئمة الحفّاظ، كالشافعيّ، والنسائيّ، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، قال النسائيّ: هذا خطأ؛ يعني من ابن عيينة، ونَسَب الدارقطنيّ الوهم فيها لمحمد بن عمرو الباهليّ الراوي عنده عن ابن عيينة، لكن رواها النسائيّ عن محمد بن منصور، عن ابن عيينة، وكذا رواها الشافعيّ عن ابن عيينة، لكن قال: سمعت سفيان بن عيينة عامّة مجالسه لا يذكر فيه: "ساصوم يومًا مكانه"، ثم عرضته عليه قبل موته بسنة، فذكره فيه.

وقال في "التلخيص الحبير": ذكر الشافعيّ أن ابن عيينة زادها قبل موته بسنة. انتهى.

وابن عيينة كان في الآخر قد تغيّر، قال في "تهذيب التهذيب": قال ابن عمّار: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: اشهدوا أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومائة، فمن سمع منه في هذه السنة وبعدها فسماعه لا شيء، قال الحافظ: وقد وجدت عن يحيى بن سعيد شيئًا يصلح أن يكون سببًا لما نقله عنه ابن عمّار في حقّ ابن عيينة، وذلك ما أورده أبو سعد ابن السمعانيّ في ترجمة إسماعيل بن أبي صالح المؤذّن من "ذيل تاريخ بغداد" بسند له قويّ إلى عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث، وتحدث اليوم، وتزيد في إسناده، أو تنقص منه، فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سَمِنتُ، وقد ذكر أبو معين الرازيّ في زيادة "كتاب الإيمان" لأحمد أن هارون بن معروف قال له: إن ابن عيينة تغير أمره بآخره. انتهى.

وهذا كلّه يدلّ على أن الشافعيّ قد بيّن علّة الحديث بقوله: سمعت سفيان بن عيينة عامّة مجالسه لا يذكر فيه

إلخ.

وقال البيهقيّ في "المعرفة": وقد رواه جماعة عن سفيان دون هذه

ص: 394

اللفظة، ورواه جماعة عن طلحة بن يحيى دون هذه اللفظة، منهم سفيان الثوريّ، وشعبة، ووكيعٌ، ويحيى القطّان، وغيرهم، وقال في "السنن" بعد ذكر كلام الشافعيّ المذكور: ورواية ابن عيينة عامّة دهره لهذا الحديث لا؛ يذكر فيه هذا اللفظ مع رواية الجماعة عن طلحة لا يذكره أحد، منهم الثوريّ، وشعبة، وعبد الواحد بن زياد، ووكيع، ويحيى القطّان، ويعلى بن عُبيد، وغيرهم تدلّ على خطأ هذه اللفظة، وقد روي من وجه آخر عن عائشة ليس فيه هذه اللفظة. انتهى.

واجتماع هؤلاء الحفّاظ على تضعيف هذه الزيادة مقدّم على تصحيح عبد الحقّ، وليس كلّ زيادة من الثقة تُقبل، بل لكلّ زيادة حكم يخصّها، كما ذكره الزيلعيّ

(1)

، وها هنا قد وُجدت قرينة تدلّ على كون هذه الزيادة وَهَمًا

(1)

وحاصل عبارة الزيلعيّ رحمه الله "نصب الراية"(1/ 336 - 337): [فإن قيل]: قد رواها نعيم المجمر، وهو ثقةٌ، والزيادة من الثقة مقبولة.

أقلنا،: ليس ذلك مجمعًا عليه، بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقًا، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل، وهوأنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقةٌ حافظًا ثبتًا، والذي لم يذكرها مثله، أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله:"من المسلمين" في صدقه الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومَن حَكَمَ في ذلك حكمًا عامًا فقد غَلِطَ، بل كل زيادة لها حكم يخصها.

ففي موضع يجزم بصحتها، كزيادة مالك، وفي موضع يَغْلِب على الظن صحتها، كزيادة سعد بن طارق في حديث:"جُعِلت الأرضُ مسجدًا، وجُعِلت تربتها لنا طهورًا"، وكزيادة سليمان التيميّ في حديث أبي موسى:"وإذا قرأ فانصتوا"، وفي موضع يُجْزَم بخطا الزيادة، كزيادة معمر ومن وافقه قوله:"وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، وكزيادة عبد الله بن زياد ذكر البسملة في حديث:"قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، وإن كان معمر ثقةٌ، وعبد الله بن زياد ضعيفًا، فإن الثقة قد يَغْلَط.

وفي موضع يغلب على الظنّ خطؤها، كزيادة معمر في حديث ماعز الصلاة عليه، رواها البخاريّ في "صحيحه"، وسئل: هل رواها غير معمر؟ فقال: لا، وقد رواه أصحاب السنن الأربعة عن معمر، وقال فيه:"ولم يصلِّ عليه"، فقد اختُلِف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو عبد الرزاق، وقد اختُلف عليه أيضًا، =

ص: 395

ومُدرجةَ، فالحكم بكونها مقبولة مردود، وعلى تقدير أن تكون محفوظة يُحمَل القضاء على الندب.

قال البيهقيّ: وحَمَلَ الشافعيّ قوله: "سأصوم يومًا مكانه"؛ أي تطوّعًا، وجعله بمثابة قهضائه صلى الله عليه وسلم الركعتين اللتين بعد الظهر حين شغله عنهما الوفد. انتهى ما كتبه صاحب "المرعاة" رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا.

وحاصله أن زيادة: "أصوم يومًا مكانه" غير صحيحة؛ لما سبق من الأدلّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

واحتجّوا أيضًا بما رواه البخاريّ في "صحيحه" من طريق أبي العُمَيس، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم، بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتَبَذِّلَة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء، ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل، ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نَمْ، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصلّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدق سلمان".

وأجاب القرطبيّ عن هذا بأن إفطار أبي الدرداء كان لقسَم سلمان، ولعذر الضيافة.

وتُعُقّب بأن هذا يتوقّف على أن هذا العذر من الأعذار التي تُبيح الإفطار، وقد نَقَل ابن التين عن مذهب مالك أنه لا يُفطر لضيف نَزَل به، ولا لمن حلف عليه بالطلاق والْعَتَاق

(2)

.

= والصواب أنه قال: "ولم يصلّ عليه"، وفي موضع يُتوقَّف في الزيادة، كما في أحاديث كثيرة. انتهى كلام الزيلعيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(1)

"المرعاة شرح المشكاة" 7/ 105 - 106.

(2)

"المرعاة" 7/ 105.

ص: 396

واحتجّوا أيضًا بما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، والدارقطنيّ، والبيهقيّ، عن أم هانئ رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصائم المتطوّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر"، قال النوويّ في "شرح المهذّب": ألفاظ رواياتهم متقاربة المعنى، وإسنادها جيّد

(1)

، وقال الترمذيّ: في إسناده مقال.

ومن حجتهم حديث أم هانئ: أنها دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي صائمة، فدعا بشراب، فشرب، ثم ناولها، فشربت، ثم سألته عن ذلك، فقال:"أكنت تقضين يومًا من رمضان؟ "، قالت: لا، قال:"فلا بأس"، وفي رواية:"إن كان من قضاء، فصومي مكانه، وإن كان تطوعًا، فإن شئت فاقضه، وإن شئت فلا تقضه"، أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، وفي إسناده هارون ابن ابنة أم هانئ، لا يعرف.

ويشهد له ما أخرجه البيهقيّ، من طريق إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن ابن المنكدر، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: صنعتُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعامًا، فلما وُضع، قال رجل: أنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعاك أخوك، وتكلّف لك، أَفطِر، وصُمْ مكانه إن شئت". قال الحافظ: وإسناده حسن، وهو صريح في عدم وجوب القضاء.

وبما رواه البيهقيّ عن ابن مسعود، قال:"إذا أصبحت، وأنت ناوي الصوم، فأنت بخير النظرين، إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت"، وبما رواه الدارقطنيّ، والبيهقيّ بإسناد صحيح عن جابر رضي الله عنه أنه لم يكن يرى بإفطار المتطوّع بأسًا، وروى الشافعيّ، والبيهقيّ بإسناد صحيح عن ابن عباس مثله.

وبهذا قالت الشافعيّة، والحنابلة، وقالوا: إذا دخل في صوم التطوّع استحبّ له إتمامه، وإذا أفطر بعذر، أو بغير عذر، فلا إثم عليه، ولا يجب عليه القضاء، لكن يكره له الفطر بدون عذر؛ لعموم قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

(1)

هذا ليس بجيّد، بل الصحيح ما قاله الترمذيّ من أن في إسناده مقالًا؛ لأن في إسناده جعدة المخزوميّ، قال فيه البخاريّ: فيه نظر، وضعفه ابن عديّ، وقد صحح الشيخ الألباني الحديث، انظر:"صحيح الجامع" 2/ 717.

ص: 397

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في الاستدلال بهذه الآية لهذه المسألة نظر لا يخفى؛ لأن هذا الفطر بإذن من الشارع، وما كان بإذنه ليس إبطالًا، وأيضًا إن الآية عامة، والأحاديث الدالة على جواز الفطر -كحديث الباب، وكحديث سلمان رضي الله عنه المذكور- خاصّة والخاصّ يقضي على العامّ، فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.

قالوا: وخروجًا من خلاف من أوجب الإتمام، وإذا أفطر بعذر فلا كراهة، وعلى كلّ فيستحبّ قضاؤه.

وذهب أبو حنيفة في ظاهر الرواية، ومالك إلى أنه يجب إتمام ما شَرَع فيه من نفل الصوم، ولا يجوز فطره بلا عذر؛ للآية المتقدمة، فإن أفطر بلا عذر أَثِمَ، وعليه القضاء، وإن أفطر بعذر فلا إثم عليه، ولا قضاء عند المالكية، وأوجبه الحنفيّة.

قال الحافظ: وأغرب ابن عبد البرّ، فنقل الإجماع على عدم وجوب القضاء عمن أفسد صومه بعذر.

واحتجّ من أوجب القضاء بما رَوَى الترمذيّ، والنسائيّ من طريق جعفر بن بُرقان، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أنا، وحفصة صائمتين، فعَرَضَ لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة، وكانت بنت أبيها، فقالت: يا رسول الله

فذكرت ذلك، فقال:"اقضيا يومًا آخر مكانه".

قال الترمذيّ: رواه ابن أبي حفصة، وصالح بن أبي الأخضر، عن الزهريّ مثل هذا، ورواه مالك، ومعمر، وزياد بن سعد، وابن عيينة، وغيرهم من الحفّاظ عن الزهريّ، عن عائشة مرسلًا، وهو أصحّ؛ لأن ابن جريج ذكر أنه سأل الزهريّ عنه، فقال: لم أسمع من عروة في هذا شيئًا، ولكن سمعت من ناس عن بعض من سأل عائشة، فذكره، ثم أسنده كذلك. وقال النسائيّ: هذا خطأ، وقال ابن عيينة في روايته: سئل الزهريّ عنه، أهو عن عروة؟ فقال: لا، وقال الخلال: اتفق الثقات على إرساله، وشذّ من وصله، وتواردَ الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا.

وقد رواه من لا يوثق به عن مالك موصولًا، ذكره الدارقطني في "غرائب

ص: 398

مالك"، وبيّن مالك في روايته، فقال: إن صيامهما كان تطوعًا.

وله طريق آخر عن أبي داود، من طريق زُميل مولى عروة، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: أهدي لي ولحفصة طعام، وكنا صائمتين، فأفطرنا، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا له: يا رسول الله، إنا أهديت لنا هدية، فاشتهيناها، فأفطرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا عليكما، صوما مكانه يومًا آخر"، وهو حديث ضعيف؛ لأن زميلًا مجهول، وقال البخاريّ: لا يعرف لزميل سماع من عروة، ولا ليزيد سماع من زميل، ولا تقوم به الحجة. قال في "الفتح": وضعّفه أحمد، والبخاريّ، والنسائيّ بجهالة حال زُميل

(1)

.

وقال في "المرعاة": واحتجّوا أيضًا لذلك، ولتحريم الأكل من غير عذر بقوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فإنه يعمّ الفرض والنفل، وبقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وهذا قد عَقَد الصوم، فوجب أن يفي به، وبقوله تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، وبقوله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] الآيةُ سيقت في معرض ذمّهم على عدم رعاية ما التزموه من الْقُرَب التي لم تُكتب عليهم، والقدر المؤدَّى عَمَلٌ كذلك، فوجب صيانته عن الإبطال بهذين النصّين، فإذا أفطر وجب قضاؤه؛ تفاديًا؛ أي تبعّدًا عن الإبطال.

وأجيب بان هذه النصوص كلّها من الأدلّة العامّة، وقد تقرّر في موضعه أن الخاصّ يُقدّم على العامّ.

قال ابن الْمُنَيِّر: ليس في تحريم الأكل في صوم النفل من غير عذر إلا الأدلّة العامّة، كقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] إلا أن الخاصّ يُقدَّم على العامّ، كحديث سلمان ونحوه.

وقال ابن عبد البرّ: من احتَجَّ في هذا بقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فهو جاهل بأقوال أهل العلم، فإن الأكثرين على أن المراد بذلك النهي عن الرياء؛ لأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء، بل أخلصوها لله، وقال آخرون:

(1)

"الفتح" 4/ 730.

ص: 399

لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، أو بالكفر والنفاق، أو بالمنّ والأذى، ونحوها، ولو كان المراد بذلك النّهي عن إبطال ما لم يَفْرِضه الله عليه، ولا أوجب على نفسه بنذر وغيره لامتنع عليه الإفطار إلا بما أُبيح الفطر من الصوم الواجب، وهم لا يقولون بذلك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق من بيان مذاهب العلماء، وأدئتهم أن الأرجح هو ما ذهب إليه القائلون بجواز الفطر للمتطوّع دون إيجاب القضاء عليه؛ لقوّة أدلّته.

والحاصل أنه يجوز للصائم المتطوّع الفطر مطلقًا، ولا قضاء عليه إلا أن يشاء؛ إذ لم يصحّ دليل على وجوبه، وقد عرفت ضعف الأحاديث التي احتجّ بها الموجبون، وعلى تقدير صحتها، يحمل الأمر فيها بالقضاء على الندب؛ جمعًا بين الأدلة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2715]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ "، فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: "فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ"، ثُمَّ أتانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: "أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا"، فَأَكَلَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل باب أيضًا.

والباقونه ذُكروا قبله.

وقوله: (فَإِنَي إِذَنْ صَائِمٌ) هذا ظاهر في كونه صلى الله عليه وسلم أنشأ الصوم في ذلك

(1)

"المرعاة" 7/ 107.

ص: 400

الوقت؛ لأن "إذن" حرف جواب، وهو حاليّ؛ أي: فإذا لم يكن عنكم شيء مما يؤكل، فإني أنوي الصوم من الآن، ففيه دلالة صريحة لجواز صوم النفل بنيّة من النهار.

[فائدتان]:

(الأولى): أن "إذن" هذه معناها عند سيبويه: الجواب والجزاء غالبًا لا دائمًا، كما قيل؛ لأنها قد تتمحّض للجواب، نحو:"إذن أظنّك صادقًا" جوابًا لمن قال: إني أُحبّك؛ لأن ظنّ الصدق لا يصلح جزاء للمحبّة، وأيضًا هو حاليّ، والجزاء لا يكون إلا مستقبلًا، أفاده الخضريّ في "حاشيته"

(1)

.

(الثانية): اختُلف في "إذن" هل هي بالألف، أم بالنون؟، قال الخضريّ رحمه الله في "حاشية الخلاصة": والصحيح إبدال نونها ألفًا في الوقف، كتنوين المنصوب؛ لأن الجمهور على كتابتها بالألف، "وكذا رُسمت في المصاحف، وعن المبرّد، والزجّاج يوقف بالنون، كـ"أَنْ"، و"لن"، وتُكتب بها، وعن الفرّاء إن أُهملت كتبت بالنون؛ لتُفرّق من "إذا" الظرفيّة، وإن أُعملت فبالألف؛ لتميّزها بالعمل، والخلاف في غير القرآن، أما فيه فالوقف والرسم بالألف إجماعًا، كما في "الإتقان"؛ اتّباعًا للمصاحف. انتهى

(2)

.

وقوله: (ثُمَّ أتانَا يَوْمًا آخَرَ) فذا يبين المراد من قولها في الرواية السابقة: "فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت

إلخ " أن رجوعه كان في يوم آخر، لا في نفس اليوم، قال النوويّ: رحمه الله: وهاتان الروايتان هما حديث واحد، والثانية مفسرة للأولى، ومُبَيِّنة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين، لا في يوم واحد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

راجع: "حاشية الخضريّ على الخلاصة" 2/ 173.

(2)

المصدر المذكور.

ص: 401

(35) - (بَابٌ أَكْلُ النَّاسِي، وَشُرْبُهُ، وَجِمَاعُهُ لَا يُفْطِرُ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2716]

(1155) - (وَحَدَّثَنى عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ الْقُرْدُوسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ، وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ، أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإئمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ) تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عُليّة، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(هِشَامٌ الْقُرْدُوسِيُّ) هو: هشام بن حسّان الْقُرْدوسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: كون هشام هو الْقُردوسيّ كما صرّح به المصنّف هنا هو الصواب، ومن الغريب وقع في "الفتح"

(1)

أنه هشام الدستوائيّ، وتبعه العينيّ في "العمدة"

(2)

، والظاهر أن هذا غلطٌ، وقد أورد الحديث الحافظ أبو الحجاج المزيّ رحمه الله في ترجمة هشام بن حسّان، ولم يذكر في "التهذيبين" في ترجمة هشام الدستوائيّ محمدَ بنَ سيرين ممن روى عنه هشام، والظاهر أنه لم يرو عنه أصلًا، فليُتامّل، والله تعالى وليّ التوفيق.

[تنبيه آخر]: قوله: "الْقُرْدُوسيّ" بضمّ القاف، وسكون الراء، وضمّ الدال، بعدها واو، ثمّ سين مهملة، هذا هو الضبط الصحيح، فما وقع في "شرح السنوسيّ"(3/ 270) لهذا الكتاب، من قوله:"بضمّ الفاء بدل القاف" سبق قلم، أو غلطٌ، فليُتنبّه.

قال في "اللباب": "الْقُرْدوسيّ" -بضم القاف، وسكون الراء، وضم

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 296.

(2)

راجع: "عمدة القاري" 11/ 17.

ص: 402

الدال المهملة، وبعد الواو سين مهملة-: هذه النسبة إلى القَرَاديس بطن من الأزد، نزلوا البصرة، فنسبت المحلَّة إليهم. انتهى

(1)

.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) تقدّم قبل بابين.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) بفتح الميم شرطيّة، ولفظ البخاريّ:"إذا نَسِي"(نَسِيَ) مفعوله محذوف؛ أي صومه، كما يدلّ عليه قوله:(وَهُوَ صَائِمٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، وللبخاريّ في "النذور" من طريق عوف، عن ابن سيرين:"من أكل ناسيًا، وهو صائم"، ولأبي داود من طريق حبيب بن الشهيد، وأيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة:"جاء رجل، فقال: يا رسول الله، إني أكلت وشربت ناسيًا، وأنا صائم"، وهذا الرجل هو أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث، أخرجه الدارقطنيّ بإسناد ضعيف، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَأَكَلَ، أَوْ شَرِبَ) أي سواء قليلًا كان أو كثيرًا، كما رجحه النوويّ: رحمه الله؛ لظاهر إطلاق الحديث، وخص الأكل والشرب من بين المفطرات؛ لغلبتهما، ونُدْرة غيرهما، كالجماع.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 24.

(2)

"الفتح" 5/ 296.

ص: 403

(فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) أضافه إليه إشارة إلى أنه لم يُفْطِر، وإنما أُمِر بالإتمام؛ لفوت ركنه ظاهرًا.

وفي رواية الترمذيّ: "فلا يُفْطر"، قال العراقيّ رحمه الله: يجوز أن تكون "لا" في جواب الشرط للنهي، و"يُفْطِرْ" مجزوئم بها، ويجوز أن تكون نافية، و"يُفطرُ" مرفوع، وهو أولى، فإنه لم يُرَدْ به النهيُ عن الإفطار، وإنما المراد أنه لم يحصل إفطار الناسي بالأكل، ويكون تقديره:"من أكل، أو شَرِب ناسيًا لم يُفْطر". انتهى.

ثم لَمّا لم يكن أكله وشُربه باختياره المقتضي لفساد صومه، بل لأجل إنساء الله تعالى له؛ لُطْفاً به، وتيسيراً عليه بدفع الحرج عنه عَلَّله بقوله:(فإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ") وفي رواية الترمذيّ: "فإنما هو رزق رزقه الله"، وللدارقطنيّ، من طريق ابن علية، عن هشام:"فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه"؛ يعني أنه ليس له فيه مدخل، فكأنه لم يوجد منه فِعْلٌ، وقال السنديّ رحمه الله: كأن المراد قطع نسبة ذلك الفعل للعبد بواسطة النسيان، فلا يُعدّ فعله جنايةً منه على صومه، مفسدًا له، وإلا فهذا القدر موجود في كلّ طعام وشراب يأكله الإنسان، أكله عمدًا أو سهوًا.

وقال الخطّابيّ رحمه الله: النسيان من باب الضرورة، والأفعال الضروريّة غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، ولا يؤاخذ بها. انتهى.

وقال العينيّ رحمه الله: قوله: "فإنما" تعليلٌ لكون الناسي لا يُفطر، ووجه ذلك أن الرزق لَمّا كان من الله تعالى ليس فيه للعبد تحيّل، فلا يُنسب إليه شبه الأكل ناسيأ به؛ لأنه لا صنع للعبد فيه، وإلا فالأكل متعمّدًا حيث جاز له الفطر رزق من الله تعالى بإجماع العلماء، وكذلك هو رزقٌ وإن لم يجز له الفطر على مذهب أهل السنة. انتهى

(1)

.

قال الطيبيّ رحمه الله: "إنما" للحصر؛ أي ما أطعمه، وما سقاه أحد إلا الله تعالى، فدَلَّ على أن النسيان من الله، ومن لطفه في حقّ عباده؛ تيسيرًا عليهم، ودفعًا للحرج. انتهى

(2)

.

(1)

راجع: "المرعاة" 6/ 493.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1592.

ص: 404

[فائدة]: من المستظرفات ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، أن إنسانًا جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه، فقال: أصبحت صائمًا، فنسيت، فطَعِمتُ، قال: لا بأس، قال: ثم دخلت على إنسان، فنَسِيت، وطَعِمت وشربت، قال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك، ثم قال: دخلت على آخر، فنسيت، فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام، ذكره في "الفتح"

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 2716](1155) و (البخارىّ) في "الصوم"(1933) و"الأيمان والنذور"(6669)، و (أبو داود) في "الصوم"(2398)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(721 و 722)، و (النسائيّ) في " الكبرى"(2/ 244)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1673)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(7372)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 425 و 4291 و 493 و 515)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 107 و 170)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 13)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1989)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3519 و 3520)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(389 و 390)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 178 و 179 و 180)، و (الحاكم) في "مستدركه"(1/ 426 - 427)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 198)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 231)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 204)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 459)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 229) و"المعرفة"(3/ 376)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1754)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"الفتح" 5/ 298.

ص: 405

1 -

(منها): بيان أن من أكل، أو شَرِب ناسيًا لا يُفطر، بل يُتمّ صومه، ولا قضاء عليه، وسيأتي في المسألة التالية بيان اختلاف العلماء في ذلك -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): أنه لا فرق بين قليل الأكل وكثيرة، وقد روى الإمام أحمد رحمه الله لهذا الحديث سبباً، فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار، عن مولاتها أم إسحاق، أنها كانت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتي بقَصْعَة من ثريد، فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمةً، فقال لها ذو اليدين: الآن بعدما شبعتِ؟ فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أتمي صومك، فإنما هو رزق ساقه الله إليك"، لكن الحديث في سنده بشّار بن عبد الملك، وثّقه ابن حبّان، وضعّفه أبو زرعة الدمشقيّ.

3 -

(ومنها): بيان لطف الله بعباده، والتيسير عليهم، ورفع المشقة والحرج عنهم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في حكم من أكل، أو شرب ناسيًا لصومه: ذهب الجمهور: أبو حنيفة، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعيّ، والثوريّ، وعطاءٌ، وطاوس إلى أن من أكل، أو شرب ناسيًا لصومه، فإنه لا يُفطر، ولا يجب عليه القضاء.

وذهب مالك إلى أنه يبطل صومه، ويجب عليه القضاء، وهو قول شيخه ربيعة الرأي، وجميع أصحاب مالك، لكنهم فرّقوا بين الفرض والنفل.

واحتجّ الجمهور بحديث الباب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أَمره بالإتمام، وسَمّى الذي يُتمّه صومًا، والظاهر حمله على الحقيقة الشرعيّة، فيُتمسّك به حتى يدلّ دليلٌ على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغويّة، وإذا كان صومًا وقع مجزئًا، ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء، كذا قرّره ابن دقيق العيد رحمه الله، قال: وقوله: "فإنما أطعمه الله وسقاه" يُستدلّ به على صحّة الصوم، فإن فيه إشعارًا بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه، والحكم بالفطر يلزمه الإضافة إليه. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "إحكام الأحكام" 2/ 212.

ص: 406

واستَدَلّ من ذهب إلى الفطر، وإيجاب القضاء بأن ركن الصوم، وهو الإمساك عن المفطّرات فات، فإذا فات ركنه فسد صومه كيف ما كان، قال ابن دقيق العيد: ذهب مالك إلى إيجاب القضاء، وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثّر في باب المأمورات.

قال في "الفتح": قال ابن العربيّ: تمسّك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث، وتطلّع مالك إلى المسألة من طريقها، فأشرف عليه؛ لأن الفطر ضدّ الصوم، والإمساك ركن الصوم، فاشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة

(1)

، قال: وقد رَوَى الدارقطنيّ فيه: "لا قضاء عليك"، فتأوله علماؤنا على أن معناه: لا قضاء عليك الآن، وهذا تعسّف، وإنما أقول: ليته صحّ فنتبعه، ونقول به، إلا على أصل مالك في أن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد، لم يُعْمَل به، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها، فلم نعمل به.

وقال القرطبي رحمه الله: احتَجَّ به من أسقط القضاء.

وأجيب بأنه لم يتَعَرَّض فيه للقضاء، فَيُحْمَل على سقوط المؤاخذة؛ لأن المطلوب صيام يوم لا خَرْمَ فيه، لكن رَوَى الدارقطنيّ فيه سقوط القضاء، وهو نَصٌّ لا يَقْبَل الاحتمال، لكن الشأن في صحته، فإن صحّ وجب الأخذ به، وسقط القضاء. انتهى.

وأجاب بعض المالكية بحمل الحديث على صوم التطوع، كما حكاه ابن التين، عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصار، واعتَل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان، فَيُحْمَل على التطوع.

وقال المهلب وغيره: لم يذكر في الحديث إثبات القضاء، فَيُحْمَل على سقوط الكفارة عنه، وإثبات عذره، ورفع الإثم عنه، وبقاء نيته التي بيّتها. انتهى.

والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم،

(1)

سيأتي الجواب عن هذا الاستدلال قريباً.

ص: 407

والدارقطنيّ، من طريق محمد بن عبد الله الأنصاريّ، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:"من أفطر في شهر رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه، ولا كفارة"، فعَيَّن رمضان، وصرَّح بإسقاط القضاء.

قال الدارقطنيّ: تفرّد به محمد بن مرزوق، عن الأنصاريّ.

وتُعُقّب بأن ابن خزيمة أخرجه أيضا عن إبراهيم بن محمد الباهليّ، وبأن الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازيّ، كلاهما عن الأنصاريّ، فهو المنفرد به، كما قال البيهقيّ، وهو ثقةٌ، والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط، لا بتعيين رمضان، فإن النسائيّ أخرج الحديث من طريق عليّ بن بكار، عن محمد بن عمرو، ولفظه في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسياً:"فقال: الله أطعمه وسقاه".

وقد ورد إسقاط القضاء من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الدارقطنيّ من رواية محمد بن عيسى بن الطباع، عن ابن عُلَيَّة، عن هشام، عن ابن سيرين، ولفظه:"فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه"، وقال بعد تخريجه: هذا إسناد صحيحٌ، وكلهم ثقات.

قال الحافظ: لكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق ابن علية، وليس فيه هذه الزيادة.

ورَوَى الدارقطنيّ أيضًا إسقاط القضاء، من رواية أبي رافع، وأبي سعيد المقبريّ، والوليد بن عبد الرحمن، وعطاء بن يسار، كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرج أيضًا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه رفعه: "من أكل في شهر رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه"، وإسناده وإن كان ضعيفاً لكنه صالح للمتابعة، فاقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسناً، فيصلح للاحتجاج به.

وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوّة، وَيعْتَضِد أيضًا بأنه قد أفتَى به جماعة من الصحابة رضي الله عنهم من غير مخالفة لهم، منهم - كما قاله ابن المنذر، وابن حزم، وغيرهما -: عليّ بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وابن عمر، ثم هو موافق لقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية [البقرة: 225] فالنسيان ليس من كسب القلب، وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل، لا بنسيانه، فكذلك الصيام.

ص: 408

وأما القياس الذي ذكره ابن العربيّ فهو في مقابلة النصّ فلا يقبل، ورَدُّه للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القاعدة ليس بمسلَّم؛ لأنه قاعدة مستقلة بالصيام، فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فُتِحَ باب ردّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لَمَا بقي من الحديث إلا القليل، ولردّ من شاء ما شاء.

قال الشوكانيّ رحمه الله: وأما اعتذار ابن دقيق العيد، فيجاب عنه بأن غاية هذه القاعدة المدّعاة أن تكون بمنزلة الدليل، فيكون حديث الباب مخصّصاً لها. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن أرجح المذاهب مذهب الجمهور القائلين بصحّة صوم من أكل أو شرب ناسياً، وأنه لا قضاء عليه؛ لوضوح حجته، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في بيان اختلاف أهل العلم في حكم من جامع ناسياً صومه:

ذهب الحسن البصريّ، ومجاهد، والثوريّ، وأصحاب الرأي، والشافعيّ، وإسحاق أن الجماع ناسياً حكمه حكم الأكل والشرب ناسياً.

واستُدلّ لهم بأن الحديث، وإن ورد في الأكل والشرب، لكنه معلّل بمعنى يوجد في الكلّ؛ أي الأكل والشرب والجماع، وهو أنه فعل مضاف إلى الله تعالى حيث قال:"فإنما أطعمه الله وسقاه" قطع إضافتها عن العبد بوقوعه فيه من غير قصد واختيار، وهذا المعنى يوجد في الكلّ، والعلّة إذا كانت منصوصاً عليها كان الحكم منصوصاً عليه، ويتعمّم الحكم بعموم العلّة، وكذا معنى الحرج يوجد في الكلّ.

واستُدلّ لهم أيضًا بما تقدّم في رواية ابن خزيمة وغيره من قوله: "من أفطر في شهر رمضان"؛ لأن الفطر أعمّ من أن يكون بأكل، أو شرب، أو

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 296 - 298، و"مرعاة المفاتيح" 6/ 494 - 495.

ص: 409

جماع، وإنما خصّ الأكل والشرب بالذكر في حديث الباب؛ لكونهما أغلب وقوعاً، ولعدّ الاستغناء عنهما غالباً، قال ابن دقيق العيد رحمه الله: تعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب؛ لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوماً. انتهى.

وذهب عطاء، والأوزاعئ، ومالك، والليث بن سعد إلى أن عليه القضاء، لا الكفّارة، وقال أحمد: عليه القضاء والكفّارة، واحتَجّ بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيتَ أم تعمّدت، ولو افترق الحال لسأل، واستفصل.

وتعقّبه الخطّابيّ بأن معناه في هذا اقتضاء العموم من الفعل، والعموم إنما يُقْتَضَى من القول دون الفعل، وإنما جاء الحديث بذكر حال، وحكاية فعل، فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معاً، فبطل أن يكون له عموم، ومن مذهب أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد - أنه إذا أكل ناسياً لم يفسد صومه؛ لأن الأكل لم يحصل منه على وجه المعصية، فكذلك إذاس جامع ناسياً، فأما المتعمّد لذلك فقد حصل منه الفعل على وجه المعصية، فلذلك وجبت عليه الكفّا رة. انتهى

(1)

.

وتُعُقّب أيضاً بأن الأصل في الأفعال أن تكون عن عمد، وأن الناسي لا بدّ أن يذكر النسيان إذا استفتى؛ لأنه عذرٌ، ولا يحتاج إلى السؤال عنه

(2)

.

قال الجامح عفا الله ضه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح قول الأولين من أن من جامع ناسياً لصومه لا يفسد صومه، ولا قضاء عليه، ولا كفّارة؛ لقوّة حجته، فتأمّل بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"معالم السنن" 3/ 277.

(2)

راجع: "المرعاة" 6/ 495 - 496.

ص: 410

(36) - (بَابُ كَيْفَ كَانَ صَوْمُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَطَوُّعاً)

(1)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2717]

(1156) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: هَل كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْراً مَعْلُوماً، سِوَى رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: وَاللهِ اِنْ صَامَ شَهْراً مَعْلُوماً، سِوَى رَمَضَانَ، حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ، وَلَا أَفْطَرَهُ حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) الْعَيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) -بضمّ الجيم مصغّراً- هو: سعيد بن إياس أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ، اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 266.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ) الْعُقيليّ البصريّ، ثقةٌ فيه نَصْبٌ [3](ت 108)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو

(1)

اخترت هذه الصيغة؛ لاختصارها، وبنحوها ترجم القرطبيّ رحمه الله في "مختصره"، وقريب منه ترجمة أبي نعيم رحمه الله في "مستخرجه"، حيث قال:"باب في صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطوّعاً".

ص: 411

داود، وابن ماجه، وعبد الله بن شقيق ما أخرج له البخاريّ في "الصحيح".

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة.

4 -

(ومنها): أن الْجُريريّ ممن اختَلَط ثلاث سنين، كما أسلفته آنفاً، لكن الراوي عنه هنا يزيد بن زُريع ممن روى عنه قبل اختلاطه، كما بيّنت ذلك في منظومتي في المختلطين، فقلت:

كَذَا الْجُرَيْرِيُّ سَعِيدٌ اخْتَلَطْ

ثَلَاثَة سِنِينَ حِفْظُهُ هَبَطْ

وَعَنْهُ شُعْبَةُ وُهَيْبٌ نَقَلَا

قَبْلُ

(1)

وَإِسْمَاعِيلُ سُفْيَانُ

(2)

تَلَا

وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ وَارِثٍ كَذَا

حَمَّادُ حَمَّادٌ وَبِشْرٌ قَدْ حَذَا

وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَعَبْدُ الأَعْلَى

وَالثَّقَفِي وَابْنُ زُرَيْعٍ أَعْلَى

5 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ) الْعُقَيليّ أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْراً مَعْلُوماً) وفي الرواية التالية: "أكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً كلّه"(سِوَى رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: وَاللهِ) فيه تأكيد الجواب بالقسم، وإن كان مما لا يُشكّ فيه؛ تأكيداً (إِنْ) - بكسر الهمزة، وسكون النون -.

[فائدة]: قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه" ما حاصله: أنّ "إِنْ" تكون نافية، وتدخل على الجملة الاسمية، نحو:{إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2]، ومن ذلك:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] أي وما أحد من أهل

(1)

أي: قبل اختلاطه.

(2)

"وُهيب" هو: ابن خالد، و"إسماعيل" هو: ابن عليّة، و"سفيان" هو: الثوريّ، و"الحمادان" هما: ابن سلمة، وابن زيد، و"بشر" هو: ابن المفضّل، و (عبد الأعلى" هو: ابن عبد الأعلى، و"الثقفيّ" هو: عبد الوهاب بن عبد المجيد، و"ابن زريع" هو: يزيد الذي في سند مسلم هنا.

ص: 412

الكتاب إلا ليؤمنن به، فحُذف المبتدأ، وبقيت صفته، ومثله:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71].

وتدخل أيضاً على الجملة الفعلية، نحو:{إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} [التوبة: 107]{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117]{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 52]{إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].

قال: وقول بعضهم: لا تأتي "إِن" النافية إلا وبعدها "إلا" كهذه الآيات، أو "لَمَّا" المشددة التي بمعناها، كقراءة بعض السبعة:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] بتشديد الميم؛ أي: ما كلُّ نفس إلا عليها حافظ، مردود بقوله تعالى:{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68]، {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن: 25]، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] انتهى كلام ابن هشام رحمه الله

(1)

.

والمعنى هنا: ما (صَامَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (شَهْراً مَعْلُوماً) وفي رواية أيوب الآتية: "وما رأيته صام شهراً كاملاً"(سِوَى رَمَضَانَ، حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ) وفي الرواية التالية: "حتى مضى لسبيله"، وهو كناية عن الموت؛ أي حتى مات، قال القاري رحمه الله: واللام في "لسبيله" مثلها في قولك: لقيته لثلاث بَقِين من الشهر، تريد مُستقبلاً لثلاث؛ أي كان حالُه ما ذُكِر إلى أن مات، وفيه إشارة إلى أنه بُعِث لأداء الرسالة، فلما أدّاها مضى إلى مأواه ومستقرّه. انتهى

(2)

.

(وَلَا أَفْطَرَهُ) أي الشهر المعلوم (حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُ) أي حتى يصيب بعضه بالصوم، وهو بمعنى قوله في رواية التالية:"حتى يصوم منه".

قال الطيبيّ رحمه الله: "حتى" هذه بمعنى "كي"، كقولك: سرت حتى أدخلَ البلد بالنصب؛ إذا كان دخولك مُتَرَقَّباً لَمَّا يوجد، كأنك قلت: سرت كي أدخلَها، أو كان منقضياً، إلا أنه في حكم المستقبل، من حيث إنه في وقت وجود السير المفعول من أجله كان مترقَّباً.

وتحريره إن "حتى" هنا غاية عدم العلم باستمرار الإفطار المستعقِب للصوم، و"حتى" في قوله: "حتى مضى

إلخ" غاية لعدم علمه بالحالتين،

(1)

"مغني اللبيب" 1/ 33 - 34.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 465.

ص: 413

من الصيام والإفطار، والاستمرار هو مستفاد من النفي الداخل على الماضي، والحديث وارد على هذا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حين عَزَم أن لا يصوم الشهر كله كان مترقباً أن يصوم بعضه، و"حتى" في قوله: "حتى مضى

إلخ " غاية لما تقدمه من الْجُمَل كلها. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله بتصرّف

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها من رواية عبد الله بن شقيق عنها من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2717 و 2718 و 2719 و 2720 و 2721 و 2722 و 2723](1156) و (782)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(768)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 150 و 151 و 152 و 199 و 200) و"الكبرى"(2/ 84)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1710)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1497)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 157 و 171 و 227 و 242)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2077)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3580)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 703)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 268)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 231)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 292)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صيامه في غير رمضان.

2 -

(ومنها): استحباب أن لا يُخلي الإنسان أيّ شهر من الشهور عن الصوم فيه.

3 -

(ومنها): بيان أن صوم النفل غير مختصّ بزمان معيّن، بل كل السنة صالحة له، إلا رمضان، والعيد، والتشريق.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من شدّة طلبهم للعلم، وشدّة

(1)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1604.

ص: 414

حرصهم على معرفة أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصوم وغيره حتى يقتدوا به.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2718]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْراً كُلَّهُ؟، قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْراً كُلَّهُ، إِلَّا رَمَضَانَ، وَلَا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، حَتى مَضَى لِسَبِيلِهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبَريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنّى البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(كهْمَسُ) بن الحسن التميميّ، أبو الحسن البصريّ، ثقةٌ [5](ت 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (حَتى مَضَى لِسَبِيلِهِ) تقدّم بلفظ: "حتى مضى لوجهه"، والمعنى متقارب، وهو كناية عن الموت.

والحديث من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2719]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ حَمَّادٌ: وَأَظُنُّ أَيُّوبَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ

ص: 415

عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَوْمِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، قَدْ أَفْطَرَ، قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْراً كَامِلاً، مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله (81) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [5](ت 131)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

4 -

(هِشَامُ) بن حسّان الْقُرْدوسيّ البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الإمام المشهور، تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (قَالَ حَمَّادٌ: وَأَظُن أَيُّوبَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ)"حمّاد" هو: ابن زيد؛ يعني أن هذا الحديث كما سمعه أيوب عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، كذلك سمعه من عبد الله بن شقيق مباشرة، كما ساق ما يدّل على ذلك في الرواية التالية، فيكون مما رواه أيوب عن عبد الله بن شقيق بواسطة، ودون واسطة، فتنبّه.

والحديث من هذا الوجه من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2720]

(

) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْإِسْنَادِ هِشَاماً، وَلَا مُحَمَّداً).

ص: 416

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْإِسْنَادِ هِشَاماً، وَلَا مُحَمَّداً) الظاهر أن فاعل "يذكُر" ضمير قُتيبة؛ يعني أن قتيبة روى هذا الحديث عن حمّاد بن زيد مثل ما حدّث عنه أبو الربيع الزهرانيّ في السند، إلا أنه خالفه في إسقاط هشام ومحمد بين أيوب وعبد الله بن شقيق، فيكون مما رواه أيوب عن ابن شقيق بلا واسطة.

والظاهر أن المصنّف رحمه الله يرى صحة الطريقين، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية أيوب، عن عبد الله بن شقيق هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 232) فقال:

حدّثنا علي بن هارون، ثنا جعفر الفريابيّ، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة عن صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان يصوم حتى نقول: قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر، قد أفطر، وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا رمضان. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى إلامام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2721]

(

) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ، إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ في شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَاماً في شَعْبَانَ).

ص: 417

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله المدنيّ الإمام المشهور الحجة الفقيه الثبت [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

2 -

(أَبُو النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) هو: سالم بن أبي أُميّة التيميّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.

3 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن فيه أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) وفي رواية ابن وهب عند النسائيّ، والدارقطنيّ في "الغرائب" عن مالك، عن أبي النضر أنه حدّثهم (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها) وفي رواية البخاريّ: "أن عائشة حدّثته"، وفي الرواية التالية عند المصنّف:"سألت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

[تنبيه]: قال في "الفتح": اتفق أبو النضر، ويحيى بن أبي كثير، ووافقهما محمد بن إبراهيم، وزيد بن أبي عَتّاب، عند النسائيّ، ومحمد بن عمرو، عند

ص: 418

الترمذيّ على روايتهم هذا الحديث عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، وخالفهم يحيى بن سعيد، وسالم بن أبي الجعد، فروياه عن أبي سلمة، عن أم سلمة، أخرجهما النسائيّ، وقال الترمذيّ عقب طريق سالم بن أبي الجعد: هذا إسناد صحيحٌ، وَيحْتَمِل أن يكون أبو سلمة رواه عن كلّ من عائشة وأم سلمة رضي الله عنها. قال الحافظ: ويؤيده أن محمد بن إبراهيم التيميّ رواه عن أبي سلمة، عن عائشة تارةً، وعن أم سلمة تارةً أخرى، أخرجهما النسائيّ. انتهى

(1)

.

(أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ) أي صوم النفل متتابعاً (حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ) أي ينتهي صومه إلى غاية أن نقول: إنه لا يُفطر في هذا الشهر.

قال التوربشتيّ رحمه الله في "شرح المشكاة": قوله: "حتى نقول" الرواية بالنون، وقد وجدت في بعض النسخ بالتاء على الخطاب، كأنها قالت: حتى تقول أيها السامع لو أبصرته، والرواية أيضًا بنصب "نقولَ"، وهو الأكثر في كلامهم، ومنهم من رفع المستقبل في مثل هذا الموضع. انتهى

(2)

.

(وَيُفْطِرُ) أي يستمرّ على الإفطار (حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ) أي ينتهي إفطاره إلى غاية أن نقول: إنه لا يصوم في هذا الشهر، وذلك لأن الأعمال التي يتطوّع بها ليست منوطة باوقات معلومة، وإنما هي على قدر الإرادة لها والنشاط فيها، قاله في "العمدة"

(3)

.

وقال القرطبي رحمه الله: معنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم متطوِّعاً، فيُكثر، ويوالي حتى تتحدث نساؤه وخاصّته بصومه، ويُفطر كذلك، ومثل هذا حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"كان يصوم حتى يقول القائل: لا يُفطر، ويُفطر حتى يقول القائل: لا يصوم"، وبمثل هذا أخبر صلى الله عليه وسلم به عن نفسه، فقال:"بل أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، فمن رَغِب عن سُنّتي فليس منّي"، متّفقٌ عليه. انتهى

(4)

.

(وَمَا) نافيةٌ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ، إِلَّا رَمَضَانَ)

(1)

"الفتح" 5/ 386 - 387 كتاب "الصوم" رقم (1969).

(2)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1653.

(3)

"عمدة القاري" 11/ 83.

(4)

"المفهم" 3/ 222.

ص: 419

إنما لمِ يستكمل شهراً غيره؛ لئلا يُظنّ وجوبه (وَمَا رَأَيْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَاماً فِي شَعْبَانَ) قال في "الفتح": قوله: "أكثرَ صياماً" كذا لأكثر الرواة بالنصب، وحَكَى السهيليُّ أنه رُوي بالخفض، وهو وَهَمٌ، ولعل بعضهم كتب "صياماً" بغير ألف على رأي من يَقِف على المنصوب بغير ألف، فتُوُهّم مخفوضاً، أو أن بعض الرواة ظنّ أنه مضاف؛ لأن صيغة "أَفْعَل " تضاف كثيراً، فتوهّمها مضافة، وذلك لا يصح هنا قطعاً

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أكثرَ" ثاني مفعولي "رأيتُ"، والضمير في "منه" راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"في شعبان" متعلّق بـ "صياماً"، والمعنى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان، وفي غيره من الشهور سوى رمضان، وكان صيامه في شعبان أكثرَ من صيامه فيما سواه. انتهى

(2)

.

وقال في "المرقاة": وقيل: قوله: "في شهر" يعني به غير شعبان، وهو حال من المستكنّ في "أكثر"، و"في شعبان" حال من المجرور في "منه" العائد إلى "رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي ما رأيته كائناً في غير شعبان أكثر صياماً منه كائناً في شعبان، مثل زيد قائماً أحسن منه قاعداً، أو كلاهما ظرف "أكثر"، الأوّل باعتبار الزيادة، والثاني باعتبار أصل المعنى، ولا تعلق له برأيته، وإلا يلزم تفضيل الشيء على نفسه باعتبار حالة واحدة. انتهى

(3)

.

وفي حديث يحيى بن أبي كثير الآتية: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَاماً مِنْهُ فِي شَعْبَانَ"، وفي رواية ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة، عن عائشة الآتية:"وَلَمْ أَرَهُ صَائِماً مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلاً".

ورواه الشافعيّ من هذا الوجه بلفظ: "بل كان يصوم إلخ"، وهذا يبيّن أن المراد بقوله في حديث أم سلمة رضي الله عنها عند أبي داود وغيره:"أنه كان لا يصوم من السنة شهراً تامًّا إلا شعبان، يصله برمضان"؛ أي كان يصوم مُعْظَمه، ونقل

(1)

"الفتح" 5/ 387.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1603.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 464 - 465.

ص: 420

الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائزٌ في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى، واشتغل ببعض أمره، قال الترمذيّ: كأن ابن المبارك جَمَعَ بين الحديثين بذلك

(1)

.

وحاصله أن الرواية الأولى مفسِّرة للثانية مخَصِّصةٌ لها، وأن المراد بالكل الأكثر، وهو مجاز، قليل الاستعمال.

واستبعده الطيبيّ، قال: لأن الكل تأكيد لإرادة الشمول، ودفع التجوّز، فتفسيره بالبعض منافي له، قال: فَيُحْمَل على أنه كان يصوم شعبان كله تارةً، ويصوم معظمه أخرى؛ لئلا يتوهم أنه واجبٌ كله كرمضان.

وقيل: المراد بقولها: "كله" أنه كان يصوم من أوله تارة، ومن آخره أخرى، ومن أثنائه طوراً، فلا يُخْلِي شيئاً منه من صيام، ولا يخص بعضه بصيام دون بعض.

وقال الزيق ابق الْمُنِّير: إما أن يُحْمَل قولُ عائشة رضي الله عنها على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يُجْمَع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانياً عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى.

قال الحافظ: ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب، ويؤيده رواية عبد الله بن شقيق، عن عائشة رضي الله عنها عند مسلم، وسعد بن هشام عنها عند النسائيّ، ولفظه:"ولا صام شهراً كاملاً قط منذ قدم المدينة غير رمضان"، وهو

(1)

وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله متعقباً لهذا الجمع: هذا فيه ما فيه؛ لأنه قال فيه: "إلَّا شعبان ورمضان"، فعطف رمضان عليه يبعد أن يكون المراد بشعبان أكثره؛ إذ لا جائز أن يكون المراد برمضان بعضه، والعطف يقتضي المشاركة فيما عطف عليه، وإن مشى ذلك، فإنما يمشي على رأي من يقول: إن اللفظ الواحد يُحْمَل على حقيقته ومجازه، وفيه خلاف لأهل الأصول. انتهى.

قال العينيّ رحمه الله: لا يمشي هنا ما قاله على رأي البعض أيضًا؛ لأن من قال ذلك، قال في اللفظ الواحد، وهنا لفظان: شعبان ورمضان. انتهى. "عمدة القاري"(11/ 83).

ص: 421

مثل حديث ابن عباس رضي الله عنهما الآتي بعد حديث عائشة رضي الله عنها

(1)

.

[فائدة]: "شعبان": اسم من أسماء الشهور، غير منصرف؛ للعلميّة وزيادة الألف والنون، كرمّان، وجمعه شعبانات، وشَعَابين، أفاده في "المصباح"

(2)

.

وإنما سُمّي شعبان به؛ لتشعّبهم؛ أي تفرّقهم في طلب المياه، وقيل: في الغارات بعد أن يَخْرُج شهر رجب الحرام، وهذا أولى من الذي قبله، وقيل: إنما سُمّي شعبان؛ لأنه شَعَبَ؛ أي ظهر بين شهري رمضان ورَجَب، قاله في "الفتح"، و"اللسان"

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2721 و 2722 و 2723، (1156) و (782)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1969)، و (أبو داود) في "الصوم"(2/ 324)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 199 - 205)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 309)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2/ 346)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 107 و 153 و 242) و"الكبرى"(2/ 83 و 119 و 172)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 305)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3648)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 226)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 232)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 439)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 292 و 299) و"المعرفة"(3/ 442)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1776)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صوم التطوّع.

2 -

(ومنها): بيان استحباب أن لا يخلو شهر من الشهور عن صوم التطوّع.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 387.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 314.

(3)

"الفتح" 5/ 386، و"لسان العرب" 1/ 502.

ص: 422

3 -

(ومنها): أن فيه دليلاً على فضل الصوم في شعبان.

4 -

(ومنها): بيان إكثاره صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان.

[فإن قلت]: كيف تجمع بين إكثاره صلى الله عليه وسلم الصوم في شعبان مع قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرّم"؟، رواه مسلم.

[قلت]: أجاب النوويّ رحمه الله عنه بأنه يَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم ما عَلِم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتَّفَق له فيه من الأعذار بالسفر، أو المرض مثلًا ما منعه من كثرة الصوم فيه

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكمة إكثار النبيّ صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان، وتخصيصه بذلك من بين سائر الشهور:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك على أقوال:

فقيل: سببه أنه صلى الله عليه وسلم كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر، أو غيره، فتجتمع، فيقضيها في شعبان، أشار إلى ذلك ابن بطّال، وفيه حديث ضعيف، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، من طريق ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أَخّر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة، فيصوم شعبان. وابن أبي ليلى ضعيف، وحديث الباب دالّ على ضعف ما رواه.

وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث آخر، أخرجه الترمذيّ من طريق صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: "شعبان لتعظيم رمضان"، قال الترمذيّ: حديث غريبٌ، وصدقة عندهم ليس بذاك القوي.

قال الحافظ: ويعارضه ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم".

وقيل: الحكمة في إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان دون غيره أن نساءه كُنّ يقضين ما عليهنّ من رمضان في شعبان، وهذا عكس ما تقدم في الحكمة

(1)

راجع: "شرح النوويّ" 8/ 37.

ص: 423

في كونِهِنّ كُنّ يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان؛ لأنه ورد فيه أن ذلك لكونهنّ كُنّ يشتغلن معه صلى الله عليه وسلم عن الصوم.

وقيل: الحكمة في ذلك أنه يَعْقُبه رمضان وصومه مفترَضٌ وكان يكثر من الصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره؛ لما يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان.

قال الحافظ رحمه الله: والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصحّ مما مضى، أخرجه النسائيّ، وأبو داود، وصححه ابن خزيمة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال:"ذلك شهر يَغْفُلُ الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرْفَع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرْفَع عملي، وأنا صائم".

ونحوه من حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي يعلى، لكن قال فيه:"إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم".

قال: ولا تعارض بين هذا وبين ما تقدم من الأحاديث في النهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء من النهي عن صوم نصف شعبان الثاني، فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يُحْمَل النهي على من لم تَدخُل تلك الأيام في صيام اعتاده. انتهى كلام الحافظ رحمه الله"

(1)

، وهو بحث نفيسٌ مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2722]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعاً عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن ابْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَن أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أفطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِماً مِنْ شَهْرٍ قَطُّ

(1)

"الفتح" 5/ 388.

ص: 424

أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلاً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(عَمْرٌو الناقِدُ) تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريباً.

4 -

(ابْنُ أَبِي لَبِيدٍ) - بفتح اللام - هو: عبد الله بن أبي لبيد، أبو المغيرة المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ رُمي بالقدر [6] مات سنة بضع و (13)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 40/ 1456.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلاً) قال القرطبيّ رحمه الله: قيل: إن الكلام الأول يفسِّره الثاني، ويخصصه، وحينئذ يوافق قولها هذا مع قولها:"ما رأيته أكثر صوماً منه في شعبان"، وكذلك قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما:"إنه صلى الله عليه وسلم ما صام شهراً غير رمضان"، وقيل: معنى ذلك: أنه كان يصومه مرة كله، ومرة ينقص منه؛ لئلا يتوهم وجوبه.

وقيل في قولها: "كان يصوم شعبان كله": أي: يصوم في أوله، ووسطه، وآخره، ولا يخص شيئاً منه، ولا يعمُّه بصيام، وهذا أبعدها، وقد مضى القول على ما تضمنه أكثر هذا الحديث. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2723]

(782) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَاماً مِنْهُ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ

(1)

"المفهم" 3/ 223.

ص: 425

يَقُولُ: "خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا"، وَكَانَ يَقُولُ:"أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلَّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريباً.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، من كبار [7](154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر البصرفي، نزيل اليمامة، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس وُيرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِن اللهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ يَقُولُ: أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلَّ) تقدّم شرح هذا الكلام في "كتاب صلاة المسافرين وقصرها"[32/ 1827](782)، فراجعه تستفد علماً جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.

وقال في "الفتح": مناسبة هذا الكلام للحديث الإشارة إلى أن صيامه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يَتأسَّى به فيه إلا من أطاق ما كان يُطيقه صلى الله عليه وسلم، وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خُشِي عليه أن يَمَلَّ فيفضي إلى تركه، والمداومة على العبادة وإن قَلَّت أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت، فالقليل الدائم أفضل من الكثير المنقطع غالباً، وقد تقدم الكلام على مداومته صلى الله عليه وسلم على صلاة التطوع في بابها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 389.

ص: 426

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2724]

(1157) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَن ابْنِ عَبَاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: مَا صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْراً كَامِلاً قَط غَيْرَ رَمَضَانَ، وَكَانَ يَصُومُ إِذَا صَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا وَاللهِ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ إِذَا أفطَرَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا وَاللهِ لَا يَصُومُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

2 -

(أَبُو بِشْرٍ) بن أبي وَحْشيّة إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ من أثبت الناس في سعيد بن جُبير [5](5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 95)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

4 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، مات سنة (68) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

و"أبو الربيع" ذُكر في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) وفي رواية أبي داود الطيالسيّ في "مسنده" من طريق شعبة، عن أبي بشر: حدّثني سعيد بن جُبير (عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما) أنه (قَالَ: مَا صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْراً كَامِلاً قَط غَيْرَ رَمَضَانَ) قال الكرمانيّ رحمه الله: تقدم أنه

ص: 427

كان يصوم شعبان كلّه، ثم قال: إما أنه أراد بالكل معظمه، وإما أنه ما رأى إلَّا رمضان فأخبر بذلك على حسب اعتقاده. انتهى

(1)

.

(وَكَانَ يَصُومُ إِذَا صَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا وَاللهِ لَا يُفْطِرُ)"لا" الثانية مؤكّدة للأولى (وَيُفْطِرُ إِذَا أَفْطَرَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: لَا وَاللهِ لَا يَصُومُ) في الحديث استحباب التنفل بالصوم في كل شهر، وأن صوم النفل المطلق لا يَخْتَصّ بزمان إلا ما نَهَى عنه وأنه صلى الله عليه وسلم لم يصم الدهر، ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك؛ لئلا يُقْتَدَى به، فيشقّ على الأمة، وإن كان قد أُعْطي من القوّة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوُسْطَى، فصام وأفطر، وقام ونام، أشار إلى ذلك المهلَّب رحمه الله، وفيه الحلف على الشيء، وإن لم يكن هناك مَن ينكره مبالغةً في تأكيده في نفس السامع، قاله في "الفتح"

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2724 و 2725 و 2726 و 2727](1157)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1971)، و (أبو داود) في "الصوم"(2430)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(305)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 199)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1711)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 227 و 241 و 271 و 301 و 321)، و (الدراميّ) في "سننه"(2/ 30)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 233)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 51)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2725]

(

) - (وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: شَهْراً فتَتَابِعاً مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ).

(1)

راجع: "عمدة القاري" 11/ 86.

(2)

"الفتح" 5/ 391.

ص: 428

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار الْعبديّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

3 -

(فُنْدَز) محمد بن جعفر، أبو عبد الله البصريّ، ربيب شعبة، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج البصريّ الإمام الحجة الناقد المشهور [7](160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.

و"أبو بشر" ذُكر قبله.

وقوله: (وَقَالَ) فا عله ضمير "شعبة".

[تنبيه]: رواية شعبة، عن أبي بشر هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "مستخرجه" (3/ 233) فقال:

(2626)

- أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن أبي بشر، سمع سعيد بن جبير، يحدّث عن ابن عباس (ح) وثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد، حدّثني أبي، ثنا غندر، ويحيى بن سعيد، قالا: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يصوم، وما صام شهراً متتابعاً، غير رمضان، منذ قدم المدينة. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2726]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الْأنصَارِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ يْنَ جُبَيْرٍ عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ فِي رَجَبٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ

ص: 429

ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ، حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 2.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيم الْأنصَارِيُّ) هو: عثمان بن حكيم بن عَبّاد بن حُنيف الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات قبل (140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

إلخ) أي: قال سعيد بن جبير رحمه الله: سمعت ابن عبّاس رضي الله عنهما

إلخ، قال النوويّ رحمه الله: الظاهر أن مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلالِ أنه لا نهي عنه ولا ندب فيه لعينه، بل له حكم باقي الشهور، ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندبٌ لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه، وفي "سنن أبي داود" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَبَ إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2727]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَلِي بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، في هَذَا الْإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 38 - 39.

ص: 430

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، تقدّم قريباً.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) القرشيّ الكوفيّ تقدّم أيضاً قريباً.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) بن يزيد التميميّ، أبو إسحاق الفرّاء الرازيّ، يلقَّب بالصغير، ثقةٌ حافظٌ [10] مات بعد (220)(ع) تقدم في "الحيض" 7/ 721.

4 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) تقدّم قريباً.

و"عثمان" ذُكر قبله.

[تنبيه]: أما رواية عليّ بن مسهر، عن عثمان بن حكيم، فلم أر من ساقها، فليُنظر.

وأما رواية عيسى بن يونس، عنه، فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه" (2/ 323) فقال:

(2430)

- حدّثنا إِبْرَاهِيمُ بن مُوسَى، ثنا عِيسَى، ثنا عُثْمَانُ، يَعْنِي ابن حَكِيمٍ، قال: سَأَلْتُ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ عن صِيَام رَجَبٍ، فقال: أخبرني ابن عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يَصُومُ حتى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حتى نَقُولَ: لَا يَصُومُ. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2728]

(1158) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ

(1)

، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (ح) وَحَدَّثَني أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِع، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا

(2)

ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ، حَتَّى يُقَالَ: قَدْ صَامَ، قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ، حَتَّى يُقَالَ: قَدْ أَفْطَرَ، قَدْ أَفْطَرَ).

(1)

وفي نسخة: "حدّثنا روحٌ، حدّثنا حماد".

(2)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 431

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قريباً.

2 -

(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خلف، تقدّم قريباً أيضًا.

3 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

4 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد (200)، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

5 -

(حَمَّادُ) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

6 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

7 -

(أَنَسُ) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الخزرجي، الصحابيّ الخادم المشهور، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

و"أبو بكر بن نافع"، وهو: محمد بن أحمد بن نافع ذُكر في الباب، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: روى البخاريّ رحمه الله هذا الحديث من رواية حميد، لا من رواية ثابت، ولفظه:

(1972)

- حدّثني عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدّثني محمد بن جعفر، عن حميد، أنه سمع أنساً رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظنّ أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظنّ أن لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته".

(1973)

- حدّثني محمد - هو ابن سلام - أخبرنا أبو خالد الأحمر،

ص: 432

أخبرنا حميد، قال: سألت أنساً رضي الله عنه عن صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما كنت أحبّ أن أراه من الشهر صائماً إلا رأيته، ولا مفطراً إلا رأيته، ولا من الليل قائماً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته، ولا مَسِسْتُ خَزَّةً، ولا حريرةً ألين من كَفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شَمِمْتُ مِسْكَةً، ولا عَبِيرةً أطيب رائحةً من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 2728](1158)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1972 و 1973)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 159 و 208 و 252)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1322)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 240)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 387)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 234)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(37) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ، وَبَيَانِ أَفْضَلِ الصِّيَامِ)

(1)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2729]

(1159) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، فَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ وَهْبٍ، يُحَدَّثُ عَنْ يُونُسَ، عَن ابْنِ شِهَابٍ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو

(1)

عدلت عن ترجمة الشرّاح، كالنوويّ وغيره إلى هذه الترجمة؛ لكونها مختصرة، وبنحوها ترجم القرطبيّ رحمه الله في "مختصره"، فقال:"كراهية سرد الصوم، وبيان أفصل الصوم"، وأيضاً في ترجمة الشراح زيادة:"لمن تضرَر به، أو فوّت به حقًّا، أو لم يُفطر العيدين والتشريق إلخ"، وهذه الزيادات ليست في نصوص أحاديث الباب، وإنما هي من توجيهات العلماء في بيان سبب النهي، فلا يليق أن تذكر في الترجمة؛ لأن التراجم إنما تؤخذ من نصوصّ الأحاديث الواردة في الباب، فليُتنبّه لذلك.

ص: 433

سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرو بْن الْعَاصِ قَالَ: أُخْبرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّه يَقُولُ: لأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، وَلأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ، فقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟ " فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ، وَأَفْطِرْ، وَنَمْ، وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاَثَةَ أَيَّام، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ

(1)

، قَالَ:"صُمْ يَوْماً، وَأفطِرْ يَوْمَيْنِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:"صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَام"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطيقُ أفضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ"، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنه: لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاَثَةَ أَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الطَّاهرِ) أحمد بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ فقيه عابد [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

4 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، أبو يزيد الأموي مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

5 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، الإمام الحجة الثبت الفقيه، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.

6 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حزن بن أبي وهب المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ الإمام الثبت الفقيه المشهور، من كبار [3](ت 94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

(1)

وفي نسخة: "أكثر من ذلك".

ص: 434

7 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، تقدّم في الباب الماضي.

8 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاص) بن وائل بن هاشم بن سُعَيد السهميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات ليلة الحرّة على الأصحّ بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بكتابة (خ).

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فالأول ما أخرج له البخاريّ والترمذيّ، والثاني انفرد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيين.

5 -

(ومنها): أن فيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة بلا خلاف، وأبا سلمة منهم أيضًا على بعض الأقوال.

6 -

(ومنها): أن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما.

[تنبيه]: هذا الحديث رواه جماعة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فقد أورده المصنّف في هذا الباب من رواية أبي سلمة، وابن المسيِّب، وأبي العبّاس الشاعر، وعمرو بن أوس، وأبي المليح، وأبي عياض، وسعيد بن ميناء، كلهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

وأورده البخاريّ في "صحيحه" عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، وأبي العباس الشاعر، ومجاهد، وأبي المليح كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

قال الحافظ رحمه الله: ورواه جماعة من الكوفيين، والبصريين، والشاميين، عن عبد الله بن عمرو مطولًا ومختصراً، فمنهم من اقتصر على قصة الصلاة،

ص: 435

ومنهم من اقتصر على قصة الصيام، ومنهم من ساق القصة كلها، قال: ولم أره من رواية أحد من المصريين عنه، مع كثرة روايتهم عنه. انتهى

(1)

.

(قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، والمخبر هوأبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه، كما يأتي من رواية البخاريّ من طريق مجاهد، عن عبد الله بن عمرو.

أَنَّه يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، وَلَأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ) "ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي مدّة عَيشي، وبقائي في الدنيا، وفي رواية عكرمة بن عمّار التالية:"قال: كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كلَّ ليلة، قال: فإما ذُكِرتُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إليّ، فأتيته، فقال لي: ألم أُخْبَرْ أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كلّ ليلة؟ فقلت: بلى يا نبيّ الله، ولم أُرد بذلك إلا الخير".

وفي رواية للنسائيّ من طريق محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة قال:"قال لي عبد الله بن عمرو: يا ابن أخي إني قد كنت أجمعت على أن أجتهد اجتهاداً شديداً، حتى قلت: لأصومنّ الدهر، ولأقرأنّ القرآن في كل ليلة".

وفي رواية للبخاريّ في "فضائل القرآن"، من طريق مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: "أنكحني أبى امرأةً ذات حَسَب، وكان يتعاهدها، فسألها عن بعلها، فقالت: نِعم الرجل من رجل لم يطأً لنا فِراشاً، ولم يفتش لنا كَنَفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: الْقَنِي به، فلقيته بعدُ

"، فذكر الحديث، زاد النسائيّ، وابن خزيمة، وسعيد بن منصور، من طريق أخرى عن مجاهد: "فوقع عليّ أبي، فقال: زوّجتك امرأةً، فعضلتها، وفعلت وفعلت وفعلت، قال: فلم ألتفت إلى ذلك؛ لِمَا كانت لي من القوّة، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: القني به، فأتيته معه"، ولأحمد من هذا الوجه: "ثم انطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشكاني".

وفي رواية أبي المليح، عن عبد الله بن عمرو الآتية قال: ذكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم صومي، فدخل عليّ، فالقيت له وِسادةً.

وفي رواية أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو الآتية: "بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أني

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 392.

ص: 436

أصوم أسرُد، وأُصلي الليل، فإما أرسل إليّ، وإما لقيته، فقال: ألم أُخبَرْ أنك تصوم، ولا تفطر

".

قال في "الفتح": ويُجْمَع بينهما بأن يكون عمرو توجه بابنه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك، ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آنْتَ) بمدّ الهمزة، أصله أأنت بهمزتين، أولاهما للاستفهام (الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟ ") أي ما ذكر من قولك: لأقومنّ الليل، ولأصومنّ النهار ما عِشْتُ (فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ) زاد في الرواية التالية: "ولم أرد إلا الخير"(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ) قال في "الفتح": يَحْتَمل أن يريد به الحالة الراهنة؛ لما عَلِمه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أنه يتكلّف ذلك، ويُدخِل به على نفسه المشقّة، ويُفَوِّت به ما هو أهمّ من ذلك.

ويَحْتَمِل أن يريد به ما سيأتي بعدُ إذا كَبِر وعَجِزَ، كما اتَّفق له سواءً، وكَرِهَ أن يوظِّف على نفسه شيئاً من العبادة، ثم يعجز عنه، فيتركه؛ لما تقرَّر من ذمّ مَنْ فَعَلَ ذلك. انتهى

(2)

.

وفي الرواية الآتية: "فلا تفعل، فإن لعينك عليك حظًّا، ولنفسك حظًّا، ولأهلك حظًّا "، وفي رواية:"فإنك إذا فعلت ذلك هَجَمت له عيناك، ونَفِهت نفسك"، وزاد في رواية ابن خزيمة: "إن لكل عامل شِرَّة

(3)

ولكل شِرّة فترةً، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك".

(فَصُمْ) أي في بعض الأيام، وقال القاري رحمه الله:"صُمْ " وقتَ النشاط، وهو لا يكون إلا في بعض الأيام، أو وقت طُغْيان النفس؛ لتنكسر سَوْرتها. انتهى

(4)

.

(وَأَفْطِرْ) بقطع الهمزة؛ أي في بعضها، وقال القاري رحمه الله:"وأَفْطِرْ" وقتَ

(1)

"الفتح" 5/ 393 - 394.

(2)

"الفتح" 5/ 397.

(3)

بكسر المعجمة، وتشديد الراء: النشاط.

(4)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 484.

ص: 437

السآمة والملالة، وخمود النفس، وكسر شهوتها، أو صُمْ أيام الفواضل؛ لإدراك الفضائل، وأفطر في غيرها؛ لتقوية البدن، وتحسين الأخلاق والشمائل. انتهى

(1)

.

(وَنَمْ) بفتح النون

(2)

، أمر من نام ينام، من باب خاف؛ أي نَمْ بعض الليل (وَقُمْ) أي: بعضه، والمعنى: اجمع بين القيام والنوم في الليل الواحد، وقوله:(وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاَثَةَ أَيَّامٍ) بعد قوله: "فصم، وأفطر" بيان لما أجمل من ذلك، وتقرير له على ظاهره؛ إذ الإطلاق يقتضي المساواة

(3)

.

(فَإنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) إشارة إلى قوله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] الآية (وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَام الدَّهْرِ") أي يكون ثوابه كثواب صيام الدهر، قال في "الفتح": هذا يقتضي أنَّ المثليّة لا تستلزم التساوي من كلّ جهة؛ لأن المراد به هنا أصل التضعيف دون التضعيف الحاصل من الفعل، ولكن يَصْدُقُ على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازاً. انتهى

(4)

.

(قَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ

(5)

، وفي نسخة: أكثر من ذلك" (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً) وفي رواية أبي عياض الآتية:"صم يوماً، ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يومين، ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام، ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم أربعة أيام، ولك أجر ما بقي، قال: إني اطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل الصيام صوم داود؟، كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً".

وفي رواية أبي المليح عند البخاريّ: "يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام،

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 484.

(2)

[تنبيه]: ما اشتهر على الألسنة من ضم نون "نَم"، وكذا في الماضي "نُمتُ"، وفي المضارع "أنُوم" فمن الأغلاط الشائعة، فليُحذَر.

(3)

"الفتح" 5/ 397.

(4)

"الفتح" 5/ 397.

(5)

وفي نسخة: "أكثر من ذلك".

ص: 438

قلت: يا رسول الله، قال: خمساً، قلت: يا رسول الله، قال: سبعاً، قلت: يا رسول الله، قال: تسعاً، قلت: يا رسول الله، قال: إحدى عشرة".

واستَدَلّ به عياض على تقديم الوتر على جميع الأمور، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لما في رواية مسلم من طريق أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو:"صم يوماً -يعني من كل عشرة أيام- ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يومين، ولك أجر ما بقي -إلى أن قال-: قال: صم صوم داود"، كما مرّ آنفاً.

قال: وهذا يقتضي أنه أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم بستة، ثم بتسعة، ثم باثني عشر، ثم بخمسة عشر، فالظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن وَصّله إلى خمسة عشر يوماً، فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخر.

قال: ويدلّ على ذلك رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عند أبي داود:"فلم يزل يناقصني وأناقصه".

ووقع للنسائيّ في رواية محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة:"صُمْ الاثنين والخميس من كل جمعة"، وهو فرد من أفراد ما تقدم ذكره.

وقد استُشْكِل قوله: "صم من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر ما بقي"، مع قوله:"صم من كل عشرة أيام يومين، ولك أجر ما بقي إلخ"؛ لأنه يقتضي الزيادة في العمل، والنقص من الأجر، وبذلك ترجم له النسائيّ عز وجل.

وأجيب بأن المراد: لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف.

وقال عياض: قال بعضهم: معنى "صم يوماً، ولك أجر ما بقي" أي من العشرة، وقوله:"صم يومين، ولك أجر ما بقي"؛ أي من العشرين، وفي الثلاثة ما بقي من الشهر، وحَمَله على ذلك استبعاد كثرة العمل، وقلة الأجر.

وتعقبه عياض بأن الأجر إنما اتَّحَد في كل ذلك؛ لأنه كان نيَّته أن يصوم جميع الشهر، فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاءً عليه لما ذُكِر بقي أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلاً أو كثيراً، كما تأوله في حديث: "نية المؤمن خير

ص: 439

من عمله"

(1)

؛ أي إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله؛ لامتداد نيته بما لا يقدر على عمله. انتهى.

قال الحافظ: والحديث المذكور ضعيفٌ، وهو في "مسند الشهاب"، والتأوبل المذكور لا بأس به.

ويَحْتَمِل أيضاً إجراء الحديث على ظاهره، والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم، فينقص الأجر باعتبار ذلك، على أن قوله في نفس الخبر:"صُمْ أربعة أيام، ولك أجر ما بقي"، يَرُدّ الحمل الأول، فإنه يلزم منه على سياق التأويل المذكور أن يكون التقدير: ولك أجر أربعين، وقد قيّده في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين، وكذلك قوله في رواية أخرى للنسائيّ، من طريق ابن أبي ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، بلفظ:"صُمْ من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تلك التسعة، ثم قال فيه: من كل تسعة أيام يوماً، ولك أجر تلك الثمانية، ثم قال: من كل ثمانية أيام يوماً، ولك أجر السبعة، قال: فلم يزل حتى قال: صُمْ يوماً، وأفطر يوماً".

وله من طريق شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، عن جدّه بلفظ:"صُمْ يوماً، ولك أجر عشرة، قلت: زدني، قال: صم يومين، ولك أجر تسعة، قلت: زدني، قال: صم ثلاثة، ولك أجر ثمانية"، فهذا يدفع في صدر ذلك التأويل الأول، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ؛، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ") أي أفضلها، كما بيّنه بقوله:"لا أفضل من ذلك"، وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "وهو أعدل الصيام"؛ أي من جهة حفظ القوة، ووجدان صوم مشقة العبادة، وإذا كان أعدل في نفسه فهو عند الله أفضل وأحب، ولا صوم فوقه أعدل في الفضل، كما جاءت هذه

(1)

حديث ضعيف، أخرجه الطبرانيّ من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، ولفظه:"نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكلٌّ يعمل على نيته، فإذا عمل المؤمن عملاً نار في قلبه نور".

(2)

"الفتح" 5/ 395 - 396.

ص: 440

الألفاظ، وهي كلها متقاربة في مدلولها، وهو بلا شك نقل بالمعنى، ومضمون هذه الألفاظ: أن هذا الصوم أعدل في نفسه وأكثر في ثوابه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عبد الله (قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ") أي من صوم داود؛، وفي رواية البخاريّ:"فصم صيام نبيّ الله داود، ولا تزد عليه" أي على صوم داود، زاد أحمد وغيره من رواية مجاهد:"قلت: قد قبلتُ".

وقال في "الفتح": قوله: "لا أفضل من ذلك" ليس فيه نفي المساواة صريحاً، لكن قوله في الرواية الأخرى عند البخاريّ:"أحب الصيام إلى الله صيام داود" يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقاً، ورواه مسلم والترمذيّ بلفظ:"أفضل الصيام صيام داود"، ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة. انتهى بتصرّف

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا شكّ في ثبوت الأفضليّة مطلقاً؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام صيام داود" صريح في ذلك، فمن زاد على صوم داود، فقد ترك الأفضل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

(قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنه: لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ أَيَّامَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أي: في قوله: "وصُم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها"(أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي) وفي الرواية التالية: "قال: وقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر، قال: فصِرتُ إلى الذي قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما كَبِرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم ".

معنى كلامه صلى الله عليه وسلم هذا أنه كَبِرَ وعجز عن المحافظة على ما التزمه، ووَظَّفَه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشقّ عليه فعله؛ لعجزه، ولم يُعجبه أن يتركه؛ لالتزامه له، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"، فتمنى أن لو قبل الرخصة، فأخذ بالأخفّ.

ثم إنه رضي الله عنه مع عجزه وتمنيه الأخذ بالرخصة، لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف، كما بُيّن ذلك في رواية الإمام أحمد: "وكان

(1)

"المفهم" 3/ 227.

(2)

"الفتح" 5/ 398.

ص: 441

عبد الله حين ضَعُف وكَبِر يصوم تلك الأيام كذلك، يصل بعضهما إلى بعض، ثم يفطر بعدد تلك الأيام، فيقوى بذلك، وكان يقول: لأن أكون قبلت الرّخصة أحب إلي مما عدل به، لكنني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره"

(1)

. انتهى.

وقال القرطبي رحمه الله: هذا إنما قاله عبد الله لمّا انتهى من العمر إلى الكبر

(1)

أخرجه الإمام أحمد بن حنبل عز وجل في "مسنده"(2/ 158) مطوّلاً، فقال:

- حدّثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد، حدثني أبي، ثنا هُشيم، عن حصين بن عبد الرحمن، ومغيرة الضبي، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: زوّجني أبي امرأةً من قريش، فلما دخلت عليّ، جعلت لا أنحاش لها، مما بي من القوّة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كَنَّته حتى دخل عليها، فقال لها: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال، أو كخير البعولة، من رجل لم يفتش لنا كَنْفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، فأقبل عليّ، فعذمني، وعضني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب، فعضلتها، وفعلت وفعلت، ثم انطلق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشكاني، فأرسل إلي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فقال لي:"أتصوم النهار؟ " قلت: نعم، قال:"وتقوم الليل؟ " قلت: نعم، قال:"لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسّ النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، قال:"اقرأ القرآن في كل شهر"، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال:"فاقرأه في كل عشرة أيام"، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال أحدهما، إما حُصين، وأما مغيرة: قال "فاقرأه في كل ثلاث" قال: ثم قال: "صم في كل شهر ثلاثة أيام"، قلت: اني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل يرفعني، حتى قال:"صم يوماً، وأفطر يوماً، فإنه أفضل الصيام، وهو صيام أخي داود"، قال حصين في حديثه: ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فإن لكل عابد شرّةً، ولكل شرة فترة، فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك"، قال مجاهد: فكان عبد الله بن عمرو حيث ضعف وكبر يصوم الأيام كذلك، يصل بعضها إلى بعض؛ ليتقوى بذلك، ثم يفطر بعد تلك الأيام، قال: وكان يقرأ في كل حزبه كذلك يزيد أحياناً وينقص أحياناً غير أنه يوفي العدد، إما في سبع، وإما في ثلاث، قال: ثم كان يقول بعد ذلك: لأن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الي مما عُدل به، أو عُدل، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره. انتهى. وقوله "كَنّته" بفتح الكاف، وتشديد النون: هي زوج الولد.

ص: 442

الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخبره به بقوله: "إنك لا تدري لعله يطول بك عمر"، قال: فصرت للذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فلما كبرتُ وددتُ أني كنت قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من عبد الله يدلّ على أنه كان قد التزم الأفضل مما نقله إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والأكثر، إما بحكم التزامه الأول؛ إذ قال؛ لأصومنّ الدهر، ولأقومنّ الليل ما عشتُ، وإما بحكم أنه هو الحال الذي فارق النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وكره أن ينقص من عمل فارق النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، فلم ير أن يرجع عنه، وإن كان قد ضعف عنه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [37/ 2729 و 2730 و 2731 و 2732 و 2733 و 2734 و 2735 و 2736 و 2737 و 2738 و 2739 و 2740 و 2741 و 3742 و 2743](1159)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1153) و"الصوم"(1976 و 1977 و 1978 و 1979) و"أحاديث الأنبياء"(3418 و 3419) و"فضائل القرآن"(5052)، و (أبو داود) في "الصوم"(2427)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 209 - 212) و"الكبرى"(2/ 128)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2255)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(7862)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 187 - 188)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(352 و 2590 و 3573 و 3643 و 3661)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(2/ 85 - 86)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 157)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 224)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 235)، والبيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 16 و 4/ 299)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1807 و 1808)، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 3/ 227 - 228.

ص: 443

(المسألة الثالثة): في فوائد حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا على اختلاف ألفاظه

(1)

، فقد قال القرطبي رحمه الله: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما اشتَهَرَ، وكَثُر رواته، فكثر اختلافه حتى ظَنَّ من لا بصيرة عنده: أنه مضطرب، وليس كذلك؛ فإنه إذا تُتُبِّع اختلافه، وضم بعضه إلى بعض انتَظَمَت صورته، وتناسب مساقه؛ إذ ليس فيه اختلاف تناقض، ولا تهاتر، بل يرجع اختلافه إلى أَنْ ذَكَرَ بعضُهم ما سكت عنه غيره، وفَصَّل بعض ما أجمله غيره، وسنشير إلى بعضه - إن شاء الله تعالى. انتهى

(2)

.

1 -

(منها): بيان أفضلية صوم يوم، وإفطار يوم.

2 -

(ومنها): تفقّد الإمام لأمور رعيته كلياتها، وجزئياتها، وتعليمهم ما يُصلحهم.

3 -

(ومنها): بيان رفق النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى ما يُصلحهم، وحثّه لهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمّق والإكثار من العبادات التي يُخاف عليهم الملل بسببها، أو تركها، أو ترك بعضها، وقد بَيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الماضي في الباب السابق بقوله:"عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لن يمل حتى تملوا"، وكان يقول:"أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وإن قلّ"، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي في الباب:"لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل"، وقد ذم الله تعالى قوماً أكثروا العبادة، ثم فَرَّطوا فيها، فقال تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] الآية.

4 -

(ومنها): الندب إلى الدوام على ما وظّفه الإنسان على نفسه من العبادة.

(1)

ليس المراد فوائد هذا المتن الذي شرحته الآن، بل فوائد الحديث بجميع طرقه المختلفة التي ذكرها المصنّف، أو زيدت في الشرح.

(2)

"المفهم" 3/ 224.

ص: 444

5 -

(ومنها): جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة، والأوراد، ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أن محلّ ذلك عند أمن الرياء.

6 -

(ومنها): الحضّ على ملازمة العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته لعبد الله بن عمرو تشدّده على نفسه حضّه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر من النفس، والأهل، والأضياف أن تضيّع حقّ العبادة، وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما.

7 -

(ومنها): أنه لا يجوز للإنسان أن يُجهد نفسه بالعبادة حتى يَضعُف عن القيام بحقوق زوجته، من الجماع، والاكتساب.

وقد اختلف العلماء فيمن كفّ عن جماع زوجته، فقال مالك: إن كان بغير ضرورة الزم به، أو يفرّق بينهما، ونحوه عن أحمد، والمشهور عند الشافعيّة أنه لا يجب عليه، وقيل: يجب مرّة، وعن بعض السلف في كلّ أربع ليلة، وعن بعضهم في كلّ طهر مرّة

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح عندي هو القول بوجوب جماعها إذا طلبت منه ذلك؛ لأن هذا من المعاشرة بالمعروف التي أوجبها الله تعالى بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى أيضاً:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وسيأتي تمام البحث في ذلك في موضعه من "كتاب النكاح"، إن شاء الله تعالى.

8 -

(ومنها): فضيلة نبيّ الله داود عليه السلام، حيث إنه كان أعبد الناس.

9 -

(ومنها): بيان منقبة الصحابيّ الجليل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، حيث كان بهذه المنزلة من الالتزام بالعبادة، وعدم الالتفات إلى الدنيا، وشهواتها.

10 -

(ومنها): جواز القَسَمَ على التزام العبادة، وفائدته الاستعانة باليمين على النشاط لها، وأن ذلك لا يخلّ بصحة النية، والإخلاص فيها.

11 -

(ومنها): أن اليمين على التزام العبادة لا يُلحقها بالنذر الذي يجب الوفاء به.

12 -

(ومنها): جواز الحلف من غير استحلاف.

(1)

"الفتح" 10/ 374.

ص: 445

13 -

(ومنها): أن النفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص، والأوقات، والأحوال.

14 -

(ومنها): الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في أنواع العبادات، كما أمر صلى الله عليه وسلم عبد الله هنا، وكما أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم، حيث قال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] الآية.

15 -

(ومنها): زيارة الفاضل للمفضول في بيته.

16 -

(ومنها): إكرام الضيف بإلقاء الفُرُش، ونحوها تحته، كما يأتي في قوله: "فألقيت له وسادة من أدم

إلخ"، وتواضع الزائر بجلوسه دون ما يفرش له، وأنه لا حرج عليه في ذلك؛ إذا كان على سبيل التواضع والإكرام للمزور.

17 -

(ومنها): بيان النهي عن صوم الدهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد"، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم صوم الدهر:

ذهب إسحاق ابن راهويه، وأهل الظاهر إلى كراهته مطلقاً، سواء أفطر الأيام الخمسة المنهيّ عنها أم لا، وهي رواية عن أحمد، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: فَسَّرَ مسدّد قول أبي موسى: "من صام الدهر ضُيّقت عليه جهنم": أي فلا يدخلها. فضحك، وقال: من قال هذا؟، فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كره ذلك، وما فيه من الأحاديث

(1)

.

وقال ابن حزم: لا يحلّ صوم الدهر أصلاً -يعني أنه يحرم.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه ابن حزم هو الحقّ عندي، كما يأتي تحقيقه، إن شاء الله تعالى.

وإلى الكراهة مطلقاً ذهب ابن العربيّ من المالكية، فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد" في حديث عبد الله بن عمرو، إن كان معناه الدعاء، فيا وَيحَ من أصابه دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخبر، فيا وَيحَ من أخبر عنه

(1)

انظر: "المغني" 3/ 67.

ص: 446

النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعاً، لم يكتب له الثواب؛ لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل، كما تقدّم، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبيّ صلى الله عليه وسلم؟. انتهى.

واستُدلّ للكراهة والمنع بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد"، وسيأتي في الباب، واستدلّ أيضاً لذلك بقصّة عبد الله بن عمرو التي وردت في حديث الباب.

قال ابن التين: استُدلّ على كراهة صوم الدهر من هذه القصّة من أوجه: نهيُهُ صلى الله عليه وسلم عن الزيادة على صوم نصف الدهر، وأمره بأن يصوم ويفطر، وقوله:"لا أفضل من ذلك"، ودعاؤه على من صام الأبد. انتهى.

وبحديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة الذين قال أحدهم: إنه يصوم، ولا يفطر، وقال الثاني: إنه يقوم الليل، ولا ينام، وقال الثالث: إنه لا يأتي النساء، فقال صلى الله عليه وسلم:"أمّا أنا فأصوم، وأفطر، وأقوم، وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس منّي"، متّفقٌ عليه.

فهذا الحديث الصحيح يدلّ على أن صيام الدهر من الرَّغْبَة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستحقّ فاعله ما رتّبه عليه من الوعيد بقوله:"فمن رغب عن سنتي، فليس منّي".

وبحديث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: رجل يصوم الدهر؟ قال: "وددت أنه لم يطعم الدهر شيئاً

" الحديث. أخرجه النسائيّ

(1)

.

قال السنديّ: أي وددت أنه ما أكل ليلاً، ولا نهاراً حتى مات جوعاً، والمقصود بيان كراهة عمله، وأنه مذموم العمل، حتى يتمنى له الموت بالجوع.

وبحديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، رفعه:"من صام الدهر ضُيّقت عليه جهنم هكذا، وقبض كفّه"، حديث صحيح، أخرجه أحمد، والنسائيّ،

(1)

حديث صحيح، أخرجه النسائيّ (2385).

ص: 447

وابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقيّ

(1)

، وابن أبي شيبة، والبزّار، ولفظ ابن حبّان، والبزار، والبيهقيّ:"ضيّقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين"، وأخرجه أيضاً الطبرانيّ، قال الهيثميّ

(2)

: رجاله رجال الصحيح.

قال الحافظ: ظاهره أنها تضيّق عليه حصراً له فيها لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد، فيكون حراماً. انتهى.

وقال ابن التركماني: ظاهر هذا الحديث يقتضي المنع من صوم الدهر، وقد أورده ابن أبي شيبة في "باب من كره صوم الدهر"، واستدلّ به ابن حزم على المنع، وقال: إنما أورده رواته كلهم على التشديد، والنهيِ عن صومه، وقال ابن حبّان في "صحيحه": ذكر الأخبار عن نفي جواز سرد المسلم صوم الدهر"، وذكر هذا الحديث.

واستدلّ للمنع أيضاً بما روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي عمرو الشيبانئ، قال: بلغ عمر أن رجلاً يصوم الدهر، فأتاه، فعلاه بالدّرّة، وجعل يقول: كُلْ يا دهريّ، قال ابن حزم: قد صحّ عن عمر تحريم صيام الدهر، كما رويناه، فذكر هذا الأثر، ثم قال: هذا في غاية الصحّة عنه، فصحّ أن تحريم صوم الدهر كان من مذهبه، ولو كان عنده مباحاً لما ضرب فيه، ولا أمر بالفطر. انتهى.

وبما روى ابن أبي شيبة أيضاً من طريق أبي إسحاق أن عبد الرحمن بن أبي نُعْم كان يصوم الدهر، فقال عمرو بن ميمون: لو رأى هذا أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه.

وبما روى الطبرانيّ عن عمرو بن سلمة، قال: سئل ابن مسعود عن صوم الدهر؟ فكرهه، قال الهيثميّ: إسناده حسن.

وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر من قوي عليه، ولم يفوّت فيه

(1)

"السنن الكبرى" 4/ 300.

(2)

"مجمع الزوائد" 3/ 193.

ص: 448

حقًّا، وأفطر الأيام المنهيّ عنها، وإلى هذا ذهب الجمهور، منهم: مالك، والشافعيّ، وأحمد في رواية.

قال مالك في "الموطأ": إنه سمع أهل العلم يقولون: لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها، وذلك أحبّ ما سمعت إلي في ذلك. انتهى.

وصرّح الزرقاني، وغيره من المالكية باستحبابه بالشروط المذكورة.

وقال النوويّ: مذهب الشافعي، وأصحابه أن سرد الصيام إذا أفطر العيدين، والتشريق، لا كراهة فيه، بل هو مستحبّ بشرط أن لا يلحقه به ضرر، ولا يفوّت حقًّا، فإن تضرَّر، أو فوّت حقًّا فمكروه. انتهى.

وقال ابن قُدامة: قال أبو الخطاب: إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين، وأيام التشريق؛ لأن أحمد قال: إذا أفطر يومي العيدين، وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس، وروي نحو هذا عن مالك، وهو قول الشافعيّ؛ لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم، منهم أبو طلحة. قال ابن قدامة: والذي يَقوَى عندي أن صوم الدهر مكروه، وإن لم يصم هذه الأيام، فإن صامها فقد فعل محرّماً، وإنما كره صوم الدهر؛ لما فيه من المشقّة والضعف، وشبه التبتّل المنهيّ عنه؛ بدليل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو:"إنك تصوم الدهر، وتقوم الليل؟ "، فقلت: نعم، قال: "إنك إذا فعلت ذلك هَجَمَت له عينك، ونَفِهَت له نفسك، لا صام من صام الدهر

" الحديث.

واحتجّ الجمهور على الاستحباب بما صحّ من حديث حمزة بن عَمْرو الأسلميّ رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال:"إن شئت فصم"، فأقرّه صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام، ولو كان مكروهاً لم يقرّه.

وأجيب عن هذا: أوّلاً بأن سؤال حمزة إنما كان عن صوم الفرض في السفر، لا عن صوم الدهر، كما سبق. وثانياً بأن سرد الصوم لا يستلزم صوم الدهر؛ لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، بل المراد: إني أكثر الصوم، وكان هو كثير الصوم، كما ورد في بعض الروايات، ويؤيّد عدم الاستلزام ما أخرجه أحمد، والنسائيّ من حديث أسامة بن زيد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسرد

ص: 449

الصوم، مع ما ثبت أنه لم يصم الدهر، بل لم يصم شهراً كاملاً إلا رمضان، وبهذا يجاب عما رُوي عن عمر، وعائشة أنهما كانا يسردان الصوم.

واحتجّوا أيضاً بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "صم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر"، وفي حديث أبي أيوب رضي الله عنه مرفوعاً:"من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوّال كان كصيام الدهر"، رواه مسلم. قالوا: والمشبّه به يكون أفضل من المشبه، فدلّ ذلك على أن صوم الدهر أفضل من هذه المشبهات، فيكون مستحبًّا، وهو المطلوب.

وتُعُقّب بأن التشبيه في الأمر المقدّر لا يقتضي جوازه، فضلاً عن استحبابه، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوماً، ومن المعلوم أن المكلّف لا يجوز له صيام جميع السنة، فلا يدلّ التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه، كذا ذكره في "الفتح".

وقد بسط هذا الجواب ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد"، فأجاد، وأفاد، حيث قال:

ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم سرد الصوم، وصيام الدهر، بل قد قال:"من صام الدهر لا صام، ولا أفطر"، وليس مراده بهذا من صام الأيام المحرَّمة، فإنه ذَكَر ذلك جواباً من قال: أرأيت من صام الدهر؟، ولا يقال في جواب من فعل المحرم: لا صام ولا أفطر، فإن هذا يؤذن بأنه سواء فطره وصومه، لا يثاب عليه، ولا يعاقب، وليس كذلك من فعل ما حرم الله عليه من الصيام، فليس هذا جواباً مطابقاً للسؤال عن المحرّم من الصوم.

وأيضاً فإن هذا عند من استَحَبّ صوم الدهر قد فَعَل مستحبًّا وحراماً، وهو عندهم قد صام بالنسبة إلى أيام الاستحباب، وارتكب محرماً بالنسبة إلى أيام التحريم، وفي كل منهما لا يقال: لا صام ولا أفطر، فتنزيل قوله على ذلك غلطٌ ظاهرٌ.

وأيضاً فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع، غير قابلة للصوم شرعاً، فهي بمنزلة الليل شرعاً، وبمنزلة أيام الحيض فلم يكن الصحابة ليسألوه عن صومها،

ص: 450

وقد عَلِموا عدم قبولها للصوم، ولم يكن ليجيبهم لو لم يعلموا التحريم بقوله:"لا صام ولا أفطر"، فإن هذا ليس فيه بيان للتحريم.

فهديه الذي لا شك فيه أن صيام يوم، وفطر يوم أفضل من صوم الدهر، وأحبّ إلى الله، وسرد صيام الدهر مكروه، فإنه لو لم يكن مكروهاً لزم أحد ثلاثة أمور ممتنعة: أن يكون أحب إلى الله من صوم يوم وفطر يوم، وأفضل منه؛ لأنه زيادة عمل، وهذا مردود بالحديث الصحيح: أن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأنه لا أفضل منه، وإما أن يكون مساوياً له في الفضل، وهو ممتنع أيضًا، وإما أن يكون مباحاً متساوي الطرفين، لا استحباب فيه ولا كراهة، وهذا ممتنعٌ؛ إذ ليس هذا شان العبادات، بل إما أن تكون راجحة، أو مرجوحة، والله أعلم. قال:

[فإن قيل]: فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعة ستة أيام من شوال، فكأنما صام الدهر"، وقال فيمن صام ثلاثة أيام من كل شهر:"إن ذلك يعدل صوم الدهر"، وذلك يدلّ على أن صوم الدهر أفضل مما عُدِل به، وأنه أمر مطلوب، وثوابه أكثر من ثواب الصائمين، حتى شُبِّه به من صام هذا الصيام.

[قيل]: نفس هذا التشبيه في الأمر المقدَّر لا يقتضي جوازه فضلًا عن استحبابه، وإنما يقتضي التشبيه به في ثوابه لو كان مستحبًّا، والدليل عليه من نفس الحديث، فإنه جعل صيام ثلاثة أيام من كل شهر بمنزلة صيام الدهر؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، وهذا يقتضي أن يحصل له ثواب من صام ثلاثمائة وستين يوماً، ومعلوم أن هذا حرام قطعاً، فعُلم أن المراد به حصول هذا الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوماً، وكذلك قوله في صيام ستة أيام من شوال: إنه يعدل مع صيام رمضان السنة، ثم قرأ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] الآية فهذا صيام ستة وثلاثين يوماً تعدل صيام ثلاثمائة وستين يوماً، وهو غير جائز بالاتفاق.

بل قد يجيء مثل هذا فيما يَمتنع فعل المشبَّه به عادةَ، بل يستحيل، وإنما شُبِّه به من فعل ذلك على تقدير إمكانه، كقوله من سأله عن عمل يعدل الجهاد: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم، ولا تفتر، وأن تصوم ولا

ص: 451

تفطر

"، ومعلوم أن هذا ممتنع عادةً، كامتناع صوم ثلاثمائة وستين يوماً شرعاً.

وقد شبه العمل الفاضل بكل منهما، ويزيده وضوحاً أن أحب القيام إلى الله قيام داود، وهو أفضل من قيام الليل كله بصريح السنة الصحيحة، وقد مثّل من صلى العشاء الآخرة والصبح في جماعة بمن قام الليل كله.

[فإن قيل]: فما تقولون في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعاً: "من صام الدهر ضُيِّقت عليه جهنم، حتى تكون هكذا، وقبض كفه"، وهو في "مسند أحمد"، وغيره.

[قيل]: قد اختَلَف في معنى هذا الحديث، فقيل: ضُيِّقت عليه حصراً له فيها؛ لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتقاده أن غيره أفضل منه.

وقال آخرون: بل ضُيِّقت عليه، فلا يبقى له فيها موضع، ورَجَّحَت هذه الطائفة هذا التأويل بأن الصائم لما ضَيَّق على نفسه مسالك الشهوات وطرقها بالصوم، ضَيَّق الله عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان؛ لأنه ضيّق طرقها عنه.

ورَجَّحت الطائفة الأولى تأويلها بأن قالت: لو أراد هذا المعنى لقال: ضُيِّقت عنه، وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها.

قالوا: وهذا التأويل موافق لأحاديث كراهة صوم الدهر، وأن فاعله بمنزلة من لم يصم. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال الشوكانيّ رحمه الله في "السيل الجرّار" -بعد ذكر حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه المذكور - ما نصّه: هذا وعيد ظاهر، وتأويله بما يخالف هذا المعنى تعسّف وتكلّف، والعجب ذهاب الجمهور إلى استحباب صوم الدهر، وهو مخالف للهدي النبويّ، وهو أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه:"كلّ أمر ليس عليه أمرنا، فهو ردّ"، وهو أيضاً من الرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن رغب عن سنته، فليس منه، كما تقدّم،

(1)

"زاد المعاد في هدي خير العباد" 2/ 80 - 83.

ص: 452

وهو أيضاً من التعسير والتشديد المخالف لما استقرّت عليه هذه الشريعة المطهّرة، قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقال صلى الله عليه وسلم: "يسّروا، ولا تُعسّروا، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه"، وقال:"أُمِرتُ بالشريعة السمحة السهلة"

(1)

.

فالحاصل أن صوم الدهر إذا لم يكن محرّماً بحتاً، فأقلّ أحواله أن يكون مكروهاً كراهة شديدة. هذا من لا يضعف بالصوم من شيء من الواجبات، أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعيّة، فلا شكّ في تحريمه من هذه الحيثية بمجرّدها من غير نظر إلى ما قدّمنا من الأدلّة. انتهى كلام الشوكاني

(2)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال قول من قال بتحريم صيام الدهر؛ لظواهر الأدلة، كحديث:"لا صام من صام الأبد"، وحديث:"من رغب عن سنتي فليس مني"، قاله صلى الله عليه وسلم من قال: أصوم، ولا أفطر، وحديث:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردّ"، وحديث:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، وحديث:"ضُيّقت عليه جهنم"، وحديث:"كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، وغير ذلك.

فإن هذه الأدلة إذا لم تفد التحريم، فما الذي يفيده؟، إن هذا لشيء عجبٌ عُجاب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2730]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرُّومِيُّ

(3)

، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا

(1)

أخرجه أحمد بلفظ: "إني لم أبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة

" الحديث. وفي سنده ليّن الحديث، وعلي بن يزيد الألهاني ضعيف.

(2)

"السيل الجرّار على حدائق الأزهار" 2/ 142 - 143.

(3)

وفي نسخة "عبد الله الرومي".

ص: 453

وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَتَّى نَأْتِيَ أَبَا سَلَمَةَ، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِ رَسُولاً، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، وَإِذَا عِنْدَ بَابِ دَارِهِ مَسْجِدٌ، قَالَ: فَكُنَّا في الْمَسْجِدِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنْ تَشَاءُوا أَنْ تَدْخُلُوا، وَإِنْ تَشَاءُوا أَنْ تَقْعُدُوا هَا هُنَا، قَالَ: فَقُلْنَا: لَا بَلْ نَقْعُدُ هَا هُنَا، فَحَدِّثْنَا، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِي:"ألَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ:"فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ"، قُلْتُ: يَا نَبِيُّ اللهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا - قَالَ -: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ:"كَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً"، قَالَ:"وَاقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"فَاقْرَأهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"، قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ، قَالَ: وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ"، قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرُّومِيُّ) ويقال: اسم أبيه: عُمر اليماميّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [10](ت 236)(م) تقدم في "الإيمان" 63/ 356.

2 -

(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن موسى الْجُرَشيّ، أبو محمد اليماميّ الأمويّ مولاهم، ثقةٌ له أفرادٌ [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمّار اليماميّ، بصريّ الأصل،

ص: 454

ثقةٌ

(1)

، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قُبيل (160)(خت م س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

4 -

(يَحْيَى) بن أبي كثير، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

عن عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ اليماميّ أنه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) بن أبي كثير (قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) الظاهر أنه مولى الأسود بن سفيان المدنيّ؛ لأنه الذي يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن -كما في "التهذيبين"- وهو شيخ مالك بن أنس، ثقةٌ [6](ت 148)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1302.

(حَتَّى نَأْتِيَ أَبَا سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِ رَسُولاً) أي إعلاماً بحضورهما، وطلباً للقائه لهما (فَخَرَجَ عَلَيْنَا، وَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي ففاجأنا (عِنْدَ بَابِ دَارِهِ مَسْجِدٌ، قَالَ) يحيى (فَكنَّا فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنْ تَشَاءُوا أَنْ تَدْخُلُوا) أي في البيت، وجواب "إن" محذوف؛ أي: فافعلوا (وَإِنْ تَشَاءُوا أَنْ تَقْعُدُوا هَا هُنَا) أي فافعلوا (قَالَ) يحيى (فَقُلْنَا: لَا بَلْ نَقْعُدُ هَا هُنَا، فَحَدِّثْنَا) أي: أبو سلمة (قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: كنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ) أي كله (كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ) وفي رواية البخاريّ: "فإما أرسل إليّ، وإما لقيته"، قال في "الفتح": شكّ من بعض رواته، وغَلِط من قال: إنه شكّ من عبد الله بن عمرو؛ لما ثبت في بعض الرواية من أنه لى الله عليه وسلم - قصده إلى بيته، فدلّ على أن لقاءه إياه كان عن قصد منه إليه. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ لِي: "أَلَمْ أُخْبَرْ) بضم الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح الموحّدة، مبنيًّا للمفعول، وهمزة "ألم" للاستفهام، ولكنه خرج عن الاستفهام الحقيقيّ، فمعناه هنا حمل المخاطب على الإقرار بأمر، قد استقرّ عنده ثبوته.

(1)

في "التقريب" قال: صدوق، والحقّ أنه ثقةٌ، إلا أنه يضعّف في يحيى بن أبي كثير.

(2)

"الفتح" 5/ 405.

ص: 455

وفيه أن الحكم لا ينبغي إلا بعد التثبّت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بما نُقل له عن عبد الله حتى لقيه، واستثبته فيه؛ لاحتمال أن يكون قال ذلك بغير عزم، أو عققه بشرط لم يطّلع عليه الناقل، ونحو ذلك. قاله في "الفتح"

(1)

.

ثم إن الذى أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك هو عمرو بن العاص والد عبد الله رضي الله عنهما، كما بيّنته الرواية الأخرى.

(أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟! فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيُّ اللهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ) أي لم أرد به الرياء والسمعة، وإنما أردت به وجه الله تعالى (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنَّ بِحَسْبِكَ) بإسكان السين المهملة؛ أي كافيك، والباء زائدة، ووقع عند البخاريّ في "كتاب الأدب" بلفظ:"وإن من حسبك"(أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) وفي رواية عند البخاريّ: "في كلّ شهر"(ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ"، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَإِنَّ لِزَوْجِكَ) أي امرأتك، وكونه بلا تاء أفصح من الزوجة، وقد تقدّم تحقيق هذا غير مرّة (عَلَيْكَ حَقاً) أي في وطئها، فإذا سرد الزوج الصوم، ووالى القيام في الليل ضَعُف عن أداء حقّها في ذلك (وَلزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) - بفتح الزاي، وسكون الواو - أي لضيفك، والزَّوْر في الأصل مصدر وُضِع موضع الاسم، كصوْم في موضع صائم، ونَوْم في موضع نائم، ويقال للواحد والجمع والذكر والأنثى: زَوْرٌ، قال ابن التين: ويَحْتَمِل أن يكون زَوْرٌ جمعَ زائر، كرَكْب جمع راكب، وتَجْر جمع تاجر. انتهى.

زاد في الرواية الآتية من طريق حسين المعلم، عن يحيى:"وإن لولدك عليك حقًّا "، قال النوويّ رحمه الله: فيه أن على الأب تأديبَ ولده، وتعليمه ما يحتاج إليه، من وظائف الدين، وهذا التعليم واجب على الأب، وسائر الأولياء قبل بلوغ الصبيّ والصبية، نَصّ عليه الشافعيّ وأصحابه، قال الشافعيّ، وأصحابه: وعلى الأمهات أيضاً هذا التعليم؛ إذا لم يكن أبٌ؛ لأنه من باب التربية، ولهنّ مَدْخل في ذلك، وأُجرة هذا التعليم في مال الصبيّ، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته؛ لأنه مما يحتاج إليه، والله أعلم. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 3/ 350.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 43 - 44.

ص: 456

(وَلجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) أي بأن تخدمه، ولا تتعبه بطول السهر، وطول الجوع، ونحو ذلك، مما يُنهكه، ويُضعفه عن القيام بمصالح الدين والدنيا.

وقال القرطبي رحمه الله عند قوله: "فإن لعينك حظًّا، ولنفسك حظًّا"؛ أي: من الرفق بهما، ومراعاة حقهما، وقد سَمَّى في الرواية الأخرى: الحظ: "حقاً"؛ إذ هو بمعناه، وزاد:"فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا"، وفي لفظ آخر:"ولأهلك" مكان "ولزوجك".

وأما حق الزوجة فهو في الوطء، وذلك إذا سرد الصوم، ووالى القيام بالليل منعها بذلك حقها منه.

وأما حق الزَّوْر - وهو الزائر والضيف - فهو: القيام بإكرامه، وخدمته، وتأنيسه بالأكل معه.

وأما الأهل فيعني به هنا: الأولاد، والقرابة، وحقهم: هو في الرفق بهم، والإنفاق عليهم، ومؤاكلتهم، وتأنيسهم، وملازمة ما التزم من سرد الصوم، وقيام الليل يؤدي إلى امتناع تلك الحقوق كلها.

ويفيد: أن الحقوق إذا تعارضت قام الأولى. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبي رحمه الله: هكذا جاء في هذه الرواية سكت فيها عن المراتب التي ثبتت في الرواية الآتية بعد هذا، وذلك أن فيها نقلة من صيام ثلاثة أيام في الشهر إلى أربعة فيها، ومنها إلى صوم يومين وإفطار يومين، ثم منها إلى صوم يوم وإفطار يوم، وهذا محمول على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دَرَّجَه في هذه المراتب هكذا، لكن بعض الرواة سكت عن ذكر بعض المراتب إما نسياناً، أو اقتصاراً على قدر ما يحتاج إليه في ذلك الوقت، ثم في وقت آخر ذكر الحديث بكماله. انتهى

(2)

.

(فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ") قال القرطبي رحمه الله: إنما أحاله على صوم داود، ووصفه: بأنه كان أعبد الناس؛ لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"الأيد" هنا: القوة على العبادة،

(1)

"المفهم" 3/ 225.

(2)

"المفهم" 3/ 225 - 226.

ص: 457

و"الأوَّاب": الرجَّاع إلى الله تعالى وإلى عبادته، وتسبيحه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) عبد الله عمرو رضي الله عنهما (قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟)؛ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم "كَانَ) أي داود عليه السلام (يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً) أي وذلك نصف الدهر.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ") أي مرّة واحدة (قَالَ) عبد الله (قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ) هكذا معظم النسخ عندنا، بذكر "فاقرأه في كلّ عشر" قبل "فاقرأه في كُلّ سبع"، إلا نسخة شرح النوويّ، ففيها بإسقاطه، وقد جعل القرطبيّ هذه النسخة أكثر نسخ مسلم، فقال في "المفهم"

(2)

: وقوله: "اقرأ القرآن في كل شهر"، ثم قال بعد ذلك:"فاقرأه في كل عشرين"، ثم قال:"فاقرأه في كل سبع"؛ هكذا في أكثر روايات مسلم، ووقع في كتاب ابن أبي جعفر، وابن عيسى زيادة: (قال: فاقرأه في عشر"، وبعد ذلك قال له: "اقرأه في سبع".

قال: ومقصود هذه الرواية بيان تجزئة القرآن على ليالي الشهر بالنسبة إلى التخفيف والتثقيل، فالمخفِّف يقرؤه في كل شهر؛ لا أقل من ذلك، والمثقل لا يزيد على سبع؛ كما قد نهاه عنه، ولم يتعرض الراوي في هذه الرواية لبيان مقدار زمان القيام من الليل، وقد بيّنه راو آخر في الرواية التي قال فيها:"أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه". انتهى.

(وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) فيه النهي عن قراءة القرآن في أقلّ من سبع، كذا في هذه الرواية، لكن ورد ما يدلّ على الزيادة إلى ثلاث، ففي رواية النسائيّ من طريق أبي العباس الشاعر: "اقرأ القرآن في شهر، قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، فلم أزل أطلب إليه، حتى قال: في خمسة أيام

" الحديث.

وفي رواية الدارميّ في "مسنده" من طريق أبي فروة

(3)

، عن عبد الله بن

(1)

"المفهم" 3/ 226.

(2)

3/ 228 - 229.

(3)

أبو فروة اسمه عروة بن الحارث، الهمدانيّ الكوفيّ ثقةٌ من الخامسة.

ص: 458

عمرو: قال: "قلت: يا رسول الله في كم أختم القرآن؟ قال: اختمه في شهر، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في خمسة وعشرين، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في عشرين، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في خمس عشرة، قلت: إني أطيق، قال: اختمه في خمس، قلت: إني أطيق، قال: لا".

وفي رواية: "قال: فاقرأه في كلّ شهر، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فاقرأه في كلّ عشرة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فاقرأه في كل ثلاث".

وعند أبي داود والترمذيّ مصححاً من طريق يزيد بن عبد الله بن الشّخير، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعاً:"لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث"، وشاهده عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح من وجه آخر عن ابن مسعود:"اقرؤوا القرآن في سبع، ولا تقرؤوه في أقلّ من ثلاث"، ولأبي عبيد من طريق الطيب بن سلمان، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن في أقلّ من ثلاث".

ولأبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ من طريق وهب بن منبّه، عن عبد الله بن عمروأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كم يقرأ القرآن؟ قال:"في أربعين يوماً"، ثم قال:"في شهر"، ثم قال:"في عشرين"، ثم قال:"في خمس عشرة"، ثم قال:"في عشر"، ثم قال:"في سبع"، ثم لم ينزل عن سبع.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا إن كان محفوظاً احتَمَل في الجمع بينه، وبين رواية أبي فَرْوة تعدد القصّة، فلا مانع أن يتعدد قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ذلك تأكيداً، ويؤيّده الاختلافُ الواقع في السياق. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله منه: قد تبيّن من مجموع هذه الروايات أنه يجوز الزيادة إلى الثلاث، ولا يجوز أن يزيد عليها، فليُتنبّه.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ولا تزد على ذلك" هذا من نحو ما سبق من الإرشاد إلى الاقتصاد في العبادة، والإرشاد إلى تدبر القرآن، وقد كانت للسلف عادات مختلفة فيما يقرؤون كل يوم بحسب أحوالهم، وأفهامهم، ووظائفهم،

(1)

"الفتح" 11/ 303.

ص: 459

فكان بعضهم يختم القرآن في كل شهر، وبعضهم في عشرين يوماً، وبعضهم في عشرة أيام، وبعضهم أو أكثرهم في سبعة، وكثير منهم في ثلاثة، وكثير في كل يوم وليلة، وبعضهم في كل ليلة، وبعضهم في اليوم والليلة ثلاث ختمات، وبعضهم ثمان ختمات، وهو أكثر ما بلغنا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن الأولى لا تُتجاوز الثلاث؛ لأن ما زاد عليها ليس من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا من تعليماته، ولا يكون النقل من فلان أو فلان حجة، سوى ما نُقل عنه صلى الله عليه وسلم، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

[تنبيه]: قال في "الفتح": المراد بالقرآن في حديث الباب جميعُهُ، ولا يَرِدُ على هذا أن القصة وقعت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بمدة، وذلك قبل أن ينزل بعض القرآن الذي تأخر نزوله؛ لأنا نقول سلّمنا ذلك، لكن العبرة بما دلّ عليه الإطلاق، وهو الذي فهم الصحابيّ، فكان يقول: ليتني لو قبلت الرخصة، ولا شك أنه بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد أضاف الذي نزل آخراً إلى ما نَزَل أوّلاً، فالمراد بالقرآن جميع ما كان نزل إذ ذاك، وهو معظمه، ووقعت الإشارة إلى أن ما نزل بعد ذلك يوزع بقسطه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَيزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"، قَالَ) عبد الله (فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ) الأول بالبناء للفاعل، والثاني بالبناء للمفعول؛ يعني أنه شَدَّد في مطالبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالزيادة، وشَدَّد النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه في مطالبة التنقيص.

(قَالَ) عبد الله (وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ") فيه إشارة إلى ما وقع لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعد ذلك من الْكِبَر والضعف، ففيه علَمٌ من أعلام النبوّة.

(قَالَ) عبد الله رضي الله عنه (صِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي: طال عمري، ووصلت إلى أن شقّ عليّ المواظبة على الصوم والقراءة (فَلَمَّا كَبِرْتُ) بكسر الموحّدة، يقال: كَبِرَ الصبيّ وغيره يَكْبَرُ، من باب تَعِبَ مَكْبِراً، مثل

(1)

"الفتح" 11/ 304 كتاب "فضائل القرآن" رقم (5052).

ص: 460

مَسْجِدٍ، وكِبَراً، وزانُ عِنَبٍ، فهو كبير، وجمعه كِبارٌ، والأنثى كبيرة، وكَبُر الشيء بالضمّ، كُبْراً، من باب قَرُب: عَظُمَ، فهو كبير، أفاده الفيّوميّ

(1)

.

قال الجمامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن كَبِر بمعنى طَعَن في السنّ كما هنا بكسر الموحّدة، من باب فَرِحَ، وأن كبُر بمعنى عظُم قدره فهو بضمّها، من باب قَرُب، ولا يناسب هنا.

قال شارح "القاموس" بعد ذكر ضبطه ككرُم، وكفرِح ما نصّه: عُلِم منه ومن الذي قبله أن فعل الكبر بمعنى العظمة مضموم العين، وبمعنى الطعن في السنّ مكسورها، وهو كذلك اتّفاقاً، فاحفظه، فإنه قد يَغْلَطُ فيه الخاصّة فضلًا عن العامّة، فيستعملون أحدهما مكان الآخر، ولا قائل به. انتهى

(2)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

(وَدِدْتُ) بكسر الدال الأولى، من باب تَعِبَ؛ أي تمنّيتُ.

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: وَدِدْتُهُ أَوَدُّهُ، من باب تَعِبَ وَدًّا، بفتح الواو وضمها: أحببته، والاسم: الْمَوَدَّة، وَوَدِدْتُ لو كان كذا أَوَدُّ أيضًا وُدًّا، وَوَدَادةً بالفتح: تمنيته، وفي لغة وَدَدتُ أَوَدّ بفتحتين، حكاها الكسائيّ، وهو غَلَطٌ عند البصريين، وقال الزجاج: لم يقل الكسائي إلا ما سَمِعَ، ولكنه سمعه ممن لا يوثق بفصاحته. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ضعّفه من ضبط ودّ بالفتح أثبته في "القاموس" حيث قال: ووَدَدْته -أي بالفتح- ووَدِدته -أي بالكسر- أَوَدّه فيهما. انتهى.

وعبارة الشارح المرتضى رحمه الله: وحَكَى الزَّجَّاجيُّ عن الكسائيّ "وَدَدْتُه" بالفتح، وقال الجوهَرِيُّ: تقول: وَدِدْتُ لو تَفْعَل ذلك، ووَدِدْتُ لوأَنَّك تَفْعَل ذلك، أَوَدُّ وُدًّا، ووَدًّا، ووَدَادَةً، ووِدَاداً: تَمنَّيْتُ، قال الشاعرُ [من الوافر]:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 523.

(2)

راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 514، وما كتبه نصر الهورينيّ في هامش "القاموس" 2/ 124.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 653.

ص: 461

وَدِدْتُ وِدَادَةً لَوْ أَنَّ حَظِّي

مِنَ الخُلَّانِ أَنْ لا يَصْرِمُونِي

قال: وَوَدِدْتُه أَي: بالكسر أَوَدُّه أَي: بالفتح في المضارع فيهما، أَمَّا في المَكْسُور فعلى القِيَاس، وأَما المفتوح فعَلَى خِلَافِهِ، حكاه الكسائيُّ؛ إذ لا يُفْتَح إِلا الحَلْقِيُّ العَينِ أَو اللامِ، وكِلاهما مُنْتَفٍ هُنا، فلا وَجْهَ للفتْحِ، وهكذا في "المصباح".

قال أَبو منصور: وأَنكَر البَصرِيُّون "وَدَدْتُ" -أي: بالفتح- قال: وهو لَحْنٌ عندهم، وقال الزَّجَّاج: قد عَلِمْنَا أَنّ الكسائيَّ لم يَحْكِ وَدَدْتُ إِلَّا وقد سَمِعَه، ولكنّه سَمِعَه ممن لا يَكُونُ حُجَّةً.

قال شيخُنَا

(1)

: وأَوْرَدَ المعنيينِ في "الفصيحِ" على أَنهما أَصْلَانِ حَقِيقَةً، وأَقَرَّه على ذلك شُرَّاحُه، وقال اليَزيديُّ في "نَوادره": وليس في شَيءٍ من العَربيّة "وَدَدْتُ" مفتوحةً، وقال الزمخشريُّ: قال الكسائيُّ وَحْدَهُ: "وَدِدْتُ" الرجُلَ: إِذا أَحْبَبْتَه، و"وَدَدْتُه" ولم يَرْوِ الفتحَ غيرُه، قلْت

(2)

: ونقلَ الفَتْحَ أَيضاً أَبو جَعْفَر اللّبلّي في "شرح الفصيح"، والقَزّاز في "الجامع"، والصاغانيّ في "التّكْملة" كلهم عن الفَرَّاءِ. انتهى

(3)

.

قال الجامع: قد أفاد ما سبق أن "وَدَدْتُ" بالفتح جائز أيضاً، وإن مخالفاً للقياس، فهو سماعيّ أثبته الكسائيّ، والفرّاء، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: تسهيله، وحثّه عليه.

وفي الحديث جواز تحدّث المرء بما عَزَم عليه من فعل الخير، وتفقد الإمام لأمور رعيته، كلياتها وجزئياتها، وتعليمهم ما يُصْلِحهم. وفيه تعليل الحكم من فيه أهلية ذلك، وأن الأولى في العبادة تقديم الواجبات على المندوبات، وأن من تَكَلَّف الزيادة على ما طُبع عليه يقع له الخلل في الغالب. وفيه الحضّ على ملازمة العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديد على نفسه

(1)

هو شيخ صاحب "التاج"، وهو المناويّ.

(2)

القائل صاحب "التاج".

(3)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 529.

ص: 462

حَضّه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق مَن ذُكِر أن تُضَيِّع حق العبادة، وتترك المندوب جملةً، ولكن اجمع بينهما، قاله في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى بيان مسائله، وأذكر هنا ما يتعلّق بجزء القراءة فقط، فأقول:

(مسألة): في اختلاف أهل العلم في مقدار مدّة ختم القرآن:

قال القرطبي رحمه الله: ذهب إلى منع الزيادة على السبع كثير من العلماء، واختار بعضهم قراءته في ثمان، وكان بعضهم يختم في خمس، وآخر في ست، وبعضهم يختم في كل ليلة، وكأن من لم يمنع الزيادة على السبع حَمَلَ قوله:"لا تزد" على أنه من باب الرفق، وخوف الانقطاع، فإن أَمِن ذلك جاز بناءً على أن ما كثر من العبادة والخير فهو أحب إلى الله.

قال: والأولى ترك الزيادة؛ أخذاً بظاهر المنع، واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُرْوَ عنه أنه ختم القرآن كله في ليلة، ولا في أقل من سبع

(2)

، وهو أعلم بالمصالح والأجر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد يعطي على القليل ما لا يعطي على الكثير، لا سيما وقد تبيّنت مصلحة القلة، والمداومة، وآفة الكثرة الانقطاع. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ.

وقال في "الفتح": قراءة القرآن في ثلاث هو اختيار أحمد، وأبي عبيد، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم، وثبت عن كثير من السلف أنهم قرؤوا القرآن في دون ذلك، قال النوويّ: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص، فمن كان من أهل الفهم، وتدقيق الفكر استُحبّ له أن يقتصر على القدر الذي لا يُخلّ به المقصود، من التدبّر، واستخراج المعاني، وكذا من كان له شغل بالعلم، أو غيره، من مهمات الدين، ومصالح المسلمين العامّة يستحبّ له أن يقتصر منه

(1)

"الفتح" 3/ 562 كتاب "التهجّد" رقم (1153).

(2)

ورد من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يختم الفرآن في أقلّ من ثلاث". أخرجه ابن سعد في "الطبقات"، وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، راجع:"السلسلة الصحيحة" 5/ 600.

ص: 463

على القدر الذي لا يُخلّ بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك، فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فالأولى له الاستكثار ما أمكنه إلخ" فيه نظر، بل الأولى له التقيّد بما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من عدم تجاوز الثلاث، والله تعالى أعلم.

وقال الحافظ في موضع آخر: وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، وعُرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق، وهو النظر إلى عجزه عن سوى ذلك في الحال، أو في المآل.

وأغرب بعض الظاهريّة، فقال: يحرم أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث. وقال النوويّ: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوّة، فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في هذا الكلام نظر من أوجه:

(أحدها): أن قوله: وكأن النهي ليس للتحريم، وتشبيهه بالأمر غير صحيح؛ لأنه ليس هنا قرينة تدلّ على أنه ليس للتحريم، بل القرائن كلها إنما تدلّ على عدم كون الأمر للوجوب، كما لا يخفى من تأمل.

و (الثاني): قوله: "وأغرب بعض الظاهرية إلخ" هذا عجيب منه، فهل يوصف من كان ظاهر النصوص معه بأنه يُغرب؟ بل الذي يُغرب هو الذي خالف ظواهر النصوص المتقدّمة، وتأولها بما يخرجها عن موضوعها.

(والحالث): قول النوويّ: إنما هو بحسب النشاط، والقوّة عجيب أيضاً، فهل هناك نشاط أكثر من نشاط عبد الله بن عمرو الذي شدّد، فشدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، فنهاه أن يقرأ في أقلّ من ثلاث؟، وهل بعد صحة قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود -:"لا تقرؤوه في أقلّ من ثلاث" مجال لتعليق الأمر على النشاط؟ فهيهات هيهات.

(والرابع): قوله أيضًا: "أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك" غريبٌ، فهل كثرة القائلين مع مخالفة النصّ الصريح لهم تكون حجة؟ كلّا، وإنما الحجة في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقرؤوا القرآن في أقلّ من ثلاث"، فقط، وأما

ص: 464

الأكثرون، فيُعتذر لهم بعدم ثبوت الخبر لديهم، أو نحو ذلك.

والحاصل أنه لا ينبغي قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث؛ للأحاديث المذكورة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2731]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: "مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاَثةَ أَيَّامٍ": "فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ"، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: قُلْتُ: وَمَا صَوْمُ نَبِي اللهِ دَاوُدَ؟ قَالَ: "نِصْفُ الدَّهْرِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْئاً، وَلَمْ يَقُلْ: "وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقاً"، وَلَكِنْ قَالَ: "وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةً) تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(حُسَيْن الْمُعَلِّمُ) هو: حسين بن ذكون الْعَوْذيّ المكتب البصريّ، ثقةٌ، ربّما وَهِمَ [6](145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.

و"يحيى بن أبي كثير" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية حسين المعلّم، عن يحيى بن أبي كثير هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، ولكنه قال:"وإن لزورك عليك حقًّا"، ولم يقل:"وإن لولدك عليك حقًّا "، قال رحمه الله:

(6134)

- حدّثنا إسحاق بن منصور، حدثنا رَوْح بن عُبادة، حدثنا حسين، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، قال: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أُخَبر أنك تقوم الليل، وتصوم النهار؟ " قلت: بلى، قال: "فلا تفعل، قم، ونَمْ، وصُمْ، وأَفْطِرْ، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزَوْرك عليك حقًّا، وإن

ص: 465

لزوجك عليك حقًّا، وإنك عسى أن يطول بك عمر، وإن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن بكل حسنة عشرَ أمثالها، فذلك الدهر كله"، قال: فشَدَّدت، فشُدِّد عليّ، فقلت: فإني أطيق غير ذلك، قال: "فصُمْ من كل جمعة ثلاثة أيام"، قال: فشَدَّدت فشُدِّد عليّ، قلت: أطيق غير ذلك، قال: "فصم صوم نبي الله داود" قلت: وما صوم نبي الله داود؟ قال: "نصف الدهر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2732]

(

) - (حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ، قَالَ: وَأَحْسَبُنِي قَدْ سَمِعْتُهُ أنَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ"، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّ أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً"، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً، قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا نَزِدْ عَلَى ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ" القرشيّ، أبو محمد الطحّان الكوفيّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن أبي المختار الْعَبسيّ، تقدّم قريباً.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن النحويّ، أبو معاوية البصريّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ صاحب كتاب [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان العامريّ، عامر قريش المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة، 33/ 1404.

[تنبيه]: كون محمد بن عبد الرحمن هو ابدق ثوبان هو الذي صَرّح به في "الفتح"، ودونك نصّه:

قوله: "عن يحيى" هو ابن أبي كثير، ومحمد بن عبد الرحمن مولى

ص: 466

زهرة، وهو محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، فقد ذكر ابن حبان في "الثقات" أنه مولى الأخنس بن شَرِيق الثقفيّ، وكان الأخنس يُنْسَب زُهْريًّا؛ لأنه كان من حلفائهم، وجزم جماعة بأن ابن ثوبان عامريّ، فلعله كان يُنْسَب عامريًّا با لأصالة، وزُهْريًّا بالحلف، ونحو ذلك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "التقريب": محمد بن عبد الرحمن مولى بني زُهرة مجهول من السادسة، وقيل: هو ابن ثوبان. انتهى، ونحوه في "التهذيب"، ورمز له فيهما لمسلم فقط، وفيه نظر لا يخفى، فقد أخرج له البخاريّ أيضاً هذا الحديث، فقال: حدّثني إسحاق، أخبرنا عبيد الله بن موسى، ثم ساقه بسند المصنّف، فهو ممن اتّفقا عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

والباقون ذُكروا قبله، و"يحيى" هو: ابن أبي كثير.

وقوله: (وَأَحْسَبُنِي قَدْ سَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ) قائل ذلك هو يحيى بن أبي كثير، قال في "الفتح": قال الإسماعيليّ: خالف أبان بن يزيد العطارُ شيبانَ بن عبد الرحمن في هذا الإسناد، عن يحيى بن أبي كثير، ثم ساقه من وجهين، عن أبان، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، عن أبي سلمة، وزاد في سياقه بعد قوله:"اقرأه في شهر" قال: إني أجد قوّة، قال:"في عشرين"، قال: إني أجد قوّةً، قال:"في عشر"، قال: إني أجد قوّة، قال:"في سبع، ولا تزد على ذلك".

قال الإسماعيليّ: ورواه عكرمة بن عمّار، عن يحيى، قال: حدّثنا أبو سلمة بغير واسطة، وساقه من طريقه.

قال الحافظ: كأن يحيى بن أبي كثير كان يتوقف في تحديث أبي سلمة له، ثم تذكر أنه حدّثه به، أو بالعكس، كان يصرِّح بتحديثه، ثم توقف، وتحقّق أنه سمعه بواسطة محمد بن عبد الرحمن، ولا يقدح في ذلك مخالفة أبان؛ لأن شيبان أحفظ من أبان، أو كان عند يحيى عنهما، ويؤيِّده اختلاف سياقهما.

قال: وقد تقدم في "الصيام" -أي عند البخاريّ- من طريق الأوزاعيّ، عن يحيى، عن أبي سلمة مُصَرَّحاً بالسماع بغير توقف، لكن لبعض الحديث في

(1)

"الفتح" 11/ 303 كتاب "فضائل القرآن" رقم (5054).

ص: 467

قصة الصيام حسبُ، قال الإسماعيليّ: قصة الصيام لم تَخْتَلِف على يحيى في روايته إياها عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو بغير واسطة. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن يحيى سمع هذا الحديث عن أبي سلمة بلا واسطة، ولكنه كان يتشكّك في بعضه، وقد تبيّن الواسطة، وهو محمد بن عبد الرحمن المذكور، فصحّ بلا شكّ، ولله الحمد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2733]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزدِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَن الْأَوْزَاعِيِّ قِرَاءَةً، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَن ابْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَكُنْ بِمِثْلِ فُلانٍ

(1)

، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْأزدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله (80) سنةً (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.

2 -

(عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) التَّنِّيسيّ - بمثنّاة، ونون ثقيلة، بعدها تحتانيّة، ثم مهملة - أبو حفص الدمشقيّ، مولى بني هاشم، صدوقٌ له أوهامٌ، من كبار [10].

رَوَى عن الأوزاعيّ، وصدقة بن عبد الله السمين، وحفص بن ميسرة الصنعانيّ، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر، ومالك، والليث، وغيرهم.

وروى عنه ابنه سعيد، والشافعيّ، وعبد الله بن محمد المسنديّ، ودُحَيم، وأحمد بن صالح المصريّ، وأحمد بن يوسف الصيدلانيّ، ومحمد بن يحيى الذهليّ، وغيرهم.

(1)

وفي نسخة "لا تكن مثل فلان".

ص: 468

قال أحمد بن صالح المصريّ: كان حسن المذهب، وكان عندي شيء سمعه من الأوزاعيّ عرضه، وشيء أجازه له، فكان يقول فيما سمع: حدّثنا الأوزاعيّ، ويقول في الباقي: عن الأوزاعيّ، وقال حميد بن زنجويه: لما رجعنا من مصر قال لنا أحمد: مررتم بأبي حفص؟ قلنا: وأيّ شيء عنده؟ إنما عنده خمسون حديثاً، والباقي مناولة، قال: المناولة كنتم تأخذون منها، وتنظرون فيها، وقال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: يُكْتَب حديثه، ولا يحتجّ به، وقال العقيليّ: في حديثه وَهَمٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجيّ: ضعيف، وقال أحمد: رَوَى عن زهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله، فغَلِط فقلبها عن زهير، وساق الساجيّ منها حديثه عن زهير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمة، وقال عقبه: وقفه الوليد بن مسلم، عن زهير، عن عائشة.

قال ابن يونس: كان من أهل دمشق قَدِم مصر، وسكن تِنِّيس، حَدَّث عن الأوزاعيَ، وعن مالك بـ "الموطأ"، وكان ثقةٌ تُوُفّي بتنيس سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقال مرةً: سنة (14)، وقال البخاريّ عن الحسن بن عبد العزيز الجزريّ: مات قريباً من سنة (12)، وقال أبو زرعة الدمشقيّ، وغيره: مات سنة (14).

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.

3 -

(الْأَوْزَاعِي) عبد الرحمن بن عمرو الإمام الفقيه الحجة المشهور [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(ابْنُ الْحَكَم يْنُ ثَوْبَانَ) هو: عُمَر بن الحكم بن ثوبان الحجازيّ، أبو حفص المدنيّ، صدوق [3].

رَوَى عن أسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكعب بن مالك، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وغيرهم.

وروى عنه سعيد المقبريّ، وشريك بن أبي نَمِر، ومحمد بن إبراهيم

ص: 469

التيميّ، ويحيى بن أبي كثير، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.

قال ابن معين: هو عم عبد الحميد بن جعفر، وهو ابن الحكم بن سنان، وقال غيره: هما اثنان، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث صالحةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال يحيى بن بكير: مات سنة سبع عشرة ومائة، وله ثمانون سنة، وكذا قال ابن حبان، وزاد: وكان من جِلّة أهل المدينة، وهو عمر بن الحكم بن أبي الحكم، واسم أبي الحكم ثوبان.

أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

شرح الحديث:

(عَن) عمر (بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ) أنه قال: (حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هكذا في رواية المصنّف بإدخال الواسطة بين يحيى بن أبي كثير وأبي سلمة، قال الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع": أخرجاه من حديث ابن المبارك، ومبشّر عنه، قال: وقد تابعهما أبو إسحاق الفزاريّ، وخالفهم ابن أبي العشرين، والوليد بن مسلم، وعمر بن عبد الواحد، وبشر بن بكر، وعَمْرو بن أبي سَلَمة، فرووه عن الأوزاعيّ، عن يحيى، عن عُمَر بن الحكم بن ثوبان، عن أبي سلمة، زادوا رجلاً، وأخرج مسلم الحديث من طريق عَمْرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعيّ. انتهى.

ونصّ البخاريّ رحمه الله: حدّثنا عباس بن الحسين، حدثنا مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي (ح) وحدّثني محمد بن مقاتل أبو الحسن، قال: أخبرنا عبد الله، أخبرنا الأوزاعيّ، قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدّثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل".

وقال هشام: حدّثنا ابن أبي العشرين، حدّثنا الأوزاعيّ، قال: حدّثني

ص: 470

يحيى، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، قال: حدّثني أبو سلمة مثله، وتابعه عَمْرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعيّ.

قال في "الفتح": قوله: "وقال هشام" هو ابن عمار، وابن أبي العشرين بلفظ العدد، وهو عبد الحميد بن حبيب، كاتب الأوزاعِيّ، وأراد البخاريّ بإيراد هذا التعليق التنبيه على أن زيادة عُمر بن الحكم؛ أي: ابن ثوبان بين يحيى وأبي سلمة من المزيد في متصل الأسانيد؛ لأن يحيى قد صرح بسماعه من أبي سلمة، ولو كان بينهما واسطة لم يُصَرِّح بالتحديث، ورواية هشام المذكورة وصلها الإسماعيليّ وغيره.

وقوله: "وتابعه عَمرو بن أبي سَلَمة" أي تابع ابنَ أبي العشرين على زيادة عُمر بن الحكم، ورواية عمر المذكورة وصلها مسلم، عن أحمد بن يوسف الأزديّ عنه، قال: وظاهر صنيع البخاريّ ترجيح رواية يحيى، عن أبي سلمة بغير واسطة، وظاهر صنيع مسلم يخالفه؛ لأنه اقتصر على الرواية الزائدة، والراجح عند أبي حاتم والدارقطني وغيرهما صنيع البخاريّ، وقد تابع كلًّا من الروايتين جماعة من أصحاب الأوزاعيّ، فالاختلاف منه، وكأنه كان يحدِّث به على الوجهين، فَيُحْمَل على أن يحيى حمله عن أبي سلمة بواسطة، ثم لقيه، فحدثه به، فكان يرويه عنه على الوجهين. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن رواية يحيى بن أبي كثير هذه صحيحة بالطريقين: طريق روايته عن أبي سلمة مباشرةً، كما هو عند البخاريّ، وطريق روايته عن عُمر بن الحكم، عن أبي سلمة، كما هو عند مسلم هنا، فلا تعارض بين الروايتين، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسميته في شيء من الطرق، وكأن إبهام مثل هذا لقصد الستر عليه، كالذي تقدّم قريباً في الذي نام حتى أصبح، وَيحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقصد شخصاً معيّناً، وإنما أراد تنفير عبد الله بن عمرو من الصنيع المذكور. انتهى.

وتعقّبه العينيّ، فقال: كل ذلك غير موجَّه، أما قوله: الستر عليه، فغير سديد؛ لأن قيام الليل لم يكن فرضاً على فلان المذكور، فلا يكون بتركه عاصياً حتى يستر عليه، وأما قوله: "ويَحْتَمِل

" إلى آخره فأبعد من الأول

ص: 471

على ما لا يخفى؛ لأن الشخص إذا لم يكن معيَّناً كيف ينفر غيره من صنيعه، وأما قوله: أراد تنفير عبد الله فكان الأحسن فيه أن يقال: أراد ترغيب عبد الله في قيام الليل حتى لا يكون مثل من كان قائماً منه ثم تركه. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى على البصير كون هذه التعقبات مجرّد تشويش، فليُتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَكُنْ بِمِثْلِ فُلَانٍ) بزيادة الياء، وفي نسخة:"لا تكن مثل فلان" بإسقاط الباء؛ أي لا تكن مثله في هذه الخصلة التي أذكرها لك، وهي أنه (كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ) أي بعضه للتهجد فيه، وفي رواية البخاريّ:"من الليل"، قال في "العمدة": وليس في رواية الأكثرين لفظ "من" موجوداً، بل اللفظ:"كان يقوم الليل"؛ أي في الليل، والمراد في جزء من أجزائه، فتكون "من" بمعنى "في"، نحو قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] أي في يوم الجمعة. انتهى

(1)

.

(فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ") الظاهر أن تركه ذلك كان من غير عذر؛ لأنه لو كان لعذر لما ذُمّ بتركه، بل ثبت أنه يكتب له أجره، لما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَر، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيماً، صَحِيحاً".

وكأنه صلى الله عليه وسلم يُرغّب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الاقتصاد في العبادة، وعدم التشديد على نفسه بتكليفها ما لا تستطيع القيام به؛ لأن ذلك يؤدي إلى تركها، فيكون مثل هذا الرجل المذموم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 2733](1159)، و (البخاريّ) في "التهجّد"

(1)

"عمدة القاري" 7/ 210.

ص: 472

(1152)

، و (النسائيّ) في "قيام الليل"(3/ 253) و"الكبرى"(1/ 411 - 412)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1331)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 170)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2/ 173)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6/ 368)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 31)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 237)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 349)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 14)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(939)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ذمّ ترك قيام الليل إذا كان بغير عذر.

2 -

(ومنها): ما قال ابن العربيّ رحمه الله: فيه دليل على أن قيام الليل ليس بواجب؛ إذ لو كان واجباً لم يَكْتَف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذم.

3 -

(ومنها): ما قال ابن حبان: فيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب؛ إذا قصد بذلك التحذير من صنيعه.

4 -

(ومنها): استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير، من غير تفريط.

5 -

(ومنها): الإشارة إلى كراهة قطع العبادة، وإن لم تكن واجبة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2734]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَزْعُمُ أَن أبَا الْعَبَّاسِ أَخْبَرَهُ، أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما يَقُولُ: بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ: "أَلَمْ أُخْبَرْ

(1)

أَنَّكَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي اللَّيْلَ، فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِعَيْنِكَ

(2)

حَظًّا، وَبنَفْسِكَ حَظًّا، وَلِأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ، وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ، وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْماً، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ"، قَالَ: إِنِّي أَجِدُنِي

(1)

وفي نسخة: "فقال لي: ألم أخبر".

(2)

وفي نسخة: "فإن لعينيك".

ص: 473

أقوَى مِنْ ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ:"فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ"، قَالَ: وَكَيْفَ كَانَ دَاوُدُ يَصُومُ يَا نَبِي اللهِ؟ قَالَ: "كَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى"، قَالَ: مَنْ لِي بِهَذِهِ يَا نَبِيَّ اللهِ؟، قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الْأَبَدِ، فَقَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:"لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَنجدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ"

(1)

".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم قريباً.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضاً قريباً.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، تقدّم أيضاً قريباً.

4 -

(أَبُو الْعَبَّاسِ) السائب بن فَرّوخ الثاعر الأعمى المكيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن ابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وعنه حبيب بن أبي ثابت، وعمرو بن دينار، وعطاء بن أبي رَبَاح.

قال شعبة، عن حبيب: سمعت أبا العباس الأعمى، وكان صَدوقاً، وقال أحمد، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثبتٌ، وقال مسلم: كان ثقةً عدلاً، وقال ابن سعد: كان بمكة زمن ابن الزبير، وهواه مع بني أمية، وكان قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط برقم (1159) وكرره ثلاث مرات، و (1778) و (2549).

و (عبد الله بن عمرو رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) تقدّم أن الذي بلّغه هو أبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه.

وقوله: (أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ) بضم الراء، من باب نصر؛ أي أُولي بينه، يقال: سَرَدت الحديث سَرْداً، من باب نصر: أتيت به على الولاء، وقيل لأعرابيّ: أتعرف الأشهر الحرُم؟ فقال: ثلاثة سَرْدٌ، وواحد فرْدٌ، فالسرد: ذو

(1)

وفي نسخة: "لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد" مرتين.

ص: 474

القَعدة، وذو الحجة، والمحرّم، والفرد: رجب، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": السرد: متابعة الصوم وموالاته، وسَرد فلان، كفَرِح، يسرد صومه، ويواليه، ويتابعه. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "كفرح" الظاهر أنه غلطٌ؛ إذ معاجم اللغة ضبطته كنصر، فقد نصّ في "المصباح" أنه من باب قتل، ونصّ في "مختار الصحاح" أنه من باب نصر، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَإمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، وَإِمَّا لَقِيتُهُ) تقدّم أن هذا شك من بعض الرواة، وليس من عبد الئَه بن عمرو رضي الله عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قصده إلى بيته، فدلّ على أن لقاءه إياه كان عن قصد منه.

وقوله: (أَلَمْ أُخْبَرْ

إلخ) بالبناء للمفعول.

وقوله: (فَلَا تَفْعَلْ) نهيٌ عن الاستمرار في فعل ما التزمه لأجل ما يؤدّي إليه من المفسدة التي نَبَّهَ عليها بقوله: "فإنك إذا فعلت ذلك هَجَمت له عيناك"، قاله القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (وَلنَفْسِكَ حَظًّا) هو بمعنى قوله الماضي: "حقًّا "، والمعنى: إن عليك لنفسك حقًّا، وهو أن تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشريّة مما أباحه الله تعالى للإنسان، من الأكل والشرب، والراحة التي تقوم بها بدنه؛ ليكون أعون على عبادة ربه، ومن حقوق النفس قطعها عما سوى الله تعالى، لكن ذلك يختص بالتعلقات القلبية.

وقوله: (وَلِأَهْلِكَ حَظًّا) أي حقًّا؛ أي: تنظر لهم فيما لا بُدّ لهم منه، من أمور الدنيا والآخرة، والمراد بالأهل الزوجة، أو أعمّ من ذلك، ممن تلزمه نفقته.

وقوله: (فَصُمْ، وَأَفْطِرْ) أي: فإذا عرفت ذلك، فصم تارةً، وأفطر تارةً؛ لتجمع بين المصلحتين.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 273، و"الصحاح" 2/ 424.

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" 2/ 375.

(3)

"المفهم" 3/ 224.

ص: 475

وقوله: (وَصُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْماً

إلخ) هذا في معنى الرواية السابقة: "صم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها" وذلك قوله في الرواية الأخرى: "صم يوماً، ولك أجر ما بقي" على ما يأتي، وهذا الاختلاف وشبهه من باب النقل بالمعنى

(1)

.

وقوله: (وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى) تنبيه على أن صوم يوم، وفطر يوم لا يُضعف مُلتزمه، بل يحفظ قوّته، ويجد من الصوم مشقّته، كما قدّمناه، وذلك بخلاف سرد الصوم، فإنه يُنهِك البدن والقوّة، وُيزيل رُوح الصوم؛ لأنه يعتاده، فلا يبالي، ولا يجد له معنى

(2)

.

وقوله: (مَنْ لِي بِهَذِهِ) معناه: هذه الخصلة الأخيرة، وهي عدم الفرار صعبة عليّ، كيف لي بتحصيلها

(3)

.

وقال القرطبي رحمه الله: فيه إشارة إلى استبعاد عدم الفرار، وتمنٍّ أن لو كانت له القوّة، ومعنى قوله: من لي بهذا الشيء؟ أي من يتكفّل لي؟ أو من يُحصله لي؟.

وقوله: (قَالَ عَطَاءٌ: فَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَكَرَ صِيَامَ الأَبَدِ) أي أن عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصّة، إلا أنه حَفِظ أن فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا صام من صام الأبد"

(4)

.

وقال القرطبي رحمه الله: هو شكٌّ عرض للراوي، ثم قال بعد أن عرض له ذلك الشك:"لا صام من صام الأبد"، فأتى بصوم الأبد على هذا اللفظ من غير شك ولا تردد، بل حقق نقله، وحرر لفظه.

وأما الذي تقدم في حديث أبي قتادة، فإنه شكَّ في أي اللفظين قال، فذكرهما، فقال فيه: قال: يا رسول الله" كيف من يصوم الدهر؟! قال: "لا صام، ولا أفطر"، أو: "لم يصم، ولم يفطر". وقد تقدم القول في صوم الدهر. انتهى

(5)

.

(1)

"المفهم" 3/ 225.

(2)

"المفهم" 3/ 226.

(3)

"شرح النوويّ" 8/ 45.

(4)

"الفتح" 5/ 399.

(5)

"المفهم" 3/ 226 - 227.

ص: 476

وقوله: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ") هكذا هو مكرّر ثلاث مرّات في بعض النسخ، وبعضها مرّتين، وهذا فيه دليل على تحريم صوم الأبد، وقد تقدّم أن هذا هو القول المختار، وأجاب الجمهور القائلون بجواز صوم الدهر بأجوبة:

(أحدها): أنه محمول على حقيقته، بأن يصوم معه العيدين، وأيام التشريق.

وفيه نظر؛ لأنه رضي الله عنه قد قال جواباً من ساله عن صوم الدهر: "لا صام، ولا أفطر"، وهو يؤذن بأنه ما أُجر، ولا أثم، ومن صام الأيام المحرّمة لا يقال فيه ذلك؛ لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرّمة يكون قد فعل مستحبًّا وحراماً.

وأيضاً فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعاً، فهي بمنزلة الليل، وأيامِ الحيض، فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها، ولا يصلح الجواب بقوله:"لا صام، ولا أفطر" من لم يعلم تحريمها، كذا ذكره الحافظ في "الفتح"، وهو ملخّص كلام ابن القيّم في "الهدي"، وقد تقدّم نصّ كلامه.

وقد تَعَقَّب ابن دقيق العيد تأويل الجمهور هذا بوجه آخر، من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى "شرح العمدة"

(1)

.

(الثافي): أنه محمول على من تضرّر به، أو فوّت به حقًّا، قالوا: ويؤيده أن النهي كان خطاباً لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم أنه عجز في آخر عمره، ونَدِم على كونه لم يقبل الرخصة، قالوا: فنهى ابن عمرو لعلمه بأنه سيعجز عنه، ويضعف، وأقرّ حمزة لعلمه بقدرته بلا ضرر.

وفيه أن هذا التأويل أيضاً مردود لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: "ومن رغب عن سنتي، فليس مني"، ويردّه أيضاً قوله:"لا أفضل من ذلك".

وبردّه أيضاً ورود قوله: "لا صام، ولا أفطر" وقوله: "لا صام من صام

(1)

راجع: "شرح العمدة" 3/ 409 - 412 بنسخة الحاشية.

ص: 477

الأبد" عن غير واحد من الصحابة، سوى عبد الله بن عمرو، كما تقدّم.

ويردّه أيضًا حديث أبي موسى المتقدّم، وكلّ ذلك يدلّ على أن هذا الحكم ليس خاصًّا بابن عمرو، بل هو عامّ لجميع المسلمين، وأما إقراره لحمزة على سرد الصوم، فلا حجة فيه، كما سبق.

(الثالث): أن معنى "لا صام" أنه لا يجد من مشقّته ما يجدها غيره، فيكون خبراً لا دعاء.

وتعقّبه الطيبيّ بأنه مخالف لسياق الحديث، ألا تراه كيف نهاه عن صيام الدهر كله، ثم حثّه على صوم داود، والأَولى أن يكون خبراً عن أنه لم يمتثل أمر الشارع، أو دعاء كما تقدّم. وأجابوا عن حديث أبي موسى المتقدم ذكره - وهو:"من صام الدهر، ضُيِّقت عليه جهنّم" - وهو حديث صحيح، بأن معناه ضُيّقت عليه، فلا يدخلها، فعلى هذا تكون "على" بمعنى "عن"؛ أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدّد، وحكى ردّه عن أحمد، كما سبق.

وقال ابن خزيمة: سألت المزنيّ عن هذا الحديث؟ فقال: يشبه أن يكون معناه ضُيّقت عنه، فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره؛ لأن من ازداد عملاً وطاعةً ازداد عند الله رفعة، وعنه كرامة.

ورجّح هذا التأويلَ جماعةٌ، منهم الغزاليّ، فقالوا: له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيّق الله عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان؛ لأنه ضيّق طرقها بالعبادة.

وتُعقّب بأنه ليس كلّ عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقرّباً، بل ربّ عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعداً، كالصلاة في الأوقات المكروهة، وأيضاً لو كان المراد ما ذكروه لقال: ضيّقت عنه، وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها.

قال ابن حزم بعد ذكر التأويل ما لفظه: هذه لُكْنة وكَذِبٌ، أما اللكنة فإنه لو أراد هذا لقال: ضيّقت عنه، ولم يقل: عليه. وأما الكذب فإنما أورده رواته كلهم على التشديد، والنهي عن صومه. انتهى

(1)

.

(1)

"المحلى" 7/ 16.

ص: 478

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بهذا الصواب إجراء الحديث على ظاهره، والقول بمنع صيام الدهر مطلقاً؛ لوضوح حجّته، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2735]

(

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: إِنَّ؛ أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ أَخْبَرَهُ، قَالَ مُسْلِم: أَبُو الْعَبَّاسِ السَّائِبُ ابْنُ فَرُّوخَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثِقَة عَدْلٌ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوقٌ فاضلٌ، ربما وَهِم [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (قَالَ مُسْلِم: أَبُو الْعَبَّاسِ السَّائِبُ

إلخ) هذا صريح في أن التوثيق من المصنّف نفسه، وذكره البخاريّ عن الراوي عنه، فقال في "صحيحه": حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، حدّثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العبّاس المكيّ، وكان شاعراً، وكان لا يُتّهم في حديث - قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه

.

قال في "الفتح": قوله: "وكان شاعراً

إلخ" فيه إشارة إلى أن الشاعر بصدد أن يُتَّهَم في حديثه؛ لما تقتضيه صناعته من سلوك المبالغة في الإطراء وغيره، فأخبر الراوي عنه أنه مع كونه شاعراً كان غير متهم في حديثه.

وقوله: "في حديثه" يَحْتَمِل مرويه من الحديث النبويّ، وَيحْتَمِل فيما هو أعم من ذلك، والثاني أليق، وإلا لكان مرغوباً عنه، والواقع أنه حجة عند كل من أخرج الصحيح، وأفصح بتوثيقه أحمد، وابن معين، وآخرون. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 5/ 403 - 404.

ص: 479

[تنبيه]: رواية محمد بن بكر، عن ابن جريج هذه، ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه" (3/ 295) فقال:

(2109)

- حدّثنا الحسن بن تسنيم، أخبرنا محمد -يعني ابن بكر - وحدَّثنا محمد بن رافع، حدّثنا عبد الرزاق، قالا: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء، يزعم أن أبا العباس الشاعر أخبره، أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أني أسرُد، وأصلي الليل، قال: وإما أرسل إليه، وإما لقيه، فقال:"ألم أُخْبَر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل، فلا تفعل، فإن لعينيك حظًّا، ولنفسك حظًّا، ولأهلك حظًّا، فصم وأفطر، وصلِّ ونم، وصم كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تسعة"، قال: فإني أجدني أقوى لذلك يا رسول الله، قال:"فصم صيام داود"، قال: وكيف كان داود يصوم يا رسول الله؟ قال: كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يَفِرّ إذا لاقى"، قال: من لي بهذه يا نبي الله؟ قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا صام من صام الأبد".

هذا حديث الْبُرْسانيّ، وفي حديث عبد الرزاق: قال: إني أصوم أسرُد، وقال: فإما أرسل إليّ، وقال: إني أجدني أقوى من ذلك. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2736]

(

) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيب، سَمِعَ أَبا الْعَبَّاسِ، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنَّكَ لَتَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ، وَنَهَكَتْ، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ، صَوْمُ ثَلَاَثةِ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) تقدّم في الباب الماضي.

ص: 480

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(حَبِيبُ) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، لكنه كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 1/ 1.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (هَجَمَتْ لَهُ الْعَيْنُ) بفتح الهاء والجيم، من باب قَعَد: أي غارت.

وقوله: (وَنَهَكَتْ) - بفتح النون، وبفتح الهاء وكسرها، والتاء ساكنة -: ومعناه: ضَعُفت، وضبطه بعضهم "نُهِكْتَ" بضمّ النون، وكسر الهاء، وفتح التاء: أي نُهِكت أنت؛ أي ضَنِيتَ، وهذا ظاهر كلام القاضي

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: نَهِكَته الْحُمّى نَهَكاً، من باب نَفَعَ، وتَعِبَ: هَزَلته، ونَهَكتُ الشيءَ نَهْكاً: بالغتُ فيه، ونَهَكه السلطان عقوبة أيضًا: بالغ في ذلك، وأنهكه بالألف لغةٌ، وانتهك الرجلُ الحرمةَ: تناولها بما لا يحِلّ. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2737]

(

) - (وَحَدَّثناه أَبُو كُرَيْبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "وَنَفِهَت النَّفْسُ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا بلا واسطة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

2 -

(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 45.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 628.

ص: 481

3 -

(مِسْعَرُ) بن كِدَام بن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

و"حبيب بن أبي ثابت" ذُكر قبله.

وقوله: (وَنَفِهَت النَّفْسُ) بفتح النون، وكسر الفاء، من باب سَمِعَ: أي أعيت، وكَلَّتْ، وضعُفت عن القيام بذلك، وحكى الإسماعيليّ أن أبا يعلى رواه له "تَفِهَت" بالتاء بدل النون، واستضعفه

(1)

.

[تنبيه]: رواية مِسْعر، عن حبيب بن أبي ثابت هذه ساقها البخاريّ في "صحيحه"، فقال: حدّثنا خَلَّادُ بن يحيى، حدثنا مِسْعَرٌ، حدثنا حَبِيبُ بن أبي ثَابِتٍ، عن أبي الْعَبَّاس، عن عبد اللهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ، قال: قال لي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ " فقلت: نعم، فقال:"فَإِنَّكَ إذا فَعَلْتَ ذلك هَجَمَتِ الْعَيْنُ، وَنَفِهَتِ النَّفْسُ، صُمْ من كل شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صوْمُ الدَّهْرِ، أو كَصَوْمِ الدَّهْرِ"، قلت: إني أَجِدُ بِي، قال مِسْعَرٌ: يَعْنِي قُوَّةً، قال:"فَصُمْ صوْمَ دَاوُدَ، وكان يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً، ولا يَفِرُّ إذا لَاقَى". انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2738]

(

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ألَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ " قُلْتُ: إِنِّي أفعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: "فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنَاكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، لِعَيْنِكَ حَقٌّ، وَبنَفْسِكَ حَقٌّ، وَلِأَهْلِكَ حَقٌّ، قُمْ، وَنَمْ، وَصُمْ، وَأَفْطِرْ").

(1)

"الفتح" 3/ 562 كتاب "التهجّد" رقم (1153).

ص: 482

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي أيضًا.

3 -

(عَمْرُو) بن دينار الْجُمحيّ مولاهم الأثرم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2739]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلَثهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ أَوْسِ) بن أبي أوس الثقفيّ الطائفيّ، تابعيّ كبير، ثقةٌ [2] وهِمَ من ذكره في الصحابة، مات بعد التسعين (ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 16/ 1694.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ) قال المهلّب رحمه الله: كان داود؛ يَجِمّ نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه:"هل من سائل فأعطيَهُ سؤله"، ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل، وهذا هو النوم عند السحر، وإنما صارت هذه الطريقة أحبّ من أجل الأخذ بالرفق للنفس التي يُخْشَى منها السآمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يملّ حتى تملوا"، والله يحب أن يديم فضله، ويوالي إحسانه، وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن، ويذهب ضرر السهر، وذبول الجسم،

ص: 483

بخلاف السهر إلى الصباح، وفيه من المصلحة أيضاً استقبال صلاة الصبح وأذكار النهار بنشاط وإقبال، وأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير أصبح ظاهر اللون، سليم القُوَى فهو أقرب إلى أن يَخْفَى عمله الماضي على من يراه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد.

وحُكِيَ عن قوم أن معنى قوله: "أحب الصلاة" هو بالنسبة إلى من حاله مثل حال المخاطب بذلك، وهو من يَشُقّ عليه قيام أكثر الليل، قال: وعُمدة هذا القائل افتضاء القاعدة زيادة الأجر بسبب زيادة العمل، لكن يعارضه هنا اقتضاء العادة والجبلّة التقصير في حقوق يعارضها طول القيام، ومقدار ذلك الفائت مع مقدار الحاصل من القيام غير معلوم لنا، فالأولى أن يُجْرَى الحديثُ على ظاهره وعمومه، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، فمقدار تأثير كل واحد منهما في الحثّ أو المنع غير محقَّق لنا، فالطريق أننا نُفَوِّض الأمر إلى صاحب الشرع، ونَجْرِي على ما دل عليه اللفظ، مع ما ذكرناه من قوة الظاهر هنا، والله أعلم. انتهى.

[تنبيه]: قال ابن التين رحمه الله: هذا المذكور إذا أجريناه على ظاهره، فهو في حقّ الأمة، وأما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أمره الله تعالى بقيام أكثر الليل، فقال:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل:

1 -

]. انتهى.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وفيه نظر؛ لأن هذا الأمر قد نُسِخ، وقد تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"فلما كان نصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل"، وهو نحو المذكور. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2740]

(

) - (وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ،

ص: 484

كَانَ يَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَرْقُدُ شَطْرَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ، ثُمَّ يَرْقُدُ آخِرَهُ، يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ بَعْدَ شَطْرِهِ"، قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَعَمْرُو بْنُ أَوْسٍ، كَانَ يَقُولُ: "يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ بَعْدَ شَطْرِهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ، وكلهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (قال ابن جريج: قلت لعمرو بن دينار

إلخ) قال في "الفتح": ظاهره أن تقدير القيام بالثلث من تفسير الراوي، فيكون في الرواية الأولى إدراج، ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"عمرو بن أوس ذكره" أي بسنده، فلا يكون مدرجاً.

وفي رواية ابن جريج من الفائدة ترتيب ذلك بـ "ثُمّ"، ففيه ردّ على من أجاز في حديث الباب أن تحصل السنّة بنوم السدس الأول مثلاً، وقيام الثلث، ونوم النصف الأخير، والسبب في ذلك أن الواو لا ترتب. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2741]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو، فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمِ، حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لِي: "أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّام؟ " قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "خَمْساً"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "سَبْعاً"، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "تِسْعاً"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "أَحَدَ عَشَرَ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ، شَطْرُ الدَّهْرِ، صِيَامُ يَوْمٍ، وَإِفْطَارُ يَوْمٍ").

(1)

"الفتح" 3/ 526 - 527 كتاب "التهجّد" رقم (1131).

ص: 485

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمنْ بن يزيد الطحّان الواسطيّ الْمُزَنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 4078.

3 -

(خَالِدُ) بن مِهْرَان الْحَذّاء، أبو الْمَنَازل البصريّ، ثقةٌ، يُرسل، وتغيّر لَمَّا قَدِم من الشام (5)(ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

4 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، وفيه نَصْبٌ يسيرٌ [3](ت 104) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

5 -

(أَبُو الْمَلِيحِ) بن أُسامة بن عُمير، أو عامر بن حُنيف بن ناجية الْهُذليّ، اسمه عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد، ثقةٌ [3](ت 98) أو (108) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 373.

والصحابيّ ذُكر قبله.

وقوله: (دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ) ووقع عند البخاريّ في "الاستئذان": "مع أبيك زيد"، وهو والد أبي قلابة عبد الله بن زيد بن عمرو، وقيل: عامر الْجَرْميّ، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقوله: (ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي) بالبناء للمفعول، وتقذم أن الذي ذكر له هو أبوه عمرو بن العاص.

وقوله: (فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً) بكسر الواو: الْمِخَدّة، والجمع وِسادات، ووسائد، والوِسَاد بغير هاء كلُّ ما يُتوسّد به من قُمَاشٍ، وتُراب، وغير ذلك، والجمع: وُسُدٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، ويقال: الوِساد لغة في الوِسادة

(2)

.

وقوله: (مِنْ أَدَمٍ) بفتحتين: الْجِلْد، وقال في "القاموس": الأَدِيم: الجلد، أو أحمره، أَو مدبوغه، جمعه أسدمةٌ، وأُدُمٌ، وآدامٌ، والأَدَمُ: اسم للجمع. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 5/ 405.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 658.

(3)

"القاموس المحيط" 4/ 73.

ص: 486

وقوله: (حَشْوُهَا لِيفٌ)"الْحَشْو" بفتح، فسكون: أي ما يُجعل فيها، وليف النخل بالكسر: معروف.

وقوله: (فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ، وَصَارَتْ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ) فيه بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع، وترك الاستئثار على جليسه، وفي كون الوسادة من أدم حشوها ليف بيان ما كان عليه الصحابة في غالب أحوالهم في عهده صلى الله عليه وسلم من الضيق؛ إذ لو كان عنده أشرف منها لأكرم بها نبيّه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقوله: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ" أي قلت له: يا رسول الله زدني.

وقوله: "خَمْساً" أي صم خمساً، ووقع عند البخاريّ في رواية الكشميهنيّ:"خمسة" وكذا في البواقي، فمن قال:"خمسة" أراد الأيام، ومن قال:"خمساً" أراد الليالي، وفيه تجوّز؛ لأن الصوم في الأيام، لا في الليالي.

وقوله: "شَطْرُ الدَّهْرِ" بالرفع على القطع، ويجوز النصب على إضمار فعل، والجرّ على البدل من "صوم داود".

وقوله: "صيام يوم، وفطر يوم" يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، على الوجه الذي ذكرته في سابقه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2742]

(

) - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:"صُمْ يَوْماً، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ"، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"صُمْ يَوْمَيْنِ، وَلَكَ أجْرُ مَا بَقِيَ"، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ"، قَالَ: إِنِّي أُطيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"صُمْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ"، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:"صُمْ أَفْضَلَ الصِّيَامِ عِنْدَ اللهِ، صَوْمَ دَاوُدَ؛ كَانَ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً").

(1)

"الفتح" 5/ 405.

ص: 487

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قريباً.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(زَيادُ بْنُ فَيَّاضٍ) الْخُزَاعيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6].

رَوَى عن أبي عياض عمرو بن الأسود، وخيثمة بن عبد الرحمن، وتميم بن سلمة، وجماعة.

وروى عنه الأعمش، وشريك، وشعبة، ومِسْعَر، والثوريّ، وغيرهم.

قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، وهو أحب إلي من زياد بن عِلاقة، وقال أبو زرعة: شيخ، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقةٌ ثقةٌ، وقال ابن خلفون: وثقه ابن نُمير، وعليّ ابن المدينيّ، وغيرهما، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة. تفرّد به المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(أَبُو عِيَاضٍ) عمرو بن الأسود الْعَنْسيّ، ويقال: الْهَمْدانيّ، أبو عياض، ويقال: أبو عبد الرحمن الدمشقيّ، ويقال: الحمصيّ، سَكَن دَارِيا، وهو عمير بن الأسود، مخضرمٌ ثقةٌ عابدٌ، من كبار التابعين [2].

رَوَى عن عُمَر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، والعرباض بن سارية، ومعاوية، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجنادة بن أبي أمية، وأبي هريرة، وعائشة، وأم حرام بنت ملحان، وجماعة.

وروى عنه ابنه حكيم بن عمير، ومجاهد، وخالد بن معدان، وشُريح بن عبيد، وكثير بن أبي كثير، ونصر بن علقمة، وزياد بن فياض على خلاف في ذ لك، وغيرهم.

قال ضمرة بن حبيب: مَرّ عمرو بن الأسود على عمر بن الخطاب، فقال: مَن سَرّه أن ينظر إلى هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي هذا، وقال محمد بن عوف: عمرو بن الأسود يكنى أبا عياض، وهو والد حكيم بن عمير.

وقيل: إن أبا عياض الذي يروي عنه زياد بن فياض، والعراقيّون رجل آخر، كذا حَكَى ابن أبي حاتم، عن أبيه، وقال: اسمه مسلم بن نُذَير، وقيل: إن أبا عياض اسمه قيس بن ثعلبة، حكاه النسائيّ في "الكنى"، والحاكم، أبو

ص: 488

أحمد، وقال ابن حبان في "الثقات": عمير بن الأسود كان من عُبّاد أهل الشام وزهادهم وكان يقسم على الله فيبرّه، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وروى الحاكم في "الكنى" من طريق مجاهد، قال: حدّثنا أبو عياض في خلافة معاوية.

وقال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات، مات في خلافة معاوية، وذكره أبو موسى المدينيّ في "ذيل الصحابة"، وحكاه عن ابن أبي عاصم أنه ذكره فيهم، قال أبو موسى: وليس بصحابيّ، إنما يروي عن الصحابة، وحكى ابن أبي خيثمة عن مجاهد، أنه قال: ما رأيت بعد ابن عباس أعلم من أبي عياض، وروى الحسن بن عليّ الحلوانيّ في "كتاب المعرفة" هذا الكلام عن مجاهد أيضاً بإسناد صحيح، وروى الطبراني في "مسند الشاميين" من طريق أرطاة بن المنذر، ثنا زُريق أبو عبد الله الألهانيّ أن عمرو بن الأسود قَدِمَ المدينة فرآه عبد الله بن عمر يصلي، فقال: من سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلينظر إلى هذا.

قال الحافظ: ومما يؤيد أن عمير بن الأسود هو عمرو بن الأسود ما أخرجه البخاريّ عن يحيى بن إسحاق بن يزيد، والطبراني عن أحمد بن المعلَّى، عن هشام بن عمار، كلاهما عن يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمير بن الأسود، عن أم حرام

الحديث، هذه رواية البخاريّ، وفي رواية الطبرانيّ: عمرو بن الأسود. انتهى

(1)

.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1159)، و (2000): "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في الأوعية

".

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (صُمْ يَوْماً، وَلَكَ أَجْرُ مَا بَقِيَ) أي صم من كلّ عشرة أيام يوماً واحداً، ولك أجر عشرة أيام.

قال الحافظ: هذا يقتضي أنه أمره بصيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، ثم

(1)

"تهذيب التهذيب" 3/ 256 - 257.

ص: 489

بستة، ثم بتسعة، ثم باثني عشر، ثم بخمسة عشر، فالظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كلّ شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن أوصله إلى خمسة عشر يوماً، فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخر، ويدلّ على ذلك رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو عند أبي داود:"فلم يزل يناقصني، وأناقصه". انتهى

(1)

.

وقد استُشكل قولُهُ: "صم من كلّ عشرة أيام يوماً، ولك أجر ما بقي" مع قوله: "صم من كل عشرة أيام يومين، ولك أجر ما بقي إلخ"؛ لأنه يقتضي الزيادة في العمل، والنقص من الأجر.

وأجيب بأن المراد: لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف، قال عياض: قال بعضهم: معنى "صم يوماً، ولك أجر ما بقي" أي من العشرة، وقوله:"صم يومين، ولك أجر ما بقي" أي من العشرين، وفي الثلاثة ما بقي من الشهر، وحَمَله على ذلك استبعاد كثرة العمل، وقلّة الأجر.

وتعقّبه عياض بأن الأجر إنما اتحد في كلّ ذلك؛ لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر، فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاءً عليه لما ذكر بقي أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلاً، أو كثيراً، كما تأوله في حديث:"نية المرء خير من عمله"؛ أي إن أجره في نيّته أكثر من أجر عمله؛ لامتداد نيّته بما لا يقدر على عمله. انتهى.

قال الحافظ: والحديث المذكور ضعيف، وهو في "مسند الشهاب"، والتأويل المذكور لا بأس به.

وَيحْتَمِل أيضاً إجراء الحديث على ظاهره، والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقّة الحاصلة بسببه المقتضية لتفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوّتها مشقّة الصوم، فينقص الأجر باعتبار ذلك.

على أن قوله في نفس الخبر: "صم أربعة أيام، ولك أجر ما بقي" يردّ الحمل الأول، فإنه يلزم منه على سياق التأويل المذكور أن يكون التقدير: ولك أجر أربعين، وقد قيّده في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين.

(1)

"الفتح" 4/ 739.

ص: 490

وكذلك قوله في رواية النسائيّ من طريق الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، عن عبد الله بن عمرو بلفظ:"صم من كل عشرة أيام يوماً، ولك أجر تلك التسعة"، ثم قال:"صم من كلّ تسعة أيام يوماً، ولك أجر تلك الثمانية"، ثم قال:"من كلّ ثمانية أيام يوماً، ولك أجر السبعة"، قال: فلم يزل، حتى قال:"صم يوماً، وأفطر يوماً"، وله من طريق شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، عن جدّه بلفظ:"صم يوماً، ولك أجر عشرة"، قلت: زدني، قال:"صم يومين، ولك أجر تسعة"، قلت: زدني، قال:"صم ثلاثة، ولك أجر ثمانية". فهذا يدفع في صدر التأويل الأول، والله أعلم، أفاده في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأقرب حمل الحديث على ظاهره، وهو الاحتمال الأخير الذي مرّ آنفاً في عبارة "الفتح"، وإنما نقص الأجر مع زيادة العمل؛ لِمَا ذُكِر من ترتّب تفويت بعض العبادات بسبب مشقّة الصوم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2743]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، جَمِيعاً عَن ابْنِ مَهْدِيٍّ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، فَلَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَبعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا، صُمْ، وَأَفْطِرْ، صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِن بِي قُوَّةً، قَالَ: "فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ، صُمْ يَوْماً، وَأَفْطِرْ يَوْماً"، فَكَانَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان الْعَنبريّ مولاهم، أبو سعيد

(1)

"الفتح" 4/ 739.

ص: 491

البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام ناقد بصير [9](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

2 -

(سَلِيمُ -بفتح السين المهملة، وكسر اللام- ابْنُ حَيَّانَ) الْهُذليّ البصريّ، ثقةٌ [7](خ م د ت سي ق) تقدَم في "الجنائز" 21/ 2257.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) -بالمدّ والقصر، والقصر أشهر- مولى الْبَخْتريّ بن أبي ذُباب، أبو الوليد الحجازيّ المكيّ، أو المدنيّ، ثقةٌ [3](خ م د ت ق) تقدم في "الجنائز" 21/ 2207.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (فَكَانَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي أَخَذْتُ بِالرُّخْصَةِ) هذا كان يقوله بعدما كَبِر سنّه، وضَعُفَ.

وفي رواية البخاريّ من طريق مجاهد عن عبد الله بن عمرو: فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك أني كَبِرْتُ وضَعُفتُ، فكان يقرأ على بعض أهله السُّبُعَ من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يَعْرِضه من النهار؛ ليكون أخفّ عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً، وأحصى وصام مثلهنّ؛ كراهيةَ أن يترك شيئاً فارق النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه. انتهى.

[تنبيه]: في قصّة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المذكورة في أحاديث الباب من الفوائد بيان أن أفضل الصيام صيام يوم، وفطر يوم، وقد تقدم بيان اختلاف العلماء في جواز صوم الدهر، وكراهته، أوأنه جائز، وأفضل من صوم داود، مع بيان القول الراجح، وهو تحريم صوم الدهر؛ للأدلة الواضحة في ذلك، فتبصّر، والله تعالى وليّ التوفيق.

وفيه بيان رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم، هارشاده إياهم إلى ما يصلحهم، وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمُّق في العبادة؛ لما يُخْشَى من إفضائه إلى الملل المفضي إلى الترك، أو ترك البعض، وقد ذمّ الله تعالى قوماً لازموا العبادة، ثم فَرّطوا فيها.

وفيه الندب إلى الدوام على ما وَظَّفه الإنسان على نفسه من العبادة.

وفيه جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة، والأوراد، ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الرياء.

ص: 492

وفيه جواز القسم على التزام العبادة، وفائدتُهُ الاستعانة باليمين على النشاط لها، وأن ذلك لا يُخِلّ بصحة النية والإخلاص فيها، وأن اليمين على ذلك لا يُلْحِقها بالنذر الذي يجب الوفاء به.

وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وأن النفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص، والأوقات، والأحوال.

وفيه جواز التفدية بالأب والأم؛ لقوله: "بأبي أنت وأمي".

وفيه الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في أنواع العبادات.

وفيه أن طاعة الوالد لا تجب في ترك العبادة، ولهذا احتاج عمرو إلى شكوى ولده عبد الة، ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك طاعته لأبيه.

وفيه زيارة الفاضل للمفضول في بيته، وإكرام الضيف بإلقاء الفُرُش ونحوها تحته، وتواضع الزائر بجلوسه دون ما يُفْرَش له، وأن لا حرج عليه في ذلك؛ إذا كان على سبيل التواضع، والإكرام للمزور، وقد تقدّم معظم هذه الفوائد، وإنما أعدتها لإجل الزيادات فيها، وبياناً لأهمّيتها، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(38) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ).

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2744]

(1160) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ الْعَدَوَّيةُ، أنَهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ).

ص: 493

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع و (90) سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبرَي مولاهم، أبو عُبيدة التّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(يَزِيدُ الرِّشْكِ) هو: يزيد بن أبي يزيد الضُّبَعيّ مولاهم، أبو الأزهر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، وَهِمَ من لَيّنه [6](ت 130) وهو ابن مائة سنة (ع) تقدم في "الحيض" 14/ 767.

4 -

(مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ) بنت عبد الله، أو الصهباء البصريّة، ثقةٌ [3](ع) تقدمت في "الحيض" 9/ 738.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، ماتت سنة (57)، تقدّمت قبل باب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أسلفته آنفاً.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، وشيخه أُبُلّيّ - بضمّتين، وتشديد اللام - نسبة إلى قرية من قرى البصرة.

4 -

(ومنها): أن فيه التحديث والعنعنة.

شرح الحديث:

(عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ) بالجرّ بدل من يزيد، أو عطف بيان له، قال المجد رحمه الله: الرِّشْك بالكسر: الكبير اللحية، والذي يَعُدُّ على الرُّماة في السَّبَقِ، وأصله القاف، ولقبُ يزيد بن أبي يزيد الضبَعيّ أحْسَبِ أهل زمانه. انتهى

(1)

.

(قَالَ: حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ، أنَهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بنصب "زوجَ" على البدليّة (أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ)

(1)

"القاموس المحيط" 3/ 304.

ص: 494

عائشة رضي الله عنها (نَعَمْ) أي كان يصومها؛ أي وهذا أقل ما كان يقتصر عليه (فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ) احترازٌ من أيام الأسبوع (كَانَ يَصُومُ؟) أي هذه الثلاثة، من أولها، أو أوسطها، وآخرها، متصلةً، أو منفصلة؟ (قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي) أي لم يكن يَهْتَمّ للتعيين (مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ) أي كان يصومها بحسب ما يقتضي رأيه الشريف، فتارةً من أولها، وتارةً من وسطها، وتارةً من آخرها.

[فإن قلت]: كيف تجمع بين هذا الحديث وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: "كان يصوم من غُرّة كل شهر ثلاثة أيام"؟، رواه أبو داود.

[أجيب]: بأن ابن مسعود رضي الله عنه حدّث بما اطلع عليه من أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وظنّ أنه الغالب منها، وعائشة رضي الله عنها اطلعت من ذلك على ما لم يطلع عليه هو، فحدّثت بما علمت، فلا تنافي بين الأمرين.

وقال العراقيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أنه يريد بغرته أوله، وأن يريد الأيام الغُرّ؛ أي الْبِيض، وقال القاضي عياض: غُرَر الشهر أوائله. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 2744](1160)، و (أبو داود) في "الصوم"(2453)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(763)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1709)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 145)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2130)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 241)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 295)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من إكثار الصوم والاجتهاد فيه.

(1)

راجع: "فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 5/ 226.

ص: 495

3 -

(ومنها): فضل عائشة رضي الله عنها حيث كانت تراعي أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحفظت على الأمة كثيراً من أحواله صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف رجالاً ونساءً، من تتبع أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، والسؤال عنها حتى يقتدوا به؛ لأن في اتباعة الهداية، والفلاح، قال الله:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2745]

(1161) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُبَعِيُّ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ، وَهُوَ يَسْمَعُ: "يَا فُلَانُ أَصُمْتَ مِنْ سُرَةِ هَذَا الشَّهْرِ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

2 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَليّ، أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 1702)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

3 -

(غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ) الْمِعْوليّ الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 698.

4 -

(مُطَرِّفٌ) بن عبد الله بن الشِّخِّير

(1)

العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

(1)

[تنبيه]: وقع في برنامج الحديث غلط في هذا المترجَم، فقد ترجم لمطرّف بن طريف، بدل مطرّف بن عبد الله، وهو غلط صريح؛ لأن مطرّف بن طريف من الطبقة السادسة لم يلق عمران بن حصين، فليُتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 496

5 -

(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجيد الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وصحِبَ، وكان فاضلاً، وقضى بالكوفة، مات سنة (52) بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، كما أشرت إليه آنفاً.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ) أي لعمران بن حصين رضي الله عنهما (أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ) لم يَعرف اسمه، و"أو" هنا للشكّ، وهو من مُطَرِّف فإن ثابتاً البنانيّ رواه عنه بنحوه على الشك أيضاً، كما سيأتي في الباب التالي، وأخرجه المصنّف هنا من وجهين آخرين عن مطرِّف بدون شك على الإبهام: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صُمت

"، وزاد أبو عوانة في "مستخرجه": "من أصحابه"، ورواه أحمد من طريق سليمان التيميّ به، قال لعمران بغير شك

(1)

.

وقوله: (وَهُوَ يَسْمَعُ) جملة حاليّة من عمران ("يَا فُلَانُ) كذا في "صحيح البخاريّ"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي نسخة من رواية أبي ذر:"يا أبا فلان " بأداة الكنية (أَصُمْتَ مِنْ سُرَّةِ هَذَا الشَّهْرِ؟ ") - بضمّ السين المهملة، وتشديد الراء، بعدها هاء - قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "من سُرّة هذا الشهر" بالهاء بعد الراء، وذكر مسلم بعده حديث أبي قتادة، ثم حديث عمران أيضاً:"في سَرَر شعبان"، وهذا تصريح من مسلم بأن رواية عمران الأولى بالهاء، والثانية بالراء، ولهذا فرّق بينهما، وأدخل الأولى مع

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 413.

ص: 497

حديث عائشة رضي الله عنها، كالتفسير له، فكأنه يقول: "يستحب أن تكون الأيام الثلاثة من سُرّة الشهر، وهي وسطه، وهذا مُتّفَقٌ على استحبابه، وهو استحباب كون الثلاثة هي أيام البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وقد جاء فيها حديث في كتاب الترمذيّ وغيره، وقيل: هي الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، قال العلماء: ولعل النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يواظب على ثلاثة معينة؛ لئلا يُظَنّ تَعَيُّنها، ونبّه بسرة الشهر، وبحديث الترمذيّ في أيام البيض على فضيلتها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": "السَّرَر" بفتح السين المهملة، ويجوز كسرها، وضمها: جمع سَزَة، ويقال أيضًا: سِرَار بفتح أوله وكسره، ورجح الفراء الفتح، وهو من الاستسرار، قال أبو عبيد: والجمهور على أن المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سُمِّيت بذلك؛ لاستسرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين، وتسع وعشرين، وثلاثين، ونَقَل أبو داود، عن الأوزاعيّ، وسعيد بن عبد العزيز أن سرره أوله، ونَقَل الخطابيّ عن الأوزاعيّ كالجمهور، وقيل: السَّرَر وسط الشهر، حكاه أبو داود أيضًا، ورجحه بعضهم، ووجَّهَه بأن السرر جمع سُرّةٍ، وسُرّة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض، وهي وسط الشهر، وأنه لم يَرِد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاصّ، وهو آخر شعبان من صامه لأجل رمضان، ورجحه النوويّ بأن مسلماً أفرد الرواية التي فيها سُرّة هذا الشهر عن بقية الروايات، وأردف بها الروايات التي فيها الْحَضّ على صيام البيض، وهي وسط الشهر، كما تقدّم، قال الحافظ: لكن لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره، وهو سُرّةُ، بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ:"سِرَار"، وأخرجه من طُرُق عن سليمان التيميّ، في بعضها سَرَر، وفي بعضها سِرار، وهذا يدلّ على أن المراد آخر الشهر.

[تنبيه]: زاد البخاريّ بعد قوله: "أما صُمتَ سَرَر هذا الشهر؟ " ما نضه: قال: أظنّه يعني رمضان، قال في "الفتح": هذا الظن من أبي النعمان؛ لتصريح البخاريّ في آخره بأن ذلك لم يقع في رواية أبي الصَّلْت، وكان ذلك وقع من

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 49.

ص: 498

أبي النعمان لَمّا حَدَّث به البخاريّ وإلا فقد رواه الْجَوْزقيّ من طريق أحمد بن يوسف السلميّ، عن أبي النعمان بدون ذلك، وهو الصواب، ونَقَل الحميديّ عن البخاريّ أنه قال: إن شعبان أصحّ، وقيل: إن ذلك ثابت في بعض الروايات في "الصحيح"، وقال الخطابيّ: ذكرُ رمضان هنا وَهَمٌ؛ لأن رمضان يتعيّن صوم جميعه، وكذا قال الداوديّ، وابن الجوزيّ، ورواه مسلم أيضاً من طريق ابن أخي مُطَرِّف، عن مُطَرِّف بلفظ:"هل صُمْتَ من سَرَر هذا الشهر شيئاً؟ " يعني شعبان، ولم يقع ذلك في رواية هْدبة، ولا عبد الله بن محمد بن أسماء، ولا فِطْر بن حماد، ولا عَفّان، ولا عبد الصمد، ولا غيرهم عند أحمد، ومسلم، والإسماعيليّ، وغيرهم، ولا في باقي الروايات عند مسلم.

وَيحْتَمِل أن يكون قوله: "رمضان" في قوله: "يعني رمضان" ظرفاً للقول الصادر منه صلى الله عليه وسلم لا لصيام المخاطب بذلك، فيوافق رواية الجريريّ، عن مطرِّف، فإن فيها عند مسلم:"فقال له: فإذا أفطرت من رمضان، فصم يومين مكانه".

قال أبو عبد الله البخاريّ: وقال ثابث، عن مطرّف، عن عمران، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من سَرَرِ شعبان"، وزاد في نسخة الصغانيّ هنا: قال أبو عبد الله: وشعبان أصحّ. انتهى.

(قَالَ) الرجل (لَا) أي لم أصم سرره (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِذَا أَفْطَرْتَ) يعني من صوم رمضان، كما بُيّن في الرواية التالية، وهذا ظاهر في أن السؤال وقع في شهر رمضان (فَصُمْ يَوْمَيْنِ") أي مكان ما تركته من صوم السرر.

قال الخطابيّ: قال بعض أهل العلم: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن ذلك سؤال زجر وانكار؛ لأنه قد نَهَى أن يُستَقبَل الشهر بيوم أو يومين.

وتُعُقّب بأنه لو أنكر ذلك لم يأمره بقضاء ذلك.

وأجاب الخطابيّ باحتمال أن يكون الرجل أوجبها على نفسه، فلذلك أمره بالوفاء، وأن يقضي ذلك في شوال. انتهى.

وقال ابن الْمُنَيِّر في "الحاشية": قوله: "سؤال إنكار" فيه تكلُّف، ويدفع في صدره قول المسئول: لا يا رسول الله، فلو كان سؤال إنكار، لكان صلى الله عليه وسلم قد أنكر عليه أنه صام، والفرض أن الرجل لم يصم، فكيف يُنكِر عليه فعل ما لم يفعله؟.

ص: 499

وَيحْتَمِل أن يكون الرجل كانت له عادة بصيام آخر الشهر، فلما سمع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يتقدّم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين، ولم يبلغه الاستثناء ترك صيام ما كان اعتاده من ذلك، فأمره بقضائها؛ لتستمر محافظته على ما وَظَّف على نفسه من العبادة؛ لأن أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه كما تقدم.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن هذا الاحتمال هو أقرب الأجوبة، وحاصله أن ذلك الرجل كان معتاداً صيام آخر شعبان، فلما سمع نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تقدّم رمضان بصوم يوم أو يومين ترك عادته؛ لكونه لم يسمع الاستثناء، فساله النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لم أصم، فأمره بقضاء ما تركه؛ محافظة على ما اعتاده، فتفطّن، والله تعالى أعلم بالصواب.

وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يكون هذا كلاماً جرى من النبيّ صلى الله عليه وسلم جواباً لكلام لم ينقل إلينا. انتهى. ولا يخفى ضعف هذا المأخذ.

وقال آخرون: فيه دليل على أن النهي عن تقدّم رمضان بيوم أو يومين إنما هو من يقصد به التحري لأجل رمضان، وأما من لم يقصد ذلك فلا يتناوله النهي، ولو لم يكن اعتاده، وهو خلاف ظاهر حديث النهي؛ لأنه لم يستثنِ منه إلا من كانت له عادة.

وأشار القرطبيّ إلى أن الحامل من حَمَل سرر الشهر على غير ظاهره، وهو آخر الشهر الفرار من المعارضة؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وقال: الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك، وحمل الأمر على من له عادة؛ حملاً للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا يقطع. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"المفهم" 3/ 234.

ص: 500

(المسألة الثاثية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 2745 - وفي الباب التالي -2751 و 2752 و 2753 و 2754](1161)، و (البخاريّ) في "الصوم"(1983)، و (أبو داود) في "الصوم"(2328)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 428 و 432 و 439 و 446)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 29)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3588)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 170 و 172)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 242)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 114 و 115 و 120 و 127)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 15 و 20)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 210) و"المعرفة"(3/ 353)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب صوم آخر شعبان من كان معتاداً له، وأن النهي الوارد في ذلك لا يتناوله، كما صحّ الاستثناء في غير هذا الحديث.

2 -

(ومنها): بيان مشروعية قضاء التطوّع، قال في "الفتح": وقد يؤخذ منه قضاء الفرض بطريق الأولى؛ خلافا من منع ذلك. انتهى.

3 -

(ومنها): ما قال القرطبي رحمه الله: في هذا الحديث إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان، وأن صوم يوم منه يعدل صوم يومين في غيره؛ أخذاً من قوله في الحديث:"فصم يومين مكانه" يعني مكان اليوم الذي فوّته من صيام شعبان. انتهى.

قال الحافظ: وهذا لا يتم إلا إن كانت عادة المخاطب بذلك أن يصوم من شعبان يوماً واحداً، وإلا فقوله:"هل صمت من سَرَر هذا الشهر شيئاً؟ " أعم من أن يكون عادته صيام يوم منه، أو أكثر، نعم وقع في "سنن أبي مسلم الكجيّ":"فصم مكان ذلك اليوم يومين". انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قال القرطبي رحمه الله أيضاً: قوله: "فصم يومين مكانه"؛ هذا منه صلى الله عليه وسلم حَمْلٌ على ملازمة عادة الخير حتى لا تقطع، وحَضٌّ على أن لا يمضي على المكلَّف مثل شعبان فلم يصم منه شيئاً، فلما فاته صومه،

(1)

"الفتح" 5/ 414 - 415.

ص: 501

أمره أن يصوم من شوال يومين ليحصل له أجر من الجنس الذي فوَّته على نفسه.

قال: ويظهر لي: أنه إنما أمره بصوم يومين؛ للمزية التي يختص بها شعبان، فلا بُعْد في أن يقال: إن صوم يوم منه كصوم يومين في غيره، ويشهد لهذا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم منه أكثر مما كان يصوم من غيره؛ اغتناماً لمزية فضيلته. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2746]

(1162) - (وَحَدَّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْن سَعِيدٍ، جَمِيعاً عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ غَيْلَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، رَجُلٌ أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ غَضَبَهُ قَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإسْلَامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِياً، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَغَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ، حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ:"لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ"، أَوْ قَالَ:"لَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يُفْطِرْ"، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ، وَيُفْطِرُ يَوْماً؟ قَالَ:"وَيُطِيق ذَلِكَ أَحَدٌ؟! قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً؟، قَالَ: "ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ"، قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: "وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَان إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ، أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ، أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتى قَبْلَهُ").

(1)

"المفهم" 3/ 235.

(2)

وفي نسخة: "فغضب من قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ص: 502

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) تقدّم أيضًا قبل باب.

4 -

(غَيْلَانُ) بن جرير المذكور في السند الماضي.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيُّ) - بكسر الزاي، وتشديد الميم، ثم نون - البصريّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي قتادة، وأبي هريرة، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وأرسل عن عمر.

ورَوَى عنه قتادة، وغيلان بن جرير، وثابت البنانيّ، والحجاج بن عَتّاب العبديّ.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لم يدرك عمر، وقال البخاريّ: لا يعرف سماعه من أبي قتادة، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن خلفون: وَثَّقه الْبَرْقيّ، وذكره ابن عدي من أجل قول البخاريّ.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1162) وكرّره ثلاث مرّات، وحديث في "كتاب التفسير" (3030) {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] الآية.

6 -

(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ، هو الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة السَّلَميّ الصحابيّ المشهور، شَهِدَ أُحُداً وما بعدها، ولم يشهد بدراً، ومات سنة (54) على الأصحّ (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله من رجال الجماعة، سوى شيخه يحيى، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه، وعبد الله بن معبد ما أخرج له البخاريّ.

ص: 503

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه، فالأول نيسابوريّ، والثاني بغلانيّ.

4 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه من مشاهير الصحابة، وهو فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَعْبَدٍ) بفتح الميم والموحّدة، بينهما عين مهملة (الزِّمَّانِيِّ) بكسر الزاي، وتشديد الميم: نسبة إلى زمّان بن مالك بن صَعْب بن عليّ بن بكر بن وائل، بطن من ربيعة، قاله في "اللباب"

(1)

.

[تنبيه]: هذا الإسناد متّصل عند المصنّف؛ لوجود شرطه، وهو المعاصرة مع احتمال اللقيّ، ليس متّصلاً على شرط البخاريّ؛ لأنه قال: لا يُعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة.

والحاصل أنه متّصل صحيح على شرح المصنّف، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.

(عَنْ أَبِي قَتَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (رَجُلٌ) لم يعرف اسمه، وفي رواية البيهقيّ من طريق أبان بن يزيد العطّار، عن غيلان:"أن أعرابيًّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا نبي الله كيف صومك؟ "(أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "عن أبي قتادة: رجلٌ أتى"، وعلى هذا يُقرأ "رجلٌ" بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي الشأن والأمر رجلٌ أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال، وقد أُصْلِح في بعض النسخ:"أن رجلاً أتى"، وكان مُوجِبُ هذا الإصلاح جهالةُ انتظام الأول، وهو منتظم كما ذكرته، فلا يجوز تغييره، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ.

(فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي نسخة: "فغضب من قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ أي غضب صلى الله عليه وسلم من أجل قول ذلك الرجل، قال العلماء: سبب غضبه صلى الله عليه وسلم أنه كَرِهَ مسألته؛ لأنه يَحتاج إلى أن يجيبه، ويَخشَى من جوابه

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 409.

ص: 504

مفسدةً، وهي أنه ربما اعتقد السائل وجوبه، أو استقلّه، أو اقتصر عليه، وكان يقتضي حاله أكثر منه، وإنما اقتصر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لشغله بمصالح المسلمين، وحقوقهم، وحقوق أزواجه، وأضيافه، والوافدين إليه؛ لئلا يقتدي به كل أحد، فيؤدى إلى الضرر في حق بعضهم، وكان حق السائل أن يقول: كم أصوم؟ أو كيف أصوم؟ فيَخُصّ السؤال بنفسه؛ ليجيبه بما تقتضيه حاله، كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم؛ والله أعلم، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

قال القاري رحمه الله: وأيضاً لم يكن صومه صلى الله عليه وسلم على منوال واحد، بل كان يختلف باختلاف الأحوال، فتارة يُكثر الصوم، وتارة يُقِلّه، ومثل هذا الحال لا يمكن أن يَدخُل تحت المقال، فيتعذر جواب السؤال، ولذا وقع لجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سألوا عن عبادته لله تعالى، فتقالُّوها، فبلغة ذلك، فاشتَدّ غضبه عليهم، وقال:"أنا أتقاكم لله، وأخوفكم منه" يعني ولا يلزم منه كثرة العبادة، بل حسنها، ومراعاة شرائطها، وحقائقها ودقائقها، وتقسيمها في أوقاتها اللائقة بها. انتهى

(2)

.

(فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ) بن الخطّاب (غَضَبَهُ) صلى الله عليه وسلم على السائل، وخاف من دعائه صلى الله عليه وسلم عليه خاصّةً، ومن السراية على غيره عامّةً؛ لقوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25](قَالَ) اعتذاراً إليه، واسترضاء منه (رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإسْلَامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (نَبِيًّا) قال القاري: المنصوبات تمييزات، ويمكن أن تكون حالات مؤكدات (نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَعضَبِ رَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم وذكرُ غضب الله تزيين للكلام، وتعيين بأن غضبه تعالى يوافق غضبه صلى الله عليه وسلم (فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدّدُ) أي يكرّر (هَذَا الْكَلَامَ) أي قوله: "رضينا بالله ربّا

إلخ " (حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟) أي كيف حاله؛ أي هل هو محمود، أو مذموم؟ قال القاري رحمه الله: انظر حسن الأدب حيث بدأه بالتعظيم، ثم سأل السؤال على وجه التعميم، ولذا قيل: حُسْنُ السؤال نصف العلم. انتهى.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ") أي لا صام صوماً فيه كمال الفضيلة،

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 50.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 472.

ص: 505

ولا أفطر فطراً يمنع جوعه وعطشه (أَوْ) للشكّ من الراوي (قَالَ: "لَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يُفْطِرْ") قال في "شرح السنة": معناه الدعاء عليه؛ زجراً له، ويجوز أن يكون إخباراً، قال المظهر: يعني أن هذا الشخص كأنه لم يفطر؛ لأنه لم يأكل شيئاً، ولم يصم لأنه لم يكن بأمر الشارع. انتهى.

وهذا كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد"، متّفقٌ عليه، وقد تقدّم.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه (كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ، وَيُفْطِرُ يَوْماً؟) بأن يجعل العبادة غالبة على العادة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟ ") بتقدير الاستفهام؛ أي أتقول ذلك، ويطيق ذلك أحد؟، قال القاري: وفيه إشارة إلى أن العلة في نهي صوم الدهر إنما هو الضعف، فيكون المعنى: إنه إن أطاقه أحد فلا بأس، أو فهو أفضل. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الأرجح النهي عن صوم الدهر مطلقاً؛ لوضوح أدلّته، فتنبّه.

(قَالَ) عمر (كيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْماً؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ذَاكَ صَوْمُ دَاوُدَ") أي وهو في غاية من الاعتدال، ومراعاةٌ لجانبي العبادة والعادة بأحسن الأحوال (قَالَ) عمر (كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْماً، وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟) إبقاءً للبدن عن الضعف؛ ليتقوى على سائر العبادات (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَدِدْتُ") بكسر الدال الأول، وأجاز بعضهم فتحها، وتقدّم تمام البحث في ذلك؛ أي أحببتُ (أَنِّي) بفتح الهمزة؛ لوقوعها في موضع المفعول به (طُوِّقْتُ ذَلِكَ") ببناء الفعل للمفعول؛ أي جعلني الله مُطيقاً الصيام المذكور، وقال الطيبيّ: أي لم تشغلني الحقوق عن ذلك حتى أصومَ، لا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يُطيق؛ لأنه كان يُطيق أكثر من ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم يواصل ويقول: "إني لست كأحدكم

". انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض حُسْنُ السؤال نصف العلم: قيل: معناه: ودِدْتُ أن أمتي تطوقه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 473.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1608.

ص: 506

كان يطيقه وأكثر منه، وكان يواصل، ويقول:"إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربى يُطعمني ويسقيني".

قال النوويّ رحمه الله: ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: "ليت أن الله قَوّانا لذلك"، أو يقال: إنما قاله لحقوق نسائه، وغيرهنّ من المسلمين المتعلقين به، والقاصدين إليه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "وددت أني طُوِّقْتُ ذلك"؛ أي: أُقدرت عليه، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كانت عليه حقوق كثيرة لأهله مع كثرتهم، ولضيفانه، وأصحابه، وللناس خاصة وعامة، فكان يتوقع إن التزم ذلك أن يضعف عن تلك الوظائف أو بعضها؛ فيقع خلل في تلك الحقوق، فتمنى أن يقدر على ذلك مع الوفاء بتلك الحقوق، والله أعلم.

لا يقال: فقد كان قادراً على الوصال، وهو أشق، ولم يضعف عن القيام بشيء من تلك الحقوق؛ لأنا نقول: لم يكن وصاله دائماً، وإنما كان في وقت من الأوقات بخلاف ما تمنى، فإنه تمناه دائماً.

ويَحْتَمِل: أن هذا كان منه في أوقات مختلفة، ففي وقت كان يطيق فيواصل، وفي وقت يخاف الضعف فيتمنى حتى يحصل له الحظ الأوفر من قوله:"نية المؤمن خير من عمله"

(2)

، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك الجواب على جهة التفضُّل والتبرع من غير السؤال ("ثَلَاثٌ) قال الطيبيّ رحمه الله: إنما طرح التاء من "ثلاث"؛ اعتباراً لليالي، قال في "الكشّاف" عند قوله تعالى:{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]: قيل: "عشراً" ذهاباً إلى الليالي، والأيامُ داخلة معها، ولا تراهم يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام، تقول:"صمت عشراً"، ولو ذكَّرتَ لخرجت من كلامهم. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 50.

(2)

رواه الطبرانيّ (6/ 228)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 255)، وتقدّم أنه حديث ضعيف.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1608.

ص: 507

قال القاري بعد نقل ما ذُكر: ونوقش بأن ما ذكره في الآية من تغليب الليالي ظاهر؛ لأنها معدودة من العِدّة، وفي "صمتُ عشراً" نظر ظاهر؛ لأن الليالي لا اعتبار لها في الصوم بوجه؛ لأنها لا تقبله، فلا وجه له فيها.

ويمكن دفعه بأنه الملابسة بينهما، لا سيما على القول بأنه لا بدّ من إدراك جزء من الليالي في طرفي يوم الصوم. انتهى

(1)

.

(مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) أي صيام ثلاثة أيام، قيل: هو أيام البيض، وقيل: من صام أيّ ثلاث يجد هذا الثواب، وهو الصحيح؛ لما تقدّم من حديث عائشة رضي الله عنها:"لم يكن يبالي من أيّ أيام الشهر يصوم".

(وَرَمَضَانُ) أي صيام رمضان من كلّ سنة، منتهيّا (إِلَى رَمَضَانَ) قال القاري رحمه الله: القياس انصرافهما، لكن ضُبِط في النسخ المصححة غير منصرفين. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد القاري رحمه الله أن حقّ "رمضان" هنا الصرف؛ لتنكيره، حيث لم يرد به معيّن، وحقّ ما مُنع من الصرف للعلميّة مع علّة أخرى إذا نُكر صُرف، كما قال ابن مالك رحمه الله في "خلاصته":

.... وَاصْرِفَنْ مَا نُكِّرَا

مِنْ كُلِّ مَا التَّعْرِيفُ فِيهِ أُثَّرَا

(فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: أدخل الفاء في الخبر؛ لتضمّن المبتدأ معنى الشرط، وذلك أن "ثلاثٌ" مبتدأ، و"من كلّ شهر" صفته؛ أي ثلاثة أيام يصومها الرجل من كلّ شهر صيام الدهر كلّه. انتهى. (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ) قال ابن الأثير رحمه الله: الاحتساب في الأعمال الصالحة هو البِدار إلى طلب الأجر، وتحصيله باستعمال أنواع البرّ، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها؛ طلباً للثواب المرجوّ فيها.

قال الطيبيّ رحمه الله: كان الأصل أن يقال: أرجو من الله أن يكفّر، فوضع موضعه "أحتسب"، وعدّاه بـ "على" التي هي للوجوب على سبيل الوعد؛ مبالغة في حصول الثواب. انتهى

(2)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 474.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1608.

ص: 508

(أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ) قال النوويّ رحمه الله: معناه يكفر ذنوب صائمه في السنتين، قالوا: والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء، وذكرنا هناك أنه إن لم تكن صغائر يُرْجَى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رفعت درجات. انتهى

(1)

.

وقال المظهر رحمه الله: قيل: في تكفير ذنوب السنة التي بعدها هو أنه تعالى يحفظه من أن يُذنب فيها، وقيل: يُعطى من الرحمة والثواب ما يكون كفّارة للسنة الثانية إن اتَّفَقَ فيها ذنب. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: وقد يُسْتَشْكَل معنى مغفرة ما تأخر من الذنوب، وقد قال السرخسي من أصحابنا الشافعية: اختَلَف العلماء في معنى تكفير السنة المستقبلة فقال بعضهم: إذا ارتكب فيها معصية جعل الله تعالى صوم عرفة الماضي كفارة لها، كما جعله مكفِّراً لما قبله في السنة الماضية، وقال بعضهم: معناه أن الله تعالى يَعْصِمه في السنة المستقبلة عن ارتكاب ما يحوجه إلى كفارة، وأطلق الماورديّ في "الحاوي" في السنتين معاً تأويلين: أحدهما أن الله تعالى يغفر له ذنوب سنتين.

والثاني: أنه يعصمه في هاتين السنتين، فلا يعصي فيهما، وقال صاحب "العدّة" في تكفير السنة الأخرى: يَحْتَمِل معنيين:

أحدهما: المراد السنة التي قبل هذه، فيكون معناه أنه يكفر سنتين ماضيتين.

والثاني: أنه أراد سنة ماضية وسنة مستقبلة، قال: وهذا لا يوجد مثله في شيء من العبادات أنه يكفر الزمان المستقبل، وإنما ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بنص القرآن العزيز، ذكر ذلك كله النوويّ في "شرح المهذب". انتهى

(3)

.

(وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ، أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتى قَبْلَهُ")، والله

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 51.

(2)

راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1658.

(3)

راجع: "طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 156.

ص: 509

تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 2746 و 2747 و 2748 و 2749 و 2750](1162)، و (أبو داود) في "الصوم"(2425)، و (النسائيّ) في "الصيام"(4/ 209) وفي "الكبرى"(2/ 127)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1713)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 78)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 296 و 297 و 310 و 311)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2111)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3639 و 3642)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 221)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 201)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 291)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 300)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1789 و 1790)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، وذلك كصيام الدهر ثواباً.

2 -

(ومنها): بيان مشروعيّة الغضب للإمام أو المفتي إذا أساء السائل وجه السؤال، وعلى هذا بوّب الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب العلم" من "صحيحه"، فقال:"باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يَكْرَهُ".

3 -

(ومنها): ما قال ابن حبان رحمه الله في "صحيحه": لم يكن غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة هذا السائل عن كيفية الصوم، وإنما كان غضبه؛ لأن السائل سأله قال: يا نبيّ الله كيف تصوم؟ قال: فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم استخباره عن كيفية صومه مخافة أن لو أخبره يَعْجِز عن إتيان مثله، أو خَشِي صلى الله عليه وسلم على السائل وأمته جميعاً أن يُفْرَض عليهم ذلك، فيعجزوا عنه. انتهى

(1)

.

(1)

"صحيح ابن حبّان" 8/ 401 - 402.

ص: 510

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه عمر من تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشدّة خوفه من أن يغضب، فيغضب الله عز وجل لغضبه.

5 -

(ومنها): بيان النهي عن صوم الدهر.

6 -

(ومنها): بيان فضل صوم عرفة، وأنه يكفّر السنة الماضية، والآتية، وهذا لغير الحاجّ، وأما الحاجّ فيكره له صومه؛ لما أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ وغيرهم بسند صحيح، عن عقبة بن عامر مرفوعاً:"إن يومَ عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب".

7 -

(ومنها): بيان فضل صوم عاشوراء، وأنه يكفّر السنة الماضية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2747]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزمَّانِيَّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ، فَقَالَ:"لَا صَامَ، وَلَا أَفْطَرَ"، أَوْ:"مَا صَامَ، وَمَا أَفْطَرَ"، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ، وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، قَالَ:"وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ " قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ، وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ، قَالَ:"لَيْتَ أَنَّ اللهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ"، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ، وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، قَالَ:"ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ"، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ الِاثْنَيْنِ، قَالَ:"ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ"، قَالَ: فَقَال: "صَوْمُ ثَلَاثَةٍ

(1)

مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ"، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ"، قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ".

(1)

وفي نسخة: "صوم ثلاثة أيام".

ص: 511

وَفي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ

(1)

قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَسَكَتْنَا عَنْ ذِكْرِ الْخَمِيسِ؛ لَمَّا نُرَاهُ وَهْماً).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) تقدّم قبل باب.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفرٍ) تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ) السائل عمر رضي الله عنه، كما بُيّن في الرواية السابقة.

وقوله: (فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ) السائل أيضاً عمر رضي الله عنه، وكذا في الأسئلة التالية.

وقوله: (وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ) قال صاحب "المعلم": لا أعرف السائل، وكذلك السائل عن صوم عرفة، وعاشوراء لا أعرفهما. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عُرف السائل - بحمد الله - فيما أخرجه البيهقيّ في "الكبرى" من طريق أبان العطّار، عن غيلان، فقد بيّن في كلّ المواضع أنه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فتنبّه.

وقوله: (ذَاكَ يَوْمٌ وُلدْتُ فِيهِ

إلخ) قال الطيبيّ رحمه الله: أي فيه وجود نبيّكم صلى الله عليه وسلم، وفيه نزول كتابكم، وثبوت نبوّته، فأي يوم أفضل، وأولى للصيام فيه؟، فاقتصر على العلة؛ أي سلوا عن فضيلته؛ لأنه لا مقال في صيامه، فهو من الأسلوب الحكيم. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَيَوْمٌ بُعِثْتُ) أي فيه.

وقوله: (أَوْ أُنْزِلَ عَلَئَ فِيهِ)"أو" للشكّ من الراوي، هل قال:"بعثتُ"، أو قال:"أنزل عليّ فيه".

(1)

وفي نسخة: "في رواية شعبة".

(2)

"تنبيه المعلم"(ص 209).

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1608 - 1609.

ص: 512

وقوله: (صَوْمُ ثَلَاثَةٍ

(1)

مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) وفي نسخة: "صوم ثلاثة أيام

إلخ" وقوله: (وَسُئِلَ عَن صَوْم يَوْمِ عَرَفَةَ) السائل هنا وفيما بعده هو عمر رضي الله عنه، كما بيّنته رواية يزيد العطّار الآتية في رواية البيهقيّ، فتنبّه.

وقوله: (وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ) وفي نسخة: "في رواية شعبة" بـ "في".

وقوله: (فَسَكَتْنَا عَن ذِكْرِ الْخَمِيسِ؛ لَمَّا نُرَاهُ وَهْماً) قال النوويّ رحمه الله: ضَبَطُوا "نُرَاهُ" بفتح النون، وضمّها وهما صحيحان، قال القاضي عياض رحمه الله: إنما تركه، وسكت عنه؛ لقوله:"فيه وُلدتُ، وفيه بُعِثت، أو أنزل عليّ"، وهذا إنما هو في يوم الاثنين، كما جاء في الروايات الباقيات يوم الاثنين دون ذكر الخميس، فلما كان في رواية شعبة ذكر الخميس تركه مسلم؛ لأنه رآه وَهَماً.

قال القاضي: وَيحْتَمِل صحة رواية شعبة، ويرجع الوصف بالولادة والإنزال إلى الاثنين دون الخميس، قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي متعين، والله أعلم. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية شعبة التي فيها ذكر الخميس ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(2/ 229) فقال:

(2949)

- حدّثنا الصاغانيّ، حدّثنا رَوْح بن عُبادة، حدّثنا شعبة، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدِّث عن عبد الله بن مَعْبد الزِّمّانيّ، عن أبي قتادة - قلت: الأنصاريّ؟، قال: الأنصاريّ - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه، فغضب، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رضينا بالله ربّا، وبالإسلام ديناً، قال شعبة وأحسبه قال: وبمحمد رسولاً، قال: فسئل عمن صام الدهر، فقال:"لا صام ولا أفطر"، أو:"ما صام وما أفطر"، قال: وسئل عن صوم يومين، وإفطار يوم، قال:"ومن يُطِيق ذلك؟ "، قال: وسئل عن صوم يوم، وإفطار يوم، قال:"ذاك صوم أخي داود" قال: وسئل عن صوم يوم الاثنين والخميس، قال:"ذاك يوم وُلدت فيه، ويوم بعثت فيه، وبوم أنزل عليّ فيه"، ثم قال:

(1)

وفي نسخة: "صوم ثلاثة أيام".

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 51 - 52.

ص: 513

"صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر"، وسئل عن صوم يوم عرفة، فقال:"يكفّر السنة الماضية والباقية"، وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال:"يكفّر السنة الماضية". انتهى.

[تنبيه آخر]: هذا مما وفى به المصنّف رحمه الله ما وعد به في أول الكتاب من بيانه العلل، حيث قال:"وسنزيد - إن شاء الله تعالى - شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعلّلة إذا أتينا عليها إلى آخر كلامه"، فقد بيّن هنا أنه ما وقع لشعبة في روايته لهذا الحديث من الغلط، وأنه أعرض عن ذكره في الكتاب؛ لكونه وَهَماَ، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2748]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ)

(1)

.

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

4 -

(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، خراسانيّ الأصل، يقال: اسمع مروان، مولى بني فَزَارة، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.

6 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله (82) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

و"شُعبة" ذُكر قبله.

(1)

وفي نسخة: "في هذا الإسناد".

ص: 514

[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ، وشبابة، والنضر ثلاثتهم عن شعبة لم أجد من ساقها، فلينظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2749]

(

) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الِاثْنَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُر الْخَمِيسَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السَّرَخسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

2 -

(حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ) - بفتح الحاء المهملة - أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.

3 -

(أَبَانُ الْعَطَّارُ) هو: ابن يزيد، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

و"غيلان بن جرير" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبان العطّار، عن غيلان هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى" (4/ 300) فقال:

(8259)

- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنبأ عليّ بن عبد العزيز، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا أبان بن يزيد، ثنا غيلان بن جرير الْمِعْوَليّ، عن عبد الله بن مَعْبَد الزِّمَّانيّ، عن أبي قتادة، أن أعرابيًّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا نبي الله كيف صومك؟ أو كيف تصوم؟ قال: فسكت عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يَرُدّ عليه شيئاً، فلما أن سكن عنه الغضب، سأله عمر بن الخطاب، فقال له: يا نبي الله كيف صومك؟ أو كيف تصوم؟ أرأيت من صام الدهر كله؟ قال: "لا صام ولا أفطر"، أو قال:"ما صام وما أفطر"، قال: يا رسول الله أرأيت من صام يومين، وأفطر يوماً؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ومن يطيق ذلك

ص: 515

يا عمر؟ لوَدِدتُ أني فعلت ذلك"، قال: يا رسول الله أرأيت من صام يوماً، وأفطر يوماً؟ قال: "ذاك صوم داود"، فقال: يا نبي الله أرأيت من صام يوم عرفة؟ قال: "يكفر السنة، والسنة التي قبلها"، قال: أرأيت من صام ثلاثاً من الشهر؟ قال: "ذاك صوم الدهر"، قال: أرأيت من صام يوم عاشوراء؟ قال: "يكفر السنة"، قال: يا رسول الله أرأيت من صام يوم الاثنين؟ قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزلت عليّ فيه النبوة". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2750]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ غَيْلَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأنصَارِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: "فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) تقدّم أيضاً في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(39) - (بَابُ صَوْمِ سُرَرِ شَعْبَانَ)

قال النوويّ رحمه الله: ضَبَطُوا "سِرَر" بفتح السين وكسرها، وحكى القاضي ضمها، قال: وهو جمع سُرّة، ويقال أيضًا: سَرَارٌ، وسِرَار بفتح السين وكسرها، وكله من الاستسرار، قال الأوزاعيّ، وأبو عبيد، وجمهور العلماء من أهل اللغة، والحديثِ، والغريبِ: المراد بالسَّرَر آخر الشهر، سُمِّيت بذلك؛ لاستسرار القمر فيها، قال القاضي: قال أبو عبيد، وأهل اللغة: السَّرَر آخر الشهر، قال: وأنكر بعضهم هذا، وقال: المراد وسط الشهر، قال: وسِرَارُ كل

ص: 516

شيء وسطه، قال هذا القائل: لم يأت في صيام آخر الشهر ندبٌ، فلا يُحْمَل الحديث عليه، بخلاف وسطه، فإنها أيام البيض.

وروى أبو داود، عن الأوزاعيّ: سَرَرُهُ أوله، ونقل الخطابيّ عن الأوزاعيّ: سرره آخره، قال البيهقيّ في "السنن الكبرى" بعد أن روى الروايتين عن الأوزاعيّ: الصحيح آخره، ولم يَعْرِف الأزهريّ أن سرره أوله، قال الهرويّ: والذي يعرفه الناس أن سرره آخره، وَيعْضُد من فسره بوسطه الرواية السابقة في الباب قبله:"سُرّة هذا الشهر"، وسرارة الوادي وسطه وخياره.

وقال ابن السّكّيت: سَرار الأرض أكرمها، ووسطها، وسَرار كل شيء وسطه، وأفضله، فقد يكون سَرار الشهر من هذا.

قال القاضي: والأشهر أن المراد آخر الشهر، كما قاله أبو عبيد والأكثرون، وعلى هذا يقال: هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن تقديم رمضان بصوم يوم ويومين.

ويجاب عنه بما أجاب المازريّ وغيره، وهو أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر، أو نَذَره فتركه بخوفه من الدخول في النهي عن تقدّم رمضان، فَبَيَّن له النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وإنما نَنْهَى عن غير المعتاد، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2751]

(1161) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ - وَلَمْ أفهَمْ مُطَزَفاً مِنْ هَدَّابٍ - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ، أَوْ لِآخَرَ: "أَصُمْتَ مِنْ سِرَرِ شَعْبَانَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) ويقال له: هُدْبة القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، من صغار [9] مات سنة بضع و (230)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 53 - 54.

ص: 517

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ أثبت الناس في ثابت، تغيّر بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120)(ع) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

والباقيان تقدّما في الباب الماضي، و"مُطَرِّفٌ" هو: ابن عبد الله بن الشِّخِّير.

وقوله: (وَلَمْ أَفْهَمْ مُطَرِّفاً مِنْ هَذَاب) هذا كلام المصنّف رحمه الله؛ يعني أنه لم يفهم من لفظ شيخه هدّاب بن خالد لفظ مطرّف، وإنما فهمه من غيره، وفيه أنه إذا خفي على الطالب بعض السند أو بعض كلمات المتن، فاستثبت من غيره جاز، وهذا الذي فعله المصنف فعله غيره من الحفّاظ، ففي "مسند أحمد": حدّثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم بالكوفة، فلم أكتبه، فسمعت شعبة يُحدّث به، فعرفته به، عن عاصم، عن عبد الله بن سَرْجِس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قال: "اللهم إني أعوذ بك من وَعْثاء السفر

" الحديث، وفي غير "المسند": عن يزيد، أنا عاصم، وثَبّتني فيه شعبة.

وقال أبو داود في "سننه" عقب حديث الحكم بن حَزْن: ثَبَّتني في شيء منه بعض أصحابنا، ذكره في "التدريب"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الباب الماضي، فراجعه تستفد.

[2752]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَن الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: "هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ شَيْئاً؟ " قَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

(1)

راجع: "تدريب الراوي" 2/ 110.

ص: 518

2 -

(يَزِيدُ بْن هَارُونَ) السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

3 -

(الْجُرَيْرِيُّ) سعيد بن إياس، تقدّم قبل بابين.

4 -

(أَبُو الْعَلَاءِ) يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ البصريّ، أخو مطرّف، ثقةٌ [2](ت 111) أو قبلها (ع) تقدم في "الحيض" 20/ 783.

والباقيان ذُكرا قبله.

والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2753]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ابْنِ أَخِي مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفاً يُحَدِّثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: "هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ هَذَا الشئَهْرِ شَيْئاً؟ " يَعْنِي شَعْبَانَ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: "إِذَا أَفْطَرْتَ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْماً، أَوْ يَوْمَيْنِ، شُعْبَةُ الَّذِي شَكَّ فِيهِ، قَالَ: وَأَظُنُّهُ قَالَ: "يَوْمَيْنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابن أخي مطرِّف بن الشِّخِّير) هو: عبد الله بن هانئ بن عبد الله بن الشِّخِّير العامريّ، أبو الحصين البصريّ، مقبول [6].

رَوَى عن عمة مُطَرِّف هذا الحديث، وروى عنه شعبة بن الحجاج، تفرّد به المصنّف بهذا الحديث فقط في المتابعات، وليس له عنده إلا هذا الحديث فقط.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

وقوله: (إِذَا أَفْطَرْتَ رَمَضَانَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، وهو صحيح؛ أي أفطرت من رمضان، كما في الرواية التي قبلها، وحُذِفت لفظة "من" في هذه الرواية، وهي مرادة، كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى

ص: 519

قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي من قومه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2754]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، وَيَحْيَى اللُّؤْلُؤِيُّ، قَالَا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ هَانِئِ ابْنِ أَخِي مُطَرِّفٍ، فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ) بن إسماعيل السّلَميّ، أبو عبد الله البخاريّ، نزيل مرو مقبول [11].

رَوَى عن النضر بن شُميل، وكان مستمليه، ويزيد بن هارون، وعمرو بن عُبيد الطنافسيّ، وأبي حذيفة، إسحاق بن بشير، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود في غير "السنن"، وعبد الله بن صالح البخاريّ، وعيسى بن محمد الكاتب، والقاسم بن محمد المروزيّ، وغيرهم.

ذكره ابن حبان في "الثقات".

وأخرج الخطيب في "المتفق" من طريق أبي العباس البخاريّ، عن محمد بن قُدامة بن إسماعيل صاحب النضر بن شميل، ثنا أبو حُذيفة البخاريّ، ثنا المأمون بحديث، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عباس رفعه:"مولى القوم منهم"، فبلغ المأمون أن أبا حذيفة حدّث عنه، فبعث إليه عشرة آلاف.

تفرد به المصنّف، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط برقم (1161) و (1427) و (2359) و (2915).

2 -

(يَحْيَى اللُّؤْلُؤِيُّ) هو: يحيى بن محمد بن معاوية، أبو زكريا اللؤلؤيّ المروزيّ، نزيل بخارَى، مقبول [11].

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 54.

ص: 520

رَوَى عن النضر بن شُميل، وعبدان بن عثمان.

وروى عنه مسلم، وعبيد الله بن واصل، وإسحاق بن خلف، ومحمد بن عبد الرحمن بن زرنك، وإسحاق بن أحمد النسفيّ البخاريون، وعمر بن محمد بن يحيى البجيريّ.

قال إسحاق بن أحمد: رأيت يحيى بن محمد اللؤلؤيّ دخل على محمد بن بكير، فقال: أين سمعت من النضر بن شُميل؛ قال: بمرو، وقال أبو حسان مهيب بن سليم: رأيت محمد بن إسماعيل كلما جاء في كتابه: حدّثنا يحيى، ثنا النضر بن شُميل، يقول: اضرب عليه، وكان يحيى يروي عن النضر أربعة آلاف حديث.

وقال محمد بن يوسف بن عاصم البخاريّ: توفي يوم الأربعاء في النصف من رجب سنة سبع وخمسين ومائتين.

تفرّد به المصنّف، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1161) و (2359).

3 -

(النَّضْرُ) بن شُمَيل، تقدّم في الباب الماضي.

والباقيان ذُكرا قبله، والحديث تقدّم الكلام عليه في الحديث الماضي.

[تنبيه]: رواية النضر، عن شعبة هذه لم أر من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(40) - (بَابُ فَضْلِ صَوْمِ الْمُحَرَّمِ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2755]

(1163) - (حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ").

ص: 521

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(أَبُو بِشْرٍ) بن أبي وحشيّة، جعفر بن إياس، تقدّم أيضاً قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ) البصريّ، ثقةٌ فقيه [3](ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 491.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

لطائف هذا الإسناد:

(منها): أنه من خماسيات المصنف رحمه الله تعالى. (ومنها): أن رجاله كلهم رجال الصحيح. (ومنها): أن فيه رواية تابعي عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه من المكثرين السبعة. والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: اعلم أن أبا هريرة رضي الله عنه يروي عنه اثنان، كلّ منهما حميد بن عبد الرحمن:(أحدهما): هذا الحميريّ.

(والثاني): حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، قال الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين": كلّ ما في "الصحيحين" حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، فهو الزهريّ، إلا في هذا الحديث خاصّة، وهذا الحديث لم يذكره البخاريّ في "صحيحه"، ولا ذِكرَ للحميريّ في البخاريّ أصلاً، ولا في مسلم إلا في هذا الحديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولا ذكر للحميريّ في البخاري أصلاً، ولا في مسلم

إلخ " إن أراد بقيد روايته عن أبي هريرة، فمسلّم، وإن أراد مطلقاً ففيه نظر؛ فقد أخرج له البخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، وابن ماجه حديثه عن أبي بكرة: "أي يوم هذا؟ وأيّ شهر هذا؟ وأيّ بلد هذا؟

" فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ص: 522

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ) أي بعد فضل صيام شهر رمضان (شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان أفضل - والله تعالى أعلم - من أجل أن المحرّم أول السنة المستأنفة التي لم يجئ بعدُ رمضانُها، فكان استفتاحها بالصوم الذي هو من أفضل الأعمال، والذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه ضياء، فإذا استفتح سَنَتَهُ بالضياء مشى فيه بقيتها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله بتغيير يسير

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: فيه تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النبيّ صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرَّم، وذكرنا فيه جوابين:

[أحدهما]: لعله إنما عَلِم صلى الله عليه وسلم فضله في آخر حياته.

[والثاني]: لعله صلى الله عليه وسلم كان يَعْرِض له فيه أعذار، من سفر، أو مرض، أو غيرهما. انتهى

(2)

.

وفيه تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم بعد رمضان.

أفمان قيل]: هذا يعارض ما صحّ من حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"لم أره - تعني النبيّ صلى الله عليه وسلم صائماً من شهر قطّ أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، يصوم شعبان إلا قليلاً".

[أجيب] عنه بجوابين:

(أحدهما): لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه.

(الثاني): لعله كان يعرض له فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر، ومرض، وغيرهما. أفاده النوويّ رحمه الله

(3)

.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله في "شرح الترمذيّ": الحكمة في تسمية المحزم شهر الله، والشهور كلها لله يَحْتَمِل أن يقال: إنه لما كان من الأشهر الحرم التي حرّم الله تعالى فيها القتال، وكان أول شهور السنة، أُضيف إليه إضافة تخصيص، ولم يصحّ إضافة شهر من الشهور إلى الله تعالى

(1)

"المفهم" 3/ 235.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 55.

(3)

"شرح مسلم" 8/ 55.

ص: 523

عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا شهر الله المحرّم. انتهى

(1)

.

(وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ") قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لِمَا اتَّفَق العلماء عليه، أن تطوّع الليل أفضل من تطوّع النهار، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزيّ من أصحابنا، ومن وافقه أن صلاة الليل أفضل من السنن الراتبة، وقال أكثر أصحابنا: الرواتب أفضل؛ لأنها تشبه الفرائض، والأول أقوى، وأوفق للحديث، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قوّاه النوويّ رحمه الله من أن صلاة الليل أفضل من السنن الرواتب، هو الصواب، فإن ما استند إليه الأكثرون تعليل في مقابلة النصّ، وهو غير مقبول، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:

إِذَا جَالَتْ خُيُولُ النَّصِّ يَوْمَاً

تُجَارِي فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ

غَدَتْ شُبَهُ الْقِيَاسِيِّينَ صَرْعَى

تَطِيرُ رُؤُوسُهُنَّ مَعَ الرِّيَاحِ

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رحمه الله من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: اختُلف في هذا الحديث، وقد بيّن ذلك الدارقطنيّ رحمه الله (9/ 89) ودونك نصّه:

(1656)

- وسئل عن حديث حُميد بن عبد الرحمن الْحِمْيَريّ البصريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان المحرَّم".

فقال: واختُلِف فيه على حُميد بن عبد الرحمن، فرواه عبد الملك بن عُمير، واختُلف عنه، فرواه زائدة بن قُدامة، وأبو حفص الأبّار، والثوريّ، وشيبان، وأبو حمزة، وأبو عوانة، وعبد الحكيم بن منصور، وعكرمة بن

(1)

انظر: "زهر الربى" 3/ 207.

ص: 524

إبراهيم، وجرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك، عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وخالفهم عبيد الله بن عمرو الرَّقّيّ، رواه عن عبد الملك بن عمير، عن جندب بن سفيان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووهم فيه والذي قبله أصحّ عن عبد الملك، ورواه أبو بشر جعفر بن إياس، عن حميد الحميريّ، واختُلِف عنه، فأسنده أبو عوانة، عن أبي بشر، عن حميد الحميريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وخالفه شعبة، فرواه عن أبي بشر، عن حميد بن عبد الرحمن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ورفعه صحيح. انتهى كلام الدراقطنيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحديث صحيح مرفوعاً متّصلاً، ومراد الدارقطنيّ رحمه الله بيان ما وقع فيه من الاختلاف، لا تضعيف الحديث، كما يرشد إليه قوله:"ورفعه صحيح"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 2755 و 2756 و 2757](1163)، و (أبو داود) في "الصوم"(2429)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(438 و 740)، و (النسائيّ) في "كتاب قيام الليل"(3/ 206) وفي "الكبرى"(1، 414 و 2/ 171 - 172)، و (ابن ماجه) في "الصيام"(1742)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 303 و 329 و 342 و 535)، و (الدارميّ) في "سننه"(1484 و 1764 و 1765)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1423)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 281)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3636)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" 2/ 101)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 232)، و (أبو نعيم) في "مسنده"(3/ 242 - 243)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 290 - 291)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل صوم شهر الله المحرّم، وأنه أفضل الصيام مطلقاً بعد صوم رمضان.

2 -

(ومنها): بيان فضل صلاة الليل.

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" للدارقطنيّ رحمه الله 9/ 89.

ص: 525

3 -

(ومنها): أن صلاة الليل أفضل من النوافل مطلقاً، حتى على السنن الرواتب، وفيه كما أسلفناه آنفاً، إلا أن هذا هو الأرجح، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2756]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ محَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ، قَالَ: سُئِلَ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتوبَةِ الصَّلاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) الفَرَسيّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه، وربما دلّس [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

4 -

(مُحَمَّدُ بْن الْمُنْتَشِرِ) بن الأجدع الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الجمعة" 19/ 2028.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (يَرْفَعُهُ) أي: يرفع أبو هريرة رضي الله عنه الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2757]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْن عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فِي ذِكْرِ الصِّيَامِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

ص: 526

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) الْجُعْفيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مقرئ [9](ت 3 أو 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.

3 -

(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

و"عبد الملك بن عُمير" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية زائدة، عن عبد الملك هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (2/ 350) فقال:

(9226)

- حدّثنا حُسَيْنُ بن عَلِيٍّ، عن زَائِدَةَ، عن عبد الْمَلِكِ بن عمير، عن مُحَمَّدِ بن الْمُنْتَشِرِ، عن حُمَيْدِ بن عبد الرحمن الْحِمْيَرِيِّ، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: جاء رَجُلٌ إلَى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ؟ فقال:"شَهْرُ اللهِ الذي يَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، واليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(41) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّام مِنْ شَوَّالٍ إِتْبَاعاً لِرَمَضَانَ)

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2758]

(1164) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعاً عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْس، عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأنصَارِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أتبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغدادي، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

ص: 527

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

3 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيل بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسِ) بن عمرو الأنصاريّ، أخو يحيى بن سعيد، صدوقٌ سيئ الحفظ [4](141)(خت م 4) تقدم في "صلاة المسافرين" 26/ 1775.

6 -

(عُمَرُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِيُّ) هو: عُمَر بن ثابت بن الحارث، ويقال: ابن الحجاج الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، ثقةٌ [3].

رَوَى عن أبي أيوب الأنصاريّ حديث صوم ستة شوال، وعن محمد بن المنكدر، عن أبي أيوب، وعن بعض الصحابة في الدجال، وعن عائشة.

وروى عنه سعد وعبد ربه ويحيى أولاد سعيد الأنصاريّ، والزهريّ، وصفوان بن سُليم، وصالح بن كيسان، ومالك، ومحمد بن عمرو، وغيرهم.

قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وقال ابن مندهْ: يقال: إنه ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال السمعانيّ: هو من ثقات التابعين.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط برقم (1164) و (2931)

(1)

.

7 -

(أَبُوأَيُّوبَ الْأنصَارِيُّ) هو: خالد بن زيد بن كُليب، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِدَ بدراً، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، ومات غازياً بالروم سنة (50)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

(1)

وكذا له عند الأربعة هذان الحديثان في صوم ستّ من شوّال، وفي خبر الدجّال، وليس له عندهم غيرهما، كما نبّه عليه في "التهذيب".

ص: 528

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فضل؛ لما أسلفناه غير مرّة.

2 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه، كما أسلفته آنفاً.

3 -

(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

4 -

(ومنها): أن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، كما مرّ آنفاً في ترجمته.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأنصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ) بقطع الهمزة: أي جعل عقبه في الصيام (سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ) وفي رواية الترمذيّ: "بستّ من شوّال"، قال النوويّ رحمه الله: هذا صحيح، ولو كان ستة بالهاء جاز أيضًا، قال أهل اللغة: يقال: صُمنا خمساً وستًّا، وخمسة وستةً، وإنما يلتزمون إثبات الهاء في المذكّر إذا ذَكَروه بلفظه صريحاً، فيقولون: صمنا ستة أيام، ولا يجوز ست أيام، فإذا حذفوا الأيام جاز الوجهان.

ومما جاء حذف الهاء فيه من المذكَّر إذا لم يُذكَر بلفظه قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أي: عشرة أيام. انتهى

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: وإنما أنّث "ستًّا"، وكان حقها أن تذكّر من حيث إن الصوم إنما يُوقَع في الأيام، واليوم مذكر؛ لأنه غلَّب على الأيام الليالي، كما تفعله العرب؛ لأن أول الشهر لَيْلُهُ، وكذلك الصوم: إنما يعزم عليه غالباً بالليل، وفيه حجة للمالكية في اشتراط تبييت النيّة في صوم النفل، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ") أي لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين.

قال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعيّ، وأحمد، وداود،

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 56 - 57.

(2)

"المفهم" 3/ 239.

ص: 529

وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة، وقال مالك، وأبو حنيفة: يكره ذلك، قال مالك في "الموطأ": ما رأيت أحدًا من أهل العلم يصومها، قالوا: فيكره؛ لئلا يُظَنّ وجوبه، ودليل الشافعيّ، وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت السنة، لا تترك لترك بعض الناس، أو أكثرهم، أو كلهم لها، وقولُهُم: قد يُظَنّ وجوبها يَنتَقِض بصوم عرفة وعاشوراء، وغيرهما من الصوم المندوب.

قال أصحابنا: والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرّقها، أوأخّرها عن أوائل شوال إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة؛ لأنه يَصْدُق أنه أتبعه ستًّا من شوال، قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضانُ بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء هذا في حديث مرفوع في "كتاب النسائي". انتهى

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله بعد ذكر اختلاف الروايات - ما نصّه:

[فإن قيل]: فيلزم على هذا مساواة الفرضِ النفلَ في تضعيف الثواب، وهو خلاف المعلوم من الشرع؛ إذ قد تقرر فيه: أن أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله تعالى ما افترض عليهم.

وبيان ذلك: أنه قد تقدم: أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدَّهر؛ أي: السَّنة، وهذه الثلاثة تطوّع بالاتفاق، فقد لزم مساواة الفرض للنفل في الثواب.

والجواب: على تسليم ما ذُكِر -من أن ثواب الفرض أكثر- أن نقول: إن صيام ثلاثة أيام من كل شهر إنما صار بمنزلة صيام سنة بالتضعيف؛ لأن المباشَرَ من أيامها بالصوم ثلاثة أعشارها، ثم لما جُعِل كل يوم بمنزلة عشر كملت السنة بالتضعيف، وأما صوم رمضان مع الستة: فيصح أن يقال فيه: إنه بمنزلة سنة بوشرت بالصوم أيامها، ثم ضوعفت كل يوم من أيام السَّنة بعشر، فتضاعف العدد، فصارت هذه السنة بمنزلة ثنتي عشرة سنة بالتضعيف، وذلك أن السنة ثلاثمائة وستون يوماً، فإذا ضَرَبتَ ثلاثمائة وستين في عشرة صارت ثلاثة آلاف وستمائة.

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 56.

ص: 530

وإنما صرنا إلى هذا التأويل؛ للحديث الصحيح المتقدم في تفضيل الفرض على غيره، ولما عُلِم من الشرع: أن أجر الثواب على العمل على القُرَب محدود بعشر، وأما أكثره فليس بمحدود؛ لقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، بعد ذكر مراتب التضعيف المذكورة في الآية؛ التي هي: عشر، وسبعون، وسبعمائة، والمضاعفة المطلقة، وكذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما:"الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة"

(1)

، والله تعالى أعلم.

انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفرافى المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 2758 و 2759 و 2760](1164)، و (أبو داود) في (الصوم" (2433)، و (الترمذيّ) في "الصوم) (759)، و (النسائيّ) في "الكبرى" (2/ 163)، و (ابن ماجه) في "الصيام" (1716)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه" (7918)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (3/ 97)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (594)، و (الحميديّ) في "مسنده" (381 و 382)، و (أحمد) في (مسنده"(5/ 417 و 419)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 21)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 297)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3634)، و (أبو عوانة)(2/ 168)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 244)، و (الطبرانيّ) في "الكبير" 4/ 135)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 118 - 119)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 292) و (الصغرى" (3/ 411) و"المعرفة"(3/ 449 و 450)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1780)، والله تعالى أعلم.

(1)

متّفقٌ عليه، ولكن لم يسقه بلفظه، فليُتنبّه.

(2)

"المفهم" 3/ 236 - 237.

ص: 531

(المسألة الثالثة): في كلام بعضهم في حديث الباب:

(اعلم): أنهم تكلّموا في هذا الحديث بسبب سعد بن سعيد، فقالوا: ضعّفه أحمد، وكذا ابن معين في رواية، وفي رواية أخرى قال: صالح، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال الترمذيّ: تكلّموا فيه من قبل حفظه.

وقال القرطبي في "المفهم": وحديث أبي أيوب، وإن كان قد خرَّجه مسلم ليس بصحيح، وهو من جملة الأحاديث الضعيفة الواقعة في كتابه؛ وذلك لأن في إسناده: سعد بن سعيد بن قيس؛ قال فيه النسائي: ليس بالقوي، وغيره يضعفه، كما ذكره الترمذفي، وقد انفرد به عن عُمر بن ثابت، قال أبو عمر بن عبد البر: أظن أن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عند مالك ممن يعتمد عليه. انتهى

(1)

.

والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:

(الأول): أن سعد بن سعيد وإن تكلّم فيه هؤلاء، فقد قوّاه غيرهم، قال ابن سعد: كان ثقةٌ قليل الحديث، وقال العجليّ، وابن عمّار: ثقةٌ، وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة تقرُب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأساً بمقدار ما يروده، ذكره في "التهذيب"

(2)

.

وقال العلامة ابن الملقّن رحمه الله: أما الطعن فيه من جهة سعد بن سعيد راويه فليس بجيد، فإنه وإن تُكُلِّم فيه، فقد أخرج له مسلم في "صحيحه" محتجًّا به، ووثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في "ثقاته"، ووَهِمَ ابن الجوزيّ في "تحقيقه" حيث نَقَل عن ابن حبان توهينه، وأنه لا يَحِلّ الاحتجاج به، فقد ذكر في "ثقاته"، وقال: كان يخطئ لم يَفْحُش خطؤه، فلذلك سلكناه مسلك العدول، واحتَجَّ به في "صحيحه"، نعم ذكر ابن حبان ذلك في سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، وقد وقع له هذا الوهم في "الضعفاء" أيضًا، لكنه ذكر كلامه فيه وفي المقبريّ. انتهى

(3)

.

(الوجه الثاني): أنه لم يتفرّد به سعد بن سعيد، بل تابعه صفوان بن

(1)

"المفهم" 238 - 239.

(2)

راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 692.

(3)

"البدر المنير" 3/ 267.

ص: 532

سُليم، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد، وعبد ربّه بن سعيد، وهما أخواه، فقد أخرجه الطحاويّ في "مشكل الآثار" من طريق صفوان بن سُليم، وزيد بن أسلم، ويحعص بن سعيد الأنصاريّ، وعبد ربّه بن سعيد الأنصاريّ أربعتهم، عن عُمَر بن ثابت، عن أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذا أن دعوى تفرّد سعد بن سعيد به باطلة، فقد تابعه من الثقات صفوان بن سُليم، وزيد بن أسلم، وأخواه يحيى، وعبد ربه ابنا سعيد، كلهم عن عُمَر بن ثابت به.

(الوجه الثالث): أن للحديث شواهد:

(فمنها): حديث ثوبان رضي الله عنه، فقد أخرجه ابن ماجه في "سننه"، فقال:

(1705)

- حدّثنا هشام بن عمار، حدثنا بقية، حدّثنا صدقة بن خالد، حدّثنا يحيى بن الحارث الذِّمَاريّ، قال: سمعت أبا أسماء الرَّحَبِيّ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام ستة أيام بعد الفطر، كان تمام السنة، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وهذا إسناد صحيح، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، (ومنها):

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البزّار، قال الحافظ الهيثميّ في "المجمع": رواه البزّار، وله طُرُقٌ، ورجال بعضها رجال الصحيح

(1)

، ورواه أبو نعيم، والطبرانيّ.

(ومنها): حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والبزّار، وفي إسناده عمر بن جابر، وهو ضعيف.

قال الجامع عفا افه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن حديث الباب صحيح، لا كلام فيه؛ لأن سعد بن سعيد راويه عن عمر بن ثابت، وإن تكلّم فيه بعضهم، فقد قوّاه آخرون، كما أسفلناه آنفاً، وأيضاً إنه لم ينفرد به، بل تابعه جمع من الثقات، كما أسلفناه أيضًا، وأيضاً إن له شواهد، وهي الأحاديث المذكورة، ولا سيّما حديث ثوبان، فإنه صحيح.

والحاصل أن الحديث صحيح بلا شكّ، ولذا أخرجه الإمام مسلم رحمه الله

(1)

"مجمع الزوائد" 3/ 183.

ص: 533

هنا في "صحيحه"، محتجًّا به، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم صوم ستّ من شوّال:

(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك، قال الإمام الترمذيّ رحمه الله: وقد استَحَبّ قوم صيام ستة أيام من شوال بهذا الحديث، قال ابن المبارك: هو حسنٌ، هو مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، قال ابن المبارك: ويروى في بعض الحديث، ويُلْحَق هذا الصيام برمضان، واختار ابن المبارك أن تكون ستة أيام في أول الشهر، وقد رُوي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقاً فهو جائز. انتهى

(1)

.

وقال ابن رشد رحمه الله: وأما الست من شوال، فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر"، إلا أن مالكاً كَرِه ذلك، إما مخافة أن يُلْحِق الناسُ برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث، أو لم يصح عنده، وهو الأظهر. انتهى

(2)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: وقد استُدِلّ بأحاديث الباب على استحباب صوم ستة أيام من شوال، وإليه ذهب الشافعيّ، وأحمد، وداود، وغيرهم، وقال أبو حنيفة، ومالك: يكره صومها، واستدلا على ذلك بأنه ربما ظُنّ وجوبها، وهو باطل، لا يليق بعاقل، فضلًا عن عالم نَصْبُ مثله في مقابلة السنة المحيحة الصريحة، وأيضاً يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغَّب فيها، ولا قائل به.

قال: واستَدَلّ مالك على الكراهة بما قال في "الموطأ" من أنه ما رأى أحداً من أهل العلم يصومها، ولا يخفى أن الناس إذا تَرَكُوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلاً تُرَدّ به السنة. انتهى كلام الشوكانيّ رحمه الله

(3)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

(1)

"جامع الترمذيّ" 3/ 227.

(2)

"بداية المجتهد" 1/ 225.

(3)

"نيل الأوطار" 4/ 322.

ص: 534

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وذَكَر مالك في صيام ستة أيام بعد الفطر أنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يُلْحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصةً عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك.

قال أبو عمر: في هذا المعنى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث انفرد به عُمَر بن ثابت، عن أبي أيوب الأنصاريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال، فكأنه صام الدهر".

قال أبو عمر: انفرد بهذا الحديث عمر بن ثابت الأنصاريّ، وهو من ثقات أهل المدينة.

قال أبو حاتم الرازيّ: عمر بن ثابت الأنصاريّ سمع أبا أيوب الأنصاريّ، روى عنه الزهريّ، وصفوان بن سليم، وصالح بن كيسان، ومالك بن أنس، وسعد، وعبد ربه ابنا سعيد.

قال أبو عمر: وحديث ثوبان يَعْضُد حديثَ عُمر بن ثابت هذا، ثم ساق حديث ثوبان بسنده.

قال أبو عمر: لم يبلغ مالكاً حديث أبي أيوب، على أنه حديث مدنيّ، والإحاطة بعلم الخاصّة لا سبيل إليه، والذي كَرِهه له مالك أَمْرٌ قد بَيَّنه، وأوضحه، وذلك خشية أن يُضاف إلى فرض رمضان، وأن يستبين ذلك إلى العامة، وكان رحمه الله متحفظاً كثير الاحتياط للدين.

وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل، وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان رضي الله عنه، فإن مالكاً لا يكره ذلك - إن شاء الله - لأن الصوم جُنّةٌ، وفضله معلوم من ردّ طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، وهو عمل بِرّ وخير، وقد قال الله:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، ومالك لا يَجهل شيئاً من هذا، ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك، وخَشِي أن يَعُدُّوه من فرائض الصيام مضافًا إلى رمضان، وما أظنّ مالكاً جَهِل الحديث - والله أعلم - لأنه حديث مدنيّ انفرد به عُمر بن ثابت، وقد قيل: إنه روى عنه مالك، ولولا علمه به ما أنكره، وأظنّ الشيخ عمر بن ثابت لم يكن

ص: 535

عنده ممن يُعتَمَد عليه، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عن بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه ببعض ما رواه، وقد يمكن أن يكون جَهِل الحديث، ولو علمه لقال به، والله أعلم. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله-تحقيق نفيسٌ جدًّا.

والحاصل أن الحقّ والصواب ما قاله كثير من أهل العلم من استحباب صوم ستة أيام من شوّال؛ لصحّة الأحاديث بذلك، وأما من كره منهم ذلك، كمالك، فيُعتذر عنه بأنه لم تصحّ هذه الأحاديث عنده، فخالفها، فلو صحّت لقال بها، كما قال ابن عبد البرّ رحمه الله في بحثه المذكور، فتبصّر بالإنصاف، وإياك وسلوك طريق الاعتساف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2759]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخُو يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، تقدّم قريباً.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضاً قريباً.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير، عن سعد بن سعيد هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(1706)

- حدّثنا عليّ بن محمد، حدّثنا عبد الله بن نمير، عن سعد بن

(1)

"الاستذكار" 3/ 379 - 380.

ص: 536

سعيد، عن عُمر بن ثابت، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال، كان كصوم الدهر". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2760]

(

) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) بن واضح الْحَنظليّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزيّ، ثقةٌ ثبث فقيهٌ، عالمٌ، جوادٌ مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181) عن (63) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية ابن المبارك، عن سعد بن سعيد هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه" (2/ 342) فقال:

(9723)

- حدّثنا أبو بكر

(1)

، قال: حدّثنا عبد اللهِ بن الْمُبَارَكِ، عن سَعْدِ بن سَعِيدٍ، قال: سمعت عُمَرَ بن ثَابِتٍ، قال: سمعت أَبَا أيوب الأنصاريّ يقول: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "من صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتَّةٍ من شَوَّالٍ، فَقَدْ صَامَ الدَّهْرَ، أو فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ". انتهى.

[تنبيه آخر]: يوجد في النسخة التي شرح عليها الأبيّ زيادة، وهي: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثنَا مُحَاضِرٌ

(2)

، ثنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ بِمِثْلِهِ.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي في صحّة هذا السند نظرٌ؛ لأن الظاهر أن

(1)

هو ابن أبي شيبة، وقائل "حدّثنا" هو الراوي عنه، فتنبّه.

(2)

هو ابن المورِّع، تقدّمت ترجمته في "صلاة المسافرين وقصرها" 26/ 1775.

ص: 537

محمد بن يحيى هو الذهليّ، ومسلم لا يروي عنه؛ للقصّة المشهورة التي جرت بينهما بسبب البخاريّ، وقد صرّح في "التهذيبين" بأنه لم يرو عنه مسلم، ومما يؤئد ذلك أن البيهقيّ أخرج الحديث من طريق محاضر، ثم ذكر أسانيد مسلم التي أخرج الحديث بها عن سعد بن سعيد، فلم يذكر ممن روى عنه محاضراً، وهذا مما يورث التوقّف في صحّته هنا، ودونك ما قاله البيهقيّ رحمه الله في "سننه"(4/ 292).

(8214)

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا محمد بن إسحاق الصغانيّ، أنبأ محاضر بن الموَرِّع، ثنا سعد بن سعيد الأنصاريّ، قال: أخبرني عمرو بن ثابت الأنصاريّ، قال: سمعت أبا أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، فذاك صيام الدهر".

ثم قال البيهقيّ: أخرجه مسلم في "الصحيح" من حديث إسماعيل بن جعفر، وعبد الله بن نُمَير، وعبد الله بن المبارك، عن سعد بن سعيد، أخي يحيى بن سعيد. انتهى، فلم يذكر محاضراً، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(42) - (بَابُ فَضْل لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْحَثِّ عَلَى طَلَبِهَا، وَبَيَانِ مَحَلَّهَا، وَأَرْجَى أَوْقَاتِ طَلَبِهَا)

وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2761]

(1165) - (وَحَدَّثَنَا

(1)

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ

(1)

قوله: "وحدّثنا يحيى بن يحيى" وُجد في المتن البولاقيّ قبله هذه الزيادة: "وحدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا محاضر، حدّثنا سعيد بن سعيد مثله".

ص: 538

فِي الْمَنَام فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(أَرَى رُؤياكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرئاء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة الإمام الحجة الشهير، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

3 -

(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، مات سنة (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (171) من رباعيّات الكتاب.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.

4 -

(ومنها): أنه أصحّ الأسانيد على الإطلاق، كما نُقل عن البخاري رحمه الله.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى، وكان من أشدّ الناس اتّباعاً للأثر، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء (أُرُوا) بضمّ أوله على البناء للمفعول (لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ) أي قيل لهم في المنام: إنها في السبع الأواخر، وقال

ص: 539

القسطلانيّ رحمه الله: ظاهر الحديث أن رؤياهم كانت قبل دخول السبع الأواخر؛ لقوله: "فليتحرّها في السبع الأواخر" ثم يَحْتَمل أنهم رأوا ليلة القدر، وعَظَمتها، وأنوارها، ونزول الملائكة فيها، وأن ذلك كان في ليلة من السبع الأواخر، ويَحْتَمِل أن قائلاً قال لهم: هي في كذا، وعيّن لهم من السبع الأواخر، ونُسيت، أو قال: إن ليلة القدر في السبع، فهي ثلاث احتمالات. انتهى

(1)

.

وقوله: (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) جمع آخرة بكسر الخاء، قال في "الفتح": والظاهر أن المراد به أواخر الشهر، وقيل: المراد به السبع التي أولها ليلة الثاني والعشرين، وآخرها ليلة الثامن والعشرين، فعلى الأول لا تدخل ليلة إحدى وعشرين، ولا ثلاث وعشرين، وعلى الثاني تدخل الثانية فقط، ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين.

قال: وقد رواه البخاريّ في "التعبير" من طريق الزهريّ، عن سالم، عن أبيه: إن ناسأ أُرُوا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناساً أُروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"التمسوها في السبع الأواخر"، وكأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى المتفق عليه من الروايتين، فأَمَر به.

وقد رواه أحمد عن ابن عيينة، عن الزهريّ بلفظ: رَأَى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، أو كذا وكذا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها".

ورواه أحمد من حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعاً: "إن غُلِبتم فلا تُغْلَبوا في السبع البواقي".

ولمسلم عن جَبَلة بن سُحَيم، عن ابن عمر، بلفظ:"من كان يلتمسها فيلتمسها في العشر الأواخر".

وله أيضًا من طريق عقبة بن حريث، عن ابن عمر:"التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضَعُف أحدكم، أو عجز فلا يُغْلَبَنّ على السبع البواقي"، وهذا السياق يُرَجِّح الاحتمال الأول من تفسير السبع. انتهى

(2)

.

(1)

"مرعاة المفاتيح" 7/ 123.

(2)

"الفتح" 5/ 453 - 454.

ص: 540

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَى) بفتح الهمزة الظاهر أنه بمعنى أعلم، ويَحْتَمِل أنه من الرؤية البصرية مجازاً، قاله وليّ الدين رحمه الله

(1)

.

(رُؤْيَاكُمْ) أي في المنام، قال وليّ الدين رحمه الله: والمشهور اختصاص الرؤيا بالمنام، فلا تُستَعْمَل في غيره، وذكر بعضهم أنها تُستعمل مصدراً و"رَأَى" مطلقاً، ولو كانت في اليقظة، وهي هنا للمنام قطعاً. انتهى.

وقال في "الفتح": قوله: "رؤياكم" قال عياض: كذا جاء بإفراد الرؤيا، والمراد مرائيكم؛ لأنها لم تكن رؤيا واحدة، وإنما أراد الجنس، وقال ابن التين: كذا روي بتوحيد الرؤيا، وهو جائز؛ لأنها مصدر، قال: وأفصح منه رُؤَاكم: جمع رؤيا؛ ليكون جمعاً في مقابلة جمع. انتهى

(2)

.

(قَدْ تَوَاطَأَتْ) أي توافقت، والمواطأةُ: الموافقة، كأن كُلًّا منهما وَطِئ ما وَطِئه الآخر، ورُوي "تَوَاطَتْ" بترك الهمز، قاله وليّ الدين

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "قد تواطأت": أي توافقت، وهكذا هو في النسخ بطاء، ثم تاء، وهو مهموز، وكان ينبغي أن يكتب بألف بين الطاء والتاء صورة للهمزة، ولا بدّ من قراءته مهموزاً، قال الله تعالى:{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "تواطأت" بالهمزة: أي توافقت وزناً ومعنى، وقال ابن التين: رُوي بغير همز، والصواب بالهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطء صاحبه، وفي هذا الحديث دلالة على عِظَم قدر الرؤيا، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية. انتهى

(5)

.

(فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) أي عليها، وهو متعلّق بـ "تواطأت"، قال التوربشتيّ رحمه الله: السبع الأواخر يَحْتَمِل أن يراد بها السبع التي تلي آخر الشهر،

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 142.

(2)

"الفتح" 5/ 454.

(3)

"طرح التثريب" 4/ 149.

(4)

"شرح النوويّ" 8/ 58.

(5)

"الفتح" 5/ 454.

ص: 541

وأن يراد بها السبع بعد العشرين، وحمله على هذا أمثل؛ لتناوله إحدى وعشرين، وثلاثاً وعشرين. انتهى.

(فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا) أي طالباً لليلة القدر، وقاصدها، أو مريداً طلبها في أحرى الأوقات بالطلب، من تَحَرّى الشيءَ: إذا قصده، أو تحرّى في الأمر: إذا طلب أحرى الأمرين، وهو أولاهما، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

(فَلْيَتَحَرَّهَا) أي فليتعمد طلبها والتحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول

(2)

. (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ") قال الطيبيّ رحمه الله: هذا لا ينافي قوله: "فالتمسوها في العشر الأواخر"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُحَدِّث بميقاتها مجزوماً، فذهب كل واحد من الصحابة بما سمعه، ورآه هو.

وقال الشافعيّ رحمه الله: والذي عندي - والله أعلم - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه، يقال له: نلتمسها في ليلة كذا، فيقول: التمسوها في ليلة كذا، فعلى هذا نوع اختيار كل فريق من أهل العلم، والذاهبون إلى سبع وعشرين هم الأكثرون، وَيحْتَمِل أن فريقاً منهم عَلِم بالتوقيت، ولم يؤذن له في الكشف عنه؛ لما كان في حكمة الله تعالى البالغة في تعميتها على العموم؛ لئلا يتكلوا، وليزدادوا جدًّا واجتهاداً في طلبها، ولهذا السرّ أُري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أُنسي. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2761 و 2762 و 2763 و 2764 و 2765 و 2766 و 2767](1165)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1158) و"فضل ليلة القدر"(2015) و"التعبير"(6991)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 272)،

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 133.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 149.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1621.

ص: 542

و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 321)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(7688)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1912)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 75)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 17)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 28)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2182)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3675)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 244 - 245)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 225)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 368 و 401)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 310 - 311)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(1823)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل ليلة القدر، والحثّ على طلبها، وبيان محلّها، وأرجى أوقاتها.

2 -

(ومنها): الأمر بطلبها في العشر الأواخر من رمضان.

قال القسطلّانيّ رحمه الله: ظاهر الحديث أن طلبها في السبع مستنده الرؤيا، وهو مشكلٌ؛ لأنه إن كان المعنى إنه قيل لكلّ واحد: هي في السبع، فشرط التحفل التمييز، وهم كانوا نيامًا، وإن كان معناه: إن كل واحد رأى الحوادث التي تكون فيها في منامه في السبع، فلا يلزم منه أن تكون هي في السبع، كما لو رؤيت حوادث القيامة في المنام في ليلة، فإنه لا تكون تلك الليلة محلاً لقيامها.

وأجيب بأن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث الاستدلال بها على أمر وجوديّ غير مخالف لقاعدة الاستدلال.

والحاصل أن الاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقاً، وهو طلب ليلة القدر، وإنما ترجّح السبع الأواخر بسبب الرؤيا الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجوديّ لزمه استحباب شرعيّ مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي، لا أنها ثبت بها حكم، أو أن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث إقراره صلى الله عليه وسلم لها، كأحد ما قيل في رؤيا الأذان. انتهى

(1)

.

(1)

راجع: "المرعاة" 7/ 124.

ص: 543

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الأخير هو العمدة، وحاصله أنه إنما اعتمد على الرؤيا من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّه، وأمر بالاعتماد عليها، فيكون من الأمور الثابتة بالنصّ، فلا إشكال، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): بيان أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دالّ على صدقها وصحتها، كما تستفاد قوّة الخبر من التوارد على الإخبار من جماعة.

4 -

(ومنها): أن قوله: "من كان متحريها" يدلّ على أن قيام ليلة القدر نافلة، غير واجب، لكنها فضل

(1)

.

5 -

(ومنها): أن فيه من وجوه العلم أن ليلة القدر لم يُعْطَها إلا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.

6 -

(ومنها): أن فيه أن أعمار من مضى كانت أطول من أعمارنا.

7 -

(ومنها): بيان بقاء ليلة القدر، واستمرارها، وأنها لم تُرْفَع، قال النوويّ: وأجمع من يُعْتَدّ به على وجودها، ودوامها إلى آخر الدهر؛ للأحاديث الصحيحة المشهورة، قال القاضي عياض: وشذّ قوم، فقالوا: رُفِعت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان: "فرُفِعت"، وهذا غلطٌ من هؤلاء الشاذين؛ لأن آخر الحديث يَرُدّ عليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"وعسى أن يكون خيراً لكم، التمسوها في السبع والتسع"، هكذا هو في أول "صحيح البخاريّ، وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. انتهى.

وقال في "شرح المهذب": وكذا حكى أصحابنا هذا القول عن قوم لم يسمّهم الجمهور، وسماهم صاحب "التتمة"، فقال: هو قول الروافض. انتهى

(2)

.

8 -

(ومنها): أن فيه فضل ليلة القدر، وذلك من اسمها، ومن الأمر بتحريها وطلبها، وقد أفصح به القرآن الكريم في قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1] الآية، وهو مُجْمَعٌ عليه، وقد خَصّ الله تعالى بها هذه الأمة، فلم تكن من قبلهم على الصحيح المشهور، واختُلِف في سبب ذلك،

(1)

"الاستذكار" 3/ 417.

(2)

"طرح التثريب" 4/ 151.

ص: 544

فرَوَى الترمذيّ عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} [الكوثر: 1] يا محمد يعني نهراً في الجنة، ونزلت:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر: 1 - 3] يملكها بعدك بنو أمية يا محمد، قال القاسم بن الفضل الحرانيّ أحد رواته: فعددنا، فإذا هي ألف شهر، لا تنقص يوماً، ولا تزيد يوماً

(1)

.

ورَوَى مالك في "الموطأ" أنه سَمِع مَن يَثِق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته، أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر.

ورَوَى البيهقيّ في "سننه" عن مجاهد مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لَبِسَ السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعَجِب المسلمون من ذلك، فأنزل الله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر: 1 - 3] التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.

وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ بعد ذكره حديث الترمذيّ الذي بدأنا به: وهذا لا يصحّ، والذي رَوَى مالك من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته أصحّ منه، وأولى، ولذلك أدخله ليبيّن بذلك الفائدة فيه، ويدلّ على بطلان هذا الحديث. انتهى.

قال وليّ الدين: وفيه نظر؛ فإن البلاغ الذي ذكره مالك لا يُعْرَف له إسناد، قال ابن عبد البرّ: لا أعلم هذا الحديث يروى مسنداً، ولا مرسلًا من وجه من الوجوه إلا ما في "الموطأ"، وهو أحد الأربعة الأحاديث التي لا توجد في غير "الموطأ"، قال: وليس منها حديث منكرٌ، ولا ما يدفعه أصل،

(1)

في سنده يوسف بن سعد قال الترمذيّ: رجل مجهول، ووثقه غيره، وضعفه الشيخ الألباني، وقال: ضعيف الإسناد، مضطرب، ومتنه منكر، انتهى.

ص: 545

قال وليّ الدين: حتى يثبت له أصل، نعم المرسل الذي ذكرناه من عند البيهقيّ يشهد له. انتهى

(1)

.

9 -

(ومنها): ما قال الشيخ ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرح العمدة": فيه دليل على عِظَم الرؤيا، والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات، وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها، وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، وأمره بأمر، هل يلزم ذلك؟ وقيل فيه: إن ذلك إما أن يكون مخالفاً لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام في اليقظة، أو لا، فإن كان مخالفاً عَمِل بما ثبت في اليقظة؛ لأنا وإن قلنا إن من رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم على الوجه المنقول من صفته، فرؤياه حق، فهذا من قبيل تعارض الدليلين، والعمل بأرجحهما، وما ثبت في اليقظة، فهو أرجح، وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة، ففيه خلاف، والاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقاً، وهو طلب ليلة القدر، وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجوديّ لزمه استحباب شرعيّ مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي، مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلب ليلة القدر. انتهى.

ونقل ابن الصلاح في "فوائد الرحلة"، عن كتاب "آداب الجدل" لأبي إسحاق الإسفرايينيّ وجهين فيما إذا رأى شخص النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم، وقال له: غداً من رمضان، هل يَعْمَل به أم لا؟ وحكى القاضي عياض الإجماع على أنه لا يَعْمَلُ به، ذكره وليّ الدين رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.

10 -

(ومنها): ما قال العلماء -رحمهم الله تعالى -: الحكمة في إخفاء ليلة القدر؛ أن يحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلة لاقتصر عليها، كما تقدم نحوه في ساعة الجمعة، وهذه الحكمة مُطَّردة عند من يقول: إنها في جميع السنة، وفي جميع رمضان، أو في جميع العشر الأخير، أو في أوتاره خاصّةً، إلا أن الأول، ثم الثاني أليق به، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 150 - 151.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 152.

(3)

"الفتح" 5/ 469.

ص: 546

11 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي هذه الأحاديث ردٌّ لقول أبي الحسن الحوليّ المغربيّ: إنه اعتبر ليلة القدر، فلم تفته طول عمره، وإنها تكون دائماً ليلة الأحد، فإن كان أول الشهر ليلة الأحد كانت ليلة تسع وعشرين، وهُلُمّ جَرًّا، ولزم من ذلك أن تكون في ليلتين من العشر الوسط؛ لضرورة أن أوتار العشر خمسة، وعارضه بعض من تأخر عنه، فقال: إنها تكون دائماً ليلة الجمعة، وذكر نحو قول أبي الحسن، وكلاهما لا أصل له، بل هو مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عنه، وهذا كاف في الردّ، وبالله التوفيق. انتهى

(1)

.

12 -

(ومنها): أنه ورد لليلة القدر علامات، أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضي:

منها ما يأتي في "صحيح مسلم" عن أبي بن كعب رضي الله عنه: "إن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها"، وفي رواية لأحمد من حديثه:"مثل الطست"، ونحوه لأحمد من طريق أبي عون، عن ابن مسعود، وزاد:"صافية"، ومن حديث ابن عباس نحوه، ولابن خزيمة من حديثه مرفوعاً:"ليلة القدر طَلْقَةٌ، لا حارّة، ولا باردة، تُصبح الشمس يومها حمراء، ضعيفةً"، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً: "إنها صافية، بَلْجَةٌ

(2)

، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة، صاحية، لا حرّ فيها، ولا برد، ولا يَحِلّ لكوكب يُرمَى به فيها".

ومن أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، ولا يَحِلّ للشيطان أن يخرج معها يومئذ.

ولابن أبي شيبة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا: "إن الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان، إلا صبيحة ليلة القدر".

وله من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه مرفوعاً: "ليلة القدر ليلةُ مطر، وريح"، ولابن خزيمة من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً في ليلة القدر:"وهي ليلة طَلْقة بَلْجَةٌ، لا حارّةٌ، ولا باردةٌ، تتضح كواكبها، ولا يخرج شيطانها، حتى يضيء فجرها".

(1)

"الفتح" 5/ 470.

(2)

أي: مشرقة.

ص: 547

ومن طريق قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:"وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى".

وروى ابن أبي حاتم من طريق مجاهد: "لا يُرْسَل فيها شيطان، ولا يَحْدُث فيها داء".

ومن طريق الضحاك: "يَقْبَل الله التوبة فيها من كل تائب، وتفتح فيها أبواب السماء، وهي من غروب الشمس إلى طلوعها".

وذكر الطبريّ عن قوم: أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض، ثم تعود إلى منابتها، وأن كل شيء يسجد فيها.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا يَحتاج إلى دليل مرفوع، فتنبّه.

وروى البيهقي في "فضائل الأوقات" من طريق الأوزاعيّ، عن عبدة بن أبي لبابة، أنه سمعه يقول:"إن المياه المالحة تعذُب تلك الليلة"، وروى ابن عبد البر من طريق زهرة بن معبد نحوه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قول عبدة هذا يَحتاج إلى دليل مرفوع، فلْيُتَنَبَّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): في بيان أقوال أهل العلم في تسمية ليلة القدر، واشتقاقها ومعناها:

قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: وسُمّيت ليلة القدر؛ لما يُكتَب فيها للملائكة من الأقدار، والأرزاق، والآجال التي تكون في تلك السنة، كقوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 4]، وقوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} [القدر: 4]، ومعناه يُظْهَر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به، وتقديره له، وقيل: سُمِّيت ليلة القدر؛ لعظم قدرها وشرفها. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": واختُلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة، فقيل: المراد به التعظيم، كقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]،

(1)

"الفتح" 5/ 459.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 57.

ص: 548

والمعنى أنها ذات قدر؛ لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزّل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يُحييها يصير ذا قدر، وقيل: القدر هنا التضييق، كقوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]، ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها، أو لأن الأرضِ تضيق فيها عن الملائكة، وقيل: القدر هنا بمعنى القدَر - بفتح الدال - الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يُقَدَّر فيها أحكام تلك السنة؛ لقوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 4]، وبه صدَّر النووي كلامه السابق، ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغيرهم.

وقال التوربشتيّ: إنما جاء القدر - بسكون الدال - وإن كان الشائع في القدَر الذي هو مؤاخي القضاء فتح الدال؛ ليعلم أنه لم يُرَد به ذلك، وإنما أريد به تفصيل ما جَرى به القضاء، وإظهاره، وتحديده في تلك السنة؛ لتحصيل ما يُلقى إليهم فيها مقداراً بمقدار. انتهى

(1)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: ليلة القدر - بفتح القاف، وإسكان الدال، ويجوز فتحها كما سأبيّنه - سُمّيت بذلك؛ لعظم قدرها؛ لما لها من الفضائل؛ أي ذات القدر العظيم، أو لما يَحْصُل لمحييها بالعبادة من القدر العظيم، أو لأن الأشياء تقدَّر فيها، وتُقْضَى، أقوال.

قال: ويؤيد الأوَّلَين قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر: 3]، ويؤيد الأخير قوله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} [القدر: 4]، وقوله:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 4]، وإنما جَوَّزت فتح الدال؛ لأنها إن كانت سميت بذلك لعظم قدرها، فقد قال في "الصحاح"

(2)

: قَدْرُ الشيءِ مَبْلَغُهُ، وقَدَرُ اللهِ، وقَدْرُه بمعنى، وهو في الأصل مصدر، وقال تعالى:{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74]؛ أي ما عظموا الله حق تعظيمه، وإن كان من التقدير، فقد قال في "الصحاح" عقبه: والقَدَرُ والقَدْرُ أيضاً ما يُقَدّره الله من القضاء، وأنشد الأخفش [من الطويل]:

أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدْرِ

وَللأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي

(1)

"الفتح" 5/ 451 - 452.

(2)

"الصحاح" 2/ 672.

ص: 549

وكذا قال في "المحكم": القَدَر والْقَدْر: القضاء. انتهى.

وقال ابن العربيّ في "شرح الترمذيّ": هي ليلة القَدْر والقَدَر، فأما الأول فالمراد به الشرف، كقولهم: لفلان قَدْرٌ في الناس، يَعْنُون بذلك مزيةً وشرفاً، والثاني القَدَر بمعنى التقدير، قال الله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} ، قال علماؤنا: يُلقي الله فيها لملائكته ديوان العام. انتهى.

وهو يوهم أنه لا يجوز مع تسكين الدال إرادة التقدير، وليس كذلك، كما علمتَ، وقد جَوَّز المفسرون في الآية إرادة الشرف والتقدير، مع كونه لم يُقْرَأ إلا بالإسكان، وجزم الهرويّ، وابن الأثير في تفسيرها بالتقدير، فقالا: وهي الليلة التي تُقَدَّر فيها الأرزاق، وتُقْضَى، وصححه النوويّ، فقال في "شرح المهذب": سُمِّيت ليلة القدر؛ أي ليلة الحكم والفصل، هذا هو الصحيح المشهور، وحكاه في "شرح مسلم" عن العلماء. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في محلّ ليلة القدر:

قال في "الفتح": قد اختَلَف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كل منهما؛ ليقع الجدّ في طلبهما:

[القول الأول]: أنها رُفِعت أصلاً ورأساً، حكاه المتولي في "التَّتِمّة" عن الروافض، والفاكهانيّ في "شرح العمدة" عن الحنفية، وهو خطأ منه، والذي حكاه السروجيّ أنه قول الشيعة، وقد رَوَى عبد الرزاق، من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد الله بن يُحَنَّس، قلت لأبي هريرة: زعموا أن ليلة القدر رُفعت، قال: كَذَب من قال ذلك، ومن طريق عبد الله بن شريك قال: ذَكَر الحجاج ليلة القدر، فكأنه أنكرها، فأراد زِرّ بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

[الثاني]: أنها خاصة بسنة واحدة، وقعت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه الفاكهانيّ أيضاً.

[الثالث]: أنها خاصّة بهذه الأمة، ولم تكن في الأمم قبلهم، جزم به ابن

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 144.

ص: 550

حبيب وغيره من المالكية، ونقله عن الجمهور، وحكاه صاحب "العدّة" من الشافعية، ورجّحه، وهو مُعْتَرض بحديث أبي ذرّ رضي الله عنه عند النسائيّ، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء، فإذا ماتوا رُفعت؟ قال:"لا بل هي باقية"، وعُمدتهم قول مالك في "الموطأ": بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية، فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا يَحْتَمِل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذرّ.

[الرابع]: أنها ممكنة في جميع السنة، وهو قول مشهور عن الحنفية، حكاه قاضيخان، وأبو بكر الرازيّ منهم، ورُوي مثله عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وغيرهم، وزَيَّف المهلَّب هذا القول، وقال: لعل صاحبه بناه على دوران الزمان؛ لنقصان الأهلة، وهو فاسد؛ لأن ذلك لم يعتبر في صيام رمضان، فلا يعتبر في غيره، حتى تنقل ليلة القدر عن رمضان. انتهى.

ومأخذ ابن مسعود، كما ثبت في "صحيح مسلم" عن أُبيّ بن كعب، أنه أراد أن لا يتكل الناس.

[الخامس]: أنها مختصة برمضان، ممكنة في جميع لياليه، وهو قول ابن عمر.

رواه ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح عنه، ورُوي مرفوعاً عنه، أخرجه أبو داود، وفي "شرح الهداية": الجزم به، عن أبي حنيفة، وقال به ابن المنذر، والمحامليّ، وبعض الشافعية، ورجحه السبكيّ في "شرح المنهاج"، وحكاه ابن الحاجب رواية، وقال السروجيّ في "شرح الهداية": قول أبي حنيفة أنها تنتقل في جميع رمضان، وقال صاحباه: إنها في ليلة معينة منه مبهمة، وكذا قال النسفيّ في "المنظومة":

وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ بِكُلِّ الشَّهْرِ

دَائِرَةٌ وَعَيَّنَاهَا فَادْرِ. اهـ.

وهذا القول حكاه ابن العربيّ عن قوم، وهو [السادس].

[السابع]: أنها أول ليلة من رمضان، حُكِي عن أبي رَزِين الْعُقَيليّ الصحابيّ رضي الله عنه، ورَوى ابن أبي عاصم من حديث أنس رضي الله عنه قال:"ليلة القدر أول ليلة من رمضان"، قال ابن أبي عاصم: لا نعلم أحداً قال ذلك غيره.

[الثامن]: أنها ليلة النصف من رمضان، حكاه سراج الدين ابن الْمُلَقِّن في "شرح العمدة"، قال الحافظ: والذي رأيت في "المفهم" للقرطبيّ حكاية

ص: 551

قول أنها ليلة النصف من شعبان، وكذا نقله السروجيّ عن صاحب "الطراز"، فإن كانا محفوظين، فهو:[القول التاسع]، ثم رأيت في "شرح السروجيّ" عن "المحيط" أنها في النصف الأخير.

[العاشر]: أنها ليلة سبع عشرة من رمضان، رَوَى ابن أبي شيبة، والطبرانيّ من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: ما أشكّ، ولا أمتري أنها ليلة سبع عشرة من رمضان، ليلة أُنزل القرآن، وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً.

[القول الحادي عشر]: أنها مبهمة في العشر الأوسط، حكاه النوويّ، وعزاه الطبريّ لعثمان بن أبي العاص، والحسن البصريّ، وقال به بعض الشافعية.

[القول الثاني عشر]: أنها ليلة ثمان عشرة، قال الحافظ: قرأته بخط القطب الحلبيّ في "شرحه"، وذكره ابن الجوزيّ في "مشكله".

[القول الثالث عشر]: أنها ليلة تسع عشرة، رواه عبد الرزاق، عن عليّ، وعزاه الطبريّ لزيد بن ثابت، وابن مسعود، ووصله الطحاويّ عن ابن مسعود.

[القول الرابع عشر]: أنها أول ليلة من العشر الأخير، وإليه مال الشافعيّ، وجزم به جماعة من الشافعية، ولكن قال السبكيّ: إنه ليس مجزوماً به عندهم، لاتّفاقهم على عدم حنث مَن عَلَّق يوم العشرين عتق عبده في ليلة القدر أنه لا يَعْتَق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح؛ بناءً على أنها في العشر الأخير، وقيل: بانقضاء السنة؛ بناء على أنها لا تختص بالعشر الأخير، بل هي في رمضان.

[القول الخامس عشر]: مثل الذي قبله، إلا أنه إن كان الشهر تامًّا، فهي ليلة العشرين، وإن كان ناقصاً فهي ليلة إحدى وعشرين، وهكذا في جميع الشهر، وهو قول ابن حزم، وزعم أنه يجمع بين الأخبار بذلك، ويدلّ له ما رواه أحمد، والطحاويّ، من حديث عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التمسوها الليلة"، قال: وكانت تلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين، فقال رجل: هذه أولى بثمان بقين، قال: بل أولى بسبع بقين، فإن هذا الشهر لا يتم.

ص: 552

[القول السادس عشر]: أنها ليلة اثنين وعشرين، وسيأتي حكايته بعدُ، وروى أحمد من حديث عبد الله بن أنيس، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وذلك صبيحة إحدى وعشرين، فقال:"كم الليلة؟ " قلت: ليلة اثنين وعشرين، فقال:"هي الليلة، أو القابلة".

[القول السابع عشر]: أنها ليلة ثلاث وعشرين، رواه مسلم عن عبد الله بن أنيس مرفوعاً:"أُريت ليلة القدر، ثم نسيتها"، فذكر مثل حديث أبي سعيد، لكنه قال فيه: ليلة ثلاث وعشرين، بدل إحدى وعشرين، وعنه قال: قلت: يا رسول الله إن لي باديةً أكون فيها، فمرني بليلة القدر، قال:"انزل ليلة ثلاث وعشرين"، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن معاوية، قال: ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، ورواه إسحاق في "مسنده" من طريق أبي حازم، عن رجل من بني بياضة له صحبة مرفوعاً، وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً:"من كان متحريها فليتحرها ليلة سابعة"، وكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، وَيمَسّ الطيب، وعن ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس، أنه كان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وروى عبد الرزاق من طريق يونس بن سيف، سمع سعيد بن المسيب يقول: استقام قول القوم على أنها ليلة ثلاث وعشرين، ومن طريق إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريق مكحول أنه كان يراها ليلة ثلاث وعشرين.

[القول الثامن عشر]: أنها ليلة أربع وعشرين، وفي "صحيح البخاريّ" من حديث ابن عباس رضي الله عنه:"التمسوا في أربع وعشرين"، وروى الطيالسيّ من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد مرفوعاً:"ليلة القدر ليلة أربع وعشرين"، وروي ذلك عن ابن مسعود، والشعبيّ، والحسن، وقتادة، وحجتهم حديث واثلة: أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان، ورَوَى أحمد من طريق ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي الخير الصنابحيّ، عن بلال مرفوعاً:"التمسوا ليلة القدر ليلة أربع وعشرين"، وقد أخطأ ابن لهيعة في رفعه، فقد رواه عمرو بن الحارث، عن يزيد بهذا الإسناد موقوفًا بلفظ:"ليلة القدر أول السبع من العشر الأواخر".

ص: 553

[القول التاسع عشر]: أنها ليلة خمس وعشرين، حكاه ابن العربيّ في "العارضة"، وعزاه ابن الجوزيّ في "المشكل" لأبي بكرة.

[القول العشرون]: أنها ليلة ست وعشرين، قال الحافظ: وهو قول لم أره صريحاً إلا أن عياضاً قال: ما من ليلة من ليالي العشر الأخير إلا وقد قيل: إنها فيه.

[القول الحادي والعشرون]: أنها ليلة سبع وعشرين، وهو الجادة من مذهب أحمد، ورواية عن أبي حنيفة، وبه جزم أُبَيّ بن كعب، وحَلَف عليه كما أخرجه مسلم، وروى مسلم أيضًا من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر، فقال صلى الله عليه وسلم:"أيكم يذكر حين طلع القمر كأنه شق جَفْنة؟ "، قال أبو الحسن الفارسيّ: أي ليلة سبع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة، وروى الطبرانيّ من حديث ابن مسعود، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال:"أيكم يذكر ليلة الصهباوات؟ " قلت: أنا، وذلك ليلة سبع وعشرين، ورواه ابن أبي شيبة عن عمر، وحذيفة، وناس من الصحابة، وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم: رأى رجل ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، ولأحمد من حديثه مرفوعاً:"ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"، ولابن المنذر:"من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين"، وعن جابر بن سَمُرة نحوه، أخرجه الطبراني في "أوسطه"، وعن معاوية نحوه، أخرجه أبو داود، وحكاه صاحب "الحلية" من الشافعية عن أكثر العلماء، وقد تقدّم استنباط ابن عباس عند عمر فيه، وموافقته له

(1)

.

(1)

أشار به إلى ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة وعاصم، أنهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عباس: دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر، قال ابن عباس: فقلت لعمر: إني لأعلم، أو أظن أيّ ليلة هي. قال عمر: أيّ ليلة هي؟ فقلت: سابعة تمضي، أو سابعة تبقى من العشر الأواخر، فقال: من أين علمت ذلك؟ قلت: خلق الله سبع سماوات، وسبع أرضين، وسبعة أيام، والدهر يدور في سبع، والإنسان خُلق من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف والجمار، وأشياء ذكرها، فقال عمر: لقد فطنت لأمر ما فَطِنّا له. =

ص: 554

وزعم ابن قُدامة أن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات السورة، وقد وافق قوله فيها:{هِيَ} سابع كلمة بعد العشرين، وهذا نقله ابن حزم عن بعض المالكية، وبالغ في إنكاره، ونقله ابن عطية في "تفسيره"، وقال: إنه من مُلَح التفاسير، وليس من متين العلم، واستنبط بعضهم ذلك في جهة أخرى، فقال: ليلة القدر تسعة أحرف، وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات، فذلك سبع وعشرون.

وقال صاحب "الكافي" من الحنفية، وكذا "المحيط": من قال لزوجته: أنت طالق ليلة القدر طلقت ليلة سبع وعشرين؛ لأن العامة تعتقد أنها ليلة القدر.

[القول الثاني والعشرون]: أنها ليلة ثمان وعشرين، وقد تقدم توجيهه قبلُ بقول.

[القول الثالث والعشرون]: أنها ليلة تسع وعشرين، حكاه ابن العربيّ.

[القول الرابع والعشرون]: أنها ليلة ثلاثين، حكاه عياض، والسروجيّ في "شرح الهداية"، ورواه محمد بن نصر، والطبريّ عن معاوية، وأحمد من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[القول الخامس والعشرون]: أنها في أوتار العشر الأخير، وعليه يدلّ حديث عائشة وغيرها، في هذا الباب، وهو أرجح الأقوال، وصار إليه أبو ثور، والمزنيّ، وابن خزيمة، وجماعة من علماء المذاهب.

= وأخرجه إسحاق ابن راهويه في "مسنده"، والحاكم من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس، وأوله: إن عمر كان إذا دعا الأشياخ من الصحابة قال لابن عباس: لا تتكلم حتى يتكلموا، فقال ذات يوم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر وتراً"؛ أيّ الوتر هي؟ فقال رجل برأيه: تاسعة، سابعة، خامسة، ثالثة، فقال لي: ما لك لا تتكلم يا ابن عباس؟ قلت: أتكلم برأي؟ قال: عن رأيك أسألك، قلت، فذكر نحوه، وفي آخره: فقال عمر: أعجزتم أن تكونوا مثل هذا الغلام الذي ما استوت شئون رأسه.

ورواه محمد بن نصر في "قيام الليل" من هذا الوجه، وزاد فيه: وأن الله جعل النسب في سبع، والصهر في سبع، ثم تلا:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، وفي رواية الحاكم: إني لأرى القول كما قلت. انتهى.

ص: 555

[القول السادس والعشرون]: مثله بزيادة الليلة الأخيرة، رواه الترمذيّ من حديث أبي بكرة، وأحمد من حديث عبادة بن الصامت.

[القول السابع والعشرون]: تنتقل في العشر الأخير كله، قاله أبو قِلابة، ونَصّ عليه مالك، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وزعم الماورديّ أنه مُتَّفق عليه، وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير، ثم اختلفوا في تعيينها منه، ويؤيد كونها في العشر الأخير حديث أبي سعيد الصحيح: أن جبريل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا اعتكف العشر الأوسط -: "إن الذي تطلب أمامك"، وقد ثبت ذكر اعتكافه صلى الله عليه وسلم العشر الأخير في طلب ليلة القدر، واعتكاف أزواجه بعده، والاجتهاد فيه.

واختَلَف القائلون به، فمنهم من قال: هي فيه مُحْتَمِلة على حدّ سواء، نقله الرافعيّ عن مالك، وضعّفه ابن الحاجب، ومنهم من قال: بعض لياليه أرجى من بعض، فقال الشافعيّ: أرجاه ليلة إحدى وعشرين، وهو [القول الثامن والعشرون]، وقيل: أرجاه ليلة ثلاث وعشرين، وهو [القول التاسع والعشرون]، وقيل: أرجاه ليلة سبع وعشرين، وهو [القول الثلاثون].

[القول الحادي والثلاثون]: أنها تنتقل في السبع الأواخر، وقد تقدم بيان المراد منه في حديث ابن عمر، هل المراد ليالي السبع من آخر الشهر، أو آخر سبعة تُعَدّ من الشهر؟ ويخرّج من ذلك [القول الثاني والثلاثون].

[القول الثالث والثلاثون]: أنها تنتقل في النصف الأخير، ذكره صاحب "المحيط" عن أبي يوسف ومحمد، وحكاه إمام الحرمين عن صاحب "التقريب".

[القول الرابع والثلاثون]: أنها ليلة ست عشرة، أو سبع عشرة، رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزبير.

[القول الخامس والثلاثون]: أنها ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسناد ضعيف.

[القول السادس والثلاثون]: أنها في أول ليلة من رمضان، أو آخر ليلة، رواه ابن أبي عاصم من حديث أنس بإسناد ضعيف.

[القول السابع والثلاثون]: أنها أول ليلة، أو تاسع ليلة، أو سابع عشرة،

ص: 556

أو إحدى وعشرين، أو آخر ليلة، رواه ابن مردويه في "تفسيره"، عن أنس بإسناد ضعيف.

[القول الثامن والثلاثون]: أنَّها ليلة تسع عشرة، أو إحدى عشرة، أو ثلاث وعشرين، رواه أبو داود من حديث ابن مسعود بإسناد فيه مقال، وعبد الرزاق من حديث عليّ بإسناد منقطع، وسعيد بن منصور من حديث عائشة بإسناد منقطع أيضًا.

[القول التاسع والثلاثون]: ليلة ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين، وهو مأخوذ من حديث ابن عباس عند البخاريّ، حيث قال:"سبع يبقين، أو سبع يمضين"، ولأحمد من حديث النعمان بن بشير:"سابعة تمضي، أو سابعة تَبْقَى"، قال النعمان: فنحن نقول: ليلة سبع وعشرين، وأنتم تقولون: ليلة ثلاث وعشرين.

[القول الأربعون]: ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، كما في "صحيح البخاريّ" من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال:"إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرُفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، التمسوها في السبع، والتسع، والخمس".

ولأبي داود من حديثه بلفظ: "تاسعة تبقي، سابعة تبقي، خامسة تبقى"، قال مالك في "المدونة": قوله: "تاسعة تبقى" ليلة إحدى وعشرين إلخ.

[القول الحادي والأربعون]: أنَّها منحصرة في السبع الأواخر من رمضان؛ لحديث ابن عمر في الباب.

[القول الثاني والأربعون]: أنَّها ليلة اثنتين وعشرين، أو ثلاث وعشرين؛ لحديث عبد الله بن أنيس عند أحمد.

[القول الثالث والأربعون]: أنَّها في أشفاع العشر الوسط، والعشر الأخير، قال الحافظ: قرأته بخط مغلطاي.

[القول الرابع والأربعون]: أنَّها ليلة الثالثة من العشر الأخير، أو الخامسة منه، رواه أحمد من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة تَحْتَمِل ليلة ثلاث وعشرين، وتَحْتَمل ليلة سبع وعشرين، وتحتمل إلى

ص: 557

أنَّها ليلة ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، وبهذا يتغاير هذا القول مما مضى.

[القول الخامس والأربعون]: أنَّها في سبع، أو ثمان من أول النصف الثاني، روى الطحاوي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال:"تحرَّها في النصف الأخير"، ثم عاد، فسأله، فقال:"إلى ثلاث وعشرين"، قال: وكان عبد الله يحيى ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين، ثم يقصر.

[القول السادس والأربعون]: أنَّها في أول ليلة، أو آخر ليلة، أو الوتر من الليل، أخرجه أبو داود في "كتاب المراسيل" عن مسلم بن إبراهيم، عن أبي خَلْدة، عن أبي العالية: أن أعرابيًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فقال له: متى ليلة القدر؟ فقال: "اطلبوها في أول ليلة، وآخر ليلة، والوتر من الليل"، وهذا مرسل رجاله ثقات.

قال الحافظ: وجميع هذه الأقوال التي حكيناها بعد الثالث، فَهَلُمّ جَرًّا متفقة على إمكان حصولها، والحثّ على التماسها.

وقال ابن العربيّ: الصحيح أنَّها لا تُعْلَم، وهذا يصلح أن يكون قولًا آخر، وأنكر هذا القول النوويّ، وقال: قد تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها، وأخبر به جماعة من الصالحين، فلا معنى لإنكار ذلك.

ونَقَل الطحاوي عن أبي يوسف قولًا جَوَّز فيه أنه يرى أنَّها ليلة أربع وعشرين، أو سبع وعشرين، فإن ثبت ذلك عنه، فهو قول آخر. قال: هذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال، وبعضها يمكن ردّه إلى بعض، وإن كان ظاهرها التغاير، وأرجحها كلها أنَّها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، على ما في حديث أبي سعيد، وعبد الله بن أنيس، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، وقد تقدمت أدلة ذلك. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 5/ 463 - 469.

ص: 558

قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ رحمه الله وأفاد في جمع هذه الأقوال، وبيان أدلّتها، ثم رجّح أخيرًا ما رآه راجحًا بدليله، والذي أراه راجحًا عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من أن أرجاها ليلة سبع وعشرين؛ لقوّة حجته، فتأمل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم هل لليلة القدر علامة أم لا؟:

(اعلم): أنهم اختلفوا هل لها علامة تَظْهَر لمن وُفِّقت له أم لا؟ فقيل: يُرَى كلّ شيء ساجدًا، وقيل: الأنوار في كلّ مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل: يَسمع سلامًا أو خطابًا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وُفِّقت له، واختار الطبريّ أن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء، ولا سماعه.

واختلفوا أيضًا، هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتَّفَق له أنه قامها، وإن لَمْ يظهر له شيء، أو يتوقف ذلك على كشفها له؟ وإلى الأول ذهب الطبريّ، والمهلب، وابن العربيّ، وجماعة، وإلى الثاني ذهب الأكثر، ويدلّ له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"من يقم ليلة القدر، فيوافقها"، وفي حديث عبادة عند أحمد:"من قامها إيمانًا واحتسابًا، ثم وُفقت له"، قال النوويّ: معنى يوافقها: أي يعلم أنَّها ليلة القدر، فيوافقها. وَيحْتَمِل أن يكون المراد يوافقها في نفس الأمر، وإن لَمْ يعلم هو ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الأظهر، فتأمل، والله تعالى أعلم.

وفي حديث زِرّ بن حُبيش عن ابن مسعود قال: من يقم الحول يصب ليلة القدر، قال الحافظ: وهو مُحْتَمِل للقولين أيضًا، وقال النوويّ أيضًا في حديث:"من قام رمضان"، وفي حديث:"من قام ليلة القدر": معناه من قامه، ولو لَمْ يوافق ليلة القدر حصل له ذلك، ومن قام ليلة القدر فوافقها حصل له، وهو جار على ما اختاره من تفسير الموافقة بالعلم بها، قال الحافظ: وهو الذي يترجح في نظري، ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لَمْ يعلم بها، ولو لَمْ توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين

ص: 559

الموعود به، وفرّعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص، فيُكْشَف لواحد، ولا يكشف لآخر، ولو كانا معًا في بيت واحد.

قال الجامع عفا الله عنه: تفسير "يوافقها" بالعلم محلّ نظر، بل الأقرب أنه الموافقة بمعنى كون الشخص موفّقًا لقيامها، فتأمل.

وقال الطبريّ رحمه الله: في إخفاء ليلة القدر دليل على كَذِب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة؛ إذ لو كان ذلك حقًّا لَمْ يخْفَ على كلّ من قام ليالي السنة فضلًا عن ليالي رمضان.

وتعقبه ابن الْمُنَيِّر رحمه الله في "الحاشية" بأنه لا ينبغي إطلاق القول بالتكذيب لذلك، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده، فيختص بها قوم دون قوم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يحصر العلامة، ولم ينف الكرامة، وقد كانت العلامة في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر، ونحن نَرَى كثيرًا من السنين ينقضي رمضان دون مطر، مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر، قال: ومع ذلك فلا نعتقد أن ليلة القدر لا ينالها إلَّا من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع، ورب قائم تلك الليلة لَمْ يحصل منها إلَّا على العبادة، من غير رؤية خارق، وأَخر رأى الخارق من غير عبادة، والذي حصل على العبادة أفضل، والعبرة إنما هي بالاستقامة، فإنها تستحيل أن تكون إلَّا كرامة، بخلاف الخارق، فقد يقع كرامة، وقد يقع فتنة، والله أعلم. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2762]

(

) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العَدَويّ مولى ابن عمر، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

ص: 560

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (172) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ

إلخ) أي احرِصوا على طلبها، واجتهدوا فيه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2763]

(

) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعِ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَرَى رُؤيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَاطلبُوهَا في الْوِتْرِ مِنْهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قريبًا.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدَّم قبل باب.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العدويّ، أبو عبد الله المدتيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقية عابد فاضلٌ، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

والصحابيّ رضي الله عنه ذُكر قبله.

وقوله: (أَرَى رُؤياكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ

إلخ) قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: في هذه الرواية الأولى الأمر بطلبها في أوتار العشر الأواخر، وفي الروايتين السابقتين الأمر بطلبها في السبع الأواخر، وبينهما تناف، وإن اتفقتا على أن محلها منحصر في العشر الأواخر من رمضان، والأول وهو انحصارها

ص: 561

في أوتار العشر الأخير قول حكاه القاضي عياض وغيره، ونَصّ عليه أحمد بن حنبل، فقال: هي في العشر الأواخر، في وتر من الليالي لا يخطئ إن شاء الله، وأما انحصارها في السبع الأواخر فلا نعلم الآن قائلًا به. انتهى

(1)

.

[فائدة]: قال الفيّوميّ رحمه الله: و"الْعَشْرُ" بغير هاء عدد للمؤنث، يقال: عشر نسوة، وعشر ليال، وفي التنزيل:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} [الفجر: 1، 2]، والعامة تُذَكِّر العشر على معنى أنه جمع الأيام، فيقولون: العَشْرُ الأَوَّلُ، والعشر الأَخِير، وهو خطأ، فإنه تغيير المسموع، ولأن اللفظ العربي تناقلته الألسُنُ اللُّكْنُ، وتلاعبت به أفواه النَّبَطِ، فحَرَّفُوا بعضه، وبَدَّلُوه، فلا يتمسك بما خالف ما ضبطه الأئمة الثقات، ونَطَقَ به الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة.

والشهرُ ثلاثُ عَشَرَات، فالعَشْرُ الأُوَلُ جمع أُولَى، والعشر الوُسَطُ جمع وُسْطَي، والعشرُ الأُخَرُ جمع أخرى، والعشرُ الأَوَاخر أيضًا جمع آخِرَة، وهذا في غير التاريخ، وأما في التاريخ فقد قالت العرب: سِرْنا عَشْرًا، والمراد عشر ليال بأيامها، فغَلَّبُوا المؤنث هنا على المذكَّر؛ لكثرة دَوْر العدد على ألسنتها، ومنه قوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

ويقال: أَحَدَ عَشَرَ، وثلاثةَ عَشَرَ، إلى تسعة عشر، بفتح الشين، وسُكُونُهَا لغة، وقرأ بها أبو جعفر.

والعشرون: اسم موضوع لعدد معين، ويُستَعْمَل في المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وُيعْرَب بالواو والياء، ويجوز إضافتها لمالكها، فتسقط النون؛ تشبيهًا بنون الجمع، فيقال: عِشْرُو زيدٍ، وعِشْرُوك، هكذا حكاه الكسائيّ عن بعض العرب، ومنع الأكثر إضافة العقود، وأجاز بعضهم إضافة العدد إلى غير التمييز. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم تمام البحث فيه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"طرح التثريب" 4/ 151.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 411.

ص: 562

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2764]

(

) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ أَباهُ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِلَيْلَةِ الْقَدْرِ: "إِنَّ نَاسًا مِنْكُمْ قَدْ أُرُوا أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْأُوَلِ، وَأُرِيَ نَاسٌ مِنْكُمْ أَنَّهَا فِي السَّبْعِ الْغَوَابِرِ، فَالْتَمِسُوهَا في الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التجيبيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (في السَّبْعِ الْأُوَلِ) بضمّ الهمزة، وفتح الواو: جمع أُولى.

وقوله: (فِي السَّبْعِ الْغَوَابِرِ) أي البواقي، وهي الأواخر، و"الغوابر": جمع غابرة، يقال: غَبَرَ غُبُورًا، من باب قَعَدَ: بَقِيَ، وقد يُسْتَعْمَلُ فيما مَضَى أيضًا، فيكون من الأضداد، وقال الزُّبيديّ: غَبَرَ غُبُورًا: مَكَثَ، وفي لغة بالمهملة للماضي، وبالمعجمة للباقي، ذكره الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا من معنى الغوابر هو الأول؛ لقوله في الرواية التالية: "فلا يُغلَبَنَّ على السبع البواقي".

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2765]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُقْبَةَ، وَهُوَ ابْنُ حُرَيْثٍ، قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَر رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 442.

ص: 563

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ - يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ - فَإِنْ ضَعَفَ أَحَدُكُمْ، أَوْ عَجَزَ، فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدَّم قبل بابين.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم أيضًا قبل بابين.

4 -

(عُقْبَةُ بْنُ حُرَيْثٍ) التَّغْلبيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4](م س) تقدم في "صلاة المسافرين" 22/ 1763.

والصحابيّ ذُكر قبله.

وقوله: (فَإِنْ ضَعَفَ أَحَدُكُمْ) بضمّ العين المهملة، وفتحها، من بابي كَكَرُمَ، ونَصَرَ، قال في "القاموس": الضَّعْفُ - بالفتح ويُضمّ، ويُحَرّك -: ضدّ القوّة، وضَعُفَ، كَكَرُمَ، ونَصَرَ ضَعْفًا، وضُعْفًا، وضَعافةً، قال: فهو ضَعِيفٌ، وضَعُوفٌ،، وضَعْفَانُ، قال: أو الضَّعْفُ بالفتح في الرأي، وبالضمّ في البدن. انتهى باختصار

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الضَّعْفُ بفتح الضاد في لغة تميم، وبضمّها في لغة قُريش: خلاف القوّة والصّحّة، فالمضموم مصدر ضَعُفَ، مثالُ قَرُبَ قَرْبًا، والفتوح: مصدر ضَعَفَ ضَعْفًا، من باب قَتَلَ، ومنهم من يجعل المفتوح في الرأي، والمضموم في الجسد. انتهى

(2)

.

وقوله: (عَجَزَ) بفتح الجيم، يقال: عَجَزَ عن الشيء، من باب ضوب: إذا ضعُف عنه، وعَجِز بالكسر، من باب تَعِب لغة لبعض قيس عيلان، وهي لغة غير معروفة، كما قاله في "المصباح"

(3)

.

وقوله: (فَلَا يُغْلَبَنَّ) بالبناء للمفعول.

وقوله: (عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي) قال النوويّ رحمه الله: وفي بعض النسخ: "عن

(1)

راجع: "القاموس المحيط" 3/ 165.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 362.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 393.

ص: 564

السبع" بدل "على"، وكلاهما صحيح. انتهى؛ أي: عن قيام الليالي السبع اللاتي بقين من رمضان.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الامإم مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2766]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَبَلَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ كَانَ مُلْتَمِسَهَا، فَلْيَلْتَمِسْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة، وهم المذكورون في السند الماضي، غير:

1 -

(جَبَلَةَ) بن سُحَيم - بمهملتين، مصغّرًا - الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 125)(ع) تقدم في "الصيام" 2/ 2509.

وقوله: (مُلْتَمِسَهَا) أي طالب ليلة القدر.

والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه، وبيان مسائله تقدّما، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2767]

(

) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَن الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ جَبَلَةَ، وَمُحَارِبٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَحَيَّنُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، أَوْ قَالَ: فِي التِّسْعِ

(1)

الْأَوَاخِرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ) تقدّم قريبًا.

3 -

(الشَّيْبَانِيُّ) سليمان بن أبي سليمان فيروز، أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات في حدود (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 38/ 259.

(1)

وفي نسخة "أو قال: في السبع الأواخر".

ص: 565

4 -

(مُحَارِبُ) بن دِثَار السَّدُوسيّ الكوفيّ القاضي، ثقةٌ إمامٌ زاهدٌ [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (تَحَيَّنُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ) أي: اطلبوا حِينها، وهو زمانها.

وقوله: (أَوْ قَالَ فِي التِّسْعِ الْأَوَاخِرِ) وفي بعض النسخ: "أو في السبع الأواخر"، وهو الموافق للروايات الأخرى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2768]

(1166) - (حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا

(1)

ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ"، وَقَالَ حَرْمَلَةُ:"فَنَسِيتُهَا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السَّرْح، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، أو لا أعرفهم

(2)

.

وقوله: (فَنُسِّيتُهَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: فَنَسِيتُهَا) الأول بضمّ النون، وتشديد السين المهملة، والثاني بفتح النون، وكسر النون الخفيفة، وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق.

(1)

وفي نسخة: "حدَّثنا".

(2)

"تنبيه المعلم"(ص 210).

ص: 566

[تنبيه]: ذكر في هذا الحديث أن سبب نسيانه صلى الله عليه وسلم للية القدر هو إيقاظ بعض أهله، وذكر في "صحيح البخاريّ" من حديث عبادة بن الصامت أن سببه تلاحي رجلين، وسيأتي هذا عند المصنّف من رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ بلفظ:"فجاء رجلان يختصمان، معهما الشيطان"، ونحوه في حديث الفَلَتان عند ابن إسحاق، وزاد:"أنه لقيهما عند سُدَّة المسجد، فحَجَزَ بينهما"، فاتَّفَق حديثا عبادة وأبي سعيد رضي الله عنهما على سبب النسيان، بخلاف حديث أبي هريرة هذا، فإنه مغايرٌ لهما.

ووجه الجمع - كما قال في "الفتح" - إما أن يُحْمَل على التعدد، بأن تكون الرؤيا في حديث أبي هريرة منامًا، فيكون سبب النسيان الإيقاظ، وأن تكون الرؤية في حديث غيره في اليقظة، فيكون سبب النسيان ما ذُكِر من المخاصمة، أو يُحْمَل على اتّحاد القصة، ويكون النسيان وقع مرتين عن سببين، وَيحْتَمِل أن يكون المعنى أيقظني بعض أهلي، فسمعت تَلاحِي الرجلين، فقُمت لأَحْجُز بينهما، فنسيتها؛ للاشتغال بهما.

وقد رَوَى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيِّب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بليلة القدر؟ " قالوا: بلي، فسكت ساعةً، ثم قال:"لقد قلت لكم، وأنا أعلمها، ثم أُنسيتها"، فلم يذكر سبب النسيان، وهو مما يُقَوِّي الحمل على التعدد. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2768](1168)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3392 و 3393)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2197)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 246)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 44)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 307)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1)

"الفتح" 4/ 268.

ص: 567

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2769]

(1167) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ، عَنْ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي الْعَشْرِ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ حِينِ تَمْضِي عِشْرُونَ لَيْلَةً، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ يَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ بِمَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكلفَ مَعِي، فَلْيَبِتْ

(1)

في مُعْتكَفِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَأُنْسِيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ"، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: مُطِرْنَا لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ فِي مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فنظَرْتُ إِلَيْهِ، وَقَد انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَوَجْهُهُ مُبْتَلٌّ طِينًا وَمَاءً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(بَكْرُ بْنُ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم، أبو محمد، أو أبو عبد الملك المصرفي، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 174)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.

3 -

(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن الحارث بن خالد التيميّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 120) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ مكثرٌ فقيه [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 423.

(1)

وفي نسخة: "فليثْبُت"، وفي أخرى:"فليَلْبَث".

ص: 568

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة (3 أو 4 أو 65) وقيل:(74)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 485.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.

2 -

(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى بكر بن مضر، فما أخرج له ابن ماجة.

3 -

(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن الهاد، وشيخه بغلانيّ، وبكر مصريّ.

4 -

(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض.

5 -

(ومنها): أن صحابيّه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ) أي يعتكف (فِي الْعَشْرِ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ) أي شهر رمضان، وذلك قبل أن يَعلَمَ كون ليلة القدر في العشر الأواخر منه.

وفي الرواية الآتية من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة:"اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوُسْطى من رمضان"، ومن طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد:"اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان، يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبَان له، فلما انقضين أَمَرَ بالبناء، فقُوّض، ثم أُبينت له أنَّها في العشر الأواخر، فأَمَرَ بالبناء، فأُعيد"، وزاد في رواية عُمارة بن غزيّة، عن محمد بن إبراهيم عند البخاريّ أنه"اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأواسط، ثم اعتكف العشر الأواخر"، ومثله عنده في رواية همّام بن يحيى، عن يحيى بن أبي كثير، وزاد فيها:"أن جبريل أتاه في المرّتين، فقال له: إن الذي تطلب أَمَامك".

وهو بفتح الهمزة والميم: أي قُدّامك.

قال الطيبي: وَصَفَ الأوّلَ والأوسط بالمفرد، والأخير بالجمع، إشارةً

ص: 569

إلى تصوير ليلة القدر في كلّ ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين. انتهى

(1)

.

(فَإِذَا كَانَ مِنْ حِينِ تَمْضِي) اسم "كان" ضمير يعود إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و"من" بمعنى "في"، كما قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الآية: [الجمعة: 9]، والجار والمجرور خبرها، و"حين" مضاف إلى جملة "يَمْضِي"، ويجوز إعرابه، وبناؤه على الأصح، فيُجرّ بالكسرة، وُيبنى على الفتح، لإضافته إلى فعل معرب، كما قال ابن مالك:

وَابْنِ أَوَ أعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

أي: فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وقت مضيّ عشرين ليلة من رمضان.

وَيحْتَمِل أن تكون "كان" تامّة، و"من" زائدة على رأي بعض النحاة في زيادتها في الإثبات، و"حين" فاعل "كان"، وقوله:(عِشْرُونَ) بالرفع على الفاعليّة لـ "يمضي"، و (لَيْلَةً) منصوب على التمييز؛ أي إذا جاء وقت مضيّ الليلة العشرين من رمضان.

وفي رواية البخاريّ: "فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلةً تمضي".

وقوله: (وَيَسْتَقْبِلُ) عطف على جملة "تمضي" إلَّا أن الفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: واستقبال إحدى وعشرين منه، وقوله:(اِحْدَى وَعِشْرِينَ) منصوب على المفعوليّة لـ"يستقبل"، يقال: استَقْبلتُ الشيءَ: إذا واجههته، فهو مُسْتَقْبَلٌ، وقوله:(يَرْجعُ) جواب "إذا"، ولفظ البخاريّ:"رَجع"، وهو المناسب للسياق (إِلَى مَسْكَنِهِ) بفتح الميم، والكاف: أي يرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيته (وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ)"من" فاعل "رجع"؛ أي: رجع من كان يعتكف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، من أزواجه، وأصحابه رضي الله عنهم.

والمعنى: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مكان من هديه في رمضان أنه يعتكف العشر الأوسط منه طلبًا لليلة القدر، فإذا مضى عشرون ليلة من رمضان رجع إلى بيته؛

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1623.

ص: 570

لظنه أن ليلة القدر انقضى وقت طلبها، ورجع أيضًا من اعتكف معه تلك الليالي إلى بيوتهم، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ إِنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (أقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ) أي: اعتكف (فِيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا) أي: يرجع إلى مسكنه في صبيحتها، وهي الليلة العشرون من رمضان.

وفي رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة التالية:"فخرج صبيحة عشرين، فخطبنا"، وهي أصرح في المراد.

(فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ بِمَا شَاءَ اللهُ) أي من الأمور الدينيّة، والتوجيهات النبويّة (ثُمَّ قَالَ:"إِنِّي كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ الْعَشْرَ) أي التي في وسط الشهر (ثُمَّ بَدَا) أي ظهر (لِي) يعني أنه تبيّن له بالوحي أن الاعتكاف المطلوب في العشر الأواخر، لا في الأواسط، وفي رواية البخاريّ: "اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأُوَل من رمضان، واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا صبيحة عشرين من رمضان

" الحديث.

(أَنْ أجَاوِرَ هَذ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَبِتْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "فَلْيَبِتْ" من المبيت، وفي بعضها:"فَلْيَثْبُتْ"، من الثبوت، وفي بعضها:"فَلْيَلْبَثْ"، من اللَّبْث، وكله صحيح، وقوله في الرواية الثانية:"غير أنه قال: فليثبت"، هو في أكثر النسخ بالثاء المثلثة من الثبوت، وفي بعضها:"فليبت"، من المبيت. انتهى.

(فِي مُعْتَكَفِهِ) متعلّق بـ "يبت"، وهو بفتح الكاف، وهو موضع الاعتكاف (وَقَدْ رَأَيْتُ هَذ اللَّيْلَةَ) أي علمتها، بالوحي، وفي رواية للبخاريّ:"إني أريت ليلة القدر"؛ يعني أنه أراه الله تعالى في منامه تعيين تلك الليلة (فَأُنْسِيتُهَا) وفي البخاريّ: "فأُنسيتها، أو نُسِّيتها" بالشك. قال في "الفتح": شكٌّ من الراوي، هل أنساه غيره إياها، أو نسيها هو من غير واسطة؟ ومنهم من ضبط "نُسّيتها" بضم أوله، والتشديد، فهو بمعنى "أنسيتها"، والمراد أنه أُنسي علم تعيينها في تلك السنة. انتهى.

وسبب نسيانها هو ما يأتي من حديث عُبَادة بن الصامت رضي الله عنه، قال:

ص: 571

خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال:"خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرُفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة"، وقوله:"تلاحى": أي تخاصم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: أي أُنسيت تعيينها في تلك السنة، ومثل هذا النسيان جائز عليه؛ إذ ليس بتبليغ حكم يجب العمل به، ولعل عدم تعيينها أبلغ في الحكمة، وأكمل في تحصيل المصلحة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"وعسى أن يكون خيرًا لكم"، رواه البخاريّ.

ووجه ذلك: أنَّها إذا لَمْ تعيّن، أو كانت متنقلة في العشر، حَرَص الناس على طلبها طول ليال العشر، فحصل لهم أجرها، وأجر قيام العشر كله، وهذا نحو مما جرى في تعيين الصلاة الوسطي، وساعة الجمعة، وساعة الليل، والله تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(فَالْتَمِسُوهَا) أي: اطلبوها، واجتهدوا في إحيائها بالعمل المصالح.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فالتمسوها" أمر على جهة الإرشاد إلى وقتها، وترغيب في اغتنامها، فإنها ليلة عظيمة، تغفر فيها الذنوب، ويُطلع الله تعالى فيها من شاء من ملائكته على ما شاء من مقادير خليقته، على ما سبق به علمه، ولذلك عظّمها سبحانه بقوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)} ، إلى آخر السورة، وبقوله:{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)} [الدخان: 1 - 6].

ومعنى "يفرق": يُفْصَل ويبين، و"حكيم" مُحْكَم؛ أي: متقن. و"أمرًا": منصوب على القطع، ويصح بنزع الخافض؛ أي: يفرق بأمر، فلما أسقط الخافض تعدى الفعل فنصب.

قال: واختَلَف الناس اختلافًا كثيرًا في ليلة القدر: هل كانت مخصوصة بزمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لا؟ فالجمهور: على أنَّها ليست مخصوصة.

(1)

"المفهم" 3/ 252.

ص: 572

ثم اختلفوا: هل هي منتقلة في الأعوام، أو ليست منتقلة؟ ثم الذين قالوا: إنها ليست منتقلة اختلفوا في تعيينها، فمن معيّن ليلة النصف من شعبان، ومن قائل: هي ليلة النصف من رمضان، ومن قائل: هي ليلة سبع عشرة، ومن قائل: هي ليلة تسع عشرة، ثم ما من ليلة من ليالي العشر إلَّا وقد قال قائل: بأنها ليلة القدر، وقيل: هي آخر ليلة منه. وقيل: هي معيّنة عند الله تعالى غير معيّنة عندنا. وهذه الأقوال كلها للسَّلف وللعلماء. وسبب اختلافهم اختلاف الأحاديث كما ترى.

قال: والحاصل من مجموع الأحاديث، ومما استقر عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبها: أنَّها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها منتقلة فيه، وبهذا يجتمع شتات الأحاديث المختلفة الواردة في تعيينها، وهو قول مالك، والشافعي، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وغيرهم على ما حكاه أبو الفضل عياض. فاعْتَمِدْ عليه، وتَمَسَّكْ به. انتهى

(1)

.

(فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) أي: من رمضان، وقوله (في كُلِّ وِتْرٍ) بدل من الجارّ والمجرور قبله؛ أي في كلّ وتر من لياليه، وهي الليلة الحادية والعشرون، والثالثة والعشرون، والخامسة والعشرون، والسابعة والعشرون، والتاسعة والعشرون.

(وَقَدْ رَأَيْتُنِي) بضمّ التاء للمتكلم، وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول، وهو المتكلّم، وهو من خصائص أفعال القلوب؛ أي رأيت نفسي (أَسْجُدُ) بالرفع في محلّ نصب على الحال (فِي مَاءٍ وَطِينٍ) أي عليهما، وذلك علامةٌ على أن تلك الليلة كانت ليلة القدر في تلك السنة.

وقوله أيضًا: (فِي مَاءٍ وَطِينٍ") المراد بذلك الأرض الرطبة، ولعلّ أصله في ماء وتراب، وسُمّي طينًا؛ لمخَالطته به مآلًا، وللإيماء إلى غلبة الماء عليه.

(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) رضي الله عنه (مُطِرْنَا) بالبناء للمفعول، يقال: مَطَرت السماءُ تَمْطُرُ مَطَرًا، من باب طَلَبَ، فهي ماطرةٌ في الرحمة، وأمطرت بالألف أيضًا لغة، قال الأزهريّ: يقال: نَبَتَ الْبَقْلُ، وأنبتَ، كما يُقال: مَطَرَت السماء

(1)

"المفهم" 3/ 250 - 251.

ص: 573

وأمطرت، وأمطرت بالألف لا غير في العذاب، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) بنصب "ليلة" على الظرفيّة لـ"مُطِرنا"(فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ) قال الفيّوميّ رحمه الله: وَكَفَ البيت بالمطر، والعينُ بالدمع وَكْفًا، من باب وَعَدَ، ووُكُوفًا، ووَكِيفًا: سأل قليلًا قليلًا، ويجوز إسناد الفعل إلى الدفع، وأوكف بالألف لغة. انتهى

(2)

.

والمعنى هنا: أي قطَرَ، وسال ماء المطر من سقف المسجد، فهو من باب ذكر المحلّ، وإرادة الحالّ (فِي مُصَلَّى) بضمّ الميم، وفتح اللام المشدّدة: أي مكان سجود (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَقَد انْصَرَفَ) جملة حاليّة من الضمير المجرور (مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ) وقوله: (وَوَجْهُهُ مُبْتَلٌّ) جملة حاليّة من فاعل "انصرف"، و"الْمُبتلّ" بضمّ الميم، وتشديد اللام: اسم مفعول من ابْتَلّ، وفي الرواية:"ممتلئًا طينًا وماءً"، وقوله:(طينًا وَمَاءً) منصوب على التمييز.

وحاصل المعنى: أن أبا سعيد رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينما انصرف من صلاة الصبح قد ابتلّ وجهه بالطين والماء، تصديقًا لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من علامة ليلة القدر في تلك السنة بقوله:"وقد رأيتني أسجُدُ في ماء وطين".

وقال النوويّ: قال البخاريّ: وكان الحميديّ يحتجّ بهذا الحديث على أن السنة للمصلي أن لا يمسح جبهته في الصلاة، وكذا قال العلماء: يستحب أن لا يمسحها في الصلاة، وهذا محمول على أنه كان شيئًا يسيرًا لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض، فإنه لو كان كثيرًا بحيث يمنع ذلك لَمْ يصح سجوده عند الشافعيّ وموافقيه في منع السجود على حائل متصل به. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن السجود مع الحائل المتّصل جائز؛ لهذا الحديث، وللأدلّة التي تقدّمت في موضعها، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 575.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 670.

(3)

"شرح النوويّ" 8/ 61.

ص: 574

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2769 و 2770 و 2771 و 2772 و 2773 و 2774](1167)، و (البخاريّ) في "الأذان"(669 و 813 و 836) و"فضل ليلة القدر"(2016 و 2018) و"الاعتكاف"(2027 و 2036 و 2040)، و (أبو داود) في "الصوم"(1382)، و (النسائيّ) في "السهو"(3/ 79) وفي "الكبرى"(1/ 404)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 319)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2243)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3673 و 3674)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 258)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 103 و 4/ 309 و 319)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ليلة القدر، وأنها تكون في رمضان في ليالي العشر الأواخر منه.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدة تحريه لليلة القدر، وحثّ أمته على الحرص في طلبها.

3 -

(ومنها): ترك مسح جبهة المصلي.

4 -

(ومنها): جواز السجود على الحائل، وحمله الجمهور على الأثر الخفيف، لكن يَعْكُر عليه قوله في بعض طرقه:"ووجهه ممتلئ طينًا وماءً"، وجواب النوويّ بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة مما لا يخفى ضعفه، والحقّ أن السجود على الحائل يجوز، وقد تقدم تحقيق ذلك في أبواب الصلاة، فلا تغفل.

5 -

(ومنها): جواز السجود في الطين.

6 -

(ومنها): الأمر بطلب الأَولي، والإرشاد إلى تحصيل الأفضل.

7 -

(ومنها): أن النسيان جائز على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا نقص عليه في ذلك، لا سيما فيما لَمْ يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع، كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة، كما في هذه

ص: 575

القصة؛ لأن ليلة القدر لو عُيِّنت في ليلة بعينها حصل الاقتصار عليها، ففاتت العبادة في غيرها، وهذا - والله أعلم - هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"وعسى أن يكون خيرًا لكم"، كما في حديث عبادة بن الصامت في "صحيح البخاريّ".

8 -

(ومنها): جواز استعمال رمضان بدون شهر.

9 -

(ومنها): استحباب الاعتكاف في رمضان، وترجيح اعتكاف العشر الأواخر منه.

10 -

(ومنها): أن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقًا للواقع.

11 -

(ومنها): ترتب الإحكام على رؤيا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.

12 -

(ومنها): أن في أول قصة أبي سلمة مع أبي سعيد الخدريّ الآتي في الرواية الثالثة المشيّ في طلب العلم، وإيثار المواضع الخالية للسؤال، وإجابة السائل لذلك، واجتناب المشقة في الاستفادة، وابتداء الطالب بالسؤال.

13 -

(ومنها): استحباب تقديم الخطبة على التعليم، وتقريب البعيد في الطاعة، وتسهيل المشقة فيها بحسن التلطّف، والتدريج إليها.

[تنبيه]: تقدّم في حديث عبادة بن الصامت عند البخاريّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرُفعت".

قوله: "لأخبركم بليلة القدر" أي بتعيين ليلة القدر.

وقوله: "فرُفعت" أي رُفع من قلبي، فنسيت تعيينها؛ للاشتغال بالمتخاصمين، وقيل: المعنى: فرُفعت بركتها في تلك السنة، وقيل:"التاء" في رُفِعتْ للملائكة، لا لليلة.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قال بعضهم: رُفِعت؛ أي معرفتها، والحامل له على ذلك أن رفعها مسبوق بوقوعها، فإذا وقعت لَمْ يكن لرفعها معني، قال: ويمكن أن يقال: المراد برفعها أنَّها شَرَعت أن تقع، فلما تخاصما رُفعت بعدُ، فنَزَّل الشروع منزلة الوقوع.

وإذا تقرر أن الذي ارتفع علم تعيينها تلك السنة، فهل أُعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتعيينها؟ فيه احتمالٌ، وقد نُقل عن ابن عيينة أنه أُعْلِم.

ورَوَى محمد بن نصر، من طريق وأهب المغافريّ، أنه سأل زينب بنت

ص: 576

أم سلمة رضي الله عنهما: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْلَم ليلة القدر؟ فقالت: لا، لو عَلِمها لَمَا قام الناس غيرها. انتهى.

قال الحافظ: وهذا قالته احتمالًا، وليس بلازم؛ لاحتمال أن يكون التعبد وقع بذلك أيضًا، فيحصل الاجتهاد في جميع العشر، كما تقدم.

قال: واستَنبَط السبكيّ الكبير رحمه الله في "الحلبيات" من هذه القصة استحبابَ كتمان ليلة القدر لمن رآها، قال: ووجه الدلالة أن الله قَدَّر لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لَمْ يخبر بها، والخير كله فيما قُدِّر له، فيستحب اتّباعه في ذلك.

وذكر في "شرح المنهاج " ذلك عن "الحاوي" قال: والحكمة فيه أنَّها كرامة، والكرامة ينبغي كتمانها، بلا خلاف بين أهل الطريق، من جهة رؤية النفس، فلا يأمن السلب، ومن جهة أن لا يأمن الرياء، ومن جهة الأدب، فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها، وذِكرِها للناس، ومن جهة أنه لا يَأُمَن الحسد، فيوقع غيره في المحذور، ويُستأنَس له بقول يعقوب:{يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] الآية. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2770]

(

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ الْعَشْرَ التَّيِ فِي وَسَطِ الشَهْرِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أنهُ قَالَ:"فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ"، وَقَالَ: وَجَبِينُهُ مُمْتَلِئًا

(2)

طينًا وَمَاءً).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْن أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

(1)

"الفتح" 4/ 286.

(2)

وفي نسخة: "وجبينه ممتلئٌ".

ص: 577

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) ابن محمد، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يُحدّث من كتب غيره، فيُخطئ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

والباقون ذُكروا قبله، و"يزيد": هو ابن الهاد.

وقوله: (فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتكَفِهِ) أي: بالثاء المثلّثة.

وقوله: (وَقَالَ: وَجَبِينُهُ مُمْتَلِئًا طِينًا وَمَاءً) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في معظم النسخ "ممتلئًا" بالنصب، وفي بعضها:"ممتلئ"، ويُقدّر للمنصوب فعل محذوف؛ أي: وجبينه رأيته ممتلئًا.

قال: ولا يخالف ما تأوّلناه؛ لأن الجبين غير الجبهة، فالجبين في جانب الجبهة، وللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، ولا يلزم من امتلاء الجبين امتلاء الجبهة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد عرفت أنه لا حاجة للتأويل المذكور؛ لأن الحقّ جواز السجود على الحائل؛ للأدلّة الصحيحة على ذلك، فلا تغفل.

[تنبيه]: رواية الدراورديّ، عن يزيد بن الهاد هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" مقرونًا بابن أبي حازم، فقال:

(2018)

- حدّثنا إبراهيم بن حمزة، قال: حدّثني ابن أبي حازم، والدَّراورديّ، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدريّ منه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حينَ يُمسي من عشرين ليلةً تمضي، ويَستَقْبِل إحدى وعشرين، رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، وأنه أقام في شهر جاور فيه الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم ما شاء الله، ثم قال: "كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتَكَفَ معي، فليثبت في مُعْتَكَفه، وقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كلّ وتر، وقد رأيتني أَسْجُد في ماء وطينًا، فاستَهَلَّت السماء في تلك الليلة، فأمْطَرت، فوَكَف المسجد في مُصَلَّى

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 61.

ص: 578

النبيّ ليلة إحدى وعشرين، فبَصُرَتْ عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرت إليه انصَرَف من الصبح، ووجهه ممتلئٌ طينًا وماءً. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2771]

(

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنصَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، فِي قُبَّةٍ تُرْكِيةٍ، عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ، فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ، فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ:"إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبُّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلْيَعْتَكِفْ"، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ:"وَإِنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ"، فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ، فَمَطَرَت السَّمَاءُ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا

(1)

الطِّينُ وَالْمَاءُ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلقّب بالطُّفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

(1)

وفي نسخة "فيها".

ص: 579

3 -

(عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ) المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 140)(خت م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 585.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ

الخ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ، والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر، كما قال في أكثر الأحاديث:"العشر الأواخر"، وتذكيره أيضًا لغة صحيحة باعتبار الأيام، أو باعتبار الوقت والزمان، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: لَمْ خولف بين الأوصاف، فوصَفَ العشر الأول، والعشر الأوسط بالمفرد، وا لآخَرَ بالجمع؟.

[قلت]: تصوّر في كلّ ليلة من الليالى العشر الأخير ليلة القدر، فَجَمَعَهُ، ولا كذلك في العشرين. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ) أي: قبّة صغيرة من لبود، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ) قال المجد رحمه الله: "السُّدّة" بالضمّ: باب الدار، جمعه سُدَدٌ. انتهى

(4)

.

وقال ابن الأثير رحمه الله: "السُّدّة": كالظلّة على الباب؛ لتقي الباب من المطر، وقيل: هي الباب نفسه، وقيل: هى الساحة بين يديه. انتهى

(5)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: "السُّدّة" بالضم في كلام العرب: الْفِناء لبيت الشعر، وما أشبهه، وقيل: السدة: كالصُّفّة، أو كالسَّقِيفة فوق باب الدار، ومنهم من أنكر هذا، وقال: الذين تكلموا بالسُّدّة لَمْ يكونوا أصحاب أَبْنِية، ولا مَدَر، والذين جعلوا السدة كالصفة، أو كالسقيفة، فإنما فَسَّروها على مذهب أهل

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 61 - 62.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1623.

(3)

"شرح النوويّ" 8/ 62.

(4)

"القاموس المحيط" 1/ 300.

(5)

"النهاية" 2/ 353.

ص: 580

الحضر، والسُّدّة: الباب، ويُنسَب إليها على اللفظ، فيقال: السُّدّيّ، ومنه الإمام المشهور، وهو إسماعيل السُّدّيّ؛ لأنه كان يبيع المقانع، ونحوها في سُدّة مسجد الكوفة، والجمع: سُدَدٌ، مثلُ غُرْفَةٍ وغرَفٍ. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَنَحَّاهَا) أي: أزال الحصير، وإنما أنّثها؛ لأنَّها بمعنى الباريّة، قال الفيّوميّ: الْحَصِير: الْبَاريّةُ، وجمعها حُصُرٌ، مثلُ بَرِيدٍ وبُرُدٍ، وتأنيثها بالهاء عاميّ، قال: والباريّة: الْحَصير الْخَشِنُ. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ) أي أزالها إلى جانب القبّة.

وقوله: (ثُمَّ أَطْلَعَ رَأسَهُ) بقطع الهمزة: أي أخرجه.

وقوله: (ثُمَّ أُتِيتُ

إلخ) بالبناء للمفعول: أي أتاني ملكٌ، وقد تقدّم أنه جبريل عليه السلام.

وقوله: (وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ) قال النوويّ: هي بالثاء المثلّثة، وهي طرفه، ويقال لها أيضًا: أَرْنَبة الأنف، كما جاء في الرواية الأخرى. انتهى

(3)

.

وقوله: (فِيهِمَا) أي في جبينه، وروثة أنفه، وفي نسخة "فيها" بالإفراد، راجع إلى الروثة.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2772]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَأَتَيْتُ؛ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه، وَكانَ لِي صَدِيقًا، فَقُلْتُ: أَلَا تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ، فَخَرَجَ، وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، فَقُلْتُ لَهُ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ فَقَالَ: نَعَمْ، اعْتَكَفْنَا

(1)

"المصباح المنير" 1/ 270 - 271.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 47 و 138 - 139.

(3)

"شرح النوويّ" 8/ 62.

ص: 581

مَعَ رَسُولي اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْوُسْطَى مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، فَخَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي نَسِيتُهَا، أَوْ أُنسِيتُهَا

(1)

، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ كُلِّ وِتْرٍ، وَإِنِّي أُرِيتُ

(2)

؛ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَرْجِعْ"، قَالَ: فَرَجَعْنَا، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً، قَالَ: وَجَاءَتْ سَحَابَةٌ، فَمُطِرْنَا، حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأُقِيمَت الصَّلَاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ، قَالَ: حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو عَامِرٍ) عبد الملك بن عمرو الْقَيسيّ الْعَقَديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

2 -

(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر - بوزن جَعَفر - الدّستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، ورُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(يَحْيَى) بن أبي كثير، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) وفي رواية للبخاريّ من طريق عليّ بن المبارك، عن يحيى:"سمعت أبا سلمة".

وقوله: (أَلَا تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ) أي: إلى البستان الذي فيه النخل.

وقوله: (وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ) هي ثوبُ خَزّ، أو صوف مُعْلَم، وقيل: لا تُسمّى خميصةً إلَّا أن تكون سوداء مُعْلَمة، وكانت من لباس الناس قديمًا، وجمعها خَمَائص

(3)

.

وقوله: (اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الْوُسْطَى) - بضمِّ الواو - تأنيث الأوسط، ووقع عند البخاريّ بلفظ: "اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر

(1)

وفي نسخة: "أو نُسّيتها" - بالتشديد -.

(2)

وفي نسخة: "رأيتُ".

(3)

"النهاية" 2/ 80 - 81.

ص: 582

الأوسط"، قال في "الفتح": هكذا وقع في أكثر الروايات، والمراد بالعشر الليالي، وكان من حقّها أن توصف بلفظ التأنيث، لكن وُصِفت بالمذكر على إرادة الوقت، أو الزمان، أو التقدير الثلث، كانه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر، ووقع في "الموطأ": "العشر الوُسُط" بضم الواو والسين: جمع وُسْطَي، ويروى بفتح السين مثل كُبَر وكبْري، ورواه الباجيّ في "الموطأ" بإسكانها على أنه جمع واسط، كبازل وبُزْل، وهذا يوافق رواية "الأوسط". انتهى

(1)

.

وقوله: (فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، فَخَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مالك: "حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه".

قال في "الفتح": وظاهره يخالف رواية الباب، ومقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهو مغاير لقوله في آخر الحديث:"فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى جبهته أثر الماء والطين، من صبح إحدى وعشرين"، فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين، وهو الموافق لبقية الطرق، وعلى هذا فكان قوله في رواية مالك المذكورة:"وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها" أي: من الصبح الذي قبلها، ويكون في إضافة الصبح إليها تجوّز.

وقد أطال ابن دحية في تقرير أن الليلة تضاف لليوم الذي قبلها وَرَدَّ على من منع ذلك، ولكن لَمْ يُوَافَق على ذلك، فقال ابن حزم: رواية ابن أبي حازم، والدراورديّ يعني عند البخاريّ مستقيمة، ورواية مالك مشكلة، وأشار إلى تأويلها بنحو مما ذكرته.

ويؤيده ما سبق في رواية محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بلفظ:"فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلةً، ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه"، وهذا في غاية الإيضاح.

وأفاد ابن عبد البرّ في "الاستذكار" أن الرواة عن مالك اختَلَفُوا عليه في لفظ الحديث، فقال بعد ذكر الحديث: هكذا رواه يحيى بن يحيى، ويحيى بن

(1)

"الفتح" 4/ 257.

ص: 583

بكرٍ، والشافعيّ، عن مالك:"يَخرُج في صبيحتها من اعتكافه"، ورواه ابن القاسم، وابن وهب، والقعنبيّ، وجماعة، عن مالك، فقالوا:"وهي الليلة التي يَخرُج فيها من اعتكافه".

قال: وقد روى ابن وهب، وابن عبد الحكم، عن مالك، فقال:"من اعتَكَف أول الشهر، أو وسطه، فإنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه، ومن اعتكف في آخر الشهر، فلا ينصرف إلى بيته حتى يَشْهَد العيد"، قال ابن عبد البر: ولا خلاف في الأول، وإنما الخلاف فيمن اعتكف العشر الأخير، هل يخرج إذا غابت الشمس، أو لا يخرج حتى يصبح؛ قال: وأظن الوَهْمَ دخل من وقت خروج المعتكف.

قال الحافظ: وهو بعيدٌ؛ لِمَا قَرَّره هو من بيان محل الاختلاف، وقد وجّه شيخنا الإمام البلقينيّ رواية الباب بأن معنى قوله:"حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين" أي: حتى إذا كان المستَقْبَلُ من الليالي ليلة إحدى وعشرين، وقوله:"وهي الليلة التي يَخْرُج "الضمير يعود على الليلة الماضية، ويؤيد هذا قوله:"من كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر"؛ لأنه لا يتمّ ذلك إلَّا بإدخال الليلة الأولى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ) - بضم أوله - على البناء للمفعول، وهي من الرؤيا؛ أي: أُعْلِمتُ بها، أو من الرؤية؛ أي: أبصرتها، وإنما أُري علامتها، وهو السجود في الماء والطين، كما وقع في رواية همام بن يحيى، عن أبي سلمة، عند البخاريّ بلفظ:"حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه".

وقوله: (وَإِنِّي نَسِيتُهَا، أَوْ أُنْسِيتُهَا) قال في "الفتح": شكّ من الراوي، هل أنساه غيره إياها، أو نَسِيها هو من غير واسطة؟ ومنهم من ضبط "نُسِّيتُها" بضم أوله، والتشديد، فهو بمعنى أنسيتها، والمراد أنه أُنسِيَ علم تعيينها في تلك السنة، وقد تقدّم بيان سبب النسيان في هذه القصة في حديث عبادة بن الصامت

(1)

"الفتح" 5/ 455 - 456.

ص: 584

الذي ذكرته من عند البخاريّ، وسيأتي أيضًا عند المصنّف بعد حديثين ما يشير إليه في رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

وقوله: (فَمَنْ كانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) فيه التفات، وفي رواية البخاريّ:"فمن كان اعتكف معي، فليرجعٍ".

وقوله: (وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً) بفتح القاف والزاي: أي قطعة من سحاب رقيقة.

وقوله: (فَمُطِرْنَا) بالبناء للمفعول، وفي رواية البخاريّ:"فجاءت سحابة، فمَطَرَت"، وله من وجه آخر:"فاستَهَلَّت السماءُ، فأمطرت".

وقوله: (حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ) وفي رواية مالك: "فوكف المسجد - أي قطر الماء من سقفه - وكان على عَرِيش"؛ أي مثل العَرِيش، وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مُظَلّلًا بالجريد، والْخُوص، ولم يكن مُحْكَم البناء، بحيث يُكِنّ من المطر الكثير.

وقوله: (حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ) وفي رواية مالك: "على جبهته أثر الماء والطين"، وفي رواية ابن أبي حازم عند البخاريّ:"انصرف من الصبح، ووجهه ممتلئ طينًا وماءً"، وهذا يُشعِر بأن قوله:"أثر الماء والطين" لَمْ يُرِد به محض الأثر، وهو ما يبقى بعد إزالة العين، قاله في "الفتح"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2773]

(

) - (وَحَدَّثنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَز (ع) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِهِمَا: رَأَيْتُ

(2)

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ، وَعَلَى جَبْهَتِهِ، وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الطِّينِ).

(1)

"الفتح" 5/ 456 - 457.

(2)

وفي نسخة: "ورأيتُ".

ص: 585

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدَّم قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) أبو محمد السَّمَرْقنديّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ متقنٌ فاضلٌ إمامٌ [11](ت 255)(م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.

5 -

(أَبُو الْمُغِيرَةِ) عبد القدّوس بن الحجّاج الْخَولانيّ الْحِمصيّ، ثقةٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين" 26/ 1774.

6 -

(الْأَوْزَاعِيُّ) عبد الرَّحمن بن عمرو، تقدَّم قريبًا.

و"يحيى" ذُكر قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا) الضمير لمعمر، والأوزاعيّ.

وقوله: (وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرُ الطِّينِ)"الأرنبة" بفتح الهمزة، وسكون الراء، وفتح النون، ثم الموحّدة: طرف الأنف

(1)

.

[تنبيه]: أما رواية معمر، عن يحيى بن أبي كثير، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده" (2/ 260 - 259) فقال:

(3069)

- أخبرنا الحسن بن عبد الأعلى بن إبراهيم الصنعاني أبو محمد البوسيّ والدبريّ جميعًا، قال

(2)

: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، فخرجنا ضاحية عشرين، فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إني رأيت ليلة القدر، فأنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، في وتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتَكَف معي فليرجع إلى مُعْتَكَفه"، قال: فخرجنا، وما في السماء قَزَعَةٌ، فجاءت سحابة، فمُطِرنا حتى سأل سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت

(1)

"القاموس المحيط" 1/ 76.

(2)

هكذا النسخة، ولعله:"قالا"، فليُحرّر.

ص: 586

الصلاة، فرأيت على أرنبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف أثرُ الطين في جبهته وأرنبته؛ يعني ليلة إحدى وعشرين. انتهى.

وأما رواية الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير، فقد ساقها أيضًا أبو عوانة في "مسنده" (2/ 259) فقال:

(3067)

- أخبرني العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعيّ، وحدّثنا محمد بن عوف، حدّثنا أبو المغيرة، وحدّثنا الكيساني، حدثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدّثني أبو سلمة بن عبد الرَّحمن، قال: أتيت أبا سعيد الخدريّ، فقلت له: يا أبا سعيد اخرُجْ بنا إلى النخل، قال: نعم، فدعا بِخَمِيصة، فأخذها عليه، قال: فخرجا، فقلت: يا أبا سعيد، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؛ قال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فلما كان صبيحة عشرين، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إني رأيت ليلة القدر، وإني أُنسيتها، وإني رأيت أني أسجد في طين وماء، فالتمسوها في العشر الأواخر، في وتر"، قال: وما نَرَى في السماء قَزَعَةً، قال: ونودي بالصلاة، وثار سحاب، فمُطِرنا، حتى سأل سقف المسجد، وهو من جريد النخل، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الطين والماء، حتى نظرت إلى أثر الطين في أرنبته وجبهته. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2774]

(

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ "الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ

(1)

، أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا

(1)

وفي نسخة: "قال: فلما انقضين".

ص: 587

كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ، مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا

(1)

، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبا سَعِيدٍ إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ، نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ

(2)

، وَهِيَ التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ، وَقَالَ ابْنُ خَلَّادٍ مَكَانَ "يَحْتَقَّانِ":"يَخْتَصِمَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ) محمد بن خلّاد بن كثير الباهليّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(عَبْدُ الْأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّفٌ، لكنه كثير التدليس، واختلط [6](ت 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر رحمه الله بن مالك بن قُطَعَة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ) تقدّم أن المشهور تأنيث العشر، ويجوز أيضًا تذكيره باعتبار الأيام، فلذا جاز تذكير الأوسط بهذا الاعتبار، فتنبّه.

وقوله: (قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ) بالبناء للمفعول، أن تُظهر له بأنها في العشر الأواخر، قال الفيّوميّ رحمه الله: بأن الأمر، يَبِينُ، فهو بيّنٌ، وجاء بائنٌ على الأصل، وأبان إبانةَ، وبَيَّنَ، وتبيَّنَ، واستبان، كلّها بمعنى الوضوح

(1)

وفي نسخة: "فَنَسِيتها" - بالتخفيف -.

(2)

وفي نسخة: اثنتان وعشرون".

ص: 588

والانكشاف، والاسم البيان، وجمعها يُستَعْمَل لازمًا ومتعهدّيًا، إلَّا الثلاثيّ، فلا يكون إلَّا لازمًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَلَمَّا انْقَضَيْنَ) وفي نسخة: "قال: فلما انقضين" بزيادة لفظة "قال"، أي انتهت أيام العشر الأوسط.

وقوله: (أَمَرَ بِالْبِنَاءِ) أي: بخبائه التي نُصبت له لأن يعتكف فيها.

وقوله: (فَقُوِّضَ) بقاف مضمومة، وواو مكسورة مشدّدة، مبنيًّا للمفعول، ومعناه: أُزيل، يقال: قاض البناءُ، وانقاض: أي: انهدم، وقوّضته أنا، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقوله: (فَجَاءَ رَجُلَانِ) قال العلامة سراح الدين ابن الملقّن رحمه الله: هما كعب بن مالك، وعبد الله بن أبي حَدْرَد رضي الله عنهما، وعزاه لابن دِحية في "العلم المشهور"، قاله صاحب "التنبيه"

(3)

.

وقوله: (يَحْتَقَّانِ) بتشديد القاف: أي يطلب كلّ واحد منهما حقّه، وَيدَّعي أنه الْمُحقّ.

قال الجامح عفا الله عنه: قصّة كعب بن مالك، وصاحبه ذكرها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(47)

- أخبرنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، حدّثني أنس بن مالك، قال: أخبرني عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال:"إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرُفِعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، التمسوها في السبع، والتسع، والخمس".

قال في "الفتح": قوله: "فتلاحى" بفتح الحاء المهملة مشتقّ من التلاحي بكسرها، وهو التنازع، والمخاصمة، والرجلان أفاد ابن دحية أنهما عبد الله بن أبي حدرد - بحاء مفتوحة، ودال ساكنة مهملتين، ثم راء مفتوحة، ودال مهملة أيضًا - وكعب بن مالك.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 70.

(2)

"شرح النوويّ" 8/ 63.

(3)

"تنبيه المعلم"(ص 468).

ص: 589

وقوله: "فرُفعت" أي فرُفع تعيينها عن ذكري، هذا هو المعتمد هنا.

والسبب فيه ما أوضحه مسلم، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في هذه القصّة، قال:"فجاء رجلان يَحْتَقّان - بتشديد القاف؛ أي يَدّعِي كلٌّ منهما أنه الْمُحِق - معهما الشيطان، فنسيتها".

قال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومةٌ، وأنها سبب في العقوبة المعنوية؛ أي: الحرمان، وفيه أن المكان الذي يحضره الشيطان تُرفَع منه البركة والخير.

[فإن قيل]: كيف تكون المخاصمة في طلب الحق مذمومةً؟.

[قلت]: إنما كانت كذلك؛ لوقوعها في المسجد، وهو محل الذكر، لا اللغو، ثم في الوقت المخصوص أيضًا بالذكر، لا اللغو، وهو شهر رمضان، فالذمّ لِمَا عَرَضَ فيها، لا لذاتها، ثم إنها مستلزمة لرفع الصوت، ورفعه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهي عنه؛ لقوله تعالى:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَنُسِّيتُهَا) بضمّ النون، وتشديد السين، مبنيّا للفاعل، وفي بعض النسخ:"فَنَسِيها" بفتح النون، وكسر السين المخفّفة.

وقوله: (قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ

إلخ) أي هل هي تاسعة ما مضي، أو تاسعة ما بقي؟ فهذا وجه السؤال، وهو ظاهر في التاسعة، والسابعة، وأما الخامسة فهي متعينةٌ، ومُحَصَّلُ ما أجاب به أبو سعيد رضي الله عنه أن المراد بالعدد تاسعة ما بقي من الليالي، وسابعته، وخامسته، وعند البخاريّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما:"في تاسعة تبقي، في سابعة تبقي، في خامسة تبقى".

وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عنده أيضًا: "فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة".

قال في "الفتح": قوله: "فالتمسوها في التاسعة

إلخ" يَحْتَمِل أن يريد بالتاسعة تاسع ليلة من العشر الأخير، فتكون ليلة تسع وعشرين، وَيحْتَمل أن يريد بها تاسع ليلة تبقى من الشهر، فتكون ليلة إحدى، أو اثنين بحسب تمام

(1)

"الفتح" 1/ 206.

ص: 590

الشهر ونقصانه، ويُرَجِّح الأول ما سبق في "كتاب الإيمان" بلفظ:"التمسوها في التسع، والسبع، والخمس"؛ أي في تسع وعشرين، وسبع وعشرين، وخمس وعشرين، وفي رواية لأحمد:"في تاسعة تبقى"، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْثَيْنِ وَعِشْرِينَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النسخ: "ثنتين وعشرين" بالياء، وفي بعضها:"ثنتان وعشرون" بالألف والواو، والأول أصوب، وهو منصوب بفعل محذوف، تقديره أعني ثنتين وعشرين. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "والأول أصوب" فيه نظرٌ، بل الأصوب ما في بعض النسخ من رفع "ثنتان وعشرون"، كما هو ظاهر.

والحاصل أن لكلّ من الرفع والنصب وجه صحيح، إلَّا أن الرفع أوضح، فالرفع على أنه خبر "التي"، والنصب على ما ذكر هو، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2775]

(1168) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، وَقَالَ ابْنُ خَشْرَمٍ: عَن الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأَرَانِي صُبْحَهَا

(2)

أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ"، قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْصَرَفَ، وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ)

(3)

.

(1)

"الفتح" 4/ 268 - 269.

(2)

وفي نسخة: "وأراني صَبِيحتها".

(3)

وفي نسخة "يقول: ثلاث وعشرون".

ص: 591

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ) أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(عَلِئُ بْنُ خَشْرَم) بوزن جعفر، المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، قد قارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

3 -

(أَبُو ضَمْرَةَ) أنس بن عياض بن ضَمْرة، أبو عبد الرَّحمن، أو أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله (96) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

4 -

(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزَاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.

5 -

(أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) واسمه سالم بن أبي أُميّة التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.

6 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) مولى ابن الْحَضْرميّ المدنيّ، ثقةٌ عابدٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنيْسٍ) الْجُهَنيّ، أبو يحيى المدنيّ، حليف الأنصار.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وأبي أمامة بن ثعلبة، على خلاف فيه.

وروى عنه أبناؤه: ضمرة، وعبد الله، وعطية، وعمرو، وعبد الرَّحمن وعبد الله ابنا كعب بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وبُسْر بن سعيد، وعبد الله ومعاذ ابنا عبد الله بن حبيب، وغيرهم.

قال ابن إسحاق: هو من قُضَاعة، حليف لبني سَلِمة، وشَهِد العقبة، وأُحُدًا، وما بعدهما، وهو الذي بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن نُبَيح الْعَنَزيّ، فقتله، مات في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة (54)، ووَهِمَ من قال: سنة ثمانين.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط

(1)

.

(1)

قال في "تهذيب التهذيب" 5/ 131: وعَلّق له البخاريّ حديثًا في أواخر "الجامع"، فقال: وُيذْكَر عن عبد الله بن أنيس، فذَكَر طَرَفًا من حديث القصاص، وقال في أوائل الكتاب: ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس مسيرة شهر في حديث. انتهى.

ص: 592

وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.

وقوله: (وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٍ وَعِشرِينَ) يعني أن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه كان يقول: ليلة القدر هي ليلة ثلاث وعشرين.

قال النوويّ رحمه الله: قوله: (ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ) هكذا هو في معظم النسخ؛ أي بجرّ "ثلاثٍ وعشرين"، وفي بعضها:"ثلاثٌ وعشرون"؛ أي بالرفع، قال: وهذا ظاهر، والأول جارٍ على لغة شاذّة أنه يجوز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورًا؛ أي ليلةَ ثلاث وعشرين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: أشار النوويّ رحمه الله بهذا إلى ما ذكره ابن مالك رحمه الله في "خلاصته" حيث قال:

وَمَا يَلِي الْمُضَافُ يَأتِي خَلَفَا

عَنْهُ فِي الإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا

وَرُبَّمَا جَرُّوا الَّذِي أَبْقَوْا كَمَا

قَدْ كَانَ قَبْلَ حَذْفِ مَا تَقَدَّمَا

لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا حُذِفْ

مُمَاثِلَا لِمَا عَلَيْهِ قَدْ عُطِفْ

[تنبيه]: أخرجه البيهقيُّ رحمه الله بعد حديث الباب لعبد الله بن أنيس، فقال:

(8320)

- أخبرنا الفقيه أبو الحسن محمد بن يعقوب الطبرانيّ، بها أنبا أبو النضر الفقيه، ثنا عثمان بن سعيد الدارميّ، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا يزيد بن الهاد، أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أخبره، عن عبد الرَّحمن بن كعب بن مالك، عن عبد الله بن أنيس، قال: كنا بالبادية، فقلنا: إن قَدِمْنا بأهلينا شَقّ علينا، وإن خلَّفناهم أصابتهم ضيقة، قال: فبعثوني، وكنت أصغرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قولهم، فأمرنا بليلة ثلاث وعشرين، قال ابن الهاد: فكان محمد بن إبراهيم يَجتهد تلك الليلة.

(8321)

- وأخبرنا أبو علي الروذباريّ، أنبأ أبو محمد بن بكر، ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا محمد بن إسحاق، حدّثني محمد بن إبراهيم، عن ابن عبد الله بن أنيس الْجُهَنيّ، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 64.

ص: 593

المسجد، فقال:"انزل ليلة ثلاث وعشرين"، فقلت لابنه: فكيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر، فلا يخرج منه لحاجة، حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح وَجَدَ دابته على باب المسجد، فجلس عليها، فلحق بباديته. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2775](1168)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 495)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 256 - 257)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 309) و"المعرفة"(3/ 454)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2776]

(1169) - (حَدثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَوَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: "الْتَمِسُوا - وَقَالَ وَكِيعٌ: تَحَرَّوْا - لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير، تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.

3 -

(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 5 أو 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 350.

(1)

"سنن البيهقي الكبرى" 4/ 309.

ص: 594

4 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن الْعَوّام الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ ثبت فقية مشهور [3](94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 407.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.

و"شيخه" ذُكر في الباب، وشرح الحديث واضحٌ يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2777](1169)، و (البخاريّ) في "فضل ليلة القدر"(2017 و 2019 و 2020)، و (الترمذيّ) في "الصوم"(792)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 319)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 325)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 50 و 56 و 73 و 204)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 170 و 3318)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 257)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 307)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2777]

(762)

(1)

- (وَحَدَّثَنَا محَمَّد بْن حَاتِمٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، كِلَاهُمَا عَن ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدَةَ، وَعَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، سَمِعَا زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ أُبَيِّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه، فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُم الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقَالَ: رحمه الله أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَّا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي، أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْت: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبا الْمُنْذِرِ؟ قَالَ: بِالْعَلَامَةِ، أَوْ بِالْآيةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا).

(1)

هذا الرقم مكرر ما مضى في ترقيم الأستاذ محمد فؤاد.

ص: 595

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدَةُ) بن أبي لبابة الأسديّ مولاهم، ويقال: مولى قريش، أبو القاسم البزّاز الكوفيّ، نزيل دمشق، ثقةٌ [4](خ م ل س ق) تقدم في "الصلاة" 13/ 897.

3 -

(عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ) - بنون مفتوحة، وجيم - هو: عاصم بن بَهْدَلة الأسديّ مولاهم، أبو بكر الكوفيّ المقرئ، (ت 7 أو 128)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

4 -

(زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ) بن حُباشة الأسديّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم جليل [2](ت 1 أو 2 أو 83) وهو ابن (127)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 247.

5 -

(أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الْخَزْرجيّ، أبو المنذر رحمه الله، وأبو الطّفيل، سيّد القرّاء، من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة (19) أو (32)، وقيل: غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" ج 2 ص 466.

والباقيان ذُكرا في الباب.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم في " كتاب صلاة المسافرين وقصرها" برقم [27/ 1785](762)، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد علمًا جمًّا.

وقوله: "فَقَالَ: رحمه الله

إلخ" أي: قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه: "رحمه الله" داعيًا لابن مسعود رضي الله عنه، فالجملة دعائيّة قدّمها على قوله: "أراد

إلخ" من باب الاعتذار.

وقوله: (ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي) أي: لا يُخرج شيئًا من بقيّة المشهور أنَّها تكون فيه، بل جازم ومقتصر على رمضان فقط، ويَحْتَمِل أن يكون

ص: 596

المراد بالاستثناء تعليقه بالمشيئة؛ أي: لا يُعلّق حلفه على المشيئة، فيقول:"والله إنها في رمضان إلَّا إن شاء الله"، بل يجزم بكونها فيه، واللُّه تعالى أعلم.

وقوله: (تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "أنَّها تطلع" من غير ذكر الشمس، وحُذِفت للعلم بها، فعاد الضمير إلى معلوم، كقوله تعالى:{تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ونظائرِه، و"الشُّعَاع" بضم الشين، قال أهل اللغة: هو ما يُرَى من ضوئها عند بروزها، مثل الحبال، والْقُضْبان، مقبلةً إليك إذا نظرت إليها، قال صاحب "المحكم" - بعد أن ذكر هذا المشهور -: وقيل: هو الذي تراه مُمْتَدًّا بعد الطلوع، قال: وقيل: هو انتشار ضوئها، وجمعه أشِعّة، وشُعُعٌ بضم الشين والعين، وأَشَعَّت الشمس: نَشَرت شُعاعها.

قال القاضي عياض رحمه الله: قيل: معنى لا شعاع لها: أنَّها علامةٌ جعلها الله تعالى لها، قال: وقيل: بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها، ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به سَتَرت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2778]

(

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي لُبَابَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ أُبَيٌّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهَا، قَالَ شُعْبَةُ: وَأَكْبَرُ عِلْمِي

(2)

صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 64 - 65.

(2)

وفي نسخة: "وأكثر علمي".

ص: 597

وَعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا شَكَّ شُعْبَةُ فِي هَذَا الْحَرْفِ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِهَا صَاحِبٌ لِي عَنْهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقوله: (قَالَ أُبِيٌّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي في شأنها، وتعيين وقتها.

وقوله: (وَأَكْثَرُ عِلْمِي) وفي بعض النسخ: "وأكثر علمي" بالثاء المثلّثة.

وقوله: (وَإِنَّمَا شَكَّ شُعْبَةُ فِي هَذَا الْحَرْفِ) أراد بالحرف الجملة، وهي قوله: "هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي

إلخ".

وقوله: (قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِهَا صَاحِبٌ لِي عَنْهُ) هو من شعبة؛ يعني أنه لَمّا شك في سماعه من عبدة بن أبي لُبابة قوله: "هي الليلة التي

إلخ" سأل صاحبًا له سمعها من عبدة، فحدّثه بها.

قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم توجيه إخراج المصنّف رحمه الله لرواية شعبة، وفيها شكّه، وجهالة صاحبه، في "التراويح" فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:

[2779]

(1170) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثنَا مَرْوَانُ، وَهُوَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، وَهُوَ ابْنُ كيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) هو ابن معاوية، أبو عبد الله الكوفيّ، ثم المكيّ، ثم الدمشقيّ، ثقةٌ حافظٌ، كان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

ص: 598

3 -

(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أوأبو مُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

4 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(ع) تقدم في الإيمان" 9/ 124.

والباقيان ذُكرا في الباب.

لطائف هذا الإسناد:

1 -

(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحاد كيفيّة الأخذ والأداء، كما سبق غير مرّة.

2 -

(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) أنه (قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟ ") الشِّقُّ بكسر الشين المعجمة، وتشديد القاف: النصف، والْجَفْنة - بفتح الجيم، وسكون الفاء -: جَفْنة الطعام، وهي الْقَصعة، جمعها جِفانٌ بالكسر، وجَفَنات، مثلُ كَلْبَة وكِلاب، وسَجَدَات

(1)

.

قال القاضي عياض رحمه الله: فيه إشارة إلى أنَّها إنما تكون في أواخر الشهر؛ لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلَّا في أواخر الشهر، والله أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: واعلم أن ليلة القدر موجودة، كما سبق بيانه في أول الباب، فإنها تُرَي، وَيتَحَقّقها من شاء الله تعالى من بني آدم كلَّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث السابقة في الباب، وإخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر، وأما قول القاضي عياض عن

(1)

"المصباح المنير" 1/ 103.

ص: 599

المهلَّب بن أبي صُفْرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً، فغلط فاحشٌ، نَبَّهتُ عليه؛ لئلا يغتر به، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 2779](1170)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(3/ 258)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 36)، و (البيهقيّ) في (الكبرى" (4/ 312)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الواحد والعشرين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" صباح يوم السبت السادس من شهر ذي القعدة (6/ 11/ 1428 هـ) الموافق (16 نوفمبر - تشرين الثاني 2007 م).

أسال الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

(1)

"شرح النوويّ" 8/ 65 - 66.

ص: 600

"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثاني والعشرون مفتتحًا بـ 14 - (كِتَابُ الاعْتِكَافِ) رقم الحديث [2780](1171).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

ص: 601